فصل: باب من أخبار الأزارقة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العقد الفريد **


  باب في مداراة العدو

في كتاب للهند‏:‏ إن العدو الشديد الذي لا تقوى له لا ترد بأسه عنك بمثل الخشوع والخضوع له كما أن الحشيش إنما يسلم من الريح العاصفة بلينه وانثنائه معها‏.‏

وقالوا‏:‏ أزفن للقرد في دولته‏.‏

أخذه الشاعر فقال‏:‏ لا تعبدن صنماً في فاقة نزلت وازفن بلا حرج للقرد في زمنه وقال أحمد بن يوسف الكاتب‏:‏ إذا لم تقدر أن تعض يد عدوك فقبلها‏.‏

وقال سابق البلوي‏:‏ وداهن إذا ما خفت يوماً مسلطاً عليك ولن يحتال من لا يداهن وقالت الحكماء‏:‏ رأس العقل مغافصة الفرصة عند إمكانها والانصراف عما لا سبيل إليه‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ بلاء ليس يشبهه بلاء عداوة غير ذي حسب ودين يبيحك منه عرضاً لم يصنه ويرتع منك في عرض مصون إن أبدى لك المودة قالت الحكماء‏:‏ احذر الموتور ولا تطمئن إليه وكن أشد ما تكون حذراً منه ألطف ما يكون مداخلة لك‏.‏

فإنما السلامة من العدو بتباعدك منه وانقباضك عنه وعند الأنس إليه والثقة به تمكنه من مقاتلك‏.‏

وقالوا‏:‏ لا تطمئن إلى العدو إن أبدى لك المقاربة وإن بسط لك وجهه وخفض لك جناحه فإنه يتربص بك الدوائر ويضمر لك الغوائل ولا يرتجى صلاحاً إلا في فسادك ولا رفعة إلا بسقوط جاهك‏.‏

كما قال الأخطل‏:‏ بني أمية إني ناصح لكم فلا يبيتن فيكم آمناً زفر واتخذوه عدواً إن شاهده وما تغيب من أخلاقه دعر إن الضغينة تلقاها وإن قدمت كالعر يكمن حيناً ثم ينتشر وفي كتاب الهند‏:‏ الحازم يحذر عدوه على كل حال يحذر المواثبة إن قرب والمعاودة إن بعد والكمين إن انكشف والاستطراد إن ولى والكرة إن فر‏.‏

وأوصى بعض الحكماء ملكاً فقال‏:‏ لا يكونن العدو الذي كشف لك عن عداوته بأخوف عندك من الظنين الذي يستتر لك بمخاتلته فإنه ربما تخوف الرجل السم الذي هو أقتل الأشياء وقتله الماء الذي هو محيي الأشياء وربما تخوف أن تقتله الملوك التي تملكه ثم تقتله العبيد التي يملكها‏.‏

ولم يقل أحد في العدو المندمل على العداوة مثل قول الأخطل‏:‏ إن الضغينة تلقاها وإن قدمت كالعرق يكمن حيناً ثم ينتشر وقد أشار الحسن بن هانئ إلى هذا المعنى فأجاده حيث يقول‏:‏ وابن عم لا يكاشفنا قد لبسناه على غمره كمن الشنآن فيه لنا ككمون النار في حجره وشبهوا العدو إذا كان هذا فعله بالحية المطرقة‏.‏

قال ابن أخت تأبط شراً‏:‏ مطرق يرشح موتاً كما أطرق أفعى ينفث السم صل وقال عبد الله بن الزبير لمعاوية - ويقال‏:‏ بل معاوية قالها لعبد الله بن الزبير -‏:‏ مالي أراك تطرق إطراق الأفعوان في أصول السخبر وفي كتاب الهند‏:‏ إذا أحدث لك العدو صداقة لعلة ألجأته إليك فمع ذهاب العلة رجوع العداوة كالماء تسخنه فإذا أمسكت عنه عاد إلى أصله بارداً‏:‏ والشجرة المرة لو طليتها بالعسل وقال دريد بن الصمة‏:‏ وما تخفى الضغينة حيث كانت ولا النظر المريض من الصحيح وقال زهير‏:‏ وما يك في صديق أو عدو تخبرك العيون عن القلوب وقيل لزياد‏:‏ ما السرور قال‏:‏ من طال في العافية والكفاية عمره حتى يرى في عدوه ما يسره‏.‏

  باب من أخبار الأزارقة

كان أول من خرج من الخوارج بعد قتل علي رضي الله عنه‏:‏ حوثرة الأقطع فإنه كان خرج إلى النخيلة واجتمع إليه جماعة من الخوارج ومعاوية بالكوفة وقد بايعه الحسن والحسين وقيس بن سعد بن عبادة‏.‏

ثم خرج الحسن يريد المدينة فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم‏.‏

فقال الحسن عليه السلام‏:‏ والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين وما أحسب ذلك يسعني فكيف أن أقاتل قوماً أنت أولى بالقتال منهم فلما رجع الجواب إليه وجه إليهم جيشاً أكثره من أهل الكوفة ثم قال لأبي حوثرة‏:‏ تقدم فاكفني أمر ابنك‏.‏

فسار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع فأبى فداوره فصمم‏.‏

فقال له‏:‏ أي بني أجيئك بابنك لعلك تراه فتحن إليه فقال له‏:‏ يا أبت أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني‏.‏

فرجع إلى معاوية فأخبره‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا حوثرة عتا هذا جداً‏.‏

فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة قال‏:‏ يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه واليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه‏.‏

ثم جعل يشد عليهم ويقول‏:‏ احمل على هذي الجموع حوثرة فعن قريب ستنال المغفره وكان مرداس أبو بلال قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنكر التحكيم وشهد النهروان ونجا فيمن نجا فلما خرج من حبس ابن زياد ورأى شدة الطلب للشراة عزم على الخروج فقال لأصحابه‏:‏ إنه والله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين تجرى علينا أحكامهم مجانيين للعدل مفارقين للفصل‏.‏

والله إن الصبر على هذا لعظيم وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لشديد ولكنا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفاً ولا نقاتل إلا من قاتلنا‏.‏

فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً منهم‏:‏ حريث بن حجل وكهمس ابن طلق الصريمي فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً فأبى‏.‏

فولوا أمرهم مرداساً‏.‏

فلما مضى بأصحابه لقيهم عبد الله بن رباح الأنصاري وكان له صديقاً فقال له‏:‏ يا ابن أخي أين تريد فقال‏:‏ أريد أن أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة‏.‏

قال‏:‏ له‏:‏ أعلم أحد بكم قال‏:‏ لا قال‏:‏ فارجع‏.‏

قال‏:‏ أو تخاف علي مكروها قال‏:‏ نعم وأن يؤتى بك‏.‏

قال‏:‏ فلا تخف فإني لا أجرد سيفاً ولا أخيف أحداً ولا أقاتل إلا من قاتلني‏.‏

ثم مضى حتى نزل آسك‏.‏

فمر به مال يحمل إلى ابن زياد وقد بلغ أصحابه الأربعين‏:‏ فحط ذلك المال فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه وترك ما بقى وقال‏:‏ قولوا لصاحبكم‏:‏ إنما أخذنا أعطياتنا‏.‏

فقال له أصحابه‏:‏ لماذا تترك الباقي قال‏:‏ إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا تقاتلوهم ما داموا على الصلاة‏.‏

فوجه إليهم ابن زياد أسلم بن زرعة الكلابي في ألفين‏.‏

فلما وصل إليهم قال له مرداس‏:‏ اتق الله يا أسلم فإنا لا نريد قتالاً ولا نروع أحداً وإنما هربنا من الظلم ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا ولا نقاتل إلا من قاتلنا‏.‏

قال‏:‏ لا بد من ردكم إلى ابن زياد‏.‏

قال‏:‏ وإن أراد قتلنا‏.‏

قال‏:‏ وإن أراد قتلكم‏!‏ قال‏:‏ فتشرك في دمائنا‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

فشدوا عليه شدة رجل واحد فهزموه وقتلوا أصحابه‏.‏

ثم وجه إليهم ابن زياد عباداً‏.‏

فقاتلهم يوم الجمعة حتى كان وقت الصلاة فناداهم أبو بلال‏:‏ يا قوم هذا وقت الصلاة فوادعونا حتى نصلي‏.‏

فوادعوهم فلما دخلوا في الصلاة شدوا عليهم فقتلوهم وهم بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد‏.‏

فقال عمران بن حطان يرثي أبا بلال‏:‏ يا عين بكي لمرداس ومصرعه يا رب مرداس اجعلني كمرداس أبقيتني هائماً أبكي لمرزئتي في منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ما الناس بعدك يا مرداس بالناس إما شربت بكأس دار أولها على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكل من لم يذقها شارب عجلاً منها بأنفاس ورد بعد أنفاس وليس في الفرق كلها وأهل البدع أشد بصائر من الخوارج ولا أكثر اجتهاداً ولا أوطن أنفساً على الموت فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى إلى قاتله ويقول‏:‏ عجلت إليك رب لترضى‏.‏

ولما مالت الخوارج إلى أصبهان حاصرت بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر يقاتلهم في كل يوم وكان من عتاب بن ورقاء رجل يقال له شريح ويكنى أبا هريرة فكان يخرج إليهم في كل يوم فيناديهم‏:‏ يا بن أبي الماحوز والأشرار كيف ترون يا كلاب النار شد أبي هريرة الهرار يعروكم بالليل والنهار وهو من الرحمن في جوار فتعاظمهم ذلك‏.‏

فكمن له عبيدة بن هلال فضربه واحتمله أصحابه فظنت الخوارج أنه قد قتل فكانوا إذا تواقفوا ينادونهم‏:‏ ما فعل الهرار فيقولون‏:‏ ما به من بأس‏.‏

حتى أبل من علته فخرج إليهم فقال‏:‏ يا أعداء الله‏.‏

أترون بي بأساً فصاحوا به‏:‏ قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية في النار الحامية‏.‏

فلما طال الحصار على عتاب قال لأصحابه‏:‏ ما تنتظرون‏:‏ إنكم والله ما تؤتون من قلة وإنكم فرسان عشائركم ولقد حاربتموها مراراً فانتصفتم منهم وما بقي من هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه صاحبه ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه فقاتلوا القوم وبكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه‏.‏

فلما أصبح بهم الصبح ثم خرج إلى الخوارج وهم غارون وقد نصب لواء لجارية يقال لها ياسمين فقال‏:‏ من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين ومن أراد الجهاد فليلحق بلوائي‏.‏

قال‏:‏ فخرج في ألفين وسبعمائة فارس فلم تشعر بهم الخوارج حتى غشوهم فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج مثله فقتلوا أميرهم الزبير بن علي وانهزمت الخوارج فلم يتبعهم عتاب بن ورقاء‏.‏

وخرج قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي‏.‏

كانا مجتهدين بالصرة في أيام زياد فاعترضا الناس فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار فقتلاه وتنادى الناس فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد بالسيف‏.‏

فناداه الناس من بعض البيوت‏:‏ الحرورية انج بنفسك‏.‏

فنادوه‏:‏ لسنا حرورية نحن الشرط فوقف فقتلوه‏.‏

وبلغ أبا بلال خبرهما وكان على دين الخوارج إلا أنه كان لا يرى اعتراض الناس فقال قريب لا قربه الله من الخير وزحاف لا عفا الله عنه فلقد ركباها عشواء مظلمة‏.‏

ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا فيها حتى مرا ببني علي ابن سود من الأزد‏.‏

وكانوا رماة وكان فيهم مائة يجيدون الرمي‏.‏

فرموهم رمياً شديداً فصاحوا‏:‏ يا بني علي البقيا لا لا شيء للقوم سوى السهام مشحوذة في غلس الظلام فهربت عنهم الخوارج‏.‏

فاشتقوا مقبرة بني يشكر حتى خرجوا إلى مزينة‏.‏

واستقبلهم الناس فقتلوا عن آخرهم‏.‏

ثم عاد الناس إلى زياد فقال‏:‏ ألا ينهى كل قوم سفهاءهم‏.‏

فكانت القبائل إذا أحست بخارجي فيهم أوثقوه وأتوا به زياداً فمنهم من يجبسه ومنهم من يقتله‏.‏

ولزياد أخرى في الخوارج أنه أتي بامرأة منهم فقتلها ثم عراها فلم تخرج النساء إلا بعد زياد وكن إذا أرغمن على الخروج قلن‏:‏ لولا التعرية لسارعنا‏.‏

ومن مشاهير فرسان الخوارج‏:‏ عمرو القنا من بني سعد بن زيد مناة وعبيدة بن هلال من بني يشكر بن بكر بن وائل وهو الذي طعن صاحب المهلب في فخذه فشكها مع السرج وهما اللذان يقول فيهما ابن المنجب السدوسي من فرسان المهلب وكان قال له مولاه خلاج‏:‏ وددت أنا فضضنا عسكرهم فأستلب منه جاريتين إحداهما لك وأخرى لي -‏:‏ أخلاج إنك لن تعانق طفلة شرقا بها الجادي كالتمثال حتى تعانق في الكتيبة معلماً عمرو القنا وعبيدة بن هلال وترى المقعطر في الكتيبة مقدماً في عصبة قسطوا مع الضلال والمقعطر‏:‏ من مشاهير فرسانهم‏.‏

وقطري‏:‏ أنجدهم قاطبة‏.‏

وصالح بن مخراق‏:‏ من بهمهم وكذلك سعد الطلائع‏.‏

ولما اختلف أمر الخوارج وانحاز قطري فيمن معه وبقي عبد ربه قال المهلب لأصحابه‏.‏

إن الله قد أراحكم من أقران أربعة‏:‏ قطري بن الفجاءة واصلح بن مخراق‏.‏

وعبيدة بن هلال وسعد الطلائع وإنما بين أيديكم عبد ربه في خشار من خشار الشيطان‏.‏

وكانت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها والسوط والعلق الخسيس أشد قتال وسقط في بعض أيامهم رمح لرجل من مراد من الخوارج فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل وذلك مع المغرب والمرادي يرتجز‏:‏ الليل ليل فيه ويل ويل وسال بالقوم الشراة السيل إن جاز للأعداء فينا قول وتعرقت مقالة الخوارج على أربعة أضرب فقال نافع بن الزرق باستعراض الناس والبراءة من عثمان وعلي وطلحة والزبير واستحلال الأمانة وقتل الأطفال‏.‏

وقال أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي‏:‏ إن أعداءنا كأعداء الرسول صلى الله عليه وسلم يحل لنا المقام فيهم كما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المسلمون بين المشركين وأقول‏:‏ إن مناكحتهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام وأن حكمهم عند الله حكم المشركين‏.‏

وقال عبد الله بن إباض‏:‏ لا نقول فيمن خالفنا إنه مشرك لأن معهم التوحيد والإقرار بالكتاب المقدس والرسول وإنما هم كفار للنعم ومواريثهم ومناكيحهم والإقامة معهم حل ودعوة الإسلام تجمعهم‏.‏

وقالت الصفرية بقول عبد الله بن إباض ورأت القعود حتى صارت عامتهم قعداً‏.‏

وإنما سموا صفرية لإصفرار وجوههم وقيل لأنهم أصحاب ابن الصفار‏.‏

  كتاب الزبرجدة في الأجواد والأصفاد

قال الفقيه أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد ربه تغمده الله برحمته‏:‏ قد مضى قولنا في الحروب وما يدخلها من النقص والكمال وتقدم الرجال على منازلهم من الصبر والجلد والعدة والعدد‏.‏

ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأجواد والأصفاد إذ كان أشرف ملابس الدنيا وأزين حللها وأجلها لحمد وأدفعها لذم وأسترها لعيب كرم طبيعة يتحلى بها السمح السري والجواد السخي‏.‏

ولو لم يكن في الكرم إلا أنه صفة من صفات الله تعالى تسمى بها فهو الكريم عز وجل‏.‏

ومن كان كريماً من خلقه فقد تسمى باسمه واحتذى على صفته‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه‏.‏

وفي الحديث المأثور‏:‏ الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله‏.‏

وفي الحسن والحسين عليهما السلام لعبد الله بن جعفر‏:‏ إنك قد أسرفت في بذل المال‏.‏

قال‏:‏ بأبي وأمي أنتما إن الله قد عودني أن يتفضل علي وعودته أن أتفضل على عباده فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني‏.‏

وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي‏:‏ أنت متلاف‏.‏

قال‏:‏ منع الجود سوء ظن بالمعبود‏.‏

يقول الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً‏.‏

  مدح الكرم وذم البخل

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اصطناع المعروف يقي مصارع السوء‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن الله يحب الجود ومكارم الأخلاق ويبغض سفسافها‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم من العرب‏:‏ من سيدكم قالوا‏:‏ الجد ابن قيس على بخل فيه‏.‏

فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأي داء أدوى من البخل يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏

وقال أكثم بن صيفى حكيم العرب‏:‏ ذللوا أخلاقكم للمطالب وقودوها إلى المحامد وعلموها المكارم ولا تقيموا على خلق تذموه من غيركم وصلوا من رغب إليكم وتحلوا بالجود يكسبكم المحبة ولا تقتعدوا البخل فتتعجلوا الفقر‏.‏

أخذه الشاعر فقال‏:‏ أمن خوف فقر تعجلته وأخرت إنفاق ما تجمع فصرت الفقير وأنت الغني وما كنت تعدو الذي تصنع وكتب رجل من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه ويخوفه بالفقر‏.‏

فرد عليه‏:‏ ‏"‏ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ‏"‏ وإني أكره أن أترك أمراً قد وقع لأمر لعله لا يقع‏.‏

وكان خالد بن عبد الله القسري يقول على المنبر‏:‏ أيها الناس عليكم بالمعروف فإن الله لا يعدم فاعله جوازيه‏.‏

وما ضعفت الناس عن أدائه قوي الله على جزائه‏.‏

وأخذه من قول الحطيئة‏:‏ من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس وأخذه الحطيئة من بعض الكتب القديمة‏.‏

يقول الله تعالى فيما أنزله على داود عليه السلام‏:‏ من يفعل الخير يجده عندي لا يذهب العرف بيني وبين عبدي‏.‏

وكان سعيد بن العاص يقول على المنبر‏:‏ من رزقه الله رزقاً حسناً فلينفق منه سراً وجهراً حتى يكون أسعد الناس به فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين‏:‏ إما لمصلح فلا يقل عليه شيء وإما لمفسد فلا يبقى له شيء‏.‏

أخذه الشاعر فقال‏:‏ أسعد بمالك في الحياة فإنما يبقى خلافك مصلح أو مفسد وقال أبو ذر رضي الله عنه‏:‏ إن لك في مالك شريكين‏:‏ الحدثان والوارث فإن استطعت ألا تكون أبخس الشركاء حظاً فافعل‏.‏

وقال بزرجمهر الفارسي‏:‏ إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى‏:‏ أخذ الشاعر هذا المعنى فقال‏:‏ لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فليس ينقصها التبذير والسرف وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف وكان كسرى يقول‏:‏ عليكم بأهل السخاء والشجاعة فإنهم أهل حسن الظن بالله تعالى ولو أن أهل البخل لم يدخل عليهم من ضرر بخلهم ومذمة الناس لهم وإطباق القلوب على بغضهم إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف لكان عظيماً‏.‏

وأخذ هذا المعنى محمود الوراق فقال‏:‏ من ظن بالله خيراً جاد مبتدئاً والبخل من سوء ظن المرء بالله محمد بن يزيد بن عمر بن عبد العزيز قال‏:‏ خرجت مع موسى الهادي أمير المؤمنين من جرجان فقال لي‏:‏ إما أن تحملني وإما أن أحملك‏.‏

ففهمت ما أراد فأنشدته أبيات ابن صرمة الأنصاري‏:‏ وإن قومكم سادوا فلا تحسدوهم وإن كنتم أهل السيادة فاعدلوا وإن أنتم أعوزتم فتعففوا وإن كان فضل المال فيكم فأفضلوا فأمر لي بعشرين ألفاً‏.‏

وقال عبد الله بن عباس‏:‏ سادات الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء‏.‏

وقال أبو مسلم الخولاني‏:‏ ما شيء أحسن من المعروف إلا ثوابه‏.‏

وما كل من قدر على المعروف كانت له نية‏.‏

فإذا اجتمعت القدرة والنية تمت السعادة وأنشد‏:‏ إن المكارم كلها حسن والبذل أحسن ذلك الحسن كم عارف بي لست أعرفه ومخبر عني ولم يرني يأتيهم خبري وإن بعدت داري وبوعد عنهم وطني إني لحر المال ممتهن ولحر عرضي غير ممتهن وقال خالد بن عبد الله القسري‏:‏ من أصابه غبار مركبي فقد وجب علي شكره‏.‏

وقال عمرو بن العاص‏:‏ والله لرجل ذكرني ينام على شقة مرة وعلى شقة أخرى يراني موضعاً لحاجته لأوجب علي حقاً إذا سألنيها مني إذا قضيتها له‏.‏

وقال عبد العزيز بن مروان‏:‏ إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده يده عندي إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى وأعمل فكر الليل والليل عاكر وباكرني في حاجة لم يكن لها سواي ولا من نكبة الدهر ناصر فرجت بمالي همه عن خناقه وزايله الهم الطروق المساور وكان له فضل علي بظنه بي الخير إني للذي ظن شاكر وقيل لأبي عقيل البليغ العراقي‏:‏ كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه قال‏:‏ رأيت رغبته في الشكر وحاجته إلى القضاء أشد من حاجة صاحب الحاجة‏.‏

أخذه بشار فنظمه فقال‏:‏ مالكي ينشق عن وجهه الجد ب كما انشقت الدجى عن ضياء ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ف ولكن يلذ طعم العطاء وقال زياد‏:‏ كفى بالبخل عاراً اسمه لم يقع في حمد قط وكفى بالجود فخراً أن اسمه لم يقع في ذم قط‏.‏

وقال آخر‏:‏ لقد علمت وقد قطعتني عذلاً ماذا من الفضل بين البخل والجود إلا يكن ورق يوماً أروح به للخابطين فإني لين العود قوله‏:‏ إلا يكن ورق يريد المال وضربه مثلاً‏.‏

ويقال‏:‏ أتى فلان فلاناً يختبط ما عنده‏.‏

والاختباط‏:‏ ضرب الشجر ليسقط الورق لتأكله السائمة فجعل طالب الرزق مثل الخابط‏.‏

وقال أسماء بن خارجة‏:‏ ما أحب أن أرد أحداً عن حاجة طلبها‏.‏

لأنه لا يخلو أن يكون كريماً فأصون له عرضه أو لئيماً فأصون عرضي منه‏.‏

وقال أرسطو طاليس‏:‏ من انتجعك من بلاده فقد ابتدأك بحسن الظن بك والثقة بما عندك‏.‏

الترغيب في حسن الثناء واصطناع المعروف قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا ما يتبعه من حسن الثناء‏.‏

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري‏:‏ اعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس واعلم أن مالك عند الله مثل ما للناس عندك‏.‏

وقيل لبعض الحكماء‏:‏ ما أفادك الدهر قال العلم به‏.‏

قيل‏:‏ فما أحمد الأشياء قال‏:‏ أن تبقى للإنسان أحدوثة حسنة‏.‏

وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ‏"‏‏.‏

إنه أراد حسن الثناء من بعده‏.‏

وقال أكثم بن صيفي‏:‏ إنما أنتم أخبار فطيبوا أخباركم‏.‏

أخذ هذا المعنى حبيب الطائي فقال‏:‏ وما ابن آدم إلا ذكر صالحة أو ذكر سيئة يسري بها الكلم أما سمعت بدهر باد أمته جاءت بأخبارها من بعدها أمم وقال أبو بكر محمد بن دريد‏:‏ وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى وقالوا‏:‏ الأيام مزارع فما زرعت فيها حصدته‏.‏

ومن قولنا في هذا المعنى وغيره من مكارم الأخلاق‏:‏ يا من تجلد للزما ن أما زمانك منك أجلد سلط نهاك على هوا ك وعد يومك ليس من غد إن الحياة مزارع فازرع بها ما شئت تحصد والناس لا يبقى سوى آثارهم والعين تفقد والمال إن أصلحته يصلح وإن أفسدت يفسد والعلم ما وعت الصدو ر وليس ما في الكتب يخلد وقال الأحنف بن قيس‏:‏ ما أدخرت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتى للأحياء شيئاً أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب والآداب‏.‏

وقالوا‏:‏ تربيب المعروف أولى من اصطناعه لأن اصطناعه نافلة وتربيبه فريضة‏.‏

وقالوا‏:‏ أحي معروفك بإماتة ذكره وعظمه بالتصغير له‏.‏

وقالت الحكماء‏:‏ من تمام كرم النعم التغافل عن حجته والإقرار بالفضيلة لشاكر نعمته‏.‏

وقالوا‏:‏ للمعروف خصال ثلاث‏:‏ تعجيله وستره وتيسيره فمن أخل بواحدة منها فقد بخس المعروف حقه وسقط عنه الشكر‏.‏

وقيل لمعاوية‏:‏ أي الناس أحب إليك فقال‏:‏ من كانت له عندي يد صالحة‏.‏

قيل‏:‏ فإن لم تكن له فقال‏:‏ فمن كانت لي عنده يد صالحة‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤونة الناس عليه فإن لم يقم بتلك المؤونة عرض النعمة للزاول‏.‏

أبو اليقظان قال‏:‏ أخذ عبيد الله بن زياد عروة بن أدية أخا أبي بلال وقطع يده ورجله وصلبه على باب داره‏.‏

فقال لأهله وهو مصلوب‏:‏ انظروا إلى هؤلاء الموكلين بي فأحسنوا إليهم فإنهم أضيافكم‏.‏

ابن المبارك عن حميد عن الحسن قال‏:‏ لأن أقضي حاجة لأخ لي أحب إلي من عبادة سنة‏.‏

وقال إبراهيم بن السندي‏:‏ قلت لرجل من أهل الكوفة من وجوه أهلها كان لا يجف لبده ولا يستريح قلبه ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال وإدخال المرافق على الضعفاء وكان رجلاً مفوهاً فقلت له‏:‏ أخبرني عن الحالة التي خففت عنك النصب وهونت عليك التعب في القيام بحوائج الناس ما هي قال‏:‏ قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار في فروع الأشجار وسمعت خفق أوتار العيدان وترجيع أصوات القيان فما طربت من صوت قط طربي من ثناء حسن بلسان حسن على رجل قد أحسن ومن شكر حر لمنعم حر ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر‏.‏

قال إبراهيم‏:‏ فقلت له‏:‏ لله أبوك‏!‏ لقد حشيت كرماً‏.‏

إسماعيل بن مسرور عن جعفر بن محمد عليه السلام قال‏:‏ إن الله خلق خلقاً من رحمته برحمته لرحمته وهم الذين يقضون الحوائج للناس فمن استطاع منكم أن يكون منهم فليكن‏.‏

  الجود مع الإقلال

قال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن الأنصار‏:‏ ‏"‏ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أفضل العطية ما كان من معسر إلى معسر‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ أفضل العطية جهد المقل‏.‏

وقالت الحكماء‏:‏ القليل من القليل أحمد من الكثير من الكثير‏.‏

أخذ هذا المعنى حبيب فنظمه في أبيات كتب بها إلى الحسن بن وهب الكاتب وأهدى إليه قلماً‏:‏ قد بعثنا إليك أكرمك الل ه بشيء فكن له ذا قبول لا تقسه إلى ندى كفك الغم ر ولا نيلك الكثير الجزيل واستجز قلة الهدية مني إن جهد المقل غير قليل وقالوا‏:‏ جهد المقل أفضل من غنى المكثر‏.‏

وقال صريع الغواني‏:‏ وقال أبو هريرة‏:‏ ما وددت أن أحداً ولدتني أمه إلا أم جعفر بن أبي طالب عليه السلام تبعته ذات يوم وأنا جائع فلما بلغ الباب التفت فرآني فقال لي‏:‏ أدخل فدخلت‏.‏

ففكر حيناً فما وجد في بيته إلا نحيا كان فيه سمن مر فأنزله من رف لهم فشقه بين أيدينا فجعلنا نلعق ما كان فيه من السمن والرب وهو يقول‏:‏ ما كلف الله نفساً فوق طاقتها ولا تجود يد إلا بما تجد وقيل لبعض الحكماء‏:‏ من أجود الناس قال‏:‏ من جاد من قلة وصان وجه السائل عن المذلة‏.‏

وقال حماد عجرد‏:‏ أروق بخير تؤمل للجزيل فما ترجى الثمار إذا لم يورق العود إن الكريم ليخفي عنك عسرته حتى تراه غنياً وهو مجهود وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود بث النوال ولا نمنعك قلته فكل ما سد فقراً فهو محمود وقال حاتم‏:‏ أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بجسمي مس الجوع والجوع جاهد لأني أمرؤ عافي إنائي شركة وأنت أمرؤ عافى أنائك واحد أقسم جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء بارد ومن أحسن ما قيل في الجود والإقلال قول أبي تمام حبيب‏:‏ فلو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله ومن أفرط ما قيل في الجود قول بكر بن النطاح‏:‏ أقول لمرتاد الندى عند مالك تمسك بجدوى مالك وصلاته فتى جعل الدنيا وقاء لعرضه فأسدى بها المعروف قبل عداته فلو خذلت أمواله جود كفه لقاسم من يرجوه شطر حياته وإن لم يجز في العمر قسم لمالك وجاز له أعطاه من حسناته وجاد بها من غير كفر بربه وأشركه في صومه وصلاته وقال آخر في هذا المعنى وأحسن‏:‏ ملأت يدي من الدنيا مراراً وما طمع العواذل في اقتصادي قال سعيد بن العاصي‏:‏ قبح الله المعروف إن لم يكن ابتدئ من غير مسألة فالمعروف عوض عن مسألة الرجل إذ بذل وجهه فقلبه خائف وفراصه ترتعد وجبينه يرشح لا يدري أيرجع بنجح الطلب أم بسوء المنقلب قد انتفع لونه وذهب دم وجهه‏.‏

اللهم فإن كانت الدنيا لها عندي حظاً فلا تجعل لي حظاً في الآخرة‏.‏

وقال أكثم بن صيفي‏:‏ كل سؤال وإن قل أكثر من كل نوال وإن جل‏.‏

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه‏:‏ من كانت له إلي منكم حاجة فليرفعها في كتاب لأصون وجوهكم عن المسألة‏.‏

حبيب قال‏:‏ عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى وتبقى وجوه الراغبين بمائها وقال حبيب أيضاً‏:‏ ذل السؤال شجاً في الحلق معترض من دونه شرق من خلفه جرض ما ماء كفك إن جادت وإن بخلت من ماء وجهي إذا أفنيته عوض إني بأيسر ما أدنيت منبسط كما بأكثر ما أقصيت منقبض وقالوا‏:‏ من بذل إليك وجهه فقد وفاك حق نعمتك وقالوا‏:‏ السخي من كان مسروراً ببذله متبرعاً بعطائه لا يلتمس عرض دنيا فيحبط عمله ولا طلب مكافأة فيسقط شكره ولا يكون مثله فيما أعطى مثل الصائد الذي يلقي الحب للطائر لا يريد نفعها ولكن نفع نفسه‏.‏

نظر المنذر بن أبي سبرة إلى أبي الأسود الدؤلي وعليه قميص مرقوع فقال له‏:‏ ما أصبرك على هذا القميص فقال له‏:‏ رب مملوك لا يستطاع فراقه‏.‏

فبعث إليه بتخت من ثياب‏.‏

فقال أبو الأسود‏:‏ كساني ولم أستكسه فحمدته أخ لك يعطيك الجزيل وناصر وإن أحق الناس إن كنت شاكراً بشكرك من أعطاك والعرض وافر وسأل معاوية صعصعة بن صوجان‏:‏ ما الجود فقال‏:‏ التبرع بالمال والعطية قبل السؤال‏:‏ ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ كريم على العلات جزل عطاؤه ينيل وإن لم يعتمد لنوال وما الجود من يعطى إذا ما سألته ولكن من يعطى بغير سؤال وقال بشار العقيلي‏:‏ مالكي ينشق عن وجهه الجد ب كما انشقت الدجى عن ضياء ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ف ولكن يلذ طعم العطاء لا ولا أن يقال شيمته الجو د ولكن طبائع الآباء وقال آخر‏:‏ إن بين السؤال والإعتذار خطة صعبة على الأحرار وقال حبيب بن أوس لئن جحدتك ما أوليت من نعم إني لفي اللؤم أمضى منك في الكرم أنسى ابتسامك والألوان كاسفة تبسم الصبح في داج من الظلم رددت رونق وجهي في صحيفته رد الصقال بهاء الصارم الخذم وما أبالي وخير القول أصدقه حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي استنجاح الحوائج كانوا يستفتحون حوائجهم بركعتين يقولون فيهما‏:‏ اللهم بك أستنجح وباسمك أستفتح وبمحمد نبيك إليك أتوجه‏.‏

اللهم ذلل لي صعوبته وسهل لي حزونته وارزقني من الخير أكثر مما أرجو وأصرف عني من الشر أكثر مما أخاف‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ استعينوا على حوائجكم بالكتمان لها فإن كل ذي نعمة محسود‏.‏

وقال خالد بن صفوان‏:‏ لا تطلبوا الحوائج في غير حينها ولا تطلبوها من غير أهلها فإن الحوائج تطلب بالرجاء وتدرك بالقضاء‏.‏

وقال‏:‏ مفتاح نجح الحاجة الصبر على طول المدة ومغلاقها اعتراض الكسل دونها‏.‏

قال الشاعر‏:‏ إني رأيت وفي الأيام تجربة للصبر عاقبة محمودة الأثر وقل من جد في أمر يحاوله فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر ومن أمثال العرب في هذا‏:‏ من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له‏.‏

أخذ الشاعر هذا المعنى فقال‏:‏ إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا لا تيأسن وإن طالت مطالبة إذ تضايق أمر أن ترى فرجا أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا وقال خالد بن صفوان‏:‏ فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها وأشد من المصيبة سوء وقالوا‏:‏ صاحب الحاجة مبهوت وطلب الحوائج كلها تعزير‏.‏

وقالت الحكماء‏:‏ لا تطلب حاجتك من كذاب فإنه يقر بها بالقول ويبعدها بالفعل ولا من أحمق فإنه يريد نفعك فيضرك ولا من رجل له آكلة من جهة رجل فإنه لا يؤثر حاجتك على أكلته‏.‏

وقال دعبل بن علي الخزاعي‏:‏ جئتك مسترفداً بلا سبب إليك إلا بحرمة الأدب فاقض ذمامي فإنني رجل غير ملح عليك في الطلب وقال شبيب بن شيبة‏:‏ إني لأعرف أمراً لا يتلاقى به اثنان إلا وجب النجح بينهما‏.‏

قيل له‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ العقل فإن العاقل لا يسأل ما لا يمكن ولا يرد عما يمكن‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ أتيتك لا أدلي بقربى ولا يد إليك سوى أني بجودك واثق فإن تولني عرفاً أكن لك شاكراً وإن قلت لي عذراً أقل أنت صادق وقال الحسن بن هانئ‏:‏ فإن تولني منك الجميل فأهله وإلا فإني عاذر وشكور لعمرك ما أخلقت وجهاً بذلته إليك ولا عرضته للمعاير فتى وفرت أيدي المكارم عرضه عليه وخلت ماله غير وافر ودخل محمد بن واسع على بعض الأمراء فقال‏:‏ أتيتك في حاجة فإن شئت قضيتها وكنا كريمين وإن شئت لم تقضها وكنا لئيمين‏.‏

أراد إن قضيتها كنت أنت كريماً بقضائها وكنت أنا كريما بسؤالك إياها لأني وضعت الطلبة في موضعها‏.‏

فإن لم تقضها كنت أنت لئيماً بمنعك وكنت أنا لئيما بسوء اختياري لك‏.‏

وسرق حبيب هذا المعنى فقال‏:‏ عياش إنك للئيم وإنني إذ صرت موضع طلبي للئيم ودخل سوار القاضي على عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فقال‏:‏ أصلح الله الأمير‏:‏ لنا حاجة والعذر فيها مقدم خفيف معناها مضاعفة الأجر فإن تقضها فالحمد لله وحده وإن عاق مقدور ففي أوسع العذر قال له‏:‏ ما حاجتك أبا عبد الله قال‏:‏ كتاب لي إن رأى الأمير - أكرمه الله - أن ينفذه في خاصته كتبه إلى موسى بن عبد الملك في تعجيل أرزاقي‏.‏

قال‏:‏ أو غير ذلك أبا عبد الله نعجلها لك من مالنا وإذا وددت كنت مخيراً بين أن تأخذ أو ترد‏.‏

فأنشد سوار يقول‏:‏ وكفك حين ترى المجتدي ن أندى من الليلة الماطرة وكلبك آنس بالمعتفين من الأم بابنتها الزائرة ودخل أبو حازم الأعرج على بعض أهل السلطان فقال‏:‏ أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله فبلك فإن يأذن الله لك في قضائها قضيتها وحمدناك وإن لم يأذن في قضائها لم تقضها وعذرناك‏.‏

وفي بعض الحديث‏:‏ اطلبوا الحوائج عن حسان الوجوه‏.‏

أخذه الطائي فنظمه في شعره فقال‏:‏ قد تأولت فيك قول رسول ال له إذا قال مفصحاً إفصاحاً إن طلبتم حوائجاً عند قوم فتنقوا لها الوجوه الصباحا فلعمري لقد تنقيت وجهاً ما به خاب من أراد النجاحا قال المنصور لرجل دخل عليه‏:‏ سل حاجتك قال‏:‏ يبقيك الله يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ سل حاجتك فإنك لست تقدر على مثل هذا المقام في كل حين‏.‏

قال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما أستقصر عمرك ولا أخاف بخلك ولا أغتنم مالك وإن عطاءك لشرف وإن سؤالك لزين وما بامرئ بذل إليك وجهه نقض ولا شين فوصله وأحسن إليه‏.‏

من أمثالهم في هذا‏:‏ أنجز حر ما وعد‏.‏

وقالوا‏:‏ وعد الكريم نقد ووعد اللئيم تسويف‏.‏

وقال الزهري‏:‏ حقيق على من أورق بوعد أن يثمر بفعل‏.‏

وقال المغيرة‏:‏ من أخر حاجة فقد ضمنها‏.‏

وقال الموبذان الفارسي‏:‏ الوعد السحابة والإنجاز المطر‏.‏

وقال غيره‏:‏ المواعيد رؤوس الحوائج والإنجاز أبدانها‏.‏

وقال عبد الله بن عمر رحمه الله‏:‏ خلف الوعد ثلث النفاق وصدق الوعد ثلث الإيمان وما ظنك بشيء جعله الله تعالى مدحة في كتابه وفخراً لأنبيائه فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ‏"‏‏.‏

وذكر جبار بن سلمى عامر بن الطفيل فقال‏:‏ كان والله إذا وعد الخير وفى وإذا أوعد بالشر أخلف وهو القائل‏:‏ ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ويأمن مني صولة المتهدد وإني وإن أوعدته أو وعدته ليكذب إيعادي ويصدق موعدي وقال ابن أبي حازم‏:‏ وإلا فقل لا تسترح وترح بها لئلا يقول الناس إنك كاذب ولو لم يكن في خلف الوعد إلا قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏.‏

كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ‏"‏ لكفى‏.‏

وقال عمر بن الحارث‏:‏ كانوا يفعلون ولا يقولون ثم صاروا يقولون ويفعلون ثم صاروا يقولون ولا يفعلون ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون‏:‏ فزعم أنهم ضنوا بالكذب فضلاً عن الصدق‏.‏

وفي هذا المعنى يقول الحسن بن هانئ‏:‏ قال لي ترضى بوعد كاذب قلت إن لم يك شحم فنفش ومثله قول عباس بن الأحنف ويقال إنه لمسلم بن الوليد صريع الغواني‏:‏ ما ضر من شغل الفؤاد ببخله لو كان عللني بوعد كاذب صبراً عليك فما أرى لي حيلة إلا التمسك بالرجاء الخائب سأموت من كمد وتبقى حاجتي فيما لديك وما لها من طالب قال عبد الرحمن بن أم الحكم لعبد الملك بن مروان في مواعيد وعدها إياه فمطله بها‏:‏ نحن إلى الفعل أحوج منا إلى القول وأنت بالإنجاز أولى منك بالمطل‏.‏

واعلم أنك لا تستحق الشكر إلا بإنجازك الوعد واستتمامك المعروف‏.‏

القاسم بن معن المسعودي قال‏:‏ قلت لعيسى بن موسى أيها الأمير ما انتفعت بك مذ عرفتك ولا أوصلت لي خيراً مذ صحبتك‏.‏

قال‏:‏ ألم أكلم لك أمير المؤمنين في كذا وسألته لك كذا قال‏:‏ قلت‏:‏ بلى فهل استنجزت ما وعدت واستتممت ما بدأت قال‏:‏ حال من دون ذلك أمور قاطعة وأحوال عاذرة‏.‏

قلت‏:‏ أيها الأمير فما زدت على أنها نبهت العجز من رقدته وأثرت الحزن من ربضته إن الوعد إذا لم يشفه إنجاز يحققه كان كلفظ لا معنى له وجسم لا روح فيه‏.‏

وقال عبد الصمد بن الفضل الرقاشي لخالد بن ديسم عامل الري‏.‏

أخالد إن الري قد أجحفت بنا وضاق علينا رحبها ومعاشها وقد أطعمتنا منك يوماً سحابة أضاءت لنا برقاً وأبطأ رشاشها فلا غيمها يصحو فييئس طامعاً ولا ماؤها يأتي فتروى عطاشها وقال سعيد بن سلم‏:‏ وعد أبي بشاراً العقيلي حين مدحه بالقصيدة التي يقول فيها‏:‏ صدت بخد وجلت عن خد ثم انثنت كالنفس المرتد فكتب إليه بشار بالغد‏:‏ ما زال ما منيتني من همي والوعد غم فأرح من غمي فقال له أبي‏:‏ يا أبا معاذ هلا استنجحت الحاجة بدون الوعيد فإذ لم تفعل فتربص ثلاثاً وثلاثاً فإني والله ما رضيت بالوعد حتى سمعت الأبرش الكلبي يقول لهشام‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تصنع إلي معروفاً حتى تعدني فإنه لم يأتني منك سيب على غير وعد وإلا هان علي قدره وقل مني شكره‏.‏

قال له هشام‏:‏ لئن قلت ذلك لقد قاله سيد أهلك أبو مسلم الخولاني‏:‏ إن أوقع المعروف في القلوب وأبرده على الأكباد معروف منتظر بوعد لا يكدره المظل‏.‏

وكان يحيى بن خالد بن برمك لا يقضي حاجة إلا بوعد ويقول‏:‏ من لم يبت على سرور لم يجد للصنيعة طعماً‏.‏

وقالوا‏:‏ الخلف ألأم من البخل لأنه من لم يفعل المعروف لزمه ذم اللؤم وحده ومن وعد وأخلف لزمه ثلاث مذمات‏:‏ ذم اللؤم وذم الخلف وذم الكذب‏.‏

قال زياد الأعجم‏:‏ لله درك من فتى ولو كنت تفعل ما تقول لا خير في كذب الجوا د وحبذا صدق البخيل استبطأ حبيب الطائي الحسن بن وعيب في عدة وعدها إياه فكتب إليه أبياتاً يستعجله بها‏.‏

فبعث إليه بألف درهم وكتب إليه‏:‏ فخذ القليل وكن كمن لم يسأل ونكون نحن كأننا لم نفعل وقال عبد الله بن مالك الخزاعي‏:‏ دخلت على أمير المؤمنين المهدي وعنده ابن دأب وهو ينشد قول الشماخ‏:‏ وأشعث قد قد السفار قميصه يجر شواء بالعصا غير منضج دعوت إلى ما نابني فأجابني كريم من الفتيان غير مزلج فتى يملأ الشيزي ويروي سنانه ويضرب في رأس الكمي المدجج فتي ليس بالراضي بأدنى معيشة ولا في بيوت الحي بالمتولج فرفع رأس إلي المهدي وقال‏:‏ هذه صفتك أبا العباس فقلت‏:‏ بك نلتها يا أمير المؤمنين‏.‏

فضحك إلي وقال‏:‏ هل تنشد من الشعر شيئاً قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ فأنشدني‏.‏

فأنشدته قول السموأل‏:‏ وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها فليس إلى حسن الثناء سبيل إذا المرء أعيته المروءة يافعاً فمطلبها كهلاً عليه ثقيل تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منا سيد حتف أنفه ولا طل منا حيث كان قتيل تسيل على حد السيوف نفوسنا وليست على غير السيوف تسيل وننكر إن شئنا على الناس قولهم ولا ينكرون القول حين نقول فنحن كماء المزن ما في نصابنا كهام ولا فينا يعد بخيل وأسيافنا في كل شرق ومغرب بها من قراع الدارعين فلول فقال‏:‏ أحسنت‏!‏ اجلس بهذا بلغتم سل حاجتك فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين تكتب لي في العطاء ثلاثين رجلاً من أهلي قال‏:‏ نعم فرض علي إذا وعدت‏.‏

فقلت يا أمير المؤمنين إنك متمكن من القدرة وليس دونك حاجز عن الفعل فما معنى العدة فنظر إلى بن دأب كأنه يريد منه كلاماً في فضل الموعد‏.‏

فقال ابن دأب‏:‏ حلاوة الفعل بوعد ينجز لا خير في العرف كنهب ينهز فضحك المهدي وقال‏:‏ الفعل أحسن ما يكو ن إذا تقدمه ضمان وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه‏:‏ يا بني إذ غدا عليكم الرجل وراح مسلماً فكفى بذلك أروح بتسليمي عليك وأغتدي وحسبك بالتسليم مني تقاضيا وقال آخر‏:‏ كفاك مخبراً وجهي بشأني وحسبك أن أراك وأن تراني وما ظني بمن يعنيه أمري ويعلم حاجتي ويرى مكاني كتب العتابي إلى بعض أهل السلطان‏:‏ أما بعد فإن سحائب وعدك قد أبرقت فليكن وبلها سالماً من علل المطل والسلام‏.‏

وكتب الجاحظ إلى رجل وعده‏:‏ أما بعد فإن شجرة وعدك قد أورقت فليكن ثمرها سالماً من جوائح المطل والسلام‏.‏

ووعد عبد الله بن طاهر دعبلاً بغلام فلما طال عليه تصدى له يوماً وقد ركب إلى باب الخاصة فلما رآه قال‏:‏ أسأت الافتضاء وجهلت المأخذ ولم تحسن النظر ونحن أولى بالفضل فلك الغلام والدابة لما ننزل إن شاء الله تعالى‏.‏

فأخذ دعبل بعنانه وأنشده‏:‏ يا جواد اللسان من غير فعل ليت في راحتيك جود اللسان عين مهران قد لطمت مراراً فاتقي ذا الجلال في مهران عرت عيناً فدع لمهران عيناً لا تدعه يطوف في العميان وسأل خلف بن خليفة أبان بن الوليد جارية فوعده بها وأبطأت عليه فكتب إليه‏:‏ أرى حاجتي عند الأمير كأنها تهم زماناً عنده بمقام وأحصر عن إذكاره إن لقيته وصدق الحياء ملجم بلجام أراها إذا كان النهار نسيئة وبالليل تقضى عند كل منام فيا رب أخرجها فإنك مخرج من الميت حياً مفصحاً بكلام فتعلم ما شكري إذا ما قضيتها وكيف صلاتي عندها وصيامي وكتب أبو العتاهية إلى رجل وعده وعداً وأخلفه‏:‏ أحسبت أرض الله ضيقة عني فأرض الله لم تضيق وجعلتني فقعاً بقرقرة فوطئتني وطئاً على حنق فإذا سألتك حاجة أبداً فاضرب لها قفلاً على غلق وأعد لي غلاً وجامعة فاجمع يدي بها إلى عنقي ما أطول الدنيا وأوسعها وأدلني بمسالك الطرق ومن قولنا في رجل كتب إلى بعدة في صحيفة ومطلني بها‏:‏ من وجهه نحس ومن قربه رجس ومن عرفانه شوم لا تهتضم إن بت ضيفاً له فخبزه في الجوف هاضوم تكلمه الألحاظ من رقة فهو بلحظ العين مكلوم ولا تأتدم على أكله فإنه بالجوع مأدوم وقلت فيه‏:‏ صحيفة كتبت ليت بها وعسى عنوانها راحة الراجي إذا يئسا وعد له هاجس في القلب وقد برمت أحشاء صدري به من طول ما هجسا يراعة غرني منها وميض سنى حتى مددت إليها الكف مقتبسا فصادفت حجراً لو كنت تضربه من لؤمه بعضا موسى لما انبجسا كأنما صيغ من بخل ومن كذب فكان ذاك له روحاً وذا نفسا وقلت فيه‏:‏ رجاء دون أقربه السحاب ووعد مثل ما لمع السراب وتسويف يكل الصبر عنه ومطل ما يقوم له حساب لطيف الاستمناح قال الحكماء‏:‏ لطيف الاستمناح سبب النجاح والأنفس ربما انطلقت وانشرحت بلطيف السؤال وانقبضت وامتنعت بجفاء السائل كما قال الشاعر‏:‏ وجفوتني فقطعت عنك فوائدي كالدر يقطعه جفاء الحالب وقال العتابي‏:‏ إن طلب حاجة إلى ذي سلطان فأجمل في الطلب إليه وإياك والإلحاح علي فإن إلحاحك يكلم عرضك ويريق ماء وجهك فلا تأخذ منه عوضاً لما يأخذ منك ولعل الإلحاح يجمع عليك إخلاق الوجه وحرمان النجاح فإنه ربما مل المطلوب إليه حتى يستخف بالطالب‏.‏

وقال الحسن بن هانئ‏:‏ تأن مواعيد الكرام فربما حملت من الإلحاح سمحاً على بخل وقال آخر‏:‏ إن كنت طالب حاجة فتجمل فيها بأحسن ما طلب وأجمل إن الكريم أخا المروءة والنهى من ليس في حاجاته بمثقل وقال مروان بن أبي حفصة‏:‏ لقيت يزيد بن مزيد وهو خارج من عند المهدي فأخذ بعنان دابته وقلت له‏:‏ إني قلت فيك ثلاثة أبيات أريد لكل بيت منها مائة ألف‏.‏

قال‏:‏ هات لله أبوك‏!‏ فأنشأت أقول‏:‏ يا أكرم الناس من عجم ومن عرب بعد الخليفة يا ضرغامة العرب أفنيت مالك تعطيه وتنهبه يا آفة الفضة البيضاء والذهب إن السنان وحد السيف لو نطقا لا خبراً عنك في الهيجاء بالعجب فأمر لي بها‏.‏

المدائني قال‏:‏ قدم قوم من بني أمية على عبد الملك بن مروان فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين نحن ممن تعرف وحقنا لا ينكر وجئناك من بعيد ونمت بقريب وهما تعطنا فنحن أهله‏.‏

دخل عبد الملك بن صالح على الرشيد فقال‏:‏ أسألك بالقرابة والخاصة أم بالخلافة والعامة قال‏:‏ بل بالقرابة والخاصة‏.‏

قال‏:‏ يداك يا أمير المؤمنين بالعطية أطلق من لساني بالمسألة‏.‏

فأعطاه وأجزل له‏.‏

ودخل أبو الريان على عبد الملك بن مروان وكان عنده أثيراً فرآه خائراً فقال‏:‏ يا أبا الريان مالك خائراً قال‏:‏ أشكو إليك الشرف يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ نسأل ما لا نقدر عليه ونعتذر فلا نعذر‏.‏

قال عبد الملك‏:‏ ما أحسن ما استمنحت واعتررت يا أبا العتابي قال‏:‏ كتب الشعبي إلى الحجاج يسأله حاجة فاعتل عليه‏.‏

فكتب إليه الشعبي‏:‏ والله لا عذرتك وأنت والي العراقين وابن عظيم القريتين فقضى حاجته‏.‏

وكان جد الحجاج لأمه عروة بن مسعود الثقفي‏.‏

العتبي قال‏:‏ قدم عبد العزيز بن زرارة الكلابي على أمير المؤمنين معاوية فقال‏:‏ إني لم أزل أهز ذئاب الرحال إليك فلم أجد معولاً إلا عليك امتطى الليل بعد النهار وأسم المجاهل بالآثار يقودني إليك أمل وتسوقني بلوى المجتهد يعذر وإذا بلغتك فقطني‏.‏

فقال‏:‏ احطط عن راحلتك رحلها‏.‏

ودخل كريز بن زفر بن الحارث على يزيد بن المهلب فقال‏:‏ أصلح الله الأمير أنت أعظم من أن يستعان بك ويستعان عليك ولست تفعل من الخير شيئاً إلا وهو يصغر عنك وأنت أكبر منه وليس العجب أن تفعل ولكن العجب أن لا تفعل قال‏:‏ سل حاجتك‏.‏

قال‏:‏ قد حملت عن عشيرتي عشر ديات‏.‏

قال‏:‏ قد أمرت لك بها وشفعتها بمثلها‏.‏

العتبي عن أبيه قال‏:‏ أتى رجل إلى حاتم الطائي فقال‏:‏ إنها وقعت بيني وبين قومي ديات فاحتملتها في مالي وأملي فعدمت مالي وكنت أملي فإن تحملها عني فرب هم فرجته وغم كفيته ودين قضيته وإن حال دون ذلك حائل لم أذم يومك ولم أيأس من غدك‏.‏

فحملها عنه‏.‏

المدائني قال‏:‏ سأل رجل خالداً القسري حاجة فاعتل عليه‏.‏

فقال له‏:‏ لقد سألت الأمير من غير حاجة‏.‏

قال وما دعاك إلى ذلك قال رأيتك تحب من لك عنده حسن بلاء فأردت أن أتعلق منك بحبل مودة‏.‏

فوصله وحباه وأدنى مكانه‏.‏

والأصمعي قال‏:‏ دخل أبو بكير الهجري على المنصور فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين نغض فمي وأنتم أهل البيت بركة فلو أذنت لي فقبلت رأسك لعل الله يشدد لي منه‏.‏

قال‏:‏ اختر منها ومن الجائزة‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أهون علي من ذهاب درهم من الجائزة ألا تبقى حاكة في فمي‏.‏

فضحك المنصور وأمر له بجائزة‏.‏

وذكروا أن جاراً لأبي دلف ببغداد لزمه كبير دين فادح حتى احتاج إلى بيع داره‏.‏

فساوموه بها فسألهم ألف دينار فقالوا له‏:‏ إن دارك تساوي خمسمائة دينار‏.‏

قال‏:‏ وجواري من أبي دلف بألف وخمسمائة دينار‏.‏

فبلغ أبا دلف فأمر بقضاء دينه وقال له لا تبع دارك ولا تنتقل من جوارنا‏.‏

ووقفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة فقالت‏:‏ أشكو إليك قلة الجرذان قال‏:‏ ما أحسن هذه الكناية‏!‏ املئوا لها بيتاً خبزاً ولحماً وسمناً وتمراً‏.‏

إبراهيم بن أحمد عن الشيباني قال‏:‏ كان أبو جعفر المنصور أيام بني أمية إذا دخل البصرة دخل مستتراً فكان يجلس في حلقة أزهر السمان المحدث‏.‏

فلما أفضت الخلافة إليه قدم عليه أزهر فرحب به وقربه وقال له ما حاجتك يا أزهر قال‏:‏ داري متهدمة وعلي أربعة آلاف درهم وأريد أن يبني محمد ابني بعياله فوصله باثني عشر ألفاً وقال‏.‏

قد قضينا حاجتك يا أزهر فلا تأتنا طالباً‏:‏ فأخذها وارتحل‏.‏

فلما كان بعد سنة أتاه‏.‏

فلما رآه أبو جعفر قال‏:‏ ما جاء بك يا أزهر قال جئتك مسلماً‏.‏

قال‏:‏ إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالباً‏.‏

قال‏:‏ ما جئت إلا مسلماً‏.‏

قال‏:‏ قد أمرنا لك باثني عشر ألفاً واذهب فلا تأتنا طالباً ولا مسلماً‏.‏

فأخذها ومضى‏.‏

فلما كان بعد سنة أتاه فقال‏:‏ ما جاء بك يا أزهر قال‏:‏ أتيت عائداً‏.‏

قال‏:‏ إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالباً‏.‏

قال‏:‏ ما جئت إلا عائداً قال أمرنا لك باثني عشر ألفاً فاذهب ولا تأتنا لا طالباً ولا مسلماً ولا عائداً فأخذها وانصرف‏.‏

فلما مضت السنة أقبل فقال له‏:‏ ما جاء بك يا أزهر قال‏:‏ دعاء كنت أسمعك تدعو به يا أمير المؤمنين جئت لأكتبه‏.‏

فضحك أبو جعفر وقال‏:‏ إنه دعاء غير مستجاب وذلك أني قد دعوت الله تعالى به أن لا أراك فلم يستجب لي وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً فاذهب وتعال متى شئت فقد أعيتني فيك الحيلة‏.‏

أقبل أعرابي إلى داود بن المهلب فقال له‏:‏ إني مدحتك فاستمع‏.‏

قال‏:‏ على رسلك ثم دخل بيته وقلد سيفه وخرج فقال‏:‏ فإن أحسنت حكمناك وإن أسأت قتلناك‏.‏

فأنشأ يقول‏:‏ أمنت بداود وجود يمينه من الحدث المخشي والبؤس والفقر فأصبحت لا أخشى بداود نبوة من الحدثان إذ شددت به أزري له حكم لقمان وصورة يوسف وملك سليمان وعدل أبي بكر فتى تفرق الأموال من جود كفه كما يفرق الشيطان من ليلة القدر فقال‏:‏ قد حكمناك فإن شئت على قدرك وإن شئت على قدري‏.‏

قال‏:‏ بل على قدري فأعطاه خمسين ألفاً‏.‏

فقال له جلساؤه‏:‏ هلا احتكمت على قدر الأمير‏!‏ قال‏:‏ لم يك في ماله ما يفي بقدره‏.‏

قال له داود‏:‏ أنت في هذه أشعر منك في شعرك وأمر بمثل ما أعطاه‏.‏

الأصمعي قال‏:‏ كنت عند الرشيد إذ دخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فأنشده‏:‏ فعالى فعال المكثرين تجملاً ومالي كما قد تعلمين قليل فكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ورأي أمير المؤمنين جميل فقال له الرشيد‏:‏ لله در أبيات تأتينا بها‏!‏ ما أحسن أصولها وأبين فصولها وأقل فضولها‏!‏ يا غلام أعطه عشرين ألفاً‏.‏

قال‏:‏ والله لا أخذت منها درهماً واحداً‏.‏

قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأن كلامك والله يا أمير المؤمنين خير من شعري‏.‏

قال‏:‏ أعطوه أربعين ألفاً‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ فعلمت والله أنه أصيد لدراهم الملوك مني‏.‏

العتبي عن أبيه قال‏:‏ قدم زيد بن منية من البصرة على معاوية - وهو أخو يعلى بن منية صاحب جمل عائشة رضي الله عنها ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة وكانت ابنة يعلى عند عتيبة بن أبي سفيان - فلما دخل على معاوية شكا دينه فقال‏:‏ يا كعب أعطه ثلاثين ألفاً‏.‏

فلما ولى قال‏:‏ وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى‏.‏

ثم قال له‏:‏ الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم عليه مصر فقال‏:‏ إني سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف ألبس أردية الليل مرة وأخوض في لجج السراب أخرى موقراً من حسن الظن بك وهارباً من دهر قطم ومن دين لزم‏.‏

بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين‏.‏

فقال عتبة‏:‏ إن الدهر أعاركم غنى وخلطكم بنا ثم استرد ما أمكنه أخذه وقد أبقى لكم منا ما لا ضيعة معه وأنا رافع يدي ويدك بيد الله‏.‏

فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية‏.‏

إبراهيم الشيباني قال‏:‏ قال عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف‏:‏ أعدم أبي إعدامة شديدة بالبصرة وأنفض فخرج إلى خراسان فلم يصب بها طائلاً فبينا هو يشكو تعزر الأشياء عليه إذ عدا غلامه على كسوته وبلغته فذهب بهما‏.‏

فأتى أبا ساسان حضين بن المنذر الرقاشي فشكا إليه حاله‏.‏

فقال له‏:‏ والله يا بن أخي ما عمك ممن يحمل محاملك ولكن لعلي أحتال لك‏:‏ فدعا بكسوة حسنة فألبسني إياها ثم قال‏.‏

امض بنا‏.‏

فأتى باب والي خراسان فدخل وتركني بالباب فلم ألبث أن خرج الحاجب فقال‏:‏ أين علي بن سويد فدخلت إلى الوالي فإذا حضين على فراش جانبه‏.‏

فسلمت على الوالي فرد علي ثم أقبل عليه حضين فقال‏:‏ أصلح الله الأمير هذا علي بن سويد بن منجوف سيد فتيان بكر بن وائل وابن سيد كهولها وأكثر الناس مالاً حاضراً بالبصرة وفي كل موضع ملكت به بكر بن وائل مالاً وقد تحمل بي إلى الأمير حاجة‏.‏

قال‏:‏ هي مقضية‏.‏

قال‏:‏ يسألك أن تمد يدك في ماله ومراكبه وسلاحه إلى ما أحببت‏.‏

قال‏:‏ لا والله لا أفعل ذلك به نحب أولى بزيادته‏.‏

قال‏:‏ فقد أعفيناك من هذه إذ كرهتها فهو يسألك أن تحمله حوائجك بالبصرة‏.‏

قال‏:‏ إن كانت حاجة فهو فيها ثقة ولكن أسألك أن تكلمه في قبول معونة منا فإنا نحب أن يرى على مثله من أثرنا‏.‏

فأقبل علي أبو ساسان فقال‏:‏ يا أبا الحسن عزمت عليك أن لا ترد على عمك شيئاً أكرمك به‏.‏

فسكت‏.‏

فدعا لي بمال ودواب وكساو ورقيق‏.‏

فلما خرجت قلت‏:‏ أبا ساسان لقد أوقفتني على خطة ما وقفت على مثلها قط‏.‏

قال‏:‏ اذهب إليك يا بن أخي فعمك أعلم بالناس منك‏.‏

إن الناس إن علموا لك غرارة من مال حشوا لك أخرى وإن يعلموك فقيراً تعدوا عليك مع فقرك‏.‏

إبراهيم الشيباني قال‏:‏ ولدت لأبي دلامة ابنة ليلاً فأوقد السراج وجعل يخيط خريطة من شقق‏.‏

فلما اصبح طواها بين أصابعه وغدا بها إلى المهدي فاستأذن عليه وكان لا يحجب عنه‏.‏

فأنشده‏:‏ لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس ثم ارتقوا من شعاع الشمس في درج إلى السماء فأنتم أكرم الناس قال له المهدي‏:‏ أحسنت والله أبا دلامة‏!‏ فما الذي غدا بك إلينا قال‏:‏ ولدت لي جارية يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ فهل قلت فهيا شعراً قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ فما ولدتك مريم أم عيسى ولم يكفلك لقمان الحكيم قال‏:‏ فضحك المهدي‏.‏

وقال‏:‏ فما تريد أن أعينك به في تربيتها أبا دلامة قال‏:‏ تملأ هذه يا أمير المؤمنين وأشار إليه بالخريطة بين إصبعيه‏.‏

فقال المهدي‏:‏ وما عسى أن تحمل هذه قال‏:‏ من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير‏.‏

فأمر أن تملأ مالاً‏.‏

فلما نشرت أخذت عليهم صحن الدار فدخل فيها أربعة آلاف درهم‏.‏

وكان المهدي قد كسا أبا دلامة ساجاً‏.‏

فأخذ به وهو سكران فأتي به إلى المهدي‏.‏

فأمر بتمزيق الساج عليه وأن يحبس في بيت الدجاج فلما كان في بعض الليل وصحا أبو دلامة من سكره ورأى نفسه بين الدجاج صاح‏:‏ يا صاحب البيت‏.‏

فاستجاب له السجان فقال‏:‏ مالك يا عدو الله قال له‏:‏ ويلك‏!‏ من أدخلني مع الدجاج قال‏:‏ أعمالك الخبيثة أتى بك أمير المؤمنين وأنت سكران فأمر بتمزيق ساجك وحبسك مع الدجاج‏.‏

قال له‏:‏ ويلك‏!‏ أو تقدر على أن توقد سراجاً وتجيئني بدواة وورق ولك سلبي هذا‏.‏

فأتاه بدواة وورق‏:‏ فكتب أبو دلامة إلى المهدي‏:‏ أمن صهباء صافية المزاج كأن شعاعها لهب السراج تهش لها النفوس وتشتهيها إذا برزت ترقرق في الزجاج وقد طبخت بنار الله حتى لقد صارت من النطف النضاج أقاد إلى السجون بغير ذنب كأني بعض عمال الخراج ولو معهم حبست لهان وجدي ولكني حبست مع الدجاج دجاجات يطيف بهن ديك يناجي بالصياح إذا يناجي وقد كانت تخبرني ذنوبي بأني من عذابك غير ناجي على أني وإن لاقيت شراً لخيرك بعد ذاك الشر راجي ثم قال‏:‏ أوصلها إلى أمير المؤمنين‏.‏

فأوصلها إليه السجان‏.‏

فلما قرأها أمر بإطلاقه وأدخله عليه فقال‏:‏ أين بت الليلة أبا دلامة قال‏:‏ مع الدجاج يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ فما كنت تصنع قال‏:‏ كنت أقاقي معهن حتى أصبحت‏.‏

فضحك المهدي وأمر بصلة جزيلة وخلع عليه كسوة شريفة‏.‏

وكتب أبو دلامة إلى عيسى موسى وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات‏:‏ إذا جئت الأمير فقل سلام عليك ورحمة الله الرحيم فأما بعد ذاك فلي غريم من الأنصار قبح من غريم لزوم ما علمت لباب داري لزوم الكلب أصحاب الرقيم له مائة علي ونصف أخرى ونصف النصف في صك قديم أتوني بالعشيرة يسألوني ولم أك في العشيرة باللئيم قال‏:‏ فبعث إليه بمائة ألف درهم‏.‏

ولقى أبو دلامة أبا دلف في مصاد وهو والي العراق فأخذ بعنان فرسه وأنشد‏:‏ إن حلفت لئن رأيتك سالماً بقرى العراق وأنت ذو وفر لتصلين على النبي محمد ولتملأن دراهماً حجري فقال‏:‏ أما الصلاة على النبي فنعم صلى الله عليه وسلم وأما الدراهم فلما نرجع إن شاء الله تعالى‏.‏

قال له‏:‏ جعلت فداك لا تفرق بينهما‏.‏

فاستلفها له وصبت في حجره حتى أثقلته‏.‏

ودخل أبو دلامة على المهدي فأنشده أبياتاً أعجب بها فقال له‏:‏ سلني أبا دلامة واحتكم وأفرط ما شئت‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين كلب اصطاد به قال‏:‏ قد أمرنا لك بكلب وهاهنا بلغت همتك وعلى هاهنا انتهت أمنيتك قال لا تعجل علي يا أمير المؤمنين فإنه بقي علي‏.‏

قال‏:‏ وما بقي عليك قال غلام يقود الكلب‏.‏

قال‏:‏ وغلام يقود الكلب‏.‏

قال‏:‏ وخادم يطبخ لنا الصيد‏.‏

قال‏:‏ وخادم يطبخ الصيد‏.‏

قال ودار نسكنها‏.‏

قال‏:‏ ودار تسكنها‏.‏

قال وجارية نأوي إليه‏.‏

قال‏:‏ وجارية تأوي إليها‏.‏

قال‏:‏ قد بقى الآن المعاش قال‏:‏ قد أقطعناك ألفي جريب عامرة وألفي جريب غامرة‏.‏

قال‏:‏ وما الغامرة يا أمير المؤمنين قال‏:‏ التي لا تعمر‏.‏

قال‏:‏ أنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألفاً من فيافي بني أسد‏.‏

قال قد جعلتها كلها لك عامرة‏.‏

قال‏:‏ فيأذن لي أمير المؤمنين في تقبيل يده قال‏:‏ أما هذه فدعها‏.‏

قال‏:‏ ما منعتني شيئاً أيسر هي أم ولدي فقداً منه‏.‏

ودخل أبو دلامة على أبي جعفر المنصور يوماً وعليه قلنسوة طويلة - وكان قد أخذ أصحابه بلبسها وأخذهم بلبس دراريع عليها مكتوب بين كتفي الرجل‏:‏ ‏"‏ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ‏"‏ وأمرهم بتعليق السيوف على أوساطهم - فدخل عليه أبو دلامة في ذلك الزي فقال له‏:‏ كيف أصبت أبا دلامة قال‏:‏ بشر حال يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ كيف ذلك ويلك‏!‏ قال‏:‏ وما ظنك يا أمير المؤمنين بمن أصبح وجهه في وسطه وسيفه في أسته وقد نبذ كتاب الله عز وجل وراء ظهره‏.‏

قال‏:‏ فضحك أبو جعفر وأمر بتغيير ذلك وأمر لأبي دلامة بصلة‏.‏

وأوصل أبو دلامة إلى العباس بن المنصور رقعة فيها هذه الأبيات‏:‏ قف بالديار وأي الدهر لم تقف على منازل بين الظهر والنجف وما وقوفك في أطلال منزلة لولا الذي استحدثت في قلبك الكلف إن كنت أصبحت مشغوفاً بجارية فلا وربك لا تشفيك من شغف ولا تزيدك إلا العل من أسف فهل لقلبك من صبر على الأسف تخطها من جواري المصر كاتبة قد طالما ضربت في اللام والألف وطالما اختلفت صيفاً وشاتية إلى معلمها باللوح والكتف حتى إذا ما استوى الثديان وامتلأت منها وخيفت على الإسراف والقرف صينت ثلاث سنين ما ترى أحداً كما تصان ببحر درة الصدف بينا الفتى يتمشى نحو مسجده مبادراً لصلاة الصبح بالسدف حانت لن نظرة منها فأبصرها مطلة بين سجفيها من الغرف فخر في الترب ما يدري غداتئذ أخر منكشفاً أم غير منكشف وجاءه القوم أفواجاً بمائهم لينضحوا الرجل المغشى بالنطف فوسوسوا بقران في مسامعه خوفاً من الجن والإنسان لم يخف شيئاً ولكنه من حب جارية أمسى وأصبح من موت على شرف قالوا‏:‏ لك الخير ما أبصرت قلت لهم جنية أقصدتني من بني خلف أبصرت جارية محجوبة لهم تطلعت من أعالي القصر ذي الشرف فبت ألثمها طوراً وتلثمني طوراً ونفعل بعض الشيء في اللحف بتنا كذلك حتى جاء صاحبها يبغي الدنانير بالميزان ذي الكفف وذاك حق على زند وكيف به والحق في طرف والعين في طرف وبين ذاك شهود لم أبال بهم أكنت معترفاً أم غير معترف فإن تصلني قضيت القوم حقهم وإن تقل لا فحق القوم في تلف فلما قرأ العباس الأبيات أعجب بها واستظرفها وقضى عنه ثمن الجارية‏.‏

واسم أبي دلامة‏:‏ زند‏.‏

إبراهيم بن المهدي قال‏:‏ قال لي جعفر بن يحيى يوماً‏:‏ إني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة وأردت أن أخلو وأفر من أشغال الناس وأتوحد‏.‏

فهل أنت مساعدي قلت‏:‏ جعلني الله فداك أنا أسعد الناس بمساعدتك وآنس بمخالاتك‏.‏

قال‏:‏ فكر إلي بكور الغراب‏.‏

قال‏:‏ فأتيت عند الفجر الثاني فوجدت الشمعة بين يديه وهو قاعد ينتظرني للميعاد‏.‏

قال‏:‏ فصلينا ثم أفضنا في الحديث حتى جاء وقت الحجامة فأتى بحجام وحجمنا في ساعة واحدة ثم قدم إلينا طعام فطعمنا‏.‏

فلما غسلنا أيدينا خلع علينا ثياب المنادمة وضمخنا بالخلوق وظللنا بأسر يوم مر بنا‏.‏

ثم إنه ذكر حاجة فدعا الحاجب فقال‏:‏ إذا جاء عبد الملك القهرماني فأذن له‏.‏

فنسي الحاجب وجاء عبد الملك بن صالح الهاشمي على جلالته وسنه وقدره وأدبه فإذن له الحاجب‏.‏

فما راعنا إلا طلعة عبد الملك‏.‏

فتغير لذلك جعفر بن يحيى وتنغص عليه ما كان فيه‏.‏

فلما نظر عبد الملك إليه على تلك الحال دعا غلامه دفع إليه سيفه وسواده وعمامته ثم جاء ووقف على باب المجلس وقال‏:‏ اصنعوا بي ما صنعتم بأنفسكم‏.‏

قال‏:‏ فجاء الغلام فطرح عليه ثياب المنادمة‏.‏

ودعا بالطعام فطعم ثم دعا بالشراب فشرب ثلاثاً ثم قال‏:‏ ليخفف عني فإن شيء ما شربته قط‏.‏

فتهلل وجه جعفر وفرح به وكان الرشيد قد عتب على عبد الملك بن صالح ووجد عليه‏.‏

فقال له جعفر بن يحيى‏:‏ جعلني الله فداك قد تفضلت وتطولت وأسعدت فهل من حاجة تبلغها مقدرتي أو تحيط بها نعمتي فأقضيها لك مكافأة لما صنعت قال‏:‏ بلى إن قلب أمير المؤمنين عاتب علي فسله الرضا عني‏.‏

قال‏:‏ قد رضي عنك أمير المؤمنين‏.‏

ثم قال‏:‏ علي أربعة آلاف دينار‏.‏

قال حاضرة ولكن من مال أمير المؤمنين أحب إليك‏.‏

قال‏:‏ وابني إبراهيم أحب أن أشد ظهره بصهر من أولاد أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ قد زوجه أمير المؤمنين ابنته عائشة‏.‏

قال‏:‏ وأحب أن تخفق الألوية على رأسه‏.‏

قال‏:‏ قد ولاه أمير المؤمنين على مصر‏.‏

قال‏:‏ وانصرف عبد الملك ونحن نعجب من إقدامه على قضاء الحوائج من غير استئذان أمير المؤمنين‏.‏

فلما كان من الغد وقفنا على باب الرشيد ودخل جعفر فلم نلبث أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك فعقد النكاح وحملت البدر إلى منزل عبد الملك وكتب سجل إبراهيم على مصر‏.‏

وخرج جعفر فأشار إلينا‏.‏

فلما صار إلى منزله ونحن خلفه نزل ونزلنا بنزوله‏.‏

فالتفت إلينا فقال‏:‏ تعلقت قلوبكم بأول أمر عبد الملك فأحببتم معرفة آخره وإني لما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه ابتدأت القصة من أولها كما كانت فجعل يقول‏:‏ أحسن والله‏!‏ أحسن والله‏!‏ فما صنعت فأخبرته بما سأله وبما أجبته به‏.‏

فجعل يقول في ذلك‏:‏ أحسنت أحسنت‏!‏ وخرج إبراهيم والياً على مصر‏.‏

قدم رجل على ملك من ملوك الأكاسرة فمكث ببابه حيناً لا يصل إليه فتلطف في رقعة أوصلها إليه وفيها أربعة أسطر‏:‏ في السطر الأول‏:‏ الضر والأمل أقدماني عليك‏.‏

والسطر الثاني‏:‏ الفقر لا يكون معه صبر على المطالبة‏.‏

السطر الثالث‏:‏ الانصراف بلا فائدة فتنة وشماتة للعدو‏.‏

والسطر الرابع‏:‏ فإما نعم مثمرة وإما لا مريحة‏.‏

فلما قرأها وقع تحت كل سطر منها بألف مثقال وأمر له بها‏.‏

ودخل رجل من الشعراء على يحيى بن خالد بن برمك فأنشده‏:‏ فقلت شراء قال لا بل وراثة توارثني عن والد بعد والد فأمر له بعشر آلاف‏.‏

ودخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري فأنشده‏:‏ أخالد إن لم أزرك لخلة سوى أنني عاف وأنت جواد أخالد بين الحمد والأجر حاجتي فأيهما تأتي فأنت عماد فأمر له بخمسة آلاف درهم‏.‏

ومن قولنا في هذا المعنى‏.‏

ودخلت على أبي العباس القائد فأنشدته‏:‏ الله جرد للندى والباس سيفاً فقلده أبا العباس ملك إذا استقبلت غرة وجهه قبض الرجاء إليك روح إلياس وجه عليه من الحياء سكينة ومحبة تجري مع الأنفاس وإذا أحب الله يوماً عبده ألقى عليه محبة للناس ثم سألته حاجة فيها بعض الغلظ‏.‏

فتلكأ فيها علي فأخذت سحاية من بين يديه فوقعت فيها على البديهة‏:‏ ما ضر عندك حاجتي ما ضرها عذراً إذا أعطيت نفسك قدرها حاشى لجودك أن يوعر حاجتي ثقتي سهلت لي وعرها لا يجتني حلو المحامد ماجد حتى يذوق من المطالب مرها فقضى الحاجة وسارع إليها‏.‏

وأبطأ عبد الله بن يحيى عن الديوان فأرسل إليه المتوكل يتعرف خبره فكتب إليه‏:‏ عليل من مكانين من الإفلاس والدين ففي هذين لي شغل وحسبي شغل هذين فبعث إليه بألف دينار‏.‏

عبد الله بن منصور قال‏:‏ كنت يوماً في مجلس الفضل بن يحيى‏.‏

فأتاه الحاجب فقال‏:‏ إن بالباب رجلاً قد أكثر في طلب الإذن وزعم أن له يداً يمت بها‏.‏

فقال‏:‏ أدخله‏.‏

فدخل رجل جميل الوجه رث الهيئة‏.‏

فسلم فأحسن‏.‏

فأومأ إليه بالجلوس فجلس‏.‏

فلما علم أنه قد انطلق وأمكنه الكلام قال له‏:‏ ما حاجتك قال له‏:‏ قد أعربت بها رثاثة هيئتي وضعف طاقتي‏.‏

قال‏:‏ أجل فما الذي تمت به قال‏:‏ ولادة تقرب من ولادتك وجوار يدنو من جوارك واسم مشتق من اسمك‏.‏

قال‏:‏ أما الجوار فقد يمكن أن يكون كما قلت وقد يوافق الاسم الاسم ولكن ما علمك بالولادة قال‏:‏ أعلمتني أمي أنها لما وضعتني قيل‏:‏ إنه ولد الليلة ليحيى بن خالد غلام وسمي الفضل فسمتني فضيلاً إعظاماً لاسمك أن تلحقني به‏.‏

فتبسم الفضل وقال‏:‏ كم أتى عليك من السنين قال‏:‏ خمس وثلاثون سنة‏.‏

قال‏:‏ صدقت هذا المقدار الذي أتيت عليه فما فعلت أمك قال‏:‏ توفيت رحمها الله‏.‏

قال‏:‏ فما منعك من اللحوق بنا فيما مضى قال‏:‏ لم ارض نفسي للقائك لأنها كانت في عامية وحداثة تقعدني عن لقاء الملوك‏.‏

قال‏:‏ يا غلام أعطه لكل عام مضى من سنيه ألفاً وأعطه من كسوتنا ومراكبنا ما يصلح له‏.‏

فلم يخرج من الدار إلا وقد طاف به إخوانه وخاصة أهله‏.‏

وكتب حبيب بن أوس الطائي إلى أحمد بن أبي داود‏:‏ اعلم وأنت المرء غير معلم وافهم - جعلت فداك - غير مفهم أن اصطناع العرف ما لم توله مستكملاً كالثوب ما لم يعلم والشكر - ما لم يستثر بصنيعة كالخط تقرؤه وليس بمعجم وتفنني في القول إكثار وقد أسرجت في كرم الفعال فألجم‏.‏

وقال دعبل بن علي الخزاعي في طاهر بن الحسين صاحب خراسان‏:‏ أيا ذا اليمينين والدعوتين ومن عنده العرف والنائل أترضى لمثلى أنى مقيم ببابك مطرح خامل بتسليمة بين خمس وست إذا ضمك المجلس الحافل وما كنت أرضى بذا من هسواك أيرضى بذا رجل عاقل وإن ناب شغل ففي دون ما تدبره شغل شاغل عليك السلام فإني امرؤ إذا ضاق بي بلد راحل الأصمعي قال‏:‏ ونظر زياد إلى رجل من ضبة يأكل أكلاً قبيحاً وهو أقبح الناس وجهاً فقال‏:‏ يا أخا ضبة كم عيالك قال‏:‏ سبع بنات أنا أجمل منهن وجهاً وهن آكل مني‏:‏ فضحك زياد وقال‏:‏ لله درك‏!‏ ما ألطف سؤالك‏!‏ افرضوا له و لكل واحدة منهن مائة وخادماً وعجلوا له و لهن أرزاقهم‏.‏

فخرج الصبي وهو يقول‏:‏ إذا كنت مرتاد السماحة والندى فناد زياداً أو أخاً لزياد يجبك امرؤ يعطى على الحمد ما له إذا ضن بالمعروف كل جواد ومالي لا أثنى عليك وإنما طريفي من معروفكم وتلادي ووقف دعبل ببعض أمراء الرقة فلما مثل بين يديه قال‏:‏ أصلح الله الأمير إني لا أقول كما قال صاحب معن‏:‏ أبالحسنى وليس لها ضياء علي فمن يصدق ما أقول أم الأخرى ولست لها بأهل وأنت لكل مكرمة فعول ولكنني أقول‏:‏ ماذا أقول إذا أتيت معاشري صفراً يداي من الجواد المجزل إن قلت أعطاني كذبت وإن أقل ضن الأمير بماله لم يجمل ولأنت أعلم بالمكارم والعلا من أن أقول فعلت ما لم تفعل فاختر لنفسك ما أقول فإني لا بد مخبرهم وإن لم أسأل قال له‏:‏ قاتلك الله‏!‏ وأمر له بعشرة آلاف درهم‏.‏

العتبي قال‏:‏ دخل ابن عبدل على عبد الملك بن بشر بن مروان لما ولي الكوفة فقعد بين السماطين ثم قال‏:‏ أيها الأمير إني رأيت رؤيا فإذن لي في قصصها‏.‏

فقال‏:‏ قل‏.‏

فقال‏:‏ أغفيت قبل الصبح يوم مسهد في ساعة ما كنت قبل أنامها فرأيت أنك رعتني بوليدة مفلوجة حسن علي قيامها وببدرة حملت إلي وبغلة شهباء ناجية يصر لجامها قال له عبد الملك بن بشر بن مروان‏:‏ كل شيء رأيت فهو عندي إلا البغلة فإنها دهماء فارهة‏.‏

امرأتي طالق ثلاثاً إن كنت رأيتها إلا دهماء‏.‏

إلا أني غلطت‏.‏

الشيباني عن البطين الشاعر قال‏:‏ قدمت على علي بن يحيى الأرميني فكتبت إليه‏:‏ رأيت في النوم أني راكب فرساً ولي وصيف وفي كفي دنانير فقال قوم لهم حذق ومعرفة رأيت خيراً وللأحلام تعبير رؤياك فسر غداً عند الأمير تجد تعبير ذاك وفي الفال التباشير فجئت مستبشراً مستشعراً فرحاً وعند مثلك لي بالفعل تيسير قال‏:‏ فوقع لي في أسفل كتابي‏:‏ أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين‏.‏

ثم أمر لي بكل شيء ذكرته في أبياتي ورأيته في منامي‏.‏

وقال بشار العقيلي‏:‏ حتى متى ليت شعري يا بن يقطين أثني عليك بما لا منك توليني أما علمت جزاك الله صالحة عني وزادك خيراً يا بن يقطين أني أريدك للدنيا وزينتها ولا أريدك يوم الدين للدين يا بن العلاء ويا بن القرم مرداس إني لأطريك في أهلي وجلاسي أثني عليك ولي حال تكذبني فيما أقول فاستحيي من الناس حتى إذا قيل ما أعطاك من صفد طأطأت من سوء حالي عندها رأسي الأخذ من الأمراء حدثنا جعفر بن محمد عن يزيد بن سمعان عن عبد الله بن ثور عن عبد الحميد ابن وهب عن أبي الخلال قال‏:‏ سألت عثمان بن عفان عن جائزة السلطان فقال‏:‏ لحم طري زكي‏.‏

جعفر بن محمد بن يحيى بن محمد العامري عن المعتمر عن عمران بن حدير قال‏:‏ انطلقت أنا ورجل إلى عكرمة فرأى الرجل عليه عمامة متخرفة‏.‏

فقال الرجل‏:‏ عندنا عمائم ألا نبعث إليك بعمامة منها قال عكرمة‏:‏ إنا لا نقبل من الناس شيئاً إنما نقبل من الأمراء‏.‏

وقال هشام بن حسان‏:‏ رأيت على الحسن البصري خميصة لها أعلام يصلي فيها أهداها إليه مسلمة بن عبد الملك‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس خفين أسودين أهداهما إليه النجاشي صاحب الحبشة‏.‏

وقال نافع‏:‏ كان عبد الله بن عمر يقبل هدايا أهل الفتنة مثل المختار وغيره‏.‏

ودخل مالك بن أنس على هارون الرشيد فشكا إليه ديناً لزمه فأمر له بألف دينار عين‏.‏

فلما وضع يديه للقيام قال‏:‏ يا أمير المؤمنين وزوجت ابني محمداً فصار علي فيه ألف دينار‏.‏

فلقد مات مالك وتركها زنته في مزوده‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة قال‏:‏ كان الربيع بن خثيم في ألف ومائة من العطاء فكلم فيه أبي معاوية فألحقه بألفين‏.‏

فلما حضر العطاء نودي الربيع بن خثيم فقيل له‏:‏ في ألفين فقعد‏.‏

فنظروا على اسمه مكتوباً‏:‏ كلم فيه ابن يحيى بن طلحة أمير المؤمنين فألحقه بألفين‏.‏

وقال رجل لإبراهيم بن أدهم‏:‏ يا أبا إسحاق كنت أريد أن تقبل مني هذه الجبة كسوة‏.‏

قال‏:‏ إن كنت غنياً قبلتها منك وإن كنت فقيراً لم أقبلها منك‏.‏

قال‏:‏ فإن غني‏.‏

قال‏:‏ وكم مالك قال‏:‏ ألفا دينار‏.‏

قال‏:‏ فأنت تود أنها أربعة آلاف‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فأنت فقير لا أقبلها منك‏.‏

وأمر إبراهيم بن الأغلب المعروف بزيادة الله بمال يقسم على الفقهاء فكان منهم من قبل ومنهم من لم يقبل‏.‏

فكان أسد بن الفرات فيمن قبل فجعل زيادة الله يغمص على كل من قبل منهم‏:‏ فبلغ ذلك أسد ابن الفرات فقال‏:‏ لا عليه إنما أخذنا بعض حقوقنا والله سائله عما بقي‏.‏

وقد فخرت العرب بأخذ جوائز الملوك وكان من أشرف ما يتمولونه فقال ذو الرمة‏:‏ وما كان مالي من تراث ورثته ولا دية كانت ولا كسب مأثم ولكن عطاء الله من كل رحلة إلى كل محجوب السرادق خضرم وقال آخر‏:‏ يهجو مروان بن أبي حفصة ويعيبه بأخذه من العامة ويفخر بأنه لا يأخذ إلا من الملوك فقال‏:‏ عطايا أمير المؤمنين ولم تكن مقسمة من هؤلاء وأولئكا وما نلت حتى شبت إلا عطية تقوم بها مصرورة في ردائكا التفضيل في العطاء تفضيل بعض الناس على بعض في العطاء ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفقراء فقال‏:‏ إن سعيد بن حذيم منهم‏.‏

فأعطاه ألف دينار وقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إذا أعطيت فأغن‏.‏

وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد من العرب فأعطاهم وفضل رجلاً منهم‏.‏

فقيل له في ذلك‏.‏

كل القوم عيال عليه‏.‏

وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين المؤلفة قلوبهم فأعطى الأفرع ابن حابس التيمي وعيينة بن حصن الفزاري مائة من الإبل وأعطى العباس ابن مرداس السلمي خمسين فشق ذلك عليه فقال أبياتاً فأتاه بها وأنشده إياها وهي‏:‏ ولا كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع وما كنت غير امرئ منهم ومن تضع اليوم لم يرفع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال‏:‏ اقطع عني لسان العباس‏.‏

فأعطاه حتى أرضاه‏.‏

وقال صفوان بن أمية‏:‏ لقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خلق الله خلقاً أبعض إلي منه فما زال يعطيني حتى ما خلق الله خلقاً أحب إلي منه‏.‏

وكان صفوان بن أمية من المؤلفة قلوبهم‏.‏

شكر النعمة سليمان التميمي قال‏:‏ إن الله أنعم على عباده بقدر قدرته‏.‏

وكلفهم من الشكر بقدر طاقتهم‏.‏

وقالوا‏:‏ مكتوب في التوراة‏:‏ اشكر لمن أنعم عليك وأنهم على من شكرك‏.‏

وقالوا‏:‏ كفر النعمة يوجب زوالها وشكرها يوجب المزيد فيها‏.‏

وقالوا‏:‏ من حمدك فقد وفاك حق نعمتك‏.‏

وجاء في الحديث‏:‏ من نشر معروفاً فقد شكره ومن ستره فقد كفره‏.‏

وقال عبد الله بن عباس‏:‏ لو أن فرعون مصر أسدى إلي يداً صالحة لشكرته عليها‏.‏

وقالوا‏:‏ إذا قصرت يدك عن المكافأة‏.‏

فليطل لسانك بالشكر‏.‏

وقالوا‏:‏ ما نحل الله تعالى عباده شيئاً أقل من الشكر واعتبر ذلك بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وقليل من عبادي الشكور ‏"‏‏.‏

محمد بن صالح بن الواقدي قال‏:‏ دخلت على يحيى بن خالد البرمكي فقلت‏:‏ إن هاهنا قوماً جاءوا يشكرون لك معروفاً فقال‏:‏ يا محمد هؤلاء يشكرون معروفاً فكيف لنا بشكر وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أنعم الله على عبده نعمة فرأى عليه أثرها إلا كتب‏:‏ حبيب الله شاكراً لأنعمه وما أنعم الله على عبده نعمة فلم ير أثرها عليه إلا كتب‏:‏ بغيض الله كافراً لأنعمه‏.‏

وكتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز‏:‏ إني بأرض كثرت فيها النعم وقد خفت على من قبلي من المسلمين قلة الشكر والضعف عنه‏.‏

فكتب إليه عمر رضي الله عنه‏:‏ إن الله تعالى لم ينعم على قوم نعمة فحمدوه عليها إلا كان ما أعطوه أكثر مما أخذوا‏.‏

واعتبر ذلك لقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا ‏"‏‏.‏

فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان‏.‏

وسمع النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها تنشد أبيات زهير بن جناب‏:‏ ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه يوماً فتدركه عواقب ما جنى يجزيك أو يثني عليك فإن من أثنى عليك بما فعلت كمن جزى فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ صدق يا عائشة لا شكر الله من لا يشكر الناس‏.‏

الخشنى قال‏:‏ أنشدني الرياشي‏:‏ إذا أنا لم أشكر على الخير أهله ولم أذمم الجبس اللئيم المذمما وأنشدني في الشكر‏:‏ سأشكر عمراً ما تراخت منبتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقة ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى خلتي من حيث يخفي مكانها فكانت قذى عينيه حتى تجلت قلة الكرام في كثرة اللئام قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة‏.‏

وقالت الحكماء‏:‏ الكرام في اللئام كالغرة في الفرس‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ تفاخرني بكثرتها قريظ وقبلي والد الحجل الصقور فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات نزور وقال السموأل‏:‏ تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها عن الكرام قليل وقال حبيب‏:‏ ولقد تكون ولا كريم نناله حتى نخوض إليه ألف لئيم قال ابن أبي حازم‏:‏ وقالوا لو مدحت فتى كريماً فقلت وكيف لي بفتى كريم بلوت ومر بي خمسون حولاً حسبك بالمجرب من عليم فلا أحد يعد ليوم خير ولا أحد يعود على عديم وقال دعبل‏:‏ ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم والله يعلم أني لم أقل فندا إن لأغلق عيني ثم أفتحها على كثير ولكن ما أرى أحد وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول حبيب الطائي‏:‏ إن الجياد كثير في البلاد وإن قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا لا يدهمنك من دهمائهم عجب فإن جلهم أو كلهم بقر وكلما أضحت الأخطار بينهم هلكي تبين من أضحى له خطر قال كسرى‏:‏ أي شيء أضر فأجمعوا على الفقر‏.‏

فقال كسرى‏:‏ الشح أضر منه لأن الفقير يجد الفرجة فيتسع‏.‏

من جاد أولاً وضن آخراً نزل أعرابي برجل من أهل البصرة فأكرمه وأحسن إليه ثم أمسك‏.‏

فقال الأعرابي‏:‏ تسرى فلما حاسب المرء نفسه رأى أنه لا يستقر له السرو وكان يزيد بن منصور يجري لبشار العقيلي وظيفة في كل شهر ثم قطعها عنه فقال‏:‏ أبا خالد ما زلت سابح غمرة صغيراً فلما شبت خيمت بالشاطئ جريت زماناً سابقاً ثم لم تزل تأخر حتى جئت تقطو مع القاطي كسنور عبد الله بيع بدرهم صغيراً فلما شب بيع بقيراط وقال مسلم بن الوليد صريع الغواني لمحمد بن منصور بن زياد‏:‏ أبا حسن قد كنت قدمت نعمة وألحقت شكراً ثم أمسكت وانيا فلا ضير لم تلحقك مني ملامة أسأت بنا عوداً وأحسنت باديا فأقسم لا أجزيك بالسوء مثله كفى بالذي جازيتني لك جازياً يا سوءة يكبر الشيطان إن ذكرت منها العجائب جاءت من سليمانا لا تعجبن بخير زل عن يده فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا من ضن أولاً ثم جاد آخراً قدم الحارث بن خالد المخزومي على عبد الملك فلم يصله فرجع وقال فيه‏:‏ صحبتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها حبست عليك النفس حتى كأنما بكفيك يجري بؤسها ونعيمها فبلغ قوله عبد الملك فأرسل إليه فرده وقال‏:‏ أرأيت عليك غضاضة من مقامك ببابي قال‏:‏ لا ولكني اشتقت إلى أهلي ووطني ووجدت فضلاً من القول فقلت وعلي دين لزمني‏.‏

قال‏:‏ وكم دينك قال‏:‏ ثلاثون ألفاً‏.‏

قال‏:‏ فقضاء دينك أحب إليك أم ولاية مكة قال‏:‏ بل ولاية مكة‏.‏

فولاه إياها‏.‏

وقدم الحطيئة المدينة فوق إلى عتيبة بن النهاس العجلي فقال‏:‏ أعطني‏.‏

فقال‏:‏ مالك عند فأعطيكه وما في مالي فضل عن عيالي فأعود به عليك‏.‏

فخرج عنه مغضباً‏.‏

وعرفه به جلساؤه فأمر برده ثم قال له‏:‏ يا هذا إنك وقفت إلينا فلم تستأنس ولم تسلم وكتمتنا نفسك كأنك الحطيئة قال‏:‏ هو ذلك‏.‏

قال‏:‏ اجلس فلك عندما كل ما تحب‏.‏

فجلس فقال له‏:‏ من أشعر الناس قال‏:‏ الذي يقول‏:‏ من يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم يعني زهيراً‏:‏ قال‏:‏ ثم من قال‏:‏ الذي يقول‏:‏ من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب يعني عبيداً‏.‏

قال‏:‏ ثم من قال‏:‏ أنا‏.‏

فقال لوكيله‏:‏ خذ بيد هذا فامض به إلى السوق فلا يشيرن إلى شيء إلا اشتريته له‏.‏

فمضى معه إلى السوق فعرض عليه الخز والقز فلم يتلفت إلى شيء منه وأشار إلى الأكسية والكرابيس الغلاظ والأقبية‏.‏

فاشترى له منها حاجته ثم قال‏:‏ أمسك‏.‏

قال‏:‏ فإنه قد أمرني أن أبسط يدي بالنفقة قال‏:‏ لا حاجة في أن يكون له على قومي يد أعظم من هذه ثم أنشأ يقول‏:‏ سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلاً فسيان لا ذم عليك ولا حمد وأنت امرؤ لا الجود منك سجية فتعطى وقد يعدى على النائل الوجد من مدح أميراً فخيبه ألا قل لساري الليل لا تخش ضلة سعيد بن سلم نور كل بلاد لنا سيد أربى على كل سيد جواد حثا في وجه كل جواد قال‏:‏ فتأخرت عنه قليلاً‏.‏

فهجاني فأبلغ فقال‏:‏ لكل أخي مدح ثواب علمته وليس لمدح الباهلي ثواب مدحت سعيداً والمديح مهزة فكان كصفوان عليه تراب ومدح الحسن بن رجاء أبا دلف فلم يعطه شيئاً فقال‏:‏ أبا دلف ما أكذب الناس كلهم سواي فإني في مديحك أكذب وقال آخر في مثل هذا المعنى‏:‏ إني مدحتك كاذباً فأثبتني لما مدحتك ما يثاب الكاذب وقال آخر في مثل هذا المعنى‏:‏ لئن أخطأت في مدحي ك ما أخطأت في منعي لقد أحللت حاجاتي بواد غير ذي زرع ومدح حبيب الطائي عياش بن لهيعة وقدم عليه بمصر واستسلفه مائتي مثقال‏.‏

فشاور فيها زوجته فقالت له‏:‏ هو شاعر يمدحك اليوم ويهجوك غداً فاعتل عليه واعتذر إليه ولم يقض عياش إنك للئيم وإنني مذ صرت موضع مطلبي للئيم ثم هجاه حتى مات‏.‏

وهجاه بعد موته فقال فيه‏:‏ لا سقيت أطلالك الدائرة ولا انقضت عثرتك العاثرة يا أسد الموت تخلصته من بين فكي أسد القاصرة ما حفرة واراك ملحودها ببرة الرمس ولا طاهره ومن قولنا في هذا المعنى وسألت بعض موالي السلطان إطلاق محبوس فتلكأ فيه فقلت‏:‏ حاشا لمثلك أن يفك أسيرا أو أن يكون من الزمان مجيرا لبست قوافي الشعر فيك مدارعاً سوداً وصكت أوجهاً وصدورا علا عطفت برحمة لما دعت ويلاً عليك مدائحي وثبورا لو أن لؤمك عاد جوداً عشره ما كان عندك حاتم مذكورا قال‏:‏ ومدح ربعة الرقي يزيد بن حاتم الأزدي وهو والي مصر فاستبطأه ربيعة‏.‏

فشخص عنه من مصر وقال‏:‏ أراني - ولا كفران الله - راجعاً بخفي حنين من نوال ابن حاتم قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فهل قلت غير هذا قال‏:‏ لا والله قال‏:‏ لترجعن بخفي حنين مملوءة مالاً‏.‏

فأمر بخلع نعليه وملئت له مالاً‏.‏

فقال فيه لما عزل عن مصر وولي يزيد بن أسيد السلمي مكانه‏:‏ بكى أهل مصر بالدموع السواجم غداة غدا منها الأغر ابن حاتم وفيها يقول‏:‏ لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر بن حاتم فهم الفتى الأزدي إنفاق ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم أجود أهل الجاهلية الذين انتهي إليهم الجود في الجاهلية ثلاثة نفر‏:‏ حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي وهرم بن سنان المري وكعب بن مامة الإيادي‏.‏

ولكن المضروب به المثل‏:‏ حاتم وحده وهو القائل لغلامه يسار وكان إذا اشتد البرد وكلب الشتاء أمر غلامه فأوقد ناراً في يفاع من الأرض لينظر إليها من أضل الطريق ليلاً فيصمد نحوه فقال في ذلك‏:‏ أوقد فإن الليل ليل قر والريح ما موقد ريح صر عسى يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفاً فأنت حر ومر حاتم في سفره على عنزة وفيهم أسير‏.‏

فاستغاث بحاتم ولم يحضره فكاكه فاشتراه من العنزيين وأطلقه وأقام مكانه في القيد حتى أدى فداءه‏.‏

وقالوا‏:‏ لم يكن حاتم ممسكاً شيئاً ما عدا فرسه وسلاحه فإن كان لا يجود بهما‏.‏

وقالت نوار امرأة حاتم‏:‏ أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبر أفق السماء وراحت الإبل حدبا حدابير وضنت المراضع على أولادها فما تبض بقطرة وحلقت ألسنة المال وأيقنا بالهلاك‏.‏

فوالله إنا لفي ليلة صنبر بعيدة ما بين الطرفين إذا تضاغى صبيتنا جوعاً عبد الله وعدي وسفانة فقام حاتم إلى الصبيين وقمت أنا إلى الصبية فوالله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل وأقبل يعللني بالحديث فعرفت ما يريد فتناومت فلما تهورت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد فقال‏:‏ من هذا قالت‏:‏ إلا عليك يا أبا عدي‏.‏

فقال‏.‏

أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم‏.‏

فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي جانبها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها‏.‏

فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخر ثم كشطه عن جلده ودفع المدية إلى المرأة فقال لها‏:‏ شأنك‏.‏

فاجتمعنا على اللحم نشوي بالنار ثم جعل يمشي في الحي يأتيهم بيتاً بيتاً فيقول‏:‏ هبوا أيها القوم عليكم بالنار فاجتمعوا والتفع في ثوبه ناحية ينظر إلينا فلا والله إن ذاق منه مزعه وإنه لأحوج إليه منا فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلا عظم وحافر فأنشأ حاتم يقول‏:‏ مهلاً نوار أقل اللوم والعذلا ولا تقولي لشيء فات ما فعلا ولا تقولي لمال كنت مهلكه مهلاً وإن كنت أعطى الإنس والخبلا يرى البخيل سبيل المال واحدة إن الجواد يرى في ماله سبلا ورئي حاتم يوماً يضرب ولده لما رآه يضرب كلبة كانت تدل عليه أضيافه وهو يقول‏:‏ أقول لابني وقد سطت يديه بكلبة لا يزال يلدها تدل ضيفي علي في غلس ال ليل إذا النار نام موقدها ذكرت طبئ عند عدي بن حاتم‏:‏ أن رجلاً يعرف بأبي الخيبري مر بقبر حاتم فنزل به وجعل ينادي‏:‏ أبا عدي أقر أضيافك‏.‏

قال‏:‏ فيقال له‏:‏ مهلاً ما تكلم من رمة بالية فقال‏:‏ إن طيئاً يزعمون أنه لم ينزل به أحد إلا قراه كالمستهزئ‏.‏

فلما كان في السحر وثب أبو خيبري يصيح‏:‏ وا راحلتاه‏!‏ فقال له أصحابه‏:‏ ما شأنك قال‏:‏ خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليها‏.‏

فتأملوا راحلته فإذا هي لا تنبعث فقالوا‏:‏ قد والله أقراك‏.‏

فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه وانطلقوا‏.‏

فبينما هم في مسيرهم إذ طلع عليهم عدي بن حاتم ومعه جمل قد قرنه ببعيره فقال‏:‏ إن حاتماً جاء في النوم فذكر لي قولك وأنه أقراك وأصحابك راحلتك وقال لي أبياتاً رددها علي حتى حفظتها وهي‏:‏ أبا الخيبري وأنت امرؤ حسود العشيرة شتامها فماذا أردت إلى رمة بداوية صخب هامها أتبغي أذاها وإعسارها وحولك غوث وأنعامها وإنا لنطعم أضيافنا من الكوم بالسيف نعتامها وأمرني بدفع راحلة عوض راحلتك فخذها فأخذها أماوي قد طال التجنب والهجر وقد عذرتنا عن طلابكم العذر أماوي إن المال غاد ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إما مانع فمبين وإما عطاء لا ينهنهه الزجر أماوي إني لا أقول لسائل إذا جاء يوماً حل في مالي النذر أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر أماوي إن يصبح صداي بقفرة من الأرض لا ماء لدي ولا خمر تري أن ما أنفقت لم يك ضرني وأن يدي مما بخلت به صفر إذا أنا دلاني الذين يلونني بمظلمة لج جوانبها غبر وراحوا سراعاً ينفضون أكفهم يقولون قد أدمى أظافرنا الحفر أماوي إن المال مال بذلته فأوله سكر وآخره ذكر وقد يعلم الأقوام لو أن حاتماً أراد ثراء المال كان له وفر فإن وجدي رب واحد أمه أجرت فلا قتل عليه ولا أسر وأما هرم بن سنان فهو صاحب زهير الذي يقول فيه‏:‏ متى تلاق على علاته هرماً تلق السماحة في خلق وفي خلق وكان سنان أبو هرم سيد غطفان وماتت أمه وهي حامل به وقالت‏:‏ إذا أنا مت فشقوا بطني فإن سيد غطفان فيه‏.‏

فلما ماتت شقوا بطنها فاستخرجوا منه سناناً‏.‏

وفي بني سنان يقول زهير‏:‏ قوم أبوهم سنان حين تنبسهم طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا جن إذا فزعوا إنس إذا أمنوا مرزءون بهاليل إذا قصدوا محسدون على كان من نعم لا ينزع الله منهم ما له حسدوا وقال زهير في هرم بن سنان‏:‏ وأبيض فياض يداه غمامة على معتفيه ما تغب نوائله تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله أخور ثقة لا تتلف الخمر ماله ولكنه قد يتلف المال نائله أخذ الحسن بن هانئ هذا المعنى فقال‏:‏ وقال زهير في هرم بن سنان وأهل بيته‏:‏ إليك أعملتها فتلا مرافقها شهرين يجهض من أرحامها العلق حتى دفعن إلى حلو شمائله كالغيث ينبت في آثاره الورق من أهل بيت برى ذو العرش فضلهم يبنى لهم في جنان الخلد مرتفق المطعمون إذا ما أزمة أزمت والطيبون ثياباً كلما عرقوا كأن آخرهم في الجود أولهم إن الشمائل والأخلاق تتفق إن قامروا أو فاخروا فخروا أو ناضلوا نضلوا أو سابقوا سبقوا تنافس الأرض موتاهم إذا دفنوا كما تنوفس عند الباعة الورق وقال فيهم أيضاً‏:‏ وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل على مكثريهم حق من يعتفيهم وعند المقلين السماحة والبذل فما كان من خير ألوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطى إلا وشيجه وتغرس إلا في منابتها النخل وله يقول حبيب‏:‏ يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقص غاية الجود وله ولحاتم الطائي يقول‏:‏ كعب وحاتم اللدان تقسما خطط العلا من طارف وتليد هذا الذي خلف السجاب ومات ذا في المجد ميتة خضرم صنديد إلا يكن فيها الشهيد فقومه لا يسمحون به بألف شهيد أجواد أهل الإسلام وأما أجواد أهل الإسلام فأحد عشر رجلاً في عصر واحد لم يكن قبلهم ولا بعدهم مثلهم‏.‏

فأجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد‏:‏ عبيد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص‏.‏

وأجواد البصرة خمسة في عصر واحد وهم‏:‏ عبد الله بن عامر بن كريز وعبيد الله بن أبي بكرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسلم بن زيادة وعبيد الله بن معمر القرشي ثم التمي وطلحة الطلحات وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وله يقول الشاعر يرثيه ومات بسجستان وهو وال عليها‏:‏ نضر الله أعظماً دفنوها بسجستان طلحة الطلحات وأجواد أهل الكوفة ثلاثة في عصر واحد وهم‏:‏ عتاب بن ورقاء الرياحي وأسماء بن خارجة الفزاري وعكرمة بن ربعي الفياض‏.‏

جود عبيد الله بن عباس أنه أول من فطر جيرانه وأول من وضع الموائد على الطرق وأول من حيا على طعامه وأول وفي السنة الشهباء أطعمت حامضاً وحلواً ولحماً تامكا وممزعا وأنت ربيع لليتامى وعصمة إذ المحل من جو السماء تطلعا أبوك أبو الفضل الذي كان رحمة وغوثاً ونوراً للخلائق أجمعا ومن جوده‏:‏ أنه أتاه رجل وهو بفناء داره فقام بين يديه فقال‏:‏ يا بن عباس إن لي عندك يداً وقد احتجت إليها‏.‏

فصعد فيه بصره وصوبه فلم يعرفه ثم قال له‏:‏ ما يدك عندنا قال رأيتك واقفاً بزمزم وغلامك يمتح لك من مائها والشمس قد صهرتك فظللتك بطرف كسائي حتى شربت قال‏:‏ إني لأذكر ذلك وإنه يتردد بين خاطري وفكري ثم قال لقيمه‏:‏ ما عندك قال‏:‏ مائتا دينار وعشرة آلاف درهم قال فادفعها إليه وما أراها تفي بحق يده عندنا‏.‏

فقال له الرجل‏:‏ والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيه ما كفاه فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين محمداً صلى الله عليه وسلم ثم شفعه بك وبأبيك‏.‏

ومن جوده أيضاً‏:‏ أن معاوية حبس عن الحسين بن علي صلاته حتى ضاقت عليه حاله‏.‏

فقيل له‏:‏ لو وجهت إلى ابن عمك عبيد الله فإن قد قدم بنحو من ألف ألف درهم‏.‏

فقال الحسين‏:‏ وأين تقع ألف ألف من عبيد الله فوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت وأسخى من البحر إذا زخر‏.‏

ثم وجه إليه مع رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم‏.‏

فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان من أرق الناس قلباً وألينهم عطفاً انهملت عيناه ثم قال‏:‏ ويلك يا معاوية مما اجترحت يداك من الإثم أصبحت حين لين المهاد رفيع العماد والحسين يشكو ضيق الحال وكثرة العيال ثم قال لقهرمانه‏:‏ احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فض وذهب وثوب ودابة وأخبره أني شاطرته مالي فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر فقال له القيم‏:‏ فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها قال‏:‏ إذا بلغنا ذلك دللتك على أمر يقيم حالك‏.‏

فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال‏:‏ إنا الله حملت والله على ابن عمي وما حسبته يتسع لنا بهذا كله فأخذ الشطر من ماله‏.‏

وهو أول من فعل ذلك في الإسلام‏.‏

ومن جوده‏:‏ أن معاوية بن أبي سفيان أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النيروز حللاً كثيرة ومسكاً وآنية من ذهب وفضة ووجهها مع حاجبه فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب وهو ينظر إليها فقال‏:‏ هل في نفسك منها شيء قال‏:‏ نعم والله إن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام فضحك عبيد الله وقال‏:‏ فشأنك بها فهي لك‏.‏

قال‏:‏ جعلت فداك أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد علي‏.‏

قال‏:‏ فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلاً‏.‏

فقال الحاجب‏:‏ والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه - يعني معاوية - فظن عبيد الله أنها مكيدة منه قال‏:‏ دع عنك هذا الكلام فإنا قوم نفي بما وعدنا ولا ننقض ما أكدنا‏.‏

ومن جوده أيضاً‏:‏ أنه أتاه سائل وهو لا يعرفه فقال له‏:‏ تصدق فإني نبئت أن عبيد الله بن عباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه فقال له‏:‏ وأين أنا من عبيد الله قال أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال قال‏:‏ فيهما قال‏:‏ أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله وإذا شئت فعلت وإذا فعلت كنت حسيباً فأعطاه ألفي درهم واعتذر له من ضيق الحال فقال له السائل‏:‏ إن لم تكن عبد الله بن عباس فأنت خير منه وإن كنت هو فأنت اليوم خير منك أمس فأعطاه ألفاً أخرى‏.‏

فقال السائل‏:‏ هذه هزة كريم حسيب والله لقد نقرت حبة قلبي فأفرغتها في قلبك فما أخطأت إلا باعتراض الشك بين جوانحي‏.‏

ومن جوده أيضاً‏:‏ أنه جاءه رجل من الأنصار فقال‏:‏ يا بن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ولد لي في هذه الليلة مولود وإني سميته باسمك تبركاً مني به وإن أمه ماتت‏.‏

فقال عبيد الله‏:‏ بارك الله لك في الهبة وأجزل لك الأجر على المصيبة ثم دعا بوكيله فقال‏:‏ انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته ثم قال للأنصاري‏:‏ عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي المال قلة‏.‏

قال الأنصاري‏:‏ لو سبقت حاتماً بيوم واحد ما ذكرته العرب أبداً ولكنه سبقك فصرت له تالياً وأنا أشهد أن عفوك أكثر من مجهوده وكل كرمك أكثر من وابله‏.‏

جود عبد الله بن جعفر ومن جود عبد الله بن جعفر أن عبد الرحمن بن أبي عمار دخل على نخاس يعرض قياناً له فعلق واحدة منهن فشهر بذكرها حتى مشى إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذلونه فكان جوابه أن قال‏:‏ يلومني فيك أقوام أجالسهم فما أبالي أطار اللوم أم وقعا فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر فلم يكن له هم غيره فحج فبعث إلى مولى الجارية فاشتراها منه بأربعين ألف درهم وأمر قيمة جواريه أن تزينها وتحليها ففعلت‏.‏

وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه فقال‏:‏ مالي لا أرى ابن أبي عمار زارنا‏!‏ فأخبر الشيخ فأتاه مسلماً‏.‏

فلما أراد أن ينهض استجلسه ثم قال‏:‏ ما فعل حب فلانة قال‏:‏ في اللحم والدم والمخ والعصب‏.‏

قال‏:‏ أتعرفها لو رأيتها قال‏:‏ لو أدخلت الجنة لم أنكرها فأمر بها عبد الله أن تخرج إليه وقال له‏:‏ إنما اشتريتها لك ووالله ما دنوت منها فشأنك بها مباركاً لك فيها‏.‏

فلما ولى قال يا غلام احمل معه مائة ألف درهم ينعم بها معها‏.‏

قال‏:‏ فبكى عبد الرحمن فرحاً وقال‏:‏ يا أهل البيت لقد خصكم الله بشرف ما خص به أحداً قبلكم من صلب آدم فتهنئكم هذه النعمة وبورك لكم فيها‏.‏

ومن جوده أيضاً‏:‏ أنه أعطى امرأة سألته مالاً عظيماً‏.‏

فقيل له‏:‏ إنها لا تعرفك‏.‏

وكان يرضيها اليسير‏.‏

قال‏:‏ إن كان يرضيها اليسير فإني لا أرضى بالكثير وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي‏.‏

جود سعيد بن العاص ومن جود سعيد بن العاص‏:‏ أنه مرض وهو بالشام فعاده معاوية ومعه شرحبيل بن السمط ومسلم بن عقبة المري ويزيد بن شجرة الرهاوي فلما نظر سعيد معاوية وثب عن صدر مجلسه إعظاماً لمعاوية فقال له معاوية‏:‏ أقسمت عليك أبا عثمان أن لا تتحرك فقد ضعفت بالعلة‏.‏

فسقط فتبادر معاوية نحوه حتى حنا عليه وأخذه بيده فأقعده على فراشه وقعد معه وجعل يسائله عن علته ومنامه وغذائه ويصف له ما ينبغي أن يتوقاه وأطال القعود معه‏.‏

فلما خرج التفت إلى شرحبيل بن السمط ويزيد بن شجرة فقال‏:‏ هل رأيتما خللا في مال أبي عثمان فقالا‏:‏ ما رأينا شيئاً ننكره‏.‏

فقال لمسلم بن عقبة‏:‏ ما تقول قال‏:‏ رأيت‏.‏

قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ رأيت على حشمه ومواليه ثياباً وسخة ورأيت صحن داره غير مكنوس ورأيت التجار يخاصمون قهرمانه‏.‏

قال‏:‏ صدقت كل ذلك قد رأيته فوجه إليه مع مسلم بثلاثمائة ألف‏.‏

فسبق رسول يبشره بها ويخبره بما كان فغضب سعيد وقال للرسول‏:‏ إن صاحبك ظن أنه أحسن فأساء وتأول فأخطأ‏.‏

فأما وسخ ثياب الحشم فمن كثرة حركته اتسخ ثوبه وأما كنس الدار فليست أخلاقنا أخلاق من جعل داره مرآته وتزينه لبسه ومعروفه عطره ثم لا يبال بمن مات هزلاً من ذي لحمة أو حرمة‏.‏

وأما منازعة التجارة قهرماني فمن كثرة حوائجه وبيعه وشرائه لم يجد بداً من أن يكون ظالماً أو مظلوماً وأما المال الذي أمر به أمير المؤمنين فوصلته كل ذي رحم قاطعة وهنأته كرامته المنعم بها عليه وقد قبلناه وأمرنا لصاحبك منه بمائة ألف ولشرحبيل بن السمط بمثلها وليزيد بن شجرة بمثلها وفي سعة الله وبسط يد أمير المؤمنين ما عليه معولنا‏.‏

فركب مسلم بن عقبة إلى معاوية فأعلمه‏.‏

فقال‏:‏ صدق ابن عمي فيما قال وأخطأت فيما انتهيت إليه فاجعل نصيبك من المال لروح بن زنباع عقوبة لك فإنه من جنى جناية عوقب بمثلها كما أنه فعل خيراً كوفئ عليه‏.‏

ومن جوده أيضاً‏:‏ أن معاوية كان يداول بينه وبين مروان بن الحكم في ولاية المدينة فكان مروان يقارضه‏.‏

فلما دخل على معاوية قال له‏:‏ كيف تركت أبا عبد الملك - يعني مروان - قال‏:‏ تركته منفذاً لأمرك مصلحاً لعملك‏.‏

قال معاوية‏:‏ إنه كصاحب الخبزة كفى إنضاجها فأكلها‏.‏

قال‏:‏ كلا يا أمير المؤمنين إنه من قوم لا يأكلون إلا ما حصدوا‏.‏

ولا يحصدون إلى ما زرعوا‏.‏

قال‏:‏ فما الذي باعد بينك وبينه قال‏:‏ خفته على شرفي وخافني على مثله‏.‏

قال‏:‏ فأي شيء كان له عندك قال‏:‏ أسوءه حاراً وأسره غائباً‏.‏

قال‏:‏ يا أبا عثمان تركتنا في هذه الحروب‏.‏

قال‏:‏ حملت الثقل وكفيت الحزم‏.‏

قال‏:‏ فما أبطأ بك قال‏:‏ غناك عني أبطأني عنك‏.‏

وكنت قريباً لو دعوت لأجبناك ولو أمرت لأطعناك‏.‏

قال‏:‏ ذلك ظننا بك‏.‏

فأقبل معاوية على أهل الشام فقال يا أهل الشام هؤلاء قومي وهذا كلامهم‏.‏

ثم قال‏:‏ أخبرني عن مالك فقد نبئت أنك تتجر فيه‏.‏

قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لنا مال يخرج لنا منه فضل فإذا كان ما خرج قليلاً أنفقناه على قلته وإن كان كثيراً فكذلك غير أنا لا ندخر منه شيئاً عن معسر ولا طالب ولا مستحمل ولا نستأثر منه بفلذة لحم ولا مزعة شحم‏.‏

قال‏:‏ فكم يدوم لك هذا قال‏:‏ من السنة نصفها‏.‏

قال‏:‏ فما تصنع باقيها قال‏:‏ نجد من يسلفنا ويسارع إلى معاملتنا‏.‏

قال‏:‏ ما أحد أحوج إلى أن يصلح من شأنه منك‏.‏

قال‏:‏ إن شأننا لصالح يا أمير المؤمنين ولو زدت في مالي مثله ما كنت إلا بمثل هذه الحال‏.‏

فأمر له معاوية بخمسين ألف درهم وقال‏:‏ اشتر بها ضيعة تعينك على مروءتك‏.‏

فقال سعيد‏:‏ بل أشتري بها حمداً وذكراً باقياً أطعم بها الجائع وأزوج بها الأيم وأنك بها العاني وأواسي بها الصديق وأصلح بها حال الجار‏.‏

فلم تأت عليه ثلاثة أشهر وعنده منها درهم‏.‏

فقال معاوية‏:‏ ما فضيلة بعد الإيمان بالله هي أرفع في الذكر ولا أنبه في الشرف من الجود وحسبك أن الله تبارك وتعالى جعل الجود أحد صفاته‏.‏

ومن جوده أيضاً ما حكاه الأصمعي قال‏:‏ كان سعيد بن العاص يسمر معه سماره إلى أن ينقضي حين من الليل فانصرف عنه القوم ليلة ورجل قاعد لم يقم‏.‏

فأمر سعيد بإطفاء الشمعة وقال‏:‏ حاجتك يا فتى فذكر أن عليه ديناً أربعة آلاف درهم فأمر له بها‏.‏

وكان إطفاؤه للشمعة أكثر من عطائه‏.‏

جود عبيد الله بن أبي بكرة ومن جود عبيد الله بن أبي بكرة‏:‏ أنه أدلى إليه رجل بحرمة فأمر له بمائة ألف درهم‏.‏

فقال‏:‏ أصلحك الله ما وصلني أحد بمثلها قط‏.‏

ولقد قطعت لساني عن شكر غيرك وما رأيت الدنيا في يد أحد أحسن منها في يدك ولولا أنت لم تبق لها بهجة إلا أظلمت ولا نور إلا جود عبيد الله بن معمر القرشي التيمي ومن جود عبيد الله بن معمر القرشي‏:‏ أن رجلاً أتاه من أهل البصرة كانت له جارية نفيسة قد أدبها بأنواع الأدب حتى برعت وفاقت في جميع ذلك ثم إن الدهر قعد بسيدها ومال عليه‏.‏

وقدم عبيد الله بن معمر البصرة من بعض وجوهه فقالت لسيدها‏:‏ إني أريد أن أذكر لك شيئاً أستحي منه إذ فيه جفاء مني غير أن يسهل ذلك علي ما أرى من ضيق حالك وقلة مالك وزوال نعمتك وما أخافه عليك من الاحتياج وضيق الحال وهذا عبيد الله بن معمر قدم البصرة وقد علمت شرفه وفضله وسعة كفه وجود نفسه فلو أذنت لي فأصلحت من شأني ثم تقدمت بي إليه وعرضتني عليه هدية رجوت أن يأتيك من مكافأته ما يقيلك الله به وينهضك إن شاء الله‏.‏

قال فبكى وجداً عليها وجزعاً لفراقها منه ثم قال لها‏:‏ لولا أنك نطقت بهذا ما ابتدأتك به أبداً‏.‏

ثم نهض بها حتى أوقفها بين يدي عبيد الله فقال‏:‏ أعزك الله هذه جارية ربيتها ورضيت بها لك فاقبلها مني هدية‏.‏

فقال‏:‏ مثلي لا يستهدي من ملك فهل لك في بيعها فأجزل لك الثمن عليها حتى ترضى قال‏:‏ الذي تراه‏.‏

قال‏:‏ يقنعك مني عشرة بدر في كل بدرة عشرة آلاف درهم قال‏:‏ والله يا سيدي ما امتد أملي إلى عشر ما ذكرت ولكن هذا فضلك المعروف وجودك المشهور‏.‏

فأمر عبيد الله بإخراج المال حتى صار بين يدي الرجل وقبضه وقال للجارية‏:‏ ادخلي الحجاب‏.‏

فقال سيدها‏:‏ أعزك الله لو أذنت لي في وداعها قال‏:‏ نعم‏.‏

فوقفت وقام وقال لها وعيناه تدمعان‏:‏ أبوح بحزن من فراقك موجع أقاسي به ليلاً يطيل تفكري ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري عليك سلام لا زيادة بيننا ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر قال عبيد الله بن معمر‏:‏ قد شئت ذلك فخذ جاريتك وبارك الله لك في المال‏.‏

فذهب بجاريته وماله فعاد غنياً‏.‏

فهؤلاء أجواد الإسلام المشهورون في الجود المنسوبون إليه وهم أحد عشر رجلاً كما ذكرنا وسمينا وبعدهم طبقة أخرى من الأجواد قد شهروا بالجود وعرفوا بالكرم وحمدت أفعالهم‏.‏

وسنذكر ما أمكننا ذكره منها إن شاء الله تعالى‏.‏

الطبقة الثانية من الأجواد الحكم بن حنطب قيل لنصيب بن رباح‏:‏ خرف شعرك أبا محجن قال‏:‏ لا ولكن خرف الكرم لقد رأيتني ومدحت بن حنطب فأعطاني ألف دينار ومائة ناقة وأربعمائة شاة‏.‏

وسأل أعرابي الحكم بن حنطب فأعطاه خمسمائة دينار فبكى الأعرابي فقال‏:‏ ما يبكيك يا أعرابي لعلك استقللت ما أعطيناك قال‏:‏ لا والله ولكني أبكي لما تأمل الأرض منك ثم أنشأ يقول‏:‏ وكأن آدم حين حان وفاته أوصاك وهو يجود بالحوباء ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم وكفيت آدم عيلة الأبناء العتبي قال‏:‏ أخبرني رجل من أهل منبج قال‏:‏ قدم علينا الحكم بن حنطب وهو مملق فأغنانا‏.‏

قال‏:‏ كيف أغناكم وهو مملق قال‏:‏ علمنا المكارم فعاد غنينا على فقيرنا‏.‏

معن بن زائدة وكان يقال فيه‏:‏ حدث عن البحر ولا حرج وحدث عن معن ولا حرج‏.‏

وأتاه رجل يسأله أن يحمله فقال‏:‏ يا غلام أعطه فرساً وبرذوناً وبغلاً وعيراً وبعيراً وجارية وقال‏:‏ لو عرفت مركوباً غير هؤلاء لأعطيتك‏.‏

العتبي قال‏:‏ لما قدم معن بن زائدة البصرة واجتمع إليه الناس أتاه مروان بن أبي حفصة أخذ بعضادتي الباب فأنشده شعره الذي قال فيه‏:‏ فما أحجم الأعداء عنك بقية عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا له راحتان الحتف والجود فيهما أبى الله إلا أن يضر وينفعا يزيد بن المهلب وكان هشام بن حسان إذ ذكره قال‏:‏ والله إن كانت السفن لتجري في جوده‏.‏

وقيل ليزيد بن المهلب‏:‏ مالك لا تبني داراً قال‏:‏ منزلي دار الإمارة أو الحبس‏.‏

ولما أتى يزيد بن عبد الملك برأس يزيد بن المهلب نال منه بعض جلسائه فقال له‏:‏ مه‏!‏ إن يزيد بن المهلب طلب جسيماً وركب عظيماً ومات كريماً‏.‏

ودخل الفرزدق على يزيد بن المهلب في الحبس فأنشده‏:‏ صح في قيدك السماحة والجو د وفك العناة والإفضال وقال سليمان بن عبد الملك لموسى بن نصير‏:‏ اغرم ديتك خمسين مرة‏.‏

قال‏:‏ ليس عندي ما أغرم‏.‏

قال‏:‏ والله لتغر من ديتك مائة مرة‏.‏

قال يزيد بن المهلب‏:‏ أنا أغرمها عنه يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ اغرم فغرمها عنه مائة ألف‏.‏

العتبي قال‏:‏ أخبرني عوانة قال‏:‏ استعمل الوليد بن عبد الملك عثمان بن حيان المري على المدينة وأمره بالغلظة على أهل الظنة فلما استخلف سليمان أخذه بألفي ألف درهم‏.‏

فاجتمعت القيسية في ذلك فتحملوا شطرها وضاقوا ذرعاً بالشطر الثاني ووافق ذلك استعمال سليمان يزيد بن المهلب على العراق‏.‏

فقال عمر بن هبيرة‏:‏ عليكم بيزيد بن المهلب فما لها أحد غيره‏.‏

فتحملوا إلى يزيد وفيهم عمر بن هبيرة والقعقاع بن حبيب والهذيل بن زفر بن الحارث وانتهوا إلى رواق يزيد‏.‏

قال يحيى بن أقتل - وكان حاجباً ليزيد بن المهلب وكان رجلاً من الأزد -‏:‏ فاستأذنت لهم فخرج يزيد إلى الرواق فقرب ورحب ثم دعاء بالغداء فأتوا بطعام ما أنكروا منه أكثر مما عرفوا‏.‏

فلما تغدوا تكلم عثمان بن حيان وكان لساناً مفوهاً وقال‏:‏ زادك الله في توفيقك أيها الأمير إن الوليد بن عبد الملك وجهني إلى المدينة عاملاً عليها وأمرني بالغلظة على أهل الظنة وصخذ عليهم وإن سليمان أغرمني غرماً والله ما يسعه مالي ولا تحمله طاقتي فأتيناك لتحمل من هذا المال ما خف عليك وما بقي والله ثقيل علي‏.‏

ثم تكلم كل منهم بما حضره وقد اختصرنا كلامهم فقال يزيد بن المهلب‏:‏ مرحباً بكم وأهلاً إن خير المال ما قضيت فيه الحقوق وحملت به المغارم‏.‏

وإنما لي من المال ما فضل عن إخواني وأيم الله لو علمت أن أحداً أملأ بحاجتكم مني لهديتكم إليه فاحتكموا وأكثروا‏.‏

فقال عثمان بن حيان‏:‏ النصف أصلح الله الأمير‏.‏

قال‏:‏ نعم وكرامة اغدوا على مالكم فخذوه‏.‏

فشكروا له وقاموا فخرجوا‏.‏

فلما صاروا على باب السرادق قال عمر بن هبيرة‏:‏ قبح الله رأيكم والله ما يبالي يزيد أنصفها تحمل أم كلها فمن لكم بالنصف الباقي قال القوم‏:‏ هذا والله لرأي‏.‏

وسمع يزيد مناجاتهم فقال لحاجبه‏:‏ انظر يا يحيى إن كان بقي على القوم شيء فليرجعوا‏.‏

فرجعوا إليه‏.‏

وقالوا‏:‏ أقلنا‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

قالوا‏:‏ فإن رأيت أن تحملها كلها فأنت أهلها وإن أبيت فما لها أحد غيرك‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

وغدا يزيد بن المهلب إلى سليمان‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أتاني عثمان بن حيان وأصحابه قال‏:‏ أمسك في المال قال‏:‏ نعم‏.‏

قال سليمان‏:‏ والله لآخذنه منهم‏.‏

قال يزيد‏:‏ إني قد حملته‏.‏

قال‏:‏ فأده‏.‏

قال يزيد‏:‏ والله ما حملته إلا لأؤديه ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن هذه الحمالة وإن عظم خطبها فحمدها والله أعظم منها ويدي مبسوطة بيدك‏.‏

فابسطها لسؤالها‏.‏

ثم غدا يزيد بالمال على الخزان فدفعه إليهم‏.‏

فدخلوا على سليمان فأخبروه بقبض المال‏.‏

فقال‏:‏ وفت يمين سليمان احملوا والله علينا من رأى كحمالة تحملها كبش العراق يزيد الأصمعي قال‏:‏ قدم على يزيد بن المهلب قوم من قضاعة من بني ضنة فقال رجل منهم‏:‏ والله ما ندري إذا ما فاتنا طلب إليك من الذي نتطلب ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد أحداً سواك إلى المكارم ينسب فاصبر لعادتنا التي عودتنا أو لا فأرشدنا إلى من نذهب فأمر له بألف دينار‏.‏

فلما كان في العام المقبل وفد عليه فقال‏:‏ مالي أرى أبوابهم مهجروة وكأن بابك مجمع الأسواق حابوك أما هابوك أم شاموا الندى بيديك فاجتمعوا من الآفاق إني رأيتك للمكارم عاشقاً والمكرمات قليلة العشاق فأمر له بعشر آلاف درهم‏.‏

ومر يزيد بن المهلب في طريق البصرة بأعرابية فأهدت إليه عنزاً فقبلها وقال لابنه معاوية‏:‏ معاوية‏:‏ ما عندك من نفقة قال‏:‏ ثمانمائة درهم‏.‏

قال‏:‏ ادفعها إليها‏.‏

قال‏:‏ إنها لا تعرفك ويرضيها اليسير‏.‏

قال‏:‏ إن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي وإن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير‏.‏

وكتب إليه رجل يستوصله فبعث إليه ثلاثين ألف درهم وكتب إليه‏:‏ أما بعد فقد بعثت إليك بثلاثين ألفاً لا أكثرها امتناناً ولا أقللها تجبراً ولا أستثنيك عليها ثناءً ولا أقطع لك بها رجاء والسلام‏.‏

وكان ربيعة الرقى قد قدم مصر فأتى يزيد بن حاتم الأزدي فلم يعطه شيئاً فخرج وهو يقول‏:‏ أراني - ولا كفران الله - راجعاً بخفي حنين من نوال ابن حاتم فسأل عنه يزيد فأخبر أنه قد خرج وقال كذا وأنشد البيت فأرسل في طلبه فأتي به فقال‏:‏ كيف قلت فأنشده البيت‏.‏

فقال‏:‏ شغلنا عنك‏.‏

ثم أمر بخفيه فخلعتا من رجليه وملئتا مالاً وقال‏:‏ ارجع بها بدلاً من خفي حنين‏.‏

فقال فيه لما عزل عن مصر وولي مكانه يزيد بن أسيد‏.‏

بكى أهل مصر بالدموع السواجم غداة غدا منها الأغر ابن حاتم وفيها يقول‏:‏ لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر ابن حاتم فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم وخرج إليه رجل من الشعراء يمدحه فلما بلغ مصر وجده قد مات فقال فيه‏:‏ فما كل ما يخشى الفتى بمصيبه ولا كل ما يرجو الفتى هو نائل وما كان بيني لو لقيتك سالماً وبين الغنى إلا ليال قلائل أبو دلف واسمه القاسم بن إسماعيل وفيه يقول علي بن جبلة‏:‏ إنما الدنيا أبو دلف بين مبداه ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره وقال فيه رجل من شعراء الكوفة‏:‏ الله أجرى من الأرزاق أكثرها على العباد على كفى أبي دلف بارى الرياح فأعطى وهي جارية حتى إذا وقفت أعطى ولم يقف ما خط لا كاتباه في صحيفته يوماً كما خط لا في سائر الصحف فأعطاه ثلاثين ألفاً‏.‏

ومدحه آخر فقال له‏:‏ يشبهه الرعد إذا الرعد رجف كأنه البرق إذا البرق خطل إن سار سار المجد أو حل وقف انظر بعينيك إلى أسنى الشرف هل ناله بقدرة أو بكلف خلق من الناس سوى أبي دلف فأعطاه خمسين ألفاً‏.‏