فصل: حقيقة قوله وسر مذهب ابن عربي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وهذا حقيقة قوله، وسر مذهبه، الذي يدعى أنه به أعلم العالم بالله، وأنه تقدم بذلك على الصديق، الذي جهل فقال‏:‏ العجز عن درك الإدراك إدراك، وتقدم به على المرسلين، الذين ما علموا ذلك إلا من مشكاته، وفيه من أنواع الكفر والضلال ما يطول عدها‏:‏

منها‏:‏ الكفر بذات الله؛ إذ ليس عنده إلا وجود المخلوق‏.‏

/ومنها‏:‏ الكفر بأسماء الله؛ فإنها ليست عنده إلا أمور عدمية، فإذا قلنا‏:‏‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏2، 3‏]‏ فليس الرب عنده إلا نسبة إلى الثبوت‏.‏

السادس‏:‏ أنه قال‏:‏ فاختلط الأمر وانبهم، أو هو على أصله الفاسد مختلط منبهم، وعلى أصل الهدى والإيمان متميز متبين، قد بين الله بكتابه الحق من الباطل والهدى من الضلال‏.‏

قال‏:‏ فمنا من جهل في علمه فقال‏:‏ العجز عن درك الإدراك إدراك، وهذا الكلام مشهور عندهم نسبته إلى أبي بكر الصديق، فجعله جاهلا، وإن كان هذا اللفظ لم يحفظ عن أبي بكر، ولا هو مأثور عنه في شيء من النقول المعتمدة، وإنما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر نحوًا من ذلك عن بعض التابعين غير مسمى، وإنما يرسل عنه إرسالًا من جهة من يكثر الخطأ في مراسيلهم‏.‏

كما يحكون عن عمر أنه قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر إذا تخاطبا كنت كالزنجي بينهما‏.‏ وهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة‏.‏ وإنما الذي في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال‏:‏ ‏(‏إن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله‏)‏ فبكى أبو بكر، فقال‏:‏ بل نفديك بأنفسنا وأموالنا، أو كما قال‏.‏

فجعل الناس يقولون‏:‏ عجبا لهذا الشيخ، يبكي أن ذكر رسول الله/ صلى الله عليه وسلم عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة‏!‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به، فكان أبو بكر هو أعلمهم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقاصده في كلامه، وإن كانوا كلهم مشتركين في فهمه‏.‏

وهذا كما في الصحيح أنه قيل لعلى رضي الله عنه‏:‏ هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا‏؟‏ وفي لفظ‏:‏ هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس‏؟‏ فقال‏:‏ لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه، وما في هذه الصحيفة‏:‏ وفيها العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر‏.‏

وبهذا الحديث ونحوه من الأحاديث الصحيحة، استدل العلماء على أن كل ما يذكر عن على وأهل البيت، من أنهم اختصوا بعلم خصهم به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهم كذب عليهم، مثل ما يذكر منه الجَفْر، والبطاقة، والجدول، وغير ذلك وما يأثره القرامطة الباطنية عنهم، فإنه قد كذب على جعفر الصادق ـ رضي الله عنه ـ ما لم يكذب على غيره، وكذلك كذب على على ـ رضي الله عنه ـ وغيره من أئمة أهل البيت ـ رضي الله عنهم ـ كما قد بين هذا وبسط في غير هذا الموضع‏.‏

وهكذا يكذب قوم من النساك ومدعي الحقائق على أبي بكر وغيره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطبه بحقائق لا يفهمها عمر مع حضوره، ثم قد يدعون أنهم عرفوها، وتكون حقيقتها زندقة وإلحادًا‏.‏

/وكثير من هؤلاء الزنادقة والجهال قد يحتج على ذلك بحديث أبي هريرة، حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين‏:‏ أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا الحلقوم‏.‏ وهذا الحديث صحيح، لكن الجراب الآخر لم يكن فيه شيء من علم الدين، ومعرفة الله وتوحيده، الذي يختص به أولياءه‏.‏

ولم يكن أبو هريرة من أكابر الصحابة، الذين يخصون بمثل ذلك ـ لو كان هذا مما يخص به ـ بل كان في ذلك الجراب أحاديث الفتن، التي تكون بين المسلمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بما سيكون من الفتن التي تكون بين المسلمين، ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار‏.‏

ولهذا لما كان مقتل عثمان وفتنة ابن الزبير ونحو ذلك، قال ابن عمر‏:‏ لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم، وتهدمون البيت وغير ذلك، لقلتم‏:‏ كذب أبو هريرة، فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها؛ لأن ذلك مما لا يحتمله رؤوس الناس وعوامهم‏.‏

وكذلك قد يحتجون بحديث حذيفة بن اليمان، وأنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، وحديث حذيفة معروف، لكن السر الذي لا يعلمه غيره‏:‏ هو معرفته بأعيان المنافقين الذين كانوا في غزوة تبوك، ويقال‏:‏ إنهم كانوا هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم، فأخبر حذيفة بأعيانهم، ولهذا كان عمر لا يصلي إلا على من صلى عليه حذيفة؛ لأن الصلاة على المنافقين منهي عنها‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن حذيفة، أنه لما ذكر الفتن، وأنه أعلم الناس/ بها، بين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصه بحديثها، ولكن حدث الناس كلهم قال‏:‏ وكان أعلمنا أحفظنا‏.‏

ومما يبين هذا‏:‏ أن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عام الفتح قد أهدر دم جماعة‏:‏ منهم عبد الله بن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فتوقف عنه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم بايعه وقال‏:‏ ‏(‏أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلى، وقد أمسكت عن هذا فيضرب عنقه‏؟‏‏)‏‏.‏ فقال رجل من الأنصار‏:‏ يا رسول الله، هلا أومأت إلى‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين‏)‏‏.‏ فهذا ونحوه مما يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم يستوى ظاهره وباطنه، لا يظهر للناس خلاف ما يبطنه، كما تدعيه الزنادقة من المتفلسفة والقرامطة وضلال المتنسكة ونحوهم‏.‏

السابع‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏ومنا من علم فلم يقل مثل هذا، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم والسكوت ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلى عالم بالله، وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأولياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه، إلا من مشكاة خاتم الأولياء‏.‏

فإن الرسالة والنبوة ـ أعنى نبوة التشريع ورسالته ـ ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبدًا، فالمرسلون من كونهم أولىاء‏:‏ لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء‏؟‏ وإن كان خاتم الأولياء تابعا/ في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلى ـ إلى قوله‏:‏ ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن‏.‏

ففي هذا الكلام من أنواع الإلحاد والكفر، وتنقيص الأنبياء والرسل ما لا تقوله لا اليهود ولا النصارى، وما أشبه في هذا الكلام بما ذكر في قول القائل‏:‏ فخر عليهم السقف من تحتهم، أن هذا لا عقل ولا قرآن‏.‏

وكذلك ما ذكره هنا ـ من أن الأنبياء والرسل تستفيد من خاتم الأولياء الذي بعدهم ـ هو مخالف للعقل، فإن المتقدم لا يستفيد من المتأخر، ومخالف للشرع، فإنه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأنبياء والرسل أفضل من الأولياء، الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا‏.‏

وقد يزعم أن هذا العلم ـ الذي هو عنده ـ أعلى العلم ـ وهو القول بوحدة الوجود ـ وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، وحقيقة تعطيل الصانع وجحده، وهو القول الذي يظهره فرعون، فلم يكفه زعمه أن هذا حق، حتى زعم أنه أعلى العلم، ولم يكفه ذلك حتى زعم أن الرسل إنما يرونه من مشكاة خاتم الأولياء‏.‏

فجعل خاتم الأولياء أعلم بالله من جميع الأنبياء والرسل، وجعلهم يرون العلم بالله من مشكاته‏.‏

ثم أخذ يبين ذلك فقال‏:‏ فإن الرسالة والنبوة ـ أعني نبوة التشريع/ ورسالته ـ ينقطعان والولاية لا تنقطع أبدا‏.‏ فالمرسلون من كونهم أولىاء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف بالأولياء الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا‏؟‏ وذلك أنه لم يمكنهم أن يجعلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، فإن هذا كفر ظاهر، فزعموا أنه إنما تنقطع نبوة التشريع ورسالته، يعني‏:‏ وأما نبوة التحقيق ورسالة التحقيق ـ وهي الولاية عندهم ـ فلم تنقطع، وهذه الولاية عندهم هي أفضل من النبوة والرسالة؛ ولهذا قال ابن عربي في بعض كلامه‏:‏

مقام النبوة في برزخ ** فويق الرسول ودون الولي

وقال في الفصوص في ‏[‏كلمة عزيرية‏]‏‏:‏فإذا سمعت أحدًا من أهل الله تعالى يقول أو ينقل إليك عنه، أنه قال‏:‏الولاية أعلى من النبوة، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه‏.‏

أو يقول‏:‏ إن الولي فوق النبي والرسول، فإنه يعني بذلك في شخص واحد وهو أن الرسول ـ عليه السلام ـ من حيث هو ولي، أتم منه من حيث هو نبي ورسول، لا أن الولي التابع له أعلى منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدًا فيما هو تابع له فيه، إذ لو أدركه لم يكن تابعًا له‏.‏

وإذا حوققوا على ذلك قالوا‏:‏ إن ولاية النبي فوق نبوته، وإن نبوته فوق رسالته؛ لأنه يأخذ بولايته عن الله، ثم يجعلون مثل ولايته ثابتة لهم، ويجعلون ولاية خاتم الأولياء أعظم من ولايته، وأن ولاية الرسول تابعة لولاية خاتم الأولياء الذي ادعوه‏.‏

/وفي هذا الكلام أنواع قد بيناها في غير هذا الموضع‏:‏

منها‏:‏ أن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء على ما ادعوه باطل لا أصل له‏.‏

ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء، إلا أبو عبد الله محمد بن على الترمذي الحكيم، في كتاب ‏[‏ختم الولاية‏]‏ وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط، مخالف للكتاب والسنة والإجماع‏.‏

وهو ـ رحمه الله تعالى ـ وإن كان فيه فضل ومعرفة، و له من الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة، ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده، ومن أشنعها ما ذكره في كتاب ‏[‏ختم الولاية‏]‏، مثل دعواه فيه أنه يكون في المتأخرىن مَنْ درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر، وعمر، وغيرهما‏.‏

ثم إنه تناقض في موضع آخر، لما حكى عن بعض الناس أن الولي يكون منفردًا عن الناس، فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر وقال‏:‏ يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر، وأبطل ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ أنه ذكر في كتابه ما يشعر أن ترك الأعمال الظاهرة ـ ولو أنها التطوعات المشروعة ـ أفضل في حق الكامل ذي الأعمال القلبية، وهذا أيضا خطأ عند أئمة الطريق، فإن أكمل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وما زال محافظا على ما يمكنه من الأوراد والتطوعات البدنية إلى مماته‏.‏

/ومنها‏:‏ ما ادعاه من خاتم الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان، وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء‏.‏ وهذا ضلال واضح، فإن أفضل أولىاء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، وأمثالهم من السابقين الأولىن من المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة‏.‏

وخير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏)‏، وفي الترمذي وغيره أنه قال في أبي بكر وعمر‏:‏ ‏(‏هذان سيدا كهول أهل الجنة، من الأولىن والأخرىن، إلا النبيين والمرسلين‏)‏‏.‏ قال الترمذي حديث حسن‏.‏ وفي صحيح البخاري عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه قال له ابنه‏:‏ يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏يا بني، أبو بكر‏.‏ قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ ثم عمر وروى بضع وثمانون نفسا عنه أنه قال‏:‏ خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر‏.‏

وهذا باب واسع، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏69‏]‏، وهذه الأربعة هي مراتب العباد‏:‏ أفضلهم الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون‏.‏

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل أحد منا نفسه على يونس بن متى ـ مع قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏48‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏40‏]‏ ـ تنبيها على أن غيره أولى ألا يفضل أحد نفسه عليه، ففي صحيح البخاري عن ابن/ مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقولن أحدكم‏:‏ إني خير من يونس بن مَتَّى‏)‏‏.‏ وفي صحيح البخاري أيضا عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما ينبغي لعبد أن يكون خيرًا من يونس ابن متى‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏أن يقول‏:‏ أنا خير من يونس بن مَتى‏)‏، وفي البخاري أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ أنا خير من يونس بن متى، فقد كذب‏)‏، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ يعني رسول الله‏:‏ ‏(‏لا ينبغي لعبد أن يقول‏:‏ أنا خير من يونس بن متى‏)‏، ‏(‏وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ وفي لفظ‏:‏ فيما يرويه عن ربه ـ‏:‏ ‏(‏لا ينبغي لعبد أن يقول‏:‏ أنا خير من يونس بن متى‏)‏، وهذا فيه نهي عام‏.‏

وأما ما يرويه بعض الناس أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تفضلوني على يونس بن متى‏)‏، ويفسره باستواء حال صاحب المعراج، وحال صاحب الحوت، فنقل باطل وتفسير باطل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اثبت أُحُد فما عليك إلا نبي، أو صديق أو شهيد‏)‏، وأبو بكر أفضل الصديقين‏.‏

ولفظ خاتم الأولياء لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة، ولا أئمتها ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله، وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أولياء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ الآية ‏[‏يونس‏:‏62‏]‏، فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا‏.‏ وهم على درجتين‏:‏السابقون المقربون، وأصحاب اليمين المقتصدون، كما قسمهم الله ـ تعالى ـ في سورة فاطر، وسورة الواقعة، والإنسان، والمطففين‏.‏ /وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه‏)‏‏.‏

فالمتقربون إلى الله بالفرائض هم الأبرار المقتصدون أصحاب اليمين، والمتقربون إليه بالنوافل التي يحبها بعد الفرائض ـ هم السابقون المقربون، وإنما تكون النوافل بعد الفرائض‏.‏ وقد قال أبو بكر الصديق في وصىته لعمر بن الخطاب‏:‏ اعلم أن لله عليك حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقًا بالنهار لا يقبله بالليل، وأنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة‏.‏

والاتحادية يزعمون أن قرب النوافل يوجب أن يكون عين الحق عين أعضائه، وأن قرب الفرائض يوجب أن يكون الحق عين وجوده كله، وهذا فاسد من وجوه كثيرة، بل كفر صريح، كما بيناه في غير هذا الموضع‏.‏

وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا، فليس ذلك الرجل أفضل الأولياء، ولا أكملهم، بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم، الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم، فإنه كلما كان الولي أعظم اختصاصا بالرسول، وأخذا عنه وموافقة له كان أفضل، إذ الولي لا يكون وليا لله إلا بمتابعة الرسول باطنا وظاهرًا، فعلى قدر المتابعة للرسول يكون قدر الولاية لله‏.‏

/والأولياء، وإن كان فيهم محدّثون كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر‏)‏، فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر، وأبو بكر أفضل منه، إذ هو الصديق، فالمحدث ـ وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله ـ تعالى ـ فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة، فإنه ليس بمعصوم، كما قال أبو الحسن الشاذلي‏:‏ قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام‏.‏

ولهذا كان عمر بن الخطاب وقافًا عند كتاب الله، وكان أبو بكر الصديق يبين له أشياء تخالف ما يقع له، كما بين له يوم الحديبية، ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم قتال مانعي الزكاة وغير ذلك، وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة، فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه، وربما قال القول فترد عليه امرأة من المسلمين قوله، وتبين له الحق فيرجع إليها، ويدع قوله كما قدر الصداق، وربما يرى رأيا فيذكر له حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعمل به ويدع رأيه، وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة، وكان يقول القول، فيقال له‏:‏ أصبت، فيقول‏:‏ والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه‏؟‏

فإذا كان هذا إمام المحدثين، فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر، فليس فيهم معصوم، بل الخطأ يجوز عليهم كلهم، وإن/ كان طائفة تدعي أن الولي محفوظ، وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة، والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا، فهذا باطل مخالف للسنة والإجماع‏.‏

 ولهذا اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا متفاضلين في الهدى والنور والإصابة، ولهذا كان الصديق أفضل من المحدث؛ لأن الصديق يأخذ من مشكاة النبوة، فلا يأخذ إلا شيئا معصوما محفوظا‏.‏

وأما المحدث فيقع له صواب وخطأ، والكتاب والسنة تميز صوابه من خطئه، وبهذا صار جميع الأولياء مفتقرين إلى الكتاب والسنة، لابد لهم أن يزنوا جميع أمورهم بآثار الرسول، فما وافق آثار الرسول فهو الحق، وما خالف ذلك فهو باطل، وإن كانوا مجتهدين فيه، والله تعالى يثيبهم على اجتهادهم، ويغفر لهم خطأهم‏.‏

ومعلوم أن السابقين الأولىن أعظم اهتداء واتباعا للآثار النبوية، فهم أعظم إيمانا وتقوى، وأما آخر الأولياء فلا يحصل له مثل ما حصل لهم‏.‏

والحديث الذي يروى‏:‏ ‏(‏مثل أمتي كمثل الغيث لا يدري أوله خير أم آخره‏؟‏‏)‏، قد تكلم في إسناده، وبتقدير صحته إنما معناه‏:‏ يكون في آخر الأمة من يقارب أولها، حتى يشتبه على بعض الناس أيهما خير، كما يشتبه على بعض الناس طرفا الثوب، مع القطع بأن الأول خير من الآخر؛ ولهذا قال‏:‏ ‏[‏لا يدري‏]‏ ومعلوم أن هذا السلب ليس عاما لها، فإنه لابد أن يكون معلومًا أيهما أفضل‏.‏

/ثم إن هذا خاتم الأولياء صار مرتبة موهومة لا حقيقة له، وصار يدعيها لنفسه أو لشيخه طوائف، وقد ادعاها غير واحد، ولم يدعها إلا من في كلامه من الباطل ما لم تقله اليهود ولا النصارى، كما ادعاها صاحب الفصوص، وتابعه صاحب الكلام في الحروف، وشيخ من أتباعهم كان بدمشق، وآخر كان يزعم أنه المهدي، الذي يزوج بنته بعيسى ابن مريم، وأنه خاتم الأولياء، ويدعى هؤلاء وأمثالهم من الأمور ما لا يصلح إلا لله وحده، كما قد يدعي المدعي منهم لنفسه أو لشيخه ما ادعته النصارى في المسيح‏.‏

ثم صاحب الفصوص وأمثاله، بنوا الأمر على أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة الملك؛ فلهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة، وهذا باطل وكذب، فإن الولي لا يأخذ عن الله إلا بواسطة الرسول إليه، وإذا كان محدثا قد ألقى إليه شيء وجب عليه أن يزنه بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة‏.‏

وتكليم الله لعباده على ثلاثة أوجه‏:‏

من وراء حجاب، كما كلم موسى‏.‏

وبإرسال رسول، كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء‏.‏

وبالإيحاء، وهذا فيه للولي نصيب، وأما المرتبتان الأولياءن فإنهما للأنبياء خاصة، فالأولياء الذين قامت عليهم الحجة بالرسل لا يأخذون علم الدين إلا بتوسط رسل الله إليهم، ولو لم يكن إلا عرضه على ما جاء به الرسول/ ولن يصلوا في أخذهم عن الله إلى مرتبة نبي أو رسول، فكيف يكونون آخذين عن الله بلا واسطة، ويكون هذا الأخذ أعلى، وهم لا يصلون إلى مقام تكليم موسى، ولا إلى مقام نزول الملائكة عليهم، كما نزلت على الأنبياء‏؟‏ وهذا دين المسلمين، واليهود، والنصارى‏.‏

وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية، فبنوا على أصلهم الفاسد‏:‏ أن الله هو الوجود المطلق، الثابت لكل موجود، وصار ما يقع في قلوبهم من الخواطر ـ وإن كانت من وساوس الشيطان ـ يزعمون أنهم أخذوا ذلك عن الله بلا واسطة، وأنهم يكلمون كما كلم موسى ابن عمران، وفيهم من يزعمون أن حالهم أفضل من حال موسى بن عمران؛ لأن موسى سمع الخطاب من الشجرة، وهم ـ على زعمهم ـ يسمعون الخطاب من حي ناطق، كما يذكر عن صاحب الفصوص أنه قال‏:‏

وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علىنا نثره ونظامه

وأعانهم على ذلك ما اعتقدوه من مذاهب الجهمية وأتباعهم الذين يزعمون أن تكليم الله لموسى إنما كان من جنس الإلهام، وأن العبد قد يرى الله في الدنيا إذا زال عن عينه المانع؛ إذ لا حجاب عندهم للرؤية منفصل عن العبد، وإنما الحجاب متصل به، فإذا ارتفع شاهد الحق‏.‏

وهم لا يشاهدون إلا ما يتمثلونه، من الوجود المطلق، الذي لا حقيقة له إلا في أذهانهم، أو من الوجود المخلوق‏.‏ فيكون الرب المشهود عندهم ـ الذي/ يخاطبهم في زعمهم ـ لا وجود له إلا في أذهانهم، أو لا وجود له إلا وجود المخلوقات، وهذا هو التعطيل للرب تعالى، ولكتبه، ولرسله، والبدع دهليز الكفر والنفاق، كما أن التشيع دهليز الرفض، والرفض دهليز القرمطة والتعطيل، فالكلام الذي فيه تجهم هو دهليز التجهم، والتجهم دهليز الزندقة والتعطيل‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت‏)‏، ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله يرى في الآخرة، وأنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه‏.‏

وفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه كلام معروف لعائشة وابن عباس‏.‏ فعائشة أنكرت الرؤية، وابن عباس ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال‏:‏ رأى محمد ربه بفؤاده مرتين، وكذلك ذكر أحمد عن أبي ذر وغيره‏:‏ أنه أثبت رؤيته بفؤاده‏.‏ وهذا المنصوص عن ابن عباس وأبي ذر وغيرهما هو المنصوص عن أحمد وغيره من أئمة السنة، ولم يثبت عن أحد منهم إثبات الرؤية بالعين في الدنيا، كما لم يثبت عن أحد منهم إنكار الرؤية في الآخرة‏.‏

ولكن كلا القولين تقول به طوائف من الجهمية، فالنفي يقول به متكلمة الجهمية، والإثبات يقول به بعض متصوفة الجهمية، كالاتحادية، وطائفة من غيرهم، وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي والإثبات، كما يقول ابن سبعين‏:‏ عين ما ترى ذات لا تري، وذات لا ترى عين ما ترى، ونحو ذلك؛ لأن/ مذهبهم مستلزم الجمع بين النقيضين، فهم يقولون في عموم الكائنات ما قالته النصارى في المسيح، ولهذا تنوعوا في ذلك تنوع النصارى في المسيح‏.‏

ومن الأنواع التي في دعواهم أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، من بعض الوجوه، فإن هذا لم يقله أبو عبد الله الحكيم الترمذي، ولا غيره من المشايخ المعروفين، بل الرجل أجل قدرًا، وأعظم إيمانا، من أن يفترى هذا الكفر الصريح، ولكن أخطأ شبرًا، ففرعوا على خطئه ما صار كفرًا‏.‏

وأعظم من ذلك‏:‏ زعمهم أن الأولياء والرسل من حيث ولايتهم تابعون لخاتم الأولياء، وآخذون من مشكاته، فهذا باطل بالعقل والدين، فإن المتقدم لا يأخذ من المتأخر، والرسل لا يأخذون من غيرهم‏.‏

وأعظم من ذلك‏:‏ أنه جعلهم تابعين له في العلم بالله، الذي هو أشرف علومهم، وأظهر من ذلك‏:‏ أنه جعل العلم بالله هو مذهب أهل وحدة الوجود، القائلين بأن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق‏.‏

فليتدبر المؤمن هذا الكفر القبيح، درجة بعد درجة، واستشهاده على تفضيل غير النبي عليه بقصة عمر، وتأبير النخل، فهل يقول مسلم‏:‏ إن عمر كان أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم برأيه في الأسرى‏؟‏ أو أن الفلاحين الذين يحسنون صناعة التأبير أفضل من الأنبياء في ذلك‏؟‏ ثم ما قنع بذلك حتى قال‏:‏ فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل علم وكل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم‏.‏

/فقد زعم أنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن تقدمه عليه بالعلم بالله، وتقدم خاتم الأنبياء عليه بالتشريع فقط، وهذا من أعظم الكفر الذي يقع فيه غالية المتفلسفة، وغالية المتصوفة، وغالية المتكلمة، الذين يزعمون أنهم في الأمور العلمية أكمل من الرسل، كالعلم بالله ونحو ذلك، وأن الرسل إنما تقدموا عليهم بالتشريع العام، الذي جعل لصلاح الناس في دنياهم‏.‏

وقد يقولون‏:‏ إن الشرائع قوانين عدلية، وضعت لمصلحة الدنيا، فأما المعارف والحقائق والدرجات العالية في الدنيا والآخرة، فيفضلون فيها أنفسهم، وطرقهم على الأنبياء، وطرق الأنبياء‏.‏

وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين‏:‏ أن هذا من أعظم الكفر والضلال، وكان ذلك من سبب جحد حقائق ما أخبرت به الرسل، من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر، وزعمهم أن ما يقوله هؤلاء في هذا الباب هو الحق‏.‏

وصاروا في أخبار الرسل، تارة يكذبونها، وتارة يحرفونها، وتارة يفوضونها، وتارة يزعمون أن الرسل كذبوا لمصلحة العموم‏.‏

ثم عامة الذين يقولون هذه المقالات، يفضلون الأنبياء والرسل على أنفسهم، إلا الغالية منهم ـ كما تقدم ـ فهؤلاء من شر الناس قولا واعتقادًا‏.‏

وقد كان عندنا شيخ من أجهل الناس، كان يعظمه طائفة من الأعاجم، ويقال‏:‏ إنه خاتم الأولياء، يزعم أنه يفسر العلم بوجهين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فسره بوجه واحد، وأنه هو أكمل من النبي صلى الله عليه وسلم، / وهذا تلقاه من صاحب الفصوص، وأمثال هذا في هذه الأوقات كثيرون، وسبب ضلال المتفلسفة، وأهل التصوف والكلام، الموافقة لضلالهم، وليس هذا موضع الإطناب في بيان ضلال هذا، وإنما الغرض التنبيه على أن صاحب الفصوص وأمثاله قالوا قول هؤلاء‏.‏

فأما كفر من يفضل نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر صاحب الفصوص ـ فظاهر، ولكن من هؤلاء من لا يرى ذلك، ولكن يرى أن له طريقًا إلى الله غير اتباع الرسول، ويسوغ لنفسه اتباع تلك الطريق وإن خالف شرع الرسول، ويحتجون بقصة موسى والخضر‏.‏

ولا حجة فيها لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباع موسى، فإن موسى كان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، ولهذا جاء في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏أن موسى لما سلم على الخضر قال‏:‏ وإني بأرضك السلام‏؟‏ قال‏:‏ أنا موسى، قال‏:‏ موسى بني إسرائيل‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه‏)‏‏.‏

ولهذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فضلنا على الناس بخمس‏:‏جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأي رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى/الناس عامة‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي‏:‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة‏)‏، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏28‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏158‏]‏‏.‏ فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى جميع الثقلين‏:‏ إنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، ملوكهم وزهادهم، الأولياء منهم وغير الأولياء، فليس لأحد الخروج عن متابعته باطنا وظاهرًا، ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة، في دقيق ولا جليل، لا في العلوم ولا الأعمال، وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى، وأما موسى فلم يكن مبعوثًا إلى الخضر‏.‏

الثاني‏:‏ أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة، بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة، إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر، ولهذا لما بين أسبابها لموسى وافقه على ذلك، ولو كان مخالفًا لشريعته لم يوافقه بحال‏.‏

وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع، فإن خرق السفينة مضمونه‏:‏ أن المال المعصوم يجوز للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه، فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية، كما جاز للراعي ـ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ أن يذبح الشاة، التي خاف عليها الموت، وقصة الغلام مضمونها‏:‏ جواز قتل الصبي الصائل؛ ولهذا قال ابن عباس لنجدة‏:‏ وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر/ من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم‏.‏ وأما إقامة الجدار ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة، إذا كان لذرية قوم صالحين‏.‏

الوجه الثامن‏:‏ أنه قال‏:‏ ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط إلى آخر كلامه وهو متضمن أن العلم نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ علم الشريعة، وهو يأخذ عن الله كما يأخذ النبي، فإنه قال‏:‏ والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضية، وهو ظاهره، وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة، متبع فيه؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلابد أن يراه هكذا‏.‏

وهذا الذي زعمه ـ من أن الولي يأخذ عن الله في السر ما يتبع فيه الرسل كأئمة العلماء مع أتباعهم ـ فيه من الإلحاد ما لا يخفي على من يؤمن بالله ورسله، فإن هذا يدعي أنه أوتي مثل ما أوتي رسل الله، ويقول‏:‏ إنه أوحي إلى ولم يوح إليه شيء، ويجعل الرسل بمنزلة معلمي الطب والحساب والنحو وغير ذلك، إذا عرف المتعلم الدليل الذي قال به معلمه، فينبغي موافقته له لمشاركته له في العلم لا لأنه رسول وواسطة من الله إليه في تبليغ الأمر والنهي‏.‏

وهذا الكفر يشبه كفر مسيلمة الكذاب ونحوه ممن يدعي أنه مشارك للرسول في الرسالة وكان يقول مؤذنه‏:‏ أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله‏.‏

/والنوع الثاني‏:‏ علم الحقيقة، وهو فيه فوق الرسول، كما قال‏:‏ هو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول، فقد ادعى أن هذا العلم الذي هو موضع اللبنة الذهبية ـ وهو علم الباطن والحقيقة ـ هو فيه فوق الرسول؛ لأنه يأخذه من حيث يأخذ الملك العلم الذي يوحى به إلى الرسول، والرسول يأخذه من الملك، وهو يأخذه من فوق الملك، من حيث يأخذه الملك، وهذا فوق دعوى مسيلمة الكذاب، فإن مسيلمة لم يدع أنه أعلى من الرسول، في علم من العلوم الإلهية، وهذا ادعى أنه فوقه في العلم بالله‏.‏

ثم قال‏:‏ فإن فهمت ما أشرت به، فقد حصل لك العلم النافع‏.‏ ومعلوم أن هذا الكفر فوق كفر اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى لا ترضي أن تجعل أحدًا من المؤمنين فوق موسى وعيسى، وهذا يزعم أنه هو وأمثاله ممن يدعى أنه خاتم الأولياء أنه فوق جميع الرسل، وأعلم بالله من جميع الرسل، وعقلاء الفلاسفة لا يرضون بهذا، وإنما يقول مثل هذا غلاتهم، وأهل الحمق منهم، الذين هم من أبعد الناس عن العقل والدين‏.‏

التاسع‏:‏ قوله‏:‏ فكل نبي من لدن آدم - إلى آخر الفصل - تضمن أن جميع الأنبياء والرسل لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم النبيين، ليوطن لنفسه بذلك أن جميع الأنبياء لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم الأولياء، / وكلاهما ضلال، فإن الرسل ليس منهم أحد يأخذ من آخر، إلا من كان مأمورًا باتباع شريعته، كأنبياء بني إسرائيل، والرسل الذين بعثوا فيهم الذين أمروا باتباع التوراة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ِ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏44‏]‏‏.‏

وأما إبراهيم، فلم يأخذ عن موسى وعيسى‏.‏ ونوح لم يأخذ عن إبراهيم‏.‏ ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى لم يأخذوا عن محمد، وإن بشروا به وآمنوا به، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏81‏]‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد، وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه‏.‏

العاشر‏:‏ قوله‏:‏ فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله‏:‏ ‏(‏كنت نبيا وآدم بين الماء والطين‏)‏‏.‏ بخلاف غيره من الأنبياء، وكذلك خاتم الأولياء، كان وليًا وآدم بين الماء والطين، كذب واضح، مخالف لإجماع أئمة الدين، وإن كان هذا يقوله طائفة من أهل الضلال والإلحاد‏.‏

فإن الله علم الأشياء، وقدرها قبل أن يكونها، ولا تكون موجودة بحقائقها إلا حين توجد، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم، ولم تكن حقيقته صلىالله عليه وسلم موجودة قبل أن يخلق، إلا كما كانت حقيقة غيره، بمعنى أن الله علمها وقدرها‏.‏

لكن كان ظهور خبره واسمه مشهورًا أعظم من غيره، فإنه كان مكتوبًا / في التوراة والإنجيل وقبل ذلك، كما روى الإمام أحمد في مسنده، عن العِرْباض بن سارية، عن النبي صلىالله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إني لعبد الله، مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك‏:‏ دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام‏)‏‏.‏

وحديث ميسرة الفجر‏:‏ قلت يا رسول الله، متى كنت نبيًا‏؟‏ـ وفي لفظ‏:‏ متي كتبت نبيًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وآدم بين الروح والجسد‏)‏ وهذا لفظ الحديث‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏كنت نبيا وآدم بين الماء والطين‏)‏ فلا أصل له، لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث بهذا اللفظ، وهو باطل، فإنه لم يكن بين الماء والطين، إذ الطين؛ ماء وتراب، ولكن لما خلق الله جسد آدم قبل نفخ الروح فيه، كتب نبوة محمد صلىالله عليه وسلم وقدرها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود، قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلىالله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق‏:‏ ‏(‏إن خلق أحدكم يجعل في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال‏:‏ اكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقيًا أو سعيدًا، ثم ينفخ فيه الروح‏)‏، وروى أنه كتب اسمه على ساق العرش، ومصاريع الجنة‏.‏ فأين الكتاب والتقدير من وجود الحقيقة‏؟‏

وما يروى في هذا الباب من الأحاديث، هو من هذا الجنس، مثل كونه كان نورًا يسبح حول العرش، أو كوكبًا يطلع في السماء ونحو ذلك، كما ذكره/ ابن حمويه ـ صاحب ابن عربي ـ وذكر بعضه عمر الملا في وسيلة المتعبدين، وابن سبعين وأمثالهم، ممن يروي الموضوعات المكذوبات، باتفاق أهل المعرفة بالحديث‏.‏

فإن هذا المعنى رووا فيه أحاديث كلها كذب، حتى إنه اجتمع بي قديما شيخ معظم، من أصحاب ابن حمويه، يسميه أصحابه سلطان الأقطاب، وتفاوضنا في كتاب الفصوص، وكان معظما له ولصاحبه، حتى أبديت له بعض ما فيه، فهاله ذلك، وأخذ يذكر مثل هذه الأحاديث، فبينت له أن هذا كله كذب‏.‏

الحادي عشر‏:‏ قوله‏:‏ وخاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين ـ إلى قوله‏:‏ فخاتم الرسل من حيث ولايته، نسبته مع الختم للولاية، كنسبة الأولياء والرسل معه ـ إلى آخر الكلام ـ ذكر فيه ما تقدم من كون رسول الله صلىالله عليه وسلم مع هذا الختم المدعى كسائر الأنبياء والرسل معه يأخذ من مشكاته العلم بالله، الذي هو أعلى العلم، وهو وحدة الوجود، إنه مقدم الجماعة، وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة‏.‏ فعين حالا خاصا ما عمم ـ إلى قوله‏:‏ ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص‏.‏

فكذب على رسول الله صلىالله عليه وسلم في قوله‏:‏ إنـه قال‏:‏ أنا سيد ولد آدم في الشفاعة خاصة، وألحد وافترى من حيث زعم أنه سيد في الشفاعة فقط، لا في بقية المراتب، بخلاف الختم المفترى، فإنه سيد في العلم بالله، وغير ذلك من المقامات‏.‏

/ولقد كنت أقول‏:‏ لو كان المخاطب لنا من يفضل إبراهيم، أو موسى، أو عيسى على محمد صلىالله عليه وسلم، لكانت مصيبة عظيمة لا يحتملها المسلمون، فكيف بمن يفضل رجلا من أمة محمد على محمد، وعلى جميع الأنبياء والرسل في أفضل العلوم‏؟‏‏!‏ ويدعي أنهم يأخذون ذلك من مشكاته‏؟‏ وهذا العلم هو غاية الإلحاد والزندقة‏.‏

وهذا المفضل من أضل بني آدم، وأبعدهم عن الصراط المستقيم، وإن كان له كلام كثير، ومصنفات متعددة، وله معرفة بأشياء كثيرة، وله استحواذ على قلوب طوائف من أصناف المتفلسفة، والمتصوفة، والمتكلمة، والمتفقهة، والعامة، فإن هذا الكلام من أعظم الكلام ضلالا، عند أهل العلم والإيمان‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد تبين أن في هذا الكلام من الكفر، والتنقيص بالرسل، والاستخفاف بهم، والغض منهم، بل والكفر بهم، وبما جاؤوا به، ما لا يخفى على مؤمن، وقد حدثني أحد أعيان الفضلاء‏:‏ أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري ـ رحمة الله عليه ـ يقول‏:‏ رأيت ابن عربي ـ وهو شيخ نجس ـ يكذب بكل كتاب أنزله الله، وبكل نبي أرسله الله‏.‏ ولقد صدق فيما قال، ولكن هذا بعض الأنواع التي ذكرها من الكفر‏.‏

وكذلك قول أبي محمد بن عبد السلام‏:‏ هو شيخ سوء، مقبوح كذاب، /يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا، هو حق عنه، لكنه بعض أنواع ما ذكره من الكفر، فإن قوله لم يكن قد تبين له حاله وتحقق، وإلا فليس عنده رب وعالم، كما تقوله الفلاسفة الإلهيون، الذين يقولون بواجب الوجود، وبالعالم الممكن، بل عنده وجود العالم هو وجود الله، وهذا يطابق قول الدهرية الطبائعية، الذين ينكرون وجود الصانع مطلقا، ولا يقرون بوجود واجب غير العالم‏.‏

كما ذكر الله عن فرعون وذويه، وقوله مطابق لقول فرعون، لكن فرعون لم يكن مقرًا بالله، وهؤلاء يقرون بالله، ولكن يفسرونه بالوجود، الذي أقر به فرعون، فهم أجهل من فرعون وأضل، وفرعون أكفر منهم؛ إذ في كفره من العناد والاستكبار ما ليس في كفرهم، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏14‏]‏، وقال له موسى‏:‏‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏102‏]‏‏.‏

وجماع أمر صاحب الفصوص وذويه‏:‏ هدم أصول الإيمان الثلاثة، فإن أصول الإيمان‏:‏ الإيمان بالله، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر‏.‏

فأما الإيمان بالله‏:‏ فزعموا أن وجوده وجود العالم، ليس للعالم صانع غير العالم‏.‏

وأما الرسول‏:‏ فزعموا أنهم أعلم بالله منه، ومن جميع الرسل، ومنهم من/ يأخذ العلم بالله ـ الذي هو التعطيل ووحدة الوجود ـ من مشكاته، وأنهم يساوونه في أخذ العلم بالشريعة عن الله‏.‏

وأما الإيمان باليوم الآخر‏:‏فقد قال‏:‏

فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ** وبالوعيد الحق عين تعاين

وإن دخلوا دار الشقاء فإنهــــم ** على لذة فيها نعيم يباين

وهذا يذكر عن بعض أهل الضلال قبله أنه قال‏:‏ إن النار تصير لأهلها طبيعة نارية يتمتعون بها، وحينئذ فلا خوف ولا محذور ولا عذاب؛ لأنه أمر مستعذب‏.‏ ثم إنه في الأمر والنهي عنده الآمر، والناهي، والمأمور، والمنهي واحد، ولهذا كان أول ما قاله في الفتوحات المكية التي هي أكبر كتبه‏:‏

الرب حق، والعبد حق ** يا ليت شعري من المكلف ‏؟‏

إن قلت عبد فــذاك رب ** أو قلـت رب أني يكلـف ‏؟‏

وفي موضع آخر‏:‏ ‏[‏فذاك ميت‏]‏ رأيته بخطه‏.‏

وهذا مبني على أصله، فإن عنده ما ثم عبد ولا وجود إلا وجود الرب، فمن المكلف‏؟‏ وعلى أصله هو المكلِّف والمكلَّف كما يقولون‏:‏ أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا‏.‏

/وكما قال ابن الفارض في قصيدته ـ التي نظمها على مذهبهم، وسماها نظم السلوك‏:‏

إلىَّ رسولا كنت مني مرسلا ** وذاتي بآياتي على استدلت

ومضمونها‏:‏ هو القول بوحدة الوجود، وهو مذهب ابن عربي، وابن سبعين، وأمثالهم، كما قال‏:‏

لها صـلاتي، بالمقــــام أقيمـهـا ** وأشـهـد فيــها أنـهـا لي صلت

كلانا مصل، عابد ساجـد إلـى ** حـقيـقــة الجـمع في كـل سجـــدة

وما كان لي صلى سواي، فلم تكن ** صلاتي لغيري، في أدا كـل ركعـة

إلى قوله‏:‏

وما زلت إياها، وإياي لم تــزل ** ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبـــت

ومثل هذا كثير، والله أعلم‏.‏

وحدثني صاحبنا الفقيه الصوفي، أبو الحسن على بن قرباص‏:‏ أنه دخل على الشيخ قطب الدين بن القسطلاني، فوجده يصنف كتابا‏.‏ فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال‏:‏ هذا في الرد على ابن سبعين، وابن الفارض، وأبي الحسن الجزلي، والعفيف التلمساني‏.‏

وحدثني عن جمال الديـن بـن واصل، وشمس الديـن الأصبهاني‏:‏ أنهما كانـا /ينكران كلام ابن عربي ويبطلانه، ويردان عليه، وأن الأصبهاني رأي معه كتابًا من كتبه فقال له‏:‏ إن اقتنيت شيئا من كتبه فلا تجئ إلى، أو ما هذا معناه‏.‏

وإن ابن واصل لما ذكر كلامه في التفاحة، التي انقلبت عن حوراء فتكلم معها أو جامعها فقال‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو، يكذب‏.‏ ولقد بر في يمينه‏.‏

وحدثني صاحبنا العالم الفاضل أبو بكر بن سالار‏:‏ عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد ـ شيخ وقته ـ عن الإمام أبي محمد بن عبد السلام، أنهم سألوه عن ابن عربي، لما دخل مصر، فقال‏:‏ شيخ سوء كذاب مقبوح، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا‏.‏ وكان تقي الدين يقول‏:‏ هو صاحب خيال واسع‏.‏ حدثني بذلك غير واحد من الفقهاء المصريين ممن سمع كلام ابن دقيق العيد‏.‏

وحدثني ابن بحير عن رشيد الدين سعيد وغيره أنه قال‏:‏ كان يستحل الكذب، هذا أحسن أحواله‏.‏

وحدثني الشيخ العالم العارف، كمال الدين المراغي، شيخ زمانه، أنه لما قدم وبلغه كلام هؤلاء في التوحيد قال‏:‏ قرأت على العفيف التلمساني من كلامهم شيئا، فرأيته مخالفًا للكتاب والسنة، فلما ذكرت ذلك له قال‏:‏ القرآن ليس فيه توحيد، بل القرآن كله شرك، ومن اتبع القرآن لم يصل إلى التوحيد، قال‏:‏ فقلت له‏:‏ ما الفرق عندكم بين الزوجة، والأجنبية، والأخت، الكل واحد‏؟‏/قال‏:‏لا فرق بين ذلك عندنا، وإنما هؤلاء المحجوبون اعتقدوه حراما، فقلنا‏:‏ هو حرام عليهم عندهم، وأما عندنا فما ثم حرام‏.‏

وحدثني كمال الدين المراغي، أنه لما تحدث مع التلمساني في هذا المذهب قال ـ وكنت أقرأ عليه في ذلك‏:‏ فإنهم كانوا قد عظموه عندنا، ونحن مشتاقون إلى معرفة ‏[‏فصوص الحكم‏]‏ فلما صار يشرحه لي أقول‏:‏ هذا خلاف القرآن والأحاديث، فقال‏:‏ ارم هذا كله خلف الباب، واحضر بقلب صاف، حتى تتلقى هذا التوحيد ـ أو كما قال ـ ثم خاف أن أشيع ذلك عنه، فجاء إليَّ باكيا وقال‏:‏ اسْتُر عني ما سمعتَه مني‏.‏

وحدثني ـ أيضا ـ كمال الدين، أنه اجتمع بالشيخ أبي العباس الشاذلي، تلميذ الشيخ أبي الحسن، فقال عن التلمساني‏:‏ هؤلاء كفار، هؤلاء يعتقدون أن الصنعة هي الصانع‏.‏

قال‏:‏ وكنت قد عزمت على أن أدخل الخلوة على يده، فقلت‏:‏ أنا لا آخذ عنه هذا، وإنما أتعلم منه أدب الخلوة، فقال لي‏:‏ مثلك مثل من يريد أن يتقرب إلى السلطان، على يد صاحب الأتون والزبال، فإذا كان الزبال هو الذي يقربه إلى السلطان، كيف يكون حاله عند السلطان‏؟‏

وحدثنا ـ أيضا ـ قال‏:‏ قال لي قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد‏:‏ إنما استولت التتار على بلاد المشرق، لظهور الفلسفة فيهم، وضعف/ الشريعة، فقلت له‏:‏ ففي بلادكم مذهب هؤلاء الذين يقولون بالاتحاد، وهو شر من مذهب الفلاسفة‏؟‏ فقال‏:‏ قول هؤلاء لا يقوله عاقل، بل كل عاقل يعلم فساد قول هؤلاء ـ يعني أن فساده ظاهر ـ فلا يذكر هذا فيما يشتبه على العقلاء، بخلاف مقالة الفلاسفة، فإن فيها شيئا من المعقول، وإن كانت فاسدة‏.‏

وحدثني تاج الدين الأنباري، الفقيه المصري الفاضل، أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول‏:‏ رأيت ابن عربي شيخا مخضوب اللحية، وهو شيخ نجس، يكفر بكل كتاب أنزله الله، وكل نبي أرسله الله‏.‏

وحدثني الشيخ رشيد الدين بن المعلم أنه قال‏:‏ كنت وأنا شاب بدمشق أسمع الناس يقولون عن ابن عربي، والخسروشاهي‏:‏ إن كليهما زنديق ـ أوكلامًا هذا معناه‏.‏ وحدثني عن الشيخ إبراهيم الجعبري‏:‏ أنه حضر ابن الفارض عند الموت وهو ينشد‏:‏

إن كان منزلتي في الحب عندكم ** ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

أمنية ظفرت نفسي بها زمــنا ** واليوم أحسبها أضغاث أحـلام

وحدثني الفقيه الفاضل تاج الدين الأنباري، أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول‏:‏ رأيت في منامي ابن عربي، وابن الفارض، وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران، ويقولان‏:‏ كيف الطريق‏؟‏ أين الطريق ‏؟‏

/وحدثني شهاب الدين المزي، عن شرف الدين بن الشيخ نجم الدين بن الحكيم عن أبيه أنه قال‏:‏ قدمت دمشق فصادفت موت ابن عربي، فرأيت جنازته كأنما ذر عليها الرماد، فرأيتها لا تشبه جنائز الأولياء ـ أو قال‏:‏ فعلمت أن هذه أو نحو هذا‏.‏ وعن أبيه عن الشيخ إسماعيل الكوراني أنه كان يقول‏:‏ ابن عربي شيطان‏.‏ وعنه أنه كان يقول عن الحريري‏:‏ إنه شيطان‏.‏

وحدثني شهاب الدين عن القاضي شرف الدين البازيلي، أن أباه كان ينهاه عن كلام ابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين‏.‏