فصل: ما قاله الشيخ -قدس الله روحه- عن سبب تأليفه العقيدة الواسطية‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصــل

فلما كان المجلس الثاني يوم الجمعة في اثني عشر رجب، وقد أحضروا أكثر شيوخهم ممن لم يكن حاضرًا ذلك المجلس، وأحضروا معهم زيادة صفي الدين الهندي ‏[‏هو محمد بن عبد الرحيم بن محمد صفي الدين الهــندي، الفقيه الشافعي الأصولي، ولد بالهند سنة 446 هـ، صنف في أصول الدين‏:‏ ‏[‏الفائق‏]‏ وفي أصول الفقه‏:‏ ‏[‏النهاية‏]‏، و‏[‏الزبدة‏]‏ في علم الكلام‏]‏، وقالوا‏:‏ هذا أفضل الجماعة وشيخهم في علم الكلام، وبحثوا فيما بينهم، واتفقوا وتواطؤوا، وحضروا بقوة واستعداد غير ما كانوا عليه؛ لأن المجلس الأول أتاهم بغتة، وإن كان ـ أيضًا ـ بغتة للمخاطب، الذي هو المسؤول والمجيب والمناظر‏.‏

فلما اجتمعنا ـ وقد أحضرت ما كتبته من الجواب عن أسئلتهم المتقدمة، الذي طلبوا تأخيره إلى اليوم ـ حمدت الله بخطبة الحاجة ـ خطبة ابن مسعود رضي الله عنه ـ ثم قلت‏:‏ إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهانا عن الفرقة والاختلاف‏.‏

وقال لنا في القرآن‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 103‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159 ‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏‏.‏

وربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد،وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين، وهو متفق عليه بين السلف، فإن وافق الجماعة فالحمد لله، وإلا فمن خالفنى بعد ذلك كشفت له الأسرار، وهتكت الأستار، وبينت المذاهب الفاسدة، التي أفسدت الملل والدول، وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد، وأعرفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس، فإن للسلم كلامًا، وللحرب كلامًا‏.‏

وقلت‏:‏ لا شك أن الناس يتنازعون، يقول هذا‏:‏ أنا حنبلي، ويقول هذا‏:‏ أنا أشعري، ويجري بينهم تفرق وفتن، واختلاف على أمور لا يعرفون حقيقتها‏.‏

وأنا قد أحضرت ما يبين اتفاق المذاهب فيما ذكرته، وأحضرت كتاب تبيين كذب المفتري، فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري ـ رحمه الله ـ تأليف الحافظ أبي القاسم ابن عساكر ـ رحمه الله‏.‏

وقلت‏:‏ لم يصنف في أخبار الأشعري المحمودة كتاب مثل هذا، وقد ذكر فيه لفظه الذي ذكره في كتابه‏:‏ الإبانة‏.‏

فلما انتهيت إلى ذكر المعتزلة، سأل الأمير عن معنى المعتزلة، فقلت‏:‏ كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق الملِّيّ، وهو أول اختلاف حدث في الملة، هل هو كافر أو مؤمن‏؟‏ فقالت الخوارج‏:‏ إنه كافر‏.‏ وقالت الجماعة‏:‏ إنه مؤمن‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ نقول‏:‏ هو فاسق، لا مؤمن ولا كافر، ننزله منزلة بين المنزلتين، وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه ـ رحمه الله تعالى ـ فسموا معتزلة‏.‏

وقال الشيخ الكبير بجبته وردائه‏:‏ ليس كما قلت، ولكن أول مسألة اختلف فيها المسلمون مسألة الكلام، وسمى المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم في ذلك، وكان أول من قالها عمرو بن عبيد، ثم خلفه بعد موته عطاء بن واصل، هكذا قال، وذكر نحوًا من هذا‏.‏

فغضبت عليه وقلت‏:‏ أخطأت، وهذا كذب مخالف للإجماع‏.‏ وقلت له‏:‏ لا أدب ولا فضيلة، لا تأدبت معي في الخطاب، ولا أصبت في الجواب‏؟‏

ثم قلت‏:‏ الناس اختلفوا في مسألة الكلام في خلافة المأمون، وبعدها في أواخر المائة الثانية، وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير، في زمن عمرو بن عبيد بعد موت الحسن البصري، في أوائل المائة الثانية، ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام، ولا تنازعوا فيها، وإنما أول بدعتهم تكلمهم في مسائل الأسماء والأحكام والوعيد‏.‏

فقال‏:‏ هذا ذكره الشهرستاني في كتاب الملل والنحل‏.‏ فقلت‏:‏ الشهرستاني ذكر ذلك في اسم المتكلمين، لم سموا متكلمين‏؟‏ لم يذكره في اسم المعتزلة، والأمير إنما سأل عن اسم المعتزلة، وأنكر الحاضرون عليه، وقالوا‏:‏ غلطت‏.‏ وقلت في ضمن كلامي‏:‏ أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام، وأول من ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها‏.‏

وأيضًا، فما ذكره الشهرستاني ليس بصحيح في اسم المتكلمين، فإن المتكلمين كانوا يسمون بهذا الاسم، قبل منازعتهم في مسألة الكلام، وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء‏:‏ إنه متكلم، ويصفونه بالكلام، ولم يكن الناس اختلفوا في مسألة الكلام‏.‏

وقلت‏:‏ أنا وغيري‏:‏ إنما هو واصل بن عطاء، أي‏:‏ لا عطاء بن واصل كما ذكره المعترض، قلت‏:‏ وواصل لم يكن بعد موت عمرو بن عبيد وإنما كان قرينه‏.‏

وقد روى أن واصلًا تكلم مرة بكلام، فقال عمرو بن عبيد‏:‏ لو بعث نبى ما كان يتكلم بأحسن من هذا، وفصاحته مشهورة، حتى قيل‏:‏ إنه كان ألثغ، وكان يحترز عن الراء، حتى قيل له‏:‏ أمر الأمير أن يحفر بئر‏.‏فقال‏:‏ أوعز القائد أن يقلب قليب في الجادة‏.‏

ولما انتهي الكلام إلى ما قاله الأشعري، قال الشيخ المقدم فيهم‏:‏ لا ريب أن الإمام أحمد إمام عظيم القدر، ومن أكبر أئمة الإسلام، لكن قد انتسب إليه أناس ابتدعوا أشياء‏.‏

فقلت‏:‏ أما هذا فحق، وليس هذا من خصائص أحمد، بل ما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام هو منهم بريء، قد انتسب إلى مالك أناس مالك بريء منهم، وانتسب إلى الشافعي أناس هو بريء منهم، وانتسب إلى أبي حنيفة أناس هو بريء منهم، وقد انتسب إلى موسى ـ عليه السلام ـ أناس هو منهم بريء، وانتسب إلى عيسى ـ عليه السلام ـ أناس هو منهم بريء، وقد انتسب إلى على بن أبي طالب أناس هو بريء منهم، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد انتسب إليه من القرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف الملحدة والمنافقين، من هو بريء منهم‏.‏

وذكر في كلامه أنه انتسب إلى أحمد ناس من الحشوية والمشبهة، ونحو هذا الكلام‏.‏

فقلت‏:‏ المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم، هؤلاء أصناف، الأكراد كلهم شافعية، وفيهم من التشبيه والتجسيم ما لا يوجد في صنف آخر، وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية‏.‏قلت‏:‏ وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم‏.‏

وكان من تمام الجواب أن الكرامية المجسمة كلهم حنفية، وتكلمت على لفظ الحشوية ـ ما أدرى جوابًا عن سؤال الأمير أو غيره، أو عن غير جواب ـ فقلت‏:‏ هذا اللفظ أول من ابتدعه المعتزلة؛ فإنهم يسمون الجماعة والسواد الأعظم الحشو، كما تسميهم الرافضة الجمهور، وحشو الناس هم عموم الناس وجمهورهم، وهم غير الأعيان المتميزين، يقولون هذا من حشو الناس، كما يقال هذا من جمهورهم‏.‏

وأول من تكلم بهذا عمرو بن عبيد، وقال‏:‏ كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه حشويا فالمعتزلة سموا الجماعة حشوا كما تسميهم الرافضة الجمهور‏.‏

وقلت لا أدري ـ في المجلس الأول أو الثاني ـ أول من قال أن الله جسم هشام بن الحكم الرافضي‏.‏

وقلت لهذا الشيخ‏:‏ من في أصحاب الإمام أحمد رحمه الله حشوي بالمعنى الذي تريده ‏؟‏ الأثرم، أبو داود، المروذى، الخلال، أبو بكر عبدالعزيز، أبو الحسن التميمي، ابن حامد، القاضي أبو يعلى، أبو الخطاب، ابن عقيل‏؟‏ ورفعت صوتي وقلت‏:‏ سمهم، قل لي منهم، من هم‏؟‏

أبكذب ابن الخطيب وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة، وتندرس معالم الدين‏؟‏ كما نقل هو وغيره عنهم أنهم يقولون‏:‏ إن القرآن القديم هو أصوات القارئين ومداد الكاتبين، وأن الصوت والمداد قديم أزلي، من قال هذا‏؟‏ وفي أي كتاب وجد هذا عنهم‏؟‏ قل لي‏؟‏‏!‏

وكما نقل عنهم أن الله لا يرى في الآخرة باللزوم الذي ادعاه، والمقدمة التي نقلها عنهم؛ وأخذت أذكر ما يستحقه هذا الشيخ؛ من أنه كبير الجماعة وشيخهم وأن فيه من العقل والدين ما يستحق أن يعامل بموجبه، وأمرت بقراءة العقيدة جميعها عليه فإنه لم يكن حاضرا في المجلس الأول، وإنما أحضروه في الثاني انتصارًا به‏.‏

وحدثني الثقة عنه بعد خروجه من المجلس أنه اجتمع به وقال له‏:‏ أخبرني عن هذا المجلس، فقال‏:‏ ما لفلان ذنب ولا لي فإن الأمير سأل عن شيء فأجابه عنه فظننته سأل عن شيء آخر ‏.‏

وقال‏:‏ قلت لهم أنتم ما لكم على الرجل اعتراض، فإنه نصر ترك التأويل، وأنتم تنصرون قول التأويل، وهما قولان للأشعري‏.‏

وقال أنا أختار قول ترك التأويل، وأخرج وصيته التي أوصى بها، وفيها قول ترك التأويل‏.‏

قال الحاكي لي‏:‏ فقلت له‏:‏ بلغني عنك أنك قلت في آخر المجلس ـ لما أشهد الجماعة على انفسهم بالموافقة ـ لا تكتبوا عني نفيًا ولا إثباتًا فلم ذاك‏؟‏ فقال‏:‏ لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أني لم أحضر قراءة جميع العقيدة في المجلس الأول‏.‏

والثاني‏:‏ لأن أصحابي طلبوني لينتصروا بي فما كان يليق أن أظهر مخالفتهم، فسكت عن الطائفتين‏.‏

وأمرت غير مرة أن يعاد قراءة العقيدة جميعها على هذا الشيخ، فرأي بعض الجماعة أن ذلك تطويل، وأنه لا يقرأ عليه إلا الموضع الذي لهم عليه سؤال وأعظمه لفظ الحقيقة، فقرءوه عليه، فذكر هو بحثًا حسنًا يتعلق بدلالة اللفظ، فحسنته ومدحته عليه وقلت‏:‏ لا ريب ان الله حي حقيقة؛ عليم حقيقة؛ سميع حقيقة؛ بصير حقيقة وهذا متفق عليه بين أهل السنة والصفاتية من جميع الطوائف؛ ولو نازع بعض أهل البدع في بعض ذلك، فلا ريب أن الله موجود؛ والمخلوق موجود؛ ولفظ الوجود سواء كان مقولاً عليهما بطريق الاشتراك اللفظي فقط أو بطريق التواطئ المتضمن للاشتراك لفظًا ومعنى أو بالتشكيك الذي هو نوع من التواطئ‏.‏

فعلى كل قول‏:‏ فالله موجود حقيقة، والمخلوق موجود حقيقة، ولا يلزم من إطلاق الاسم على الخالق والمخلوق بطريق الحقيقة محذور، ولم أرجح في ذلك المقام قولًا من هذه الثلاثة على الآخر لأن غرضي تحصل على كل مقصودي‏.‏

وكان مقصودي تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف، وأن أبين إتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرت، وأن أعيان المذاهب الأربعة والأشعري وأكابر أصحابه على ما ذكرته، فإنه قبل المجلس الثاني اجتمع بي من أكابر علماء الشافعية والمنتسبين إلى الأشعرية والحنفية وغيرهم ممن عظم خوفهم من هذا المجلس وخافوا انتصار الخصوم فيه وخافوا على نفوسهم أيضًا من تفرق الكلمة فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته أو لم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها لصارت فرقة، ولصعب عليهم أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم بما في ذلك من تمكن أعدائهم من أغراضهم‏.‏

فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك وقامت عليه الحجة وبان أنه مذهب السلف‏:‏ أمكنهم إظهار القول به مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق حتى قال لي بعض الأكابر من الحنفية ـ وقد اجتمع بي ـ لو قلت هذا مذهب أحمد وثبت على ذلك لا انقطع النزاع‏.‏

ومقصوده أنه يحصل دفع الخصوم عنك بأنه مذهب متبوع ويستريح المنتصر والمنازع من إظهار الموافقة‏.‏

فقلت‏:‏ لا والله، ليس لأحمد بن حنبل في هذا اختصاص، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة وأئمة أهل الحديث، وقلت أيضًا‏:‏ هذا اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به آية أو حديثا أو إجماعا سلفيا، وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف من جميع طوائف المسلمين، والفقهاء الأربعة والمتكلمين وأهل الحديث والصوفية‏.‏ وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية ـ لأبين أن ما ذكرته هو قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي، وأذكر قول الأشعري وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم، ولينتصرن كل شافعي وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف، وأبين أن القول المحكى عنه في تأويل الصفات الخبرية قول لا أصل له في كلامه وإنما هو قول طائفة من أصحابه فللأشعرية قولان ليس للأشعري قولان‏.‏

فلما ذكرت في المجلس أن جميع أسماء الله التي سمى بها المخلوق كلفظ الوجود الذي هو مقول بالحقيقة على الواجب، والممكن، على الأقوال الثلاثة‏:‏ تنازع كبيران، هل هو مقول بالاشتراك أو بالتواطئ‏؟‏

فقال أحدهما‏:‏ هو متواطئ، وقال الآخر‏:‏ هو مشترك؛ لئلا يلزم التركيب‏.‏

وقال هذا‏:‏ قد ذكر فخر دين أن هذا النزاع مبني على أن وجوده هل هو عين ماهيته أم لا‏؟‏ فمن قال أن وجود كل شيء عين ماهيته، قال‏:‏ إنه مقول بالاشتراك ومن قال أن وجوده قدر زائد على ماهيته قال أنه مقول بالتواطئ‏.‏

فأخذ الأول يرجح قول من يقول‏:‏ أن الوجود زائد على الماهية؛ لينصر أنه مقول بالتواطئ‏.‏

فقال الثاني‏:‏ ليس مذهب الأشعري وأهل السنة أن وجوده عين ماهيته؛ فأنكر الأول ذلك‏.‏

فقلت‏:‏ أما متكلموا أهل السنة فعندهم أن وجود كل شيء عين ماهيته؛ وأما القول الآخر فهو قول المعتزلة أن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وكل منهما أصاب من وجه، فإن الصواب أن هذه الأسماء مقولة بالتواطئ، كما قد قررته في غير هذا الموضع وأجبت عن شبهة التركيب بالجوابين المعروفين‏.‏

وأما بناء ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيته أو ليس عينه‏:‏ فهو من الغلط المضاف إلى ابن الخطيب، فإنا وإن قلنا أن وجود الشيء عين ماهيته لا يجب أن يكون الاسم مقولا عليه وعلى نظيره بالاشتراك اللفظى فقط كما في جميع أسماء الأجناس فإن اسم السواد مقول على هذا السواد وهذا السواد بالتواطئ وليس عين هذا السواد هو عين هذا السواد إذ الاسم دال على القدر المشترك بينهما وهو المطلق الكلي لكنه لا يوجد مطلقا بشرط الإطلاق إلا في الذهن ولا يلزم من ذلك نفي القدر المشترك بين الأعيان الموجودة في الخارج فإنه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة وهي جمهور الأسماء الموجودة في الغالب وهي أسماء الأجناس اللغوية وهو الاسم المطلق على الشيء وعلى كل ما أشبهه سواء كان اسم عين أو اسم صفة جامدا أو مشتقا وسواء كان جنسا منطقيا أو فقهيا أو لم يكن بل اسم الجنس في اللغة يدخل فيه الأجناس والأصناف والأنواع ونحو ذلك وكلها أسماء متواطئة وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة‏.‏

وطلب بعضهم إعادة قراءة الاحاديث المذكورة في العقيدة ليطعن في بعضها، فعرفت مقصوده، فقلت‏:‏ كأنك قد استعددت للطعن في حديث الأوعال حديث العباس بن عبد المطلب ـ وكانوا قد تعنتوا حتى ظفروا بما تكلم به زكي الدين عبد العظيم من قول البخاري في تأريخه عبد الله بن عميرة لا يعرف له سماع من الأحنف فقلت هذا الحديث مع أنه رواه أهل السنن كأبي داود وابن ماجه والترمذى وغيرهم فهو مروي من طريقين مشهورين، فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر‏.‏

فقال‏:‏ أليس مداره على ابن عميرة، وقد قال البخاري‏:‏ لا يعرف له سماع من الأحنف‏؟‏

فقلت‏:‏ قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة؛ في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلت والإثبات مقدم على النفي، والبخاري انما نفي معرفة سماعه من الأحنف لم ينف معرفة الناس بهذا، فإذا عرف غيره كإمام الأئمة ابن خزيمة ما ثبت به الإسناد كانت معرفته وإثباته مقدمًا على نفي غيره وعدم معرفته‏.‏

ووافق الجماعة على ذلك، وأخذ بعض الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه، وأخذوا يناظرون في أشياء لم تكن في العقيدة ولكن لها تعلق بما أجبت به في مسائل ولها تعلق بما قد يفهمونه من العقيدة، فأحضر بعض أكابرهم كتاب الاسماء والصفات للبيهقي رحمه الله تعالى فقال‏:‏ هذا فيه تأويل الوجه عن السلف، فقلت‏:‏ لعلك تعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏‏.‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ قد قال مجاهد والشافعي يعنى قبلة الله، فقلت‏:‏ نعم هذا صحيح عن مجاهد والشافعي وغيرهما ، وهذا حق، وليست هذه الآية من آيات الصفات‏.‏

ومن عدها في الصفات فقد غلط كما فعل طائفة فإن سياق الكلام يدل على المراد حيث قال ‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏‏.‏ والمشرق والمغرب الجهات‏.‏

والوجه هو الجهة؛ يقال‏:‏ أي وجه تريده‏؟‏ أي أي جهة، وأنا أريد هذا الوجه أي هذه الجهة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏}‏ ‏[‏البقرة 148‏]‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏ أي تستقبلوا وتتوجهوا والله أعلم وصلى الله على محمد‏.‏

نقل الشيخ علم الدين ‏:‏

 أن الشيخ قدس الله روحه قال‏:‏

في مجلس نائب السلطنة الأفرم لما سأله عن اعتقاده، وكان الشيخ أحضر عقيدته ‏[‏الواسطية‏]‏ قال هذه كتبتها من نحو سبع سنين قبل مجيء التتار إلى الشام فقرئت في المجلس‏.‏

ثم نقل علم الدين عن الشيخ أنه قال‏:‏ كان سبب كتابتها أن بعض قضاة واسط من أهل الخير والدين شكى ما الناس فيه ببلادهم في دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم، وسألني أن أكتب له عقيدة، فقلت له‏:‏ قد كتب الناس عقائد أئمة السنة، فألح في السؤال وقال‏:‏ ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت‏.‏

فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر، فأشار الأمير لكاتبه فقرأها على الحاضرين حرفًا حرفًا، فاعترض بعضهم على قولي فيها‏:‏ ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل‏.‏ ومقصوده أن هذا ينفي التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره إما وجوبًا وإما جوازًا‏.‏

فقلت‏:‏ إنى عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف، لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة فنفيت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظ التأويل لأنه لفظ له عدة معان كما بينته في موضعه من القواعد‏.‏

فإن معنى لفظ التأويل في كتاب الله غير لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرين من أهل الأصول والفقه وغير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير والسلف‏.‏

وقلت لهم ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم ويطنبون في هذا، ويعرضون بما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك‏.‏

فقلت‏:‏ قولي من غير تكييف ولا تمثيل ينفي كل باطل، وإنما اخترت هذين الاسمين لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف، كما قال ربيعة ومالك وابن عيينة وغيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول‏:‏ ‏[‏الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة‏]‏ فاتفق هؤلاء السلف على أن الكيف غير معلوم لنا، فنفيت ذلك اتباعا لسلف الأمة‏.‏

وهو أيضًا منفي بالنص، فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف، وحقيقة صفاته غير معلومة، وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله كما قررت ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في ‏[‏التأويل والمعنى‏]‏ والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله‏.‏

وكذلك التمثيل منفي بالنص والإجماع القديم مع دلالة العقل على نفيه ونفي التكييف إذ كنه الباري غير معلوم للبشر‏.‏

وذكرت في ضمن ذلك كلام الخطابي الذي نقل أنه مذهب السلف وهو‏:‏ ‏[‏إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها إذ الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا اثبات تكييف‏]‏‏.‏

فقال أحد كبراء المخالفين فحينئذ يجوز أن يقال هو جسم لا كالأجسام، فقلت له‏:‏ أنا وبعض الفضلاء إنما قيل‏:‏ أنه يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا‏.‏ وأول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم الرافضي‏.‏

وأما قولنا‏:‏ فهم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم‏.‏ فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة، فقيل لي‏:‏ أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد وأرادوا قطع النزاع لكونه مذهبًا متبوعًا‏.‏

فقلت‏:‏ ما خرجت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، وقلت‏:‏ قد أمهلت من خالفنى في شيء منها ثلاث سنين فإن جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك، وعلي أن آتى بنقول جميع الطوائف عن القرون الثلاثة يوافق ما ذكرته من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وأهل الحديث وغيرهم‏.‏

ثم طلب المنازع الكلام في ‏[‏مسألة الحرف والصوت‏]‏ فقلت‏:‏ هذا الذي يُحكى عن أحمد وأصحابه أن صوت القارئين ومداد المصاحف قديم أزلى كذب مفترى، لم يقل ذلك أحمد، ولا أحد من علماء المسلمين‏.‏

وأخرجت كراسًا وفيه ما ذكره أبو بكر الخلال في ‏[‏كتاب السنة‏]‏ عن الإمام أحمد وما جمعه صاحبه أبو بكر المروذي من كلام أحمد وكلام أئمة زمانه في أن من قال‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال‏:‏ غير مخلوق فهو مبتدع، قلت‏:‏ فكيف بمن يقول لفظي أزلي‏؟‏‏!‏ فكيف بمن يقول صوتي قديم‏؟‏‏!‏

فقال المنازع‏:‏ أنه انتسب إلى أحمد أناس من الحشوية والمشبهة ونحو هذا الكلام، فقلت‏:‏ المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم، فهؤلاء أصناف الأكراد كلهم شافعية وفيهم من التشبيه والتجسيم مالا يوجد في صنف آخر، وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية، وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم والكرامية المجسمة كلهم حنفية‏.‏

وقلت له‏:‏ من في أصحابنا حشوي بالمعنى الذي تريده‏؟‏‏!‏ الأثرم؛ أبو داود؛ المروزي؛ الخلال؛ أبو بكر عبد العزيز، أبو الحسن التميمي؛ ابن حامد؛ القاضي أبو يعلى؛ أبو الخطاب؛ ابن عقيل؛ ورفعت صوتي وقلت‏:‏ سمهم، قل لي من منهم‏؟‏ ‏!‏

أبكذب ابن الخطيب وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة، وتندرس معالم الدين، كما نقل هو وغيره عنهم أنهم يقولون‏:‏ القرآن القديم هو أصوات القارئين ومداد الكاتبين، وأن الصوت والمداد قديم أزلي، من قال هذا‏؟‏ وفي أي كتاب وجد عنهم هذا‏؟‏ قل لى‏.‏ وكما نقل عنهم أن الله لا يرى في الآخرة باللزوم الذي ادعاه والمقدمة التي نقلها عنهم‏.‏

ولما جاءت مسألة القرآن وأنه كلام الله غير مخلوق، منه بدء وإليه يعود، نازع بعضهم في كونه منه بدا وإليه يعود، وطلبوا تفسير ذلك، فقلت‏:‏ أما هذا القول فهو المأثور والثابت عن السلف مثل ما نقله عمرو بن دينار قال‏:‏ أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق منه بدا وإليه يعود‏.‏

ومعنى منه بدا أي هو المتكلم به وهو الذي أنزله من لدنه ليس هو كما تقوله الجهمية انه خلق في الهواء أو غيره وبدأ من غيره، وأما إليه يعود فإنه يسري به في آخر فلا يبقى في الصدور منه كلمة ولا في المصاحف منه حرف‏.‏

ووافق على ذلك غالب الحاضرين فقلت‏:‏ هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه يعني القرآن، وقال خباب بن الأرت‏:‏ يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت فلن يتقرب إلى الله بشيء أحب إليه مما خرج منه‏.‏

وقلت‏:‏ وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة؛ بل إذا قرأ الناس القرآن أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا، فامتعض بعضهم من إثبات كونه كلام الله حقيقة بعد تسليمه أن الله تكلم به حقيقة، ثم أنه سلم ذلك لما بين له أن المجاز يصح نفيه وهذا لا يصح نفيه، وأن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم وشعر الشعراء المضاف إليهم هو كلامهم حقيقة‏.‏

ولما ذكرت فيها أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلغا استحسنوا هذا الكلام وعظموه، وذكرت ما أجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، وليس معنى قوله ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة؛ وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق؛ بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر أينما كان‏.‏

ولما ذكرت أن جميع أسماء الله التي يسمى بها المخلوق كلفظ الوجود الذي هو مقول بالحقيقة على الواجب والممكن تنازع كبيران، هل هو مقول بالاشتراك‏؟‏ أو بالتواطئ‏؟‏ فقال أحدهما‏:‏ هو متواطئ وقال آخر‏:‏ هو مشترك لئلا يلزم التركيب وقال هذا قد ذكر فخر الدين أن هذا النزاع مبني على أن وجوده هل هو عين ماهيته أم لا‏؟‏‏!‏ فمن قال إن وجود كل شيء عين ماهيته قال أنه مقول بالاشتراك؛ ومن قال أن وجوده قدر زائد على ماهيته قال أنه مقول بالتواطئ، فأخذ الأول يرجح قول من يقول أن الوجود زائد على الماهية لينصر أنه مقول بالتواطئ، فقال الثاني مذهب الأشعري وأهل السنة أن وجوده عين ماهيته، فأنكر الاول ذلك فقلت أما متكلموا أهل السنة فعندهم أن وجود كل شيء عين ماهيته وأما القول الآخر فهو قول المعتزلة أن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته وكل منهما أصاب من وجه فإن الصواب أن هذه الأسماء مقولة بالتواطئ كما قد قررته في غير هذا الموضع‏.‏

وأما بناء ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيته أو ليس عين وجود ماهيته فهو من الغلط المضاف إلى ابن الخطيب، فإنا وإن قلنا إن وجود الشيء عين ماهيته لا يجب أن يكون الاسم مقولا عليه وعلى غيره بالاشتراك اللفظي فقط كما في جميع أسماء الأجناس، فإن اسم السواد مقول على هذا السواد وهذا السواد بالتواطئ وليس عين هذا السواد هو عين هذا السواد اذ الاسم دال على القدر المشترك بينهما وهو المطلق الكلي لكنه لا يوجد مطلقا بشرط الإطلاق إلا في الذهن ولا يلزم من ذلك نفي القدر المشترك بين الأعيان الموجودة في الخارج فإنه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة وهي جمهور الاسماء الموجودة في اللغات وهي أسماء الاجناس اللغوية وهو الاسم المعلق على الشيء وما أشبهه سواء كان اسم عين أو اسم صفة جامدا أو مشتقًا، وسواء كان جنسًا منطقيًا أو فقهيًا أو لم يكن، بل اسم الجنس في اللغة تدخل فيه الأجناس والأصناف والأنواع ونحو ذلك وكلها أسماء متواطئة وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة ، قال الذهبى‏:‏ ثم وقع الاتفاق على أن هذا معتقد سلفي جيد‏.‏

 

وكتب عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم

من أخيه عبد الله بن تيمية إلى الشيخ الإمام العالم الفاضل الصدر الكبير زين الدين _ ـ زينه الله تعالى بحلية أوليائه وأكرمه في الدنيا والآخرة بكرامة أصفيائه وجعل له البشرى بالنصر الأكبر على أعدائه وأوزعه شكر النعماء خصوصا أفضل نعمائه بما من الله به سبحانه من النصر العزيز للإسلام وللسنة وأهلها على حزب الشيطان وأوليائه ـ أما بعد فإنى أحمد اليك الله الذي لا اله إلا هو وهو للحمد أهل وأصلي على نبيه محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وأعرفه بما من الله سبحانه علينا وعلى المسلمين أجمعين بالنصر الأكبر والفتح المبين، وهو وإن كانت العقول تعجز عن دركه على التفضيل والألسن عن وصفه عن التكميل لكن نذكر منه ما يسر الله سبحانه ملخصا خاليا عن التطويل‏.‏

وهو أنه لما كان يوم الاثنين ثامن من رجب جمع نائب السلطان القضاة الأربعة ونوابهم والمفتين والمشايخ نجم الدين؛ وشمس الدين؛ وتقي الدين؛ وجمال الدين؛ وجلال الدين نائب نجم الدين؛ وشمس الدين بن العز نائب شمس الدين؛ وعز الدين نائب تقي الدين؛ ونجم الدين نائب جمال الدين؛ والشيخ كمال الدين بن الزملكاني؛ والشيخ كمال الدين بن الشرشي؛ وابن الوكيل من الشافعية؛ والشيخ برهان الدين بن عبدالحق من الحنفية؛ والشيخ شمس الدين الحريرى من المالكية؛ والشيخ شهاب الدين المجد من الشافعية؛ والشيخ محمد بن قوام؛ والشيخ محمد بن إبراهيم الأرموي؛ ثم سأل نائب السلطان عن الاعتقاد فقال ليس الاعتقاد لي ولا لمن هو أكبر مني بل الاعتقاد يؤخذ عن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة يؤخذ من كتاب الله تعالى ومن أحاديث البخاري ومسلم وغيرهما من الأحاديث المعروفة وما ثبت عن سلف الأمة، فقال الأمير نريد أن تكتب لنا صورة الاعتقاد، فقال الشيخ‏:‏ إذا قلت الساعة شيئًا من حفظي قد يقول الكذابون قد كتم بعضه أو داهن بل أنا أحضر ما كتبته قبل هذا المجلس بسنين متعددة قبل مجيء التتار، فأحضرت الواسطية وسبب تسميتها بذلك أن الذي طلبها من الشيخ رجل من قضاة واسط من أصحاب الشافعي قدم حاجًا من نحو عشر سنين ـ وكان فيه صلاح كبير وديانة كبيرة ـ فالتمس من الشيخ أن يكتب له عقيدة، فقال له الشيخ‏:‏ الناس قد كتبوا في هذا الباب شيئًا كثيرًا فخذ بعض عقائد أهل السنة، فقال‏:‏ أحب أن تكتب لي أنت، فكتب له وهو قاعد في مجلسه بعد العصر هذه العقيدة‏.‏

ذكر الشيخ للأمير معنى هذا الكلام ثم قرئت على الحاضرين من أولها إلى آخرها كلمه كلمة وبحث في مواضع منها وفيهم من في قلبه من الشيخ ما لا يعلمه الا الله، وكان ظنهم أنهم اذا تكلموا معه في هذا الكتاب أظهروا أنه يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة وأوردوا ثلاثة أسئلة في ثلاث مواضع وهي تسميتها باعتقاد أهل الفرقة الناجية؛ وقول استوى حقيقة؛ وقول فوق السموات‏.‏

فقال الشيخ للكاتب الذي أقعده نائب السلطان وهو الشيخ كمال الدين بن الزملكاني اكتب جوابها ـ وكان المجلس قد طال من الضحى إلى قريب العصر ـ فأشاروا بتأخير ذلك إلى مجلس ثان وهو يوم الجمعة ثانى عشر رجب، فاجتمعوا هم وحضر معهم الصفي الهندي، وحضرت أنا المجلس الثاني وما علمت بالمجلس الأول حين حضروا وقد كانوا بحثوا في تلك الآيام بالفصوص وطالعوه واتفقوا على أنهم لا يبقوا ممكنا، فلما حضرت بعد صلاة الجمعة واستقر المجلس أثنى الناس على الصفي الهندي وقال جماعة منهم هو شيخ الجماعة وكبيرهم في هذا وعليه اشتغل الناس في هذا الفن واتفقوا على أنه يتكلم مع الشيخ وحده فإذا فرغ تكلم واحد بعد واحد‏.‏

فخطب الشيخ فحمد الله وأثنى عليه بخطبة ابن مسعود رضي الله عنه ثم قال‏:‏ إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والإئتلاف ونهي عن الفرقة والاختلاف، وربنا واحد ورسولنا واحد وكتابنا واحد وديننا واحد، وأصول الدين ليس بين السلف وأئمة الإسلام فيها خلاف، ولا يحل فيها الافتراق لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏‏.‏ ويقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏‏.‏ وهذا الباب قد تنازع الناس فيه ويقول هذا أنا حنبلي ويقول هذا أنا أشعري، وقد أحضرت كتب الأشعري وكتب أكابر أصحابه مثل كتب أبي بكر بن الباقلاني، وأحضرت أيضًا من نقل مذاهب السلف من المالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث وشيوخ الصوفية وأنهم كلهم متفقون على اعتقاد واحد وكذلك أحضر نقل شيوخ أصحاب أبي حنيفة مثل محمد بن الحسن والطحاوي وما ذكروه من الصفات وغيرها في أصول الدين، وقرأ فصل مما ذكره الحافظ ابن عساكر في كتابه ‏[‏الإبانة‏]‏ وأنه يقول بقول الإمام أحمد، وأحضر كتاب التمهيد للقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأحضر النقول عن مالك وأكابر أصحابه مثل ابن أبي زيد والقاضي عبد الوهاب وغيرهما من كبار أصحاب مالك بتصريحهم أن الله مستو بذاته على العرش، وقال‏:‏ أما الذي أذكره فهو مذهب السلف وأحضر ألفاظهم وألفاظ من نقل مذاهبهم من الطوائف الأربعة وأهل الحديث والمتكلمين والصوفية، وأذكر موافقة ذلك من الكتاب والسنة، وأنه ليس في ذلك ما ينفيه العقل، وإن كان الله تعالى يجمع قلوب الجماعة على ذلك فالحمد لله رب العالمين وان خالف مخالف لذلك كان في كلام الآخر ما أقوله وأكشف الأسرار وأهتك الأستار وأبين ما يحتاج إليه بيانه واجتمع بالسلطان، وأقول له كلاما آخر وكان يومًا عظيمًا مشهودًا بين فيه للحاضرين من البحث والنقل أمر عظيم وبحث عن أشياء خارجة عن العقيدة الواسطية لما أحضر لهم جوابه في مسألة القرآن ومسألة الاستواء لما سئل عنها قديما من نحو اثني عشر سنة، وقرأ عليهم من ذلك الجواب، وسألوه عن ألفاظ في المسألة الحموية وأوردوا عليه جميع ما في أنفسهم من الأجوبة وقالوا هذا سؤالنا وما بقي في أنفسنا شيء، فلما أجاب الشيخ عن أسئلتهم وافقوه وانفصل المجلس على ذلك، وكان قال لهم كل من خالف شيئًا مما قلته فليكتب بخطه خلافه ولينقل فيما خالف في ذلك عن السلف أو يكتب كل شخص عقيدة وتعرض هذه العقائد على ولاة الأمور ويعرف أيها الموافق للكتاب والسنة، وقال أيضًا‏:‏ من جاء بحرف واحد عن السلف بخلاف ما ذكرت فأنا أصير إليه وأنا أحضر نقل جميع الطوائف أنهم ذكروا مذهب السلف كما وضعته، وأنا موافق السلف ومناظر على ذلك، وجميع أئمة الطوائف من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وأهل الحديث والصوفية موافقون ما أقوله‏.‏

وسألوه عن الظاهر، هل هو موافق‏؟‏ أم لا‏؟‏ فقال‏:‏ هذا ليس في العقيدة وأنا أتبرع بالجواب عن أكثر من حكى مذهب السلف كالخطابي وأبي بكر الخطيب والبغوي وأبي بكر وأبي القاسم التميمي وأبي الحسن الأشعري وابن الباقلاني وأبي عثمان الصابوني وأبي عمر بن عبد البر والقاضي أبي يعلى والسيف الآمدي وغيرهم في نفي الكيفية والتشبيه عنها، وأن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات يحتذي فيه حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وقد نقل طائفة أن مذهب السلف أن الظاهر غير مراد، قال‏:‏ والجمع بين النقلين أن الظاهر لفظ مشترك، فالظاهر الذي لا يليق إلا بالمخلوق غير مراد، وأما الظاهر اللائق بجلال الله تعالى وعظمته فهو مراد أنه هو المراد في أسماء الله تعالى وصفاته مثل الحي والعليم والقدير والسميع والبصير وجرت بحوث دقيقة لا يفهمها إلا قليل من الناس، وبين أن الله تعالى فوق عرشه على الوجه الذي يليق بجلاله، ولا أقول فوقه كالمخلوق على المخلوق كما تقوله المشبهة، ولا يقال أنه لا فوق السموات ولا على العرش رب كما تقوله المعطلة الجهمية، بل يقال أنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه‏.‏

وتكلم على لفظ الجهة وأنه معنى مشترك، وعلى لفظ الحقيقة‏.‏