فصل: وجوب الدعوة إلى الله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر الفقه الإسلامي في ضوء القرآن والسنة



.وقت بداية الدعوة:

الدعوة إلى الله من أول يوم:
هناك فاصل زمني طويل بين الإيمان ونزول الأحكام، وليس هناك فاصل بين الإيمان والدعوة؛ لأن هذه الأمة مبعوثة كالأنبياء للدعوة إلى الله.
وكان كل نبي يُعلِّم أمته بعد الإيمان الأحكام، ولكن الله عز وجل بعد بعثة محمد- صلى الله عليه وسلم- أمره أن يُعلِّم أمته بعد الإيمان الدعوة إلى الدين، ثم علَّمهم فيما بعد أحكام الدين في المدينة؛ لأن هذه الأمة مبعوثة كالأنبياء لنشر الدين في العالم.

.حكم الدعوة إلى الله:

الله عز وجل اختار هذه الأمة واجتباها من بين سائر الأمم، وكَرَّمها وشَرَّفها بهذا الدين والدعوة إليه، فالدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ومسلمة، كل حسب قدرته وعلمه، والدعوة إلى الله مسؤولية الأمة، وحاجة الأمة.
1- قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف/108].
وهذا النص عام، مطلق في الزمان: ليلاً ونهاراً.. ومطلق في المكان: شمالاً وجنوباً.. وشرقاً وغرباً.. ومطلق في الجنس: العرب والعجم.. ومطلق في النوع: الرجال، والنساء.. ومطلق في السن: الكبار والصغار.. ومطلق في اللون: الأبيض والأسود.. ومطلق في الطبقات: السادة والعبيد.. والأغنياء والفقراء.
فالدعوة لهؤلاء واجبة؛ لأنهم من الناس، وهذا الدين لكل الناس.. والدعوة من هؤلاء إذا أسلموا واجبة؛ لأنهم من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- وأتباعه.
2- وقال الله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم/52].
3- وقال عليه الصلاة والسلام يوم النحر في حجة الوداع مخاطباً جميع مَنْ آمن به من أصحابه عرباً وعجماً.. رجالاً ونساء.. أبيضهم وأسودهم.. غنيهم وفقيرهم.. سادتهم ومماليكهم: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ». متفق عليه.
4- وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». أخرجه البخاري.
5- وببذل الجهد لإعلاء كلمة الله ونشرها تحصل لنا الهداية، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت/ 69].

.حقيقة المجاهدة تكون:

بإتمام العمل، والتضحية بكل شيء من أجله، والاستقامة عليه حتى الممات.
وأغلى شيء في خزائن الله هو الهداية، لا يعطيها الله إلا لخواص خلقه، ممن طلبها وجاهد في سبيل تحصيلها، ممن علم الله أنه أهل لها، وهم المؤمنون، ولذلك أمرنا الله عز وجل أن نطلبها منه كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة، كما قال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة/6- 7].

.بذل الجهد لإعلاء كلمة الله:

بذل الجهد لإعلاء كلمة الله له ثلاث مراحل:
1- جهد على الكافر لعله يهتدي، كما قال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)} [السجدة/3].
2- جهد على العاصي ليكون مطيعاً، وعلى الغافل ليكون ذاكراً، كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران/104].
3- جهد على الصالح ليكون مصلحاً، وعلى الذاكر ليكون مذكِّراً.
1- قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر/1- 3].
2- وقال الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)} [الغاشية/21].
- ولما علم الصحابة رضي الله عنهم وجوب الدعوة إلى الله، وفضل الدعوة إلى الله، تسابقوا في ميادين الدعوة، والتعليم، والجهاد من أجل إعلاء كلمة الله، ونشرها في العالم، يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وفي قلوبهم الرحمة والشفقة على الناس، وشواهد ذلك معلومة في كتب الحديث والسير.
قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل/125].

.وجوب الدعوة إلى الله:

الدعوة إلى الله واجبة على كل أحد بحسب علمه وقدرته.
والمسلمون قسمان:
1- عالم يبين الحق بنفسه، ويدعو الناس إلى اتباعه كما قال مؤمن آل فرعون: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)} [غافر/ 38- 39].
2- مسلم لكنه غير عالم، فهذا يأمر الناس ويدعوهم إلى اتباع الرسل والعلماء كما قال الله عن صاحب يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} [يس/ 20- 21].
فالكل يقوم بالدعوة إلى الله، ليعبد الله وحده لا شريك له.
العالم يبين الحق بنفسه.. وغير العالم يرشد الناس إلى اتباع العلماء الذين هم أعرف الخلق بالله.

.وظيفة الأمة:

الدعوة إلى الله وظيفة كل الأمة، أما الفتاوى في مسائل الأحكام، فَمَنْ علم حكماً أفتى به، ومن جهله دل المستفتي على العلماء الذين اختصهم الله بمزيد من العلم والفقه، والفهم والحفظ، والدال على الخير كفاعله، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتدافعون الفتوى فيما بينهم، والمفتون فيهم محدودون كالخلفاء الراشدين ومعاذ، وزيد بن ثابت، وابن مسعود وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم.
فالفتوى ليست مباحة لكل أحد، أما الدعوة فكل يدعو إلى الله بحسب ما عنده من العلم، وأقله آية.
فالدعوة تنتج المهتدين، والتعليم ينتج المفتين، لكنه لخواص الأمة، وكل منهما مطلوب شرعاً، الدعوة من عموم المسلمين، والإفتاء من خواص المسلمين وهم العلماء.
فالعلماء والفقهاء هم أهل الفتوى، كما قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل/43].
والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأمة كلها كل بحسب علمه وقدرته وبصيرته، وقد قام بها أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- من أول يوم قبل نزول أحكام الصلاة والزكاة والصيام وغيرها، وهذه الأمة مزاجها التضحيات والجهد لإعلاء كلمة الله، وحسن العمل ودوامه.
1- قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف/108].
2- وقال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة/71].

.عقوبة ترك الدعوة إلى الله:

1- أول ما خرج من حياة الأمة: جهد الدعوة.. ثم التضحية.. ثم حياة البساطة.
فقد اجتهد الأعداء على هذه الصفات حتى أخرجوها من حياة الأمة، فانقلب الحال، وصار الجهد والتضحية للدنيا، وصار الإنسان يسعى ليعيش بالرفاهية، وصار المجتمع يستنكر الزنى والربا وشرب الخمر، ولا يستنكر ترك الدعوة إلى الله وخروجها من حياة الأمة.
2- كانت العبادة والدعوة في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه على كل الأمة، ثم صارت العبادة في الأمة، والدعوة على بعض أفراد الأمة، فحلَّت بالأمة المصائب والعقوبات، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

.حكمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حِكم ثلاث:
الأولى: رجاء انتفاع المأمور بما يوعظ به كما قال سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات/55].
الثانية: الخروج من عهدة التقصير الذي يسبب العقوبة.
1- قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة/78- 79].
2- وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)} [الأعراف/164].
الثالثة: إقامة الحجة على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن رسل الله كما قال سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء/165].

.واجب المسلم والمسلمة:

على كل مسلم ومسلمة واجبان:
الواجب الأول: العمل بالدين، بعبادة الله وحده لا شريك له، وطاعة الله ورسوله، وفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه.
1- قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء/36].
2- وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)} [الأنفال/20].
الواجب الثاني: الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
1- قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران/104].
2- وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَو آيَةً». أخرجه البخاري.
3- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ». أخرجه مسلم.

.فقه الخسران في الشرع:

الخسران في الشرع هو غبن الإنسان في حظوظه من ربه عز وجل.
وهذا هو الخسران المبين.
فمن خسر ربه.. وخسر دينه.. وخسر وقته.. وخسر عمره.. وخسر الجنة.. فلا أحد أشد خسارة منه.
وكل إنسان خاسر في الدنيا والآخرة إلا من اتصف بأربع صفات هي:
الإيمان بالله.. والعمل الصالح.. والتواصي بالحق.. والتواصي بالصبر.
قال الله تعالى {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر/1- 3].
وقد أعطى الله كل إنسان أعظم رأس مال في الدنيا، وهو عمر الإنسان بأيامه ولياليه، وأمره بالاتجار معه في رأس هذا المال؛ ليسعد في دنياه وآخرته.
والناس في تحريك رأس هذا المال صنفان:
1- العاقل يحرك رأس هذا المال، ويتّجر به مع ربه الكريم الذي يعطيه على الحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، الى ما لا يعلمه إلا الله من الحسنات.
فأوقاته تارة في عبادة.. وتارة في دعوة.. وتارة في تعليم.. وتارة في إصلاح وإحسان.
2- الأحمق، وهو الذي يلعب برأس هذا المال بإنفاق أوقاته في مساخط الله.

.فقه الاستفادة من الأوقات:

الله عز وجل اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ووعدهم على ذلك الجنة، فعلى المسلم أن يقضي وقته على الكيفية التي قضاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فيؤدي فرائض الله عز وجل، ويمتثل أمر ربه في كل حال من أحواله كل يوم... عند الوضوء، وعند الأكل، وعند النوم، وفي سائر أحواله، ويصرف جزءاً يسيراً من وقته في أمور الكسب والمعاش.
وجُلَّ وقته يدعو الناس إلى الله كي يعبدوه ويوحدوه، فإذا فرغ، أو لم يتيسر له من يدعوه، تزوَّد من العلم، أو عَلَّم غيره من المسلمين أحكام الدين.
فإذا فرغ، أو لم يتيسر له من يعلمه، أو يتعلم منه اشتغل بخدمة إخوانه المسلمين، وقضاء حاجاتهم، والتعاون على البر والتقوى.
فإذا فرغ، أو لم يتيسر له أن يقوم بذلك اشتغل بنوافل العبادات كالسنن المطلقة، وتلاوة القرآن، والأذكار ونحوها من القُرَب والأعمال الصالحة، وهكذا يُقدم ما نفعه أعم للناس في كل حال.

.أصناف المدعوين وكيفية دعوتهم:

الناس مختلفون، وبحسب اختلافهم، واختلاف مداركهم، وأعمالهم، تختلف أحكام دعوتهم كما يلي:
1- من عنده نقص في الإيمان وجهل بالأحكام:
نصبر على أذاه وندعوه، ونعلِّمه بالرفق التام واللين، والإرشاد بلطف، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- مع الأعرابي.
عن أنس رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي المَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم- إذْ جَاءَ أعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي المَسْجِدِ، فَقَالَ أصْحَابُ رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم-: مَهْ مَهْ. قال: قال رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ.
ثُمَّ إنَّ رَسُولَ الله- صلى الله عليه وسلم- دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «إنَّ هَذِهِ المَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا البَوْلِ وَلا القَذَرِ، إنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلاةِ، وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ». أوْ كَمَا قال رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم-، قال: فَأمَرَ رَجُلاً مِنَ القَوْمِ، فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَنَّهُ عَلَيْهِ. متفق عليه.
2- من عنده نقص في الإيمان وعلم بالأحكام:
فهذا يدعى بالحكمة والموعظة الحسنة ويدعى له؛ ليزيد إيمانه فيطيع ربه، ويتوب من معصيته.
عَنْ أَبي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: إنَّ فَتىً شَابّاً أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، ائْذَنْ ِلي بِالزِّنَى، فَأَقْبَلَ القَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، قَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: «ادْنُهْ» فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ: «أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟» قَالَ: لَا وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟».
قَالَ: لَا وَالله يَا رَسُولَ الله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ»، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ». قال: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الفَتَى يَلْتَفِتُ إلَى شَيْءٍ. أخرجه أحمد.
3- من عنده قوة في الإيمان وجهل بالأحكام:
فهذا يدعى مباشرة ببيان الحكم الشرعي، وبيان خطر اقتراف المعاصي، وإزالة المنكر الذي وقع فيه.
عن ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُما أنَّ رَسُولَ الله- صلى الله عليه وسلم- رَأى خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: «يَعْمِدُ أحَدُكُمْ إلَى جَمْرَةٍ مِن نارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ»، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم-: خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: لا، وَالله لا آخُذُهُ أبَداً وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم-. أخرجه مسلم.
4- من عنده قوة في الإيمان وعلم بالأحكام:
فهذا ليس له عذر، يُنْكَر عليه بقوة، ويُعَامل معاملة أشد مما سبق؛ لئلا يكون قدوة لغيره في المعصية، كما اعتزل النبي- صلى الله عليه وسلم- الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك خمسين ليلة، وأمر الناس بهجرهم لما تركوا الخروج لغزوة تبوك مع كمال إيمانهم وعلمهم، ولا عذر لهم، حتى تاب الله عليهم، وهم هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب ابن مالك رضي الله عنهم، والقصة مفصلة في الصحيحين.
قال الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} [التوبة/118].
5- من عنده جهل بالإيمان وجهل بالأحكام:
يدعى إلى لا إله إلا الله، ويُعَرَّف بأسماء الله وصفاته، ووعده ووعيده، وآلائه ونعمه، ويبين له عظمة الله وقدرته، وأن له الخلق والأمر، فإذا استقر الإيمان في قلبه يُعَرَّف بالأحكام تدريجياً الصلاة ثم الزكاة وهكذا.
عن ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُما أنَّ رَسُولَ الله- صلى الله عليه وسلم- لَمّا بَعَثَ مُعاذاً رَضِيَ الله عَنْهُ عَلَى اليَمَنِ، قال: «إنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أهْلِ كِتابٍ، فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ عِبَادَةُ الله، فَإذاَ عَرَفُوا الله، فَأخْبِرْهُمْ أنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإذَا فَعَلُوا، فَأخْبِرْهُمْ أنَّ الله فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكاةً مِنْ أمْوَالِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرائِهِمْ، فَإذَا أطاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أمْوَالِ النَّاسِ». متفق عليه.