فصل: كتاب الغرور وأقسامه ودرجاته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين (نسخة منقحة)



.بيان معالجة الكبر واكتساب التواضع:

واعلم أن الكبر من المهلكات، ومداواته فرض عين، ولك في معالجته مقامان‏:‏
الأول‏:‏ في استئصال أصله وقطع شجرته، وذلك بأن يعرف الإنسان نفسه ويعرف ربه، فإنه إذا عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل من كل ذليل، ويكفيه أن ينظر في أصل وجوده بعد العدم من تراب، ثم من نطفة خرجت من مخرج البول، ثم من علقة، ثم من مضغة، فقد صار شيئاً مذكوراً، بعد أن كان جماداً لا يسمع ولا يبصر، ولا يحس ولا يتحرك، فقد ابتدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبفقره قبل غناه‏.‏
وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله ‏:‏‏{من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره‏}‏ ‏[‏عبس ‏:‏18- 19‏]‏ ثم امتن عليه بقوله‏:‏ ‏{ثم السبيل يسره‏}‏ ‏[‏عبس ‏:‏20‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{‏فجعلناه سميعاً بصيراً‏}‏ ‏[‏الدهر‏: ‏2‏]‏ فأحياه بعد الموت، وأحسن تصويره، وأخرجه إلى الدنيا، فأشبعه وأرواه، وكساه وهداه وقواه‏، ‏فمن هذا بدايته، فأي وجه لكبره وفخره‏؟‏على أنه لو دام له الوجود على اختياره لكان لطغيانه طريق، بل قد سلط عليه الأخلاط المتضادة، والأمراض الهائلة، بينما بنيانه قد تم، إذ هو قد وهى وتهدم، لا يملك الشيء لنفسه ضراً ولا نفعاً، بينها هو يذكر الشيء فينساه، ويستلذ بشيء فيرديه، ويروم الشيء فلا يناله، ثم لا يأمن أن يسلب حياته بغتة‏، ‏هذا أوسط حاله، وذاك أول أمره، وأما آخر أمره، فالموت الذي يعده جماداً كما كان، ثم يلقى في التراب فيصير جيفة منتنة، وتبلى أعضاؤه، وتنخر عظامه، ويأكل الدود أجزاؤه، ويعود تراباً يعمل منه الكيزان، ويعمر منه البنيان، ثم بعد طول البلى تجمع أجزاؤه المتفرقة، ويحضر عرصة القيامة، فيرى أرضاً مبدلة، وجبالاً مسيرة، وسماءً منشقة، ونجوماً منكدرة، وشمساً مكورة، وأحوالاً مظلمة، وجحيماً تزفر، وصحائف تنشر، ويقال له‏:‏ ‏{‏اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏14‏]‏‏.‏ فيقول ‏:‏ وما كتابي‏؟‏ فيقال ‏:‏ كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وتتكبر بنعيمها ملكان يحصيان ما تنطق به وتعمل من قليل وكثير، وقيام وقعود، وأكل وشرب، وقد نسيت ذلك، وأحصاه الله تعالى، فهلم إلى الحساب عليه، وأعد جواباً به، وإلا فأنت تساق إلى النار، فما لمن هذه حاله التكبر‏؟‏ فإن صار إلى النار، فالبهائم أحسن حالاً منه، لأنه تعود إلى التراب، ومن هذا حاله وهو على شك من العفو عن أخطائه، كيف يتكبر‏؟‏‍‍‍ ?
ومن الذي يسلم من ذنب يستحق به العقوبة، وما مثله إلا كمثل رجل جنى على ملك جناية استحق أن يضرب لأجلها ألف سوط، فحبس في السجن ليخرج فيعاقب، وهو منتظر أن يدعى به لذلك‏.‏ أفتراه يتكبر على أهل السجن‏؟‏ وهل الدنيا إلا سجن، وهل المعاصي إلا موجبة للعقاب‏؟‏‏، ‏وأما معرفة ربه، فيكفيه أن ينظر في آثار قدرته وعجائب صنعته، فتلوح له العظمة، وتظهر له المعرفة، فهذا هو العلاج القالع لأصل الكبر‏، ‏ومن العلاج العملي التواضع بالفعل لله تعالى ولعباده، وذلك بالمواظبة على استعمال خلق المتواضعين، وقد تقدمت الإشارة إلى طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان عليه من التواضع والأخلاق الجميلة‏.‏
المقام الثاني‏:‏ فيما يعرض من التكبر بالأنساب، فمن اعتراه الكبر من جهة النسب، فليعلم أن هذا تعزز بكمال غيره، ثم يعلم أباه وجده، فإن أباه القريب نطفة قذرة، وأباه البعيد تراب، ومن اعتراه الكبر بالجمال، فلينظر إلى باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلى ظاهره نظر البهائم، ومن اعتراه من جهة القوة، فليعلم أنه لو آلمه عرق، عاد أعجز من كل عاجز، إن حمى يوم تحلل من قوته ما لا يود في مدة، وإن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته، وبقة لو دخلت في أذنه لأقلقته‏.‏
ومن تكبر بسبب الغنى، فإذا تأمل خلقاً من اليهود، وجدهم أغنى منه، فأف لشرف تسبق به اليهود ويستلبه السارق في لحظة، فيعود صاحبه ذليلاً‏، ‏ومن تكبر بسبب العلم، فليعلم أن حجة الله على العالم آكد من الجاهل، وليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده، فإن خطره أعظم من خطر غيره، كما أن قدره أعظم من قدر غيره‏، ‏وليعلم أيضاً أن الكبر لا يليق‏ إلا‏ بالله سبحانه، وأنه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله تعالى بغيضاً عنده‏.‏ وقد أحب الله منه أن يتواضع، وكذلك كل سبب يعالجه بنقيضه ويستعمل التواضع‏، ‏واعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان ووسط‏:‏فطرفه الذي يميل إلى الزيادة تكبراً‏، ‏وطرفه الذي يميل إلى النقصان يمسي تخاسساً ومذلة‏، ‏والوسط يمسي تواضعاً، وهو المحمود وهو أن يتواضع من غير مذلة، فخير الأمور أوساطها، فمن تقدم على أقرانه فهو متكبر، ومن تأخر عنهم، فهو متواضع، لأنه قد وضع شيئاً من قدره، فأما إذا أدخل على العالم إسكاف أو نحوه، فتنحى له عن مجلسه أو أجلسه فيه، ثم قدم له نعله ومشى معه إلى الباب، فقد تخاسس وتذلل، فذلك غير محمود، بل المحمود العدل، وهو أن يعطى كل ذي حق حقه، لكن تواضعه للسوقة بالرفق في السؤال واللين في الكلام،
وإجابة الدعوة، والسعي في الحاجة، ولا يحقره، ولا يستصغره، والله أعلم‏.‏

.الفصل الثاني في العجب‏:‏

روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ «بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه، خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة»‏ ‏وقال صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏«‏ثلاث مهلكات ‏:‏ شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه‏» ‏‏، ‏وروى عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ الهلاك في شيئين‏:‏ العجب والقنوط‏.‏ وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالطلب والتشمير، والقانط لا يطلب، والمعجب يظن أنه قد ظفر بمراده فلا يسعى‏، ‏قال مطرف رحمه الله‏:‏ لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً، أحبُ إلى من أن أبيت قائما وأصبح معجباً‏، ‏واعلم أن العجب يدعو إلى الكبر، لأنه أحد أسبابه، فيتولد من العجب الكبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة، وهذا مع الخلق‏، ‏فأما مع الخالق، فإن العجب بالطاعات نتيجة استعظامها، فكأنه يمن على الله تعالى بفعلها، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها، ويعمى عن آفاتها المفسدة لها‏، ‏وإنما يتفقد آفات الأعمال من خاف ردها دون من رضيها وأعجب بها‏، ‏والعجب إنما يكون بوصف كمال من علم أو عمل، فإن انضاف إلى ذلك أن يرى حقاً له عند الله إدلالاً، فالعجب، يحصل باستعظام ما عجب به،
والإدلال يوجب توقع الجزاء، مثل أن يتوقع إجابة دعائه وينكر رده‏.‏

.فصل في علاج العجب:

اعلم أن الله سبحانه هو المنعم عليك بإيجادك وإيجاد أعمالك، فلا معنى لعجب عامل بعمله، ولا عالم بعلمه، ولا جميل بجماله، ولا غنى بغناه، إذ كل ذلك من فضل الله تعالى، وإنما الآدمي محل لفيض النعم عليه، وكونه محلاً له نعمة أخرى‏، ‏فان قلت‏:‏ إن العمل حصل بقدرتك ولا يتصور العمل إلا بوجودك ووجود عملك وإرادتك وقدرتك فمن أين قدرتك، وكل ذلك من الله تعالى لا منك، فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه، وهذا المفتاح بيد الله تعالى، وما لم تعط المفتاح لا يمكنك العمل كما لو قعدت عند خزانة مغلقة لم تقدر على ما فيها إلا أن تعطى مفتاحها‏.‏ وفي ‏‏الصحيحين‏ ‏ من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏«لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة‏» ‏، قالوا ‏:‏ ولا أنت يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏«‏ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل‏» ‏‏.
‏واعلم أن العجب يكون بالأسباب التي يقع بها الكبر، وقد سبق ذكرها وعلاجها‏، ‏ومن ذلك العجب بالنسب، كما يتخيل الشريف أنه ينجو بشرف آبائه، وعلاجه أن يعلم أنه متى خالف آباءه، وظن أنه ملحق بهم، فقد جهل، وإن اقتدى بهم، فإنه لم يكن العجب من أخلاقهم، بل الخوف والإزراء على النفس‏.‏ وإنما شرفوا بالطاعة المحمودة، لا بنفس النسب‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏}‏ ‏[‏الحجرات ‏:‏13‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏«يا فاطمة، لا أغنى عنك من الله شيئاً‏» ‏‏.‏
فإن قلت ‏:‏ إنما يرجو الشريف أن يشفع فيه ذوو قرابته‏.‏
فالجواب‏:‏ أن كل المسلمين يرجون الشفاعة، وقد يشفع في الشخص بعد إحراقه بالنار، وقد يقوى الذنب فلا تنجى الشفاعة‏.‏ وفي ‏الصحيحين‏ من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏«‏لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول‏:‏ يا رسول الله، أغثني‏،‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك‏» ‏‏، ‏ومثل المنهمك في الذنوب اعتماداً على رجاء الشفاعة، كمثل المريض المنهمك في الشهوات، اعتماداً على طبيبه الحاذق المشفق، وذلك جهل، فإن اجتهاد الطبيب، ينفع بعض الأمراض لا كلها‏، ‏ويوضح هذا أن سادات الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يخافون من الآخرة، فكيف يتكل من ليس في مثل مراتبهم ‏؟‏‏!‏ومن ذلك العجب بالرأي الخطأ، كما قال الله تعالى‏:‏‏{‏أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏8‏]‏‏.‏ وعلاج هذا أشد من علاج غيره، فإن هذا متى كان معجباً برأيه لم يصغ إلى نصح ناصح، وكيف يترك ما يعتقده نجاة‏؟‏‏!‏ وإنما علاجه في الجملة أن يكون متهماً لرأيه أبداً، لا يغتر به، إلا أن يشهد له قاطع من كتاب، أو سنة أو دليل عقلي جامع لشروط الأدلة، ولن يعرف ذلك إلا بمجالسة أهل العلم وممارسة الكتاب والسنة‏.‏
والأولى لمن يتفرغ لاستغراق العمر في العلم أن لا يخوض في المذاهب، ولكن يقف عند اعتقاد الجمل، وأن الله سبحانه واحد لا شريك له، ‏{‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏}‏، وأن رسول الله صادق فيما جاء به ويؤمن بما جاء به القرآن من غير بحث ولا تنقير، ويصرف زمنه في التقوى، وأداء الطاعات، فمتى خاض في المذاهب ورام ما لا يصل إلى معرفته، هلك.

.كتاب الغرور وأقسامه ودرجاته:

ومن الناس من غرته الدنيا، فقال‏:‏ النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة نسيئة، وهذا محل التلبيس، فإن النقد لا يكون خيراً من النسيئة، إلا إذا كان مثل النسيئة، ومعلوم أن عمر الإنسان بالإضافة إلى مدة الآخرة ليس بجزء من ألف جزء إلى أن ينقطع النفس، وإنما أراد من قال‏:‏ النقد خير من النسيئة، إذا كانت النسيئة مثل النقد، وهذا غرور الكفار‏، ‏فأما ملابسو المعاصي مع سلامة عقائدهم، فإنهم قد شاركوا الكفار في هذا الغرور، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة، إلا أن أمرهم أسهل من أمر الكفار، من جهة أن أصل الإيمان يمنعهم من عقاب الأبد‏، ‏ومن العصاة من يغتر، فيقول‏:‏ إن الله كريم، وإنما نتكل على عفوه، وربما اغتروا بصلاح آبائهم‏، ‏وقد قال العلماء‏:‏ من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئاً هرب منه، ومن رجا الغفران مع الإصرار، فهو مغرور‏، ‏وليعلم أن الله تعالى مع سعة رحمته شديد العقاب، وقد قضى بتخليد الكفار في النار، مع أنه لا يضره كفرهم، وقد سلط الأمراض والمحن على خلق من عباده في الدنيا، وهو سبحانه قادر على إزالتها، ثم خوفنا من عقابه، فكيف لا نخاف‏؟‏‏!‏ فالخوف والرجاء سائقان يبعثان على العمل، وما لا يبعث على العمل فهو غرور‏.‏ يوضح هذا أن رجاء أكثر الخلق يحملهم على البطالة، وإيثار المعاصي‏، ‏والعجب أن القرن الأول عملوا وخافوا، ثم أهل هذا الزمان أمنوا مع التقصير واطمأنوا، أتراهم عرفوا من كرم الله تعالى ما لم يعرف الأنبياء والصالحون‏، ‏ولو كان هذا الأمر يدرك بالمنى، فلم تعب أولئك وكثر بكاؤهم‏؟‏‏!‏ وهل ذم أهل الكتاب بقوله‏:‏ ‏{‏يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏169‏]‏، إلا لمثل هذا الحال‏؟‏‏!‏وأما من اغتر بصلاح آبائه، فهلا يذكر قصة نوح عليه السلام مع ابنه، وإبراهيم عليه السلام مع أبيه، ومحمد مع عمه صلى الله عليه وآله وسلم وعلى سائر النبيين‏، ‏ويقرب من هذا الغرور، غرور أقوام لهم طاعات ومعاصي، إلا أن معاصيهم أكثر، وهم يظنون أن حسناتهم ترجح، فترى الواحد منهم يتصدق بدرهم ويكون قد تناول من الغصب أضعاف ذلك، ولعل الذي تصدق به من المغصوب، ويتكل على تلك الصدقة، وما هو إلا كمن وضع درهما في كفه وألفاً في أخرى، ثم رجا أن يرجح الدرهم بآلاف‏، ‏ومنهم من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه، وسبب ذلك أنه يحفظ عدد حسناته، ولا يحاسب نفسه على سيئاته، ولا يتفقد ذنوبه، كالذي يستغفر الله ويسبحه مائة مرة في اليوم ثم يظل طول النهار يغتاب المسلمين، ويتكلم بما لا يُرضى، فهو ينظر في فضائل التسبيح والاستغفار، ولا ينظر في عقوبة الغيبة والكلام المنهي عنه‏.‏

.فصل: ‏الاغترار واقع بالعلماء والعباد‏:

ويقع الاغترار في الأغلب في حق أربعة أصناف‏:‏العلماء، والعباد، والمتصوفة، والأغنياء‏.‏
الصنف الأول‏:‏ العلماء فأما أهل العلم، فالمغترون منهم فرق أحكموا العلوم الشرعية والعقلية، وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي، وإلزامهم الطاعات، واغتروا بعلمهم، وظنوا أنهم من الله بمكان، ولو نظر هؤلاء بعين البصيرة، علموا أن علم المعاملة لا يراد به إلا العمل، ولولا العمل لم يكن له قدر‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏9‏]‏ ولم يقل‏:‏ قد أفلح من تعلم كيف يزكيها، فإن تلا عليه الشيطان فضائل أهل العلم، فليذكر ما ورد في العالم الفاجر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 176‏]‏، و‏{‏كمثل الحمار يحمل أسفاراً‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏5‏]‏‏، ‏ومنهم فرقة أخرى أحكموا العلم والعمل الظاهر، ولم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة منها، كالكبر والحسد والرياء، وطلب العلو، وطلب الشهوة، فهؤلاء زينوا ظاهرهم، وأهملوا بواطنهم، ونسوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏«‏إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم‏».
‏فتعاهدوا الأعمال، ولم يتعاهدوا القلوب، والقلب هو الأصل، إذ لا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم‏، ‏ومثال هؤلاء كمثل رجل زرع زرعاً، فنبت معه حشيش يفسده، فأمر بقلعه، أخذ يجز رؤوسه وأطرافه ويترك أصوله، فلم تزل أصوله تقوى‏، ‏وفرقة علموا أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة، إلا أنهم بعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، وإنما يبتلى بذلك العوام دون من بلغ مبلغهم من العلم، فإذا ظهر عليهم مخايل الكبر والرياسة‏.‏ قال أحدهم‏:‏ ما هذا بكبر، وإنما هو طلب عز الدين، وإظهار شرف العلم، وإرغام المبتدعين، فإني لو لبست الدون من الثياب، وجلست في الدون من المجالس، شمتت بي أعداء الدين، وفرحوا بذلي، وفي ذلي ذل الإسلام، وينسى الغرور، وأن إبليس هو الذي سول له هذا بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يتواضعون ويؤثرون الفقر والمسكنة‏، ‏وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما قدم الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع خفيه وأمسكهما، وخاض الماء، ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة‏:‏ لقد صنعت اليوم صنعاً عظيماً عند أهل الأرض، فصك في صدره وقال‏:‏ أوه لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة‏، ‏إنكم كنتم أذل وأحقر الناس، فأعزكم الله برسوله، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله‏‏‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ لما قدم الشام، استقبله الناس وهو على بعيره‏.‏ قيل له‏:‏ لو ركبت برذوناً تلقى به عظماء الناس ووجوههم‏؟‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا أراكم هاهنا، إنما الأمر من هاهنا-وأشار بيده إلى السماء- خلوا سبيل جملي‏، ‏ثم العجب من مغرور يطلب عز الدنيا بالثياب الرفيعة، والخيول الفارهة ونحو ذلك، وإذا خطر له خاطر الرياء قال‏:‏ إنما غرضي بهذا إظهار العلم والعمل، لاقتداء الناس بي ليهتدوا إلى الدين، ولو كان هذا قصده لفرح باقتداء الناس بغيره كما يفرح باقتدائهم به، لأن من كان قصده صلاح الخلق يفرح بصلاحهم على يد من كان، وكذلك من يدخل منهم على سلطان، ويتودد إليه، ويثنى عليه، ويتواضع له ويقول‏:‏ إنما غرضي بهذا أن أشفع في مسلم عنه الضرر، والله يعلم أنه لو أظهره لبعض أقرانه قبول عند السلطان لثقل عليه ذلك‏، ‏وقد ينتهي غرور بعضهم أنه يأخذ من مالهم الحرام ويقول‏:‏ هذا مال لا ملك له، وهو لمصالح المسلمين، وأنت إمام من أئمتهم، فيغير بهذا التلبيس من جهة نظره إلى نفسه‏.‏ وربما كان دجالاً من الدجالين من جهة قوله‏:‏ هذا مال لا ملك له‏.‏ وغاية الأمر وقوع الاختلاط في الأموال، وذلك لا يمنع كونهما حراماً، وقد يكون عالماً بمن أخذ منه المال وفرقة أخرى أحكموا العلم، وطهروا جوارحهم وزينوها بالطاعات، وتفقدوا قلوبهم بتصفيتها من الرياء والحسد والكبر ونحو ذلك، ولكن بقيت في زوايا القلب خفايا من مكائد الشيطان وخدع النفس لم يفطنوا لها وأهملوها، فترى أحدهم يسهر ليله وينصب نهاره في جمع العلوم وترتيبها وتحسين ألفاظها، ويرى أن باعثه على ذلك الحرص على إظهار دين الله تعالى، وربما كان الباعث لذلك طلب الذكر وانتشار الصيت، ولعله لا يخلو في تصنيفه من الثناء على نفسه، إما صريحاً بالدعاوى الطويلة العريضة، وإما ضمناً بالطعن في غيره ليبين في طعنه في غيره أنه أفضل من ذلك الغير، وأعظم منه علماً‏.‏ فهذا وأمثاله من خفايا العيوب التي لا يفطن لها إلا الأكياس الأقوياء، ولا مطمع فيه لأمثالنا من الضعفاء، إلا أن أقل الدرجات أن يعرف الإنسان عيوب نفسه، ويحرص على صلاحها‏.‏
ومن سرته حسنته وساءته سيئته، فهو مرجو أمره، بخلاف من يزكى نفسه ويظن أنه من خيار الخلق‏.‏ فهذا غرور الذين حصلوا العلوم المهمة، فكيف بالذين قنعوا من العلوم بما لا يهمهم وتركوا المهم‏، ‏فمنهم من اقتصر على علم الفتاوى في الحكومات والخصومات وتفاصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لصلاح المعايش، وربما ضيعوا الأعمال الظاهرة وارتكبوا بعض المعاصي من الغيبة والنظر إلى ما لا يحل، والمشي إلى ما لا يجوز، ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والحسد والرياء وجميع المهلكات، فهؤلاء مغرورون من وجهين‏:‏ أحدهما من حيث العمل، والآخر من حيث العلم‏، ‏ومثالهم مثال المريض إذا تعلم نسخة الدواء واشتغل بتكراره وتعليمه، لا بل مثلهم مثل من به علة البرسام وهو مشرف على الهلاك، فاشتغل بتعلم دواء الاستحاضة، وجعل يكرر ذلك، وذلك غاية الغرور‏، ‏وسبب غروره ما سمع في النقل من تعظيم الفقه، ولم يدر أن الفقه هو الفقه عن الله تعالى، ومعرفة صفاته المخوفة والمرجوة، ليستشعر القلب الخوف ويلازم التقوى‏، ‏وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏122‏]‏‏.‏ والذي يحصل له الإنذار غير هذا العلم، فان مقصود هذا العلم حفظ الأموال بشروط المعاملات، وحفظ الأبدان بالأموال، ودفع القتل والجراحات والمال في طريق الله تعالى آلة، والبدن مركب‏، ‏وإنما العلم المهم معرفة سلوك الطريق، وقطع عقابات القلب التي هي من الصفات المذمومة، فهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى‏، ‏ومثال من اقتصر على ذلك، كمثل من اقتصر في سلوك الحج على علم خرز الراوية والخف، ولا شك أنه لابد من ذلك‏:‏ ولكن ليس من الحج في شيء.‏
ومن هؤلاء من اقتصر على علم الخلاف، ولم يهمه إلا طريق المجادلة، والإلزام، والإفحام، ودفع الحق لأجل الغلبة، فهو أسوأ حالاً ممن ذكر قبلهم، وجميع دقائق الجدل في الفقه بدعة لم يعرفها السلف‏، ‏وأما أدلة الأحكام، فيشتمل عليها علم المذهب، وهى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم‏، ‏وأما حيل الجدل، من الكسر، والقلب، وفساد الوضع والتركيب، والتعدية فإنما أبدعت لإظهار الغلبة والإفحام‏، ‏وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة في الأهواء، والرد على المخالفين‏، ‏ثم هؤلاء طائفتان‏:‏ ضالة، ومحقة، فالضالة التي تدعو إلى غير السنة، والمحقة التي تدعو إلى السنة، والغرور شامل لجميعهم‏، ‏أما الضالة، فاغترارها ظاهر، وأما المحقة فاغترارها من حيث إنها ظنت أن الجدال أهم الأمور، وأفضل القربات في دين الله تعالى، وزعمت أنه لا يتم لا حد دينه ما لم يبحث، وأن من صدق الله ورسوله من غير تحرير دليل، فليس بكامل الإيمان، فلهذا الظن الفاسد قطعوا أعمارهم في تعلم الجدل والبحث عن المقالات، وعميت بصائرهم، فلم يلتفتوا إلى القرن الأول، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق، وأنهم قد أدركوا كثيراً من البدع والهوى، فلم يجعلوا أعمارهم ودينهم عرضاً للخصومات والمجادلات، ولم يشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم، بل لم يتكلموا فيه إلا لضرورة رد الضلال، فان رأوه مصراً على بدعته هجروه من غير مماراة ولا جدل‏، ‏وقد روى في الحديث‏:‏ ‏«‏ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل‏» ‏وفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب، من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص، وهم يظنون أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات وهم منفكون عنها أنهم من أهلها، فهؤلاء يدعون إلى الله وهم هاربون منه، فهم أعظم الناس غرة‏، ‏ومن هؤلاء من يعدل عن المنهاج الواجب في الوعظ إلى الشطح وتلفيق كلام خارج عن قانون الشرع والعقل طلباً للأغراب ومنهم من يستشهد بأشعار الوصال والفراق، وغرضهم أن يكثر الصياح مجالسهم والتواجد، ولو على أغراض فاسدة، فهؤلاء شياطين الإنس‏، ‏ومنهم فرقة استغرقوا أوقاتهم في سماع الحديث، وجمع رواياته، وأسانيده الغريبة والعالية، فهم أحدهم أن يدور البلاد، ويرى الشيوخ ليقول‏:‏ أنا أروى عن فلان، ولقيت فلاناً، ولى من الإسناد ما ليس لغيري‏، ‏ومنهم فرقة اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر، وزعموا أنهم علماء الأمة، وأذهبوا أعمارهم في دقائق النحو واللغة، ولو عقلوا لعلموا أن مضيع عمره في معرفة لغة العرب كالمضيع عمره في معرفة لغة الترك، وإنما فارقتها لغة العرب لأجل ورود الشريعة بها، فيكفى من اللغة على الغريبين‏:‏ غريب القرآن، والحديث، ومن النحو ما يقوم به اللسان‏، ‏فأما التعمق إلى درجات لا تتناهى، فذلك يشغل عما هو أجود منه وألزم‏، ‏ومثال التعمق في ذلك، مثال من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن، مقتصراً على ذلك، وذلك غرور، لأن المقصود من الحروف المعاني، وإنما الحروف ظروف وأدوات، ومن احتاج إلى شرب السكنجبين لإزالة الصفراء، فضيع عمره في تحسين القدح الذي يشرب فيه، فهو مغرور، والسعيد من أخذ من كل شيء من هذا حاجته المهمة لا غير، وتجاوز إلى العمل، واجتهد فيه وفي تصفيته من الشوائب، فهذا هو المقصود‏، ‏وفرقة أخرى عظم غرورهم، فوضعوا الحيل في دفع الحقوق، وظنوا أن ذلك ينفعهم، بل ذلك غرور، فان الإنسان إذا ألجأ زوجته إلى أن تبرئه من حقها لم يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى‏، ‏وكذلك هبة الرجل مال الزكاة في آخر الحول لزوجته، واتهابه مالها لإسقاط الزكاة، ونحو ذلك من أنواع الحيل‏.‏
الصنف الثاني‏:‏ أرباب التعبد والعمل، وهم فرق‏ ‏فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالنوافل الفضائل، وربما تعمقوا في استعمال الماء حتى خرجوا إلى الوسوسة في الوضوء، فترى أحدهم لا يرضي بالماء المحكوم له بالطهارة شرعاً، بل يقدر الاحتمالات البعيدة في التنجس، ولا يقدر ذلك في مطعمه، فلو انقلب هذا الاحتياط من الماء إلى المطعم، لكان أشبه بسير السلف، فإن عمر رضي الله عنه توضأ من جرة نصرانية مع ظهور احتمال النجاسة، وكان مع هذا يدع أنواعاً من الحلال خوفاً من الوقوع في الحرام‏ ‏وقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ من مزادة مشركة ‏، ‏ثم منهم من يخرج إلى الإسراف في الماء، ويطول به الأمر، حتى تضيع الصلاة ويخرج وقتها‏، ‏ومنهم من غلبت عليه الوسوسة في تكبيرة الإحرام في الصلاة، حتى ربما فاتته ركعة مع الإمام‏.‏ ومنهم من يتوسوس في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها، فلا يزال يحتاط في التسديدات، والفرق بين الضاد والظاء فوق الحاجة، ونحو ذلك، بحيث يهتم بذلك حتى لا يتفكر فيما سواه، ويذهل عن معنى القرآن والاتعاظ به، وهذا من أٌقبح أنواع الغرور فان الخلق لم يتكلفوا من تحقيق مخارج الحروف في تلاوة القرآن إلا بما جرت به العادة في الكلام‏، ‏ومثال هؤلاء مثال من حمل رسالة إلى سلطان، فأخذ يؤدى الرسالة بالتأنق في مخارج الحروف وتكراره، وهو غافل عن مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس، فما أحراه بالطرد والتأديب‏، ‏وفرقة أخرى اغتروا بقراءة القرآن، فهم يهذونه هذاً، وربما ختموا في اليوم مرتين، فلسان أحدهم يجرى به وقلبه يتردد في أودية الأماني، ولا يتفكر في معاني القرآن ولا يتعظ بمواعظه، ولا يقف عند أوامره ونواهيه، فهذا مغرور يظن أن المقصود من القرآن التلاوة فقط‏، ‏ومثال ذلك، مثال عبد كتب إليه مولاه كتاباً يأمره فيه وينهاه، فلم يصرف عنايته إلى فهمه والعمل به، بل اقتصر على حفظه وتكراره، ظاناً أن ذلك هو المراد منه، مع مخالفته أمر مولاه ونهيه‏، ‏ومنهم من يلتذ بصوته بالقرآن، معرضاً عن معانيه، فينبغي أن يتفقد قلبه فيعرف هل التذاذه بالنظم، أو بالصوت، وبالمعاني‏.‏ وفرقة أخرى اغتروا بالصوم وأكثروا منه، وهم لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة والفضول، ولا بطونهم من الحرام عند الإفطار، ولا خواطرهم عن الرياء‏، ‏ومنهم من اغتر بالحج، فيخرج إليه من غير خروج عن المظالم، وقضاء الديون، واسترضاء الوالدين، وطلب الزاد الحلال، وقد يفعلون ذلك بعد سقوط فرض الحج، ويضيعون في الطريق العبادة والفرائض ويعجزون عن طهارة الثوب والبدن، ولا يحترزون من الرفث والخصام، وهم مع ذلك يظنون أنهم على خير وهم مغرورون‏.‏ وفرقة أخرى أخذوا في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ونسوا أنفسهم‏، ‏ومنهم من يؤم في مسجد، ولو تقدم عليه أورع منه وأعلم، ثقل عليه‏، ‏ومنهم من يؤذن ويظن أن ذلك لله، ولو أذن غيره في غيبته، أشتد عليه ذلك وقال‏:‏ قد زاحمني في مرتبتي‏، ‏ومنهم من يجاور بمكة أو المدينة وقلبه متعلق ببلاده، وقول الناس‏:‏ فلان مجاور بمكة أو المدينة، ثم إنه يجاور ويطمع في أوساخ الناس، وقد يجمع ذلك ويشح به ويجتمع له جملة من المهلكات‏.‏ وما من عمل إلا وفيه آفات، فمن لم يعرفها وقع فيها، ومن أراد أن يعرفها، فلينظر في كتابنا هذا، فينظر في آفات الرياء الحاصل في العبادات من الصوم والصلاة وفي جميع القربات في الأبواب المرتبة في هذا الكتاب، وإنما الغرض الآن الإشارة إلى مجامع ما سبق‏.‏ وفرقة أخرى زهدت في المال، وقنعت بالدون من اللباس والطعام، وقنعت من المسكن بالمساجد، فظنت أنها أدركت رتبة الزهاد، وهم مع هذا شديدو الرغبة في الرياسة والجاه، فقد تركوا أهون الأمرين وباءوا بأعظم المهلكين‏، ‏وفرق أخرى حرصت على النوافل، ولم تعتن بالفرائض، فترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى وصلاة الليل، ولا يجد للفريضة لذة‏.‏ ولا يحرص على المبادرة إليها في أول الوقت، وينسى قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل‏:‏ ‏ ‏ما تقرب المتقربون إلا بمثل أداء ما افترضت عليهم‏ ‏ ‏ الصنف الثالث‏:‏ المتصوفة والمغرورون منهم فرق‏:‏ فرقة منهم اغتروا بالزي والنطق والهيئة، فتشبهوا بالصادقين من الصوفية بالظاهر، ولم يتعبوا أنفسهم في المجاهدة والرياضة، ثم هم يتكالبون على الحرام والشبهات وأموال السلاطين ويمزق بعضهم أعراض بعض إذا اختلفوا في غرض، وهؤلاء غرورهم ظاهر‏، ‏ومثالهم مثال عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال من المقاتلين تثبت أسماؤهم في الديوان، ويقطع كل واحد منهم قطراً من أقطار الأرض، فاشتاقت نفسها إلى ذلك، فلبست درعاً ووضعت على رأسها مغفراً، وتعلمت من رجز الأبطال أبياتاً، وتعلمت زيهم وجمع شمائلهم، ثم توجهت إلى العسكر، فكتب اسمها في ديوان الشجعان، فلما حضرت في ديوان العرض، أمرت بتجريد المغفر والدرع لينظر ما تحته وتمتحن بالمبارزة، فلما جردت إذا هي عجوز ضعيفة زمنة، فقيل لها‏:‏ جئت تستهزئين بالملك وأهل حضرته، خذوها وألقوها بين أيدي الفيل، فألقيت إليه‏، ‏فهكذا يكون حال المدعين التصوف في القيامة إذا كشف عنهم الغطاء، وعرضوا على الحاكم الأكبر الذي ينظر إلى القلب لا إلى المرقعات والزي‏، ‏وفرقة أخرى ادعت علم المعرفة، ومشاهدة الحق، ومجاورة المقامات والأحوال، والوصول إلى القرب، ولا يعرفون من تلك الأمور إلا الأسماء، فترى أحدهم يرددها ويظن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين، فهو ينظر إلى الفقهاء والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء، فضلاً عن العوام، حتى إن بعض العامة يلازمهم الأيام الكثيرة، ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة، ويرددها كأنه يتكلم عن الوحي، ويحتقر في ذلك جميع العلماء والعباد، ويقول‏:‏ إنهم محجوبون عن الله، وإنه هو الواصل إلى الحق، وإنه من المقربين، وهو عند الله من الفجار المنافقين، وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين، لم يحكم علماً ولم يهذب خلقاً، ولم يراقب قلباً سوى اتباع الهوى وحفظ الهذيان‏، ‏وفرقة منهم طووا بساط الشرع، ورفضوا الأحكام، وسووا بين الحلال والحرام، وبعضهم يقول‏:‏ إن الله مستغن عن عملي فلم أتعب نفسي‏؟‏وبعضهم يقول‏:‏ لا قدر للأعمال بالجوارح، وإنما النظر إلى القلوب، وقلوبنا والهة بحب الله تعالى، وواصلة إلى معرفته، وإنما نخوض في الدنيا بأبداننا، وقلوبنا عاكفة في الحضرة الربانية، فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب، ويزعمون أنهم قد تراقوا عن رتبة العوام، واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية، وأن الشهوات لا تصدهم عن طريق الله تعالى لقوتهم فيها، ويرفعون أنفسهم عن درجة الأنبياء، لأن الأنبياء عليهم السلام كانوا يبكون على خطيئة واحدة سنين‏.‏ وأصناف غرور أهل الإباحة لا تحصى، وكل ذلك أغاليط ووساوس، خدعهم الشيطان بها، لاشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم، من غير اقتداء بشيخ صاحب علم ودين صالح للاقتداء به‏، ‏ومنهم فرقة أخرى جاوزوا هذه الطريق، واشتغلوا بالمجاهدة، وابتدءوا بسلوك الطريق وانفتح لهم باب المعرفة، فلما استنشقوا مبادئ ريح المعرفة، تعجبوا منها وفرحوا بها وأعجبهم غريبها، فتقيدت قلوبهم بالالتفات إليها والتفكر فيها، وكيفية انفتاح بابها عليهم وانسداده عن غيرهم، وكل ذلك غرور، لأن عجائب طريق الله سبحانه وتعالى ليس لها نهاية‏.‏ ولو وقف مع كل أعجوبة وتقيد بها، قصرت خطاه وجره الوصل إلى القصد، وكان مثاله مثال من قصد ملكاً، فرأى على بابه روضة فيها أزهار لم يكن رأى مثلها، فوقف ينظر إليها حتى فاته الوقت الذي يمكن فيه لقاء الملك‏.‏
الصنف الرابع‏:‏ أرباب الأموال‏ ‏ وهم فرق‏:‏ ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وما يظهر للناس ويكتبون أسماءهم عليها ليتخلد ذكرهم، ويبقى بعد الموت أثرهم، ولو كلف أحدهم أن ينفق ديناراً ولا يكتب اسمه في الموضع الذي أنفق عليه لشق عليه، ولولا أنه يريد وجه الناس لا وجه الله، لما شق عليه ذلك، فإن الله يطلع عليه، سواء كتب اسمه أو لم يكتبه‏، ‏بعضهم يصرف المال في زخرفة المساجد، وتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها وشاغلة للمصلين، فإن المقصود من الصلاة الخشوع وحضور القلب، وذلك يفسد قلوب المصلين‏، ‏فأما إن كان المال الذي صرفه في ذلك حراماً، كان أشد في الغرور‏، ‏قال مالك بن دينار رحمه الله‏:‏ أتى رجل مسجداً، فوقف على الباب وقال، مثلى لا يدخل بيت الله، فكتب في مكانه صديقاً‏، ‏فبهذا ينبغي أن تعظم المساجد، وهو أن يرى تلويث المسجد بدخوله فيه بنفسه جناية على المسجد، لا أن يرى تلويث المسجد بالحرام، أو بزخرف الدنيا منه على الله تعالى، فغرور هذا من حيث أنه يرى المنكر معروفاً‏، ‏وفرقة أخرى يحفظون الأموال ويمسكونها بخلاً، ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا تحتاج إلى نفقة المال، كالصيام والصلاة وختم القرآن، وهم مغرورون لأن البخل مهلك، وقد استولى على قلوبهم، فهم محتاجون إلى قمعه بإخراج المال، فقد اشتغلوا عنه بفضائل لا تجب عليهم‏، ‏ومثالهم مثال من دخلت في ثوبه حية، فاشتغل عنها بطبخ السكنجبين لتسكن به الصفراء ومنهم من لا تسمح نفسه إلا بأداء الزكاة فقط، فيخرج الرديء من المال، أو يعطى من الفقراء من يخدمه، ويتردد في حاجاته، أو من يحتاج إليه في المستقبل أو من له فيه غرض‏، ‏ومنهم من يسلم من ذلك إلى بعض الأكابر ليفرقه، لينال بذلك عنده منزلة ويقوم بحوائجه، وكل ذلك مفسد للنية وصاحبه مغرور، لأنه يطلب بعبادة الله تعالى عوضاً عن غيره‏، ‏وفرقة أخرى من أرباب الأموال وغيرهم، اغتروا بحضور مجالس الذكر، وظنوا أن نفس الحضور يغنيهم عن العمل والاتعاظ، وليس كذلك، لأن مجلس الذكر إنما فضل لكونه مرغباً في الخير، وكل ما يراد لغيره إذا لم يوصل إلى ذلك الغير فلا وقع له، وربما سمع أحدهم التخويف، فلا يزيد على قوله‏:‏ يا سلام سلم، أو أعوذ بالله، ويظن أنه قد أتى المقصود‏، ‏ومثال هذا كمثل مريض يحضر عند الأطباء فيسمع ما يجرى، أو الجائع يحضر عند من يصف له الأطعمة اللذيذة، ثم ينصرف فلا يغنى ذلك عنه‏.‏ فكذلك سماع وصف الطاعات دون العمل بها، فكل وعظ لم يغير منك صفة تتغير بها أفعالك، فهو حجة عليك‏.‏ فإن قيل‏:‏ فما ذكرته من مداخل الغرور أمر لا يكاد يخلص منه‏، ‏فالجواب‏:‏ أن مدار أمر الآخرة على معنى واحد، وهو تقويم القلب، ولا يعجز عن ذلك إلا من لم تصدق نيته، فإن الإنسان لو اهتم بأمر الآخرة كما يهتم بأمر الدنيا لنالها‏.‏ وقد فعل ذلك السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان‏ ‏ويستعان على التخلص من الغرور بثلاثة أشياء‏.‏ العقل‏:‏ وهو النور الأصلي الذي يدرك به الإنسان حقائق الأشياء‏.‏ والمعرفة‏:‏ التي يعرف بها الإنسان نفسه وربه ودنياه وأخرته‏.‏ وفي كتاب المحبة، وشرح عجائب القلب، والتفكر، وكتاب الشكر إشارات إلى وصف النفس، ووصف جلال الله سبحانه‏، ‏ويستعين على معرفة الدنيا والآخرة بما ذكر في كتاب ‏ذم الدنيا‏ وكتاب ‏ذكر الموت‏، فإذا حصلت هذه المعارف، ثار من القلب بمعرفة الله تعالى حب الله، وبمعرفة الآخرة حب شدة الرغبة فيها، وبمعرفة الدنيا شدة الرغبة عنها، فيصير أهم أموره إليه ما يوصله إلى الله تعالى، وينفعه في الآخرة، وإذا غلبت هذه الإرادة على قلب، صحت نيته في الأمور كلها، واندفع عنه كل غرور‏، ‏فإذا غلب حب الله تعالى على قلبه لمعرفته به وبنفسه، واحتاج إلى الأمر الثالث وهو العلم، ونعنى به العلم بكيفية سلوك الطريق إلى الله تعالى وآفاتها، والعلم بما يقربه منه ويهديه، وجميع ذلك في كتابنا هذا‏، ‏فيعرف من ربع العبادات والعادات ما هو محتاج إليه، وما هو مستغن عنه، ويتأدب بأدب الشرع‏، ‏ويعرف من ربع المهلكات جميع العقبات المانعة من طريق الله تعالى، وهى الصفات المذمومة في الخلق‏، ‏ويعرف من ربع المنجيات الصفات المحمودة التي لابد أن توضح خلفاً من المذمومة بعد محوها، فإذا أحاط بجميع ذلك، أمكنه الحذر من الأنواع التي أشرنا إليها من الغرور، والله أعلم‏.‏ وإذا فعل جميع ذلك ينبغي أن يكون خائفاً أن يخدعه الشيطان، ويدعوه إلى الرياسة ويخاف عليه أيضاً من الأمن من مكر الله تعالى‏، ‏ولذلك قيل‏:‏ والمخلصون على خطر عظيم ‏ ‏‏، ‏وقال الإمام احمد رحمه الله للشيطان حين قال له عند الموت‏:‏ فُتَّني‏.‏ فقل‏:‏ لا ‏، ‏بعد‏.‏ فلا ينبغي أن يفارق الخوف قلوب الأولياء أبداً‏.‏ نسأل الله تعالى السلامة من الغرور، وحسن الخاتمة، إنه قريب مجيب‏.‏ آخر الغرور.
وبه تم ربع المهلكات، ونشرع الآن في ربع المنجيات.