فصل: الربع الرابع: ربع المنجيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين (نسخة منقحة)



.الربع الرابع: ربع المنجيات:

.كتاب التوبة وذكر شروطها وأركانها وما يتعلق بها:

اعلم أن الذنوب حجاب عن المحبوب، والانصراف عما يبعد عن المحبوب واجب. وإنما يتم ذلك بالعلم والندم والعزم، فإنه متى لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب، لم يندم على الذنوب، ولم يتوجع بسبب سلوكه طريق البعد، وإذا لم يتوجع لم يرجع. وقد أمر الله تعالى بالتوبة فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَميعاً أَيُّها المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفْلِحُونِ} [النور: 31] وقال سبحانه: {يَا أَيُّها الذينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً} الآية [التحريم: 8]. وقال: {إِنَّ الله يُحِبُّ التَوَّابينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ} [البقرة: 222]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرَّة». وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَوِّيةٍ مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته». والأحاديث في هذا كثيرة، والإجماع منعقد على وجوب التوبة، لأن الذنوب مهلكات مبعدات عن الله تعالى، فيجب الهرب منها على الفور. والتوبة واجبة على الدوام، فإن الإنسان لا يخلو عن معصية، لو خلا عن معصية بالجوارح لم يخل عن الهم بالذنب بقلبه، وإن خلا عن ذلك، لم يخل عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله تعالى، لو خلا عنه لم يخل عن غفلة وقصور في العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص، ولا يسلم أحد من هذا النقص، وإنما الخلق يتفاوتون في المقادير، وأما أصل ذلك، فلا بد منه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنه ليغان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة». ولذلك أكرمه الله تعالى بقوله: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 2] فأما غيره فكيف يكون حاله؟ ومتى اجتمعت شروط التوبة كانت صحيحة مقبولة، قال الله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} [الشورى: 25] وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر». والأحاديث في ذلك كثيرة.

.فصل في بيان أقسام الذنوب:

اعلم أن للإنسان أخلاقاً وأوصافاً كثيرة، لكن تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات:
أحدها: صفات ربوبية، ومنها يحدث الكبر والفخر، وحب المدح والثناء، والعز وطلب الاستعلاء ونحو ذلك، وهذه ذنوب مهلكات، وبعض الناس يغفل عنها، فلا يعدها ذنوباً.
الثانية: صفات شيطانية، ومنها يتشعب الحسد، والبغي والحيل والخداع والمكر، والغش والنفاق والأمر بالفساد ونحو ذلك.
الثالثة: الصفات البهيمية، ومنها يتشعب الشر والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، فيتشعب من ذلك الزنى واللواطة والسرقة، وأخذ الحطام لأجل الشهوات.
الرابعة: الصفات السبعية، ومنها يتشعب الغضب والحقد، والتهجم على الناس بالقتل والضرب، وأخذ الأموال، وهذه الصفات لها تدرج في الفطرة.
فالصفة البهيمية هي التي تغلب أولاً، ثم تتلوها الصفة السبعية ثانياً، فإذا اجتمعت هاتان، استعملتا العقل في الصفات الشيطانية، من المكر والخداع والحيل، ثم تغلب الصفات الربوبية. فهذه أمهات الذنوب ومنابعها، ثم تتفجر الذنوب من هذه المنابع إلى الجوارح، فبعضها في القلب، كالفكر، والبدعة، والنفاق، وإضمار السوء، وبعضها في العين، وبعضها في السمع، وبعضها في اللسان، وبعضها في البطن والفرج، وبعضها في اليدين والرجلين، وبعضها على جميع البدن، ولا حاجة إلى تفاصيل ذلك فإنه واضح.
ثم الذنوب تنقسم إلى ما يتعلق بحقوق الآدميين، وإلى ما بين العبد وبين ربه.
فما يتعلق بحقوق العباد، فالأمر فيه أغلظ، والذي بين العبد وبين ربه، فالعفو فيه أرجى وأقرب، إلا أن يكون شركاً والعياذ بالله، فذلك الذي لا يغفر. وقد روى عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله تعالى، فالشرك، قال الله تعالى {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة} وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله عز وجل، يغفر ذلك، ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك منه شيئاً، فظلم العباد بعضهم بعض، فالقصاص لا محالة».
قسمة أخرى:
اعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد كثر الاختلاف فيها، واختلفت الأحاديث في عدد الكبائر. والأحاديث الصحاح في ذكرها خمسة.
الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا يا رسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات».
الثاني: حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سئل أي الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك».
الثالث: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين».
الرابع: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: قول الزور- أو قال- شهادة الزور».
الخامس: حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت عنده الكبائر قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
وقت اختلفت العلماء فيها على أقوال كثيرة، والأحاديث في الكبائر لا تدل على حصرها فيها، ولعل الشارع قصد الإبهام ليكون الناس على وجل من الذنوب، لكن يعرف من الأحاديث أجناس الكبائر، ويعرف أيضاً الكبائر. فأما أصغر الصغائر، فلا سبيل إلى معرفته، وقد تكلم العلماء في عدد الكبائر، فروى عن ابن مسعود رضي الله عنه: وهي أربع: وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: هي سبع. وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا بلغه قول عمر: إنها سبع، قال: هي إلى سبعين أقرب منها إلى سبع. وقال أبو صالح عن ابن عباس: هي ما أوجب الحد في الدنيا. وعن ابن مسعود أن الكبائر من فاتحة النساء إلى قولة: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} [النساء: 31]. وقال سعيد بن جبير وغيره: هي كل ذنب أوعد الله عليه النار. وقال أبو طالب المكي: الكبائر سبع عشرة جمعتها من جملة الأخبار. أربعة في القلب: الشرك، والإصرار على المعصية، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله تعالى. وأربعة في اللسان: شهادة الزور، وقذف المحصنات، واليمين الغموس، والسحر. وثلاثة في البطن: شرب الخمر، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا. واثنتان في الفرج: الزنا واللواطة. وواحدة في الرجلين: الفرار من الزحف.
واحدة في جميع البدن، وهى عقوق الوالدين. وهذا يمكن أن يزاد عليه، وينقص منه، فإن ضرب اليتيم وتعذيبه أكبر من أكل ماله، والله أعلم.

.فصل في كيفية توزع الدرجات في الآخرة على الحسنات والسيئات في الدنيا:

اعلم أن الناس يتفاوتون في الآخرة، كما يتفاوتون في الدنيا، وينقسمون إلى أربعة أقسام: هالكين، ومعذبين، وناجين، وفائزين. ومثال ذلك أن يستولي ملك من الملوك على إقليم، فيقتل بعض أهله، ويعذب بعضهم ولا يقتلهم، ويخلى بعضهم، فهم الناجون، ويخلع بعضهم وهم الفائزون. وإذا كان الملك عادلاً، فلا يقسمهم كذلك إلا باستحقاق، ولا يقتل إلا جاحداً لاستحقاق الملك، معانداً له في أصل الولاية، ولا يعذب إلا من قصَّر في خدمته مع الاعتراف له بالملك، ولا يخلى إلا معترفا له بالملك، ولم يقصر، ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة، وكل واحد من هذه الأقسام يتفاوتون في النعيم والتعذيب على حسب أحوالهم، ويشهد لذلك ما ورد في الحديث أن من الناس من يمر على الصراط كالبرق الخاطف، ومنهم من يبقى في النار سبعة آلاف سنة، وبين اللحظة وسبعة آلاف سنة تفاوت كثير. وأما اختلاف العذاب بالشدة، فلا نهاية لأعلاه، وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب، كما أن الملك قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب، ثم يعفو، وقد يضرب بالسياط أو يعذب بغيرها من أنواع العذاب. وتفاوت منازل أهل السعادة على نحو ذلك في النعيم، فهذه الأمور الكلية معلومة بالنقل ونور المعرفة. فأما من جهة التفصيل، فنقول: كل من أحكم أصل الإيمان، واجتنب جميع الكبائر، أحسن جميع الفرائض ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لا يصر عليها، فيشبه أن يعفى عنه، فقد نص القرآن على اجتناب الكبائر مكفر للصغائر. وهذا إما أن يلتحق بالمقربين، أو أصحاب اليمين، وذلك بحسب إيمانه، ويقينه، فإن قل أو ضعف، دنت منزلته، وإن كثر وقوى، علت منزلته. ثم إن المقربين يتفاوتون بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى، ودرجات العارفين في المعرفة لا تنحصر، لأن بحر المعرفة لا ساحل له، وإنما يغوص فيه الغواصون بقدر قواهم، فأعلى درجات أصحاب اليمين، أدنى درجات المقربين، هذا حال من اجتنب الكبائر وأدى الفرائض. فأما من ارتكب، أو أهمل أركان الإسلام، فإنه إن تاب توبة نصوحاً قبل قرب الأجل، التحق بمن لم يرتكب، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والثوب المغسول كالذي لم يتسخ أصلاً. فأما إن مات قبل التوبة، فأمره خطر، إذ ربما يكون موته على الإصرار سبباً لتزلزل إيمانه، فيختم له بسوء الخاتمة، لا سيما إذا كان إيمانه تقليداً فإنه قابل للانحلال بأدنى شك وخيال، والعارف الموقن أبعد من أن يخاف عليه سوء الخاتمة. ثم إن عذاب الميت عن غير توبة يكون بحسب قبح الكبائر ومدة الإصرار. ثم ينزل البله المقلدون الجنة، وينزل العارفون المستبصرون أعلى عليين، وما ذكرناه من مراتب العباد في المعاد حكم ظاهر الأسباب، يضاهى حكم الطبيب على مريض بأنه يموت لا محالة، ولا يقبل إصلاح العلاج، وعلى مريض آخر بأن عارضه خفيف، وعلاجه هيَّن، فإن ذلك ظن يصيب غالباً، وقد تثوب إلى الهلاك نفسه من حيث لا يشعر الطبيب، وقد يساق إلى ذي العارض الخفيف أجله من حيث لا يطلع عليه، وذلك لأسرار الله تعالى الخفية، وفي أرواح الأحياء غموض للأسباب التي رتبها المسبب، وليس في قوة البشر الوقوف على كنهها، وكذلك الفوز والهلاك في الآخرة لهما أسباب خفية ليس في قوة البشر الاطلاع عليها، وكذلك يجوز العفو عن المعاصي وإن كثرت سيئاته، والغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة، فإن الاعتماد على التقوى، والتقوى في القلب، وأحوال القلب قد تخفى على صاحبه، فكيف على غيره، وأما الناجون، ونعنى بالنجاة السلامة فقط دون السعادة والفوز، وهم قوم لم يخدموا فيخلع عليهم، ولم يقصروا فيعذبوا، ويشبه أن يكون هذا حال المجانين، وأولاد الكفار، والذين لم تبلغهم الدعوة، فلم يكن لهم معرفة، ولا جحود، ولا طاعة ولا معصية، ويصلح أن يكونوا على الأعراف.
وأما الفائزون، فهم العارفون، وهم المقربون والسابقون، وهؤلاء الذين لم تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين، وليس حرصهم على الجنة، بل على لقاء الله سبحانه وتعالى والنظر إليه. ومثالهم مثال المحب، فإنه في تلك الحال غافل عن نفسه، لا يحس بما يصيبه في بدنه، ولا همَّ له سوى محبوبه، فهؤلاء الواصلون إلى قرة أعين، ولا تخطر على قلب بشر، فهذا القدر كافي بيان توزيع الدرجات على الحسنات.

.فصل في بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب:

اعلم أن الصغيرة تكبر بأسباب: منها الإصرار والمواظبة. وفي الحديث من رواية ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار». واعلم أن العفو عن كبيرة قد انقضت ولم يتبعها مثلها، أرجى من العفو عن صغيرة يواظب عليها العبد. ومثال ذلك قطرات من الماء تقع على حجر متواليات، فإنها تؤثر فيه، ولو جمعت تلك القطرات في مرة وصبت عليه لم تؤثر، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم «أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل». ومن الأسباب التي تعظم الصغائر أن يستصغر الذنب، فإن الذنب كلما استعظمه العبد، صغر عند الله تعالى، وكلما استصغره العبد، كبر عند الله تعالى، فإن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهيته له. قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا. أخرجاه في الصحيحين.
وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله تعالى، فإذا نظر إلى عظمة من عصى، رأى الصغيرة كبيرة. وفي البخاري من حديث أنس رضي الله عنه: «إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الموبقات» وقال بلال بن سعد رحمه الله: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. ومن الأسباب أن يفرح بالصغيرة ويتمدح بها، كما يقول: أما رأيتني كيف مزَّقت عرض فلان، وذكرت مساويه حتى خجلته، أو يقول التاجر: أما رأيت كيف روجت عليه الزائف، وكيف خدعته وغبنته، فهذا وأمثاله تكبر به الصغيرة. ومنها أن يتهاون بستر الله تعالى وحلمه عنه وإمهاله إياه ولا يدرى أن ذلك قد يكون مقتاً ليزداد بالإهمال إثماً. ومنها أن يأتي الذنب ثم يذكره بمحضر من غيره، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله عليه، ويصبح يكشف ستر الله عنه». ومنها أن يكون المذنب عالماً يُقتدي به، فإذا علم منه الذنب، كبر ذنبه، كلبسه الحرير، ودخوله على الظلمة مع ترك الإنكار عليهم، وإطلاق اللسان في الأعراض، واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه، كعلم الجدل، فهذه ذنوب يتبع العالم عليها، فيموت ويبقى شره مستطيراً في العالم، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه. وفي الحديث: «ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
فعلى العالم وظيفتان:
إحداهما: ترك الذنب، والثانية: إخفاؤه إذا أتاه. وكما تتضاعف أوزار العلماء إذا أُتبعوا على الذنوب، كذلك تتضاعف حسناتهم إذا أُتبعوا على الخير. وينبغي للعالم أن يتوسط في ملبسه ونفقته، وليكن إلى التقلل أميل، فإن الناس ينظرون إليه.
وينبغي له الاحتراز مما يقتدي به فيه، فإنه متى ترخص في الدخول على السلاطين وجمع الحطام، فاقتدى به غيره، كان الإثم عليه، وربما سلم هو في دخوله، ولم يفهموا كيفية سلامته. وقد رأينا أن ملكاً كان يُكْرِهُ الناس على أكل لحم الخنزير، فجيء برجل عالم، فقال له حاجب الملك: قد ذبحت له جدياً فكل منه، فلما دخل قرب إليه فلم يأكل، فأمر بقتله، فقال له الحاجب: ألم أقل لك إنه جدي، فقال: ومن أين يعلم حالي من يقتدي بي.

.فصل في شروط التوبة:

واعلم أن التوبة عبارة عن ندم يورث عزماً وقصداً، وذلك الندم يورث العلم بأن تكون المعاصي حائلا بين الإنسان وبين محبوبه. والندم هو توجع القلب عنده شعوره بفراق المحبوب، وعلامته طول الحزن والبكاء، فإن من استشعر عقوبة نازلة بولده أو من يعزُّ عليه، طال بكاؤه، واشتدت مصيبته، وأي عزيز أعز عليه من نفسه؟ وأي عقوبة أشد من النار؟ وأي سبب أدل على نزول العقوبة من المعاصي؟ وأي خبر أصدق من رسول الله؟ ولو أخبره طبيب أن ولده لا يبرأ من مرضه لاشتد في الحال حزنه، وليس ولده بأعز من نفسه، ولا الطبيب أعلم من الله ورسوله، ولا الموت بأشد من النار، ولا المرضى أدل على الموت من المعاصي على سخط الله، والتعرض بها للنار. وينبغي للتائب أن يتفقد ما عليه من صلاة فائتة، أو بغير شرطها؟ مثل أن يكون صلاها في ثوب نجس، أو بنية غير صحيحة، لجهله بذلك، فيقضيها كلها. وكذلك إن كان عليه صوم، أو زكاة، أو حج، أو غير ذلك من الموجبات، يقضيها كلها، ويفتش على ذلك ويتداركه. وأما المعاصي، فينبغي أن يفتش من أول بلوغه عن معصية صدرت منه، وينظر فيها، فما كان من ذلك فيما بينه وبين الله تعالى، فالتوبة منه الندم والاستغفار.
ثم ينظر إلى مقادير ذنوبه، فيطلب لكل معصية منه حسنة تناسبها، فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات. قال الله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114] وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أتبع السيئة الحسنة تمحها». مثال ما ذكرنا: أن يكفر سماع الملاهي بسماع القرآن ومجالس الذكر، ويكفر مسح المصحف بغير طهارة بإكرامه وكثرة القراءة فيه، وإن أمكنه أن يكتب مصحفاً ويقفه فليفعل، ويكفِّر شرب الخمر بالتصدق بالشراب الحلال. وعلى هذا فاسلك سبيل المضادة، فإن الأمراض إنما تعالج بضدها، فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى. وأما مظالم العباد، ففيها أيضاً معصية الله تعالى، لأنه نهى عن ظلم العباد، فالظالم لهم قد ارتكب نهيه تعالى، فيتدارك ذلك بالندم والعزم على ترك مثل ذلك في المستقبل، والإتيان بالحسنات المضادة لتلك المظالم كما تقدم في القسم الأول. فيقابل إيذاء الناس بالإحسان إليهم، ويكفر غصب الأموال بالتصدق بماله الحلال، ويكفر تناول أعراضهم بالثناء على أهل الدين، ويكفر قتل النفوس بالعتق. هذا فيما يتعلق بحق الله تعالى، فإذا فعل ذلك، لم يكفه حتى يخرج من مظالم العباد. ومظالمهم إما في النفوس، أو الأموال، أو الأعراض، أو إيذاء القلوب.
أما الأول: فإنه إذا قتل خطأ أو أوصل الدية إلى مستحقيها، إما منه أو من عاقلته، وإن قتل عمداً، وجب عليه القصاص بشروطه، فعليه أن يبذل نفسه لولى الدم، إن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه، ولا يجوز له إخفاء أمره، بخلاف ما لو زنا، أو سرق، أو شرب الخمر، أو باشر ما يجب فيه حد لله تعالى، فإنه لا يلزمه في التوبة أن يفضح نفسه، بل عليه أن يستر نفسه، فإن رفع أمره إلى الولي حتى أقام عليه الحد، وقد ذلك موقعه وكانت توبته صحيحة مقبولة عند الله تعالى، بدليل قصة ماعز والغامدية. وكذلك حد القذف، لابد فيه من تحكيم المستحق فيه.
الثاني: المظالم المتعلقة بالأموال، نحو الغضب، والخيانة، والتلبيس في المعاملات، فيجب عليه رد ذلك إلى أصحابه والخروج منه. وليكتب إلى أصحاب المظالم، وليؤدِّ إليهم حقوقهم، ويستحلهم، فإن كثر ظلمه بحيث لا يقدر على أدائه، فليفعل ما يقدر عليه من ذلك، ولم يبق له طريق إلا الاستكثار من الحسنات، لتؤخذ منه في القصاص يوم القيامة فتوضع في موازين أرباب المظالم، فإنها إن تفي بذلك أخذ من سيئاتهم، فتوضع فوق سيئاته. هذا حكم المظالم الثابتة في الذمة والأموال الحاضرة، فإن كان عنده أموال من شيء من ذلك لم يعرف مالكه ولا ورثته، تصدق به عنه، وإن اختلط الحلال بالحرام، عرف قدر الحرام بالاجتهاد، وتصدق بمقداره.
الثالث: الجناية على الأعراض، وإيذاء القلوب، فعليه أن يطلب كل واحد منهم، وليستحله، وليعرفه قدر الجناية، فإن الاستحلال المبهم لا يكفى، وربما لو عرف ذلك لم تطب نفسه بالإحلال، إلا أن تكون تلك الجناية إذا ذكرت كثر الأذى، كسبته إلى عيب من خفايا عيوبه، أو كزنى بجارته، فليجتهد في اللطف به والإحسان إليه، ثم ليستحله مبهماً، ولابد أن يبقى في مثل ذلك مظلمة تجبر بالحسنات يوم القيامة، وكذلك من مات من هؤلاء فإنه يفوت أمره، ولا يتدارك إلا بكثير الحسنات، لتؤخذ منه عوضاً يوم القيامة، ولا خلاص إلا برجحان الحسنات.

.فصل في شروط التوبة:

ومن شروط التوبة الصحيحة العزم على أن لا يعود في المستقبل إلى تلك الذنوب، ولا إلى أمثالها، ويعزم على ذلك عزماَ مؤكداً. مثال ذلك المريض الذي يعلم أن الفاكهة تضر في مرضه، فيعزم عزماً جزماً أن لا يتناول شيئاً من الفاكهة ما دام في مرضه ذلك، فإن هذا العزم يتأكد في الحال وإن كان يتصور أن تغلبه الشهوة في ثاني الحال، ولكن لا يكون تائباً ما لم يتأكد عزمه في الحال، ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب في أول مرة إلا بالعزلة، والصمت وقلة الأكل والنوم، وإحراز قوتٍ حلال، ويترك الشبهات والشهوات من المأكولات والملبوسات. قال بعضهم: من صدق في ترك الشهوة، وجاهد نفسه فيها سبع مرات، لم يبتل بها، وقال: من تاب من ذنب واستقام سبع سنين، لم يعد إليه أبداً.

.بيان أقسام العباد في دوام التوبة:

الناس في التوبة أربع طبقات:
الطبقة الأولى: تائب يستقيم على التوبة إلى آخر عمره، ويتدارك ما فرّط من أمره، ولا يحدِّث نفسه بالعودة إلى ذنوبه، إلا الزلات التي لا ينفك عنها البشر في العادات، فهذه هي الاستقامة في التوبة، وصاحبها هو السابق بالخيرات. وتسمى هذه التوبة: النصوح، وتسمى هذه النفس: المطمئنة، وهؤلاء يختلفون منهم من سكنت شهوته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها، ومنهم من تنازعه نفسه وهو ملئ بمجاهدتها.
الطبقة الثانية: تائب قد سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات وكبائر الفواحش، إلا أنه لا ينفك عن ذنوب تعتريه، لا عن عمد، ولكنه يبتلى بها في مجارى أحواله من غير أن يقدم عزماً على الإقدام عليها، وكلما أتى شيئاً منها لام نفسه، وندم وعزم على الاحتراز من أسبابها، فهذه هي النفس اللوامة لأنها تلوم صاحبها على ما يستهدف له من الأحوال الذميمة، فهذه رتبة عالية أيضاً، وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى، وهى أغلب أحوال التائبين، لأن الشر معجون بطينة الآدمي، فقلما ينفك عنه، وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره، حتى يثقل ميزانه، فترجح حسناته، فأما إن تخلو كفة السيئات، فبعيد. وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله سبحانه وتعالى، إذ قال: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة} [النجم: 32] والى هذه الرتبة الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله يحب المؤمن المُفتّن التواب».
الطبقة الثالثة: أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة، ثم تغلبه شهوته في بعض الذنوب، فيقدم عليها لعجزه عن قهر الشهوة، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات، وترك جملة من الذنوب مع القدرة عليها والشهوة لها، وإنما قهرته شهوة واحدة أو شهوتان، وهو يود لو أقدره الله على قمعها، وكفاه شرها، فإذا انتهت ندم، لكنه يعد نفسه بالتوبة عن ذلك الذنب، فهذه هي النفس المسئولة، وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً} فأمر هذا من حيث مواظبته على الطاعات وكراهيته لما يتعاطاه مرجو لقوله تعالى: {عسى الله أن يتوب عليهم} [التوبة: 103] وعاقبته خطرة من حيث تأخيره وتسويفه، فربما يختطف قبل التوبة، فإن الأعمال بالخواتيم، فعلى هذا يكون الخوف من الخاتمة، وكل نفس يمكن أن يتصل به الموت، فتكون الخاتمة، فليراقب الأنفاس، وليحذر وقوع المحذور.
الطبقة الرابعة: أن يتوب ويجرى مدة على الاستقامة، ثم يعود إلى الذنوب منهمكاً من غير أن يحدث نفسه بالتوبة، ومن غير أن يتأسف على فعله، فهذا من المصرين، وهذه النفس هي الأمارة بالسوء، ويخاف على هذا سوء الخاتمة. فإن مات هذا على التوحيد، فإنه يرجى له الخلاص من النار، ولو بعد حين، ولا يستحيل أن يشمله عموم العفو بسبب خفي لا يطلع عليه، إلا أن التعويل على هذا لا يصلح، فإن من قال: إن الله تعالى كريم، وخزائنه واسعة، ومعصيتي لا تضره، ثم تراه يركب البحار في طلب الدينار، فلو قيل له: فإذا كان الحق كريماً فاجلس في بيتك لعله يرزقك، استجهل قائل هذا وقال: إنما الأرزاق بالكسب فيقال له: هكذا النجاة بالتقوى.