فصل: فصــل:فإذا عرف الاتحاد المعين مما يشبه الحلول أو الاتحاد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصــل‏:‏

وقد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلول أو الاتحاد، فإن الاتحاد فيه حق وباطل، لكن لما ورد عليه ما غيب عقله أو أفناه عما سوى محبوبه، ولم يكن ذلك بذنب منه، كان معذورًا غير معاقب عليه ما دام غير عاقل، فإن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وإن كان مخطئا في ذلك كان داخلا في قوله‏:‏‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ عليكم جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏5‏]‏‏.‏

وهذا كما يحكى أن رجلين كان أحدهما يحب الآخر فوقع المحبوب في اليم، فألقى الآخر نفسه خلفه‏.‏ فقال‏:‏ أنا وقعت، فما الذي أوقعك‏؟‏ فقال‏:‏ غبت بك عني، فظننت أنك أنِّي‏.‏

فهذه الحال تعتري كثيرا من أهل المحبة والإرادة في جانب الحق، وفي غير جانبه، وإن كان فيها نقص وخطأ فإنه يغيب بمحبوبه عن حبه وعن نفسه، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن عرفانه، وبمشهوده عن شهوده، وبموجوده عن وجوده، فلا يشعر حينئذ بالتمييز ولا بوجوده، فقد يقول في هذه الحال‏:‏ أنا الحق أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله ونحو ذلك، وهو سكران بوجد المحبة الذي هو لذة وسرور بلا تمييز‏.‏

/ وذلك السكران، يطوى ولا يروى إذا لم يكن سكره بسبب محظور‏.‏

فأما إذا كان السبب محظورًا، لم يكن السكران معذورا‏.‏

وأما أهل الحلول، فمنهم من يغلب عليه شهود القلب وتجليه، حتى يتوهم أنه رأى الله بعيني رأسه‏.‏

ولهذا ذكر ذلك طائفة من العباد الأصحاء، غلطًا منهم‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم‏:‏ عن النواس بن سمعان‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الدجال، ودعواه الربوبية، قال‏:‏ ‏(‏واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت‏)‏، وروى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى متعددة حسنة في حديث الدجال‏.‏

فإنه لما ادعى الربوبية، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فرقانين ظاهرين لكل أحد‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أعور، والله ليس بأعور‏.‏

الثاني‏:‏ أن أحدًا منا لن يرى ربه حتى يموت، وهذا إنما ذكره في الدجال مع كونه كافرًا؛ لأنه يظهر عليه من الخوارق التي تُقَوِّى الشبهة في قلوب العامة‏.‏

/ فصــل‏:‏

فإذا عرف الاتحاد المعين مما يشبه الحلول أو الاتحاد الذي فيه نوع حق تبين أيضا ما في المطلق من ذلك‏.‏

فنقول‏:‏ لا ريب أن الله رب العالمين، رب السموات والأرضين وما بينهما ورب العرش العظيم، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا، ربكم ورب آبائكم الأولىن، رب الناس ملك الناس إله الناس، وهو خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل، خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى‏.‏

وهو رب كل شيء ومليكه، وهو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الرحمن على العرش استوى، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ‏{‏مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏[‏هود‏:‏56‏]‏

قلوب العباد ونواصيهم بيده، وما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه‏.‏ وهو الذي / أضحك وأبكى، وأغنى وأقنى‏.‏ وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته، وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، ويبث فيها من كل دابة‏.‏

وهو الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏.‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏، وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، وهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو القائم بالقسط القائم على كل نفس بما كسبت، الخالق البارئ المصور، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وما شاء الله لا قوة إلا بالله فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا ملجأ منه إلا إليه‏.‏

فهذه المعاني وما أشبهها من معاني ربوبيته وملكه، وخلقه ورزقه، وهدايته ونصره، وإحسانه وبره، وتدبيره وصنعه، ثم ما يتصل بذلك من أنه بكل شيء علىم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، يبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء‏.‏

فهذا كله حق، وهو محض توحيد الربوبية، وهو مع هذا قد أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين‏.‏

/وهذا صنع الله الذي أتقن كل شيء والخير كله بيديه، وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، كما أقسم على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏والله، لله أرحم بعباده من هذه الوالدة بولدها‏)‏، إلى نحو هذه المعاني التي تقتضي شمول حكمته وإتقانه، وإحسانه خلق كل شيء، وسعة رحمته وعظمتها، وأنها سبقت غضبه، كل هذا حق‏.‏

فهذان الأصلان ـ عموم خلقه وربوبيته، وعموم إحسانه وحكمته ـ أصلان عظيمان، وإن كان من الناس من يكفر ببعض الأول، كالقدرية الذين يخرجون أفعال العباد عن خلقه، ويضيفونها إلى محض فعل ذي الاختيار، أو الطبيعة الذين يقطعون إضافة الفعل إلى الله ـ سبحانه ـ ويضيفونه إما إلى الطبع، أو إلى جسم فيه طبع، أو إلى فلك، أو إلى نفس أو غير ذلك مما هو من مخلوقاته العاجزة عن إقامة نفسها، فهي عن إقامة غيرها أعجز‏.‏

ومن الناس من يجحد بعض الثاني، أو يعرض عنه، متوهما خلو شيء من مخلوقاته عن إحسان خلقه وإتقانه، وعن حكمته، ويظن قصور رحمته، وعجزها، من القدرية الإبليسية، أو المجوسية وغيرهم‏.‏

وإذا كان كذلك، فجميع الكائنات آيات له، شاهدة دالة مظهرة لما هو مستحق له من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وعن مقتضي أسمائه وصفاته خلق الكائنات‏.‏

فإن الرحم شُجْنَة من الرحمن، خلق الرحم وشق لها من اسمه، وهو الرزاق/ ذو القوة المتين، يرزق من يشاء بغير حساب، وهو الهادي النصير، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وهو الحكيم العلىم الرحيم، الذي أظهر من آثار علمه وحكمته ورحمته ما لا يحصيه إلا هو‏.‏

فهو رب العالمين، والعالمون ممتلئون بما فيهم من آثار أسمائه وصفاته، وكل شيء يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، من الناس من يدرك ما فيها من الدلالة والشهادة بالعلم والمعرفة، ومن خرق الله سمعه سمع تأويب الجبال والطير، وعلم منطق الطير‏.‏

فإذا فسر ظهوره وتجليه بهذا المعنى، فهذا صحيح، ولكن لفظ الظهور والتجلي فيه إجمال، كما سنبينه إن شاء الله تعالى‏.‏

وإذا قال القائل‏:‏ ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله؛ لأنه ربه، والرب متقدم على العبد، أو رأيت الله بعده، لأنه آيته ودليله وشاهده، والعلم بالمدلول بعد الدليل، أو رأيت الله فيه، بمعنى ظهور آثار الصانع في صنعته، فهذا صحيح‏.‏ بل القرآن كله يبين هذا ويدل عليه، وهو دين المرسلين، وسبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهو اعتقاد المسلمين أهل السنة والجماعة، ومن يدخل فيهم من أهل العلم والإيمان، ذوي المعرفة واليقين أولياء الله المتقين‏.‏

/  فصــل‏:‏

في الغلط في ذلك

ثم إن كثيرًا من أهل التوجه إلى الله إذا أقبلوا على ذكره وعبادته والإنابة إليه، شهدوا بقلوبهم هذه الربوبية الجامعة، وهذه الإحاطة العامة، فإنه بكل شيء محيط، وهو ـ سبحانه ـ الحق الذي خلق السموات والأرض، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر، ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وهو ـ سبحانه ـ نور السموات والأرض ‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ‏}‏ الآية‏[‏النور‏:‏35‏]‏

وهو ـ سبحانه ـ ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه‏.‏ هكذا قال عبدالله بن مسعود‏:‏ ‏(‏لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، أو النار، لو كشفها لأحرقت سبُحَات وجهه ما أدركه بصره من خلقه‏)‏، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى‏.‏

/ فقد يشهد العبد القدر المشترك بين المصنوعات، وهو الحق الموجود فيها، الذي هو شامل لها، فيظن أنه الخالق، لمطابقته له في نوع من العموم، وإنما هو صنعه وخلقه، ثم قد يرتقي إلى حجاب من حجبه النورية أو النارية، فيظن أنه هو، ثم يرتقي إلى نوره، وما يظهر من أثر صفاته، فقد يقع بعض هؤلاء في نحو من مذهب أهل الاتحاد المطلق العام، فإن تداركهم الله برحمته فاعتصموا بحبل الله واتبعوا هدى الله، علموا أن هذا كله مخلوق لله، وأن الخالق ليس هو المخلوق، وأن جميعهم عباد لله، وربما قد يقع هذا في نوع من الفناء أو السكر، فيكون مخطئا غالطا، وإن كان ذلك مغفورا له، إذا كان بسبب غير محظور، كما ذكرنا نظيره في الاتحاد المعين‏.‏

/ فصــل‏:‏

وهو كما يشهد ربوبيته وتدبيره العالم المحيط وحكمته ورحمته، فكذلك يشهد إلهيته العامة، فإنه الذي في السماء إله وفي الأرض إله، إله في السماء، وإله في الأرض‏{‏يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}‏‏[‏الرحمن‏:‏29‏]‏، وكذلك قوله‏:‏‏{‏وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ‏}‏الآية ‏[‏الأنعام‏:‏3‏]‏ على أحد القولين، على وقف من يقف عند قوله ‏{‏وَفِي الأَرْضِ‏}‏ فإن المعنى‏:‏ هو في السموات الله، و في الأرض الله، ليس فيهما من هو الله غيره‏.‏

وهذا وإن كان مشابها لقوله‏:‏‏{‏وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ‏}‏‏[‏الزخرف‏:‏84‏]‏ فهو أبلغ منه‏.‏ ونظيره قوله‏:‏‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏22‏]‏، وقد قال‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏[‏الروم‏:‏27‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏44‏]‏، وقال‏:‏‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏83‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏15‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ‏}‏‏[‏الحج‏:‏18‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏26، 27‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏1‏]‏، ‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏1‏]‏ ونحو ذلك من معاني ألوهيته، وخضوع الكائنات وإسلامها له، وافتقارها إليه وسؤالها إياه، ودعاء الخلق إياه، إما دعاء عبادة، وإما دعاء مسألة، وإما دعاؤهما جميعا‏.‏ ومن أعرض عنه وقت الاختيار‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏67‏]‏، ‏{‏أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ‏}‏‏[‏النمل‏:‏62‏]‏ ونشهد أن كل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه، فإنه باطل، إلا وجهه الكريم، كما نشهد أنها كلها مفتقرة إليه في مبدئها، نشهد أنها مفتقرة إليه في منتهاها، وإلا كانت باطلة‏.‏

فهذه المعاني التي فيها تأله الكائنات إياه، وتعلقها به، والمعاني الأول التي فيها ربوبيته إياهم، وخلقه لهم، يوجب أن يعلم أنه رب الناس ملك الناس إله الناس، وأنه رب العالمين، لا إله إلا هو، والكائنات ليس لها من نفسها شيء، بل هي عدم محض ونفى صرف، وما بها من وجود فمنه وبه‏.‏

/ ثُم إنه إليه مصيرها ومرجعها، وهو معبودها وإلهها، لا يصلح أن يعبد إلا هو كما لم يخلقها إلا هو، لما هو مستحقه بنفسه ومتفرد به من نعوت الإلهية التي لا شريك له فيها، ولا سمى له، وليس كمثله شيء‏.‏

فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، وهو معنا أينما كنا، ونعلم أن معيته مع عباده على أنواع، وهم فيها درجات‏.‏

وكذلك ربوبيته لهم وعبوديتهم التي هم بها معبدون له، وكذلك ألوهيتهم إياه، وألوهيته لهم، وعبادتهم التي هم بها عابدون، وكذلك قربه منهم وقربهم منه‏.‏

/  فصــل‏:‏

فهذا فيما يشبه الاتحاد أو الحلول في معين، كنبي أو رجل صالح، ونحو ذلك‏.‏

قد بينا ما فيه من الحق المحض، وما فيه من الحق الملبوس بباطل، وسنبين إن شاء الله ما فيه من الباطل المحض‏.‏

وهذا القسم إنما يقع فيمن يعبد الله ـ سبحانه ـ ويتولاه، أو يظن به ذلك، فإنه بذلك تظهر ألوهية الله في عبده، وتظهر إنابة العبد إلى ربه، وموافقته له في محبته ورضاه، وأمره ونهيه‏.‏

وقد يشتبه بهذا قسم آخر، وهو ما يظهره الرب من آثار ربوبيته في بعض عباده وإن كان ذلك ليس مأمورا به، ولا هو عبادة له، مثل ما يعطيه من ملكه وسلطانه بعض الملوك المسلطين، ممن قد يكون مسلمًا، وقد لا يكون، كفرعون وجنكسخان ونحوهما، وما يهبه من الرزق والمال لبعض عباده، وما يقسمه من الجمال لبعض عباده من الرجال والنساء‏.‏

وكذلك ما يهبه من العلوم والمعارف، أو يهبه من الأحوال، أو يعطيه من/ خوارق العادات من أنواع المكاشفات والتأثيرات، سواء كان هؤلاء مؤمنين، أو كفارًا مثل الأعور الدجال ونحوه‏.‏

فإنه في هذا القسم يقوم في العبد المعين من آثار الربوبية وأحكام القدرة أكثر مما يقوم بغيره، كما يقوم بالقسم الأول من آثار الألوهية وأحكام الشرع أكثر مما يقوم بغيره، وقد يجتمع القسمان في عبد، كما يجتمع في الملائكة والأنبياء والأولياء مثل نبينا صلى الله عليه وسلم، والمسيح ابن مريم وغيرهما‏.‏

فهذا القسم وحده كاف في أحكام الكلمات الكونية، كالقسم الأول في أحكام الكلمات الدينية، فإن الحوادث إنما تكون بمشيئة الله وقدرته، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ ويعوذ، ويأمر بالاستعاذة بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بَرٌّ ولا فاجر‏.‏

فالكلمات التي بها كوَّن الله الكائنات لا يخرج عنها بر ولا فاجر، فما من ملك ولا سلطان، ولا مال ولا جمال، ولا علم ولا حال، ولا كشف ولا تصرف إلا وهو بمشيئته وقدرته، وكلماته التامات، ولكن من ذلك ما هو محبوب لله مأمور به، ومنه ما هو مكروه لله منهي عنه بل مباح أو عفو‏.‏ وإذا كان واقعًا بمشيئة الله وقدرته وكلمته، ولا يقدر على ذلك غيره وهو مضاف إلى الله من جهة ربوبيته وملكه، فبينه وبين القسم الأول من الاشتراك والمشابهة ما أوجب أن أقوامًا غلطوا في أمر الله، فجعلوه في القسمين واحدًا‏.‏

/ بل غلطوا ـ أيضا ـ في نفس الرب، فألحقوا بعض العباد المعبدين من القسم الثاني ببعض العباد العابدين من القسم الأول، ودخلوا في الاتحاد والحلول من هذا الوجه، حتى عبد من عبد فرعون والدجال، وعبد آخرون الصور الجميلة ونحو ذلك، ويزعمون أن هذا مظاهر الجمال، وكفر هؤلاء بالعبادات والإيمان تارة، وبالمعبود أخرى‏.‏

ولما كان المقصود هنا بيان الحق من ذلك، أو ما فيه حق، ذكرنا هذا‏.‏

أما الأول‏:‏ فإن الله ـ سبحانه ـ قد فرق بالقرآن وبالإيمان بين أمره الديني وخلقه الكوني‏.‏ فإن الله ـ سبحانه ـ خالق كل شيء، و رب كل شيء ومليكه، سواء في ذلك الذوات وصفاتها وأفعالها، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن مشيئته شيء، ولا يكون شيء إلا بمشيئته‏.‏

وقد كذب ببعض ذلك القدرية المجوسية من هذه الأمة وغيرها، وهم الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال عباده من الملائكة والجن والإنس والبهائم، ولا يقدر على أن يفعل بعباده من الخير أكثر مما فعله بهم، بل ولا على أفعالهم، فليس هو على كل شيء قدير، أو أن ما كان من السيئات فهو واقع على خلاف مشيئته وإرادته‏.‏ وهم ضلال مبتدعة، مخالفون للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولما عرف بالعقل والذوق‏.‏

ثم إنه قابلهم قوم شر منهم، وهم القدرية المشركية، الذين رأوا الأفعال/واقعة بمشيئته وقدرته‏.‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏، ولو كره الله شيئا لأزاله، وما في العالم إلا ما يحبه الله ويرضاه، وما ثم عاص، وأنا كافر برب يعصى، وإن كان هذا قد عصى الأمر فقد أطاع الإرادة، وربما استدلوا بالجبر، وجعلوا العبد مجبورًًا، و المجبور معذور، والفعل لله فيه لا له، فلا لوم عليه‏.‏

فهؤلاء كافرون بكتب الله ورسله، وبأمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، ووعده ووعيده، ودينه وشرعه، كفرًا لا ريب فيه، وهم أكفر من اليهود والنصارى، بل أكفر من الصابئة والبراهمة الذين يقولون بالسياسات العقلية‏.‏

فإن هؤلاء كافرون بالديانات والشرائع الإلهية، وبالآيات والسياسات العقلية‏.‏

وأما الأولون‏:‏ ففي تكفيرهم تفصيل ليس هذا موضعه‏.‏

وهؤلاء أعداء الله وأعداء جميع رسله، بل أعداء جميع عقلاء بني آدم، بل أعداء أنفسهم، فإن هذا القول لا يمكن أحدًا أن يطرده، ولا يعمل به ساعة من زمان، إذ لازمه‏:‏ ألا يدفع ظلم ظالم، ولا يعاقب معتد، ولا يعاقب مسيء لا بمثل إساءته، ولا بأكثر منها‏.‏

وأكثر هؤلاء إنما يشيرون إلى ذلك عند أهواء أنفسهم لرفع الملام عنهم، وإلا فإذا كان لهم هذا مع أحد قابلوه وقاتلوه واعتدوا عليه أيضا، ولا يقفون/ عند حد، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذِمَّة، بل هم كما قال الله‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏72‏]‏، ظلمة جهال، مثل السبع العادي، يفعلون بحكم الأهواء المحضة، ويدفعون عن أنفسهم الملام والعذل، أو ما يجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالجبر الباطل، وبملاحظة القدر النافذ، معرضين عن الأمر والنهي، ولا يفعلون مثل ذلك بمن اعتدى عليهم وظلمهم وآذاهم، بل ولا بمن قصر في حقوقهم، بل ولا بمن أطاع الله، فأمر بما أمر الله به، ونهى عما نهى الله عنه، وقد بسطت الكلام في هؤلاء القدرية والقسم الأول، وذكرت القدرية الإبليسية في غير هذا الموضع، وإنما الغرض هنا التنبيه على معاقد الأقوال‏.‏

وقد فرق الله في كتابه بين القسمين ـ بين من قام بكلماته الكونيات، وبين من اتبع كلماته الدينيات ـ وذلك في أمره وإرادته وقضائه، وحكمه وإذنه وبعثه وإرساله، فقال في الأمر الديني الشرعي‏:‏‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏90‏]‏، ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏58‏]‏، ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏67‏]‏‏.‏ وقال في الأمر الكوني القدري‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، ‏{‏أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏1‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏16‏]‏ على أحد الأقوال‏.‏

وقال في الإرادة الدينية الشرعية‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، / ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عليكم وَاللّهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏26‏]‏، ‏{‏مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عليكم مِّنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏ وقال في الإرادة الكونية القدرية‏:‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏، ‏{‏وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏34‏]‏، ‏{‏أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏41‏]‏‏.‏

وبهذا الجمع والتفريق تزول الشبهة في مسألة الأمر الشرعي‏:‏ هل هو مستلزم للإرادة الكونية أم لا‏؟‏ فإن التحقيق أنه غير مستلزم للإرادة الكونية القدرية، وإن كان مستلزمًا للإرادة الدينية الشرعية‏.‏

وقال في الإذن الديني‏:‏ ‏{‏مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏5‏]‏ وقال في الإذن الكوني‏:‏‏{‏وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏102‏]‏‏.‏ وقال في القضاء الديني‏:‏‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏ أي‏:‏ أمر ربك بذلك‏.‏ وقال في القضاء الكوني‏:‏‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏12‏]‏

وقال في الحكم الديني‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عليكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏1‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏10‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏50‏]‏‏.‏ وقال في الحكم الكوني‏:‏ ‏{‏فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 80‏]‏

وقد يجمع الحكمين مثل ما في قوله‏:‏ ‏{‏إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏67‏]‏، وكذلك فعله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏20‏]‏

وقال في البعثين والإرسالين‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏2‏]‏، ‏{‏بَعَثْنَا عليكم عِبَادًا لَّنَا أولى بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏5‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏45‏]‏، ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏، وقد قال‏:‏ ‏{‏أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا‏}‏‏[‏مريم‏:‏38‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏22‏]‏‏.‏

/  فصــل‏:‏

وأما كفرهم بالمعبود، فإذا كان لهم في بعض المخلوقات هوى فقد يعبدونه بشبهة الحلول أو الاتحاد الفاسد، مثل من يعبد الصور الجميلة، ويقول‏:‏ هذا مظهر الجمال، أو الملك المطاع الجبار، ويقول‏:‏ هو مظهر الجلال، أو مظهر رباني ونحو ذلك، وليس في هذه المخلوقات نوع من الاتحاد أو الحلول الحق، لكن يشبه ما فيه الحق من جهة، إذ كلاهما بالله ومن الله، وأنه لله، ولهذا يسوى بينهما أهل الحلول والاتحاد المطلق، كما سنبينه إن شاء الله‏.‏

فهؤلاء الاتحادية والحلولية ـ الذين يخصونه ببعض المصنوعات التي ليس فيها عبادة وإثابة ـ هم فرع على أولئك، ليس معهم من الحق شيء ولا شبهة حق، كما مع أولئك ألفاظ متشابهة عن بعض الأنبياء والصالحين، ولكن مع هؤلاء قول فرعون‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏42‏]‏، و ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏38‏]‏، وقول الدجال‏:‏ ‏[‏أنا ربكم‏]‏ ونحو ذلك‏.‏

فهذه الألفاظ التي معهم من ألفاظ الكفار والمنافقين، ومعهم تشبيه الكونيات بالدينيات، والكونيات عامة لا اختصاص فيها، فلهذا كان هؤلاء أدخل في الاتحاد والحلول المطلق منهم في المعين، اعتقادا وقولا، وإن كانوا من/ جهة الحال والهوى يخصون بعض الأعيان ـ كما هو الواقع ـ لشبهة اختصاصه ببعض الأحكام الكونية، وسنتكلم عليهم إن شاء الله في الحلول الفاسد‏.‏

وإنما ذكرتهم هنا لما أردت أن أذكر كل ما فيه شَوْبُ اتحاد أو حلول بحق، فنبهت على ذلك ليفطن لموضع ضلالهم، فإذا علم حقيقة هذه الأمور علم حقيقة قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أصدق كلمة قالها الشاعر‏:‏ كلمة لبيد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل‏)‏

فإن الباطل ضد الحق، والله هو الحق المبين‏.‏

والحق له معنيان، أحدهما‏:‏ الوجود الثابت، والثاني‏:‏ المقصود النافع، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الوتر حق‏)‏

والباطل نوعان أيضا‏:‏

أحدهما‏:‏ المعدوم‏.‏ وإذا كان معدوما كان اعتقاد وجوده والخبر عن وجوده باطلا، لأن الاعتقاد والخبر تابع للمعتقد المخبر عنه، يصح بصحته، ويبطل ببطلانه، فإذا كان المعتقد المخبر عنه باطلا كان الاعتقاد والخبر كذلك، وهو الكذب‏.‏

الثاني‏:‏ ما ليس بنافع ولا مفيد، كقوله تعالى‏:‏‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏27‏]‏، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل لهو يلهو/ به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته فإنهن من الحق‏)‏، وقوله عن عمر‏:‏ ‏(‏إن هذا رجل لا يحب الباطل‏)‏‏.‏ وما لا منفعة فيه‏:‏ فالأمر به باطل، وقصده وعمله باطل، إذ العمل به والقصد إليه والأمر به باطل‏.‏

ومن هذا قول العلماء‏:‏ العبادات والعقود تنقسم إلى صحيح وباطل‏.‏

فالصحيح‏:‏ ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده‏.‏

والباطل‏:‏ ما لم يترتب عليه أثره، ولم يحصل به مقصوده؛ ولهذا كانت أعمال الكفار باطلا‏.‏

فإن الكافر من جهة كونه كافرًا يعتقد ما لا وجود له، ويخبر عنه فيكون ذلك باطلا، ويعبد ما لا تنفعه عبادته، ويعمل له ويأمر به فيكون ذلك أيضا باطلا‏.‏

ولكن لما كان لهم أعمال وأقوال صاروا يشبهون أهل الحق، فلذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏39‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏1ـ33‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏23‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عليه تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏264‏]‏‏.‏ فبين أن المن والأذى يبطل الصدقة، فيجعلها باطلا، لا حقا، كما يبطل الرياء وعدم الإيمان الإنفاق أيضا‏.‏ وقد عمم بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏33‏]‏ أي‏:‏ لا تَجعلوها باطِلة، لا منفعة فيها ولا ثواب، ولا فائدة‏.‏

وقد غلط طائفة من الناس من الاتحادية وغيرهم، كابن عربي، فرأوا أن الحق هو الموجود، فكل موجود حق‏.‏ فقالوا‏:‏ ما في العالم باطل، إذ ليس في العالم عدم‏.‏

قالوا‏:‏ والكفر إنما هو عدم وجود الشريك مثلا‏.‏

وإنما أتوا من جهة اللفظ المجمل‏.‏

فإن الشيء له مرتبتان‏:‏مرتبة باعتبار ذاته، فهو إما موجود، فيكون حقا، وإما معدوم، فيكون باطلا‏.‏ ومرتبة باعتبار وجوده في الأذهان واللسان والبنان، وهو العلم والقول/ والكتاب، فالاعتقاد والخبر والكتابة أمور تابعة للشيء، فإن كانت مطابقة موافقة كانت حقا، وإلا كانت باطلا، فإذا أخبرنا عن الحق الموجود أنه حق موجود، وعن الباطل المعدوم أنه باطل معدوم، كان الخبر والاعتقاد حقا، وإن كان بالعكس كان باطلا، وإن كان الخبر والاعتقاد أمرًا موجودًا‏.‏ فكونه حقًا أو باطلا باعتبار حقيقته المخبر عنها، لا باعتبار نفسه‏.‏

ولا يجوز إطلاق القول بأنه حق لمجرد كونه موجودًا إلا بقرينة تبين المراد‏.‏

وهكذا العمل والقصد والأمر إنما هو حق باعتبار حقيقته المقصودة، فإن حصلت وكانت نافعة، كان حقًا، وإن لم تحصل، أو حصل ما لا منفعة فيه كان باطلا‏.‏

وبهذين الاعتبارين يصير في الوجود ما هو من الباطل، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، مع ما يوافق ذلك من عقل وذوق وكشف، خلاف زعم هذه الطائفة الضالة المضلة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عليه فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ

‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏17‏]‏‏.‏

/شبه ما ينزل من السماء على القلوب من الإيمان والقرآن، فيختلط بالشبهات والأهواء المغوية بالمطر الذي يحتمل سيله الزبد، وبالذهب والفضة والحديد ونحوه إذا أذيب بالنار، فاحتمل الزبد فقذفه بعيدًا عن القلب، وجعل ذلك الزبد هو مثل ذلك الباطل الذي لا منفعة فيه، وأما ما ينفع الناس من الماء والمعادن فهو مثل الحق النافع، فيستقر ويبقى في القلب‏.‏

وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏1‏:‏ 3‏]‏‏.‏

فأخبر ـ سبحانه ـ أن سبب إضلال أعمال هؤلاء الذين كفروا حتى لم تنفعهم، وأن أعمال هؤلاء الذين آمَنوا نفعتهم، فكفرت سيئاتِهم وأصلح اللّه بالهم ـ أن هؤلاء اتبعوا الباطل قولا وعملا، اعتقادًا واقتصادًا، خبرًا وأمرًا، وهؤلاء اتبعوا الحق من ربهم، ولم يتبعوا ما هو من غير ربهم، وإن كان حقا من وجه‏.‏

وهذا تحقيق ما قلناه، فإن الخبر والعمل تابع للمخبر عنه، وللمقصود بالعمل، فإذا كان ذلك باطلا لاحقيقة له كان التابع كذلك، وإن كان موجودًا‏.‏

وكذلك ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏264‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏33‏]‏ ونحو ذلك من إبطال ما قد مضى ووجد، إنما هو عدم لعدم فائدته لا عدم ذاته، فإن ذاته انقضت كما انقضى ما لم يبطل من الأعمال، فكيف/ يقال‏:‏ لا باطل في الوجود‏؟‏ ثم يجعل هذا ذريعة إلى أن ذلك الموجود الذي فيه الحق والباطل هو عين الله؛ لأنه هو الحق، ولا يميز بين الحق الخالق والحق المخلوق‏؟‏فتدبر، كيف اشتمل مثل هذا الكلام على هاتين المقدمتين الباطلتين‏؟‏ وكيف استزلوا عقول الضعفاء بهذه الشبهة‏؟‏

وقالوا‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏ألا كل شيء ما خلا الله باطل‏)‏ والباطل هو المعدوم، فكل ما سوى الله معدوم، والموجود ليس بمعدوم، فالموجود ليس فيه سوى، وإنما السوى هو العدم‏.‏

فإن هذا مبني على المقدمتين الباطلتين‏:‏

إحداهما‏:‏ قولهم‏:‏ إن الباطل هو المعدوم، فإنه ليس كذلك، بل المعدوم باطل، وليس كل موجود باطلا، بل في الموجود ما هو حق، وفيه ما هو باطل، كما تقدم، وهو الأعمال التي لا تنفع، والأخبار التي ليست بصدق، وما يندرج في هذين من المقاصد والعقائد‏.‏

الثانية‏:‏ لوكان لا باطل إلا المعدوم، لكان الموجود حقًا، وكل موجود فقد يسمى حقا مع القرينة المفسرة باعتبار وجوده، وإن كان باطلا، لانتفاء حقيقته التي بها جاز إطلاق الحق عليه، لكان الحق حقان‏:‏ حق خالق، وحق مخلوق‏.‏

/وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتفق عليه، الذي رواه ابن عباس ـ يقول إذا قام من الليل‏:‏ ‏(‏اللهم لك الحمد، أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت‏)‏

وإذا ظهر أن في الوجود ما هو باطل في الحقيقة، ومنه ما هو حق من مخلوقات الله، ليس هو الله، ظهر تمويههم بقولهم‏:‏ إن الباطل هو السوى، وهو العدم، وأما الموجود فهو هو‏.‏

وأيضا، فنفس الحديث حجة عليهم‏.‏ فإن قوله‏:‏ ‏[‏ألا كُل شيء ما خلا الله باطل‏]‏ لفظ عام يدخل فيه كل موجود سوى الله، فإن لفظ‏:‏ ‏[‏الشيء‏]‏ يعم كل الموجود بالاتفاق، ويدخل فيه ما له وجود ذهني، أو لفظي أو رسمي كتابي وإن لم يكن له وجود حقيقي من المعدومات والممتنعات، فهذا نص في أن كثيرًا من الموجودات باطل، ولا يجوز أن يراد به كل معدوم ما خلا الله، فهو باطل لخمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قد استثنى الله ـ تعالى ـ وهو الحق المبين، من لفظ إثبات، ومثل هذا الاستثناء يدل على التناول، بخلاف الاستثناء من غير موجب، /كقوله‏:‏‏{‏مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏157‏]‏ فإن ذلك لا يدل على التناول، فلو كان التقدير‏:‏ كل معدوم ما خلا الله باطل، للزم أن يكون الحق تعالى معدومًا وهذا أبطل الباطل‏.‏

الثاني‏:‏ أن ‏[‏كل شيء‏]‏ نص في الوجود، لا يجوز قصرها على المعدومات بالاتفاق‏.‏

الثالث‏:‏ أن المعدوم لا يدخل في لفظ ‏[‏كل شيء‏]‏ عند أهل السنة وعامة العقلاء، فضلا عن كونه يختص به‏.‏

الرابع‏:‏ أنه لو كان المعنى‏:‏ كل معدوم فهو باطل، لكان هذا من باب تحصيل الحاصل، بل لفظ ‏[‏العدم‏]‏ أدل على النفي من لفظ الباطل‏.‏ فكيف يبين الجلي بالخفي‏؟‏

الخامس‏:‏ أنه لو أراد هذا لقال‏:‏ ‏[‏كل ما سوى الله باطل‏]‏ فإنه هذه العبارة أقرب إلى احتمال مراد هؤلاء الملاحدة من هذا اللفظ، وإن كانت تلك العبارة لا تدل أيضا على مرادهم‏.‏

وإذا لم يكن معنى الحديث ما ادعوه، فقد عرف أن كل ما سوى الله فهو باطل بوجهي الباطل اللذين تقدم تفسيرهما‏:‏

أحدهما‏:‏ وهو المقصود النافع‏.‏ والباطل ما لا منفعة في قصده، وكل شيء ما خلا الله ـ إذا كان له القصد والعمل ـ كان ذلك باطلا، والأمر به / باطل وهذا يشبه حال المشركين، الذين كانوا يعبدون غير الله أو يعبدون الله بغير أمر الله ولا شرعه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالباطل هو نفس القصد والعمل لا نفس العين المقصودة‏.‏

قلت‏:‏بل نفس العين المقصودة باطل بالاعتبار الذي قصدت له، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل إلا وجهك الكريم‏)‏وذلك أنه إذا كان الباطل في الأصل هو العدم، والعدم هو المنفي، فالشيء ينفى لانتفاء وجوده في الجملة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏3، 4‏]‏ و‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏91‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏35‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نبي بعدي‏)‏‏.‏

وقد ينفى لانتفاء فائدته ومقصوده وخاصته التي هو بها هو، كما ذكرناه، فإن ما لا فائدة فيه فهو باطل، والباطل معدوم، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان‏:‏ ‏(‏ليسوا بشيء‏)‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏68‏]‏‏.‏

وقد ينفى الشيء لانتفاء كماله وتمامه، إما مطلقًا، وإما بالنسبة إلى غيره، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس المسكين بهذا الطَّوَّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غني يغنيه، ولا/يتفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافًا‏)‏‏.‏ ونحو ذلك قوله في المفلس والرقوب، ونظائر كل من هذه الأقسام الثلاثة كثيرة‏.‏

فالشيء المقصود لأمر هو باطل منتف إذا انتفت فائدته ومقصوده، فكل ما سوى الله لا يجوز أن يكون معبودا ولا مستعانا، فقد انتفى مما سوى الله هذا المعنى المقصود، فهو باطل، وكل ما سوى الله لا يجوز أن يكون صمدًا مقصودا ولا معبودا، ولا فائــدة فـي قصده، ولا منفعة في عبادته واستعانته، فهو باطل وهذا واضح، وهذا عموم محفوظ لا يستثنى منه شيء‏.‏

وبيان ذلك‏:‏ أن كل ما سوى الله فإما أن يقصد لنفسه، وإما أن يقصد لغيره‏.‏

فالمقصود لغيره‏:‏ مثل ما يقصد الخبز للأكل، والثوب للبس، والسلاح للدفع، ونحو ذلك، وهو ما خلقه الله لنفع بني آدم من الأعيان، فإن هذه إنما تقصد لغيرها لا لذاتها، وكذلك المال الذي يقصد به جلب منفعة أو دفع مضرة إنما يقصد لغيره، لا لنفسه، وكل ما قصد لغيره فإنما المقصود في الحقيقة ذلك الغير‏.‏

وهذا مراد له بحيث إن حصل ذلك الغير المقصود لنفسه وإلا كان هذا مما لا فائدة فيه ولا منفعة، فيكون من باب الباطل الذي ينفى، ويقال فيه‏:‏ ليس بشيء، وهو باطل، ويلحق بالمعدوم‏.‏

/ فثبت أنه إن لم يحصل في كل قصد مقصود لنفسه، وإلا كان باطلا، والمقصود لنفسه إن لم يكن هو الله كان باطلا، فإن المقصود لنفسه هو المعبود‏.‏ ومن عَبَدَ غير الله كان باطلا، وعبادته باطلة، لأنه لا منفعة فيه ولا في عبادته، بل ذلك ضرر محض، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏13‏]‏ وهذا عام في كل معبود، وهذا حقيقة الدين‏.‏

فإن الله إنما خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، وسخر لهم ما في السموات وما في الأرض ليستعينوا به على عبادته، فمن لم يستعن بهذه الأشياء على عبادته فعمله كله وقصده باطل، ولا منفعة فيه، بل فيه الضرر‏.‏

فثبت أن كل قصد ومقصود سوى الله باطل، سواء كان مقصودًا لنفسه أو لغيره سوى الله، وإنما الحق أن يقصد الله، أو يقصد ما يستعان به على قصد الله‏.‏ وهذا تحقيق قوله‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل **

بأحد وجهي الحق والباطل، وهو كونه مقصودًا ومطلوبا، وهو أظهر وجهيه‏.‏

الثاني‏:‏ أن كل ما خلا الله فهو معدوم بنفسه، ليس له من نفسه وجود، ولا حركة ولا عمل، ولا نفع لغيره منه، إذ ذلك جميعه خلق الله وإبداعه وبرؤه وتصويره، فكل الأشياء إذا تخلى عنها الله فهي باطل، يكفي في عدمها وبطلانها نفس تخليه عنها، وألا يقيمها هو بخلقه ورزقه، وإذا كانت باطلة في أنفسها ـ والحق إنما هـو لله وبالله ومن الله ـ صدق قول القائل‏:‏ ألا كل شيء ما خلا الله باطل باعتبارين‏:‏

/ أحدهما‏:‏ أن صنعه على هذا التقدير ليس مستغنيا عنه، ولا قائما بسواه، ولا خارجا عنه، فأدخل في اسمه على سبيل التبع، لا لأنه جزء من المسمى، وكثيرًا ما يدخل في الاسم الجامع والأسماء العامة أشياء على سبيل التبع، لا لأنها جزء من المسمى، كما لو قال‏:‏ بعتك هذا الفرس، دخل فيه نعله، ولو قال القائل‏:‏ دخل زيد إلى داري، كانت ثيابه داخلة في حكم اسمه، وكذلك إذا قيل‏:‏ حملت زيدًا، وركب زيد على الدابة، وإذا قيل‏:‏ بنو هاشم، دخل فيهم مواليهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مولى القوم منهم‏)‏ وقد يدخل فيهم الحليف وابن الأخت، وهذا مشهور في كلام العرب وأهل المغازي‏.‏

الاعتبار الثاني‏:‏ أن القائل إذا قال‏:‏ جاء القوم ما خلا زيدًا، فإن ‏[‏خل‏]‏ هنا فعل ناقص من أخوات ‏[‏كان‏]‏ وزيدا منصوب به، وفيه ضمير مرفوع، وذلك الضمير عائد على ‏[‏ما‏]‏ أخت الذي، وهي الموصولة، وهذه الجملة صلة ‏[‏ما‏]‏ وكان تقدير الكلام‏:‏ قام القوم الذين هم خلا زيدًا، لكن ‏[‏ما‏]‏ يحتمل الواحد والاثنين والجميع، والضمير يعود إلى لفظها أكثر من معناها، فقوله‏:‏ رأيت ما رأيته من الرجال، أحسن من قولك‏:‏ مـا رأيتـهم من الرجال‏.‏ وباب‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏25‏]‏ أكثـر وأفصح من قوله‏:‏ ‏[‏من يستمعون‏]‏؛ ولهـذا قوي، فصار مـا خـلا زيدًا، يقـوم مقـام الـذي خلا، والذين خلوا، واللاتي خلون، ونحو ذلك‏.‏ تقول‏:‏ قامت النسوة ما خلا هندا‏.‏

ولفظ ‏[‏ما‏]‏ إما أن يكون له موضع من الإعراب، وهو الوصف لما/ قبله، أو النصب على الحال، أو لا موضع له‏.‏ وإذا كان التقدير‏:‏ كل شيء في حال خلوه عن الله باطل، أو كل شيء خلا الله فهو باطل، أو كل الأشياء حال كونها خلت الله، أو التي خلت الله باطل، فخلوها الله قد يتضمن معنى خلوها منه‏.‏

ومعلوم أنها متى خلته، أي خلت منه كان باطلا، وإنما قيامها بألا تتخلى منه، بل تتقوم به‏.‏ وهذا‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ في الأصل دون غيره من أدوات الاستثناء‏.‏

وأصل هذا المعنى مقصود من هذا‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ في قول النبي صلىالله عليه وسلم‏.‏

وهذا التوحيد وتفسيره المذكور في قوله‏:‏ألا كل شيء ما خلا الله باطل هو نحو مما ذكر في قوله تعالى‏:‏‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ بعد قوله ‏{‏فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏86‏:‏ 88‏]‏‏.‏ فإن ذكره ذلك بعد نهيه عن الإشراك، وأن يدعو معه إلها آخر، وقوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ يقتضي أظهر الوجهين، وهو أن كل شيء هالك إلا ما كان لوجهه من الأعيان والأعمال وغيرهما‏.‏

روى عن أبي العالية قال‏:‏ إلا ما أريد به وجهه‏.‏ وعن جعفر الصادق‏:‏ إلا دينه‏.‏ ومعناهما واحد‏.‏

/وقد روى عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال‏:‏ ميِّزوا ما كان لله منها‏.‏ قال‏:‏ فيماز ما كان لله منها، ثم يؤمر بسائرها فيلقى في النار‏.‏

وقد روى عن على ما يعم‏.‏ ففي تفسير الثعلبي عن صالح بن محمد، عن سليمان ابن عمرو، عن سالم الأفطس، عن الحسن وسعيد بن جبير، عن علي بن أبي طالب‏:‏ أن رجلا سأله، فلم يعطه شيئا‏.‏ فقال‏:‏ أسألك بوجه الله‏.‏ فقال له على‏:‏ كذبت ليس بوجه الله سألتني، إنما وجه الله الحق، ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ يعني الحق ـ ولكن سألتني بوجهك الخلق‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ إلا هو‏.‏ وعن الضحاك كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار، والعرش‏.‏ وعن ابن كيسان‏:‏ إلا ملكه‏.‏

وذلك أن لفظ ‏[‏الوجه‏]‏ يشبه أن يكون في الأصل مثل الجهة، كالوعد والعدة، والوزن والزنة، والوصل والصلة، والوسم والسمة، لكن فعله حذفت فاؤها وهي أخص من الفعل، كالأكل والأكلة‏.‏ فيكون مصدرًا بمعنى التوجه والقصد، كما قال الشاعر‏:‏

أستغفر الله ذنبًا لست محصيه ** رب العباد إليه الوجه والعمل

ثم إنه يسمى به المفعول، وهو المقصود المتوجه إليه، كما في اسم الخلق، ودرهم ضرب الأمير ونظائره، ويسمى به الفاعل المتوجه، كوجه الحيوان، يقال‏:‏ أردت هذا الوجه، أي هذه الجهة والناحية‏.‏ ومنه قوله‏:‏‏{‏وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏115‏]‏ أي‏:‏ قبلة الله ووجهة الله، هكذا قال جمهور السلف، وإن عدها بعضهم في الصفات، وقد يدل على الصفة بوجه فيه نظر، وذلك أن معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ‏}‏ أي‏:‏ تتولوا، أي تتوجهوا وتستقبلوا يتعدى إلى مفعول واحد، بمعني يتولاها، ونظير‏:‏ ‏(‏ولى وتولى‏)‏‏:‏ قدم وتقدم، وبين وتبين، كما قال‏:‏ ‏{‏لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏1‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏19‏]‏ وهو الوجه الذي لله، والذي أمر الله أن نستقبل‏.‏ فإن قوله‏:‏‏{‏وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ‏}‏ يدل على أن وجه الله هناك من المشرق والمغرب الذي هو لله، كما في آية القبلة‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عليها قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏142‏]‏‏.‏

فلما سألوا عن سبب التولي عن القبلة أخبر أن له المشرق والمغرب‏.‏

وأما لفظ ‏[‏وجهة‏]‏ مثل قوله‏:‏‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏148‏]‏، فقد يظن أيضا أنه مصدر كالوجه، كالوعدة مع الوعد، وأنها تركت صحيحة فلم تحذف فاؤها، وليس كذلك‏.‏

لأنه لو كان مصدرا لحذفت واوه، وهو الجهة‏.‏ وكان يقال‏:‏ ولكل جهة أو وجه، وإنما الفعلة هنا بمعنى المفعول، كالقبلة والبدعة، والذبحة ونحو ذلك‏.‏ فالقبلة‏:‏ ما استقبل، والوجهة‏:‏ ما توجه إليه، والبدعة‏:‏ ما ابتدع، والذبحة‏:‏ ما ذبح، ولهذا صح ولم تحذف فاؤه؛ لأن الحذف إنما هو من المصدر لا من/ بقية الأسماء، كالصفات وما يشبهها، مثل أسماء الأمكنة والأزمنة، والآلات والمفاعيل وغير ذلك‏.‏

وأما قول بعض الفقهاء‏:‏ إن الوجه مشتق من المواجهة‏:‏ فلا دليل عليه، بل قد عارضه من قال‏:‏ هو مشتق من الوجاهة، وكلاهما ضعيف‏.‏ وإنما المواجهة مشتق من الوجه، كما أن المشافهة مشتق من الشفة، والمناظرة ـ بمعنى المقابلة ـ مشتق من النظر، والمعاينة من العين‏.‏

وأما اشتقاق الوجه الذي هو المتوجه، من الوجه الذي هو التوجه، فهذا أشبه؛ لأن توجهه‏:‏ هو فعله المختص به الذي لا يفتقر فيه إلى غيره، بخلاف المواجهة، فإنها تستدعي اثنين، والإنسان هو حارث همام، وهمه هو توجهه، وإنما يتوجه بهذا العضو إلى أي شيء أراده وتوجه إليه‏.‏

ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏112‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏125‏]‏، وقول الخليل ونبينا والمؤمنين في الصلاة‏:‏ ‏{‏إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏79‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏الآية ‏[‏الأعراف‏:‏29‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عليها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏30‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏43‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏105‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم / للذي علمه دعاء النوم‏:‏ ‏(‏اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك‏)‏، وقال زيد ابن عمرو بن نفيل‏:‏

أسلمت وجهي لمن أسلمت ** لـــه المزن تحمل عذبــًا زلالا

فهذه ثلاثة ألفاظ‏:‏ أسلم وجهه، ووجَّه وجهه، وأقام وجهه‏.‏

قال قدماء المفسرين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَسْلَمَ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏112‏]‏ أي‏:‏ أخلص في دينه وعمله لله، وقال بعضهم‏:‏ فوَّض أمره إلى الله، وقد قيل‏:‏ خضع وتواضع لله‏.‏

وهذا الثالث يليق بالإسلام اللازم، فإن وجهه هو قصده، وتوجهه الذي هو أصل عمله، وهو عمل قلبه الذي هو ملك بدنه، فإذا توجه قلبه تبعه أيضا توجه وجهه، فاستتبع القصد الذي هو الأصل من القلب، الذي هو الأصل للعمل، الذي هو تبع من الوجه وسائر البدن الذي هو تبع، فيكون قد أسلم عمله الباطن والظاهر، وأعضاءه الباطنة والظاهرة لله، أي سلمه له، وأخلصه لله، كما في الإسلام اللازم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏131‏]‏، وقوله عن بلقيس ‏{‏إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏44‏]‏، وقوله عن إبراهيم وإسماعيل‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏128‏]‏ أي‏:‏ منقادة مخلصة‏.‏ وكذلك توجيه الوجه للذي فطر السموات والأرض‏:‏ توجيه قصده، وإرادته وعبادته، وذلك يستتبع الوجه وغيره، وإلا فمجرد توجيه العضو من غير عمل القلب لا يفيد شيئا‏.‏

/ قال الزجاج في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَّهْتُ وَجْهِيَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏79‏]‏، أي جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب العالمين، وكذلك قوله ‏{‏وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏29‏]‏، فإن الوجوه التي هي المقاصد، والنيات التي هي عمل القلب، وهي أصل الدين‏:‏ تارة تقام وتارة تزاغ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه‏)‏‏.‏ فإقامة الوجه ضد إزاغته وإمالته، وهو الصراط المستقيم‏.‏

فإذا قوم قصده وسدده ولم ينحرف يمينا ولا شمالا كان قصده لله رب العالمين، كما قال‏:‏ ‏{‏لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏35‏]‏، وكذلك قال الربيع بن أنس‏:‏ اجعلوا سجودكم خالصا لله، فلا تسجدوا إلا لله‏.‏

وروى عن الضحاك وابن قتيبة‏:‏ إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه، ولا يقولن أحدكم‏:‏ أصلي في مسجدي‏.‏ كأنه أراد‏:‏صلوا لله عند كل مسجد، لا تخصوا مسجدًا دون مسجد‏.‏

وعلى هذين القولين يتوجه ما ذكرناه‏.‏

وروي عن مجاهد والسدي وابن زيد‏:‏ توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة‏.‏

وعلى هذا، فإقامة الوجه استقبال الكعبة وهذا فيه نظر، فإن هذه الآية مكية، والكعبة إنما فرضت في المدينة، إلا أن يراد بإقامة الوجه الاستقبال المأمور به‏.‏

/وإنما وقع النزاع هنا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏29‏]‏، بخلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏30‏]‏‏.‏

فقوله‏:‏‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏88‏]‏ أي‏:‏ دينه وإرادته وعبادته، والمصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى، وهو قولهم‏:‏ ما أريد به وجهه، وهو نظير قوله‏:‏‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏‏[‏الأنبياء‏:‏22‏]‏‏.‏ فكُلُّ معبود دون الله باطل، وكل ما لا يكون لوجهه فهو هالك فاسد باطل، وسياق الآية يدل عليه وفيه المعنى الآخر‏.‏

فإن الإلهية تستلزم الربوبية، ولهذا قال‏:‏‏{‏لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏88‏]‏

وفي هذا قول آخر، يقوله كثير من أهل العلم‏:‏ أن الوجه في مثل قوله‏:‏ ‏{‏أَسْلَمَ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏112‏]‏ و‏{‏أَقِمْ وَجْهَكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏105‏]‏ و‏{‏وَجَّهْتُ وَجْهِيَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏79‏]‏‏:‏ هو الوجه الظاهر، كما أنه كذلك بالاتفاق في قوله‏:‏‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء‏}‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏144‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏‏.‏

وقد جاء الوجه في صفات الله في مواضع من الكتاب والسنة، ليس هذا موضعها‏.‏

قالوا‏:‏ لكن الوجه إذا وجه تبعه سائر الإنسان، وإذا أسلم فقد أسلم سائر الإنسان، وإذا أقيم فقد أقيم سائره؛ لأنه هو المتوجه أولا من الأعضاء الظاهرة للقاصد الطالب؛ ولهذا يذكر كثيرًا على وجه الاستلزام لسائر صاحبه، / ويعبر به عنه، لكن هل هذا من باب الحقيقة العرفية التي تقلب الاسم من الخصوص إلى العموم، أو الحقيقة اللغوية باقية، وهو من باب الدلالة اللزومية‏؟‏ فيه قولان‏.‏

وكذلك في سائر الأعضاء، حتى لو قال لعبده‏:‏ يدك، أو رجلك حر، أو قال لزوجته‏:‏ يدك أو رجلك طالق إن أعطيتني ألفًا، ثم قطع العضو قبل الإعطاء، فمن قال‏:‏ إن اللفظ عبارة عن الجميع أوقع الطلاق والعتق‏.‏ ومن قال‏:‏ إن الاسم للعضو فقط، لم يسر العتق عنده إلى سائر الجملة؛ لعدم تبعيضه‏.‏ وقال‏:‏إنه لا يقع شيء في هذه الصورة‏.‏

وإلى هذا الأصل يعود معني قول من قال‏:‏ كل شيء هالك إلا وجهه، كما قد قيل في قوله‏:‏‏{‏كُلُّ مَنْ عليها فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏26، 27‏]‏، فإن بقاء وجهه المذوى بالجلال والإكرام، هو بقاء ذاته‏.‏