فصل: كتاب الرَّضَاع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.كتاب الرَّضَاع:

الرَّضاع: بفتح الراء وكسرها، مصدر رضع الثدي إذا مصه.
وتعريفه شرعا: مص لبن ثاب عن حمل أو شربه.
وحكم الرضاع ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع. ونصوصه مشهورة.
والأحكام المترتبة على الرضاع، تحريم النكاح، وإباحة النظر والخلوة، والمحرمية في السفر، لا وجوب النفقة والتوارث، وولاية النكاح.
وحكمة هذه المحرمية والصلة، ظاهرة، فإنه حين تغذى بلبن هذه المرأة، نبت لحمه عليه، فكان كالنسب له منها.
ولذا كره العلماء، استرضاع الكافرة، والفاسقة، وسيئة الخُلق أو مَنْ بها مرض مُعْد، لأنه يَسْرِى إلى الولد.
واستحبوا أن يختار المرضعة، الحسنة الخُلُق والخَلْق، فإن الرضاع يُغير الطباع.
والأحسن أنه لا يرضعه إلا أمه، لاًنَّه أنفع وأمري وأحسن عاقبة، من اختلاط المحارم، التي ربما توقع في مشاكل زوجية.
وقد حث الأطباء على لبن الأم، لاسيما في الأشهر الأول.
وقد ظهرت حكمة الله الكونية، حين جعل غذاء الطفل من لبن أمه، بالتجارب، وبتقارير الأطباء ونصائحهم. والله حكيم عليم.
الحديث الأول:
عَن بن عَباس رضي الله عَنْهُمَا قَالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بِنتِ حَمْزَةَ: «لا تَحِل لي، يَحْرُمُ مِنَ الرضَاع مَا يَحْرُمُ مِنَ النسَبِ، وَهِي ابنةُ أخي مِنَ الرضَاعَةِ».
الحديث الثاني:
عَنْ عَاِئشَةَ رَضي الله عَنْهَا قالَت: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنُّ الرضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الولادةَ».
المعنى الإجمالي:
رَغِبَ على بن أبي طالب رضي الله عنه، من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بنت عمهما حمزة.
فأخبره صلى الله عليه وسلم أنها لا تحل له، لأنها بنت أخيه من الرضاعة.
فإنه صلى الله عليه وسلم، وعمه حمزة رضعا من (ثويبة) وهى مولاة لأبي لهب، فصار أخاه من الرضاعة، فيكون عم ابنته، ويحرم بسبب الرضاع، ما يحرم مثله من الولادة.
ما يستفاد من الحديث:
1- ما يثبت في الرضاع من المحرمية، ومنها تحريم النكاح.
2- أنه يثبت فيه مثل ما يثبت في النسب.
فكل امرأة حرمت نسبا، حرمت من تماثلها رضاعا.
3- الذين تنشر فيهم المحرمية من أجل الرضاع، هم المرتضع وفروعه، أبناؤه وبناته ونسلهم.
أما أصوله، من أب، وأم، وآبائهم، فلا يدخلون في المحرمية.
وكذلك حواشيه، من إخوة وأخوات، وأعمام، وعمات، وأخوال، وخالات. كل هؤلاء غير داخلين في حكمه.
والرضيع يكون كأحد أولاد المرضعة، فتكون أمه، وصاحب اللبان أباه، وأولادهما إخوته وأخواته وآباؤه منهما- وإن عَلوْا- أجداده، وأعمامهما: وعماتهما، وأخوالهما، وخالاتهما ووأعمامه، وأخواله، وإخوانهما وأخواتهما، أعمامه وعماته، وأخواله، وخالاته.
الحديث الثالث:
وَعَنْهَا قَالَتْ: إن أفلحَ- أخَا أبي القُعَيْس- استأذن عَليَّ بَعْدَ مَا أنزل الحجاب، فَفُلْتُ: والله لا آذَنُ لَهُ حَتى أستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فإن أخا أبي القُعيس لَيسَ هُوَ أرضعني وَلكِن أرضعتني امرأة أبي القُعَيس.
فَدَخلَ عَلى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْت يَا رسول الله إن الرَّجُلَ لَيسَ هُوَ أرضَعَنِي وَلكِنْ أرضَعَتْنِي امرأَتَهُ.
فَقالَ: «اِئْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ».
قالَ عُرْوَةُ: فَبِذلِكَ كَانَتْ عَاِئِشَةُ تَقول: حَرِّمُوا مِن الرضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ.
في لفظ: ثم اِستأذَنَ عَلَيَّ أفلَحُ فَلَمْ آذَنْ لَهُ، فَقَالَ: أَتَحْتَجِبِين مِنِّي وَأَنَا عَمُّكِ؟
فَقُلْتُ: كَيفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أرْضَعَتْك امْرَأةُ أخِي بِلبَن أخِي.
قَالتْ: فَسَألتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «صَدَقَ أفلحُ، ائذَني لَهُ، تَرِبَت يَمِينُكِ».
تربت: أي افتقرت. والعرب تدعو على الرجل، ولا تريد وقوع الأمر به.
الغريب:
أفلح: بفتح الهمزة، بعدها فاء ساكنة، ثم لام، ثم حاء مهملة غير منون لأنه لا ينصرف.
القعيس: بقاف مضمومة، ثم عين مهملة، فياء مثناة تحتية، فسين مهملة.
عند الدارقطني: أن اسمه وائل بن أفلح الأشعري.
آذن له: بالمد.
بعد ما أنزل الحجاب: كان النساء في صدر الإسلام يُسْفِرْنَ بعد أعقاب الجاهلية فأنزل اللّه تعالى آية الحجاب {يا أيها النبي قل لأزْوَاجكَ وَبَنَاتكَ وَنِسَاءِ المُؤمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِن مِنْ جلابيبهن} الآية. سنة خمس فاحتجبن عن الرجال.
والجلباب: هو الملحفة: مثل (العباءة).
تَرِبت يمينك: يعنى لصقت بالتراب من الفقر، دعاء تقوله العرب ولا تريد المقصود منه.
المعنى الإجمالي:
استرضعت عائشة رضي الله عَنها من زوجة أبي القُعَيس.
وبعد ما أمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المؤمنين بالحجاب عن الرجال الأجانب، جاء أخو والد عائشة من الرضاعة، يستأذن عليها بالدخول، فأبت أن تأذن له، لأن التي أرضعتها زوجة أبي القعيس، لا هو.
واللبن للمرأة لا للرجل، فيما تظن.
فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته الخبر فقال: «ائذني له فإنه عمك» فعلمت عائشة رضي الله عنها أن اللبن الذي يرتضع، إنما هو من أثر ماء الرجل والمرأة.
فكانت بعد هذا تقول: حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه دليل على ثبوت حكم الرضاع من زوج المرضعة وأقاربه، لأنه صاحب اللبن، فإن اللبن تسبب عن ماءه وماء المرأة جميعا.
فوجب أن يكون الرضاع منهما وتنتشر الحرمة من قِبَلِهِمَا سواء.
وهذا مذهب الجمهور من الصحابة، والتابعين، وأهل الحديث، وأصحاب المذاهب، خلافا لطائفة قليلة يرون: أن الحرمة لا تنتشر إلا من قبل المرأة فقط، وهو رد للنصوص الصحيحة.
2- فيه دليل على وجوب احتجاب النساء من الرجال غير المحارم، مع صريح القرآن في ذلك، فقد كان التعذر في أول الإسلام فبقى على عادة الجاهلية حتى حرم سنة خمس من الهجرة وهكذا جميع الشرائع الإسلامية لم يلزم الناس بها دفعة واحدة، أو في سنة واحدة. وإنما تنزل شيئاً فشيئا، يستدرج بها الشارع الحكيم الناس لتخف عليهم فيقوموا بها. والله حكيم في شرعه، عليم بأحوال خلقه.
وما يفوه به دعاة السفور، ممن لا حظ لهم من علم، ولا نصيب لهم من فكر، ولا وازع لهم من ضمير وخُلُق- مع كونهم لم يفكروا فيما يجره من المفاسد والعواقب الوخيمة، لم يستندوا فيه إلى نقل صحيح، ولا على عقل واع، ولا على ذوق مستقيم.
وإلا فإن السفور هو أول الشر، وهو السبب في اختلاط الجنسين الذي جرَّ المصائب، وهتك الأعراض، وأفسد البيوت وفرق الأسر، وسبب الخيانات.
والذين أباحوه- وهم قلة- لا يستندون إلى دليل، ولو رأوْا ما صار إليه الناس، وما آل إليه أمر البلاد التي تدرجت إلى الشر بإباحته، لتمنوا الرجوع إلى أجداثهم.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرهِ أنْ تُصيِبَهُمْ فِتْنَة أو يصيبهم عذاب أليم} فإنا للّه، وإنا إليه راجعون.
اللهم بَصر عبادك في أمر دينهم، وأعدهمْ إلى حظيرته. يا سميع الدعاء.
الحديث الرابع:
وَعَنْهَا قالَت: دَخَلَ عَلَي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل، فَقَالَ: يَا عَاِئشَةُ، مَنْ هذَا؟ قُلْتُ: أخِي مِنَ الرضَاعَةِ.
فَقالَ: «يَا عَائشَة، انظُرنَ مَنْ إخْوَانكُن، فإنمَا الرضَاعَةُ مِنَ المجَاعَةِ».
المعنى الإجمالي:
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة، فوجد عندها أخاها في الرضاعة- وهو لا يعلم عنه- فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم، كراهةً لتك الحال، وغيرة على محارمه.
فعلمت السبب الذي غيَّر وجهه، فأخبرته: أنه أخوها من الرضاعة.
فقال: يا عائشة انظرْن وتثبتنَ في الرضاعة، فإن منها ما لا يسبب المحرمية، فلابد من رضاعة ينبت عليها اللحم وتشتد بها العظام، وذلك أن تكون من المجاعة، حين يكون الطفل محتاجا إلى اللبن، فلا يتقوت بغيره، فيكون حينئذ كالجزء من المرضعة، فيصير كأحد أولادها، فّتثبت المحرمية.
ما يؤخذ من الحديث:
1- غيرة الرجل على أهله ومحارمه، من مخالطة الأجانب.
2- إذا أحس الرجل من أهله ما يريبه، فعليه التثبت قبل الإنكار.
3- التثبت من صحة الرضاع المحرم وضبطه.
فهناك رضاع لا يحرم، كأن لا يصادف وقت الرضاع المحرم.
4- أنه لابد أن يكون الرضاع في وقت الحاجة إلى تغذيته، فإن الرضاعة من المجاعة، ويأتي تحديد ذلك، عددا، ووقتا، والخلاف فيه، إن شاء الله.
5- والحكمة في كون الرضاع المحرم هو ما كان من المجاعة، لأنه حين يتغذى بلبنها محتاجا إليه، يشب عليه لحمه، وتقوى عظامه، فيكون كالجزء منها، فيصير كولد لها تغذى في بطنها، وصار بضعة منها.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في قدر الرضاع المحرم.
فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن قليل الرضاع وكثيره يحرم، وهو مروي عن علي، وابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والزهري، وقتادة، والأوزاعى، والثوري.
وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وحجتهم: أن الله سبحانه وتعالى علق التحريم باسم (الرضاعة) وكذلك (القرآن) أطلقها ولم يقيدْهَا بشيء، فحيث وجد اسمها وجد حكمها.
وذهبت طائفة أخرى: إلى أنه لا يثبت التحريم بأقل من ثلاث رضعات. وهذا قول أبي ثور، وابن المنذر، وداود.
وحجة هؤلاء، ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحرم المصة ولا المصتان» رواه مسلم.
فمفهوم الحديث: أن ما زاد على المصتين يثبت به التحريم، وهو الثلاث فصاعداً.
وذهبت طائفة ثالثة إلى أنه لا يثبت بأقَل من خمس رضعات.
وهذا قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، وطاوس. وهو مذهب الأئمة الشافعي. وأحمد، وابن حزم.
ودليل هؤلاء، ما ثبت في صحيح (مسلم) عن عائشة رَضي الله عنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن عَشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى فيما يقرأ من القرآن.
وما جاء في صحيح (مسلمٍ) أيضاً في قصة سهلة، زوجة أبي حذيفة، حينما قالت: إنا كنا نرى سالما ولدا، وكان يأوي معي، ومع أبي حذيفةَ، في بيت واحد ويراني فضلى. وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فقال فيه؟.
فقال صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه» فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة.
وأجابت هذه الطائفة، عن أدلة الطائفتين الأوليين فقالت:
وأما من يرون أن قليله وكثيره يحرم، فجوابهم الحديث الصحيح المتقدم: «لا تحرم المصة ولا المصتان».
وأما جواب أصحاب الثلاث، فهو أن دليلهم مفهوم، والمنطوق مقدم عليه، والعمل بأحاديث الرضعات الخمس، إعمال للأحاديث كلها.
فائدة:
ما هي الرضعة التي يحصل بها العدد، وما مقدارها؟
الشارع ذكر الرضعة وأطلقها إلى ما يعرفه الناس ويعدونه رضعة، والرضعة، معناها، المرة من الرضعات، كالأكلة من الأكلات، والشربة من الشربات.
والناس لا يعدون الأكلة: إلا الوجبة التامة، سواء تخللها قيام، أو اشتغال يسير، أو قطعها لعارض، ثم رجع إليها، لأنه لم يكملها. فهكذا الرضعة.
فالصحيح أنها لا تحسب رضعة إلا ما رضعه الصبي، ثم تركه لغير عارض ولا شاغل، بل عن طيب نفس وري.
وهو مذهب الشافعي، وهى الرواية الثانية عن الإمام أحمد ونصرها (ابن القيم) في (الهدى) واختارها شيخنا (عبد الرحمن آل سعدي).
أما إذا نقلته المرضعة من ثدي إلى ثدي، أو جاءه ما يلهيه ثم تركه، أو نحو ذلك، فالصحيح أن هذه المصة، لا تعد رضعة.
واختلف العلماء في وقت الرضاع الذي يتعلق به التحريم، ولهم في ذلك أقوال، ولكن التي تصلح للبحث والمناقشة، ويستند إلى الأدلة، أربعة مذاهب هي:
الأول: أن الرضاع المعتبر، هو ما كان في الحولين فقط.
الثاني: هو ما كان في الصغر، ولم يقدروه بزمان.
الثالث: أن الرضاع يحرِّم ولو كان للكبير البالغ، أو الشيخ.
الرابع: أن الرضاع لا يكون محرماً إلا ما كان في الصغر، إلا إذا دعت الحاجة إلى رضاع الكبير، الذي لا يستغنى عن دخوله، ويشق الاحتجاب منه.
فذهب إلى الأول، الشافعي، وأحمد، وصاحبا أبي حنيفة، أبو يوسف، ومحمد بن الحسن. وصح عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر. وروى عن الشعبي، وهو قول سفيان، وإسحاق، وابن المنذر.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَالوَالِدَاتُ يُرضِعْنَ أولادهُن حَولَين كَامِلَيْن لِمَنْ أرَادَ أن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فجعل تمام الرضاعة حولين، فلا حكم لما بعدهما، فلا يتعلق به تحريم.
وحديث: «إنما الرضاعة من المجاعة»، المتقدم، ومدة المجاعة، هي ما كان في الحولين.
وما رواه الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن عباس يرفعه: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين».
وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود يرفعه: «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظمْ».
ورضاع الكبير لا ينبت اللحم ولا ينشز العظم.
وذهب إلى القول الثاني، أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، خلا عائشة.
وروي عن ابن عمر، وابن المسيب، واختاره شيخ الإسلام (ابن تيميه) ودليل هؤلاء ما في الصحيحين أنه قال: «إنما الرضاعة من المجاعة» فيقتضي عمومه، أن ما دام الطفل غذاؤه اللبن، أن ذلك الرضاع محرم، وهو نظر جيد، ومأخذه قَويّ.
وذهب إلى القول الثالث، طائفة من السلف والخلف، منهم عائشة، وروي عن علي، وعروة، وعطاء، وقال به (الليث بن سعد) و(داود) و(ابن حزم) ونصره في كتابه (المحلى) ورد حجج المخالفين.
وكانت عائشة إذا أحبت أن يدخل عليها أحد من الرجال، أمرت أختها أم كلثوم، أو بنات أخيها فأرضعته.
ودليل هؤلاء، ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سهلة بنت سهيل قالت: يا رسول الله، إن سالما مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا، وقد بلغ ما يبلغ الرجال، فقال: «أرضعيه تحرمي عليه» فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة، رواه مسلم.
وهذا حديث صحيح ليس في ثبوته كلام. ولكن أصحاب القول بالحولين يجيبون عنه بأحد جوابين.
الأول: أنه منسوخ، ولكن دعوى النسخ، تحتاج إلى معرفة التأريخ بين النصوص، وليس هناك علم بالمتقدم منها والمتأخر.
ولو كان منسوخا، لقاله الذين يُحَاجُّون عائشة في هذه المسألة ويناظرونها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن.
الجواب الثاني: دعوى الخصوصية، فيرون هذه رخصةً خاصة لسالم وسهلة، وليست لأحد غيرهما.
وتخريج هذا المسلك لهم، أنهم يقولون: جاءت سهلة شاكية متحرجة من الإثم والضيق، لما نزلت (آية الحجاب) فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه استثناها عن عموم الحكم.
قالوا: ويتعين هذا المسلك، وإلا لَزِمَنا أحدُ مسلكين، إما نسخ هذا الحديث بالأحاديث الدالة على اعتبار الصغر في التحريم، أو نسخها به.
ولا يمكن هذا، لأننا لا نعلم تاريخ السابق منها واللاحق. وبهذا المسلك نتمكن من العمل بالأحاديث كلها فيكون هذا الحديث خاصا ب (سالم) و(سهلة) وسائر الأحاديث لعامة الأمة.
وذهب إلى القول الرابع وهو أن تأييد رضاع الكبير رخصة عامة لكل من هو في مثل حال (سهلة) شيخ الإسلام (ابن تيميه) وجعله توسطا بين الأدلة وجمعا بينها، حيث إن النسخ لا يمكن بين هذه النصوص، لعدم العلم بالتاريخ.
والخصوصية لـ (سالم) وحده لم تثبت، فتكون خصوصية في مثل من هو في حال (سالم) وزوج أبو حذيفة، حيث يشق الاحتجاب عنه، ولا يستغني عن دخوله والخلوة به.
ورجح هذا المسلك (ابن القيم) في (الهدى) فقال: وهذا أولى من النسخ ودعوى الخصوصية لشخص بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين، وقواعد الشرع تشهد له. والله الموفق.
الحديث الخامس:
عَنْ عُقْبَةَ بن الحَارِثِ: أنَهُ تَزَوَّجَ أم يحي بِنْت أبي إهَاب. فَجَاءت أمَة سَودَاء فَقَالَتْ: قَد أرضعتكما.
فَذَكَرْتُ ذلِكَ لِلنَّبي صلى الله عليه وسلم، قالَ: فَأعرَضَ عَنها.
قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرتُ ذلِكَ لَهُ، فَقالَ: «وَكَيفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أن قَدْ أرْضَعَتْكُمَا».
المعنى الإجمالي:
تزوَّج (عقبة بن الحارث) أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فأخبرته أنها قد أرضعته وأرضعت زوجه، وأنهما أخوان من الرضاعة.
فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم قولها، وأنها كاذبة في دعواها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم-منكرا عليه رغبته في البقاء معها، مع شهادة هذه الأمة-: كيف لك بذلك، وقد قالت هذه المرأة ما قالت، وشهدت بما علمت؟.
ما يستفاد من الحديث:
1- أنه إذا ثبت الرضاع المحرم بين الزوجين، انفسخ نكاحهما.
2- أن الرضاع يثبت، وتترتب أحكامه بشهادة امرأة واحدة، ويأتي الخلاف في ذلك، إن شاء الله تعالى.
3- وفيه إثبات القاعدة الشرعية العامة وهي: (يثبت تبعا مالا يثبت استقلالا)، ووجهه أن شهادة المرأة لا تكفي في فسخ النكاح وفي الطلاق، فإذا شهدت بالرضاع، ثبت حكمه، فيثبت فسخ النكاح تبعا له.
4- قبول شهادة الرقيق إذا كان عَدْلاً، لقوله، أمة ولابد في الشهود كلهم من العدالة، وانتفاء التهمة.
5- الإنكار على من حاول البقاء على المحرمات، ولو يجعله تأويلاً.
6- أن وطء الشبهة لا يوجب شيئاً، وصاحبه معذور عن حَدِّ الدنيا وعذاب الآخرة، لأن العلم شرط في إقامة الحدود، ووعيد الله على العامدين.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في شهادة ثبوت الرضاع.
فذب الشافعي، وعطاء: إلى أنه لابد من أربع نسوة، لأن كل امرأتين في منزلة الرجل الواحد.
وذهب مالك، والحكم: إلى أنه لا يقبل إلا شهادة امرأتين، لأن الرجال أكمل شهادة، ومع هذا لا يقبل في الشهادة إلا رجلان.
وذهب الحنفية: إلى أنه لا يقبل إلا رجلان، أو رجل وامرأتان.
لقوله تعالى: {وَاستشْهِدُوا شَهِيدَين مِنْ رِجالِكُم فَإنْ لَم يَكُونَا رَجُلَين فَرَجُل وَامرَأتانِ} والجمهور على عدم العمل بهذا الحديث، وحملوه على أنه من باب الورع. وأن النهي فيه للتنزيه.
وذهب الإمام أحمد وهو من مفرداته عن الأئمة الثلاثة: إلى أنه يكتفي لثبوت الرضاع بشهادة امرأة مرضية. وقد نقل عن عثمان وابن عباس.
وقال بهذا القول طاوس، والحسن، والزهري، والأوزاعي، وإسحاق.
ودليل هذا القول، حديث الباب الذي تقدم شرحه، وهو دليل واضح صحيح. والله الموفق.
فائدة:
ينبغي حفظ الرضاع وضبطه، في حينه، وكتابته.
فيحفظ من رضع منه ولده، ومن شاركه في الرضاع، ومن رضع من لبنه، ويبين مقدار الرضاع، ووقته، حتى لا تقع المشكلات بعد النكاح، فيحصل التفرق والندم، وتشتت الأولاد، والأسف على الماضي، وغير ذلك من المفاسد الكثيرة.
الحديث السادس:
عَنِ الْبَراء بْنِ عَازِب رَضي اللَه عَنْهُ قَالَ: خَرَج رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم-يَعْني مِنْ مَكةَ- فَتَبِعَتْهُمُ ابُنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يا عم.
فَتَنَاوَلَهَا عَلي فَأخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دونَك ابنةَ عَمكِ فَاحتَمَلَتْهَا.
فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلي، وَجَعْفَر، وَزيد.
فقال عَلي: أنَا أحَقُّ بِهَا وَهِي ابنةُ عَمي.
وَقَالَ جَعْفَر: ابنهُ عَمِّي وخالتها تَحْتي.
وَقَالَ زيد: بنْتُ أخِي.
فَقَضَى بِهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِخَالتهَا، وَقَالَ: «الخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأم».
وقالَ لِعَلىِّ: «أنْتَ مِني وَأنَا مِنْك».
قالَ لِجَعفَر: «أشبهت خَلْقِي وَخُلُقِي».
وقالَ لِزَيدٍ: «أنتَ أخونا ومولانا»
الغريب:
دونكِ: بكسر الكاف، خطاب، لأنثى، وهو اسم فعل منقول من الظرف بمعنى خُذِيهَا.
وقال زيد: بنت أخي: البنت لحمزة بن عبد المطلب، وزيد من قبيلة كلب. فمراده إذا الأخوة الإسلامية، التي آخاها النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين، حين هاجروا إلى المدينة.
خَلقي: بفتح الخاء وإسكان اللام، والمراد به، الصفات الظاهرة.
وخُلُقِي: بضم الخاء واللام، المراد به الصفات الباطنة.
ومولانا: أي عتيقنا، فالمولى يطلق على السيد، فيكون مولىً من أعلى، ويطلق على العتيق، فيكون مولىً من أسفل.
المعنى الإجمالي:
لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم، من عمرة القضاء في السنة السابعة،: وخرجوا من مكة، تبعتهم ابنة حمزة بن عبد المطلب، تنادى: يا عم يا عم فتناولها ابن عمها على بن أبي طالب رضي الله عنه، فأخذ بيدها وقال لزوجه فاطمة: خذي ابنة عمك، فاحتملتها.
فاختصم في الأحقية بحضانتها ثلاثة: 1- على 2- وأخوه جعفر 3- وزيد بن حارثة الكلبي، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل منهم أدلى بحجته لاستحقاق الحضانة.
فقال علي: هي ابنة عمى، فأنا أحق بها.
وقال جعفر: هي ابنة عمى، وخالتها: زوجتي.
وقال زيد: هي بنت أخي الذي عقد بيني وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤاخاة، يثبت بها التوارث والتناصر، فأنا أحق بها.
فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بما أرضى قلوبهم، وطيب خواطرهم.
فقضى بالبنت للخالة، لأنها بمنزلة الأم في الحُنُوَّ والشفقة، وكانت عند جعفر.
وقال لِعلي: «أنت مني وأنا منك» وكفى بهذا فخراً، وفضلا.
وقال لجعفر: «أشبهت خَلقِي وَخُلُقِي» فأنت مثلي بالأخلاق الظاهرة والصورة، ومثلي في الأخلاق الحميدة الباطنة، من الحلم، والكرم، واللطف وغيرها، وكفى بهذه بشارة وسروراً. فقد طيب خاطره لأن الحكم بالحضانة له من أجل زوجه وهي خالة المحضونة لا من أجله هو.
وقال لزيد: أنت أخونا في الإسلام، ومولانا، ومولى القوم منهم. فكل منهم رضي واغتبط بهذا الفضل العظيم.
ما يستفاد من الحديث:
1- ثبوت الحضانة لحق الصغير والمعتوه، لحفظه، وصيانته، والقيام بشئونه. وهي من رحمة الله تعالى بخلقه.
2- أن العصبة من الرجال، لهم أصل في الحضانة، ما لم يوجد من هو أحق منهم، حيث أقر صلى الله عليه وسلم كلا من عَلي، وجعفر في ادِّعائه حضانة ابنة عمه، ولم ينكر عليهما.
3- أن الأم مقدمة في الحضانة على كل أحد، فإنه لم يعطها الخالة في هذه القصة إلا لأنها (بمنزلة الأم) لكمال شفقتها وبِرِّهَا.
4- أن الخالة تَلي الأم في الحضانة، فهي بمنزلتها في الحُنُو والشفقة.
5- أن الأصل في الحضانة، هو طلب تحقق الشفقة والرحمة لهذا العاجز القاصر، وهذا من رحمة الله تعالى ورأفته بالعاجزين والمقطعين، إذ هيأ لهم القلوب الرحيمة.
6- أنَّ المرأة المزوجة، لا تسقط حضانتها إذا رضي زوجها بقيامها بالحضانة، لأنها لم تسقط عنها إلا لأجل التفرغ لحقوق الزوج، والقيام ببيته وشئونه.
فإذا رضي بقيامها بالحضانة، فهي باقية على حقها منها.
وبهذا يحصل التوفيق بين قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالحضانة لجعفر، وبين قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة المطلقة-حين نازعها مطلقها في ابنهما-: «أنت أحق به ما لم تُنْكَحِي» رواه أحمد، وأبو داود.
7- حُسْنُ خلق النبي صلى الله عليه وسلم ولطفه، إذ حكم لواحد من الثلاثة وأرضاهم جميعاً بما طَيَّب أنفسهم، وأرضى ضمائرهم، فراحوا مسرورين مغتبطين. فصلوات اللَه وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال شيخ الإسلام: فكل من قدمناه من الأبوين إنما نقدمه إذا حصل به مصلحتها (أي البنت) أو اندفعت به مفسدتها، فأما مع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى بها بلا ريب، حتى الصغير إذا اختار أحد أبويه، وقدمناه إنما نقدمه بشرط حصول مصلحته وزوال مفسدته فإنه ضعيف العقل قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد، ويكون الصبي مقصده معاشرة الأضرار وترك ما ينفعه من العلم والدين والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يحصل له معه ما يهواه، ومتى كان الأمر كذلك فلا ريب أنه لا يمكن من يفسد معه حاله.
وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالقرابة والنكاح والولاية، بل هو من جنس (الولاية) ولاية النكاح والمال التي لابد فيها من القدرة على الواجب وفعله بحسب الإمكان. ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس له نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقاً، ولا تخيير أحد الأبوين مطلقا، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقا، بل مع العدوان والتفريط لا يقدم من يكون كذلك على البر العادل المحسن القائم بالواجب. واللّه أعلم.
ثم قال رحمه الله: إذا تزوجت الأم فلا حضانة لها، ومن حضنت الطفل ولم تكن الحضانة لها وطالبت بالنفقة لم يكن لها ذلك فإنها ظالمة بالحضانة، فلا تستحق المطالبة بالنفقة.
وقال الصنعاني: لم يتكلم الشارح (أي ابن دقيق العيد) على التوفيق بين حديث الباب والحكم بالحضانة للخالة وبين حديث عمرو بن شعيب أن امرأة قالت: يا رسول اللّه إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثدي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت أحق به ما لم تنكحي» أخرجه أبو داود.
وقال ابن القيم: إنه حديث احتاج الناس فيه إلى عمروبن شعيب، ولم يجدوا بدًّا من الاحتجاج به، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في سقوط الحضانة بالتزوج غير هذا. وقد ذهب إليه الأئمة الأربعة وغيرهم.
ووجه المعارضة أنه صلى الله عليه وسلم حكم بابنة حمزة لخالتها، وهي متزوجة بجعفر، ولم يقل: إنها سقطت حضانتها بتزويجها وجمع بينهما بأن الزوج إذا رضي بأن امرأته تحضن من لها حق في حضانته بقي حقها ثابتا في حضانة من يستحق حضانته، وها هنا قد كان الزوج وهو جعفر هو المطالب في حق حضانة بنت حمزة لخالتها، فهو رضا منه وزيادة. قيل: وكأن وجه سقوط حق المرأة في الحضانة إذا تزوجت هو شغلها بحق الزوج عن الحضانة، فإذا رضي الزوج بقي حقها ثابتا لعدم المقتضي سقوط حقها في الحضانة.