فصل: (المسلك الرابع): ظهور دينه على سائر الأديان في مدة قليلة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إظهار الحق (نسخة منقحة)



.المسلك الثاني: أخلاقه وأوصافه صلى الله عليه وسلم:

(أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم):
أنه قد اجتمع فيه من الأخلاق العظيمة، والأوصاف الجزيلة، والكمالات العلمية والعملية، والمحاسن الراجعة إلى النفس والبدن والنسب والوطن، ما يجزم العقل بأنه لا يجتمع في غير نبي، فإن كل واحد منها وإن كان يوجد في غير النبي أيضًا، لكن مجموعها مما لا يحصل إلا للأنبياء، فاجتماعها في ذاته صلى اللّه عليه وسلم من دلائل النبوة وقد أقر المخالفون أيضًا بوجود أكثر هذه المحاسن في ذاته صلى اللّه عليه وسلم، مثلًا (اسبان هميس المسيحي) من الذين هم أشد أعداء النبي صلى اللّه عليه وسلم والطاعنين في حقه، لكنه اضطر في الإقرار بوجود أكثر الأمور المذكورة في ذاته صلى اللّه عليه وسلم. كما نقل سيل قوله في مقدمة ترجمة القرآن في الصفحة السادسة من النسخة المطبوعة سنة 1850 هكذا: (أنه كان حسن الوجه وزكيًا وكانت طريقته مرضية، وكان الإحسان إلى المساكين شيمته، وكان يعامل الكل بالخلق الحسن، وكان شجاعًا على الأعداء، وكان يعظم اسم اللّه تعظيمًا عظيمًا، وكان يشدد على المفترين، والذين يرمون البرآء، والزانين، والقاتلين، وأهل الفضول، والطامعين، وشهود الزور، تشديدًا بليغًا، وكانت كثرة وعظه في الصبر والجود والرحم والبر والإحسان وتعظيم الأبوين والكبار وتوقيرهم وتكريمهم، وكان عابدًا مرتاضًا في الغاية) انتهى كلامه.

.(المسلك الثالث): (ما اشتملت شريعته الغراء عليه):

مَنْ نظر إلى ما اشتملت شريعته الغراء عليه مما يتعلق بالاعتقادات والعبادات والمعاملات والسياسات والآداب والحكم، علم قطعًا أنها ليست إلا من الوضع الإلهي، والوحي السماوي، وأن المبعوث بها ليس إلا نبيًّا. وقد عرفت في الباب الخامس، أن اعتراضات القسيسين عليها ضعيفة جدًّا، منشؤها العناد الصرف والاعتساف.

.(المسلك الرابع): ظهور دينه على سائر الأديان في مدة قليلة:

أنه عليه السلام ادعى بين قوم لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم: أني بعثت من عند اللّه بالكتاب المنير والحكمة الباهرة لأنور العالم بالإيمان والعمل الصالح. وانتصب مع ضعفه وفقره وقلة أعوانه وأنصاره، مخالفًا لجميع أهل الأرض آحادهم وأوساطهم وسلاطينهم وجبابرتهم، فضلل آراءهم وسفه أحلامهم وأبطل مللهم وهدم دولهم، وظهر دينه على الأديان في مدة قليلة شرقًا وغربًا، وزاد على مر الأعصار والأزمان، ولم يقدر الأعداء مع كثرة عددهم وعددهم وشدة شوكتهم وشكيمتهم، وفرط تعصبهم وحميتهم وبذل غاية جهدهم في إطفاء نور دينه وطمس آثار مذهبه. فهل يكون ذلك إلا بعون إلهي وتأييد سماوي، ولنعم ما قال غمالائيل معلم اليهود لهم في حق الحواريين: (يا أيها الرجال الإسرائيليون احترزوا لأنفسكم من جهة هؤلاء الناس فيما أنتم مزمعون أن تفعلوا). 36 (لأنه قبل هذه الأيام قام ثوداس قائلًا عن نفسه: أنه شيء الذي التصق به عدد من الرجال نحو أربعمائة، الذي قتل وجميع الذين انقادوا إليه تبددوا وصاروا لا شيء). 37 (بعد هذا قام يهودا الجليلي في أيام الاكتتاب، وأزاغ وراءه شعبًا غفيرًا، فذاك أيضًا هلك وجميع الذين انقادوا إليه تشتتوا). 38 (والآن أقول لكم تنحوا عن هؤلاء الناس واتركوهم لأنه إن كان هذا الرأي وهذا العمل من الناس فسوف ينتقض) 39 (وإن كان من اللّه فلا تقدرون أن تنتقضوه لئلا توجدوا محاربين للّه أيضًا) كما هو مصرح به في الباب الخامس من كتاب الأعمال، والآية السابعة من الزبور الأول هكذا: (لأن الرب يعرف طريق الصديقين وطريق المنافقين تهلك) والآية السادسة من الزبور الخامس هكذا: (وتهلك كل الذين يتكلمون بالكذب، الرجل السافك الدماء والغاش يرذله الرب).
والآية السادسة عشرة من الزبور الرابع والثلاثين هكذا: (وجه الرب على الذين يعملون المساوئ ليبيد من الأرض ذكرهم) وفي الزبور السابع والثلاثين هكذا 17: (لأن سواعد الخطاة تنكر، والرب يعضد الصديقين) 20 (الخطاة فيهلكون، وأعداء الرب جميعًا إذ يمجدون ويرتفعون، يبيدون، وكالدخان يفنون).
فلو لم يكن محمد صلى اللّه عليه وسلم من الصديقين لأهلك الرب طريقه ورذله وأباد ذكره من الأرض، وكسر سواعده وأفناه كالدخان. لكنه لم يفعل شيئًا منها، فكان محمد صلى اللّه عليه وسلم من الصديقين، ولعمري أن علماء بروتستنت في تكذيب الدين المحمدي محاربون اللّه لكن الوقت قريب فسوف يعلمون {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} ولا يقدرون على نقضه البتة كما وعد اللّه {يريدون ليطفئوا نور اللّه} أي دين الإسلام {بأفواههم} أي بأقوالهم الباطلة {واللّه متم نوره} أي مبلغه غايته {ولو كره الكافرون} أي اليهود والنصارى والمشركون، ولنعم ما قيل:
ألا قل لمن ظل لي حاسدًا ** أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على اللّه في فعله ** لأنك لم ترض لي ما وهب

.(المسلك الخامس): (ظهوره في وقت كان الناس محتاجين إليه):

أنه ظهر في وقت كان الناس محتاجين إلى من يهديهم إلى الطريق المستقيم، ويدعوهم إلى الدين القويم لأن العرب كانوا على عبادة الأوثان، ووأد البنات. والفرس على اعتقاد الإلهين ووطء الأمهات والبنات.
والترك على تخريب البلاد وتعذيب العباد. والهند على عبادة البقر، والسجود للشجر والحجر. واليهود على الجحود ودين التشبيه، وترويج الأكاذيب المفتريات. والنصارى على القول بالتثليث، وعبادة الصليب وصور القديسين والقديسات. وهكذا سائر الفرق في أودية الضلال والانحراف عن الحق والاشتغال بالمحال، ولا يليق بحكمة اللّه الملك المبين أن لا يرسل في هذا الوقت أحدًا يكون رحمة للعالمين، وما ظهر أحد يصلح لهذا الشأن العظيم ويؤسس هذا البنيان القويم غير محمد بن عبد اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأزال الرسوم الزائغة والمقالات الفاسدة، وأشرقت شموس التوحيد وأقمار التنزيه، وزالت ظلمة الشرك والوثنية والتثليث والتشبيه، عليه من الصلاة أفضلها ومن التحيات أكملها، وإليه أشار اللّه تعالى بقوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير واللّه على كل شيء قدير}. قال الفخر الرازي قدس سره في تفسير هذه الآية: (الفائدة في بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم عند فترة من الرسل هي أن التغير والتحريف قد تطرق إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها، وبسبب ذلك اختلط الحق بالباطل والصدق بالكذب وصار ذلك عذرًا ظاهرًا في إعراض الخلق عن العبادات، لأن لهم أن يقولوا يا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبد، فبعث اللّه تعالى في هذا الوقت محمدًا صلى اللّه عليه وسلم إزالة لهذا العذر) انتهى كلامه بلفظه.

.(المسلك السادس): أخبار الأنبياء المتقدمين عليه، عن نبوته عليه السلام:

ولما كان القسيسون يغلطون العوام في هذا الباب تغليطًا عظيمًا استحسنت أن أقدم على نقل تلك الأخبار أمورًا ثمانية تفيد للناظر بصيرة:
وقدم فيه قبل تلك الأخبار أمورًا ثمانية:
(الأمر الأول) أن الأنبياء الإسرائيلية مثل أشعيا وأرميا ودانيال وحزقيال وعيسى عليهم السلام، أخبروا عن الحوادث الآتية كحادثة بختنصر وقورش واسكندر وخلفائه وحوادث أرض أدوم ومصر ونينوى وبابل، ويبعد كل البعد أن لا يخبر أحد منهم عن خروج محمد صلى اللّه عليه وسلم الذي كان وقت ظهوره كأصغر البقول، ثم صار شجرة عظيمة تأوي طيور السماء في أغصانها، فكسر الجبابرة والأكاسرة وبلغ دينه شرقًا وبلغ دينه شرقًا وغربًا وغلب الأديان وامتد دهرًا بحيث مضى على ظهوره مدة ألف ومائتين وثمانين إلى هذا الحين ويمتد إن شاء اللّه إلى آخر بقاء الدنيا، وظهر في أمته ألوف ألوف من العلماء الربانيين والحكماء المتقنين والأولياء ذوي الكرامات والمجاهدات والسلاطين العظام، وهذه الحادثة كانت أعظم الحوادث، وما كانت أقل من حادثة أرض أدوم ونينوى وغيرهما فكيف يجوز العقل السليم أنهم أخبروا عن الحوادث الضعيفة وتركوا الإخبار عن الحادثة العظيمة.
(الأمر الثاني) أن النبي المتقدم إذا أخبر عن النبي المتأخر، لا يشترط في إخباره أن يخبر بالتفصيل التام بأنه يخرج من القبيلة الفلانية في السنة الفلانية في البلد الفلاني، وتكون صفته كيت وكيت، بل يكون هذا الإخبار في غالب الأوقات مجملًا عند العوام، وأما عند الخواص فقد يصير جليًّا بواسطة القرائن، وقد يبقى خفيًّا عليهم أيضًا لا يعرفون مصداقه إلا بعد ادعاء النبي اللاحق أن النبي المتقدم أخبر عني وظهور صدق ادعائه بالمعجزات وعلامات النبوة، وبعد الادعاء وظهور صدقه يصير جليًّا عندهم بلا ريب ولذلك يعاتبون كما عاتب المسيح عليه السلام علماء اليهود بقوله: (ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم) كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل لوقا،
وعلى مذاق المسيحيين قد يبقى خفيًّا على الأنبياء فضلًا عن العلماء بل قد يبقى خفيًّا على النبي المخبر عنه على زعمهم في الباب الأول من إنجيل يوحنا هكذا: 19 (وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت) 20 (فاعترف ولم ينكروا قرأني لست أنا المسيح) 21 (فسألوه ماذا إذًا أنت، إيلياء؟ فقال لست أنا إيلياء فسألوه أنت النبي فأجاب لا) 22 (فقالوا له من أنت لنعطي جوابًا للذين أرسلونا ماذا تقول عن نفسك) 23 (قال أنا صوت صارخ في البرية قوّموا طريق الرب كما قال أشعيا النبي) 24 (وكان المرسلون من الفريسيين) 25 (فسألوه وقالوا له فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي).
والألف واللام في لفظ النبي الواقع في الآية 21 و25 للعهد، والمراد النبي المعهود الذي أخبر عنه موسى عليه السلام في الباب الثامن عشر من سفر الاستثناء على ما صرح به العلماء المسيحية، فالكهنة واللاويون كانوا من علماء اليهود وواقفين على كتبهم وعرفوا أيضًا أن يحيى عليه السلام نبي، لكنهم شكوا في أنه المسيح عليه السلام أو إيلياء عليه السلام أو النبي المعهود الذي أخبر عنه موسى عليه السلام، فظهر منه أن علامات هؤلاء الأنبياء الثلاثة لم تكن مصرحة في كتبهم بحيث لا يبقى الاشتباه للخواص فضلًا عن العوام فلذلك سألوا أولًا أنت المسيح فبعد ما أنكر يحيى عليه السلام عن كونه مسيحًا سألوه أنت إيلياء فبعد ما أنكر عن كونه إيلياء أيضًا سألوه أنت النبي المعهود.
ولو كانت العلامات مصرحة لما كان للشك محل بل ظهر منه أن يحيى عليه السلام لم يعرف نفسه أنه إيلياء حتى أنكر، فقال لست أنا وقد شهد عيسى أنه إيلياء في الباب الحادي عشر من إنجيل متى. قول عيسى عليه السلام في حق يحيى عليه السلام هكذا: (وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيلياء المزمع أن يأتي) وفي الباب السابع عشر من إنجيل متى هكذا: 10 (وسأله تلاميذه قائلين فلماذا يقول الكتبة أن إيلياء ينبغي أن يأتي أولًا) 11 (فأجاب يسوع وقال لهم أن إيلياء يأتي أولًا ويرد كل شيء) 12 (ولكني أقول لكم أن إيلياء قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا، كذلك ابن الإنسان أيضًا سوف يتألم منهم) 13 (حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان). وظهر من العبارة الأخيرة أن علماء اليهود لم يعرفوه بأنه إيلياء وفعلوا به ما فعلوا وأن الحواريين أيضًا لم يعرفوه بأنه إيلياء مع أنهم كانوا أنبياء في زعم المسيحيين وأعظم رتبة من موسى عليه السلام وكانوا اعتمدوا من يحيى ورأوه مرارًا، وكان مجيئه ضروريًّا قبل إلههم ومسيحهم.
وفي الآية 33 من الباب الأول من إنجيل يوحنا قول يحيى هكذا: (وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلًا ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس) ومعنى قوله: (وأنا لم أكن أعرفه) على زعم القسيسين أنا لم أكن أعرفه معرفة جيدة بأنه المسيح الموعود، فعلم أن يحيى عليه السلام ما كان يعرف عيسى عليه السلام معرفة يقينية بأنه المسيح الموعود به إلى ثلاثين سنة ما لم ينزل الروح القدس، لعل كون ولادة المسيح من العذراء لم يكن من العلامات المختصة بالمسيح، وإلا فكيف يصح هذا، لكني أقطع النظر عن هذا وأقول أن يحيى أشرف الأنبياء الإسرائيلية بشهادة عيسى عليه السلام كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل متى وأن عيسى عليه السلام إلهه وربه على زعم المسيحيين، وكان مجيئه ضروريًّا قبل المسيح، وكان كونه إيلياء يقينيًّا، فإذا لم يعرف هذا النبي الأشرف نفسه إلى آخر العمر، ولم يعرف إلهه وربه إلى المدة المذكورة، وكذا لم يعرف الحواريون الذين هم أفضل من موسى وسائر الأنبياء الإسرائيلية مدة حياة يحيى أنه إيلياء، فماذا رتبة العلماء والعوام عندهم في معرفة النبي اللاحق بخبر النبي المتقدم عنه وترددهم فيه، وقيافا رئيس الكهنة كان نبيًّا على شهادة يوحنا، كما هو مصرح به في الآية الحادية والخمسين من الباب الحادي عشر من إنجيله وهو أفتى بقتل عيسى عليه السلام وكفره وأهانه، كما هو مصرح به في الباب السابع والعشرين من إنجيل متى، ولو كانت علامات المسيح في كتبهم مصرحة بحيث لا يبقى الاشتباه على أحد، ما كان لهذا النبي المفتي بقتل إلهه وبكفره أن يفتي بقتله وكفره.
ونقل متى ولوقا في الباب الثالث، ومرقس ويوحنا في الباب الأول من أناجيلهم خبر أشعيا في حق يحيى عليهما السلام، وأقر يحيى عليه السلام بأن هذا الخبر في حقه على ما صرح به يوحنا. وهذا الخبر في الآية الثالثة من الباب الأربعين من كتاب أشعيا هكذا: (صوت المنادي في البرية، سهلوا طريق الرب، أصلحوا في البوادي سبيلًا لإلهنا) ولم يذكر فيه شيء من الحالات المختصة بيحيى عليه السلام لا من صفاته ولا من زمان خروجه، ولا مكان خروجه، بحيث لا يبقى الاشتباه، ولو لم يكن ادعاء يحيى عليه السلام بأن هذا الخبر في حقه، وكذا ادعاء مؤلفي العهد الجديد، لما ظهر هذا للعلماء المسيحية وخواصهم فضلًا عن العوام، لأن وصف النداء في البرية يعم أكثر الأنبياء الإسرائيلية الذين جاؤوا من بعد أشعيا عليه السلام، بل يصدق على عيسى عليه السلام أيضًا. لأنه كان ينادي مثل نداء يحيى عليه السلام: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماء.
وسيظهر لك في الأمر السادس حال الإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، ولا ندعي أن الأنبياء الذين أخبروا عن محمد صلى اللّه عليه وسلم كان إخبار كل منهم بصفته مفصلًا بحيث لا يكون فيه مجال التأويل للمعاند.
قال الإمام الفخر الرازي في ذيل تفسير قوله تعالى: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} واعلم أن الأظهر في الباء في قوله بالباطل أنها باء الاستعانة كالتي في قولك كتبت بالقلم. والمعنى لا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد عليه السلام نصوصًا خفية تحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات). انتهى كلامه بلفظه.
قال المحقق عبد الحكيم السيالكوتي في حاشيته على البيضاوي: (هذا فصل يحتاج إلى مزيد شرح وهو يجب أن يتصور أن كل نبي أتى بلفظة معرضة وإشارة مدرجة لا يعرفها إلا الراسخون في العلم وذلك لحكمة إلهية، وقد قال العلماء: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم، لكن بإشارات، ولو كان منجليًا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضًا بنقله من لسان إلى لسان من العبراني إلى السرياني ومن السرياني إلى العربي، وقد ذكرت محصلة ألفاظ من التوراة والإنجيل إذا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة نبوته عليه السلام بتعريض هو عند الراسخين في العلم جلي وعند العامة خفي). انتهى كلامه بلفظه.
(الأمر الثالث) ادعاء أن أهل الكتاب ما كانوا ينتظرون نبيًّا آخر غير المسيح وإيلياء، ادعاء باطل لا أصل له بل كانوا منتظرين لغيرهما أيضًا، لما علمت في الأمر الثاني أن علماء اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام سألوا يحيى عليه السلام أولًا: أنت المسيح؟ ولما أنكر سألوه: أنت إيلياء؟ ولما أنكر سألوه: أنت النبي؟ أي النبي المعهود الذي أخبر به موسى، فعلم أن هذا النبي كان منتظرًا مثل المسيح وإيلياء وكان مشهورًا بحيث ما كان محتاجًا إلى ذكر الاسم بل الإشارة إليه كانت كافية.
وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا بعد نقل قول عيسى عليه السلام هكذا: 40: (فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا هذا بالحقيقة هو النبي) 41: (وآخرون قالوا هذا هو المسيح) وظهر من هذا الكلام أيضًا أن النبي المعهود عندهم كان غير المسيح ولذلك قابلوا بالمسيح.
(الأمر الرابع) ادعاء أن المسيح خاتم النبيين ولا نبي بعده باطل، لما عرفت في الأمر الثالث أنهم كانوا منتظرين للنبي المعهود الآخر الذي يكون غير المسيح وإيلياء عليهم السلام، ولما لم يثبت بالبرهان مجيئه قبل المسيح فهو بعده ولأنهم يعترفون بنبوة الحواريين وبولس بل بنبوة غيرهم أيضًا.
وفي الباب الحادي عشر من كتاب الأعمال هكذا: 27 (في تلك الأيام انحدر الأنبياء من أورشليم إلى أنطاكية) 28 (وقام واحد معهم اسمه أغابوس وأشار بالروح أن جوعًا عظيمًا كان عتيدًا أن يصير على جميع المسكونة الذي صار في أيام كلوديوس) (قيصر) فهؤلاء كلهم كانوا أنبياء على تصريح إنجيلهم وأخبر واحد منهم اسمه أغابوس عن وقوع الجدب العظيم.
وفي الباب الحادي والعشرين من الكتاب المذكور هكذا: 10 (وبينما نحن مقيمون أيامًا كثيرة انحدر من اليهودية نبي اسمه أغابوس) 11 (فجاء إلينا وأخذ منطقة بولس وربط يد نفسه ورجليه وقال هذا بقوله الروح القدس، الرجل الذي له هذه المنطقة، هكذا سيربطه اليهود في أورشليم ويسلمونه إلى أيدي الأمم).
وفي هذه العبارة أيضًا تصريح بكون أغابوس نبيًّا، وقد يتمسكون لإثبات هذا الادعاء بقول المسيح المنقول في الآية الخامسة عشر من الباب السابع من إنجيل متى هكذا: (احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتوكم بثبات الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة).
والتمسك به عجيب لأن المسيح عليه السلام أمر بالاحتراز من الأنبياء الكذبة لا الأنبياء الصدقة أيضًا ولذلك قيد بالكذبة، نعم لو قال احترزوا من كل نبي يجيء بعدي لكان بحسب الظاهر وجه للتمسك وإن كان واجب التأويل عندهم، لثبوت نبوة الأشخاص المذكورين، وقد ظهر الأنبياء الكذبة الكثيرون في الطبقة الأولى بعد صعوده كما يظهر من الرسائل الموجودة في العهد الجديد في الباب الحادي عشر من الرسالة الثانية إلى أهل قورنثيوس هكذا: 12 (ولكن ما أفعله لأقطع فرصة الذين يريدون فرصة كي يوجدوا كما نحن أيضًا فيما يفتخرون به) 13 (لأن مثل هؤلاء رسل كذبة فعله ماكرون مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح) فمقدسهم ينادي بأعلى نداء أن الرسل الكذبة الغدارين ظهروا في عهده وقد تشبهوا برسل المسيح.
وقال آدم كلارك المفسر في شرح هذا المقام: (هؤلاء الأشخاص كانوا يدعون كذبًا أنهم رسل المسيح، وما كانوا رسل المسيح في نفس الأمر وكانوا يعظون ويجتهدون، لكن مقصودهم ما كان إلا جلب المنفعة).
وفي الباب الرابع من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا: (أيها الأحياء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من اللّه، لأن الأنبياء الكذبة كثيرون قد خرجوا إلى العالم). فظهر من العبارتين أن الأنبياء الكذبة قد ظهروا في عهد الحواريين.
وفي الباب الثامن من كتاب الأعمال هكذا: 9 (وكان قبلًا في المدينة رجل اسمه سيمون يستعمل السحر، ويدهش شعب السامرة قائلًا أنه شيء عظيم) 10 (وكان الجميع يتبعونه من الصغير إلى الكبير قائلين هذا هو قوة اللّه العظيمة).
وفي الباب الثالث عشر من الكتاب المذكور هكذا: (ولما اجتازا الجزيرة إلى باقوس وجدا رجلًا ساحرًا نبيًّا كذابًا يهوديًا اسمه باريشوع) وكذا سيظهر الدجالون الكذابون يدعي كل منهم أنه المسيح كما أخبر عيسى عليه السلام وقال: (لا يضلكم أحد فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح ويضلون كثيرين) كما هو مصرح به في الباب الرابع والعشرين من إنجيل متى فمقصود المسيح عليه السلام التحذير من هؤلاء الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة لا من الأنبياء الصادقين أيضًا، ولذلك قال بعد القول المذكور في الباب السابع (من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشوك عنبًا أو من الحسك تينًا).
ومحمد صلى اللّه عليه وسلم من الأنبياء الصادقين، كما يدل عليه ثماره على ما عرفت في المسالك المتقدمة، ولا اعتبار لمطاعن المنكرين كما ستعرف في الفصل الثاني، ولأن كل شخص يعلم أن اليهود ينكرون عيسى بن مريم عليهما السلام ويكذبونه وليس عندهم رجل أشر منه، من ابتداء العالم إلى زمان خروجه، وكذا ألوف من الحكماء والعلماء الذين هم من أبناء صنف القسيسين وكانوا مسيحيين ثم خرجوا عن هذه الملة لاستقباحهم إياها، ينكرونه ويستهزؤون به وبملته وألفوا رسائل كثيرة لإثبات آرائهم واشتهرت هذه الرسائل في أكناف العالم، ويزيد متبعوهم كل يوم في ديار أوربا، فكما أن إنكار اليهود وهؤلاء الحكماء والعلماء في حق عيسى عليه السلام غير مقبول عندنا، فكذا إنكار أهل التثليث في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم غير مقبول عندنا.
(الأمر الخامس) الإخبارات التي نقلها المسيحيون في حق عيسى عليه السلام لا تصدق عليه، على تفاسير اليهود وتأويلاتهم، ولذلك هم ينكرونه أشد الإنكار، والعلماء المسيحية لا يلتفتون في هذا الباب إلى تفاسيرهم وتأويلاتهم ويفسرونها ويؤولونها بحيث تصدق في زعمهم على عيسى عليه السلام. قال صاحب ميزان الحق في الفصل الثالث من الباب الأول في الصفحة 46 من النسخة الفارسية المطبوعة سنة 1849: (المعلمون القدماء من الملة المسيحية ادعوا هذه الدعوى الصحيحة فقط أن اليهود أوّلوا الآيات التي كانت إشارة إلى يسوع المسيح بتأويلات غير صحيحة وغير لائقة وبينوها خلاف الواقع) انتهى.
وقوله ادّعوا هذه الدعوى الصحيحة فقط غلط يقينًا لأن المعلمين القدماء كما ادعوا هذه الدعوى ادعوا أن اليهود حرفوا الكتب تحريفًا لفظيًا كما عرفت في الباب الثاني، لكني أقطع النظر عن هذا وأقول كما أن تأويلات اليهود في الآيات المذكورة مردودة غير صحيحة وغير لائقة عند المسيحيين، كذلك تأويلات المسيحيين في الإخبارات التي هي في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم مردودة غير مقبولة عندنا، وسترى أن الإخبارات التي ننقلها في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم أظهر صدقًا من الإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام، فلا بأس علينا إن لم نلتفت إلى تأويلاتهم الفاسدة، وكما أن اليهود ادعوا في حق بعض الإخبارات التي هي في حق عيسى عليه السلام على زعم المسيحيين أنها في حق مسيحهم المنتظر أو في حق غيره أو ليست في حق أحد، والمسيحيون يدعون أنها في حق عيسى عليه السلام ولا يبالون بمخالفتهم، فكذا نحن لا نبالي بمخالفة المسيحيين في حق بعض الإخبارات التي هي في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم لو قالوا أنها في حق عيسى عليه السلام، وسترى أيضًا أن صدقها في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم أليق من صدقها في حق عيسى عليه السلام، فادعاؤنا أحق من ادعائهم.
(الأمر السادس) مؤلفوا العهد الجديد باعتقاد المسيحيين ذوو إلهام وقد نقلوا الإخبارات في حق عيسى عليه السلام فيكون هذا النقل على زعمهم بالإلهام، فأذكر نبذًا منها بطريق الأنموذج ليقيس المخاطب حال هذه الإخبارات بالإخبارات التي أنقلها في هذا المسلك في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم، وإن سلك أحد من القسيسين مسلك الاعتساف وتصدى لتأويل الإخبارات التي أنقلها في هذا المسلك يجب عليه أن يوجه أولًا الإخبارات التي نقلها مؤلفوا العهد الجديد في حق عيسى عليه السلام، ليظهر للمنصف اللبيب حال الإخبارات التي نقلها الجانبان، ويقابلهما باعتبار القوة والضعف وإن غمض النظر عن توجيه الإخبارات العيسوية التي نقلها المؤلفون المذكورون.