فصل: سئل شيخ الإسلام في رجلين تنازعا في ‏(‏حديث النزول‏)‏‏:‏ أحدهما مثبت، والآخر ناف‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ قدس اللّه روحه‏:‏

ما يقول سيدنا وشيخنا ـ شيخ الإسلام وقدوة الأنام ـ أيده اللّه ورضي عنه ـ في رجلين تنازعا في ‏[‏حديث النزول‏]‏‏:‏ أحدهما مثبت، والآخر ناف‏.‏

فقال المثبت‏:‏ ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فقال النافي‏:‏ كيف ينزل‏؟‏ فقال المثبت‏:‏ ينزل بلا كيف، فقال النافي‏:‏ يخلو منه العرش أم لا يخلو‏؟‏ فقال المثبت‏:‏ هذا قول مبتدع ورأى مخترع، فقال النافي‏:‏ ليس هذا جوابي، بل هوحَيْدة ‏[‏الحَيْدة‏:‏ البعد والتنحي‏]‏‏.‏عن الجواب، فقال له المثبت‏:‏ هذا جوابك، فقال النافي‏:‏ إنما ينزل أمره ورحمته، فقال المثبت‏:‏ أمره ورحمته ينزلان كل ساعة، والنزول قد وقت له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلث الليل الآخر، فقال النافي‏:‏ الليل لا يستوى وقته في البلاد، فقد يكون الليل في بعض البلاد /خمس عشرة ساعة ونهارها تسع ساعات، ويكون في بعض البلاد ست عشرة ساعة والنهار ثماني ساعات، وبالعكس، فوقع الاختلاف في طول الليل وقصره بحسب الأقاليم والبلاد، وقد يستوى الليل والنهار في بعض البلاد، وقد يطول الليل في بعض البلاد حتى يستوعب أكثر الأربع والعشرين ساعة، ويبقي النهار عندهم وقت يسير؛ فيلزم على هذا أن يكون ثلث الليل دائمًا، ويكون الرب دائما نازلًا إلى السماء‏,‏

والمسؤول إزالة الشبه والإشكال، وقمع أهل الضلال‏.‏

فأجاب ـ رضي اللّه عنه‏:‏

الحمد للّه رب العالمين‏,‏ أما القائل الأول الذي ذكر نص النبى صلى الله عليه وسلم فقد أصاب فيما قال، فإن هذا القول الذي قاله قد استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واتفق سلف الأمة وأئمتها وأهل العلم بالسنة والحديث على تصديق ذلك وتلقيه بالقبول‏,‏ ومن قال ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فقوله حق وصدق‏,‏ وإن كان لا يعرف حقيقة ما اشتمل عليه من المعاني؛ كمن قرأ القرآن ولم يفهم ما فيه من المعاني؛ فإن أصدق الكلام كلام اللّه، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وأمثاله علانية، وبلغه الأمة تبليغًا عامًا لم يخص به أحدًا دون أحد، ولا كتمه عن أحد، وكانت الصحابة والتابعون تذكره وتؤثره وتبلغه /وترويه في المجالس الخاصة والعامة، واشتملت عليه كتب الإسلام التي تقرأ في المجالس الخاصة والعامة، كصحيحي البخاري ومسلم، و‏[‏موطأ مالك‏]‏، و‏[‏مسند الإمام أحمد‏]‏، و‏[‏سنن أبي داود‏]‏، و‏[‏الترمذي‏]‏، و‏[‏النسائي‏]‏، وأمثال ذلك من كتب المسلمين‏.‏

لكن من فهم من هذا الحديث وأمثاله ما يجب تنزيه اللّه عنه، كتمثيله بصفات المخلوقين، ووصفه بالنقص المنافي لكماله الذي يستحقه، فقد أخطأ في ذلك، وإن أظهر ذلك منع منه، وإن زعم أن الحديث يدل على ذلك ويقتضيه فقد أخطأ ـ أيضًا ـ في ذلك‏.‏

فإن وصفه ـ سبحانه وتعالى ـ في هذا الحديث بالنزول هو كوصفه بسائر الصفات؛ كوصفه بالاستواء إلى السماء وهي دخان، ووصفه بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، ووصفه بالإتيان والمجىء في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏210‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏158‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏‏[‏الفجر‏:‏22‏]‏، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏59‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏47‏]‏، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ‏}‏‏[‏الروم‏:‏40‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ‏}‏‏[‏السجدة‏:‏5‏]‏، وأمثال ذلك من الأفعال التي /وصف اللّه ـ تعالى ـ بها نفسه التي تسميها النحاة أفعالًا متعدية، وهي غالب ما ذكر في القرآن، أو يسمونها لازمة لكونها لا تنصب المفعول به، بل لا تتعدى إليه إلا بحرف الجر، كالاستواء إلى السماء وعلى العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، ونحو ذلك‏,‏

فإن اللّه وصف نفسه بهذه الأفعال، ووصف نفسه بالأقوال اللازمة والمتعدية في مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏30‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 461‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏22‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ‏}

‏[‏القصص‏:‏65‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏87‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏23‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏137‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏115‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏‏.‏

وكذلك وصف نفسه بالعلم، والقوة، والرحمة، ونحو ذلك، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏58‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏، ونحو ذلك مما وصف به نفسه في كتابه وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن القول في جميع ذلك من جنس واحد‏.‏

/ومذهب سلف الأمة وأئمتها‏:‏ أنهم يصفونه بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في النفي والإثبات‏.‏

واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ قد نفي عن نفسه مماثلة المخلوقين، فقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏، فبين أنه لم يكن أحد كفوًا له، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏65‏]‏، فأنكر أن يكون له سميّ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏74‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏‏.‏

ففيما أخبر به عن نفسه، من تنزيهه عن الكفء، والسَّمِيّ، والمثل، والنِّدّ، وضرب الأمثال له؛ بيان أن لا مثل له في صفاته، ولا أفعاله، فإن التماثل في الصفات والأفعال يتضمن التماثل في الذات‏.‏ فإن الذاتين المختلفتين يمتنع تماثل صفاتهما وأفعالهما؛ إذ تماثل الصفات والأفعال يستلزم تماثل الذوات، فإن الصفة تابعة للموصوف بها، والفعل ـ أيضًا ـ تابع للفاعل، بل هو مما يوصف به الفاعل‏.‏ فإذا كانت الصفتان متماثلتين كان الموصوفان متماثلين، حتى إنه يكون بين الصفات من التشابه والاختلاف بحسب ما بين الموصوفين، كالإنسانين كما كانا من نوع واحد، فتختلف مقاديرهما وصفاتهما بحسب اختلاف ذاتيهما، ويتشابه ذلك بحسب تشابه ذلك‏.‏

كذلك إذا قيل‏:‏ بين الإنسان والفرس تشابه، من جهة أن هذا حيوان وهذا /حيوان، واختلاف من جهة أن هذا ناطق وهذا صاهل، وغير ذلك من الأمور، كان بين الصفتين من التشابه والاختلاف بحسب ما بين الذاتين؛ وذلك أن الذات المجردة عن الصفة لا توجد إلا في الذهن، فالذهن يقدر ذاتًا مجردة عن الصفة، ويقدر وجودًا مطلقًا لا يتعين، وأما الموجودات في أنفسها فلا يمكن فيها وجود ذات مجردة عن كل صفة، ولا وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص‏,‏ وإذا قال من قال من أهل الإثبات للصفات‏:‏‏[‏أنا أثبت صفات اللّه زائدة على ذاته‏]‏‏:‏ فحقيقة ذلك أنا نثبتها زائدة على ما أثبتها النفاة من الذات‏.‏ فإن النفاة اعتقدوا ثبوت ذات مجردة عن الصفات، فقال أهل الإثبات‏:‏ نحن نقول بإثبات صفات زائدة على ما أثبته هؤلاء‏.‏

وأما الذات نفسها الموجودة فتلك لا يتصور أن تتحقق بلا صفة أصلًا، بل هذا بمنزلة من قال‏:‏ أثبت إنسانًا، لا حيوانًا، ولا ناطقًا، ولا قائمًا بنفسه، ولا بغيره، ولا له قدرة، ولا حياة، ولا حركة، ولا سكون، أو نحو ذلك، أو قال‏:‏ أثبت نخلة ليس لها ساق، ولا جذْع، ولا لِيفٌ، ولا غير ذلك؛ فإن هذا يثبت ما لا حقيقة له في الخارج، ولا يعقل؛ ولهذا كان السلف والأئمة يسمون نفاة الصفات ‏[‏مُعَطِّلَة‏]‏؛ لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات اللّه ـ تعالى ـ وإن كانوا هم قد لا يعلمون أن قولهم مستلزم للتعطيل، بل يصفونه بالوصفين المتناقضين فيقولون‏:‏ هو موجود قديم واجب، ثم ينفون /لوازم وجوده، فيكون حقيقة قولهم‏:‏ موجود ليس بموجود، حق ليس بحق، خالق ليس بخالق، فينفون عنه النقيضين، إما تصريحًا بنفيهما، وإما إمساكا عن الإخبار بواحد منهما‏.‏

ولهذا كان محققوهم ـ وهم القرامطة ـ ينفون عنه النقيضين، فلا يقولون‏:‏ موجود ولا لا موجود، ولا حي ولا لا حي، ولا عالم ولا لاعالم‏,‏ قالوا‏:‏ لأن وصفه بالإثبات تشبيه له بالموجودات، ووصفه بالنفي فيه تشبيه له بالمعدومات‏.‏ فآل بهم إغراقهم في نفي التشبيه إلى أن وصفوه بغاية التعطيل‏.‏

ثم إنهم لم يخلصوا مما فروا منه، بل يلزمهم على قياس قولهم أن يكونوا قد شبهوه بالممتنع الذي هو أخس من الموجود والمعدوم الممكن‏.‏ ففروا في زعمهم من تشبيهه بالموجودات والمعدومات، ووصفوه بصفات الممتنعات التي لا تقبل الوجود، بخلاف المعدومات الممكنات،وتشبيهه بالممتنعات شر من تشبيهه بالموجودات والمعدومات الممكنات‏.‏

وما فر منه هؤلاء الملاحدة ليس بمحذور‏,‏ فإنه إذا سمي حقًا موجودًا قائمًا بنفسه حيًا عليمًا رءوفًا رحيمًا‏,‏ وسمى المخلوق بذلك، لم يلزم من ذلك أن يكون مماثلًا للمخلوق أصلًا، ولو كان هذا حقًا، لكان كل موجود مماثلًا لكل موجود، ولكان كل معدوم مماثلًا لكل معدوم، ولكان كل ما ينفي عنه شيء من الصفات مماثلًا لكل ما ينفي عنه ذلك الوصف‏,‏

/فإذا قيل‏:‏ السواد موجود، كان على قول هؤلاء قد جعلنا كل موجود مماثلًا للسواد‏.‏ وإذا قلنا‏:‏ البياض معدوم، كنا قد جعلنا كل معدوم مماثلًا للبياض‏,‏ ومعلوم أن هذا في غاية الفساد، ويكفي هذا خزيًا لحزب الإلحاد‏.‏

وإذا لم يلزم مثل ذلك في السواد الذي له أمثال بلا ريب،فإذا قيل في خالق العالم‏:‏ إنه موجود لا معدوم، حي لا يموت، قيوم لا تأخده سنة ولا نوم، فمن أين يلزم أن يكون مماثلًا لكل موجود ومعدوم وحي وقائم، ولكل ما ينفي عنه العدم وما ينفي عنه صفة العدم، وما ينفي عنه الموت والنوم، كأهل الجنة الذين لا ينامون ولا يموتون‏؟‏‏!‏

وذلك أن هذه الأسماء العامة المتواطئة التي تسميها النحاة أسماء الأجناس، سواء اتفقت معانيها في محالها أو تفاضلت كالسواد ونحوه؛ وسواء سميت مشككة‏.‏ وقيل‏:‏ إن المشككة نوع من المتواطئة ـ إما أن تستعمل مطلقة وعامة، كما إذا قيل‏:‏ الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم ومحدث، وخالق ومخلوق،والعلم ينقسم إلى قديم ومحدث وإما أن تستعمل ‏[‏خاصة معينة‏]‏ كما إذا قيل‏:‏ وجود زيد وعمرو، وعلم زيد وعمرو، وذات زيد وعمرو‏.‏ فإذا استعملت خاصة معينة دلت على ما يختص به المسمى، لم تدل على ما يشركه فيه غيره في الخارج؛ فإن ما يختص به المسمى لا شركة فيه بينه وبين غيره‏.‏

/ فإذا قيل‏:‏علم زيد، ونزول زيد، واستواء زيد، ونحو ذلك، لم يدل هذا إلا على ما يختص به زيدٌ من علم ونزول واستواء ونحو ذلك، لم يدل على ما يشركه فيه غيره‏.‏ لكن لما علمنا أن زيدًا نظير عمرو، وعلمنا أن علمه نظير علمه، ونزوله نظير نزوله، واستواءه نظير استوائه، فهذا علمناه من جهة القياس والمعقول والاعتبار،لا من جهة دلالة اللفظ، فإذا كان هذا في صفات المخلوق؛ فذلك في الخالق أولى‏.‏

فإذا قيل‏:‏ علم اللّه وكلام اللّه ونزوله واستواؤه ووجوده وحياته ونحو ذلك، لم يدل ذلك على ما يشركه فيه أحد من المخلوقين بطريق الأولى، ولم يدل ذلك على مماثلة الغير له في ذلك كما دل في زيد وعمرو؛ لأنا هناك علمنا التماثل من جهة الاعتبار والقياس لكون زيد مثل عمرو، وهنا نعلم أن اللّه لا مثل له ولا كفو ولا ند، فلا يجوز أن نفهم من ذلك أن علمه مثل علم غيره، ولا كلامه مثل كلام غيره، ولا استواءه مثل استواء غيره، ولا نزوله مثل نزول غيره، ولا حياته مثل حياة غيره‏.‏

ولهذا كان مذهب السلف والأئمة إثبات الصفات، ونفي مماثلتها لصفات المخلوقات‏.‏ فاللّه ـ تعالى ـ موصوف بصفات الكمال الذي لا نقص فيه، منزه عن صفات النقص مطلقًا،ومنزه عن أن يمثاله غيره في صفات كماله، فهذان المعنيان جمعا التنزيه، وقد دل عليهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏1، 2‏]‏‏.‏ فالاسم ‏[‏الصمد‏]‏ يتضمن صفات الكمال، والاسم ‏[‏الأحد‏]‏ يتضمن نفي المثل كما قد بسط الكلام على ذلك في تفسير هذه السورة‏.‏

/ فالقول في صفاته كالقول في ذاته، واللّه ـ تعالى ـ ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، لكن يفهم من ذلك أن نسبة هذه الصفة إلى موصوفها كنسبة هذه الصفة إلى موصوفها‏.‏ فعلم اللّه وكلامه ونزوله واستواؤه، هو كما يناسب ذاته ويليق بها، كما أن صفة العبد هي كما تناسب ذاته وتليق بها، ونسبة صفاته إلى ذاته كنسبة صفات العبد إلى ذاته؛ ولهذا قال بعضهم‏:‏ إذا قال لك السائل‏:‏ كيف ينزل، أو كيف استوى، أو كيف يعلم، أو كيف يتكلم ويقدر ويخلق‏؟‏ فقل له‏:‏ كيف هو في نفسه‏؟‏ فإذا قال‏:‏ أنا لا أعلم كيفية ذاته؛ فقل له‏:‏ وأنا لا أعلم كيفية صفاته، فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف‏.‏

فهذا إذا استعملت هذه الأسماء والصفات على وجه التخصيص والتعيين ـ وهذا هو الوارد في الكتاب والسنةـ وأما إذا قيلت مطلقة وعامة ـ كما يوجد في كلام النظار‏:‏ الموجود ينقسم إلى قديم ومُحّدَث، والعلم ينقسم إلى قديم ومُحدَث، ونحو ذلك ـ فهذا مسمى اللفظ المطلق والعام، والعلم معنى مطلق وعام، والمعاني لا تكون مطلقة وعامة إلا في الأذهان لا في الأعيان، فلا يكون موجود وجودًا مطلقًا أو عامًا إلا في الذهن، ولا يكون مطلق أو عام إلا في الذهن، ولا يكون إنسان أو حيوان مطلق وعام إلا في الذهن، وإلا فلا تكون الموجودات في أنفسها إلا معينة مخصوصة متميزة عن غيرها‏.‏

فليتدبرالعاقل هذا المقام الفارق فإنه زل فيه خلق من أولي النظرالخائضين / في الحقائق، حتى ظنوا أن هذه المعاني العامة المطلقة الكلية تكون موجودة في الخارج كذلك، وظنوا أنا إذا قلنا‏:‏ إن اللّه ـ عز وجل ـ موجود حي عليم، والعبد موجود حي عليم، أنه يلزم وجود موجود في الخارج يشترك فيه الرب والعبد، وأن يكون ذلك الموجود بعينه في العبد والرب، بل وفي كل موجود، ولا بد أن يكون للرب ما يميزه عن المخلوق، فيكون فيه جزآن‏:‏

أحدهما‏:‏ لكل مخلوق، وهو القدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات‏.‏

والثاني‏:‏ يختص به، وهو المميز له عن سائر الموجودات، ثم لا يذكرون فيما يختص به إلا ما يلزم فيه مثل ذلك‏.‏ فإذا قالوا‏:‏ يمتاز بذاته أو بحقيقته أو ماهيته أونحو ذلك، كان ذلك بمنزلة قولهم‏:‏ يمتاز بوجوده؛ فإن الذات والحقيقة والماهية تستعمل مطلقًا ومعينًا كلفظ الوجود سواء

وهذا المقام حار فيه طوائف من أئمة النظار، حتى قال طائفة‏:‏ إن لفظ الوجود وغيره مقول بالاشتراك اللفظي فقط، وحكوا ذلك عن كل من قال بنفي الأحوال ـ وهم عامة أهل الإثبات ـ فصار مضمون نقلهم‏:‏ أن مذهب عامة أهل الإسلام، ومتكلمة الإثبات ـ كابن كُلاب، والأشعري ، وابن كَرَّام، وغيرهم، بل ومحققي المعتزلة؛ كأبي الحسين البصري وغيره ـ أن لفظ الوجود وغيره ـ مما يسمى اللّه به ويسمى به المخلوق ـ إنما يقال بالاشتراك اللفظي فقط من غير أن يكون بين المسميين معنى عام‏:‏ كلفظ ‏[‏المشتري‏]‏ إذا سمي به المبتاع والكوكب، ولفظ ‏[‏سهيل‏]‏ المقول على الكوكب والرجل‏,‏ /وهذا النقل غلط عظيم عمن نقلوه عنه؛ فإن هؤلاء متفقون على أن هذه الأسماء عامة متواطئة ـ كالتواطؤ العام الذي يدخل فيه المشكك ـ تقبل التقسيم والتنويع، وذلك لا يكون إلا في الأسماء المتواطئة، كما نقول‏:‏ الموجود ينقسم إلى قديم ومُحدَث، وواجب وممكن‏.‏

بل هؤلاء الناقلون بأعيانهم ـ كأبي عبد اللّه الرازي وأمثاله من المتأخرين ـ يجمعون في كلامهم بين دعوى الاشتراك اللفظي فقط وبين هذا التقسيم في هذه الأسماء، مع قولهم‏:‏ إن التقسيم لا يكون إلا في الألفاظ المتواطئة المشتركة لفظًا ومعنى، لا يكون في المشترك اشتراكًا لفظيًا‏.‏ ومن جملتها التي يسمونها المشككة لا يكون التقسيم في الأسماء التي ليس بينها معنى مشترك عام‏.‏

فهذا تناقض هؤلاء الذين هم من أشهر المتأخرين بالنظر والتحقيق للفلسفة والكلام، قد ضلوا في هذا النقل ـ وهذا البحث في مثل هذا الأصل ضلالًا لا يقع فيه أضعف العوام ـ وذلك لما تلقوه عن بعض أهل المنطق من القواعد الفاسدة التي هي عن الهدي والرشد حائدة؛ حيث ظنوا أن الكليات المطلقة ثابتة في الخارج جزءًا من المعينات، وأن ذلك يقتضي تركيب المعين من ذلك الكلي المشترك ومما يختص به، فلزمهم على هذا القول أن يكون الرب ـ تعالى ـ الواجب الوجود مركبًا من الوجود المشترك، ومما يختص به من الوجوب أو الوجود أو الماهية، مع أنه من المشهور عند أهل المنطق أن الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان‏.‏

/ومن هداه اللّه ـ تعالى ـ يعلم أن الموجودات لا تشترك في شيء موجود فيها أصلًا، بل كل موجود متميز بنفسه وبما له من الصفات والأفعال، وإنَّا إذا قلنا‏:‏ إن هذا الإنسان حي متكلم، أو حيوان ناطق، ونحو ذلك، لم يكن ما له من الحيوانية أو الناطقية، أو النطق والحياة مشتركًا بينه وبين غيره، بل له ما يخصه ولغيره ما يخصه، ولكن تشابها وتماثلًا بحسب تشابه حيوانيتهما ونطقيتهما، وغير ذلك من صفاتهما‏.‏

ومن قال‏:‏ إن الإنسان مركب مما به الاشتراك ـ وهو الحيوانية ـ وما به من الامتياز ـ وهو النطق ـ فإن أراد بذلك أن هذا تركيب ذهني، فإنا إذا تصورنا في أذهاننا حيوانًا ناطقًا، كان الحيوان جزء هذا المعنى الذهني، والنطق جزأه الآخر، وكان الحيوان جزءًا له أشباه أكثر من أشباه الناطق‏,‏ وإذا تصورنا مسمى حيوان ومسمي ناطق، كان مسمى الحيوان يعم الإنسان وغيره، وكان مسمى الناطق يخصه ـ فدعوى التركيب في هذه المعاني الذهنية صحيح، لكن ليس هذا ضابطًا، بل هو بحسب ما يتصوره الإنسان سواء كان تصوره حقًا أو باطلًا‏.‏

ومتى أريد بجزء الماهية الداخل فيها ما يدخل في هذا التصور، وبجزئها الخارج عنها اللازم لوجودها ما يدل عليه هذا اللفظ بالتضمن والالتزام، وأراد بتمام الماهية ما يدل عليه هذا بالمطابقة ـ فهذا صحيح، لكن هذا لا يقتضي أن /تكون الحقائق الموجودة في الخارج مركبة من الصفات الخاصة والعامة، ولا أن يكون بعض صفاتها اللازمة داخلة في الحقيقة ذاتيًا لها، وبعضها خارجًا عن الحقيقة عارضًا لها، كما يزعمه أهل المنطق اليوناني‏,‏

وهذا الموضع مما ضلوا فيه، وضل بسبب ضلالهم فيه الطوائف الذين اتبعوهم في ذلك من النظار، وقلدهم في ذلك من لم يفهم حقيقة قولهم ولوازمه، ولم يتصوره تصورًا تامًا

وإن أرادوا بالتركيب أنه موصوف بالحياة والنطق ـ وإحدى الصفتين يوجد نظيرها في سائر الحيوان، والأخرى مختصة بالإنسان ـ فهذا معنى صحيح‏.‏

وإن أرادوا به أن حيوانيته مشتركة بينه وبين غيره، فقد غلطوا؛ فإن حيوانية كل حيوان كناطقية كل ناطق، وذلك مختص بمحله‏.‏

وكذلك إن أرادوا بالتركيب أن هنا موجودًا موصوفًا بأنه حيوان غير الموجود الموصوف بأنه ناطق وصاهل، وأن الإنسان مركب من هذا الموجود وهذا الموجود، والفرس مركب من هذا الموجود وهذا الموجود، فقد غلطوا، بل لا موجود إلا هذا الإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق، وهذا الفرس الموصوف بأنه حيوان صاهل، وكذلك سائر الحيوانات والموجودات، فقول القائل‏:‏ الإنسان مركب من هذا وهذا، إذا أريد به أن هنا شيئًا / مركبًا، وأن له جزئين متباينين هو مركب منهما، كان جاهلًا، بل هو شيء واحد موصوف بصفتين لا يوجد إلا بصفتيه، ولا توجد صفتاه إلا به‏.‏

وهذا المعنى صحيح، وهو أن الإنسان موصوف بأنه حيوان، وأنه ناطق حقيقة، وأنه ذات مستلزمة لصفاتها، لا يوجد الموصوف بدون صفته اللازمة له‏.‏

لكن هذا ليس في الخارج تركيبًا، وليس في الخارج صفة لازمة ذاتية، وأخرى عرضية لازمة للماهية، وأخرى لازمة لوجوده، بل ليس في الخارج إلا الموجود المعين، وصفاته، تنقسم إلى‏:‏ لازمة له، وعارضة، وهو لا يوجد بدون شيء من صفاته اللازمة؛ فليس فيها ما هو لازم للذات الموجودة في الخارج، ولكن ليس بلازم لها بل لازم للموجود في الخارج، كما يظن ذلك من يظنه من المنطقيين‏.‏

وأصل خطئهم أنه اشتبه عليهم ما يتصور في الأذهان بما يوجد في الأعيان؛ فإن الذهن يتصور المثلث قبل وجوده في الخارج، وظنوا أن الماهية مغايرة للوجود، وهو صحيح إذا فسرت الماهية بما يتصوره الذهن‏.‏ وأما أن يكون في الخارج مثلث له ماهية ثابتة في الخارج غير الشيء الموجود في الخارج؛ فهذا غلط بيّن‏.‏ فإذا فهم هذا في صفة المخلوق؛ فالخالق أبعد عما سماه هؤلاء تركيبًا‏.‏

/ فإذا قيل‏:‏ إن اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ حي عليم قدير، فهو موصوف بأنه الحي العليم القدير‏.‏ وإذا قيل‏:‏ هو موجود واجب بنفسه، فهو ـ سبحانه ـ موصوف بالوجود والوجوب، فلا مشاركة بينه وبين غيره في شيء موجود، ولا هو مركب من جزأين، ولا صفات مقومة تكون أجزاء لوجوده، ولا نحو ذلك مما يدعي من التركيب الذي هو ممتنع في المخلوق، فهو في الخالق أشد امتناعًا‏.‏

ولكن لفظ التركيب مجمل يدخل عند هؤلاء فيه اتصاف الموصوف بصفاته اللازمة له، وليس هذا هو المعقول من لفظ التركيب، وهؤلاء أحدثوا اصطلاحًا لهم في لفظ التركيب لم يسبقهم إليه أحد من أهل اللغة، ولا من طوائف أهل العلم، فجعلوا لفظ التركيب يتناول خمسة أنواع‏:‏

أحدها‏:‏ التركيب من الوجود والماهية؛ لظنهم أن وجود كل ممكن في الخارج غير ماهيته، ومتى أريد بجزء الماهية الداخل فيها يدخل في هذا المتصور، ويلازمها الخارج عنها ما يلزم هذا التصور، وهذان المعنيان هما ما يدل عليه اللفظ‏.‏

والثاني‏:‏ التركيب من الجنس والفصل، كقولهم‏:‏ إن الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية، وقد يضمون إلى ذلك التركيب من المعنى العام والخاص، يسمى تركيبًا من جنس وفصل، أو من خاصة وعرض عام‏.‏

الثالث‏:‏ التركيب من الذات والصفات، كمسمي الحي العالم القادر، /وتركيب الجسم من أجزائه الحسية، عند من يقول‏:‏ إنه مركب من الجواهر المفردة، أو تركيبه من الجزأين العقليين، عند من يقول‏:‏ إنه مركب من المادة والصورة

وأما التركيب ‏[‏الأول‏]‏ و‏[‏الثاني‏]‏ فنازعهم جمهور العقلاء في ثبوتهما في الخارج ويقولون‏:‏ ليس في الخارج تركيب بهذا الاعتبار‏.‏

والتركيب ‏[‏الرابع‏]‏ و‏[‏الخامس‏]‏‏:‏ فيه نزاع مشهور بين العقلاء، منهم من يثبت في الجسم أحد التركيبين، ومنهم من يقول ليس مركبًا لا من هذا، ولا من هذا

وأما ‏[‏الرابع‏]‏ فيوافقهم على ثبوته جماهير العقلاء، ما أعلم من ينازعهم فيه نزاعًا معنويًا، لكن حكي عن طائفة من أهل النظر، كعبد الرحمن بن كَيْسَان الأصم وغيره، أنهم نفوا الأعراض ولم يثبتوا الأعراض زائدة على الجسم، ونفوا كون الحركة زائدة على الجسم‏,‏ وخالفهم الأكثرون في ذلك‏.‏

وهذاـ واللّه أعلم ـ نزاع لفظي، وهو أن مسمى الجسم هل يتناول الجسم بأعراضه أم تكون الأعراض زائدة على مسمى الجسم‏؟‏ وإلا فعاقل لا ينكر وجود الطعم واللون، والرائحة والحركة، وغير ذلك من الصفات القائمة بالموصوفات‏.‏

/وهذا يشبه نزاع الناس في أن الصفات هل هي زائدة على الذات أم لا‏؟‏ فمن أراد بالذات ‏[‏الذات المجردة‏]‏ فالصفات زائدة عليها، ومن أراد بالذات ‏[‏الذات الموصوفة‏]‏ فليست الصفات مباينة للذات الموصوفة بصفاتها اللازمة لها‏.‏

ثم إن هؤلاء زعموا أنهم ينفون هذه الأنواع، فأما ‏[‏الأنواع الأربعة‏]‏ فمن قال‏:‏ إنها منتفية عن المخلوق فهي عن الخالق أشد انتفاءً، وأما ‏[‏النوع الرابع‏]‏‏:‏ فمن نازع في أن الصفات هل هي زائدة على الذات أم لا‏؟‏ فهذا نزاع لفظي، ومن نازع في ثبوت هذه الصفات في نفس الأمر، ونفي أن يكون للّه علم وقدرة ومشيئة، وجعل هذه الصفة هي الأخرى، والصفة هي الموصوف، فهذا قوله معلوم الفساد بعد التصور التام‏.‏

وإذا علم أنه ـ سبحانه ـ حي عليم قدير، ومعنى كونه حيًا ليس معنى كونه عليمًا، ومعنى كونه عليمًا ليس معنى كونه قديرًا، فهذا هو إثبات الصفات‏.‏

فإن قال القائل‏:‏ إن معنى كونه عليمًا هو معنى كونه مريدًا قديرًا حيًا،فهذا مكابرة‏.‏ وكذلك إذا ادعى أن هذه المعاني هي معنى الذات الموصوفة بها‏.‏ وإن اعترف بثبوت هذه المعاني للّه، وقال‏:‏ أنا أنفي أن يكون اللّه مفتقرًا إلى ذوات أو معان بها يصير حيًا عالمًا قادرًا، فهذا مناظرة منه لمثبتة الأحوال /كالقاضي أبى بكر وأبى يَعْلَى، وغيرهما ممن يقول‏:‏ إن له علمًا وعالمية، وعالميته معنى زائد على علمه‏.‏

وهذا القول‏:‏ قول بعض الصفاتية؛ وجمهورهم ينكرون هذا، ويقولون‏:‏ بل معنى العلم هو معنى العالم

وفي مسائل الصفات ثلاثة أمور‏:‏

أحدها‏:‏ الخبر عنه بأنه حي عليم قدير، فهذا متفق على إثباته، وهذا يسمى الحكم‏.‏

والثاني‏:‏ أن هذه معان قائمة بذاته، وهذا ـ أيضًا ـ أثبته مثبتة الصفات ـ السلف والأئمة، والمنتسبون إلى السنة من عامة الطوائف‏.‏

والثالث‏:‏ الأحوال‏,‏ وهو العالمية والقادرية، وهذه قد تنازع فيها مثبتو الصفات ونفاتها، فأبو هاشم وأتباعه يثبتون الأحوال، دون الصفات، والقاضي أبو بكر، وأتباعه يثبتون الأحوال والصفات، وأكثر الجهمية والمعتزلة ينفون الأحوال والصفات‏.‏

وأما جماهير أهل السنة، فيثبتون الصفات دون الأحوال، وهذا لبسطه موضع آخر‏.‏

/والمقصود هنا الكلام على التركيب لفظًا ومعنى، وبيان أن هؤلاء لهم فيه اصطلاح مخالف لجمهور العقلاء، وأنهم مضطرون إلى الإقرار بثبوت ما نفوه، ولكن هؤلاء يقولون‏:‏ هذا اشتراك، والاشتراك تشبيه، ويقولون‏:‏ هذه أجزاء، وهذا تركيب من هذه الأجزاء، ثم إنهم لا يقدرون على نفي هذا الذي سموه اشتراكا وتشبيها، ولا على نفي هذه الأمور التي سموها أجزاءً وتركيبًا وتقسيمًا، فإنهم يقولون‏:‏ هو عاقل ومعقول وعقل، ولذيذ ولذة وملتذ، وعاشق ومعشوق وعشق‏.‏

وقد يقولون‏:‏ هو عالم قادر مريد، ثم يقولون‏:‏ العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، فيجعلون كل صفة هي الأخرى‏,‏ ويقولون‏:‏ العلم هو العالم ـ وقد يقولون‏:‏ هو المعلوم ـ فيجعلون الصفة هي الموصوف أو هي المخلوقات‏.‏

وهذه أقوال رؤسائهم، وهي في غاية الفساد في صريح المعقول، فهم مضطرون إلى الإقرار بما يسمونه تشبيهًا وتركيبًا، ويزعمون أنهم ينفون التشبيه والتركيب والتقسيم؛ فليتأمل اللبيب كذبهم وتناقضهم وحيرتهم وضلالهم؛ ولهذا يؤول بهم الأمر إلى الجمع بين النقيضين، أو الخلو عن النقيضين‏.‏ ثم إنهم ينفون عن اللّه ما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لزعمهم أن ذلك تشبيه وتركيب‏.‏ ويصفون أهل الإثبات بهذه الأسماء، وهم الذين ألزموها بمقتضى أصولهم، ولا حيلة لهم في دفعها‏.‏ فهم كما قال القائل‏:‏

رمتـني بدائـها وانسلت**‏.‏

/وهم لم يقصدوا هذا التناقض، ولكن أوقعتهم فيه قواعدهم الفاسدة المنطقية التي زعموا فيها تركيب الموصوفات من صفاتها، ووجود الكليات المشتركة في أعيانها‏.‏ فتلك القواعد المنطقية الفاسدة التي جعلوها قوانين تمنع مراعاتها الذهن أن يضل في فكره، أوقعتهم في هذا الضلال والتناقض ثم إن هذه القوانين فيها ما هو صحيح لا ريب فيه، وذلك يدل على تناقضهم وجهلهم، فإنهم قد قرروا في القوانين المنطقية أن الكلي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، بخلاف الجزئي‏,‏ وقرروا ـ أيضًا ـ أن الكليات لا تكون كلية إلا في الأذهان؛ دون الأعيان‏.‏ وأن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الذهن، وهذه قوانين صحيحة‏.‏

ثم يدعون ما ادعاه أفضل متأخريهم؛ أن الواجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق عن كل أمر ثبوتي‏.‏

أو كما يقوله طائفة منهم‏:‏ أنه الوجود المطلق بشرط الإطلاق عن كل أمر ثبوتي وسلبي، كما يقول ذلك من يقوله من الملاحدة الباطنية، المنتسبين إلى التشيع، والمنتسبين إلى التصوف‏.‏

أو يقوله طائفة ثالثة‏:‏ إنه الوجود المطلق لا بشرط، كما تقوله طائفة منهم‏.‏

وهم متفقون على أن المطلق بشرط الإطلاق عن الأمور الوجودية والعدمية /لا يكون في الخارج موجودًا‏,‏ فالمطلق بشرط الإطلاق عن كل أمر ثبوتي، أولى ألا يكون موجودًا‏.‏ فإن المقيد بسلب الوجود والعدم نسبته إليهما سواء، والمقيد بسلب الوجود يختص بالعدم دون الوجود، والمطلق لا بشرط إنما يوجد مطلقًا في الأذهان‏.‏

وإذا قيل‏:‏ هو موجود في الخارج؛ فذلك بمعنى أنه يوجد في الخارج مقيدًا، لا أنه يوجد في الخارج مطلقًا، فإن هذا باطل، وإن كانت طائفة تدعيه، فمن تصور هذا تصورًا تامًا، علم بطلان قولهم، وهذا حق معلوم بالضرورة‏,‏ فهذا القانون الصحيح لم ينتفعوا به في إثبات وجود الرب، بل جعلوه مطلقًا بشرط الإطلاق عن النقيضين، أو عن الأمور الوجودية، أو لا بشرط، وذلك لا يتصور إلا في الأذهان‏.‏

والقوانين الفاسدة أوقعتهم في ذلك التناقض والهذيان، وهم يفرون من التشبيه بوجه من الوجوه؛ ثم يقولون‏:‏ الوجود ينقسم إلى‏:‏ واجب وممكن، فهما مشتركان في مسمى الوجود، وكذلك لفظ الماهية، والحقيقة، والذات‏,‏ ومهما قيل‏:‏ هو ينقسم إلى واجب وممكن، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، فقد اشتركت الأقسام في المعنى العام الكلي الشامل لما تشابهت فيه، فهذا تشبيه يقولون به، وهم يزعمون أنهم ينفون كل ما يسمى تشبيهًا، حتى نفوا الأسماء، فكان الغلاة من الجهمية والباطنية لا يسمونه شيئًا فرارًا من ذلك

/وأي شيء أثبتوه، لزمهم فيه مثل ذلك، وإلا لزم ألا يكون وجود واجب الوجود ممكنًا، وقديمًا ومحدثًا، وإن المحدث والممكن لابد له من قديم‏.‏ ومن المعلوم بالاضطرار أن الوجود فيه محدث ممكن، وأن المحدث الممكن لابد له من قديم،واجب بنفسه، فثبوت النوعين ضروري لابد منه‏.‏

وحقيقة الأمر أن لفظ المطلق قد يعنى به ما هو كلي لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه‏.‏ ويمتنع أن يكون شيئًا موجودًا في الخارج قائمًا بنفسه أو صفة لغيره بهذا الاعتبار، فضلًا عن أن يكون رب العالمين الأحد الصمد كذلك‏.‏

وقد يراد بالمطلق‏:‏ المجرد عن الصفات الثبوتية، أو عن الثبوتية والسلبية جميعًا، والمطلق لا بشرط الإطلاق‏,‏ وهذا إذا قدر جعل معينًا خاصًا لا كليًا، فإنه يمتنع وجوده في الخارج أعظم من امتناع الكليات المطلقة بشرط، لكونها كلية‏,‏ فإن تلك الكليات لها جزئيات موجودة في الخارج، والكليات مطابقة لها‏.‏

وأما وجود شيء مجرد عن أن يوصف بصفة ثبوتية وسلبية، فهذا يمتنع تحققه في الخارج كليًا وجزئيًا‏.‏ وكذلك المجرد عن أن يوصف بصفة ثبوتية، بل هذا أولى بالامتناع منه‏.‏ وإذا كان هذا قد شارك سائر الموجودات في مسمى الوجود ولم يميز عنها إلا بالقيود السلبية، وهي قد امتازت عنه بالقيود الوجودية،/كان كل ممكن في الوجود أكمل من هذا الذي زعموا أنه واجب الوجود، فإن الوجود الكلي مشترك بينه وبينها، ولم يميز عنها إلا بعدم، وامتازت عنه بوجود، فكان ما امتازت به عنه أكمل مما امتاز به هو عنها؛ إذ الوجود أكمل من العدم‏.‏

وأما إذا قيل‏:‏ هو الوجود لا بشرط، فهذا هو الوجود الكلي والطبيعي المطابق لكل موجود، وهذا لا يكون كليًا إلا في الذهن‏.‏ وأما في الخارج، فلا يوجد إلا معينًا‏,‏ ومن الناس من قال‏:‏ إن هذا الكلى جزء من المعينات‏.‏

فإن كان الأول هو الصواب، لزم أن يكون الموجود الواجب معدومًا في الخارج أو أن يكون عين الواجب عين الممكن، كما يقوله من يقوله من القائلين بوحدة الوجود، وإن كان الثاني هو الصواب، لزم أن يكون وجوده جزءًا من كل موجود، فيكون الواجب الوجود جزءًا من وجود الممكنات‏.‏

ومن المعلوم بصريح العقل أن جزء الشيء لا يكون هو الخالق له كله، بل يمتنع أن يكون خالقًا لنفسه، فضلًا عن أن يكون خالقًا لما هو بعضه؛ إذ الكل أعظم من الجزء، فإذا امتنع أن يكون خالقًا للجزء، فامتناع كونه خالقًا للكل أظهر وأظهر‏.‏

فصحيح المنطق لم ينتفعوا به في معرفة اللّه، وباطل المنطق أوقعهم في غاية الكذب والجهل باللّه، ‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏40‏]‏، و‏{‏اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏، وهو القائل‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏، وهو القائل‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏,‏

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من الليل ـ ما رواه مسلم في صحيحه ـ‏:‏ ‏(‏اللّهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏)‏‏.‏

/ فصــل

وتمام الكلام في هذا الباب‏:‏ أنك تعلم أنا لا نعلم ما غاب عنا إلا بمعرفة ما شهدناه، فنحن نعرف أشياء بحسنا الظاهر أو الباطن، وتلك معرفة معينة مخصوصة، ثم إنا بعقولنا نعتبر الغائب بالشاهد، فيبقى في أذهاننا قضايا عامة كلية، ثم إذا خوطبنا بوصف ما غاب عنا لم نفهم ما قيل لنا إلا بمعرفة المشهود لنا‏.‏

فلولا أنا نشهد من أنفسنا جوعًا وعطشًا، وشبعًا ورِيّا وحبًا وبغضًا، ولذة وألمًا ورِضًا وسخطًا، لم نعرف حقيقة ما نخاطب به إذا وصف لنا ذلك، وأخبرنا به عن غيرنا‏.‏

وكذلك لو لم نعلم ما في الشاهد؛ حياة وقدرة، وعلمًا وكلامًا، لم نفهم ما نخاطب به إذا وصف الغائب عنا بذلك‏.‏ وكذلك لو لم نشهد موجودًا، لم نعرف وجود الغائب عنا، فلابد فيما شهدناه وما غاب عنا من قدر مشترك هو مسمى اللفظ المتواطئ‏.‏ فبهذه الموافقة والمشاركة والمشابهة والمواطأة نفهم الغائب ونثبته، وهذا خاصة العقل‏.‏

ولولا ذلك لم نعلم إلا ما نحسه، ولم نعلم أمورًا عامة ولا أمورًا غائبة عن أحاسيسنا الظاهرة والباطنة؛ ولهذا من لم يحس الشيء ولا نظيره لم يعرف حقيقته‏.‏

/ثم إن اللّه ـ تعالى ـ أخبرنا بما وعدنا به في الدار الآخرة من النعيم والعذاب، وأخبرنا بما يؤكل ويشرب وينكح ويفرش وغير ذلك‏.‏ فلولا معرفتنا بما يشبه ذلك في الدنيا، لم نفهم ما وعدنا به، ونحن نعلم مع ذلك أن تلك الحقائق ليست مثل هذه، حتى قال ابن عباس ـ رضي اللّه عنه ـ‏:‏ ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، وهذا تفسير قوله‏:‏ ‏{‏وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏25‏]‏ على أحد الأقوال‏.‏

فبين هذه الموجودات في الدنيا وتلك الموجودات في الآخرة مشابهة وموافقة واشتراك من بعض الوجوه، وبه فهمنا المراد، وأحببناه ورغبنا فيه، أو أبغضناه ونفرنا عنه، وبينهما مباينة ومفاضلة لا يقدر قدرها في الدنيا‏.‏ وهذا من التأويل الذي لا نعلمه نحن، بل يعلمه اللّه ـ تعالى ـ ولهذا كان قول من قال‏:‏ ‏[‏إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا اللّه‏]‏ حقًا، وقول من قال‏:‏ ‏[‏إن الراسخين في العلم يعلمون تأويله‏]‏ حقًا‏.‏ وكلا القولين مأثور عن السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان‏.‏

فالذين قالوا‏:‏ إنهم يعلمون تأويله، مرادهم بذلك أنهم يعلمون تفسيره ومعناه، وإلا فهل يحل لمسلم أن يقول‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف معنى ما يقوله ويبلغه من الآيات والأحاديث‏؟‏‏!‏ بل كان يتكلم بألفاظ لها معان لا يعرف معانيها‏؟‏‏!‏

ومن قال‏:‏ إنهم لا يعرفون تأويله، أرادوا به الكيفية الثابتة التي اختص / اللّه بعلمها؛ ولهذا كان السلف ـ كربيعة، ومالك بن أنس وغيرهما ـ يقولون‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول‏.‏ وهذا قول سائر السلف ـ كابن الماجشون، والإمام أحمد بن حنبل، وغيرهم‏.‏ وفي غير ذلك من الصفات‏.‏ فمعنى الاستواء معلوم، وهو التأويل والتفسير الذي يعلمه الراسخون، والكيفية هي التأويل المجهول لبني آدم وغيرهم، الذي لا يعلمه إلا اللّه ـ سبحانه وتعالى‏.‏

وكذلك ما وعد به في الجنة تعلم العباد تفسير ما أخبر اللّه به، وأما كيفيته فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏17‏]‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏يقول اللّه تعالى‏:‏ أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذُنٌ سَمِعتْ، ولا خَطَر على قَلْب بَشَر‏)‏‏.‏

فما أخبرنا اللّه به من صفات المخلوقين نعلم تفسيره ومعناه، ونفهم الكلام الذي خوطبنا به، ونعلم معنى العسل واللحم واللبن، والحرير والذهب والفضة، ونفرق بين مسميات هذه الأسماء وأما حقائقها على ما هي عليه، فلا يمكن أن نعلمها نحن،ولا نعلم متي تكون الساعة‏؟‏ وتفصيل ما أعد اللّه ـ عز وجل ـ لعباده لا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، بل هذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا اللّه ـ تبارك وتعالى‏.‏

فإذا كان هذا في هذين المخلوقين، فالأمر بين الخالق والمخلوق أعظم؛ / فإن مباينة اللّه لخلقه وعظمته، وكبريائه وفضله، أعظم وأكبر مما بين مخلوق ومخلوق‏.‏

فإذا كانت صفات ذلك المخلوق مع مشابهتها لصفات هذا المخلوق، بينهما من التفاضل والتباين ما لا نعلمه في الدنيا ـ ولا يمكن أن نعلمه، بل هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا اللّه تبارك وتعالى ـ فصفات الخالق ـ عز وجل ـ أولى أن يكون بينها وبين صفات المخلوق من التباين والتفاضل ما لا يعلمه إلا اللّه ـ تبارك وتعالى ـ وأن يكون هذا من التأويل الذي لا يعلمه كل أحد؛ بل منه ما يعلمه الراسخون، ومنه ما يعلمه الأنبياء والملائكة، ومنه ما لا يعلمه إلا اللّه‏.‏

كما روي عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قال‏:‏ إن التفسير على أربعة أوجه‏:‏ تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا اللّه، من ادعى علمه فهو كاذب‏.‏

ولفظ ‏[‏التأويل‏]‏ في كلام السلف لا يراد به إلا التفسير، أو الحقيقة الموجودة في الخارج التي يئول إليها‏:‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏53‏]‏‏.‏

وأما استعمال التأويل بمعنى‏:‏ أنه صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به أو متأخر أو لمطلق الدليل، فهذا اصطلاح / بعض المتأخرين، ولم يكن في لفظ أحد من السلف ما يراد منه بالتأويل هذا المعنى‏.‏

ثم لما شاع هذا بين المتأخرين، صاروا يظنون أن هذا هو التأويل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏7‏]‏‏.‏

ثم طائفة تقول‏:‏ لا يعلمه إلا اللّه، وقالت طائفة‏:‏ بل يعلمه الراسخون‏.‏ وكلتا الطائفتين غالطة؛ فإن هذا لا حقيقة له، بل هو باطل، واللّه يعلم انتفاءه وأنه لم يرده‏.‏ وهذا مثل تأويلات القرامطة الباطنية، والجهمية، وغيرهم من أهل الإلحاد والبدع‏.‏

وتلك التأويلات باطلة واللّه لم يردها بكلامه، و ما لم يرده، لا نقول‏:‏ إنه يعلم أنه مراده، فإن هذا كذب على اللّه ـ عز وجل ـ والراسخون في العلم لا يقولون على اللّه ـ تبارك وتعالى ـ الكذب، وإن كنا مع ذلك قد علمنا بطريق خبر اللّه ـ عز وجل ـ عن نفسه ـ بل وبطريق الاعتبار أن للّه المثل الأعلى ـ أن اللّه يوصف بصفات الكمال‏:‏ موصوف بالحياة، والعلم، والقدرة، وهذه صفات كمال‏.‏ والخالق أحق بها من المخلوق، فيمتنع أن يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق‏.‏

ولولا أن هذه الأسماء والصفات تدل على معنى مشترك كلي، يقتضى من المواطأة والموافقة والمشابهة ما به تفهم وتثبت هذه المعاني للّه، لم نكن قد عرفنا عن اللّه شيئًا، ولا صار في قلوبنا إيمان به، ولا علم، ولا معرفة، ولا محبة، / ولا إرادة لعبادته ودعائه وسؤاله ومحبته وتعظيمه، فإن جميع هذه الأمور لا تكون إلا مع العلم، ولا يمكن العلم إلا بإثبات تلك المعاني، التي فيها من الموافقة والمواطأة ما به حصل لنا ما حصل من العلم لما غاب عن شهودنا‏.‏

ومن فهم هذه الحقائق الشريفة والقواعد الجليلة النافعة، حصل له من العلم والمعرفة والتحقيق والتوحيد والإيمان، وانجاب عنه من الشبه والضلال و الحيرة ما يصير به في هذا الباب من أفضل الذين أنعم اللّه عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ومن سادة أهل العلم والإيمان، وتبين له أن القول في بعض ‏[‏صفات اللّه‏]‏ كالقول في سائرها، وأن القول في صفاته كالقول في ذاته، وأن من أثبت صفة دون صفة مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشاركة أحدهما الأخرى فيما به نفاها، كان متناقضًا‏.‏

فمن نفي النزول والاستواء، أو الرضى والغضب، أو العلم والقدرة، أو اسم العلىم أو القدير، أو اسم الموجود، فرارً بزعمه من تشبيه وتركيب وتجسيم، فإنه يلزمه فيما أثبته نظير ما ألزمه لغيره فيما نفاه هو وأثبت المثبت‏.‏

فكل ما يستدل به على نفي النزول والاستواء والرضى والغضب، يمكن منازعه أن يستدل بنظيره على نفي الإرادة، والسمع والبصر، والقدرة والعلم‏.‏ وكل ما يستدل به على نفي القدرة والعلم والسمع والبصر، يمكن منازعه أن يستدل بنظيره على نفي العلىم والقدير، والسميع والبصير‏.‏ وكل ما يستدل به على نفي هذه الأسماء، يمكن منازعه أن يستدل به على نفي الموجود والواجب‏.‏

/ومن المعلوم بالضرورة أنه لا بد من موجود قديم واجب بنفسه، يمتنع عليه العدم؛ فإن الموجود‏:‏ إما ممكن ومحدث، وإما واجب وقديم‏.‏ والممكن المحدث لا يوجد إلا بواجب قديم، فإذا كان ما يستدل به على نفي الصفات الثابتة يستلزم نفي الموجود الواجب القديم، ونفي ذلك يستلزم نفي الموجود مطلقًا، علم أن من عطل شيئًا من الصفات الثابتة بمثل هذا الدليل كان قوله مستلزمًا تعطيل الموجود المشهود‏.‏

ومثال ذلك‏:‏ أنه إذا قال‏:‏ النزول والاستواء ونحو ذلك من صفات الأجسام، فإنه لا يعقل النزول والاستواء إلا لجسم مركب، واللّه ـ سبحانه ـ منزه عن هذه اللوازم، فيلزم تنزيهه عن الملزوم‏.‏ أو قال‏:‏ هذه حادثة، والحوادث لا تقوم إلا بجسم مركب، وكذلك إذا قال‏:‏ الرضا والغضب والفرح والمحبة ونحو ذلك هو من صفات الأجسام‏.‏

فإنه يقال له‏:‏ وكذلك الإرادة، والسمع، والبصر، والعلم، والقدرة من صفات الأجسام، فإنا كما لا نعقل ما ينزل، ويستوى ويغضب ويرضى إلا جسمً، لم نعقل ما يسمع ويبصر ويريد، ويعلم ويقدر إلا جسمًا‏.‏

فإذا قيل‏:‏ سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وإرادته ليست كإرادتنا، وكذلك علمه وقدرته‏.‏

قيل له‏:‏ وكذلك رضاه ليس كرضانا، وغضبه ليس كغضبنا، وفرحه ليس كفرحنا، ونزوله واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا‏.‏

/فإذا قال‏:‏ لا يعقل في الشاهد غضب إلا غليان دم القلب لطلب الانتقام، ولا يعقل نزول إلا الانتقال، والانتقال يقتضى تفريغ حيز وشغل آخر، فلو كان ينزل، لم يبق فوق العرش رب‏.‏

قيل‏:‏ ولا يعقل في الشاهد إرادة إلا ميل القلب إلى جلب ما يحتاج إليه وينفعه، ويفتقر فيه إلى ما سواه ودفع ما يضره، واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ كما أخبر عن نفسه المقدسة في حديثه الإلهي‏:‏ ‏(‏يا عبادي، إنكم لن تبلغوا نَفْعِي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضُرِّي فتضروني‏)‏؛ فهو منزه عن الإرادة التي لا يعقل في الشاهد إلا هي‏.‏

وكذلك السمع لا يعقل في الشاهد إلا بدخول صوت في الصًّمَاخ ‏[‏الصِّماخ‏:‏ خَرْق الأذن، ويطلق على الأذن نفسها‏]‏ ، وذلك لا يكون إلا في أجوف؛ واللّه ـ سبحانه ـ أحد صمد منزه عن مثل ذلك، بل وكذلك البصر والكلام لا يعقل في الشاهد إلا في محل أجوف، واللّه ـ سبحانه ـ أحد صمد منزه عن ذلك‏.‏

قال ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وخلق من السلف‏:‏ الصمد‏:‏ الذي لا جوف له‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هو السيد الذي كمل في سؤدده، وكلا القولين حق؛ فإن لفظ ‏[‏الصمد‏]‏ في اللغة يتناول هذا وهذا، والصمد في اللغة السيد، و‏[‏الصمد‏]‏ أيضًا المصمد، والمصمد المصمت، وكلاهما معروف في اللغة‏.‏

/ولهذا قال يحيى بن أبي كثير‏:‏ الملائكة صمد، والآدميون جوف‏.‏ وهذا أيضًا دليل آخر؛ فإنه إذا كانت الملائكة ـ وهم مخلوقون من النور كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خُلِقَتِ الملائكةُ من نُور، وخُلِق الجان من نار، وخلق آدم مما وُصِف لكم‏)‏ ـ فإذا كانوا مخلوقين من نور، وهم لا يأكلون ولا يشربون، بل هم صمد ليسوا جوفًا كالإنسان، وهم يتكلمون ويسمعون ويبصرون ويصعدون وينزلون كما ثبت ذلك بالنصوص الصحيحة، وهم مع ذلك لا تماثل صفاتهم وأفعالهم صفات الإنسان وفعله؛ فالخالق ـ تعالى ـ أعظم مباينة لمخلوقاته من مباينة الملائكة للآدميين؛ فإن كليهما مخلوق‏.‏ والمخلوق أقرب إلى مشابهة المخلوق من المخلوق إلى الخالق ـ سبحانه وتعالى‏.‏

وكذلك ‏[‏روح ابن آدم‏]‏، تسمع وتبصر وتتكلم وتنزل وتصعد، كما ثبت ذلك بالنصوص الصحيحة، والمعقولات الصريحة، ومع ذلك فليست صفاتها وأفعالها كصفات البدن وأفعاله‏.‏

فإذا لم يجز أن يقال‏:‏ إن صفات الروح وأفعالها مثل صفات الجسم الذي هو الجسد، وهي مقرونة به وهما جميعًا الإنسان، فإذا لم يكن روح الإنسان مماثلًا للجسم الذي هو بدنه، فكيف يجوز أن يجعل الرب ـ تبارك وتعالى ـ وصفاته وأفعاله مثل الجسم وصفاته وأفعاله‏؟‏‏!‏

فإن أراد النافي التزام أصله؛ وقال‏:‏ أنا أقول‏:‏ ليس له كلام يقوم به، بل /كلامه مخلوق، قيل له‏:‏ فيلزمك في السمع والبصر،فإن البصريين من المعتزلة يثبتون الإدراك‏.‏ فإن قال‏:‏ أنا أقول بقول البغداديين منهم، فلا أثبت له سمعًا ولا بصرًا ولا كلامًا يقوم به، بل أقول كلامه مخلوق من مخلوقاته؛ لأن إثبات ذلك تجسيم وتشبيه، بل ولا أثبت له إرادة كما لا يثبتها البغداديون، بل أجعلها سلبًا أو إضافة فأقول‏:‏ معنى كونه مريدًا أنه غير مغلوب ولا مكره، أو بمعنى كونه خالقًا وآمرًا‏.‏ قيل له‏:‏ فيلزمك ذلك في كونه حيًا عالمًا قادرًا، فإن المعتزلة مطبقة على إثبات أنه حي عالم قادر، وقيل له‏:‏ أنت لا تعرف حيًا عالمًا قادرًا إلا جسمًا؛ فإذا جعلته حيًا عالمًا قادرًا، لزمك التجسيم والتشبيه‏.‏

فإن زاد في التعطيل وقال‏:‏ أنا لا أقول بقول المعتزلة، بل بقول الجهمية المحضة، والباطنية من الفلاسفة، والقرامطة فأنفي الأسماء مع الصفات، ولا أسميه حيًا ولا عالمًا ولا قادرًا ولا متكلمًا إلا مجازًا بمعنى السلب والإضافة، أي‏:‏هو ليس بجاهل ولا عاجز، وجعل غيره عالمًا قادرًا‏.‏ قيل له‏:‏ فيلزمك ذلك في كونه موجودًا واجبًا بنفسه قديمًا فاعلًا؛ فإن جهمًا قد قيل‏:‏ إنه كان يثبت كونه فاعلًا قادرًا؛ لأن الإنسان عنده ليس بقادر ولا فاعل، فلا تشبيه عنده في ذلك‏.‏

وإذا وصل إلى هذا المقام، فلابد له أن يقول بقول طائفة منهم، فيقول‏:‏ /أنا لا أصفه بصفة وجود ولا عدم، فلا أقول موجود ولا معدوم، أو لا موجود ولا غير موجود، بل أمسك عن النقيضين فلا أتكلم لا بنفي ولا إثبات‏.‏

وإما أن يقول‏:‏ أنا لا أصفه قط بأمر ثبوتي بل بالسلبي؛ فلا أقول‏:‏ موجود بل أقول‏:‏ ليس بمعدوم‏.‏

وإما أن يقال‏:‏ بل هو معدوم، فالقسمة حاصرة‏.‏ فإنه إما أن يصفه بأمر ثبوتي فيلزمه ما ألزمه لغيره من التشبيه والتجسيم، وإما أن يقول‏:‏ لا أصفه بالثبوت بل بسلب العدم، فلا أقول‏:‏ موجود بل ليس بمعدوم‏.‏

وإما أن يلتزم التعطيل المحض فيقول‏:‏ ما ثم وجود واجب؛ فإن قال بالأول وقال‏:‏ لا أثبت واحدًا من النقيضين؛ لا الوجود ولا العدم‏.‏ قيل‏:‏ هب أنك تتكلم بذلك بلسانك، ولا تعتقد بقلبك واحدًا من الأمرين، بل تلتزم الإعراض عن معرفة اللّه وعبادته وذكره، فلا تذكره قط ولا تعبده ولا تدعوه ولا ترجوه ولا تخافه، فيكون جحدك له أعظم من جحد إبليس الذي اعترف به، فامتناعك من إثبات أحد النقيضين لا يستلزم رفع النقيضين في نفس الأمر؛ فإن النقيضين لا يمكن رفعهما، بل في نفس الأمر لابد أن يكون الشيء ـ أي شيء كان ـ إما موجودًا وإما معدومًا ، إما أن يكون، وإما ألا يكون، وليس بين النفي والإثبات واسطة أصلا‏.‏

ونحن نذكر ما في نفس الأمر سواء جحدته أنت أو اعترفت به، وسواء/ ذكرته أو أعرضت عنه؛ فإعراض الإنسان عن رؤية الشمس والقمر والكواكب والسماء لا يدفع وجودها، ولا يدفع ثبوت أحد النقيضين، بل بالضرورة ‏[‏الشمس‏]‏ إما موجودة، وإما معدومة، فإعراض قلبك ولسانك عن ذكر اللّه كيف يدفع وجوده ويوجب رفع النقيضين‏؟‏‏!‏ فلا بد أن يكون إما موجودًا وإما معدومًا في نفس الأمر‏.‏ وكذلك من قال‏:‏ أنا لا أقول‏:‏ موجود؛ بل أقول‏:‏ ليس بمعدوم؛ فإنه يقال‏:‏ سلب أحد النقيضين إثبات للآخر، فأنت غيرت العبارة؛ إذ قول القائل‏:‏ ليس بمعدوم، يستلزم أن يكون موجودًا، فأما إذا لم يكن معدومًا، إما أن يكون موجودًا، وإما ألا يكون لا موجودًا ولا معدومًا‏.‏

وهذا ‏[‏القسم الثالث‏]‏ يوجب رفع النقيضين، وهو مما يعلم فساده بالضرورة، فوجب أنه إذا لم يكن معدومًا أن يكون موجودًا‏.‏

وإن قال‏:‏ بل التزم أنه معدوم‏.‏ قيل له‏:‏ فمن المعلوم بالمشاهدة والعقل وجود موجودات، ومن المعلوم ـ أيضًا ـ أن منها ما هو حادث بعد أن لم يكن، كما نعلم نحن أنا حادثون بعد عدمنا، وأن السحاب حادث، والمطر والنبات حادث، والدواب حادثة، وأمثال ذلك من الآيات التي نبه اللّه ـ تعالى ـ عليها بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 146‏]‏‏.‏

وهذه الحوادث المشهودة يمتنع أن تكون واجبة الوجود بذاتها؛ فإن ما وجب وجوده بنفسه امتنع عدمه ووجب قدمه، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فدل وجودها بعد عدمها على أنها يمكن وجودها ويمكن عدمها، فإن كليهما قد تحقق فيها، فعلم بالضرورة اشتمال الوجود على موجود محدث ممكن‏.‏ فنقول حينئذ‏:‏ الموجود والمحدث الممكن لابد له من موجد قديم واجب بنفسه، فإنه يمتنع وجود المحدث بنفسه، كما يمتنع أن يخلق الإنسان نفسه، وهذا من أظهر المعارف الضرورية؛ فإن الإنسان بعد قوته ووجوده لا يقدر أن يزيد في ذاته عضوًا، ولا قدرًا ، فلا يقصر الطويل ولا يطول القصير، ولايجعل رأسه أكبر مما هو ولا أصغر، وكذلك أبواه لا يقدران على شيء من ذلك‏.‏

ومن المعلوم بالضرورة أن الحادث بعد عدمه لابد له من محدث، وهذه قضية ضرورية معلومة بالفطرة، حتى للصبيان؛ فإن الصبي لو ضربه ضارب وهو غافل لا يبصره لقال‏:‏ من ضربني‏؟‏ فلو قيل له‏:‏ لم يضربك أحد، لم يقبل عقله أن تكون الضربة حدثت من غير محدث، بل يعلم أنه لابد للحادث من محدث‏.‏ فإذا قيل‏:‏ فلان ضربك، بكي حتى يضرب ضاربه، فكان في فطرته الإقرار /بالصانع وبالشرع الذي مبناه على العدل ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏ الطور‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وفي الصحيحين‏:‏ عن جبير بن مطعم؛ أنه لما قدم في فداء أسارى بدر قال‏:‏ وجدت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور‏.‏ قال‏:‏ فلما سمعت هذه الآية‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ أحسست بفؤادي قد انصدع‏.‏

وذلك أن هذا تقسيم حاصر ذكره اللّه بصيغة استفهام الإنكار، ليبين أن هذه المقدمات معلومة بالضرورة لا يمكن جحدها، يقول‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ‏}‏ أي‏:‏ من غير خالق خلقهم، أم هم خلقوا أنفسهم‏؟‏‏!‏ وهم يعلمون أن كلا النقيضين باطل، فتعين أن لهم خالقًا خلقهم ـ سبحانه وتعالى‏.‏

وهنا طرق كثيرة مثل أن يقال‏:‏ الوجود إما قديم وإما محدث، والمحدث لابد له من قديم، والموجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب ونحو ذلك‏.‏ وعلى كل تقدير، فقد لزم أن الوجود فيه موجود قديم واجب بنفسه، وموجود ممكن محدث كائن بعد أن لم يكن‏.‏ وهذان قد اشتركا في مسمى الوجود، وهو لا يعقل موجود في الشاهد إلا جسمًا، فلزمه ما ألزمه لغيره من التشبيه والتجسيم الذي ادعاه‏.‏

فعلم أن من نفي شيئًا من صفات اللّه بمثل هذه الطريقة، فإن نفيه باطل،/ ولو لم يرد الشرع بإثبات ذلك، ولا دل ـ أيضًا ـ عليه العقل‏.‏ فكيف ينفي بمثل ذلك ما دل الشرع والعقل على ثبوته‏؟‏‏!‏ فيتبين أن كل من نفي شيئًا من الصفات ـ لأن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم ـ لزمه ما ألزم به غيره‏.‏ وحينئذ فيكون الجواب مشاركً‏.‏ وأيضا، فإذا كان هذا لازمًا على كل تقدير، علم أن الاستدلال به على نفي الملزوم باطل؛ فإن الملزوم موجود لا يمكن نفيه بحال؛ ولهذا لا يوجد الاستدلال بمثل هذا في كلام أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإنما هو مما أحدثته الجهمية والمعتزلة، وتلقاه عنهم كثير من الناس‏:‏ ينفي عن الرب ما يجب نفيه عن الرب؛ مثل أن ينفي عنه النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها؛ كالجهل، والعجز، والحاجة وغير ذلك‏.‏ وهذا تنزيه صحيح، ولكن يستدل عليه بأن ذلك يستلزم التجسيم والتشبيه فيعارض بما أثبته؛ فيلزمه التناقض‏.‏

ومن هنا دخلت ‏[‏الملاحدة الباطنية‏]‏ على المسلمين، حتى ردوا عن الإسلام خلقًا عظيمًا صاروا يقولون لمن نفي شيئًا عن الرب ـ مثل من ينفي بعض الصفات، أو جميعها أو الأسماء الحسنى ـ‏:‏ ألم تنف هذا لئلا يلزم التشبيه والتجسيم‏؟‏‏!‏ فيقول‏:‏ بلي ‏!‏ فيقول‏:‏ وهذا اللازم يلزمك فيما أثبته، فيحتاج أن يوافقهم على النفي شيئًا بعد شيء حتى ينتهي أمره إلى ألا يعرف اللّه بقلبه، ولا يذكره بلسانه، ولا يعبده، ولا يدعوه وإن كان لا يجزم بعدمه، بل يعطل نفسه عن الإيمان به، وقد عرف تناقض هؤلاء‏.‏

/وإن التزم تعطيله وجحده موافقة لفرعون، كان تناقضه أعظم؛ فإنه يقال له‏:‏ فهذا العالم الموجود إذا لم يكن له صانع كان قديمًا أزليًا واجبًا بنفسه ـ ومن المعلوم أن فيه حوادث كثيرة كما تقدم ـ وحينئذ ففي الوجود قديم ومحدث وواجب وممكن، وحينئذ فيلزمك أن يكون ثم موجودان‏:‏ أحدهما قديم واجب‏.‏والآخر‏:‏ محدث ممكن‏.‏

فيلزمك ما فررت منه من التشبيه والتجسيم، بل هذا يلزمك بصريح قولك، فإن العالم المشهود جسم تقوم به الحركات؛ فإن الفلك جسم، وكذلك الشمس والقمر والكواكب أجسام تقوم بها الحركات والصفات، فجحدت رب العالمين لئلا تجعل القديم الواجب جسمًا تقوم به الصفات والحركات‏؟‏‏!‏ ثم في آخر أمرك جعلت القديم الأزلي الواجب الوجود بنفسه أجسامً متعددة، تشبه غيرها من وجوه كثيرة تقوم بها الصفات والحركات، مع ما فيها من الافتقار والحاجة‏.‏ فإن الشمس والقمر والكواكب محتاجة إلى محالها التي هي فيها، ومواضعها التي تحملها وتدور بها، والأفلاك كل منها محتاج إلى ما سواه، إلى غير ذلك من دلائل نقصها وحاجتها‏!‏

/والمقصود هنا أن هذا الذي فر من أن يجعل القديم الواجب موجودًا ـ وموصوفًا بصفات الكمال، لئلا يلزم ما ذكره من التشبيه والتجسيم، وجعل نفي هذا اللازم دليلًا على نفي ما جعله ملزومًا له ـ لزمه في آخر الأمر ما فر منه من جعله الموجود الواجب جسمًا يشبه غيره، مع أنه وصفه بصفات النقص التي يجب تنزيه الرب عنها، ومع أنه جحد الخالق ـ جل جلاله ـ فلزمه مع الكفر الذي هو أعظم من كفر عامة المشركين، فإنهم كانوا يقرون بالصانع مع عبادتهم لما سواه، ولزمه مع هذا أنه من أجهل بني آدم وأفسدهم عقلًا ونظرًا، وأشدهم تناقضًا‏.‏

وهكذا يفعل اللّه بالذين يلحدون في أسمائه وآياته ـ مع دعوى النظر والمعقول والبرهان والقياس كفرعون وأتباعه ـ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عليكم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عليكمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 23ـ37‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي ُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51ـ 56‏]‏‏.‏

/ وسبب ذلك‏:‏ أن لفظ ‏[‏الجسم‏]‏ و‏[‏التشبيه‏]‏ فيه إجمال واشتباه ـ كما سنبينه إن شاء اللّه تعالى ـ فإن هؤلاء النفاة لا يريدون بالجسم الذي نفوه ما هو المراد بالجسم في اللغة، فإن الموصوف بالصفات لا يجب أن يكون هو الجسم الذي في اللغة، كما نقله أهل اللغة باتفاق العقلاء، وسنأتي بذلك، وإنما يريدون بالجسم ما اعتقدوه أنه مركب من أجزاء، واعتقدوا أن كل ما تقوم به الصفات فهو مركب من أجزاء، وهذا الاعتقاد باطل‏.‏ بل الرب موصوف بالصفات، وليس جسمًا مركبًا لا من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة، كما يدعون، كما سنبينه إن شاء اللّه ـ تعالى ـ فلا يلزم من ثبوت الصفات لزوم ما ادعوه من المحال، بل غلطوا في هذا التلازم‏.‏ وأما ما هو لازم لا ريب فيه، فذاك يجب إثباته لا يجوز نفيه عن اللّه ـ تعالى ـ فكان غلطهم باستعمال لفظ مجمل، وإحدى المقدمتين باطلة‏:‏ إما الأولى وإما الثانية، كما سيأتي إن شاء اللّه ـ تعالى‏.‏ وهذه قواعد مختصرة جامعة، وهي مبسوطة في مواضع أخرى‏.‏