فصل: مجمل اعتقاد السلف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي، بعده‏.‏

 مجمل اعتقاد السلف

 قال الشيخ الإمام العالم العلامة، شيخ الإسلام تقي الدين، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، رضي الله عنه وأرضاه‏:‏

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى إله وصحبه وسلم، أما بعد‏:‏

فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه منى في بعض المجالس، من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر، لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين، وكثرة الاضطراب فيهما‏.‏ فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعباد، لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال، لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة، وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات فالكلام في باب ‏[‏التوحيد والصفات‏]‏‏:‏ هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، والكلام في ‏[‏الشرع والقدر‏]‏‏:‏ هو من باب الطلب والإرادة، الدائر بين الإرادة والمحبة، وبين الكراهة والبغض، نفيًا وإثباتًا والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات، والتصديق والتكذيب، وبين الحب والبغض، والحض والمنع، حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة ومعروف، عند أصناف المتكلمين في العلم كما ذكر ذلك الفقهاء في ‏[‏كتاب الإيمان‏]‏ وكما ذكره المقسمون للكلام، من أهل النظر والنحو والبيان فذكروا أن الكلام نوعان‏:‏ خبر وإنشاء، والخبر دائر بين النفي والإثبات، والإنشاء أمر أو نهي، أو إباحة وإذا كان كذلك، فلا بد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال، ولا بد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته، وعموم مشيء ته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه، من القول والعمل ويؤمن بشرعه وقدره، إيمانا خاليا من الزلل، وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول، كما دل على ذلك سورة ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ودل على الآخر سورة‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 1‏]‏ وهما سورتا الإخلاص وبهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر، وركعتي الطواف، وغير ذلك فأما الأول وهو التوحيد في الصفات، فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله، نفيا وإثباتا، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه، مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد‏:‏ لا في أسمائه ولا في آياته فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ الآية‏.‏

فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات‏:‏ إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ففي قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏‏:‏ رد للتشبيه والتمثيل وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ رد للإلحاد والتعطيل‏.‏

فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ففي قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ رد للتشبيه والتمثيل، وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ رد للإلحاد والتعطيل، والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصل، ونفي مجمل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ قال أهل اللغة هل تعلم له ‏[‏سميًا‏]‏ أي نظيرًا يستحق مثل اسمه، ويقال مساميًا يساميه، وهذا معنى ما يروي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ مثيلاً أو شبيهًا، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ‏.‏ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 3، 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يَصِفُونَ‏.‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100، 101‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏.‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ‏.‏ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ‏.‏ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ‏.‏ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏.‏ أَصْطَفى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ‏.‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏.‏ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ‏.‏ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ‏.‏ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏.‏ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏.‏ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ‏.‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 149‏:‏ 160‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ‏.‏ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ‏.‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 180‏:‏ 182‏]‏‏.‏

فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء، والصفات وبديع المخلوقات‏.‏

وأما الإثبات المفصل، فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله‏:‏ ‏{‏اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ الآية بكمالها، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏.‏ اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1، 2‏]‏ السورة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏، ‏{‏وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 54‏]‏، ‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ‏{‏وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏، ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ‏.‏ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ‏.‏ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 14 ‏:‏16‏]‏، ‏{‏هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏.‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 28‏]‏

،وقوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 8‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 93‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إلى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 53‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 62‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ‏.‏ وَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسماء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 22‏:‏ 24‏]‏ إلى أمثال هذه الآيات، والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، في أسماء الرب تعالى وصفاته، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل، وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل، ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل، فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين، والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية، والقرامطة والباطنية ونحوهم، فإنهم على ضد ذلك يصفونه بالصفات السلبية، على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان، فقولهم يستلزم غاية التعطيل، وغاية التمثيل، فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات، ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات، فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين، فيقولون لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول، وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب، وما جاء به الرسول، فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات، وقد علم بالاضطرار أن الوجود لابد له من موجد، واجب بذاته غني عما سواه، قديم أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، فوصفوه بما يمتنع وجوده، فضلا عن الوجوب أو الوجود، أو القدم وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم، فوصفوه بالسلوب والإضافات، دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق، بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات، وجعلوا الصفة هي الموصوف‏.‏

فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البديهات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، فلم يميزوا بين العلم، والقدرة، والمشيئة، جحدًا للعلوم الضروريات، وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم، فأثبتوا لله الأسماء، دون ما تتضمنه من الصفات، فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير، كالأعلام المحضة المترادفات، ومنهم من قال‏:‏ عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر، فأثبتوا الاسم، دون ما تضمنه من الصفات، والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات، وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء، فيقعون في نظيره وفي شر منه مع، ما يلزمهم من التحريف والتعطيل، ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المختلفات، كما تقتضيه المعقولات، ولكانوا من الذين آوتوا العلم، الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول، هو الحق من ربه، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات، وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غنى عما سواه، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات، كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد علم بالاضطرار، أن المحدث لا بد له من محدث، والممكن لابد له من موجد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق، ولا هم الخالقون لأنفسهم، تعين أن لهم خالقا خلقهم، وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا موجود، وهذا موجود، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا، بل وجود هذا يخصه، ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الاضافة والتخصيص والتقييد، ولا في غيره، فلا يقول عاقل إذا قيل أن العرش شيء موجود وأن البعوض شيء موجود، إن هذا مثل هذا، لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه، بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا، هو مسمى الاسم المطلق، وإذا قيل هذا موجود، وهذا موجود، فوجود كل منهما يخصه، لا يشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما، ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء وكانت تلك الأسماء مختصة به، إذا أضيفت إليه، لا يشركه فيها غيره، وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين، وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة، والتخصيص اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص، فقد سمى الله نفسه حيا، فقال‏:‏ ‏{‏اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وسمى بعض عباده حيًا، فقال‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وليس هذا الحي مثل هذا الحي لأن قوله الحي اسم لله مختص به وقوله‏:‏ يخرج الحي من الميت اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص، ولكن ليس للمطق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدرًا مشتركا بين المسميين وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق، ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والإتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق، للخالق في شيء من خصائصه، سبحانه وتعالى، وكذلك سمى الله نفسه عليمًا حليمًا وسمى بعض عباده عليمًا فقال‏:‏ وبشرناه بغلام عليم، يعني إسحق، وسمى آخر حليمًا، فقال‏:‏ وبشرناه بغلام حليم يعني إسماعيل، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم، وسمى نفسه سميعًا بصيرًا، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏، وسمى بعض عباده سميعًا بصيرًا فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏ وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، وسمى نفسه بالرؤوف الرحيم فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، وسمى بعض عباده بالرؤوف الرحيم فقال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏‏.‏ وليس الرؤوف كالرؤوف، ولا الرحيم كالرحيم، وسمى نفسه بالملك فقال‏:‏ ‏{‏الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ‏}‏ وسمى بعض عباده بالملك فقال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏،

{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 50، 54‏]‏‏.‏ وليس الملك كالملك، وسمى نفسه بالمؤمن المهيمن، وسمى بعض عباده بالمؤمن، فقال‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وليس المؤمن كالمؤمن، وسمى نفسه بالعزيز فقال‏:‏ ‏{‏الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وسمى بعض عباده بالعزيز، فقال‏:‏ ‏{‏قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وليس العزيز كالعزيز، وسمى نفسه الجبار المتكبر، وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر، فقال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏ وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر، ونظائر هذا متعددة، وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى صفات عباده بنظير ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء‏}‏ ‏{‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ وقال ‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 58‏]‏ وقال ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ ‏[‏ فصلت‏:‏ 15‏]‏ وسمى صفة المخلوق علمًا وقوة، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 83‏]‏ وقال‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 54‏]‏ وقال ‏{‏وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وقال ‏{‏وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏ أي بقوة، وقال ‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏ أي ذا القوة، وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة ووصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة فقال‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏.‏ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28، 29‏]‏ وقال ‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا‏.‏ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏ وكذلك وصف نفسه بالإرادة وعبده بالإرادة فقال‏:‏ ‏{‏تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 67‏]‏‏.‏

ووصف نفسه بالمحبة، ووصف عبده بالمحبة فقال‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وقال ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏ ووصف نفسه بالرضا، ووصف عبده بالرضا، فقال‏:‏ ‏{‏رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 8‏]‏ ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه، وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إلى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وليس المقت مثل المقت‏.‏ وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال‏:‏ ويمكرون ويمكر الله، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا‏.‏ وَأَكِيدُ كَيْدًا‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 15، 16‏]‏، وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد، ووصف نفسه بالعمل، فقال‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏ ووصف عبده بالعمل فقال‏:‏ ‏{‏جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏ وليس العمل كالعمل ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة، فقال‏:‏ ‏{‏وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 52‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 62‏]‏ وقال ‏{‏وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏ ووصف عباده بالمناداة والمناجاة، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 4‏]‏ وقال ‏{‏إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 12‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 9‏]‏ وليس المناداة ولا المناجاة، كالمناجاة والمناداة، ووصف نفسه بالتكليم في قوله ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏، ووصف عبده بالتكليم في قوله ‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏ وليس التكليم كالتكليم، ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وليس الإنباء كالإنباء‏.‏

ووصف نفسه بالتعليم ووصف عبده بالتعليم فقال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ‏.‏ عَلَّمَ الْقُرْآنَ‏.‏ خَلَقَ الْإِنسَانَ‏.‏ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 1‏:‏ 4‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 4‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وليس التعليم كالتعليم، وهكذا وصف نفسه بالغضب، فقال‏:‏ ‏{‏وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 6‏]‏، ووصف عبده بالغضب في قوله ‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ وليس الغضب كالغضب، ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر ذلك في سبع مواضع من كتابه أنه استوى على العرش،ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره، في مثل قوله‏{‏لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 27‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 44‏]‏ وليس الاستواء كالإستواء، ووصف نفسه ببسط اليدين، فقال‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ اليهود يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏

ووصف بعض خلقه ببسط اليد، في قوله‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 29‏]‏ وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه ولا جوده كجودهم ونظائر هذا كثيرة، فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي مماثلته بخلقه، فمن قال ليس لله علم ولا قوة ولا رحمة، ولا كلام ولا يحب ولا يرضى ولا نادى ولا ناجى ولا استوى‏.‏ كان معطلا جاحدا، ممثلا لله بالمعدومات والجمادات‏.‏

ومن قال له علم كعلمي أو قوة كقوتي، أو حب كحبي أو رضاء كرضائي، أو يدان كيداي، أو استواء كاستوائي، كان مشبها ممثلا لله بالحيوانات بل لا بد من إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل، ويتبين هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين‏.‏

ولله المثل الأعلى‏.‏

‏.‏ ‏[‏وبخاتمة جامعة‏]‏‏.‏

 

فصل‏:‏

فأما الأصلان‏:‏ فأحدهما أن يقال‏:‏ القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإن كان المخاطب ممن يقول‏:‏ بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازا ويفسره، إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، فيقال له‏:‏ لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت‏:‏ أن إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه‏.‏ وهذا هو التمثيل وإن قلت‏:‏ أن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به قيل لك‏:‏ وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به وإن قلت‏:‏ الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فيقال له‏:‏ والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة فإن قلت‏:‏ هذه إرادة المخلوق قيل لك‏:‏ وهذا غضب المخلوق وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفي عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات وإن قال‏:‏ أنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين، فيجب نفيه عنه قيل له‏:‏ وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة، فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض، يقال له‏:‏ فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي‏:‏ ليس له إرادة ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا، ونحو ذلك، فإن قال‏:‏ تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة والتخصيص، دل على الإرادة والإحكام، دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع، والبصر والكلام، أو ضد ذلك قال له سائر أهل الإثبات‏:‏ لك جوابان‏:‏ أحدهما أن يقال‏:‏ عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل، كما على المثبت والسمع، قد دل عليه ولم يعارض، ذلك معارض عقلي، ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض‏.‏

المقام الثاني أن يقال‏:‏ يمكن إثبات هذه الصفات، بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال نفع العباد بالإحسان إليهم، دل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم وعقاب الكافرين، يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشهادة والخبر‏:‏ من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته - وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة - تدل على حكمته البالغة، كما يدل التخصيص على المشيئة، وأولى لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم، أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة، وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء كالمعتزلي الذي يقول‏:‏ إنه حي عليم قدير، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة، قيل له‏:‏ لا فرق بين إثبات الأسماء، وإثبات الصفات فإنك إن قلت‏:‏ إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيهًا أو تجسيمًا، لأنا لا نجد في الشاهد متصفًا بالصفات إلا ما هو جسم قيل لك‏:‏ ولا نجد في الشاهد ما هو مسمى حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا للجسم، فانف الأسماء بل وكل شيء لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم، فكل ما يحتج به من نفي الصفات يحتج به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جوابًا لذلك كان جوابًا لمثبتي الصفات، وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات وقال لا أقول‏:‏ هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، بل هذه الأسماء لمخلوقاته إذ هي مجاز لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم، قيل له‏:‏ كذلك إذا قلت‏:‏ ليس بموجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير، كان ذلك تشبيها بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات، فإن قال‏:‏ أنا أنفي النفي والإثبات، قيل له‏:‏ فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودًا معدومًا أو لا موجودًا ولا معدومًا، ويمتنع أن يكون يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم، أو الحياة والموت، أو العلم والجهل أو يوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت ونفي العلم والجهل، فإن قلت إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير ولا حي ولا ميت، إذ ليس بقابل لهما، قيل لك‏:‏ أولا هذا لا يصح في الوجود والعدم، فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر، وأما ما ذكرته من الحياة والموت والعلم والجهل‏:‏ فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفي الحقائق العقلية، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏.‏ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 20، 21‏]‏‏.‏

فسمى الجماد ميتًا، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم، وقيل لك ثانيا‏:‏ فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر، ونحو ذلك من المتقابلات، أنقص مما يقبل ذلك -، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر، أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحدًا منهما، فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجامدات التي لا تقبل ذلك‏.‏

وأيضًا فما لا يقبل الوجود والعدم، أعظم امتناعًا من القابل للوجود والعدم، بل ومن اجتماع الوجود والعدم، ونفيهما جميعًا، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم‏.‏ كان أعظم امتناعًا، مما نفيت عنه الوجود والعدم، وإذا كان هذا ممتنعًا في صرائح العقول فذاك أعظم امتناعا، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم، هو أعظم الممتنعات، وهذا غاية التناقض والفساد، وهؤلاء الباطنية منهم من يصرح برفع النقيضين‏:‏ الوجود والعدم، ورفعهما كجمعهما‏.‏

ومن يقول لا أثبت واحدًا منهما، فامتناعه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر؛ لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر، وإنما هو كجهل الجاهل، وسكوت الساكت، الذي لا يعبر عن الحقائق، وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم، أعظم امتناعًا مما يقدر قبوله لهما، مع نفيهما عنه فما يقدر لا يقبل الحياة ولا الموت، ولا العلم ولا الجهل، ولا القدرة ولا العجز، ولا الكلام ولا الخرس، ولا العمى ولا البصر، ولا السمع ولا الصمم، أقرب إلى المعدوم الممتنع، مما يقدر قابلًا لهما، مع نفيهما عنه، وحينئذ فنفيهما مع كونه قابلًا لهما أقرب إلى الوجود والممكن، وما جاز لواجب الوجود، قابلًا وجب له، لعدم توقف صفاته على غيره، فإذا جاز القبول وجب، وإذا جاز وجود القبول وجب وقد بسط هذا في موضع آخر، وبين وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه‏.‏

وقيل له أيضًا‏:‏ اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات؛ وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق، ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه، سبحانه وتعالى‏.‏

وأما ما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل، وتسميتك ذلك تشبيهًا وتجسيمًا، تمويه على الجهال الذين يظنون أن كل معنى سماه مسم بهذا الاسم يجب نفيه، ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس ليكذب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل، وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف الناس عقلهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغي والضلالة‏.‏

وإن قال نفاة الصفات‏:‏ إثبات العلم والقدرة والإرادة؛ مستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع، قيل‏:‏ وإذا قلتم‏:‏ هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا‏؟‏ فهذه معان متعددة متغايرة، في العقل وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيدًا، فإن قالوا‏:‏ هذا توحيد في الحقيقة، وليس هذا تركيبًا ممتنعًا، قيل لهم‏:‏ واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة، وليس هو تركيبًا ممتنعًا وذلك أنه من المعلوم في صريح العقول، أنه ليس معنى كون الشيء عالمًا، هو معنى كونه قادرًا، ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالمًا قادرًا، فمن جوز أن تكون هذه الصفة هي الموصوف، فهو من أعظم الناس سفسطة، ثم إنه متناقض، فإنه إن جوز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، فيكون الوجود واحدًا بالعين لا بالنوع، وحينئذ فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب كان وجود كل مخلوق يعدم بعدم وجوده ويوجد بعد عدمه، هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي، الذي لا يقبل العدم وإذا قدر هذا كان الوجود الواجب، موصوفًا بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وكل عيب، كما يصرح بذلك أهل وحدة الوجود الذين طردوا هذا الأصل الفاسد، وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير، وهذا باب مطرد فإن كل واحد من النفاة لما أخبر به الرسول من الصفات‏:‏ لا ينفي شيئًا فرارًا مما هو محذور، إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه، فلا بد في آخر الأمر من أن يثبت موجودًا واجبًا قديمًا متصفًا بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلًا لخلقه، فيقال له‏:‏ هكذا القول في جمع الصفات وكل ما تثبته من الأسماء والصفات‏:‏ فلا بد أن يدل على قدر تتواطأ فيه المسميات ولولا ذلك لما فهم الخطاب، ولكن نعلم أن ما اختص الله به، وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال‏.‏

وهذا يتبين بالأصل الثاني، وهو أن يقال القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل سائر الصفات، فإذا قال السائل‏:‏ كيف استوى على العرش‏؟‏

قيل له‏:‏ كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضي الله عنهما‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به، واجب والسؤال عن الكيفية بدعة‏.‏ لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه، وكذلك إذا قال‏:‏ كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا‏؟‏

قيل له‏:‏ كيف هو‏؟‏ فإذا قال لا أعلم كيفيته‏.‏ قيل له‏:‏ ونحن لا نعلم كيفية نزوله إذ العلم بكيفية الصفة، يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه، ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته‏؟‏‏.‏

وإذا كنت تقر بأن له حقيقة ثابته في نفس الأمر، مستوجبه لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي لايشابهه فيها سمع المخلوقين، وبصرهم، وكلامهم، ونزولهم، واستواؤهم، وهذا الكلام لازم لهم في العقليات، وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئًا ونفي شيئًا بالعقل، إذا ألزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة، نظير ما يلزمه فيما أثبته؛ ولو طولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا لم يجد بينهما فرقًا؛ ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض الذين يوجبون فيما نفوه، إما التفويض وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ قانون مستقيم‏.‏

فإذا قيل لهم‏:‏ لم تأولتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد‏؟‏‏.‏ لم يكن لهم جواب صحيح، فهذا تناقضهم في النفي وكذا تناقضهم في الإثبات، فإن من تأول النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر، لزمهم في المعنى المصروف إليه، ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه، فإذا قال قائل تأويل محبته ورضاه وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الارادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت، والرضا والسخط‏.‏

ولو فسر ذلك بمفعولاته، وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب، فإنه يلزمه في ذلك نظير ما فر منه، فإن الفعل لابد أن يقوم، أولًا بالفاعل والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه ويسخطه ويبغضه، المثيب المعاقب فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك فكذلك الصفات‏.‏

 

فصل‏:‏

وأما المثلان المضروبان‏:‏ فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات‏:‏ من أصناف المطاعم والملابس والمناكح والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبنًا وعسلًا وخمرًا وماء ولحمًا وحريرًا وذهبًا، وفضة وفاكهة، وحورًا وقصورًا، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏[‏ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء‏]‏ وإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها، هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى‏:‏ فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات منه مباينة المخلوق للمخلوق ومباينته لمخلوقاته‏:‏ أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم، من الخالق إلى المخلوق، وهذا بين واضح، ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق‏:‏ فالسلف والأئمة وأتباعهم‏:‏ آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة، وإن مباينة الله لخلقه أعظم والفريق الثاني‏:‏ الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، ونفوا كثيرًا مما أخبر به من الصفات، مثل طوائف من أهل الكلام‏.‏

والفريق الثالث‏:‏ نفوا هذا وهذا كالقرامطة، والباطنية والفلاسفة أتباع المشائين، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، ثم إن كثيرًا منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب، فيجعلون الشرائع المأمور بها والمحظورات المنهي عنها‏:‏ لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون من الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، فيقولون‏:‏ إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، وإن صيام رمضان كتمان أسرارهم، وإن حج البيت السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل - صلوات الله عليهم - وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه وإلحاد في آيات الله وقد يقولون الشرائع تلزم العامة دون الخاصة فإذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم‏:‏ رفعوا عنه الواجبات وأباحوا له المحظورات وقد يدخل في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب وهؤلاء الباطنية‏:‏ هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى وما يحتج به على الملاحدة أهل الإيمان والإثبات‏:‏ يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والإثبات على من يشرك هؤلاء في بعض إلحادهم فإذا أثبت لله تعالى الصفات ونفي عنه مماثلة المخلوقات كما دل على ذلك الآيات البينات كان ذلك هو الحق الذي يوافق المعقول والمنقول ويهدم أساس الإلحاد والضلالات والله سبحانه لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه فإن الله لا مثيل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يُشرَك هو والمخلوقات في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده؛ ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزها عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم‏:‏ فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقة في الاسم وهكذا القول في المثل الثاني‏:‏ وهو أن الروح التي فينا، فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تقبض من البدن، وتسل منه كما تسل الشعرة من العجينة، والناس مضطربون فيها، فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءًا من البدن، أو صفة من صفاته، كقول بعضهم‏:‏ أنها النفس أو الريح التي تردد في البدن، وقول بعضهم‏:‏ إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن، ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون‏:‏ لا هي داخلة في البدن ولا خارجة، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عرض، وقد يقولون‏:‏ أنها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج، وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة، وقد يقولون‏:‏ أنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة، وربما قالوا ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها، مع تفسيرهم للجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع، وإذا قيل لهم‏:‏ إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل قالوا‏:‏ بل هذا ممكن بدليل أن الكليات ممكنة موجودة وهي غير مشار إليها، وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في العيان، فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفي فساده على غالب الجهال‏.‏

واضطراب النفاة والمثبتة في الروح كثير وسبب ذلك أن الروح - التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة - ليست هي من جنس هذا البدن ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة، وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة، وكلا القولين خطأ، وإطلاق القول عليها بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل، فإن لفظ الجسم للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي، فإن أهل اللغة يقولون‏:‏ الجسم هو الجسد والبدن، وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسما، ولهذا يقولون‏:‏ الروح والجسم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 247‏]‏‏.‏ وأما أهل الكلام‏:‏ فمنهم من يقول الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول‏:‏ هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول‏:‏ هو المركب من الجواهر المفردة، ومنهم من يقول‏:‏ هو المركب من المادة والصورة، وكل هؤلاء يقولون‏:‏ إنه مشار إليه إشارة حسية، ومنهم من يقول‏:‏ ليس مركبًا من هذا ولا من هذا؛ بل هو مما يشار إليه، ويقال‏:‏ إنه هنا أو هناك، فعلى هذا إن كانت الروح مما يشار إليها ويتبعها بصر الميت، - كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الروح إذا خرجت تبعها البصر وأنها تقبض ويعرج بها إلى السماء‏)‏- كانت الروح جسمًا بهذا الاصطلاح، والمقصود‏:‏ أن الروح إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة سميعة بصيرة‏:‏ تصعد وتنزل وتذهب وتجيء ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرًا‏.‏ والشيء إنما تدرك حقيقته بمشاهدته أو مشاهدة نظيره‏.‏ فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات، مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها‏.‏ فإذا كان من نفي صفات الروح جاحدًا معطلًا لها، ومن مثلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلًا ممثلًا لها بغير شكلها، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات‏:‏ الخالق - سبحانه وتعالى - أولى أن يكون من نفي صفاته جاحدًا معطلًا، ومن قاسه بخلقه جاهلًا به ممثلًا، وهو سبحانه وتعالى ثابت بحقيقة الإثبات، مستحق لما له من الأسماء والصفات‏.‏

 

فصل

‏[‏وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة‏]‏‏.‏

القاعدة الأولى‏:‏ أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، والنفي؛ كقوله ‏{‏لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتًا وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء وما ليس بشيء فهو كما قيل‏:‏ ليس بشيء، فضلًا عن أن يكون مدحًا أو كمالا ولان النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال‏.‏ فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنًا لإثبات مدح كقوله‏:‏ ‏{‏اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ أي لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته، وتمامها بخلاف المخلوق القادر، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته، وعيب في قوته، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏ فان نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏‏.‏ فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏‏.‏ إنما نفي الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يرى وليس في كونه لا يرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحًا وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي، كما أنه لا يحاط به، وإن علم فكما أنه إذا علم لا يحاط به علمًا‏:‏ فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحًا وصفة كمال، وكان ذلك دليلًا على إثبات الرؤية لا على نفيها لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتًا هو مما لم يصف الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب‏:‏ لم يثبتوا في الحقيقة إلهًا محمودًا، بل ولا موجودًا وكذلك من شاركهم في بعض ذلك، كالذين قالوا لا يتكلم، أو لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون‏:‏ ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباينًا للعالم ولا محايثًا له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت، ولهذا قال ‏[‏محمود بن سبكتكين‏]‏ لمن ادعى ذلك في الخالق‏:‏ ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم‏.‏ وكذلك كونه لا يتكلم، أو لا ينزل ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص، فمن قال‏:‏ لا هو مباين للعالم، ولا مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال‏:‏ لا هو قائم بنفسه، ولا بغيره، ولا قديم، ولا محدث، ولا متقدم، على العالم، ولا مقارن له، ومن قال‏:‏ إنه ليس بحي ولا ميت، ولا سميع ولا بصير، ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتًا أصم أعمى أبكم‏.‏

فإن قال‏:‏ العمى عدم البصر عمًا من شأنه أن يقبل البصر، وما لم يقبل البصر، كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير، قيل له‏:‏ هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام، يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة، وأيضًا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضهًا، فإن الله قادر على جعل الجماد حيًا، كما جعل عصى موسى حية ابتلعت الحبال والعصي، وأيضًا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصًا ممن لا يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصًا من الحي الأعمى الأخرس فإذا قيل‏:‏ أن الباري لا يمكن اتصافه بذلك‏:‏ كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم؛ مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك، مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيهًا له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها‏.‏ وهذا تشبيه بالجمادات، لا بالحيوانات، فكيف من قال ذلك غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي، وأيضًا فنفس نفي هذه الصفات نقص كما أن إثباتها كمال، فالحياة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها صفة كمال، وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والفعل ونحو ذلك، وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به‏:‏ لكان المخلوق أكمل منه‏.‏

واعلم أن الجهمية المحضة، كالقرامطة ومن ضاهاهم؛ ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين حتى يقولون ليس بموجود، ولا ليس بموجود، ولا حي، ولا ليس بحي، ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول، كالجمع بين النقيضين، وآخرون وصفوه بالنفي فقط فقالوا‏:‏ ليس بحي ولا سميع، ولا بصير وهؤلاء، أعظم كفرًا من أولئك من وجه، وأولئك أعظم كفرًا، من هؤلاء من وجه، فإذا قيل لهؤلاء هذا مستلزم وصفه بنقيض، ذلك كالموت والصمم والبكم، قالوا إنما يلزم ذلك لو كان قابلًا لذلك، وهذا الاعتذار يزيد قولهم فسادًا، وكذلك من ضاهي هؤلاء وهم الذين يقولون ليس بداخل العالم ولا خارجه، إذا قيل هذا ممتنع في ضرورة العقل، كما إذا قيل ليس بقديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن ولا قائم بنفسه، ولا قائم بغيره، قالوا‏:‏ هذا إنما يكون إذا كان قابلًا لذلك والقبول إنما يكون من التحيز، فإذا انتفي التحيز انتفي قبول هذين المتناقضين‏.‏

فيقال لهم علم الخلق بإمتناع الخلو من هذين النقيضين، هو علم مطلق لا يستثني منه موجود، والتحيز المذكور أن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به، فهذا هو الداخل في العالم، وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها متميز عنها، فهذا هو الخروج، فالمتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم، وتارة ما هو خارج العالم، فإذا قيل ليس بمتحيز، كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه‏.‏

فهم غيروا العبارة، ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنى آخر، وهو المعنى الذي علم فساده بضرورة العقل، كما فعل أولئك بقولهم‏:‏ ليس بحى ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل‏.‏

 القاعدة الثانية‏:‏

أن ما أخبر به الرسول عن ربه، فإنه يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه، أو لم نعرف، لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به، وإن لم يفهم معناه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصًا في الكتاب والسنة، متفق عليه بين سلف الأمة، وما تنازع فيه المتأخرون نفيًا وإثباتًا، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحدًا على إثبات لفظه أو نفيه؛ حتى يعرف مراده فإن أراد حقًا قبل، وإن أراد باطلًا رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقًا، ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ، ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك، فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله، فيكون مخلوقا، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش، أو نفس السموات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم، ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه، كما فيه إثبات العلو، والاستواء، والفوقية، والعروج إليه، ونحو ذلك‏.‏ وقد علم أن ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته‏.‏

فيقال لمن نفي الجهة‏:‏ أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق‏؟‏ فالله ليس داخلًا في المخلوقات أم تريد بالجهة ما وراء العالم‏؟‏ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات، وكذلك يقال لمن قال الله‏:‏ في جهة أتريد بذلك أن الله فوق العالم‏؟‏ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات‏؟‏

فإن أردت الأول فهو حق وإن أردت الثاني فهو باطل وكذلك لفظ التحيز‏:‏ أن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول‏:‏ أنا الملك أين ملوك الأرض‏؟‏‏)‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة‏)‏ وفي حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن، إلا كخردلة في يد أحدكم‏)‏ وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها منفصل عنها ليس حالًا فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السنة‏:‏ فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه‏.‏

 القاعدة الثالثة‏:‏

إذا قال القائل‏:‏ ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد، فإنه يقال‏:‏ لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرًا وباطلًا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر، أو ضلال، والذين يجعلون ظاهرها ذلك، يغلطون من وجهين‏:‏ تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجًا إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك، وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل فالأول كما قالوا في قوله‏:‏ ‏(‏عبدي جعت فلم تطعمني‏)‏ الحديث وفي الأثر الآخر‏:‏ ‏(‏الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن‏)‏ فقالوا‏:‏ قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق‏.‏

فيقال لهم‏:‏ لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لم تدل إلا على حق أما الواحد فقوله‏:‏ ‏(‏الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏)‏ صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه، لأنه قال‏:‏ ‏(‏يمين الله في الأرض‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏)‏ ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به، ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحًا لله، وأنه ليس هو نفس يمينه فكيف يجعل ظاهره كفرًا لأنه محتاج إلى التأويل‏.‏ مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس‏؟‏ وأما الحديث الآخر‏:‏ فهو في الصحيح مفسرًا‏:‏ ‏(‏يقول الله عبدي جعت فلم تطعمنى فيقول‏:‏ رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين‏؟‏ فيقول‏:‏ أما علمت أن عبدي فلانًا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي‏.‏ عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول‏:‏ رب كيف أعودك وأنت رب العالمين‏؟‏ فيقول‏:‏ أما علمت أن عبدي فلانًا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده‏)‏ وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض، ولا يجع، ولكن مرض عبده وجوع عبده فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسرًا ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده، فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل، وأما قوله ‏(‏قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن‏)‏، فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه، ولا في قول القائل هذا بين يدي ما يقتضي مباشرته ليديه، وإذا قيل‏:‏ السحاب المسخر بين السماء والأرض، لم يقتض أن يكون مماسًا للسماء والأرض، ونظائر هذا كثيرة، ومما يشبه هذا القول؛ أن يجعل اللفظ نظيرًا لما ليس مثله، كما قيل في قوله ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏؟‏‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏‏.‏ فقيل هو مثل قوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏}‏‏؟‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏‏.‏ فهذا ليس مثل هذا، لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي، فصار شبيهًا بقوله‏:‏ ‏{‏فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وهنا أضاف الفعل إليه فقال‏:‏ ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏بِيَدَيَّ‏}‏ وأيضا‏:‏ فإنه هنا ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏ وهناك أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وهذا في الجمع نظير قوله‏:‏ ‏{‏بِيَدِهِ الْمُلْكُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وبيده الخير في المفرد فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد مظهرًا أو مضمرًا، وتارة بصيغة الجمع، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وأمثال ذلك‏.‏ ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية، فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك، فلو قال‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏‏.‏ لما كان كقوله‏:‏ ‏{‏مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏ وهو نظير قوله‏:‏ ‏{‏بِيَدِهِ الْمُلْكُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وبيده الخير، ولو قال خلقت بصيغة الإفراد، لكان مفارقًا له، فكيف إذا قال خلقت بيدي‏؟‏ بصيغة التثنية، هذا مع دلالات الأحاديث المستفيضة بل المتواترة وإجماع السلف على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه مثل قوله‏:‏ ‏(‏المقسطون عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا‏)‏‏.‏ وأمثال ذلك، وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع؛ فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد‏:‏ كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا، وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير، فكذلك إذا قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ ‏{‏رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏ أنه على ظاهره، لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حبًا كحبه، ولا رضًا كرضاه، فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين؛ لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مرادًا وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مرادا؛ إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا، إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات فيكون الكلام في الجميع واحدا‏.‏ وبيان هذا أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام، وهي أبعاض لنا كالوجه واليد، ومنها ما هو معان وأعراض وهي قائمة بنا، كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة‏.‏ ثم أن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير‏:‏ لم يقل المسلمون أن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا بل صفة الموصوف تناسبه‏.‏ فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال صلى الله عليه وسلم ‏(‏ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر‏)‏ فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي‏.‏ وهذا يتبين‏.‏

 بالقاعدة الرابعة‏:‏

وهو أن كثيرًا من الناس يتوهم في بعض الصفات أو كثير منها، أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه؛ فيقع في أربعة أنواع من المحاذير‏:‏

أحدها‏:‏ كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله بقيت النصوص معطلة، عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله‏.‏ فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله‏.‏ حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل‏.‏ قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى‏.‏

الثالث أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب‏.‏

الرابع‏:‏ أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات، فيكون قد عطل به صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثله بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات‏.‏ فيجمع في كلام الله، وفي الله بين التعطيل والتمثيل؛ يكون ملحدًا في أسماء الله وآياته، مثال ذلك أن النصوص كلها دلت على وصف الإله بالعلو والفوقية على المخلوقات واستوائه على العرش، فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل الموافق للسمع، وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع، وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينه ولا مداخله، فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش، كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 12‏]‏‏.‏ ‏{‏لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏‏.‏ فيتخيل له أنه إذا كان مستويًا على العرش كان محتاجًا إليه، كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو غرقت السفينة لسقط المستوي عليها، ولو عثرت الدابة لخر المستوي عليها، فقياس هذا أنه لو عدم العرش؛ لسقط الرب سبحانه وتعالى، ثم يريد بزعمه أن ينفي هذا؛ فيقول‏:‏ ليس استواؤه بقعود ولا استقرار ولا يعلم أن مسمى القعود والاستقرار، يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك‏:‏ فلا فرق بين الاستواء والقعود، والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستويا ولا مستقرا ولا قاعدا، وإن لم يدخل في مسمى ذلك، إلا ما يدخل في مسمى الاستواء، فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم، وقد علم أن بين مسمى الاستواء والاستقرار والقعود فروقا معروفة‏.‏

ولكن المقصود هنا أن يعلم خطأ من ينفي الشيء، مع إثبات نظيره، وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك، وليس في هذا اللفظ ما يدل على ذلك، لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليه سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق؛ ثم استوى، كما ذكر أنه قدر فهدى، وأنه بنى السماء بأيد، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأمثال ذلك‏.‏ فلم يذكر استواء مطلقا يصلح للمخلوق، ولا عاما يتناول المخلوق، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواء إضافه إلى نفسه الكريمة فلو قدر على وجه الفرض الممتنع أنه هو مثل خلقه - تعالى عن ذلك -، لكان استواؤه مثل استواء خلقه، أما إذا كان هو ليس مماثلا لخلقه، بل قد علم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش، ولغيره وأن كل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه، وهو لم يذكر إلا استواء يخصه، لم يذكر استواء يتناول غيره، ولا يصلح له كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه، إلا ما يختص به فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستويًا على العرش كان محتاجًا إليه، وأنه لو سقط العرش لخر من عليه‏!‏‏!‏‏.‏

سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا، هل هذا إلا جهل محض وضلال، ممن فهم ذلك وتوهمه أو ظنه، ظاهر اللفظ ومدلوله، أو جوز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق؛ بل لو قدر أن جاهلًا فهم مثل هذا وتوهمه لبين له أن هذا لا يجوز، وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلًا، كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه، فلما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏

فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج، الذي يحتاج إلى زنبيل ومجارف وضرب لبن وجبل طين وأعوان‏؟‏ ثم قد علم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقرًا إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقرًا إلى أن تحمله الأرض والسحاب، أيضًا فوق الأرض وليس مفتقرًا إلى أن تحمله، والسموات فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها، فالعلي الأعلى رب كل شيء ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه‏:‏ كيف يجب أن يكون محتاجًا إلى خلقه، أو عرشه‏؟‏ أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار، وهو ليس بمستلزم في المخلوقات‏؟‏ وقد علم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره، فالخالق سبحانه وتعالى أحق به، وأولى وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏‏.‏ من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات فهو جاهل ضال بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا‏:‏ أن الشمس والقمر في السماء يقتضي ذلك فإن حرف ‏[‏في‏]‏ متعلق بما قبله وبما بعده، فهو بحسب المضاف إليه، ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في الحيز، وكون العرض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصة يتميز بها عن غيره، وإن كان حرف ‏[‏في‏]‏ مستعملًا في ذلك فلو قال قائل‏:‏ العرش في السماء أو في الأرض‏؟‏ لقيل في السماء ولو قيل‏:‏ الجنة في السماء أم في الأرض‏؟‏ لقيل الجنة في السماء، ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السموات، بل ولا الجنة، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن‏)‏ فهذه الجنة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك‏.‏ مع أن الجنة في السماء، يراد به العلو سواء كانت فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏‏.‏ ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلى الأعلى، وأنه فوق كل شيء كان المفهوم من قوله‏:‏ إنه في السماء أنه في العلو وأنه فوق كل شيء‏.‏ وكذلك الجارية لما قال لها أين الله‏؟‏ قالت‏:‏ في السماء، إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها‏.‏

وإذا قيل‏:‏ العلو فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله، كما لو قيل‏:‏ العرش في السماء فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق، وإن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك، كان المراد إنه عليها، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏]‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏فسيحوا في الأرض‏}‏ ويقال‏:‏ فلان في الجبل، وفي السطح، وإن كان على أعلى شيء فيه‏.‏

 القاعدة الخامسة‏:‏

أنّا نعلم لما أخبرنا به من وجه دون وجه‏.‏ فإن الله قال‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 24‏]‏‏.‏ فأمر بتدبر الكتاب كله وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وجمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وهذا هو المأثور عن أبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ التفسير على أربعة أوجه تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب‏.‏ وقد روي عن مجاهد وطائفة‏:‏ أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله‏.‏ وقد قال مجاهد‏:‏ عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية، وأسأله عن تفسيرها، ولا منافاة بين القولين عند التحقيق، فإن لفظ ‏[‏التأويل‏]‏ قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملا في ثلاثة معان‏:‏ -

أحدها‏:‏ وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله، أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، لدليل يقترن به، وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات، وترك تأويلها، وهل ذلك محمود أو مذموم أو حق أو باطل‏؟‏‏.‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير، واختلف علماء التأويل، ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري‏:‏ ‏[‏إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به‏]‏ وعلى تفسيره يعتمد الشافعي وأحمد والبخاري وغيرهما، فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به معرفة تفسيره‏.‏

الثالث من معاني التأويل‏:‏ هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏‏.‏ فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه مما يكون، من القيامة والحساب والجزاء، والجنة والنار، ونحو ذلك، كما قال الله تعالى في قصة يوسف، لما سجد أبواه وإخوته قال‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏ فجعل عين ما وجد في الخارج، هو تأويل الرؤيا الثاني، هو تفسير الكلام وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ، حتى يفهم معناه أو تعرف علته، أو دليله وهذا‏.‏

التأويل الثالث‏:‏ هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي‏)‏ يتأول القرآن يعني قوله‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقول سفيان بن عيينة‏:‏ السنة هي تأويل الأمر والنهي فإن نفس الفعل المأمور به‏:‏ هو تأويل الأمر به ونفس الموجود المخبر عنه، هو تأويل الخبر، والكلام خبر وأمر، ولهذا يقول أبو عبيد وغيره‏:‏ الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة، كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء، لأن الفقهاء يعلمون تفسير ما أمر به ونهي عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم أتباع بقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهما، ما لا يعلم بمجرد اللغة، ولكن تأويل الأمر والنهي لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر‏.‏ إذا عرف ذلك‏:‏ فتأويل ما أخبر الله تعالى به عن نفسه المقدسة، المتصفة بما لها من حقائق الأسماء والصفات، هو حقيقة لنفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به تعالى، من الوعد والوعيد، هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد، ولهذا ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه، لأن ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، فيه ألفاظ متشابهة يشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة لحمًا ولبنًا وعسلًا وخمرًا، ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظًا ومعنى، ولكن ليس هو مثله ولا حقيقته فأسماء الله تعالى وصفاته أولى، وإن كان بينهما وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته، والإخبار عن الغائب لا يفهم أن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب، بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميز، وإن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد وفي الغائب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار، علمنا معنى ذلك وفهمنا ما أريد منا فهمه، بذلك الخطاب وفسرنا ذلك، وأما نفس الحقيقة المخبر عنها، مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله‏.‏

ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان، فبين أن الاستواء معلوم، وإن كيفية ذلك مجهول، ومثل هذا يوجد كثيرا في كلام السلف، والأئمة ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو، وقد قال النبي‏:‏ ‏(‏لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏)‏ وهذا في صحيح مسلم وغيره وقال في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك‏)‏ وهذا الحديث في المسند، وصحيح أبي حاتم، وقد أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره‏.‏ والله سبحانه أخبرنا أنه عليم قدير، سميع بصير، غفور رحيم، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته‏.‏

فنحن نفهم معنى ذلك ونميز بين العلم والقدرة، وبين الرحمة والسمع والبصر، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله، مع تنوع معانيها فهي متفقة متواطئة من حيث الذات، متباينة من جهة الصفات، وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب‏.‏ وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن والفرقان والهدى والنور والتنزيل والشفاء، وغير ذلك، ومثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها هل هي من قبيل المترادفة لا تحاد الذات، أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات‏؟‏ كما إذا قيل‏:‏ السيف والصارم والمهند، وقصد بالصارم، معنى الصرم، وفي المهند النسبة إلى الهند، والتحقيق أنها مترادفة في الذات، متباينة في الصفات، ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم، وبأنه متشابه، وفي موضع آخر، جعل منه ما هو محكم، ومنه ما هو متشابه، فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فصلتْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏ فأخبر أنه أحكم آياته كلها، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏ فأخبر أنه كله متشابه‏.‏

والحكم هو الفصل بين الشيئين فالحاكم يفصل بين الخصمين‏,‏ والحكم فصل بين المتشابهات، علمًا وعملًا، إذا ميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار، وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار، فيقال‏:‏ حكمت السفيه وأحكمته‏:‏ إذا أخذت على يديه، وحكمت الدابة وأحكمتها‏:‏ إذا جعلت لها حكمة، وهو ما أحاط بالحنك من اللجام، وإحكام الشيء إتقانه‏.‏

فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره، والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، فقد سماه الله حكيمًا بقوله‏:‏ ‏{‏الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فالحكيم بمعنى الحاكم، كما جعله يقص بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏76‏]‏، وجعله مفتيًا في قوله‏:‏ ‏{‏قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏‏.‏ أي‏:‏ ما يتلى عليكم يفتيكم فيهن، وجعله هاديًا ومبشرًا في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله‏:‏‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏ وهو الاختلاف المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 8، 9‏]‏‏.‏

فالتشابه هنا‏:‏ هو تماثل الكلام وتناسبه بحيث يصدق بعضه بعضا، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهي عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهي عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته، إذا لم يكن هناك نسخ‏.‏

وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك، بل يخبر بثبوته أو بثبوت ملزوماته، وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته، بل ينفيه أو ينفي لوازمه، بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضًا، فيثبت الشيء تارة وينفيه أخرى، أو يأمر به وينهي عنه في وقت واحد، ويفرق بين المتماثلين فيمدح أحدهما ويذم الآخر‏.‏

فالأقوال المختلفة هنا هي المتضادة، والمتشابهة هي المتوافقة‏.‏

وهذا التشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ، فإذا كانت المعاني يوافق بعضها بعضًا، ويعضد بعضها بعضًا، ويناسب بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض، ويقتضي بعضها بعضًا، كان الكلام متشابهًا، بخلاف الكلام المتناقض الذي يضاد بعضه بعضًا‏.‏

فهذا التشابه العام، لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدق له، فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضًا لا يناقض بعضه بعضًا، بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص، والتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله وليس كذلك‏.‏

والإحكام هو الفصل بينهما، بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر، وهذا التشابه إنما يكون بقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما‏.‏

ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما فيكون مشتبهًا عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا يتميز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس مثله، وإن كان مشبها له من بعض الوجوه‏.‏

ومن هذا الباب الشبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق والباطل، حتى تشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل، والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات؛ لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه‏.‏

فمن عرف الفصل بين الشيئين، اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد، وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه؛ فلهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه، والقياس الفاسد لا ينضبط كما قال الإمام أحمد‏:‏أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس‏.‏فالتأويل في الأدلة السمعية، والقياس في الأدلة العقلية، وهو كما قال، والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة، والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة‏.‏

وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الآمر إلى من يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود، فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، وأن يكون إياه أو متحدًا به، أو حالًا فيه، من الخالق مع المخلوق‏.‏

فمن اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات كلها، حتى ظنوا وجودها وجوده، فهم أعظم الناس ضلالا من جهة الاشتباه‏.‏

وذلك أن الموجودًات تشترك في مسمى الوجود، فرأوا الوجود واحدًا، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع‏.‏

وآخرون توهموا أنه إذا قيل‏:‏ الموجودًات تشترك في مسمى الوجود، لزم التشبيه والتركيب، فقالوا‏:‏ لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم، من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، ونحو ذلك من أقسام الموجودات‏.‏

وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودًات تشترك في مسمى الوجود، لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة، مثل وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق ونحو ذلك، فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتًا في الأعيان، وهذا كله من نوع الاشتباه‏.‏

ومن هداه الله فرق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينهما من الجمع والفرق، والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام؛ لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق‏.‏

وهذا كما أن لفظ ‏[‏إنا‏]‏ و ‏[‏نحن‏]‏ وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له‏.‏ فإذا تمسك النصراني بقوله ـ تعالى‏:‏‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ونحوه على تعدد الآلهة، كان المحكم كقوله ـ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 163‏]‏‏.‏ ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحدًا يزيل ما هناك من الاشتباه، وكان ما ذكره من صيغة الجمع مبينًا لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم‏.‏

وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات، وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله، فلا يعلمهم إلا هو‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، بخلاف الملك من البشر إذا قال‏:‏ قد أمرنا لك بعطاء، فقد علم أنه هو وأعوانه، مثل كاتبه وحاجبه وخادمه ونحو ذلك أمروا به، وقد يعلم ما صدرت عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته ونحو ذلك‏.‏

والله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة‏.‏

وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة، كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة، وإن زال الاشتباه بما يميز أحد النوعين‏:‏ من إضافة أو تعريف، كما إذا قيل‏:‏ فيها أنهار من ماء، فهناك قد خص هذا الماء بالجنة، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا‏.‏

لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا، وهو مع ما أعده الله لعباده الصالحين ـ مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشرـ من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله‏.‏

وكذلك مدلول أسمائه وصفاته الذي يختص بها، التي هي حقيقة لا يعلمها إلا هو؛ ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ـ ينكرون على الجهمية، وأمثالهم ـ من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال أحمد في كتابه الذي صنفه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله‏.‏

وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينف مطلق لفظ التأويل كما تقدم؛ من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله به، فذلك لا يعاب بل يحمد، ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها،فذاك لا يعلمه إلا هو‏.‏ وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع‏.‏

ومن لم يعرف هذا، اضطربت أقواله،مثل طائفة يقولون‏:‏ إن التأويل باطل، وإنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره، ويحتجون بقوله تعالى‏:‏‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل، وهذا تناقض منهم؛ لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلا لا يعلمه إلا الله، وهم ينفون التأويل مطلقًا‏.‏

وجهة الغلط‏:‏ أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو‏.‏

وأما التأويل المذموم والباطل، فهو تأويل أهل التحريف والبدع، الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك، ويدعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل، ويصرفونه إلى معان هي نظير المعاني التي نفوها عنه، فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه، فإن كان الثابت حقًا ممكنًا كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلا ممتنعًا كان الثابت مثله‏.‏

وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقًا، ويحتجون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏ قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يفهم منه شيء‏.‏

وهذا مع أنه باطل فهو متناقض؛ لأنا إذا لم نفهم منه شيئًا لم يجز لنا أن نقول‏:‏ له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه؛ لإمكان أن يكون له معنى صحيح، وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا، فإنه لا ظاهر له على قولهم، فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر، فلا يكون تأويلًا‏.‏

ولا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير‏.‏

فإن تلك المعاني التي دل عليها قد لا نكون عارفين بها؛ ولأنا إذا لم نفهم اللفظ ومدلوله فلئلا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ أولى؛ لأن إشعار اللفظ بما يراد به أقوى من إشعاره بما لا يراد به، فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنى من المعاني، ولا يفهم منه معنى أصلا، لم يكن مشعرًا بما أريد به، فلئلا يكون مشعرًا بما لم يرد به أولى‏.‏

فلا يجوز أن يقال‏:‏ إن هذا اللفظ متأول، بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فضلاً عن أن يقال‏:‏ إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله‏.‏ اللهم إلا أن يراد بالتأويل ما يخالف ظاهره المختص بالخلق‏.‏

فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا لابد وأن يكون له تأويل يخالف ظاهره‏.‏ لكن إذا قال هؤلاء‏:‏ إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر، أو إنها تجري على المعاني الظاهرة منها، كانوا متناقضين‏.‏

وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى، وهناك معنى، في سياق واحد من غير بيان، كان تلبيسًا‏.‏

وإن أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ، أي تجرى على مجرد اللفظ الذي يظهر من غير فهم لمعناه، كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضًا؛ لأن من أثبت تأويلًا أو نفاه، فقد فهم معنى من المعاني‏.‏

وبهذا التقسيم يتبين تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها في هذا الباب‏.‏

 القاعدة السادسة‏:‏

أنه لقائل أن يقول‏:‏ لابد في هذا الباب من ضابط، يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات، إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد، وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز‏.‏

فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له‏:‏ إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته‏.‏ وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له‏.‏

ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة، ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسرًا بمعنى من المعاني، ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا‏:‏ إنه مشبه، ومنازعهم يقول‏:‏ ذلك المعنى ليس من التشبيه‏.‏

وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل‏.‏

وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون‏:‏ كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل، فمن قال‏:‏ إن لله علما قديمًا أو قدرة قديمة، كان عندهم مشبهًا ممثلا؛ لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله، فمن أثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلا قديمًا، ويسمونه ممثلا بهذا الاعتبار‏.‏ ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون‏:‏ أخص وصفه ما لا يتصف به غيره مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك‏.‏

ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات‏:‏ إنها قديمة، بل يقول‏:‏ الرب بصفاته قديم‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ هو قديم وصفته قديمة، ولا يقول‏:‏ هو وصفاته قديمان‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ هو وصفاته قديمان، ولكن يقول‏:‏ ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه، فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة، بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم، فضلا عن أن تختص بالقدم‏.‏

وقد يقولون‏:‏ الذات متصفة بالقدم، والصفات متصفة بالقدم، وليست الصفات إلها ولا ربا، كما أن النبي محدث وصفاته محدثة، وليست صفاته نبيًا‏.‏

فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل، كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، ثم تقول لهم أولئك‏:‏ هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهًا، فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية‏.‏

والقرآن قد نفي مسمى المثل والكفء والنِّدّ ونحو ذلك‏.‏

ولكن يقولون‏:‏ الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف، ولا كفؤه ولا نده، فلا يدخل في النص‏.‏

وأما العقل، فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة‏.‏

وكذلك ـ أيضًا ـ يقولون‏:‏ إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز، والأجسام متماثلة، فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلًا لسائر الأجسام، وهذا هو التشبيه‏.‏

وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية، الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش، وقيام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك، ويقولون‏:‏ الصفات قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسمًا، فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسمًا، وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه‏.‏

فلهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه مشبهًا، ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبهًا، كما يقول صاحب الإرشاد وأمثاله‏.‏

وكذلك يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو، لكن هؤلاء يجعلون العلو صفة خبرية، كما هو أول قولى القاضي أبى يعلى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه‏.‏ وقد يقولون‏:‏ إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم كما يقولونه في سائر الصفات‏.‏

والعاقل إذا تأمل وجد الأمر فيما نفوه، كالأمر فيما أثبتوه، لا فرق‏.‏

وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات مستلزم للتجسيم، والأجسام متماثلة‏.‏

والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى، وتارة بمنع المقدمة الثانية، وتارة بمنع كل من المقدمتين، وتارة بالاستفصال‏.‏

ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل، سواء فسروا الجسم بما يشار إليه أو بالقائم بنفسه أو بالموجود، أو بالمركب من الهُيولي والصورة ونحو ذلك، فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة، وعلى أنها متماثلة، فهذا يبني على صحة ذلك، وعلى إثبات الجوهر الفرد، وعلى أنه متماثل، وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك‏.‏

والمقصود هنا أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيمًا بناء على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم، كإطلاق الرافضة النصب على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وبناء على أن من أحبهما فقد أبغض عليا رضي الله عنه ومن أبغضه فهو ناصبي‏.‏

وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى، ولهذا يقول هؤلاء‏:‏ إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه، وأكثر العقلاء على خلاف ذلك، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفي ذلك، وبينا فساد قول من يقول بتماثلها‏.‏

وأيضًا، فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل، وذلك أنه إذا أثبت تماثل الأجسام، فهم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم‏.‏

وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم، وثبت امتناع الجسم، كان هذا وحده كافيًا في نفي ذلك، لا يحتاج نفي ذلك‏.‏ إلى نفي مسمى التشبيه، لكن نفي التجسيم يكون مبنيًا على نفي هذا التشبيه بأن يقال‏:‏ لو ثبت له كذا وكذا لكان جسمًا، ثم يقال‏:‏ والأجسام متماثلة، فيجب اشتراكها فيما يجب ويجوز ويمتنع، وهذا ممتنع عليه‏.‏

لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمدًا في نفي التشبيه على نفي التجسيم، فيكون أصل نفيه نفي الجسم، وهذا مسلك آخر، سنتكلم عليه ـ إن شاء الله‏.‏

وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفي على مجرد نفي التشبيه لا يفيد؛ إذ ما من شيئين إلا يشتبهان من وجه ويفترقان من وجه، بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب ونحو ذلك، مما هو ـ سبحانه ـ مقدس عنه، فإن هذه طريقة صحيحة‏.‏

وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال ونفي مماثلة غيره له فيها، فإن هذا نفي المماثلة فيما هو مستحق له، وهذا حقيقة التوحيد، وهو ألا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه‏.‏ وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد؛ ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته بشيء من المخلوقات‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه، ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه‏.‏

قيل‏:‏ هب أن الأمر كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب ـ سبحانه، ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعًا، كما إذا قيل‏:‏ إنه موجود حي عليم سميع بصير، وقد سمى بعض المخلوقات حيًا سميعًا عليمًا بصيرًا‏.‏ فإذا قيل‏:‏ يلزم أنه يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجودًا حيًا عليما سميعًا بصيرًا‏.‏ قيل‏:‏ لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعًا على الرب ـ تعالى، فإن ذلك لا يقتضي حدوثًا ولا إمكانًا، ولا نقصًا ولا شيئًا مما ينافي صفات الربوبية‏.‏

وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود، أو الحياة أو الحي، أو العلم أو العليم، أو السمع أو البصر، أو السميع أو البصير، أو القدرة أو القدير، والقدر المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه‏.‏

فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال، كالوجود والحياة، والعلم والقدرة، ولم يكن في ذلك شيء مما يدل على خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق، لم يكن في إثبات هذا محذور أصلًا، بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فكل موجودين لابد بينهما من مثل هذا، ومن نفي هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود‏.‏

ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة، وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئًا، وربما قالت الجهمية‏:‏ هو شيء لا كالأشياء، فإذا نفي القدر المشترك مطلقًا لزم التعطيل العام‏.‏

والمعاني التي يوصف بها الرب ـ تعالى ـ كالحياة، والعلم والقدرة، بل الوجود والثبوت، والحقيقة ونحو ذلك تجب لوازمها، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا، بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود وحياة، وعلم ونحو ذلك‏.‏

والله ـ سبحانه ـ منزه عن خصائص المخلوقين وملزومات خصائصهم‏.‏

وهذا الموضع من فهمه فهمًا جيدًا وتدبره، زالت عنه عامة الشبهات، وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام‏.‏ وقد بسط هذا في مواضع كثيرة‏.‏ وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينًا مقيدًا، وأن معنى اشتراك الموجودًات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا؛ لأن الموجودًات في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله‏.‏

ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضًا في هذا المقام، فتارة يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل، فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرًا من ملزومات التشبيه، وتارة يتفطن أنه لابد من إثبات هذا على تقدير فيجيب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة‏.‏

ولكثرة الاشتباه في هذا المقام، وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته، أو زائد على ماهيته‏؟‏ وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو التواطؤ أو التشكيك‏؟‏ كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها، وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا‏؟‏ وفي وجود الموجودًات هل هو زائد على ماهيتها أم لا‏؟‏‏.‏

وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات؛ فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين، ويحكى عن الناس مقالات ما قالوها، وتارة يبقى في الشك والتحير‏.‏

وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات، وما وقع من الاشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة، ما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة‏.‏

وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج، بخلاف الماهية التي في الذهن، فإنها مغايرة للموجود في الخارج، وأن لفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة ونحو ذلك، فهذه الألفاظ كلها متواطئة‏.‏

فإذا قيل‏:‏ إنها مشككة لتفاضل معانيها، فالمشكك نوع من المتواطئ العام، الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك، سواء كان المعنى متفاضلًا في موارده أو متماثلاً‏.‏

وبينا أن المعدوم شيء ـ أيضًا ـ في العلم والذهن لا في الخارج، فلا فرق بين الثبوت والوجود، لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به‏.‏

وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودًات وتختلف، لها وجود في الأذهان، وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة وصفاتها القائمة بها المعينة، فتتشابه بذلك وتختلف به‏.‏

وأما هذه الجملة المختصرة، فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة، من فهمها علم قدر نفعها، وانفتح له باب الهدى، وإمكان إغلاق باب الضلال، ثم بسطها وشرحها له مقام آخر، إذ لكل مقام مقال‏.‏

والمقصود هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة، فيما ينفي عن الرب وينزه عنه ـ كما يفعله كثير من المصنفين ـ خطأ لمن تدبر ذلك، وهذا من طرق النفي الباطلة‏.‏