فصل: من سورة الممتحنة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.من سورة الممتحنة:

.تفسير الآيات (8- 9):

قال الله تعالى: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}
واختلف العلماء في المراد من {الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ} فذهب بعضهم إلى أنّهم مؤمنون، قعدوا عن الهجرة ضعفا منهم عن القيام بها. وقيل: بل هم مؤمنون من مكة، أقاموا بين الكفرة، وتركوا الهجرة مع القدرة، وزاد مجاهد على أن المهاجرين والأنصار كانوا يريدون برّ هؤلاء القاعدين عن الهجرة، ولكنهم تحرّجوا من برهم، لتركهم فرض الهجرة.
وعلى هذين القولين تكون الآية باقية الحكم، وأنّه ليس ما يمنع المسلمين في دار الإسلام من بر إخوانهم المسلمين الذين بقوا في دار الحرب.
وقال بعضهم: إنّ المراد النساء والصبيان من الكفرة، الذين لا يقاتلون، وهو مروي عن عبد الله بن الزبير.
وقال الحسن: هم قوم من خزاعة وبني الحرث بن كعب، وكنانة، ومزينة: كانوا صالحوا النبي صلّى الله عليه وسلّم على ألا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه، وعليه فالآية خاصة بعدم النهي عن برّ من بينه وبين المسلمين عهد، وهي باقية الحكم.
وقد أخرج البخاريّ وأحمد، وجماعة أنها في أم أسماء بنت أبي بكر، وكانت قد قدمت على بنتها أسماء بهدية، وهي مشركة، وقيل: بل جاءت تطلب صلتها، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها، حتّى أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها لتسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذا، فسألته، فأنزل الله قوله تعالى: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية.
قال الألوسي: والأكثر على أنها في كفرة اتصفوا بما في حيز الصلة، سواء في ذلك النساء والصبيان والمعاهدون، ومجيئها بعد آية: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ} يقرّب هذا، فقد بيّن الله تعالى أنّه لا ينهانا عن برّ أحد من الناس، إلا من قاتلنا، وظاهر على قتالنا، وأخرجنا من ديارنا، وظاهر على إخراجنا. وأما من عدا هؤلاء من الكفار فلم ينهنا عن برهم والإقساط إليهم، إذ علّة النهي عن البرّ أنّهم آذونا، فلا يكونون أهلا لبرنا، فإذا انتفت العلة انتفى النهي.
ومعنى قوله: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} أنّه لا ينهى المسلمين عن الإحسان إلى من اتصفوا من الكفرة بهذه الصفات المذكورة، وهي عدم المقاتلة في الدين، وعدم إخراج المسلمين من ديارهم، ومعنى الإقساط الإفضاء بالقسط، وهو العدل، فمعنى تقسطوا إليهم تفضوا إليهم بالقسط والعدل، فالإقساط مضمّن معنى الإفضاء، ولذلك عدّي بإلى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} العادلين.
وقد استدلّ بالآية بعض العلماء على جواز التصدّق على أهل الذمة دون أهل الحرب على وجوب النفقة للأب الذمي دون الحربي، لأنّه يجب قتله والاستدلال على هذا الأخير استدلال عجيب، إذ كلّ ما في الآية عدم النهي عن البرّ، وهل عدم النهي عن البرّ يستلزم وجوب البر، والشهاب الخفاجي قد نقل أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وإن كان القول بالنسخ لا يكاد يظهر.
{إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ}.
أي ليس النهي عن موالاة الأعداء نهيا عن البر بمن لم يقاتلكم، ولم يخرجكم من دياركم، إنما ينهاكم الله عن أعدائه وأعدائكم، الذين قاتلوكم من أجل دينكم، وألجئوكم إلى الخروج من دياركم، وظاهروا على إخراجكم، وأعانوا عليه، هؤلاء هم الذين نهاكم الله وينهاكم أن تتولوهم، وتلقوا إليهم بالمودة.
{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنفسهم بتعريضها للعذاب، حيث فعلوا ما يوجبه، وهو اتخاذ الأعداء أولياء وهم ظالمون، لأنّهم وضعوا الولاية وضع العداوة، وكأنه لا يستحق وصف الظلم إلّا هؤلاء.

.تفسير الآية رقم (10):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)}.
غير المؤمنين فريقان:
أحدهما: كافر، عدو لله وللمؤمنين، لا يألو جهدا في أذاهم، والإيقاع بهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وهؤلاء قد نهانا الله عن برّهم، وتوليهم، وموادتهم، بل أمرنا أن نقعد لهم كل مرصد، وأن نعدّ لقتالهم ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل.
والفريق الثاني: قوم كافرون، ولكنهم لم يقاتلونا، ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يظاهروا، إما لعهد بيننا وبينهم، وإما لأنهم قوم ضعاف لا يستطيعون حربا، ولا قتالا، ولا إخراجا، ولا مظاهرة على إخراج، وهؤلاء قد بيّن الله أنه لا ينهانا عن برّهم والإقساط إليهم.
وهناك فريق لا يعلم المؤمنون حالهم على الجزم، وهم يظهرون الإيمان، فهؤلاء بيّن الله حكمهم في الآيات التي معنا، فقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلخ نزلت هذه الآية بعد صلح الحديبية، وقد روي أنّه صلّى الله عليه وسلّم أمر عليا رضي الله عنه أن يكتب عقد الصلح، فكتب: باسمك اللهم. هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض، على أنّ من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه ردّه عليه، ومن جاء قريشا من محمّد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنّه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
وقد نفّذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العهد، فجاءه أبو جندل بن سهيل فرده، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في مدة العهد، وإن كان مسلما.
ثم جاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أمّ كلثوم بنت عقبة بن معيط إحدى المؤمنات الجائيات، فخرج أخواها عمّار والوليد، حتى قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكلّماه في أمرها ليردها إلى قريش، فنزلت الآية، فلم يردها صلّى الله عليه وسلّم.
وقيل: نزلت الآية في امرأة تسمّى سبيعة بنت الحارث الأسلمية، جاءت مؤمنة مهاجرة، وطلبوا ردّها. فنزلت الآية.
وقيل: نزلت في غيرها، ولعل سبب النزول متعدّد، وعلى أي حال فالآية في امرأة أو نساء جئن مهاجرات بعد صلح الحديبية.
وقد منعت الآية إرجاع هؤلاء النسوة إلى الكفار. فقيل: نزلت الآية بيانا لنص العقد، وأنه ما تناول إلّا الرجال، غير أنّ هذا يكون من تخصيص العام بالمتأخر، لأنّ نصّ عقد الصلح كان عاما «من جاء إلى محمد من قريش دون إذن وليه ردّه عليه» ومن العلماء من لا يجيز التخصيص بالمتأخر، فلعلّ هذا القائل يلتزم الذهاب إلى قول الجبّائي ومن وافقه في جواز تخصيص العام بالمخصّص المتأخر، وقد نسب إلى الزمخشري أنّ هذا ليس من باب التخصيص، وإنما هو من بيان المجمل، ذلك أنه يرى أنّ هذه الصيغ لا تفيد العموم من طريق الوضع، بل هي من باب المطلق، وتدلّ على العموم بالقرائن. وعلى هذا (فمن) التي في عقد الصلح كانت مجملة، وجاءت الآية مبينة لها، وليس هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة، بل هو تأخيره لوقت الحاجة، فإنّ الحاجة إليه إنما كانت عند مجيء المؤمنات مهاجرات، وقد نزلت الآية عنده بيانا للإجمال الذي في العقد.
وقد ذهب جماعة إلى أنّ التعميم في عقد الصلح لم يكن من طريق الوحي، بل كان اجتهادا منه صلّى الله عليه وسلّم أثيب عليه بأجر واحد، وجاءت هذه الآية بعدم إقراره على هذا الاجتهاد، ومسألة اجتهاده صلّى الله عليه وسلّم في الأحكام مسألة مختلف فيها، ومن يجيزها يقول: ما دام أنه يجيء الوحي بعدم التقرير على الخطأ فلا ضير فيها، وقد جاءت الآية بعدم التقرير على التعميم.
وذهب جماعة إلى أنّ العهد كان بوحي، وجاءت الآية ناسخة، ومن لا يجيز نسخ السنة بالكتاب يقول: نسخ العهد بالسنة، وهي امتناعه صلّى الله عليه وسلّم من الرد، وجاءت الآية مقرّرة لهذا الامتناع.
ومن العلماء من يرى أن العهد كان على غير الصيغة المتقدمة، وأنه كان يشتمل على نصّ خاص بالنساء، صورته أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج ردّت على زوجها ما أنفق، وللنبي صلّى الله عليه وسلّم من العهد مثل ذلك، وعلى هذا فالآية موافقة للعهد مقرّرة له.
وهذا هو الذي عليه المعوّل، وأما الأقوال قبله فإنّها تنافي روح التشريع الإسلامي من جهة أنّ الوفاء بالعهد واجب، ولا ينبغي لأحد الطرفين أن يستبدّ بتخصيص نصوصه أو إلغائها دون موافقة الطرف الثاني.
وأنت تعلم أنّ عهد الحديبية ما نسخ إلا بعد أن نقضته قريش، ونكثوا أيمانهم، يوضّح ذلك ما جاء في سورة التوبة: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)} [التوبة: 12، 13]. وما دام العهد قد نسخ فنسخه نسخ لما اشتمل عليه من الحكم.
ولنرجع إلى تفسير الآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}.
المراد إذا جاءكم النساء اللائي يظهرن الإيمان، وإنما كان هذا هو المراد لأنّ الله تعالى يقول: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} ثم قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ} فدل ذلك على أنّ الغرض من الامتحان علم إيمانهن، وقوله تعالى: {مُهاجِراتٍ} منصوب على الحالية، وجيء به بعد قوله تعالى: {إِذا جاءَكُمُ} لبيان العلة في عدم إرجاعهن، إذ هنّ ما هجرن مكة وانتقلن منها إلا حبا في الله، وفرارا بدينهن من أذى الكفار، وهنّ الضعيفات اللاتي لا جلد لهنّ على الإيذاء، فإذا قضى نصّ العهد أن يبقي الرجال، فهم يتحمّلون الأذى، أما هؤلاء اللاتي اضطررن إلى الهجرة، فكيف يلزمهنّ البقاء، وهنّ لا يستطعن حماية أنفسهنّ {فَامْتَحِنُوهُنَّ} فاختبروهن بما ترونه موصلا إلى غلبة الظن بإيمانهنّ.
وقد روي عن ابن عباس في كيفية امتحانهن أنه قال: كانت المرأة إذا جاءت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حلّفها عمر رضي الله عنه بالله بأنها ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله.
وعن ابن عباس أيضا أنّ امتحانهنّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر عمر بن الخطاب فقال: قل لهن إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بايعكن على ألا تشركن بالله شيئا إلخ ما في الآية الآتية، وسيأتي أنّ آية مبايعة النساء لها سبب غير هذا.
وقوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ} جملة اعتراضية جيء بها لإفادة أنّ الامتحان الغرض منه الوصول إلى غلبة الظن، وإلا فالحقيقة لا يعلمها على ما هي عليه إلا الله وحده سبحانه، فإنه المطلع على ما في القلوب، يعلم السرّ وأخفى {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} أي فإن تبيّن بعد الامتحان إيمانهنّ، وغلب على ظنكم هذا، فلا ترجعوهنّ إلى أزواجهنّ الكفار، وإنما أقحمنا لفظ الأزواج أخذا من قوله بعد: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فإنّه استئناف قصد منه بيان علّة النهي عن إرجاعهن إلى الكفار، وجملة {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} أفاد الفرقة، وتحقيق زوال النكاح الأول على الثبوت والاستقرار، والجملة الثانية: {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أفادت أنّ النكاح في المستقبل لا يستأنف للكفار، {وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا} أي أعطوا أزواجهنّ مثل ما أنفقوا عليهن من المهر، وقد قيل: إنّ ذلك واجب، وقيل: إنّه مندوب، وقد فعل ذلك في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد روي أنّ ربيعة الأسلمية لما جاءت تزوجها عمر، وأعطى زوجها ما أنفق. وقيل: إنّ هذا الحكم غير باق، لأنّ ذلك كان في المهاجرات، وقد ذهبت الهجرة و«لا هجرة بعد الفتح».
على أنك قد سمعت ما روي من أنّ العهد كان فيه نصّ جاءت الآية مقرّرة له، وقد انتهى العهد بما فيه، فلا بقاء لهذا الحكم الآن.
{وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي إنه لا تثريب عليكم في نكاحهن عند إيتاء الأجور، فمتى أعطيت الأجور، فليس شيء وراء ذلك يمنع من الحلّ.
وأنت تعلم أنّ هذا الحكم وإن كان قد بطل العمل به بالنسبة لمن جرى بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم عهد الحديبية من قريش، فإنّه لا مانع أن يكون معمولا به في العهود التي تجري بين المسلمين والكفار في مثل تلك الحالة التي كان عليها المسلمون يومئذ. فإذا عاهدناهم على أنّ من جاءتنا مؤمنة من أزواجهم رددنا عليهم ما أنفقوا وجب الوفاء بذلك العهد.
هذا وقد اختلف العلماء في الحربية تخرج إلى المسلمين مسلمة، فقال أبو حنيفة: إذا خرجت الحربية مسلمة، ولها زوج كافر في دار الحرب، وقعت الفرقة بينهما، ولا عدّة عليها. وقال أبو يوسف ومحمد: تقع الفرقة، وعليها العدة. وإن أسلم الزوج بعد ذلك لم تحل له إلا بنكاح جديد، وإليه ذهب سفيان الثوري.
وقال مالك والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي: إن أسلم الزوج قبل أن تحيض ثلاث حيض فهي امرأته. ولا تحل الفرقة إلا إذا انقضت العدة، فإذا انقضت فلا سبيل له عليها إن اجتمع معها في الإسلام بعد ذلك، ولا تحل له إلا بعقد جديد.
والخلاف بين الحنفية وغيرهم إنما هو في الحربيين إذا أسلمت المرأة وخرجت مهاجرة إلى دار الإسلام، فإنّ الحنفية يقولون في هذه الصورة بالخروج من دار الحرب وهي مسلمة: وقعت الفرقة، فسبب الفرقة اختلاف الدارين، والمراد به عندهم أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الحرب، والآخر من أهل دار الإسلام، ولا اعتبار لمضي العدة وعدمه. وغيرهم يقول: لا عبرة باختلاف الدار، فإذا أسلمت المرأة انتظر إسلام زوجها زمن العدة، سواء أبقيت في دار الحرب أم خرجت وحدها مهاجرة.
وأما إذا كانا ذميين، فأسلمت المرأة، فمذهب الحنفية أنّه لا تقع الفرقة حتى يعرض عليه الإسلام، فإن أسلم، وإلا فرّق بينهما، وكذلك إذا بقيا في الحرب.
والجماعة يقولون كما قالوا في الصورة الأولى، أي أنها تنتظر زمن العدة، فإن جمعها وإياه الإسلام، في العدة فهي امرأته، وإلّا حصلت الفرقة.
وقد استدل الحنفية لمذهبهم بقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
وقالوا في وجه استدلالهم بالآية: إنّ المهاجرة إلى دار الإسلام قد صارت من أهل دار الإسلام، وزوجها باق على كفره من أهل دار الحرب، فقد اختلفت داراهما وحكم الله بوقوع الفرقة بينهما بقوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} ولو كانت الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها، وقد قال الله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
وأيضا قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا} يدلّ على ذلك، لأنه لو كانت الزوجية باقية لما استحقّ الزوج ردّ المهر، لأنه لا يستحق البضع وبدله.
قالوا: ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} لأنه لو كان النكاح باقيا لما جاز لأحد أن يتزوجها.
واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ} لأنّ معناه عندهم لا تتمسكوا بها، ولا تعتدوا بها، ولا تمنعكم عصمة الكافرين السابقة من التزوج بهنّ.
وقال الحنفية أيضا: اتفق الفقهاء على جواز وطء المسبية بعد الاستبراء، وإن كان لها زوج في دار الحرب إذا لم يسب زوجها معها، ولا سبب يجوّز هذا في نظرهم إلا اختلاف الدارين، لأنه ليس معنا إلا طروء الملك، واختلاف الدارين وطروء الملك من حيث هو لا يقتضي فساد النكاح، بدليل أنّ الأمة التي لها زوج لو بيعت لا تقع الفرقة بينهما، وكذلك إذا مات السيد عن أمة لها زوج، لم يكن انتقال الملك إلى الوارث سببا للفرقة.
والجماعة يقولون: إنّ سبب الفرقة هو الإسلام، لأنها لم تعد صالحة لأن تكون فراشا لكافر، وهذا المعنى متحقّق، سواء أبقيت في دار الحرب، أم خرجت، والعدة لازمة شرعا في كل ذات زوج ما دامت حرة، وقد عرفت عدة الحرة في الشرع، وقد كان موجب الفرقة بينهما من قبل الزوج، وهو بقاؤه على الكفر، فإذا أسقط الزوج هذا الموجب في وقت يمكنه فيه التدارك، فهي امرأته، لأن المانع من بقاء زوجية قد زال قبل فوات الأوان.
وقد روي عن مجاهد قال: إذا أسلم وهي في العدة فهي امرأته، وإن لم يسلم فرّق بينهما. وعن عطاء مثل هذا، وكذلك عن الحسن، وابن المسيّب. وأيضا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ردّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة، وبقي زوجها بمكة مشركا، ثم ردها عليه بعد إسلامه.
والحنفية ردّوا الاستدلال بهذا الحديث من وجوه، قالوا: إنّ هذه الرواية فيها أنّه ردها بعد ست سنين، وذلك لا يعمل به عندكم. وقالوا: إن رواية ابن عباس ومذهبه يخالف مرويّة، على أنّه قد روي هذا الحديث من طريق آخر جاء فيه أنه ردها عليه بنكاح ثان. والكلام في هذا الحديث محله كتب الحديث، والذي يعنينا إنما هو الآية.
يقول الجماعة: إنّ هذه الآية بل الآيات لا دليل فيها، فإنّ عدم الإرجاع إلى الكفار مبني على مجيء المؤمنات مهاجرات، فلم جعلتم العلة هي الهجرة وحدها، وهي دون الإيمان لا تصلح علة، إذ إنّها لو صلحت لكان خروج الحربية إلينا بأمان موجبا للفرقة، وهو لا يوجبها اتفاقا، وكذلك المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان، أو أسره أهل الحرب لا يبطل نكاح امرأته التي في دار الإسلام.
وجواب الحنفية عن هذا- بأنّ المراد أن يكون من أهل دار الإسلام- جواب لا ينفع، فإنّه تستر وراء الألفاظ، وإلّا فأهليتها لدار الإسلام موجودة وهي في دار الحرب إذا أسلمت قبله، فلماذا تنتظرونه حتى يعرض عليه الإسلام، فإن أسلم، وإلا فرّق بينهما. فالأهلية موجودة من اللحظة الأولى، فلو كانت الأهلية هي الموجبة لحصلت الفرقة بالإسلام لمجرده، وهو ما نقول به، غاية الأمر أننا نخالفكم في العدة، أنتم تقولون بعدم وجوبها، ونحن نقول بوجوبها، لأننا نرى أن العدة شرعت لتعرف براءة الرحم، ولحقّ الزوج، حتى لا يضيع نسب ولده، فإذا أسلم وامرأته في العدة فهو أحقّ بها، لأن المانع من بقاء الزوجية قد زال، والعدة واجبة على الزوجة غير المسبية، وهذه زوجة غير مسبية، فتلزمها العدة.
قال الحنفية في مسألة العدة: إنّ قوله تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ظاهر في عدم وجوب العدة، لأنّه لم يشترط في رفع الجناح في النكاح إلا إيتاء المهر، ولو كان هناك شيء غير هذا لبينه.
وللجماعة أن يقولوا في هذا الدليل: إنّه متروك الظاهر، وإلا لاقتضى أن يصحّ النكاح بغير شهود، وهو لا يصحّ بالاتفاق، بل هو لا يصح إلا مستوفيا كلّ شرائطه، فلو كان تحته أختها لا يحل له أن ينكحها مهما دفع من المهر.
نعم قد يقال في هذا: إن الله تعالى يقول: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} والنكاح حقيقة شرعية معروفة الأركان والشرائط، فالمفروض استيفاؤها، والآية سيقت لدفع ما كان يظنّ من أنّ للنكاح الأول حرمته، وأنّه باق، فنفت الآية هذا الظن، ورفعت الجناح في النكاح مع استيفاء الشرائط والأركان وانتفاء الموانع.
وأما استدلال الحنفية بقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ} فتأويله عند الجماعة: ولا تمسكوا بعصم نسائكم المشركات الباقيات في دار الحرب، وتكون الآية لمنع بقاء نكاحهن، كما منع ابتداء نكاح المشركات {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. ويكون المراد منع المؤمنين من أن يكون بينهم وبين نسائهم الباقيات على الشرك علقة من علق الزوجية أصلا، وعدم الاعتداد بذلك النكاح، فهو لا يمنع خامسة ولا نكاح أختها.
وقد يساعد على هذا التأويل قوله تعالى: {وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا}. فإن معناه: اسألوا الكفار مهور نسائكم، ولهم من السؤال مثل ذلك، وعليكم الإجابة.
وأما قياس الحنفية طروء الملك في المسبية على بيع الأمة المزوّجة في أنّ كلّا لا يقتضي فساد النكاح، فهو قياس مع الفارق. فإنّ الذي حصل للمسبية إنما هو استرقاق واستحداث رق بعد حرية، والذي حصل في الأمة المبيعة إنما هو انتقال ملك من شخص إلى شخص.
{ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} فاتبعوه، ولا تحيدوا عنه، وقد روي أنّ الصحابة أدوا إلى المشركين ما أنفقوا من مهور المهاجرات، وأبى المشركون أن يدفعوا مهور من بقي عندهم من نساء المؤمنين، فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}.
والمعنى: إن انفلت منكم شيء من أزواجكم وانحاز إلى جانب الكفار وجاء دوركم ونوبتكم في استيفاء ما أنفقتم من المهور على أزواجكم، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم من المسلمين مثل ما أنفق هؤلاء الأزواج من مهور المهاجرات اللاتي هاجرن إليكم وتزوجتموهنّ، ولا تدفعوا إلى أزواجهنّ الكفار، ويكون ذلك قصاصا.
إباء عن الدفع منكم بإباء عن الدفع منهم.
وقد روي عن الزهري ما يوافق هذا المعنى قال: يعطي من لحقت زوجته بالكفّار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجات الكفّار، وعلى هذا تكون المعاقبة بمعنى العقبى والنوبة، وعن الزجاج أنّ المعنى: فقاتلتم الكفار وأصبتم منهم الغنائم، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الغنائم.
وقد روي عن ابن عباس أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمّس المهر، لا ينقص منه شيئا {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} فلا يزد أحدكم عن الذي أنفق، ولا ينقص المعطى منه شيئا، وذلك شأن المؤمن، فإيمانه يدفعه إلى أن يخشى الله، ويتقيه في كل أعماله وأحواله.