فصل: فصـــل في إبطال تأويل من تأول الاستواء بمعنى الاستيلاء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/  سئل شيخ الإسلام ـ قدس اللّه روحه ـ عن علو اللّه ـ تعالى ـ واستوائه على عرشه

فأجاب‏:‏

قد وصف اللّه ـ تعالى ـ نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش، والفوقية، في كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض أكابرأصحاب الشافعي‏:‏ في القرآن ألف دليل أو أزيد، تدل على أن اللّه ـ تعالى ـ عال على الخلق، وأنه فوق عباده‏.‏

وقال غيره‏:‏ فيه ثلاثمائة دليل تدل على ذلك؛ مثل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏206‏]‏،‏{‏وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏؛ فلو كان المراد بأن معنى عنده في قدرته ـ كما يقول الجهمي ـ لكان الخلق كلهم عنده؛ فإنهم كلهم في قدرته ومشيئته، ولم يكن فرق بين من في السموات ومن في الأرض ومن عنده‏.‏

كما أن الاستواء على العرش لو كان المراد به الاستيلاء عليه، لكان مستويا على جميع المخلوقات، ولكان مستويا على العرش قبل أن يخلقه دائمًا، والاستواء/ مختص بالعرش بعد خلق السموات والأرض، كما أخبر بذلك في كتابه، فدل على أنه تارة كان مستويا عليه، وتارة لم يكن مستويا عليه؛ ولهذا كان العلو من الصفات المعلومة بالسمع مع العقل والشرع عند الأئمة المثبتة، وأما الاستواء على العرش، فمن الصفات المعلومة بالسمع فقط دون العقل‏.‏

والمقصود أنه ـ تعالى ـ وصف نفسه بالمعية وبالقرب‏.‏ والمعية معيتان‏:‏ عامة، وخاصة‏.‏ فالأولى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏4‏]‏‏.‏ والثانية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 128‏]‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وأما القرب فهو كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنِّي قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏186‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏58‏]‏

وافترق الناس في هذا المقام أربع فرق‏:‏

فـ‏[‏الجهمية‏]‏ النفاة الذين يقولون‏:‏ لا هو داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، لا يقولون بعلوه ولا بفوقيته، بل الجميع عندهم متأول أو مفوض، وجميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص؛كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة وغيرهم، إلا الجهمية، فإنه ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه من النفي‏.‏

ولهذا قال ابن المبارك، ويوسف بن أسباط‏:‏ الجهمية خارجون عن/ الثلاث وسبعين فرقة، وهذا أعدل الوجهين لأصحاب أحمد، ذكرهما أبو عبد اللّه بن حامد وغيره‏.‏

وقسم ثان‏:‏ يقولون‏:‏ إنه بذاته في كل مكان، كما يقول ذلك النجارية، وكثير من الجهمية عبادهم، وصوفيتهم،وعوامهم‏.‏ ويقولون‏:‏ إنه عين وجود المخلوقات، كما يقوله ‏[‏أهل الوحدة‏]‏ القائلون بأن الوجود واحد، ومن يكون قوله مركبًا من الحلول والاتحاد‏.‏

وهم يحتجون بنصوص المعية والقرب، ويتأولون نصوص العلو والاستواء، وكل نص يحتجون به حجة عليهم؛ فإن المعية أكثرها خاصة بأنبيائه وأوليائه، وعندهم أنه في كل مكان، وفي نصوصهم ما يبين نقيض قولهم، فإنه قال‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏1‏]‏، فكل من في السموات والأرض يسبح، والمسبِّح غير المسبَّح، وقال‏:‏ ‏{‏لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 2‏]‏، فبين أن الملك له، ثم قال‏:‏ ‏{‏هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏3‏]‏‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏أنت الأول فليس قبلك شيء ‏)‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

فإذا كان هو الأول، كان هناك ما يكون بعده، وإذا كان آخرًا، كان هناك ما الرب بعده، وإذا كان ظاهرًا ليس فوقه شيء، كان هناك ما الرب ظاهر عليه، وإذا كان باطنًا ليس دونه شيء، كان هناك أشياء نفي عنها أن تكون دونه‏.‏

/  ولهذا قال ابن عربي‏:‏ من أسمائه الحسنى ‏[‏العلي‏]‏ على من يكون عليًا، وما ثم إلا هو‏؟‏‏!‏ وعماذا يكون عليا وما هو إلا هو‏؟‏‏!‏ فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات؛ فالمسمى محدثات هي العلية هي لذاتها، وليست إلا هو‏.‏

قال الخراز‏:‏ وهو وجه من وجوه الحق، ولسان من ألسنته، ينطق عن نفسه بأن اللّه يعرف بجمعه بين الأضداد، فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من تراه غيره، وما ثم من يبطن عنه سواه، فهو ظاهر لنفسه، وهو باطن عن نفسه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏

والمعية لا تدل على الممازجة والمخالطة، وكذلك لفظ ‏[‏القرب‏]‏، فإن عند الحلولية أنه في حبل الوريد، كما هو عندهم في سائر الأعيان، وكل هذا كفر وجهل بالقرآن‏.‏

الثالث‏:‏ قول من يقول‏:‏ هو فوق العرش، وهو في كل مكان، ويقول‏:‏ أنا أقر بهذه النصوص، وهذه لا أصرف واحدًا منها عن ظاهره، وهذا قول طوائف ذكرهم الأشعري في ‏[‏المقالات الإسلامية‏]‏، وهو موجود في كلام طائفة من السالمية والصوفية، ويشبه هذا ما في كلام أبي طالب المكي، وابن بَرَّجَان وغيرهما، مع ما في كلام أكثرهم من التناقض‏.‏

ولهذا كان أبوعلي الأهوازي ـ الذي صنف مثالب ابن أبي بشر، ورد على أبي القاسم بن عساكر ـ هو من السالمية‏.‏

/ وكذلك ذكر الخطيب البغدادي‏:‏ أن جماعة أنكروا على أبي طالب بعض كلامه في الصفات‏.‏

وهذا ـ الصنف الثالث ـ وإن كان أقرب إلى التمسك بالنصوص، وأبعد عن مخالفتها من الصنفين الأولين، فإن الأول لم يتبع شيئًا من النصوص، بل خالفها كلها‏.‏

والثاني‏:‏ ترك النصوص الكثيرة، المحكمة المبينة، وتعلق بنصوص قليلة اشتبهت عليه معانيها‏.‏

وأما هذا الصنف فيقول‏:‏ أنا اتبعت النصوص كلها، لكنه غالط أيضًا، فكل من قال‏:‏ إن اللّه بذاته في كل مكان فهو مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها، مع مخالفته لما فطر اللّه عليه عباده، ولصريح المعقول وللأدلة الكثيرة‏.‏

وهؤلاء يقولون أقوالًا متناقضة‏.‏ يقولون‏:‏ إنه فوق العرش‏.‏ ويقولون‏:‏ نصيب العرش منه كنصيب قلب العارف؛ كما يذكر مثل ذلك أبو طالب وغيره، ومعلوم أن قلب العارف نصيبه منه المعرفة والإيمان، وما يتبع ذلك‏.‏ فإن قالوا‏:‏ إن العرش كذلك نقضوا قولهم‏:‏ إنه نفسه فوق العرش‏.‏ وإن قالوا بحلوله بذاته في قلوب العارفين، كان ذلك قولا بالحلول الخاص‏.‏

/وقد وقع طائفة من الصوفية ـ حتى صاحب ‏[‏منازل السائرين‏]‏ في توحيده المذكور في آخر المنازل ـ في مثل هذا الحلول؛ ولهذا كان أئمة القوم يحذرون عن مثل هذا‏.‏

سئل الجنيد عن التوحيد‏.‏ فقال‏:‏ هو إفراد الحدوث عن القِدَم‏.‏ فبين أنه لابد للموحد من التمييز بين القديم الخالق والمحدَث المخلوق، فلا يخلط أحدهما بالآخر‏.‏ وهؤلاء يقولون في أهل المعرفة ما قالته النصارى في المسيح، والشيعة في أئمتها، وكثير من الحلولية والإباحية ينكر على الجنيد وأمثاله ـ من شيوخ أهل المعرفة المتبعين للكتاب والسنة ـ ما قالوه من نفي الحلول، وما قالوه في إثبات الأمر والنهي، ويرى أنهم لم يكملوا معرفة الحقيقة كما كملها هو وأمثاله من الحلولية والإباحية‏.‏

الرابع‏:‏ هم سلف الأمة وأئمتها، أئمة أهل العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة، من غير تحريف للكلم عن مواضعه، أثبتوا أن اللّه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، وهم بائنون منه‏.‏

وهو ـ أيضًا ـ مع العباد عمومًا بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو ـ أيضًا ـ قريب مجيب، ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم أنت الصاحب في السفر، / والخليفة في الأهل‏)‏ فهو مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه، ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم، كما قال‏:‏ ‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏29‏]‏ أي‏:‏ على الإيمان، لا أن ذاته في ذاتهم، بل هم مصاحبون له‏.‏

وقَوله‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏146‏]‏ يدل على موافقتهم في الإيمان وموالاتهم، فاللّه ـ تعالى ـ عالم بعباده، وهو معهم أينما كانوا وعلمه بهم من لوازم المعية؛ كما قالت المرأة‏:‏ زوجي طويل النَّجَاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد‏!‏‏!‏ فهذا كله حقيقة، ومقصودها‏:‏ أن تعرف لوازم ذلك، وهو طول القامة، والكرم بكثرة الطعام؛ وقرب البيت من موضع الأضياف‏.‏

وفي القرآن‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏80‏]‏، فإنه يراد برؤيته وسمعه إثبات علمه بذلك، وأنه يعلم هل ذلك خير أو شر‏؟‏ فيثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات‏.‏ وكذلك إثبات القدرة على الخلق؛ كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏22‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏4‏]‏، والمراد التخويف بتوابع السيئات ولوازمها من العقوبة والانتقام‏.‏

وهكذا كثير مما يصف الرب نفسه بالعلم بأعمال العباد؛ تحذيرًا وتخويفًا ورغبة للنفوس في الخير‏.‏ ويصف نفسه بالقدرة، والسمع، والرؤية، والكتاب‏.‏ فمدلول اللفظ مراد منه، وقد أريد ـ أيضًا ـ لازم ذلك المعنى‏.‏ فقد أريد ما يدل /عليه اللفظ في أصل اللغة بالمطابقة والالتزام؛ فليس اللفظ مستعملًا في اللازم فقط بل أريد به مدلوله الملزوم، وذلك حقيقة‏.‏

وأما القرب فذكره تارة بصيغة المفرد، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏186‏]‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ارْبَعُوا على أنفسكم‏)‏ إلى أن قال‏:‏ ‏(‏إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته‏)‏‏.‏

وتارة بصيغة الجمع كقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏16‏]‏، وهذا مثل قوله‏:‏ ‏{‏نَتْلُوا عَلَيْكَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏3‏]‏، و‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏3‏]‏، و‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏17‏]‏، و‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏19‏]‏، فالقراءة هنا حين يسمعه من جبريل، والبيان هنا بيانه لمن يبلغه القرآن‏.‏

ومذهب سلف الأمة وأئمتها وخلفها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع القرآن من جبريل، وجبريل سمعه من اللّه ـ عز وجل‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏نَتْلُوا‏}‏، و‏{‏نَقُصُّ‏}‏ ونحوه، فهذه الصيغة في كلام العرب للواحد العظيم، الذي له أعوان يطيعونه، فإذا فعل أعوانه فعلًا بأمره قال‏:‏ نحن فعلنا‏.‏ كما يقول الملك‏:‏ نحن فتحنا هذا البلد‏.‏ وهو منا هذا الجيش ونحو ذلك‏.‏

ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفى الْأَنفُسَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏42‏]‏، فإنه سبحانه يتوفاها برسله الذين مقدمهم ملك الموت، كما قال‏:‏ ‏{‏تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 61‏]‏، ‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏، وكذلك ذوات الملائكة تقرب من المحتضر، وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏16‏]‏‏.‏

/فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ هو وملائكته يعلمون ما توسوس به نفس العبد، من حسنة وسيئة، والهم في النفس قبل العمل‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏16‏]‏ هو قرب ذوات الملائكة، وقرب علم اللّه؛ فذاتهم أقرب إلى قلب العبد من حبل الوريد؛ فيجوز أن يكون بعضهم أقرب إلى بعضه من بعض؛ ولهذا قال في تمام الآية‏:‏ ‏{‏إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏17‏]‏، فقوله‏:‏ ‏[‏إذ‏]‏ ظرف‏.‏ فأخبر أنهم أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان ما يقول‏.‏ فهذا كله خبر عن الملائكة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنِّي قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏186‏]‏، و‏(‏هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته‏)‏، هذا إنما جاء في الدعاء، لم يذكر أنه قريب من العباد في كل حال، وإنما ذكر ذلك في بعض الأحوال، كما في الحديث‏:‏ ‏(‏أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد‏)‏ ونحو ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة‏)‏، فقرب الشيء من الشيء مستلزم لقرب الآخر منه، لكن قد يكون قرب الثاني هو اللازم من قرب الأول، ويكون منه ـ أيضًا ـ قرب بنفسه‏.‏

فالأول‏:‏ كمن تقرب إلى مكة، أو حائط الكعبة، فكلما قرب منه قرب الآخر منه، من غير أن يكون منه فعل‏.‏

/والثاني‏:‏ كقرب الإنسان إلى من يتقرب هو إليه، كما تقدم في هذا الأثر الإلهي‏.‏ فتقرب العبد إلى اللّه، وتقريبه له نطقت به نصوص متعددة، مثل قوله‏:‏ ‏{‏أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏57‏]‏ ونحو ذلك، فهذا قرب الرب نفسه إلى عبيده، وهو مثل نزوله إلى سماء الدنيا‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏أن اللَّه ـ تعالى ـ يدنو عَشِيَّة عَرَفَة، ويباهي الملائكة بأهل عرفة‏)‏، فهذا القرب كله خاص في بعض الأحوال دون بعض، وليس في الكتاب والسنة ـ قط ـ قرب ذاته من جميع المخلوقات في كل حال، فعلم بذلك بطلان قول الحلولية؛ فإنهم عمدوا إلى الخاص المقيد فجعلوه عامًا مطلقًا، كما جعل إخوانهم الاتحادية ذلك في مثل قوله‏:‏ ‏(‏كنت سمعه‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏فيأتيهم في صورة غير صورته‏)‏، وأن اللَّهَ ـ تعالى ـ قال على لسان نبيه‏:‏ ‏(‏سمع اللّه لمن حمده‏)‏، وكل هذه النصوص حجة عليهم‏.‏

فإذا تبين ذلك؛ فالداعي والساجد يوجه روحه إلى اللّه ـ تعالى ـ والروح لها عروج يناسبها‏.‏ فتقرب إلى اللّه بلا ريب بحسب تخلصها من الشوائب، فيكون اللّه ـ عز وجل ـ منها قريبًا قربًا يلزم من تقربها، ويكون منه قرب آخر، كقربه عشية عرفة، وفي جوف الليل، وإلى من تقرب منه شبرًا تقرب منه ذراعًا‏.‏ والناس في آخر الليل يكون في قلوبهم من التوجه، والتقرب، والرقة، مالا يوجد في غير/ ذلك الوقت‏.‏ وهذا مناسب لنزوله إلى سماء الدنيا، وقوله‏:‏ ‏(‏هل من داع‏؟‏ هل من سائل‏؟‏ هل من تائب‏؟‏‏)‏‏.‏

ثم إن هذا النزول‏:‏ هل هو كدنوه عشية عرفة، لا يحصل لغير الحاج في سائر البلاد ـ إذ ليس بها وقوف مشروع، ولا مباهاة الملائكة، وكما أن تفتيح أبواب الجنة، وتغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين إذا دخل شهر رمضان، إنما هو للمسلمين الذين يصومون رمضان؛ لا الكفار الذين لا يرون له حرمة، وكذلك اطلاعه يوم بدر، وقوله لهم‏:‏ ‏(‏اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْْ‏)‏ كان مختصًا بأولئك ـ أم هو عام‏؟‏ فيه كلام ليس هذا موضعه‏.‏ والكلام في هذا القرب من جنس الكلام في نزوله كل ليلة، ودنوه عشية عرفة، وتكليمه لموسى من الشجرة،وقوله‏:‏ ‏{‏أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏8‏]‏‏.‏

وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما قاله السلف في مثل ذلك؛ مثل حماد بن زيد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهما، من أنه ينزل إلى سماء الدنيا ولا يخلو منه العرش، وبينا أن هذا هو الصواب، وإن كان طائفة ممن يدعى السنة يظن خلو العرش منه‏.‏

وقد صنف أبوالقاسم عبد الرحمن بن مندة في ذلك مصنفًا، وزيف قول من قال‏:‏ ينزل ولا يخلو منه العرش، وضعف ما قيل في ذلك عن أحمد بن حنبل / في رسالته إلى مُسَدَّد، وطعن في هذه الرسالة‏.‏ وقال‏:‏ إنها مكذوبة على أحمد وتكلم على راويها البردعي أحمد بن محمد‏.‏ وقال‏:‏ إنه مجهول لا يعرف في أصحاب أحمد‏.‏

وطائفة تقف، لا تقول‏:‏ يخلو، ولا‏:‏ لا يخلو، وتنكر على من يقول ذلك‏.‏ منهم‏:‏ الحافظ عبد الغني المقدسي‏.‏

وأما من يتوهم أن السموات تنفرج ثم تلتحم، فهذا من أعظم الجهل، وإن وقع فيه طائفة من الرجال‏.‏

والصواب‏:‏ قول السلف؛ أنه ينزل ولا يخلو منه العرش‏؟‏ وروح العبد في بدنه لا تزال ليلًا ونهارًا إلى أن يموت، ووقت النوم تعرج، وقد تسجد تحت العرش، وهي لم تفارق جسده‏.‏ وكذلك أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، وروحه في بدنه، وأحكام الأرواح مخالف لأحكام الأبدان، فكيف بالملائكة‏؟‏‏!‏ فكيف برب العالمين‏؟‏‏!‏

والليل يختلف، فيكون ثلث الليل بالمشرق قبل ثلثه بالمغرب، ونزوله الذي أخبر به رسوله إلى سماء هؤلاء في ثلث ليلهم،وإلى سماء هؤلاء في ثلث ليلهم،لا يشغله شأن عن شأن، وكذلك ـ سبحانه ـ لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، بل هو سبحانه يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم، لا يشغله هذا عن هذا‏.‏

/وقد قيل لابن عباس‏:‏ كيف يكلمهم يوم القيامة كلهم في ساعة واحدة‏؟‏ قال‏:‏ كما يرزقهم كلهم في ساعة واحدة‏.‏ واللّه ـ سبحانه ـ في الدنيا يسمع دعاء الداعين، ويجيب السائلين، مع اختلاف اللغات، وفنون الحاجات، والواحد منا قد يكون له قوة سمع يسمع كلام عدد كثير من المتكلمين، كما أن بعض المقرئين يسمع قراءة عدة، لكن لا يكون إلا عددًا قليلًا قريبًا منه، ويجد في نفسه قربًا ودنوًا، وميلًا إلى بعض الناس الحاضرين والغائبين دون بعض، ويجد تفاوت ذلك الدنو والقرب‏.‏

والرب ـ تعالى ـ واسع عليم، وسع سمعه الأصوات كلها، وعطاؤه الحاجات كلها‏.‏

ومن الناس من غلط فظن أن قربه من جنس حركة بدن الإنسان، إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى، وهو يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه؛ فيجد نفسه تقرب من نفوس كثيرين من الناس، من غير أن ينصرف قربها إلى هذا عن قربها إلى هذا‏.‏

وبالجملة فقرب الرب من قلوب المؤمنين، وقرب قلوبهم منه، أمر معروف لا يجهل؛ فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة، والذكر والخشية والتوكل‏.‏ وهذا متفق عليه بين الناس كلهم، بخلاف القرب / الذي قبله؛ فإن هذا ينكره الجهمي، الذي يقول‏:‏ ليس فوق السموات رب يعبد، ولا إله يصلى له ويسجد، وهذا كفر وفَنَدٌ ‏[‏الفَنَد‏:‏ الخَرَف والخطأ في الرأي والقول، والكذب‏]‏‏.‏

والأول ينكره الكلابية، ومن يقول‏:‏ لا تقوم الأمور الاختيارية به، ومن أتباع الأشعري من أصحاب أحمد وغيره، من يجعل الرضا والغضب والفرح والمحبة هي الإرادة، وتارة يجعلونها صفات أخر قديمة غير الإرادة‏.‏

ثم قال بعد كلام طويل‏:‏ هذا يبين أن كل من أقر باللّه فعنده من الإيمان بحسب ذلك، ثم من لم تقم عليه الحجة بما جاءت به الأخبار، لم يكفر بجحده‏.‏ وهذا يبين أن عامة أهل الصلاة مؤمنون باللّه ورسوله، وإن اختلفت اعتقاداتهم في معبودهم وصفاته، إلا من كان منافقًا يظهر الإيمان بلسانه، ويبطن الكفر بالرسول، فهذا ليس بمؤمن‏.‏

وكل من أظهر الإسلام ولم يكن منافقا فهو مؤمن، له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك، وهو ممن يخرج من النار، ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان،ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر، على اختلاف عقائدهم،ولو كان لا يدخل الجنة إلا من يعرف اللّه كما يعرفه نبيه صلى الله عليه وسلم، لم تدخل أمته الجنة؛ فإنهم ـ أو أكثرهم ـ لا يستطيعون هذه المعرفة، بل يدخلون الجنة، وتكون منازلهم متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم‏.‏

/وإذا كان الرجل قد حصل له إيمان يعبد اللّه به، وأتى آخر بأكثر من ذلك عجز عنه الأول، لم يحمل ما لا يطيق، وإن يحصل له بذلك فتنة، لم يحدث بحديث يكون له فيه فتنة‏.‏

فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم، والخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها؛ كالقرآن والحديث المشهور، وهم مختلفون في معنى ذلك‏.‏ واللّه ـ تعالى ـ أعلم‏.‏

/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه اللّه أيضًا ـ عن علو اللّه على سائر مخلوقاته‏.‏

فأجاب‏:‏

أما علو اللّه ـ تعالى ـ على سائر مخلوقاته، وأنه كامل الأسماء الحسنى والصفات العلى، فالذي يدل عليه منها الكتاب‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏55‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏16، 17‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏158‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ في ستة مواضع؛ وقوله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، وقوله إخبارًا عن فرعون‏:‏ ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏36 ،37‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏42‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏

/والذي يدل عليه من السنة‏:‏ قصة معراج الرسول إلى ربه، ونزول الملائكة من عند اللّه وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون في الليل والنهار‏:‏ ‏(‏فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم‏)‏‏.‏ وفي حديث الخوارج‏:‏ ‏(‏ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء‏؟‏‏)‏، وفي حديث الرقية‏:‏ ‏(‏ربنا اللّه الذي في السماء، تقدس اسمك‏)‏، وفي حديث الأوعال‏:‏ ‏(‏والعرش فوق ذلك، واللّه فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه‏)‏، وفي حديث قبض الروح‏:‏ ‏(‏حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها اللّه‏)‏‏.‏

وفي سنن أبي داود‏:‏ عن جبير بن مطعم قال‏:‏ أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعرابيّ فقال‏:‏ يا رسول اللّه، جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع اللّه لنا، فإنا نستشفع بك على اللّه، ونستشفع باللّه عليك، فسبح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال‏:‏ ‏(‏ويحك‏!‏ أتدري ما اللّه‏؟‏ إن اللّه لا يُستشفع به على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك، إن اللّه على عرشه، وإن عرشه على سمواته وأرضه كهكذا‏)‏ وقال بأصابعه مثل القبة‏.‏

وفي الصحيح عن جابر بن عبد اللّه؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبة عظيمة يوم عرفات في أعظم جمع حضره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جعل يقول‏:‏ ‏(‏ألا هل بلغت‏؟‏‏)‏ فيقولون‏:‏ نعم‏.‏ فيرفع إصبعه إلى السماء/ وينكبها إليهم ويقول‏:‏ ‏(‏اللّهم اشهد‏)‏ غير مرة‏.‏ وحديث الجارية لما سألها‏:‏ ‏(‏أين اللّه‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ في السماء‏.‏ فأمر بعتقها ‏)‏، وعلل ذلك بإيمانها‏.‏ وأمثاله كثيرة‏.‏

وأما الذي يدل عليه من الإجماع‏:‏ ففي الصحيح عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول‏:‏ زوجكن أهاليكن وزوجني اللّه من فوق سبع سمواته‏.‏

وروى عبد اللّه بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك، أنه قيل له‏:‏ بم نعرف ربنا‏؟‏ قال‏:‏ بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية‏:‏ إنه هاهنا في الأرض‏.‏

وبإسناد صحيح عن سليمان بن حرب ـ الإمام ـ سمعت حماد بن زيد ـ وذكر الجهمية ـ فقال‏:‏ إنما يحاولون أن يقولوا‏:‏ ليس في السماء شيء‏.‏

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن عامر الضبعي ـ إمام أهل البصرة علمًا ودينًا ـ أنه ذكر عنده الجهمية فقال‏:‏ هم أشرُّ قولًا من اليهود والنصارى، وقد اجتمع أهل الأديان مع المسلمين على أن اللّه ـ تعالى ـ على العرش، وقالوا هم‏:‏ ليس على العرش شيء‏.‏

وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة ـ إمام الأئمة ـ من لم يقل‏:‏ إن اللّه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقى على مزبلة، لئلا يتأذى به أهل القبلة ولا أهل الذمة‏.‏

/وروى الإمام أحمد قال‏:‏ إن شريح بن النعمان قال‏:‏ سمعت عبد اللّه بن نافع الصائغ قال‏:‏ سمعت مالك بن أنس يقول‏:‏ اللّه في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان‏.‏

وحكى الأوزاعي ـ أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين الذين هم مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل البصرة، والثوري إمام أهل العراق ـ حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن اللّه ـ تعالى ـ فوق العرش وبصفاته السمعية، وإنما قاله بعد ظهور جَهْم، المنكر لكون اللّه فوق عرشه النافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف خلافه‏.‏

وروى الخلال بأسانيد ـ كلهم أئمة ـ عن سفيان بن عيينة قال‏:‏ سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏‏:‏ كيف استوى‏؟‏ قال‏:‏ الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن اللّه الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التصديق‏.‏

وهذا مروي عن مالك بن أنس ـ تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن ـ أو نحوه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ خلافة أبي بكر حق، قضاه اللّه ـ تعالى ـ في سمائه، وجمع عليه قلوب عباده‏.‏

ولو يجمع ما قاله الشافعي في هذا الباب لكان فيه كفاية، ومن أصحاب الشافعي عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي، له كتاب‏:‏ ‏[‏الرد على الجهمية‏]‏ وقرر فيه/‏[‏مسألة العلو‏]‏ وأن اللّه ـ تعالى ـ فوق عرشه‏.‏ والأئمة في الحديث والفقه والسنة والتصوف المائلون إلى الشافعي ما من أحد منهم إلا له كلام فيما يتعلق بهذا الباب ما هو معروف، يطول ذكره‏.‏

وفي كتاب ‏[‏الفقه الأكبر‏]‏ المشهور عن أبي حنيفة، يروونه بأسانيد عن أبي مطيع الحكم بن عبد اللّه، قال‏:‏ سألت أبا حنيفة عن ‏[‏الفقه الأكبر‏]‏ فقال‏:‏ لا تكفرن أحدًا بذنب‏.‏ إلى أن قال ـ عمن قال‏:‏ لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ـ فقد كفر؛ لأن اللّه يقول‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، وعرشه فوق سبع سموات‏.‏ قلت‏:‏ فإن قال‏:‏ إنه على العرش، ولكن لا أدري، العرش في السماء أم في الأرض‏.‏ قال‏:‏ هو كافر ـ وإنه يدعى من أعلى لا من أسفل‏.‏

وسئل عليُّ بن المديني عن قوله‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏‏.‏ ‏[‏المجادلة‏:‏7‏]‏ الآية قال‏:‏ اقرأ ما قبله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ الآية ‏[‏المجادلة‏:‏7‏]‏‏.‏

وروى عن أبي عيسى الترمذي قال‏:‏ هو على العرش كما وصف في كتابه، وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان‏.‏

وأبو يوسف لما بلغه عن المريسي أنه ينكر الصفات الخبرية، وأن اللّه فوق عرشه، أراد ضربه فهرب، فضرب رفيقه ضربًا بشعًا‏.‏ وعن أصحاب أبي حنيفة في هذا الباب ما لا يحصى‏.‏

/ونقل ـ أيضًا ـ عن مالك‏:‏ أنه نص على استتابة الدعاة إلى ‏[‏مذهب جهم‏]‏، ونهى عن الصلاة خلفهم‏.‏

ومن أصحابه محمد بن عبد اللّه بن أبي زمنين ـ الإمام المشهور ـ قال‏:‏ في الكتاب الذي صنفه في ‏[‏أصول السنة‏]‏‏:‏

باب الإيمان بالعرش

قال‏:‏ ومن قول أهل السنة‏:‏ أن اللّه خلق العرش وخصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، إلى أن قال‏:‏ فسبحان من بَعُدَ فلا يُرى، وقَرُبَ بعلمه وقدرته‏.‏

وأما أحمد بن حنبل وأصحابه فهم أشهر في هذا الباب، وبه ائتم أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم ـ صاحب الطريقة المنسوبة إليه ـ قال‏:‏

فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة

فإن قال قائل‏:‏ قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي تقولون، وديانتكم التي بها تدينون‏.‏ قيل له‏:‏ قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين اللّه‏:‏ التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا محمد، وما روى عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث‏.‏ ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل ـ نضر اللّه وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام /الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان اللّه به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقَمَع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة اللّه عليه من إمام مُقَدَّم، وجليل معظم، وكبير مفهم‏.‏

وجملة قولنا‏:‏ بأنا نقر باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبما جاؤوا به من عند اللّه وبما رواه الثقات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئًا، وأن اللّه واحد لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث من في القبور، وأن اللّه مستو على عرشه كما قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، ونعود فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين‏.‏ إلى أن قال‏:‏

باب ذكر الاستواء على العرش إلى أن قال‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فما تقولون في الاستواء‏؟‏ قيل له‏:‏ إن اللّه مستو على عرشه كما قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏‏.‏

/ فصـــل

وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية‏:‏ إن معنى قوله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏‏:‏ أنه استولى وملك وقهر، وأنه في كل مكان‏.‏ وجحدوا أن يكون على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا بالاستواء إلى القدرة، فلو كان هذا كما ذكروا، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن اللّه قادر على كل شيء‏.‏

إلى أن قال ـ وأكثر في هذا ـ‏:‏ وقد اتفق الأئمة جميعهم من المشرق والمغرب على الإيمان بالقرآن، والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صفة الرب ـ عز وجل ـ من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه‏.‏ فمن فسر اليوم شيئًا من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أقروا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ فإنه وصفه بصفة لا شيء‏.‏

/ فصـــل

والمبطل لتأويل من تأول استوى بمعنى‏:‏ استولى، وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن هذا التفسير لم يفسره أحد من السلف من سائر المسلمين من الصحابة والتابعين، فإنه لم يفسره أحد في الكتب الصحيحة عنهم، بل أول من قال ذلك بعض الجهمية والمعتزلة؛ كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتاب ‏[‏المقالات‏]‏ وكتاب ‏[‏الإبانة‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن معنى هذه الكلمة مشهور؛ ولهذا لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك ابن أنس عن قوله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏ قالا‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏.‏ ولا يريد أن‏:‏ الاستواء معلوم في اللغة دون الآية ـ لأن السؤال عن الاستواء في الآية كما يستوى الناس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه إذا كان معلومًا في اللغة التي نزل بها القرآن كان معلومًا في القرآن‏.‏

/ الرابع‏:‏ أنه لو لم يكن معنى الاستواء في الآية معلومًا لم يحتج أن يقول‏:‏ الكيف مجهول؛ لأن نفي العلم بالكيف لا ينفي إلا ما قد علم أصله، كما نقول‏:‏ إنا نقر باللّه، ونؤمن به، ولا نعلم كيف هو‏.‏

الخامس‏:‏ الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك، هو عام في المخلوقات كالربوبية، والعرش وإن كان أعظم المخلوقات ونسبة الربوبية إليه لا تنفي نسبتها إلى غيره، كما في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏86‏]‏، وكما في دعاء الكرب؛ فلو كان استوى بمعنى استولى ـ كما هو عام في الموجودات كلها ـ لجاز مع إضافته إلى العرش أن يقال‏:‏ استوى على السماء، وعلى الهواء، والبحار، والأرض، وعليها ودونها ونحوها؛إذ هو مستو على العرش‏.‏ فلما اتفق المسلمون على أنه يقال‏:‏ استوى على العرش ولا يقال‏:‏ استوى على هذه الأشياء، مع أنه يقال‏:‏ استولى على العرش والأشياء ـ علم أن معنى ‏[‏استوى‏]‏ خاص بالعرش، ليس عامًا كعموم الأشياء‏.‏

السادس‏:‏ أنه أخبر بخلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأخبر أن عرشه كان على الماء قبل خلقها، وثبت ذلك في صحيح البخاري عن عمران ابن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كان اللّه ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض‏)‏، مع أن العرش كان مخلوقًا قبل ذلك، فمعلوم أنه ما زال مستوليا عليه / قبل وبعد، فامتنع أن يكون الاستيلاء العام هذا الاستيلاء الخاص بزمان كما كان مختصًا بالعرش‏.‏

السابع‏:‏ أنه لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى‏:‏ استولى؛ إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور‏.‏

ثم استوى بشر على العراق ** من غير سيف ولا دم مهراق

ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا‏:‏ إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة، وقد علم أنه لو احتج بحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته، فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده‏؟‏‏!‏ وقد طعن فيه أئمة اللغة، وذكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه ‏[‏الإفصاح‏]‏ قال‏:‏ سئل الخليل‏:‏ هل وجدت في اللغة استوى بمعنى‏:‏ استولى‏؟‏ فقال‏:‏ هذا ما لا تعرفه العرب، ولا هو جائز في لغتها ـ وهو إمام في اللغة على ما عرف من حاله ـ فحينئذ حمله على ما لا يعرف حمل باطل‏.‏

الثامن‏:‏ أنه روى عن جماعة من أهل اللغة أنهم قالوا‏:‏ لا يجوز استوى بمعنى‏:‏ استولى، إلا في حق من كان عاجزًا ثم ظهر، واللّه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء، والعرش لا يغالبه في حال، فامتنع أن يكون بمعنى‏:‏ استولى‏.‏ فإذا تبين هذا فقول الشاعر‏:‏

ثم استوى بشر على العراق **

/لفظ ‏[‏مجازي‏]‏ لا يجوز حمل الكلام عليه إلا مع قرينة تدل على إرادته، واللفظ المشترك بطريق الأولى، ومعلوم أنه ليس في الخطاب قرينة أنه أراد بالآية الاستيلاء‏.‏

وأيضًا، فأهل اللغة قالوا‏:‏ لا يكون استوى بمعنى‏:‏ استولى، إلا فيما كان منازعا مغالبًا، فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل‏:‏ استولى، واللّه لم ينازعه أحد في العرش، فلو ثبت استعماله في هذا المعنى الأخص مع النزاع في إرادة المعنى الأعم، لم يجب حمله عليه بمجرد قول بعض أهل اللغة مع تنازعهم فيه، وهؤلاء ادعوا أنه بمعنى‏:‏ استولى في اللغة مطلقًا، والاستواء في القرآن في غير موضع، مثل قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 28‏]‏، ‏{‏وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏44‏]‏، ‏{‏لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏13‏]‏، وفي حديث عدي‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتى بدابته فلما وضع رجله في الغَرْزِ قال‏:‏ ‏(‏بسم الله‏)‏‏.‏ فلما استوى على ظهرها قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله‏)‏ ‏[‏والغَرْز‏:‏ ركاب كور الجمل إذا كان من جِلْد أو خشب‏.‏ والمراد بوضع الرجل في الغرز‏:‏ السفر‏]‏‏.‏

التاسع‏:‏ أنه لو ثبت أنه من اللغة العربية لم يجب أن يكون من لغة العرب العرباء، ولو كان من لفظ بعض العرب العرباء، لم يجب أن يكون من لغة رسـول صلى الله عليه وسلم وقولـه، ولـو كان من لغته لكان بالمعنى المعروف في الكتاب والسنة وهو الذي يراد به، ولا يجوز أن يراد معنى آخر‏.‏

العاشر‏: ‏أنه لو حمل على هذا المعنى لأدى إلى محذور يجب تنزيه بعض الأئمة/ عنه، فضلا عن الصحابة، فضلًا عن الله ورسوله‏.‏ فلو كان الكلام في الكتاب والسنة كلامًا نفهم منه معنى، ويريدون به آخر، لكان في ذلك تدليس وتلبيس، ومعاذ الله أن يكون ذلك‏!‏ فيجب أن يكون استعمال هذا الشاعر في هذا اللفظ في هذا المعنى ليس حقيقة بالاتفاق؛ بل حقيقة في غيره، ولوكان حقيقة فيه للزم الاشتراك المجازي فيه، وإذا كان مجازًا عن بعض العرب أو مجازًا اخترعه من بعده، أفتترك اللغة التي يخاطب بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمته‏؟‏‏!‏

الحادي عشر‏:‏ أن هذا اللفظ ـ الذي تكرر في الكتاب والسنة والدواعي متوفرة على فهم معناه من الخاصة والعامة عادة ودينًا ـ إن جعل الطريق إلى فهمه ببيت شعر أحدث فيؤدي إلى محذور، فلو حمل على معنى هذا البيت للزم تخطئة الأئمة الذين لهم مصنفات في الرد على من تأول ذلك، ولكان يؤدي إلى الكذب على اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة، وللزم أن اللّه امتحن عباده بفهم هذا دون هذا، مع ما تقرر في نفوسهم وما ورد به نص الكتاب والسنة، واللّه ـ سبحانه ـ لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهذا مستحيل على اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة ‏.‏

الثانى عشر‏:‏ أن معنى الاستواء معلوم علمًا ظاهرًا بين الصحابة والتابعين وتابعيهم، فيكون التفسير المحدث بعده باطلا قطعًا، وهذا قول يزيد بن هارون الواسطي؛ فإنه قال‏:‏ إن من قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ / خلاف ما تقرر في نفوس العامة فهو جهمى‏.‏ ومنه قول مالك‏:‏ الاستواء معلوم، وليس المراد أن هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قال بعض الناس‏:‏ استوى أم لا ‏؟‏ أو أنه سئل عن الكيفية ومالك جعلها معلومة‏.‏ والسؤال عن النزول ولفظ الاستواء ليس بدعة ولا الكلام فيه، فقد تكلم فيه الصحابة والتابعون، وإنما البدعة السؤال عن الكيفية‏.‏

ومن أراد أن يزداد في هذه القاعدة نورًا، فلينظر في شيء من الهيئة، وهي الإحاطة والكُرِّيّة، ولابد من ذكر الإحاطة ليعلم ذلك‏.‏