فصل: وفود جرير على عبد الملك بن مروان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العقد الفريد **


  وفود الأحنف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه المدائني

قال‏:‏ قدم الأحنف بن قيس التميمي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أهل البصرة وأهل الكوفة فتكلموا عنده في أنفسهم وما ينوب كل واحد منهم وتكلم الأحنف فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن مفاتيح الخير بيد الله وقد أتتك وفود أهل العراق وإن إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازل الأمم الخالية والملوك الجبابرة ومنازل كسرى وقيصر وبني الأصفر فهم من المياه العذبة والجنان المخصبة في مثل حولاء السلى وحدقة البعير تأتيهم ثمارهم غضة لم تتغير وإنا نزلنا أرضاً نشاشة طرف في فلاة وطرف في ملح أجاج جانب منها منابت القصب وجانب سبخة نشاشة لا يجف ترابها ولا ينبت مرعاها تأتينا منافعها في مثل مريء النعامة يخرج الرجل الضعيف منا يستعذب الماء من فرسخين وتخرج المرأة بمثل ذلك ترنق ولدها ترنيق العنز تخاف عليه العدو والسبع فإلا ترفع خسيستنا وتنعش ركيستنا وتجبر فاقتنا وتزيد في عيالنا عيالاً وفي رجالنا رجالاً وتصفر درهمنا وتكبر قفيزنا وتأمر لنا بحفر نهر نستعذب به الماء هلكنا‏.‏

قال عمر‏:‏ هذا والله السيد‏!‏ هذا والله السيد‏!‏ قال الأحنف‏:‏ فما زلت أسمعها بعدها‏.‏

فأراد زيد بن جبلة أن يضع منه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه ليس هناك وأمه باهلية‏.‏

قال عمر‏:‏ هو خير منك إن كان صادقاً‏.‏

يريد إن كانت له نية‏.‏

فقال الأحنف‏:‏ أنا ابن الباهلية أرضعتني بثدي لا أجد ولا وخيم أغض على القذى أجفان عيني إذا شر السفيه إلى الحليم قال‏:‏ فرجع الوفد واحتبس الأحنف عنده حولاً وأشهراً ثم قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرنا كل منافق صنع اللسان وإني خفتك فاحتبستك فلم يبلغني عنك إلا خير رأيت لك جولاً ومعقولاً فارجع إلى منزلك واتق الله ربك‏.‏

وكتب إلى أبي موسى الأشعري‏:‏ أن يحتفر لهم نهراً‏.‏

على عمر بن الخطاب رضي الله عنه العتبي عن أبيه قال‏:‏ وفد الأحنف وعمرو بن الأهتم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأراد أن يقرع بينهما في الرياسة فلما اجتمعت بنو تميم قال الأحنف‏:‏ ثوى قدح عن قومه طالما ثوى فلما أتاهم قال قوموا تناجزوا فقال عمرو بن الأهتم‏:‏ إنا كنا وأنتم في دار جاهلية فكان الفضل فيها لمن جهل فسفكنا دماءكم وسبينا نساءكم وإنا اليوم في دار الإسلام والفضل فيها لمن حلم فغفر الله لنا ولك‏.‏

قال‏:‏ فغلب يومئذ عمرو بن الأهتم على الأحنف ووقعت القرعة لآل الأهتم‏.‏

فقال عمرو بن الأهتم‏:‏ لما دعتني للرياسة منقر لدى مجلس أضحى به النجم باديا شددت لها أزري وقد كنت قبلها لأمثالها مما أشد إزاريا وعمرو بن الأهتم‏:‏ هو الذي تكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الزبرقان فقال عمرو‏:‏ مطاع في أدنيه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره‏.‏

فقال الزبرقان‏:‏ والله يا رسول الله إنه ليعلم مني أكثر مما قال ولكن حسدني قال‏:‏ أما والله يا رسول الله إنه لزمر المروءة ضيق العطن أحمق الولد لئيم الخال والله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى رضيت عن ابن عمي فقلت أحسن ما علمت ولم أكذب وسخطت عليه فقلت أقبح ما علمت ولم أكذب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن من البيان لسحراً‏.‏

  وفود عمرو بن معد يكرب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه

إذ أوفده سعد لما فتحت القادسية على يدي سعد بن أبي وقاص أبلى فيها عمرو بن معد يكرب بلاء حسناً فأوفده سعد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكتب إليه معه بالفتح وأثنى في الكتاب على عمرو‏.‏

فلما قدم على عمر بن الخطاب سأله عنه سعد فقال‏:‏ أعرابي في نمرته أسد في تأمورته نبطي في جبايته يقسم بالسوية ويعدل في القضية وينفر في السرية وينقل إلينا حقنا نقل الذرة‏.‏

فقال عمر‏:‏ لشد ما تقارضتما الثناء‏.‏

وكان عمر قد كتب إلى سعد يوم القادسية أن يعطى الناس على قدر ما معهم من القرآن‏.‏

فقال سعد لعمرو بن معد يكرب‏:‏ ما معك من القرآن قال‏:‏ ما معي شيء قال‏:‏ إن أمير المؤمنين كتب إلي أن أعطي الناس على قدر ما معهم من القرآن فقال عمرو‏:‏ إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد قالت قريش ألا تلك المقادير نعطى السوية من طعن له نفذ ولا سوية إذ نعطى الدنانير وفود أهل اليمامة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفد أهل اليمامة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد إيقاع خالد بهم وقتله مسيلمة الكذاب فقال لهم أبو بكر‏:‏ ما كان يقول صاحبكم قالوا‏:‏ أعفنا يا خليفة رسول الله قال‏:‏ لا بد أن تقولوا قالوا‏:‏ كان يقول‏:‏ يا ضفدع كم تنقين لا الشراب تمنعين ولا الماء تكدرين لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريش قوم لا يعدلون‏.‏

فقال لهم أبو بكر‏:‏ وحيكم‏!‏ ما خرج هذا من إل ولا بر فأين ذهب بكم قال أبو عبيد‏:‏ الإل‏:‏ الله تعالى‏.‏

والبر‏:‏ الرجل الصالح‏.‏

  وفود عمرو بن معد يكرب على مجاشع بن مسعود

وفد عمرو بن معد يكرب الزبيدي على مجاشع بن مسعود السلمي - وكانت بين عمرو وبين سليم حروب في الجاهلية - فقدم عليه البصرة يسأله الصلة فقال‏:‏ اذكر حاجتك فقال له‏:‏ حاجتي صلة مثلي‏.‏

فأعطاه عشرة آلاف درهم وفرساً من بنات الغبراء وسيفاً جرازاً ودرعاً حصينة وغلاماً خبازاً‏.‏

فلما خرج من عنده قال له أهل المجلس‏:‏ كيف وجدت صاحبك قال‏:‏ لله در بني سليم ما أشد في الهيجاء لقاءها وأكرم في اللأواء عطاءها وأثبت في المكرمات بناءها والله يا بني سليم لقد قاتلناكم في الجاهلية فما أجبناكم ولقد هاجيناكم فما أقحمناكم وقد سألناكم فما أبخلناكم‏.‏

فلله مسؤولاً نوالاً ونائلاً وصاحب هيج يوم هيج مجاشع الوفود على معاوية وفود الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه أبو بكر بن أبي شيبة قال‏:‏ وفد الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية بعد عام الجماعة فقال له معاوية والله لأحبونك بجائزة ما أجزت بها أحداً قبلك ولا أجيز بها أحداً بعدك فأمر بمائة ألف‏.‏

وفي بعض الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته فاطمة فوجد الحسن طفلاً يلعب بين يديها فقال لها‏:‏ إن الله تعالى سيصلح على يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين‏.‏

على معاوية رحمه الله العتبي قال‏:‏ قدم زيد بن منية على معاوية من البصرة - وهو أخو يعلى بن منية صاحب جمل عائشة ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة وكان عتبة بن أبي سفيان قد تزوج يعلى بن منية - فلما دخل على معاوية شكا إليه ديناً لزمه فقال‏:‏ يا كعب أعطه ثلاثين ألفاً فلما ولى قال‏:‏ وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى‏:‏ ثم قال له‏:‏ الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم عليه مصر فقال‏:‏ إن سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف ألبس أردية الليل مرة وأخوض في لجج السراب أخرى موقراً من حسن الظن بك وهارباً من دهر قطم ودين لزم بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين فلم أجد إلا إليك مهربا وعليك معولاً فقال عتبة‏:‏ مرحباً بك وأهلاً إن الدهر أعاركم غنى وخلطكم بنا ثم استرد ما أمكنه أخذه وقد أبقى لكم منا ما لا ضيعة معه وأنا واضع يدي ويدك بيد الله‏.‏

فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية رحمه الله‏.‏

  وفود عبد العزيز بن زرارة على معاوية رحمه الله

وفد عبد العزيز بن زرارة على معاوية وهو سيد أهل الكوفة فلما أذن له وقف بين يديه وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لم أزل أهز ذوائب الرحال إليك إذ لم أجد معولاً إلا عليك أمتطي الليل بعد النهار وأسم المجاهل بالآثار يقودني إليك أمل وتسوقني بلوى والمجتهد يعذر وإذ بلغتك فقطني‏.‏

فقال معاوية‏:‏ احطط عن راحتك رحلها‏.‏

وخرج عبد العزيز بن زرارة مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة فهلك هناك فكتب به يزيد بن معاوية إلى معاوية فقال لزرارة‏:‏ أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب قال زرارة‏:‏ يا أمير المؤمنين هو ابني أو ابنك قال‏:‏ بل ابنك قال‏:‏ للموت ما تلد الوالدة‏.‏

أخذ سابق البريري فقال‏:‏ وللموت تغدو الوالدات سخالها كما لخراب الدار تبنى المساكن وقال آخر‏:‏ للموت يولد منا كل مولود لا شيء يبقى ولا يفنى بموجود وفود عبد الله جعفر على يزيد بن معاوية المدائني قال‏:‏ قدم عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية‏.‏

فقال له‏:‏ كم كان عطاؤك فقال له‏:‏ ألف ألف قال‏:‏ قد أضعفاناها لك قال‏:‏ فداك أبي وأمي وما قلتها لأحد قبلك قال‏:‏ أضعفناها لك ثانية‏.‏

فقيل ليزيد‏:‏ أتعطي رجلاً واحداً أربعة آلاف ألف‏!‏ فقال‏:‏ ويحكم‏!‏ إنما أعطيتها أهل المدينة أجمعين فما يده فيها إلا عارية‏.‏

فلما كان في السنة الثانية قدم عبد الله بن جعفر وقدم مولى له يقال له نافع كانت له منزلة من يزيد بن معاوية‏.‏

قال نافع‏:‏ فلما قدمنا عليه أمر لعبد الله بن جعفر بألف ألف وقضى عنه ألف ألف ثم نظر إلي فتبسم فقلت‏:‏ هذه لتلك الليلة‏.‏

وكنت سامرته ليلة في خلافة معاوية وأسمعته فيها فذكرته بها‏.‏

وقدمت عليه هدايا من مصر كثيرة فأمر بها لعبد الله بن جعفر وكان له مائة ناقة فقلت لابن جعفر‏:‏ لو سألته منها شيئاً نحتلبه في طريقنا ففعل فأمر بصرفها كلها إليه‏.‏

فلما أراد الوداع أرسل إلي فدخلت عليه فقال‏:‏ ويلك‏!‏ إنما أخترك لأتفرغ إليك هات قول جميل‏:‏ خليلي فيما عشتما هل رأيتما قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي قال‏:‏ فأسمعته‏!‏ فقال‏:‏ أحسنت والله هات حاجتك‏.‏

فما سألته شيئاً إلا أعطانيه فقال‏:‏ إن يصلح الله هذا الأمر من قبل ابن الزبير تلقنا بالمدينة فإن هذا لا يحسن إلا هناك‏.‏

فمنع والله من ذلك شؤم ابن الزبير‏.‏

  الوفود على عبد الملك بن مروان

وفود عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان قال بديح‏:‏ وفد عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وكان زوج ابنته أم كلثوم من الحجاج على ألفي ألف في السر وخمسمائة في العلانية وحملها إليه إلى العراق فمكثت عنده ثمانية أشهر‏.‏

قال بديح‏:‏ فلما خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان خرجنا معه حتى دخلنا دمشق فإنا لنحط رحالنا إذ جاءنا الوليد بن عبد الملك على بغلة وردة ومعه الناس فقلنا‏:‏ جاء إلى ابن جعفر ليحييه ويدعوه إلى منزله‏.‏

فاستقبله ابن جعفر بالترحيب فقال له‏:‏ لكن أنت لا مرحباً بك ولا أهلاً مهلاً يا بن أخي فلست أهلاً لهذه المقالة منك قال‏:‏ بلى ولشر منها قال‏:‏ وفيم ذلك قال‏:‏ إنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب وسيدة بني عبد مناف ففرشتها عبد ثقيف يتفخذها قال‏:‏ وفي هذا عتب علي يا بن أخي قال‏:‏ وما أكثر من هذا قال‏:‏ والله إن أحق الناس أن لا يلومني في هذا لأنت وأبوك إن كان من قبلكم من الولاة ليصلون رحمي ويعرفون حقي وإنك وأباك منعتماني ما عندكما حتى ركبني من الدين ما والله لو أن عبداً مجدعاً حبشياً أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوجتها فإنما فديت بها رقبتي من النار‏.‏

قال‏:‏ فما راجعه كلمة حتى عطف عنانه ومضى حتى دخل على عبد الملك - وكان الوليد إذا غضب عرف ذلك في وجهه - فلما رآه عبد الملك قال‏:‏ مالك أبا العباس قال‏:‏ إنك سلطت عبد ثقيف وملكته ورفعته حتى تفخذ نساء عبد مناف وأدركته الغير‏.‏

فكتب عبد الملك إلى الحجاج يعزم عليه أن لا يضع كتابه من يده حتى يطلقها‏.‏

فما قطع الحجاج عنها رزقاً ولا كرامة يجريها عليها حتى خرجت من الدنيا‏.‏

قال‏:‏ وما زال واصلاً لعبد الله بن جعفر حتى هلك‏.‏

قال بديح‏:‏ فما كان يأتي علينا هلال إلا وعندنا عير مقبلة من الحجاج عليها لطف وكسوة وميرة حتى لحق عبد الله بن جعفر بالله‏.‏

ثم استأذن ابن جعفر على عبد الملك فلما دخل عليه استقبله عبد الملك بالترحيب ثم أخذ بيده فأجلسه معه على سريره ثم سأله فألطف المسألة حتى سأله عن مظعمه ومشربه فلما انقضت مسألته قال له يحيى بن الحكم‏:‏ أمن خبيثة كان وجهك أبا جعفر قال‏:‏ وما خبيثة قال‏:‏ أرضك التي جئت منها قال‏:‏ سبحان الله‏!‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميها طيبة وتسميها خبيثة‏!‏ لقد اختلفتما في الدنيا وأظنكما في الآخرة مختلفين‏.‏

فلما خرج من عنده هيأ له ابن جعفر هدايا وألطافاً‏.‏

فقلت لبديح‏:‏ ما قيمة ذلك قال‏:‏ قيمته مائة ألف من وصفاء ووصائف وكسوة وحرير ولطف من لطف الحجاز‏.‏

قال‏:‏ فبعثني بها فدخلت عليه وليس عنده أحد فجعلت أعرض عليه شيئاً شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فما رأيت مثل إعظامه لكل ما عرضت عليه من ذلك وجعل يقول كلما أريته شيئاً‏:‏ عافى الله أبا جعفر ما رأيت كاليوم وما كنا نريد أن يتكلف لنا شيئاً من هذا وإن كنا لمتذممين محتشمين‏.‏

قال‏:‏ فخرجت من عنده وإذن لأصحابه فوالله لبينا أنا أحدثه عن تعجب عبد الملك وإعظامه لما أهدى إليه إذا بفارس قد أقبل علينا فقال‏:‏ أبا جعفر إن أمير المؤمنين يقرأ السلام عليك ويقول لك‏:‏ جمعت لنا وخش رقيق الحجاز أباقهم وحبست عنا فلانة فابعث بها إلينا - وذلك أنه حين دخل عليه أصحابه جعل يحدثهم عن هدايا ابن جعفر ويعظمها عندهم فقال له يحيى بن الحكم‏:‏ وماذا أهدى إليك ابن جعفر جمع لك وخش رقيق الحجاز وأباقهم وحبس عنك فلانة قال‏:‏ ويلك‏!‏ وما فلانة هذه قال‏:‏ ما لم يسمع والله أحد بمثلها قط جمالاً وكمالاً وخلقاً وأدباً لو أراد كرامتك بعث بها إليك قال‏:‏ وأين تراها وأين تكون قال‏:‏ هي والله معه وهي نفسه التي بين جنبيه - فلما قال الرسول ما قال وكان ابن جعفر في أذنه بعض الوقر إذا سمع ما يكره تصام فأقبل علي فقال‏:‏ ما يقول بديح قال‏:‏ قلت‏:‏ فإن أمير المؤمنين يقرأ السلام ويقول‏:‏ إنه جاءني بريد من ثغر كذا يقول‏:‏ إن الله نصر المسلمين وأعزهم قال‏:‏ اقرأ أمير المؤمنين السلام وقل له‏:‏ أعز الله نصرك وكبت عدوك فقال الرسول‏:‏ يا أبا جعفر إني لست أقول هذا وأعاد مقالته الأولى‏.‏

فسألني فصرفته إلى وجه آخر فأقبل علي الرسول فقال‏:‏ يا ماص أبرسل أمير المؤمنين تهكم وعن أمير المؤمنين تجيب هذا الجواب قال‏:‏ والله لأطلن دمك فانصرف‏.‏

وأقبل علي ابن جعفر فقال‏:‏ من ترى صاحبنا قال‏:‏ صاحبك بالأمس قال‏:‏ أظنه فما الرأي عندك قلت‏:‏ يا أبا جعفر قد تكلفت له ما تكلفت فإن منعتها إياه جعلتها سبباً لمنعك ولو طلب أمير المؤمنين إحدى بناتك ما كنت أرى أن تمنعها إياه قال‏:‏ ادعها لي‏.‏

فلما أقبلت رحب بها ثم أجلسها إلى جنبه ثم قال‏:‏ أما والله ما كنت أظن أن يفرق بيني وبينك إلا الموت قالت‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ إنه حدث أمر وليس والله كائناً فيه إلا ما أحببت جاء الدهر فيه بما جاء قالت‏:‏ وما هو قال‏:‏ إن أمير المؤمنين بعث يطلبك فإن تهوين فذاك وإلا والله لا يكون أبداً قالت‏:‏ ما شيء لك فيه هوى ولا أظن فيه فرجاً عنك إلا فديته بنفسي وأرسلت عينيها بالبكاء فقال لها‏:‏ أما إذا فعلت فلا ترين مكروهاً فمسحت عينيها وأشار إلي فقال‏:‏ ويحك يا بديح‏!‏ استحثها قبل أن تتقدم إلي من القوم بادرة‏.‏

قال‏:‏ ودعا بأربع وصائف ودعا من صاحب نفقته بخمسمائة دينار ودعا مولاة له كانت تلي طيبه فدحست لها ربعة عظيمة مملوءة طيباً ثم قال‏:‏ عجلها ويلك‏!‏ فخرجت أسوقها حتى انتهيت إلى الباب وإذا الفارس قد بلغ عني فما تركني الحجاب أن تمس رجلاي الأرض حتى أدخلت على عبد الملك وهو يتلظى فقال لي‏:‏ يا ماص‏!‏ وكذا أنت المجيب عن أمير المؤمنين والمتهكم برسله قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ائذن لي أتكلم قال‏:‏ وما تقول يا كذا وكذا قلت‏:‏ ائذن لي يجعلني الله فداك أتكلم قال‏:‏ تكلم قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أنا أصغر شأناً وأقل خطراً من أن يبلغ كلامي من أمير المؤمنين ما أرى وهل أنا إلا عبد من عبيد أمير المؤمنين نعم قد قلت ما بلغك وقد يعلم أمير المؤمنين أنا إنما نعيش في كنف هذا الشيخ وأن الله لم يزل إليه محسناً فجاءه من قبلك شيء ما أتاه قط مثله إنما طلبت نفسه التي بين جنبيه فأجبت بما بلغك لأسهل الأمر عليه ثم سألني فأخبرته واستشارني فأشرت عليه وها هي ذه قد جئتك بها قال‏:‏ أدخلها ويلك‏!‏ قال‏:‏ فأدخلتها عليه وعنده مسلمة ابنه غلام ما رأيت مثله ولا أجمل منه حين اخضر شاربه فلما جلست وكلها أعجب بكلامها فقال‏:‏ لله أبوك‏!‏ أمسكك لنفسي أحب إليك أم أهبك لهذا الغلام فإنه ابن أمير المؤمنين قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين لست لك بحقيقة وعسى أن يكون هذا الغلام لي وجهاً قال‏:‏ فقام من مكانه ما راجعها فدخل وأقبل عليها مسلمة يالكاع أعلى أمير المؤمنين تختارين قالت‏:‏ يا عدو نفسه إنما تلومني أن اخترتك‏!‏ لعمر الله لقد قال‏:‏ رأي من اختارتك‏.‏

قال‏:‏ فضيقت والله مجلسه واطلع علينا عبد الملك قد ادهن بدهن وارى الشيب وعليه حلة تتلألأ كأنها الذهب بيده مخصرة يخطر بها فجلس مجلسه على سريره ثم قال‏:‏ إيها‏!‏ لله أبوك‏!‏ أمسكك لنفسي أحب لك أم أهبك لهذا الغلام قالت‏:‏ ومن أنت أصلحك الله قال لها الخصي‏:‏ هذا أمير المؤمنين قالت‏:‏ لست مختارة على أمير المؤمنين أحداً قال‏:‏ فأين قولك آنفاً قالت‏:‏ رأيت شيخاً كبيراً وأرى أمير المؤمنين أشب الناس وأجملهم ولست مختارة عليه أحداً قال‏:‏ دونكها يا مسلمة‏.‏

قال بديح‏:‏ فنشرت عليه الكسوة والدنانير التي معي وأريته الجواري والطيب قال‏:‏ عافى الله ابن جعفر أخشي أن لا يكون لها عندنا نفقة وطيب وكسوة فقلت‏:‏ بلى ولكن أحب أن يكون معها ما تكتفي به حتى تستأنس‏.‏

قال‏:‏ فقبضها مسلمة‏.‏

فلم تلبث عنده إلا يسيراً حتى هلكت‏.‏

قال بديح‏:‏ فوالله الذي ذهب بنفس مسلمة ما جلست معه مجلساً ولا وقفت موقفاً أنازعه فيه الحديث إلا قال‏:‏ أبغني مثل فلانة فأقول‏:‏ أبغني مثل ابن جعفر‏.‏

قال‏:‏ فقلت لبديح‏:‏ ويلك‏!‏ فما أجازه به قال‏:‏ قال‏:‏ حين دفع إليه حاجته ودينه لأجيزنك جائزة لو نشر لي مروان من قبره ما زدته عليها فأمر له بمائة ألف وأيم الله إني لا أحسبه أنفق في هديته ومسيره ذلك وجاريته التي كانت عدل نفسه مائتي ألف‏.‏

على عبد الملك بن مروان كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف‏:‏ أن ابعث رجلاً يصلح للدين وللدنيا أتخذه سميراً وجليساً وخلياً فقال الحجاج‏:‏ ما له إلا عامر الشعبي وبعث به إليه‏.‏

فلما دخل عليه وجده قد كبامهتماً فقال‏:‏ ما بال أمير المؤمنين قال‏:‏ ذكرت قول زهير‏:‏ كأني وقد جاوزت تسعين حجة خلعت بها عني عذار لجامي رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى فكيف بمن يرمى وليس برامي فلو أنني أرمى بنبل رأيتها ولكنني أرمى بغير سهام على الراحتين تارة وعلى العصا أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي قال له الشعبي‏:‏ ليس كذلك يا أمير المؤمنين ولكن كما قال لبيد بن ربيعة وقد بلغ سبعين حجة‏:‏ كأني وقد جاوزت سبعين حجة خلصت بها عن منكبي ردائياً ولما بلغ سبعاً وسبعين سنة قال‏:‏ بانت تشكي إلى النفس موهنة وقد حملتك سبعاً بعد سبعيناً فإن تزادي ثلاثاً تبلغي أملاً وفي الثلاث وفاء للثمانيناً وقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد ولما بلغ عشراً ومائة قال‏:‏ أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع أخبر أخبار القرون التي خلت أنوء كأني كلما قمت راكع ولما بلغ ثلاثين ومائة وحضرته الوفاة قال‏:‏ تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر فقوما فقولا بالذي تعلمانه ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر وقولا هو المرء الذي لا صديقه أضاع ولا خان الخليل ولا غدر إلى سنة ثم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر قال الشعبي‏:‏ فلقد رأيت السرور في وجه عبد الملك طمعاً أن يعيشها‏.‏

  وفود الحجاج بإبراهيم بن محمد بن طلحة على عبد الملك بن مروان

عمران بن عبد العزيز قال‏:‏ لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتله ابن الزبير استخلص إبراهيم بن محمد بن طلحة فقربه وعظم منزلته فلم تزل حاله عنده حتى خرج إلى عبد الملك بن مروان فخرج معه معادلاً لا يقصر له في بر ولا إعظام حتى حضر به عبد الملك فلما دخل عليه لم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن قال له‏:‏ قدمت عليك أمير المؤمنين برجل الحجاز لم أدع له بها نظيراً في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قد الأبوة وما بلوت منه في الطاعة والنصيحة وحسن الموازرة وهو إبراهيم بن محمد بن طلحة وقد أحضرته بابك ليسهل عليه إذنك وتعرف له ما عرفتك فقال‏:‏ أذكرتنا رحماً قريبة وحقاً واجباً يا غلام ائذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة فلما دخل عليه أدناه عبد الملك حتى أجلسه على فراشه ثم قال له‏:‏ يا بن طلحة إن أبا محمد ذكرنا ما لم نزل نعرفك به في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قدر الأبوة وما بلاه منك في الطاعة والنصيحة وحسن الوازرة فلا تدعن حاجة عن خاصة نفسك وعامتك إلا ذكرتها فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن أول الحوائج وأحق ما قدم بين يدي الأمور ما كان لله فيه رضا ولحق نبيه صلى الله عليه وسلم أداء ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة وعندي نصيحة لا أجد بداً من ذكرها ولا أقدر على ذلك إلا وأنا خال فأخلني يا أمير المؤمنين ترد عليك نصيحتي قال‏:‏ دون أبي محمد قال‏:‏ نعم دون أبي محمد‏.‏

قال عبد الملك للحجاج‏:‏ قم‏.‏

فلما خطرف الستر أقبل علي فقال‏:‏ يا بن طلحة قل نصيحتك فقال‏:‏ تالله يا أمير المؤمنين لقد عمدت إلى الحجاج في تغطرسه وتعجرفه وبعده من الحق وقربه من الباطل فوليته الحرمين وهما ما هما وبهما ما بهما من المهاجرين والأنصار والموالي الأخيار يطؤهم بطغام أهل الشام ورعاع لا روية لهم في إقامة حق ولا في إزاحة باطل ويسومهم الخسف ويحكم فيهم بغير السنة بعد الذي كان من سفك دمائهم وما انتهك من حرمهم ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله زاهق وفيما بينك وبين نبيك غداً إذا جاثاك للخصومة بين يدي الله في أمته أما والله لا تنجو هنالك إلا بحجة فاربع على نفسك أودع‏.‏

فقال له عبد الملك‏:‏ كذبت ومنت وظن بك الحجاج ما لم يجده فيك وقد يظن الخير بغير أهله قم فأنت الكاذب المائن‏.‏

قال‏:‏ فقمت وما أعرف طريقاً فلما خطرف الستر لحقني لاحق فقال‏:‏ احبسوا هذا وقال للحجاج‏:‏ ادخل فدخل فمكث ملياً من النهار لا أشك أنهما في أمري ثم خرج الآذن فقال‏:‏ ادخل يا بن طلحة فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج وهو خارج وأنا داخل فاعتنقني وقبل ما بين عيني وقال‏:‏ أما إذا جزى الله المتواخيين خيراً تواصلهم فجزاك الله عني أفضل الجزاء فوالله لئن سلمت لك لأرفعن ناظرك ولأعلين كعبك ولأتبعن الرجال غبار قدميك قال‏:‏ قلت‏:‏ يهزأ بي وحق الكعبة‏.‏

فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أدناني عن مجلسي الأول ثم قال‏:‏ يا بن طلحة لعل أحداً شاركك في نصيحتك هذه قلت‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما أعلم أحداً أنصع عندي يداً ولا أعظم معروفاً من الحجاج ولو كنت محابياً أحداً لغرض دنيا لحابيته ولكني آثرت الله ورسوله وآثرتك والمؤمنين عليه قال‏:‏ قد علمت أنك لم ترد الدنيا ولو أردتها لكانت لك في الحجاج ولكن أردت الله والدار الآخرة وقد عزلته عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استقلالاً لهما ووليته العراقين وما هنالك من الأمور التي لا يدحضها إلا مثله وأعلمته أنك استدعيتني إلى ولايته عليهما استزادة له لألزمه بذلك من حقك ما يؤدي إليك عني أجر نصيحتك فاخرج معه فإنك غير ذام لصحبته‏.‏

فخرجت مع الحجاج وأكرمني أضعاف إكرامه‏.‏

  وفود رسول المهلب على الحجاج

بقتل الأزارقة أبو الحسن المدائني قال‏:‏ لما هزم المهلب بن أبي صفرة قطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة بعث إلى مالك بن بشير فقال له‏:‏ إني موفدك إلى الحجاج فسر فإنما هو رجل مثل وبعث إليه بجائزة فردها وقال‏:‏ إنما الجائزة بعد الاستحقاق وتوجه‏.‏

فلما دخل إلى الحجاج قال له ما اسمك قال‏:‏ مالك بن بشير قال‏:‏ ملك وبشارة كيف تركت المهلب قال‏:‏ أدرك ما أمل وأمن من خاف قال‏:‏ كيف هو بجنده قال‏:‏ والد رءوف قال‏:‏ فكيف جنده له قال أولاد بررة قال‏:‏ كيف رضاهم عنه قال‏:‏ وسعهم بالفضل وأقنعهم بالعدل قال‏:‏ فكيف تصنعون إذا لقيتم عدوكم قال‏:‏ نلقاهم بحدنا فنطمع فيهم ويلقوننا بحدهم فيطعمون فينا قال‏:‏ كذلك الحد إذا لقي الحد قال‏:‏ فما حال قطري قال‏:‏ كادنا ببعض ما كدناه قال‏:‏ فما منعكم من إتباعه قال‏:‏ رأينا المقام من ورائه خيراً من إتباعه قال‏:‏ فأخبرني عن ولد المهل قال‏:‏ أعباء القتال بالليل حماة السرح بالنهار قال‏:‏ أيهما أفضل قال‏:‏ ذلك إلى أبيهم قال‏:‏ لتقولن قال‏:‏ هم كحلقة مضروبة لا يعرف طرفاها قال‏:‏ أقسمت عليك هل روأت في هذا الكلام قال‏:‏ ما أطلع الله على غيبة أحداً فقال الحجاج لجلسائه‏:‏ هذا والله الكلام المطبوع لا الكلام المصنوع‏.‏

  وفود جرير على عبد الملك بن مروان

لما مدح جرير بن الخطفي الحجاج بن يوسف بشعره الذي يقول فيه‏:‏ أم من يغار على النساء حفيظة إذ لا يثقن بغيرة الأزواج وقوله‏:‏ دعا الحجاج مثل دعاء نوح فأسمع ذا المعارج فاستجابا قال له الحجاج‏:‏ إن الطاقة تعجز عن المكافأة ولكني موفدك على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فسر إليه بكتابي هذا‏.‏

فسار إليه ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له فقال‏:‏ أتصحو بل فؤادك غير صاحي قال له عبد الملك‏:‏ بل فؤادك‏.‏

فلما انتهى إلى قوله‏:‏ تعزت أم حزرة ثم قالت رأيت الواردين ذوي امتياح ثقي بالله ليس له شريك ومن عند الخليفة بالنجاح سأشكر إن رددت إلي ريشي وأثبت القوادم في جناحي ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح ارتاح عبد الملك وكان متكئاً فاستوى جالساً ثم قال‏:‏ من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت ثم قال له‏:‏ يا جرير أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة من نعم كلب قال‏:‏ إذا لم تروها يا أمير المؤمنين فلا أرواها الله‏.‏

فأمر له بمائة ناقة من نعم كلب كلها سود الحدقة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنها أباق ونحن مشايخ وليس بأحدنا فضل عن راحلته فلو أمرت بالرعاء فأمر له بثمانية من الرعاء‏.‏

وكانت بين يدي عبد الملك صحاف من فضة يقرعها بقضيب في يده فقال له جرير‏:‏ والمحلب يا أمير المؤمنين وأشار إلى صحفة منها فنبذها إليه بالقضيب وقال‏:‏ خذها لا نفعتك‏.‏

ففي ذلك يقول جرير‏:‏ أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا شرف الوفود على عمر بن عبد العزيز وفود جرير عن أهل الحجاز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قدم جرير بن الخطفي على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن أهل الحجاز فاستأذنه في الشعر فقال‏:‏ ما لي وللشعر يا جرير إني لفي شغل عنه قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنها رسالة عن أهل الحجاز قال‏:‏ فهاتها إذاً فقال‏:‏ كم من ضرير أمير المؤمنين لدى أهل الحجاز دهاه البؤس والضرر أصابت السنة الشهباء ما ملكت يمينه فحناه الجهد والكبر ومن قطيع الحشا عاشت مخبأة ما كانت الشمس تلقاها ولا القمر لما اجتلتها صروف الدهر كارهة قامت تنادي بأعلى الصوت يا عمر وفود دكين الراجز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال دكين بن رجاء الفقيمي الراجز‏:‏ مدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم صعاباً فكرهت أن أرمي بها الفجاج فتنشر علي ولم تطب نفسي ببيعها فقدمت علينا رفقة من مضر فسألتهم الصحبة فقالوا‏:‏ إن خرجت الليلة فقلت‏:‏ إني لم أودع الأمير ولا بد من وداعه قالوا‏:‏ فإن الأمير لا يحجب عن طارق ليل فاستأذنت عليه فأذن لي وعنده شيخان لا أعرفهما فقال لي‏:‏ يا دكين إن لي نفساً تواقة فإن أنا صرت إلى أكثر مما أنا في فبعين ما أرينك قلت‏:‏ أشهد لي بذلك أيها الأمير قال‏:‏ إني أشهد الله قلت‏:‏ ومن خلقه قال‏:‏ هذين الشيخين قلت لأحدهما‏:‏ من أنت يرحمك الله أعرفك قال‏:‏ سالم بن عبد الله فقلت‏:‏ لقد استسمنت الشاهد وقلت للآخر‏:‏ من أنت يرحمك الله قال‏:‏ أبو يحيى مولى الأمير وكان مزاحم يكنى أبا يحيى‏.‏

قال دكين‏:‏ فخرجت بهن إلى بلدي فرمى الله في أذنابهن بالبركة حتى اتخذت منهن الضياع والربع والغلمان فإني لبصحراء فلج إذا بريد يركض إلى الشام فقلت له‏:‏ هل من مغربة خبر قال‏:‏ مات سليمان بن عبد الملك قلت‏:‏ فمن القائم بعده قال‏:‏ عمر بن عبد العزيز‏.‏

قال‏:‏ فأنخت قلوصي فألقيت عليها أداتي وتوجهت عنده فلقيت جريراً في الطريق جائياً من عنده فقلت‏:‏ من أيا أبا حزرة قال‏:‏ من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء قلت‏:‏ فما ترى فإني خرجت إليه قال‏:‏ عول عليه في مال ابن السبيل كما فعلت‏.‏

فانطلقت فوجدته قاعداً على كرسي في عرصة داره قد أحاط الناس به لم أجد إليه يا عمر الخيرات والمكارم وعمر الدسائع العظائم إني امرؤ من قطن بن دارم أطلب حاجي من أخي مكارم إذ ننتجي والله غير نائم في ظلمة الليل وليلي عاتم عند أبي يحيى وعند سالم فقام أبو يحيى ففرج لي وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن لهذا البدوي عندي شهادة عليك قال‏:‏ أعرفها ادن مني يا دكين أنا كما ذكرت لك أن لي نفساً تواقة وأن نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدنيا فلما أدركتها وجدتها تتوق إلى الآخرة والله ما رزأت من أمور الناس شيئاً فأعطيك منه وما عندي إلا ألفا درهم أعطيك أحدهما فأمر لي بألف درهم‏.‏

فوالله ما رأيت ألفاً كانت أعظم بركة منها‏.‏

  وفود كثير والأحوص على عمر بن العزيز رضي الله عنه

حماد الراوية قال‏:‏ قال لي كثير عزة‏:‏ ألا أخبرك عما دعاني إلى ترك الشعر قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكل واحد منا يدل عليه بسابقة وإخاء قديم ونحن لا نشك أنه سيشر كنا في خلافته فلما رفعت لنا أعلام خناصرة لقينا مسلمة بن عبد الملك وهو يومئذ فتى العرب فسلمنا فرد ثم قال‏:‏ أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر قلنا ما توضح إلينا خبر حتى انتهينا إليك ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا فقال‏:‏ إن يك ذو دين بنى مروان قد ولي وخشيتم حرمانه فإن ذا دنياها قد بقي ولكم عندي ما تحبون وما ألبث حتى أرجع إليكم وأمنحكم ما أنتم أهله‏.‏

فلما قدم كانت رحالنا عنده بأكرم منزل وأكرم منزول عليه فأقمنا عنده أربعة أشهر يطلب لنا الإذن هو وغيره فلا يؤذن لنا إلى أن قلت في جمعة من تلك الجمع‏:‏ لو أني دنوت من عمر فسمعت كلامه فحفظته كان ذلك رأيا ففعلت‏.‏

فكان مما حفظت من كلامه‏:‏ لكل سفر زاد لا محالة فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه أو عقابه فترغبوا وترهبوا ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم في كلام كثير لا أحفظه‏.‏

ثم قال‏:‏ أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عيلتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق‏.‏

ثم بكى حتى ظننت أنه قاض نحبه وارتج المسجد وما حوله بالبكاء فانصرفت إلى صاحبي فقلت لهما‏:‏ خذا في شرج من الشعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه فإن الرجل آخري وليس بدنيوي‏.‏

إلى أن استأذن لنا مسلمة في يوم جمعة ما أذن للعامة فلما دخلت سلمت ثم قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين طال الثواء وقلت الفائدة وتحدثت بجفائك إيانا وفود العرب قال يا كثير ‏"‏ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ‏"‏ أفي واحد من هؤلاء أنت قلت‏:‏ بلى ابن سبيل منقطع به وأنا ضاحك قال‏:‏ ألست ضيف أبي سعيد قلت‏:‏ بلى قال‏:‏ ما أرى ضيف أبي سعيد منقطعاً به قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الإنشاء قال‏:‏ نعم ولا تقل إلا حقاً فقلت‏:‏ وليت فلم تشتم عليا ولم تخف بريا ولم تقبل إشارة مجرم وصدقت بالفعل المقال مع الذي أتيت فأمسى راضياً كل مسلم ألا إنما الفتى بعد زيغة من الأود البادي ثقاف المقوم وقد لبست لبس الهلوك ثيابها تراءى لك الدنيا بكف ومعصم وتومض أحياناً بعين مريضة وتبسم عن مثل الجمان المنظم فأعرضت عنها مشمئزاً كأنما سقتك مدوفاً من سمام وعلقم وقد كنت من أجبالها في ممنع ومن بحرها في مزبد الموج مفعم وما زلت تواقاً إلى كل غاية بلغت بها أعلى البناء المقوم تركت الذي يفنى وإن كان مونقا وآثرت ما يبقى برأي مصمم وأضررت بالفاني وشمرت للذي أمامك في يوم من الهول مظلم ومالك إذ كنت الخليفة مانع سوى الله من مال رغيب ولا دم سما لك هم في الفؤاد مؤرق بلغت به أعلى المعالي بسلم فما بين شرق الأرض والغرب كلها مناد ينادي من فصيح وأعجم يقول‏:‏ أمير المؤمنين ظلمتني بأخذ للدينار ولا أخذ درهم ولا بسط كف لامرئ غير مجرم ولا السفك منه ظالماً ملء محجم ولو يستطيع المسلمون لقسموا لك الشطر من أعمارهم غير ندم فأربح بها من صفقة لمبايع وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم قال‏:‏ فأقبل علي وقال‏:‏ إنك مسؤول عما قلت‏.‏

ثم تقدم الأحوص فاستأذنه في الإنشاد فقال‏:‏ قل ولا تقل إلا حقاً فقال‏:‏ وما الشعر إلا حكمة من مؤلف بمنطق حق أو بمنطق باطل فلا تقبلن إلا الذي وافق الرضا ولا ترجعنا كالنساء الأرامل فقلنا ولم نكذب بما قد بدا لنا ومن ذا يرد الحق من قول قائل ومن ذا يرد السهم بعد مضائه على فوقه إذ عار من نزع نابل ولولا قد عودتنا خلائف غطاريف كانوا كالليوث البواسل لما وخدت شهراً برحلى شملة تقدمتون البيد بين الرواحل ولكن رجونا منك مثل الذي به حبينا زماناً من ذويك الأوائل فإن لم يكن للشعر عندك موضع وإن كان مثل الدر من نظم قائل وكان مصيباً صادقاً لا يعيبه سوى أنه يبنى بناء المنازل فإن لنا قربى ومحض مودة وميراث آباء مشوا بالمناصل فذادوا عدو السلم عن عقر دارهم وأرسوا عمود الدين بعد التمايل وقبلك ما أعطى الهنيدة جلة على الشعر كعباً من سديس وبازل رسول الإله المستضاء بنوره عليه سلام الضحى والأصائل فقال‏:‏ إنك مسؤول عما قلت‏.‏

قم تقدم نصيب فاستأذنه في الإنشاد فلم يأذن له وأمره بالغزو على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ابن الكبى‏:‏ لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله فأقاموا ببابه أياماً لا يأذن لهم بالدخول حتى قدم عون بن عبد الله بن عنبة بن مسعود على عمر بن عبد العزيز وعليه عمامة قد أرخى طرفيها وكانت له منه مكانة فصاح به جرير‏:‏ يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه أني لدى الباب كالمصفود في قرن وحش المكانة من أهلي ومن لدى نائي المحلة عن داري وعن وطني قال‏:‏ نعم أبا حزرة ونعمى عين‏.‏

فلما دخل على عمر قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الشعراء ببابك وأقوالهم باقية وسنانهم مسنونة قال‏:‏ يا عون‏:‏ مالي وللشعراء قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد مدح وأعطى وفيه أسوة لكل مسلم قال‏:‏ ومن مدحه قلت‏:‏ عباس بن مرداس فكساه حلة قطع بها لسانه قال‏:‏ وتروي قول قلت‏:‏ نعم‏:‏ ونورت بالبرهان أمراً مدمساً وأطفأت بالبرهان ناراً مضرما فمن مبلغ عني النبي محمداً وكل امرئ يجزى بما قد تكلما تعالى علواً فوق عرش إلهنا وكان مكان الله أعلى وأعظما قال‏:‏ صدقت فم بالباب منهم قلت‏:‏ ابن عمك عمر بن أبي ربيعة قال‏:‏ لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه أليس هو القائل‏:‏ ألا ليت أني يوم حانت منيتي شممت الذي ما بين عينيك والفم وليت طهوري كان ريقك كله وليت حنوطي من مشاشك والدم ويا ليت سلمى في القبو ضجيعتي هنالك أو في جنة أو جهنم فليته والله تمنى لقاءها في الدنيا ويعمل عملاً صالحاً والله لا دخل علي أبداً فمن بالباب غير من ذكرت قلت‏:‏ جميل بن معمر العذري قال‏:‏ هو الذي يقول‏:‏ ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن نمت يوافي لدى الموتى ضريحي ضريحها فما أنا في طول الحياة براغب إذا قيل قد سوي عليها صفيحها أظل نهاري لا أراها ويلتقي مع الليل روحي في المنام وروحها لو يسمعون كما سمعت حديثها خروا لعزة راكعين سجودا اعزب به فمن بالباب غير من ذكرت قلت‏:‏ الأحوص الأنصاري قال‏:‏ أبعد الله ومحقه أليس هو القائل وقد أفسد على أهل المدينة جارية عرب بها منه‏:‏ الله بيني وبين سيدها يفر عني بها وأتبع اعزب به فمن بالباب غير من ذكرت قلت‏:‏ همام بن غالب الفرزدق قال‏:‏ أليس هو القائل يفخر بالزنى‏:‏ هما دلتاني من ثمانين قامة كما انقض باز أقتم الريش كاسره فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا أحي يرجى أم قتيل نحاذره وأصبحت في القوم الجلوس وأصبحت مغلقة دوني عليها دساكره فقلت ارفعا الأسباب لا يشعروا بنا ووليت في أعقاب ليل أبادره اعزب به فوالله لا دخل علي أبداً فمن بالباب غير من ذكرت قلت‏:‏ الأخطل التغلبي قال‏:‏ أليس هو القائل‏:‏ فلست بصائم رمضان عمري ولست بآكل لهم الأضاحي ولست بزاجر عنسا بكوراً إلى بطحاء مكة للنجاح ولكني سأشربها شمولاً وأسجد عند منبلج الصباح اعزب به فوالله لا وطئ لي بساطاً أدباً وهو كافر فمن الباب غير من ذكرت قلت‏:‏ جرير بن الخطفي قال‏:‏ أليس هو القائل‏:‏ لولا مراقبة العيون أريتنا مقل المها وسوالف الآرام هل ينهينك أن قتلن مرقشا أو ما فعلن بعروة بن حزام ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأقوام طرقتك صائدة القول وليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام فإن كان ولا بد فهذا فأذن له فخرجت إليه فقلت‏:‏ ادخل أبا حزرة فدخل وهو يقول‏:‏ إن الذي بعث النبي محمداً جعل الخلافة في إمام عادل وسع الخلائق عدله ووفاؤه حتى أرعوى وأقام ميل المائل والله أنزل في القرآن فريضة لابن السبيل وللفقير العائل إني لأرجو منك خيراً عاجلاً والنفس مولعة بحب العاجل فلما مثل بين يديه قال‏:‏ اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقاً فأنشأ يقول‏:‏ يدعوك دعوة ملهوف كأن به خبلا من الجن أو مسا من البشر خليفة الله ماذا تأمرن بنا لنا إليكم ولا في دار منتظر ما زلت بعدك في هم يؤرقني قد طال في الحي إصعادي ومنحدري لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ولا يعود لنا باد على حضر إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا من الخليفة ما نرجو من المطر نال الخلافة إذ كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر فقال‏:‏ يا جرير والله لقد وليت هذا الأمر وأملك إلا ثلثمائة فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتها أم عبد الله يا غلام أعطه المائة الباقية فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين إنها لأحب مال إلي كسبته ثم خرج فقالوا له‏:‏ ما وراءك قال‏:‏ ما يسوؤكم خرجت من عند أمير المؤمنين يعطى الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض ثم أنشأ يقول‏:‏ رأيت رقى الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راقياً‏.‏

  الوفود على ابن الزبير

وفود نابغة بني جعدة على ابن الزبير رحمه الله تعالى‏:‏ الزبير بن بكار قاضي الحرمين قال‏:‏ أقحمت السنة نابغة بني جعدة فوفد إلى ابن الزبير فدخل عليه في المسجد الحرام ثم أنشده‏:‏ حكيت لنا الصديق لما وليتنا وعثمان والفاروق فارتاح معدم وسويت بين الناس في الحق فاستووا فعاد صباحاً حالك اللون مظلم أتاك أبو ليلى يجوب به الدجى دجى الليل جواب الفلاة عثمثم لتجبر منه جانباً زعزعت به صروف الليالي والزمان المصمم فقال له ابن الزبير‏:‏ هو عليك أبا ليلى فالشعر أدنى وسائل عندنا أما صفوة أموالنا فلآل الزبير وأما عفوته فإن بني أسد وتيماً تشغلها عنك ولكن لك في مال الله سهمان سهم برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم بشركتك أهل الإسلام في فيئهم ثم أخذ بيده ودخل به دار النعم فأعطاه قلائص سبعاً وجملاً رحيلاً وأوقر له الركاب براً وتمراً وثياباً‏.‏

فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحب صرفاً فقال ابن الزبير‏:‏ ويح أبي ليلى‏!‏ لقد بلغ به الجهد قال النابغة‏:‏ أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ما وليت قريش فعدلت واسترحمت فرحمت وحدثت فصدقت ووعدت خيراً فأنجزت فأنا والنبيون فراط القاصفين‏.‏

قال الزبير بن بكار‏:‏ الفارط‏:‏ الذي يتقدم إلى الماء يصلح الرشاء والدلاء‏.‏

والقاصف‏:‏ الذي يتقدم لشراء الطعام‏.‏

  وفود أهل الكوفة على ابن الزبير رحمة الله تعالى

قال‏:‏ لما قتل صعب بن الزبير المختار بن أبي عبيد خرج حاجاً فقدم على أخيه عبد الله بن الزبير بمكة ومعه وجوه أهل العراق فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين جئتك بوجوه أهل العراق لم أدع لهم بها نظيراً لتعطيهم من هذا المال قال‏:‏ جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم مال الله‏!‏ والله لا فعلت‏.‏

فلما دخلوا عليه وأخذوا مجالسهم قال لهم‏:‏ يا أهل الكوفة وددت والله أن لي بكم من أهل الشام صرف الدينار والدرهم بل لكل عشرة رجلاً‏.‏

قال عبيد الله بن ظبيان‏:‏ أتدري يا أمير المؤمنين ما مثلنا ومثلك فيما ذكرت قال‏:‏ وما ذلك قال‏:‏ فإن مثلنا ومثلك ومثل أهل علقتها عرضاً وعقلت رجلاً غيري وعلق أخرى غيرها الرجل أحببناك نحن وأحببت أنت أهل الشام وأحب أهل الشام عبد الملك‏.‏

ثم انصرف القوم من عنده خائبين فكاتبوا عبد الملك بن مروان وغدروا بمصعب بن الزبير‏.‏

  وفود رؤبة على أبي مسلم

الأصمعي قال‏:‏ حدثنا رؤبة قال‏:‏ قدمت على أبي مسلم صاحب الدعوة فأنشدته فناداني‏:‏ يا رؤية فنوديت له من كل مكان‏:‏ يا رؤبة فأجبت‏:‏ لبيك إذ دعوتني لبيكا أحمد ربا ساقني إليكا الحمد والنعمة في يديكا قال‏:‏ بل في يدي الله عز وجل قلت‏:‏ وأنت لما أنعمت حمدت‏.‏

ثم استأذنت في الإنشاد فأذن لي فأنشدته‏:‏ ما زال يأتى الملك من أقطاره وعن يمينه وعن يساره مشمراً لا يصطلى بناره حتى أقر الملك في قرراه فقال‏:‏ إنك أتيتنا وقد شف المال واستنفضه الإنفاق وقد أمرنا لك بجائزة وهي تافهة يسيرة ومنك العود وعليك المعول والدهر أطرق مستتب فلا تجعل بجنبيك الأسدة قال‏:‏ فقلت‏:‏ الذي أفادني الأمير من كلامه أحب إلي من الذي أفادني من ماله‏.‏

  وفود العتابي على المأمون

الشيباني قال‏:‏ كان كلثوم العتابي أيام هارون الرشيد في ناحية المأمون فلما خرج إلى خراسان شيعه إلى قومس حتى وقف على سنداد كسرى فلما حاول وداعه قال له المأمون‏:‏ لا تدع زيارتنا إن كان لنا من هذا الأمر شيء‏.‏

فلما أفضت الخلافة إلى المأمون وفد إليه العتابي زائراً فحجب عنه فتعرض ليحيى بن أكثم فقال‏:‏ أيها القاضي إن رأيت أن تذكر بي أمير المؤمنين فقال له يحيى‏:‏ ما أنا بالحاجب قال له‏:‏ قد علمت ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان‏.‏

فدخل على المأمون فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أجرني من العتابي ولسانه فلم يأذن له وشغل عنه فلما رأى العتابي جفاءه قد تمادى كتب إليه‏:‏ ما على ذاكنا افترقنا بسندا دولا هكذا رأينا الإخاء تضرب الناس بالمثقفة السم ر على غدرهم وتنسى الوفاء فلما قرأ أبياته دعا به فلما دنا منه سلم بالخلافة ووقف بين يديه فقال‏:‏ يا عتابي بلغتنا وفاتك فغمتنا ثم انتهت إلينا وفادتك فسرننا فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لو قسم هذا البر على أهل منى وعرفات لوسعهم فإنه لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك قال‏:‏ سل حاجتك قال‏:‏ يدك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة‏.‏

فأحسن جائزته وانصرف وفود أبي عثمان المازني على الواثق أبو عثمان بكر بن محمد قال‏:‏ وفدت على الواثق فلما دخلت وسلمت قال‏:‏ هل خليت وراءك أحداً يهمك أمره قلت‏:‏ أخية لي ربيتها فكأنها بنتي قال‏:‏ ليس شعري‏!‏ ما قالت حين فارقتها قلت‏:‏ أنشدتني قول الأعشى‏:‏ تقول ابنتي يوم جد الرحيل أرانا سواء ومن قد يتم أبانا فلا رمت من عندنا فإنا نخاف بأن تخترم أرانا إذا أضمرتك البلا د نجفى وتقطع منا الرحم ثقي بالله ليس له شريك ومن عنده الخليفة بالنجاح قال‏:‏ أتاك النجاح وأمر له بعشرة آلاف درهم‏.‏

ثم قال‏:‏ حدثني حديثاً ترويه عن أبي مهدية مستظرفاً قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين حدثني الأصمعي قال‏:‏ قال لي أبو مهدية‏:‏ بلغني أن الأعراب والأعزاب سواء في الهجاء قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فاقرأ‏:‏ الأعراب أشد كفراً ونفاقاً ولا تقرأ الأعراب ولا يغرنك العزب وإن صام وصلى‏.‏

فضحك الواثق حتى شغر رجله وقال‏:‏ لقد لقي أبو مهدية من العزبة شراً وأمر له بخمسمائة دينار‏.‏

  الوافدات على معاوية

وفود سودة بنت عمارة على معاوية عامر الشعبي قال‏:‏ وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان فاستأذنت عليه فأذن لها فلما دخلت عليه سلمت فقال لها‏:‏ كيف أنت يا بنة الأشتر قالت‏:‏ بخير يا أمير المؤمنين قال لها‏:‏ أنت القائلة لأخيك‏:‏ شمر كفعل أبيك يا بن عمارة يوم الطعان وملتقى الأقران وانصر عليا والحسين ورهطه واقصد لهند وابنها بهوان إن الإمام أخو النبي محمد علم الهدى ومنارة الإيمان فقد الجيوش وسر أمام لوائه قدماً بأبيض صارم وسنان قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب فدع عنك تذكار ما قد نسي قال‏:‏ هيهات ليس مثل مقام أخيك ينسى قالت‏:‏ صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان أخي خفي المقام وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته قال‏:‏ قد فعلت‏:‏ فقولي حاجتك قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك للناس سيد ولأمورهم مقلد والله سائلك عما افترض عليك من حقنا ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك ويبسط سلطانك فيحصدنا حصاد السنبل ويدوسنا دياس البقر ويسومنا الخسيسة ويسألنا الجليلة هذا ابن أرطأة قدم بلادي وقتل رجالي وأخذ مالي ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة فإما عزلته فشكرناك وإلا لا فعرفناك فقال معاوية‏:‏ إياي تهددين بقومك‏!‏ والله قد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس فينفذ حكمه فيك فسكتت ثم قالت‏:‏ صلى الإله على روح تضمنه قبر فأصبح فيه العدل مدفونا قد حالف الحق لا يبغي به ثمناً فصار بالحق والإيمان مقرونا قال‏:‏ ومن ذلك قالت‏:‏ علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى قالت‏:‏ وما أرى عليك منه أثراً قال‏:‏ بلى أتيته يوماً في رجل ولاه صدقاتنا فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين فوجدته قائماً يصلي فانفتل من الصلاة ثم قال برأفة وتعطف‏:‏ ألك حاجة فأخبرته خبر الرجل فبكى ثم رفع يديه إلى السماء فقال‏:‏ اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا ترك حقك ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب فيها‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ‏.‏

إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك والسلام‏.‏

فأخذته منه يا أمير المؤمنين ما خزمه بخزام ولا ختمه بختام‏.‏

فقال معاوية‏:‏ اكتبوا لها الإنصاف لها والعدل عليها فقالت‏:‏ ألي خاصة أم لقومي عامة قال‏:‏ وما أنت وغيرك قال‏:‏ هي والله إذا الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلاً شاملاً وإلا يسعنى ما يسع قوي قال‏:‏ هيهات لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئاً ما تفطمون وغركم قوله‏:‏ فلو كنت بواباً على باب جنة لقلت لهمدان ادخلوا بسلام وقوله‏:‏ ناديت همدان والأبواب مغلقة ومثل همدان سنى فتحة الباب كالهنداوي لم تفلل مضاربه وجه جميل وقلب غير وجاب اكتبوا لها بحاجتها على معاوية استأذنت بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان فأذن لها وهو يومئذ بالمدينة فدخلت عليه وكانت امرأة قد أسنت وعشي بصرها وضعفت قوتها ترعش بين خادمين لها فسلمت وجلست فرد عليها معاوية السلام وقال‏:‏ كيف أنت يا خالة قالت‏:‏ بخير يا أمير المؤمنين قال‏:‏ غيرك الدهر قالت‏:‏ كذلك هو ذو غير من عاش كبر ومن مات قبر‏.‏

قال عمرو بن العاص‏:‏ هي والله والقائلة يا أمير المؤمنين‏:‏ يا زيد دونك فاستشر من دارنا سيفاً حساماً في التراب دفينا قد كنت أذخره ليوم كريهة فاليوم أبرزه الزمان مصونا قال مروان‏:‏ وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين‏:‏ أترى ابن هند للخلافة مالكاً هيهات ذاك - وإن إراد - بعيد منتك نفسك في الخلاء ضلالة أغراك عمرو للشقا وسعيد قال سعيد بن العاصي‏:‏ هي والله القائلة‏:‏ قد كنت أطمع أن موت ولا أرى فوق المنابر من أمية خاطبة في كل يوم للزمان خطيبهم بين الجميع لآل أحمد عائباً ثم سكتوا‏.‏

فقالت‏:‏ يا معاوية كلاك أعشى بصري وقصر حجتي أنا والله قائلة ما قالوا وما خفي عليك مني أكثر فضحك وقال‏:‏ ليس يمنعنا ذلك من برك اذكري حاجتك‏.‏

قالت‏:‏ الآن فلا‏.‏

  وفود الزرقاء على معاوية

عبيد الله بن عمرو الغساني عن الشعبي قال‏:‏ حدثني جماعة من بني أمية ممن كان يسمر مع معاوية قالوا‏:‏ بينما معاوية ذات ليلة مع عمرو وسعيد وعتبة والوليد إذ ذكروا الزرقاء بنت عدي بن غالب بن قيس الهمدانية وكانت شهدت مع قومه صفين فقال‏:‏ أيحكم يحفظ كلامها قال بعضهم‏:‏ نحن نحفظه يا أمير المؤمنين قال‏:‏ فأشيروا علي في أمرها فقال بعضهم‏:‏ نشير عليك بقتلها قال‏:‏ بئس الرأي الذي أشرتم به علي أيحسن بمثلى أن يتحدى عنه أنه قتل امرأة بعدما ظفر بها‏!‏ فكتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه ما ثقة من ذوي محارمها وعدة من فرسان قومها وأن يمهد لها وطاء ليناً ويسترها بستر خصيف ويوسع لها في النفقة فأرسل إليها فأقرأها الكتاب فقالت‏:‏ إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار إلي فإني لا آتية وإن كان حتم فالطاعة أولى‏.‏

فحملها وأحسن جهازها على ما أمر به فلما دخلت على معاوية قال‏:‏ مرحباً وأهلاً قدمت خير مقدم قدمه وافد كيف حالك قالت‏:‏ بخير يا أمير المؤمنين‏.‏

أدام الله لك النعمة قال‏:‏ كيف كنت في مسيرك قالت‏:‏ ربيبة بيت أو طفلاً ممهداً قال‏:‏ بذلك أمرناهم أتدرين فيما بعثت إليك قالت‏:‏ أنى لي بعلم ما لم أعلم قال‏:‏ ألست الراكبة الجمل الأحمر والوقفة بين الصفين يوم الصفين تحضين على القتال‏.‏

وتوقدين الحرب فما حملك على ذلك قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب ولم يعد ما ذهب والدهر ذو غير ومن تفكر أبصر والأمر يحدث بعد الأمر قال لها معاوية‏:‏ صدقت‏.‏

أتحفظين كلامك يوم صفين قالت‏:‏ لا والله لا أحفظه ولقد أنسيته قال‏:‏ لكني أحفظه لله أبوك حين تقولين‏:‏ أيها الناس ارعووا وارجعوا إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن قصد المحجة فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء لا تسع لناعقها ولا تنساق لقائدها‏.‏

إن المصباح لا يضيء في الشمس ولا تنير الكواكب مع القمر ولا يقطع الحديد إلا الحديد‏.‏

ألا من استرشدنا أرشدناه ومن سألنا أخبرناه‏.‏

أيها الناس إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار على الغصص فكأن قد اندمل شعب الشتات والتأمت كلمة العدل ودمغ الحق باطله فلا يجهلن أحد فيقول‏:‏ كيف العدل وأنى ليقض الله أمراً كان مفعولا‏.‏

ألا وإن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء ولهذا اليوم ما بعده‏.‏

والصبر خير في الأمور عواقبا أيهاً في الحرب قدماً غير ناكصين ولا متشاكسين‏.‏

ثم قال لها‏:‏ والله يا زرقاء لقد شركت علياً في كل دم سفكه قالت‏:‏ أحسن الله بشارتك وأدام سلامتك فمثلك بشر بخير وسر جليسه قال‏:‏ أو يسرك ذلك قالت‏:‏ نعم والله‏.‏

لقد سررت بالخبر فأنى لي بتصديق الفعل فضحك معاوية وقال‏:‏ والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته اذكري حاجتك قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميراً أعنت عليه أبداً ومثلك أعطى عن غير مسألة وجاد من غير طلبة قال‏:‏ صدقت وأمر لها وللذين جاؤوا معها بجوائز وكسا‏.‏