فصل: البكاء على الميت

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العقد الفريد **


  الدعاء

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الدُّعاء سِلاحُ المُؤمن والدُعاء يَرُدّ القَدر والبرُّ يزيد في العُمر‏.‏

وقالوا‏:‏ الدُّعاء بي الأذان والإقامة لا يُرد‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ استقبلوا البلاءَ بالدُّعاء‏.‏

وقال اللهّ تعالى‏:‏ ‏"‏ ادْعُوني أسْتَجبْ لَكُم ‏"‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فَلَوْلا إذْ جاءَهُم بَأسُنَا تَضَرّعُوا ولكِنْ قَسَتْ قُلُوبهم له‏.‏

وقال عبد الله بن عباس‏:‏ إذا دعوتَ الله فاجعل في دُعاثك الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصلاة عليه مَقْبولة واللّه أكْرم من أن يَقْبل بعضَ دُعائك ويَرُد بعضاً‏.‏

وقال سعيدُ بن المسيب‏:‏ كنت جالساً بين القَبْر والمِنْبر فسمعت قائلاً يقول‏:‏ اللهم إني أسألك عملاً باراً ورِزْقاً دارًّاً وعَيْشاً قارًا‏.‏

فالتفتًّ فلم أرَ أحداً‏.‏ هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت‏:‏ كنت نائمةً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ النًصف‏!‏ من شَعبان فلما ألْصِق جِلْدِي بجلده أغفيتُ ثم انتبهتُ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عندي فأدركني ما يُدرك النِّساء من الغَيْرة فلَفَفْت مِرْطي أما والله ما كان خَزًّا ولا قَزًا ولا دِيباجاً ولا قُطناً ولا كَتَاناً قيل‏:‏ فما كان يا أمّ المؤمنين قالت‏:‏ كان سَدَاه ومن شَعر ولُحْمته من أوبار الإبل‏.‏

قالت‏:‏ فنَحَوْتُ إليه أطلبُه حتى ألفيته كالثًوب الساقط على وَجهه في الأرض وهو ساجدٌ يقول في سُجوده‏:‏ سَجد لك خَيالي وسوادي وآمَن بك فُؤادي هذه يَدي وما جَنَيْتُ بها على نفسي ‏"‏ يا مَن ‏"‏ تُرَجَّى لكل عَظيم فاغفر لي الذنب العَظيم‏.‏

فقلتُ‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول اللهّ إنّك لفي شأن وإني لفي شأن‏.‏

فرَفع رأسَه ثم عاد ساجداً فقال‏:‏ أعوذ بوَجْهك الذي أضاءت له السمواتُ السَّبع والأرضون السبع من فجْاة نِقْمتك وتحوّل عافيتك ومن شرِّ كتاب قد سَبق وأعوذ برِضاك من سُخْطك وبعَفْوك من عُقوبتك وبك مِنْك لا أحْصى ثناءً عليك أنت كما أثْنيت على نفسك‏.‏

فلما انصرف من صَلاته تَقَدَّمتُ أمامه حتى دخلتُ البيت ولي نَفَس عال فقال‏:‏ مالك يا عائشة فأخبرتهُ الخَبر فقال‏:‏ وَيْح هاتين الرُّكبتين ما لَقِيتا في هذه اللَيلة‏!‏ وَمَسح عليهما‏.‏

ثم قال‏:‏ أتدْرين أيّ ليلة هذه يا عائشة فقلتُ‏:‏ الله ورسولُه أعلم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذه الليلةُ ليلةُ النِّصف من شعبان فيها تُؤَقَّت الآجال وتُثَبًت الأعمال‏.‏

العُتبيّ عن أبيه قال‏:‏ خرجتُ مع عُمَر بن ذرّ إلى مكة فكان إذا لَبَّى لم يُلَبِّ أحدٌ من حُسن صوته فلما جاء الحَرَم قال‏:‏ يا رب ما زِلْنا نَهْبط وَهْدةً ونَصْعد أكمة ونَعْلو نَشَزاً وَيَبْدُو لنا عَلَم حتى جِئْناك بها نَقِبَةً أخفافها دبرة ظُهورُها ذا بلةً أسْنِمَتُهَا وليس أعظمُ المَؤونة علينا إِتعابَ أبداننا ولكن أعظم المؤونة علينا أن تَرْجِعَنا خائبين من رحمتك يا خيرَ من نَزَل به وكان آخَرُ يدعو بعَرفات‏:‏ يا رب لم أعْصِك إذ عصيتُك جَهْلاً مني بحقك ولا استخفافاً بعقوبتك ولكن الثقة بعَفْوك والاغترار بِسَتْرِك المُرْخَى علي مع الشَقْوة الغالِبة والقَدَر السابق فالآن مِن عذابك مَنِ يَسْتَنقذني وبِحَبْل مَن أعْتَصِم إن قطعْت حَبْلك عَني فيا أسفي على الوُقوف غداَ بين يدَيْك إذا قِيل للمُخِفَين جُوزوا وللمُذْنِبين حُطّوا‏.‏

أبو الحسن قال‏:‏ كان عروة بن الزُّبير يقول في مُناجاته بعد أن قُطِعت رِجْلُه ومات ابنه‏:‏ كانوا أربعةً - يعنِي بنيه - فأخذتَ واحداً وأبقيتَ ثلاثة وكُنَّ أربعاً - يعنِي يدَيْه ورِجليه - فأخذتَ واحدةَ وأبقيتَ ثلاثاً فلئن ابتليتَ لطالما عافيتَ ولئن عاقبت لطالما أنعمتَ‏.‏

وكان داود إذا دَعا في جَوْف الليل يقول‏:‏ نامت العيون وغارت النجومُ وأنت حَيٌّ قَيوم اغفر لي ذَنبي العظيم فإنه لا يَغْفر الذنبَ العظيم إلا العظيم إليك رفعت رأسي نَظَر العَبْدِ الذليل إلى سيّده الجليل‏.‏

وكان من دُعاء يوسف‏:‏ يا عُدّتي عند كُرْبتي ويا صاحبيِ في غُربتي ويا غَايَتي عند شِدّتي ويا رَجائي إذا انقطعت حِيلتى اجعل لي فَرَجاَ وَمَخْرجاً‏.‏

وكان عبدُ الله بن ثعلبة البَصْريّ يقول‏:‏ اللهم أنت من حِلْمك تُعْصىَ وكأنك لا تَرى وأنت من جًودك وفَضْلك تُعطِي وكأنك لا تُعْطِيِ وأيّ زمان لم يَعْصك فيه سُكان أرْضك فكُنتَ عليهم بالعفو عوَاداً وبالفَضْل جَوَاداًَ‏.‏

وكان من دُعاء علي بن الحُسين رضي اللهّ عنه‏:‏ اللهم إني أعوذ بك أن تُحَسِّن في مَرأى العُيون عَلانِيَتي وتقَبِّح في خَفيات القُلوب سَرِيرتي اللهم وكما أسأتُ فأحسنتَ إليّ إذا عُدْتُ فعُدْ عليّ وارزقني مُواساة مَن قترَّت عليه ما وسَّعتَ عليَّ‏.‏

الشيبانيّ قال‏:‏ أصاب الناسَ ببغداد ريحٌ مُظْلمة فانتهيتُ إلى رجل في المسجد وهو ساجد يقول في سُجوده‏:‏ اللهم احفظ محمداً في أمته ولا تُشمِت بنا أعداءنا من الأمم فإن كنتَ أخذتَ العوام بذنبي فهذه ناصِيتي بين يديك‏.‏

وكان الفضيل بن عِيَاض يقول‏:‏ إلهي لو عَذَبتَني بالنار لم يَخْرُج حُبُّك من قَلبي ولم أنسَ أياديكَ عندي في دار الدنيا وقال عبد الله بنُ مسعود‏:‏ اللهم وَسِّع علي في الدنيا وزَهِّدني فيها ولا تُزْوِها عَني وتُرَغبني فيها‏.‏

مَرَّ أبو الدَّرداء برجل يقول في سُجوده‏:‏ اللهم إنيٍ سائلٌ فقير فأغْنِني من سِعَة فَضْلك خائفٌ مُستجير فأجِرْني من عَذابك‏.‏

الأصمعي قال‏:‏ كان عَطاءُ ابن أبي رَباح يقول في دُعائه‏:‏ اللهم ارحم في الدُّنيا غُرْبتي وعند الموت صَرْعتي وفي القُبور وُحْدَتي ومَقامي غداً بين يديك‏.‏

العُتْبيّ قال‏:‏ حدَّثني عبدُ الرحمن بن زياد قال‏:‏ اشتكي أبي فكتب إلى أبي بكر بن عبد الله يسأله أن يدعوَ له فكتب إليه‏:‏ حُقَّ لمن عَمِل ذنبا لا عُذْر له فيه وخاف مَوتاً لا بُدَ له منه ‏"‏ أن يكون مُشْفِقاً ‏"‏ سأدعو لك ولستُ أرجو أن يُستجاب لي بقوةٍ في عَمل وبراءة من ذنْب‏.‏

العُتْبيّ قال‏:‏ كان عبد الملك بن مَرْوان يَدْعو على المِنْبر‏:‏ يا ربّ إن ذُنوبي قد كَثُرت وجَلّت عن كيف يكون الدعاء سفيان بن عُيَينة عن أبي مَعْبد عن عِكْرمة عن ابن عبّاس قالت‏:‏ الإخلاص هكذا وبَسط يدَه اليُسرى وأشار بإصْبعه من يده اليُمْنى والدعاء هكذا وأشار برَاحتيه إلى السَّماء والابتهال هكذا ورفع يديه فوق رأسه وظُهورهما إلى وجهه‏.‏

سُفيان الثَوريّ قال‏:‏ دخلتُ على جَعفر بن محمد رضي اللهّ عنهما فقال لي‏:‏ يا سُفيان إذا كثر ت هُمومك فأكْثِر من لا حَوْلَ ولا قُوّة إلا باللّه العليّ العَظيم وإذا تَداركتْ عليك النِّعم فأكْثِر من الحَمْد لله وإذا أبطأ عنك الرّزْق فأكثر من الاستغفار‏.‏

وقال عبد الله بن عبّاس‏:‏ لا كَبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصْرار‏.‏

وقال عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنه‏:‏ عجباً ممن يَهْلك والنجاة معه‏!‏ قيل له‏:‏ وما هي قال‏:‏ الاستغفارُ‏.‏

  دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصِّديق وعمر رضوان الله عليهما

أم سَلمة قالت‏:‏ كان أكثرُ دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا مُقَلِّب القُلوب ثَبِّت قَلْبي على دِينك‏.‏

المًغِيرة بن شُعْبة قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من الصلاة يقول‏:‏ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له له المُلْك وله الحَمْد وهو على كلِّ شيء قدير‏.‏

وكان آخرُ دُعاء أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه في خُطْبته‏:‏ اللهم اجعلْ خيرَ زَماني آخرَه وخيرَ عَملي خواتِمَه وخيرَ أيامي يومَ لِقائك‏.‏

وكان آخرُ دُعاء عمرَ رضي الله عنه في خُطبته‏:‏ اللهم لا تَدَعْني في غَمْرة ولا تَأخًذْني في غرة ولا تَجْعلني من الغافِلين‏.‏

  الدعاء عند الكرب

عبد الله بن مَسْعود قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ما مِن عَبدِ أصابه هَم فقال‏:‏ اللهم إنَي عبدك وابن عَبْدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ فيّ حُكْمك عَدْل فيّ قضاؤك أسألك بكلِّ اسمٍ سَمَيت به نَفْسَك أو ذَكرْتَه في كتابك أو عَلًمته أحداً من خَلْقك أو استأثرت به في عِلْم الغَيْب عندك أن تجعل القرآن ضِياءَ صَدْري ورَبيعَ قَلْبي وجَلاء حُزْني وذهاب هَمِّي إلا اذهَب الله هَمَه وبدَّله مَكانَ حُزْنه فرحاً‏.‏

وقالوا‏:‏ كلماتُ الفَرَج من كُلِّ كرْب‏:‏ لا إله إلا الله الكريم الحَلِيم وسُبْحان اللّه رَبِّ العَرْش الكلمات التي تلقى آدم بها ربه اللهمّ لا إله إلا أنتَ سُبْحانك وبِحَمْدك عَمِلْتُ سُوءًا وظلمتُ نَفْسي فَتُبْ عليّ إنك أنتَ التوَّاب الرحيم‏.‏

اسم الله الأعظم عبد الله بنُ يَزيد عن أبيه قال‏:‏ سَمِع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول‏:‏ اللهمَّ إنِّي أسألك بأنَّك أنت الله الأحد الصَّمد الذي لم يَلِد ولم يُولد ولم يَكُن له كُفُواً أحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعِي به أجاب وإذا سُئِل به أعطى‏.‏

أسماءُ بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ اسم الله الأعظم فيما بي الآيتَيْن‏:‏ ‏"‏ وَإلهكُم إله واحِد لا إله إلا هُو الرَّحْمن الرَّحيم ‏"‏ وفاتحة آل عمران‏:‏ ‏"‏ الم الله لا إله إلا هو الحَيُ القَيوم ‏"‏‏.‏

  الاستغفار

شَدّاد بن أوْس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ سَيد الاستغفار أن تقول‏:‏ اللهم أنت ربٌي لا إلهِ إلا أنْتَ خَلَقْتني وأنا عَبْدُك وأنا على عَهْدك وَوعْدك ما استطعتُ أعوذ بك من شر ما صَنَعْتُ أبوء لك بِنِعْمتك علي وأبوء بِذَنبي فاغفِر لي إنه لا يَغْفر الذنوب إلا أنت‏.‏

الأسْود وعَلْقمة قالا‏:‏ قال عبد الله بن مَسعود‏:‏ إنَّ في كتاب الله آيتَين ما أصاب عبدٌ ذَنباً فقرأهما ثم استغفر الله إلا غُفر له‏:‏ ‏"‏ والَّذين إذا فَعلُوا فاحشةً أو ظَلَموا أنْفُسهم ‏"‏ إلى آخر الآية ‏"‏ ومَنْ يَعْمَل سُوءًا أو يَظْلم نَفْسَه ثم يَسْتغْفر الله يجِد الله غَفُوراً رَحيماً ‏"‏ أبو سَعيد الخُدْرِيّ قال‏:‏ مَن قال‏:‏ أسْتغفر اللهّ الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيُّوم وأتُوب إليه خمس مَرّات غفِر له ولو فر من الزَّحف‏.‏

  دعاء المسافر

عِكْرمة عن ابن عبّاس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَراً قال‏:‏ اللهم أنت الصاحبُ في السفر والخَليفة في الحَضر‏.‏

اللهم إنَي أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحوْر بعد الكوْر ومن سُوِء المنظر في الأهل والمال‏.‏

الشّعْبيُّ عن أمّ سَلَمة قالت‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج في سَفر يقول‏:‏ اللهم إنِّي أعوذ بك أن أذِلّ أو أضلً أو أظلِم أو أُظْلَم أو أجهل أو يُجْهل عليّ‏.‏

وقالت‏:‏ مَن خرج في طاعة الله فقال‏:‏ اللهم إنَي لم أخرج أشراً ولا بَطَراً ولا رِيَاء ولا سُمعة ولكنّي خرجتُ اْبتغاءَ مَرْضاتك واتقاء سُخْطك فأسألك بحقك على جميع خَلْقك أن تَرْزُقني من الخير أكثر ممّا أرجو وتَصرْف عنّي من الشر أكثر مما أخاف‏.‏

استجيب له بإذن اللّه‏.‏

سعِيد بن جُبَير عن ابن عبّاس قال‏:‏ إذا دخلتَ على السلطان وهو مَهيبٌ تخاف أن يسْطو عليك فقُل‏:‏ الله أكْبر وأعزّ مما أخاف وأحذَر اللهم ربّ السَّموات السَّبع وربّ العرش العظيم كُنْ لي جاراً منِ عَبدك فلان وجنوده وأشياعه وأتباعه تبارك اسمك وجلَّ ثناؤك وعزّ جارًك ولا إله غيْرك أبو الحسن المدائنيّ قال‏:‏ لما حَجّ أبو جَعْفر المنصور مَر بالمدينة فقال للرَّبيع‏:‏ عليَّ بجعفر بن مُحمد قتلني الله إن لم أقتله‏.‏

فمُطِل به ثم ألَحَ فيه فحَضر‏.‏

فلما كُشِف السِّتْر بينه وبينه ومَثُل بين يدَيْه هَمَس جعفر بشَفَتيه ثم تقَرَب وسلّم فقال‏:‏ لا سلّم اللهّ عليك يا عدو الله تُعْمِل على الغوائلَ في مُلْكِي قَتلَني الله إن لم أقتُلك‏.‏

فقال له جعفر‏:‏ يا أمير المؤمنين إن سُليمان صلى الله عليه وسلم أعْطِيَ فشكر وإن أيوب ابتليَ فَصَبَر وإن يوسف ظُلِم فَغَفَر وأنت على إرْثٍ منهم وأحَقُّ من تأسىَّ بهم فنكس أبو جعفر رأسه مَليًّا ثم رفع إليه رأسه وقال‏:‏ إلي يا أبا عبد الله فأنتَ القريبُ القرابة وإنك ذو الرَّحم الواشِجة السَّليم الناحية القَليل الغائلة ثم صافحه بيَمينه وعانقه بِيَساره وأجْلسه معه على فِراشه وانحرف له عن بَعْضه وأقْبل عليه بوَجْهه يُسائله ويُحادثه ثم قال‏:‏ عجلوا لأبي عبد الله إذنه وكُسْوته وجائزته‏.‏

قال الرّبيع‏:‏ فلما خرج وأسْدل الستر أمسكتُ بثَوْبِه فارتاع وقال‏:‏ ما أرانا يا ربيع إلا قد حُبِسنا قلتُ‏:‏ هذه منِّي لا مِنْه قال‏:‏ فذلك أيْسر قلْ حاجتَك قلت‏:‏ إنِّي منذ ثلاثٍ أدافع عنك وأدَاري عليك ورأيتُك إذ دخلتَ هَمَسْت بِشَفَتيك ثم رأيتُ الأمرَ انجلى عنك وأنا خادم سُلطان ولا غِنى بي عنه فأًحِب منك أن تُعَلِّمَنيه قال‏:‏ نعم قُل‏:‏ اللهم احرسني بعَيْنك التي لا تنام واكنُفْني بكنَفَك الذي لا يُرام ولا أهْلِك وأنت رجائي فكم من نِعمة أنْعَمْتها عليّ قَلّ عندها شكْري فلمِ تَحْرِمْني وكم من بليَّة ابتليتني بها قلّ عندها صبري فلم تَخْذًلْني اللهم بك أدْرأ في نحْره وأعوذ بخيْرك من شرِّه‏.‏

  الدعاء على الطعام

مَن قال على طعامه‏:‏ بسم اللهّ خير الأسماء في الأرض وفي السماء ولا يَضُر مع اسمه داء اللهم اجعل فيه الدَّواء والشِّفَاء لم يضُرّه ذلك الطعام كائناً ما كان‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من طعامه قال‏:‏ الحمد للّه الذي مَنَ علينا وهَدانا وأطعمنا وأرْوانا وكل بلاء حَسن أبْلانا‏.‏

  الدعاء عند الأذان

مَن قال إذا سَمِع الأذان‏:‏ رضيتُ بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمّد نبيًّا غفر له ذنوبه‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا سَمِعْتّم الأذان فقُولوا مِثْل ما يقول المؤذِّن‏.‏

  الدعاء عند الطيرة

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَنْ رأى من الطيْر شيئا يَكرهه فقال‏:‏ اللهم لا طَيْر إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غَيرك لم يَضِره‏.‏

الساعة التي يستجاب فيها الدعاء الفُضَيل عن أبي حازم عن أبي سَلمة بن عبد الرحمن عن ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى التعويذ أنس بن مالك قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ اللهم إنّي أعوذ بك من علم لا يَنْفَع وقَلْب لا يَخشَع ودُعاء لا يُسمع ونَفْس لا تَشْبَع 0 ‏"‏ اللهم إني أعوذ بك من هذه الأربع ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قال إذا أمْسى وأصْبح‏:‏ أعوذ بكلمات اللهّ التامات المباركات التي لا يجاوزهن بَرٌ ولا فاجر من شرِّ ما يَنزل من السماء ومن شرِّ ما يعرُج فيها ومن شرِّ ما ذرَأ في الأرض وما يَخْرُج منها لم يضره شيء من الشياطين والهوامّ‏.‏

مَسْروق عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ الحَسن والحُسين رضي اللهّ عنهما بهذه الكلمات‏:‏ أعِيذكما بكلمات الله التامَّة من كل عَينٍ لامّة ومن كل شَيطان وهَامَة‏.‏

وكان إبراهيمُ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ بها إسماعيل وإسحاق‏.‏

وقال أعرابي يصف دَعْوة‏:‏ وساريةٍ لم تَسْرِ في الأرض تَبْتَغِي مَحَلاً ولم يَقْطَعْ بها البِيدَ قاطعُ ‏"‏ سَرَتْ حيث لم تَسْرِ الرِّكابُ ولم تُنخ لورْد ولم يَقْصرُ لها القَيْدَ مانع ‏"‏ تَظلُّ وَرَاء اللَيل والليلُ ساقِطٌ بأوْرَاقه فيه سميرٌ وهاجع إذا سألَتْ لم يَردد الله سُؤْلَها على أهْلِها والله راءٍ وسامع وإني لأرجو الله حتى كأنما أرى بجميل الظنّ ما اللهّ صانع ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ بُنَيٌ لئن أعيا الطبيبَ ابن مُسلم ضَنَاك وأعْيا ذا البَيان المُسَجَّع لأبْتَهِلَنْ تحتَ الظلام بِدَعْوَةٍ متى يَدْعها داع إلى الله يُسمع يُقلقل ما بين الضلوعَ نَشيجُها لها شافِع من عَبْرَةٍ وتضرُّع إلى فارجِ الكَرْب المُجيب لمن دعا فَزَعْتُ بكَرْبي إنه خير مَفْزع فيا خير مَدْعُوّ دعوتُك فاسْتَمع ومالِي شَفيع غير فضلك فاشْفَع

  كتاب الدرة في التعازي والمراثي

قال أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه‏:‏ قد مضى قولنا في الزُهد ورجاله المَشْهورين‏.‏

ونحن قائلون بعَون الله ‏"‏ وتوفيقه ‏"‏ في النَّوادب والمراثي والتَعازي بأبلغ ما وَجدناه من الفِطر الذكيّة والألفاظ الشجيّة التي تُرقّ القلوبَ القاسية وتذيب الدموع الجامدة مع اختلاف النَّوادب عند نزول المصائب فنادبة تُثير الحُزْن من رَبْضَته وتَبعث الوَجْدَ من رَقْدَته بصوتٍ كترجيع الطَير تُقَطًعِ أنفاسَ المآتم وتترك صدْعاً في القلوب الجلامد ونادبة تَخْفِض من نَشِيجها وتقْصِد في نحيبها وتَذهب مَذْهَب الصبر والاستسلام والثِّقة بجزيل الثواب‏.‏

قال عمر بن ذَرّ‏:‏ سألتُ أبي‏:‏ ما بالُ الناس إذا وعظتَهم بَكَوْا وإذا وَعظهم غيرُك لم يَبكوا قال‏:‏ يا بُني ليست النائحة الثَكلى مثلَ النائحة المُستأجَرَة‏.‏

وقال الأصمعيّ‏:‏ قلتُ لأعرابيّ‏:‏ ما بالُ المراثي أشرفُ أشعاركم قال‏:‏ لأنّا نقولُها وقلوبنا مُحْترقة‏.‏

وقالت الحكماء‏:‏ أعظم المصائب كلّها انقطاعِ الرّجاء‏.‏

وقالوا‏:‏ كلُّ شيء يَبدو صغيراً ثم يَعْظُم إلا المصيبةَ فإنها تبدو عظيمة ثم تصْغُر‏.‏

القول عند الموت الأصمعيّ عن مُعْتمر عن أبيه قال‏:‏ لقِّنوا مَوْتاكم الشَّهادة فإذا قالوها فدَعوهم ولا تُضْجروهم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ إذا دخلتم على الرجل في المَوت فبَشِّروه لِيَلْقى ربّه وهو حسن الظنّ به وإذا كان حيًّا فخَوِّفوه‏.‏

ولَقِي أبو بكر طلحةَ بن عبيد الله فرآه كاسفَاً مُتَغَيراً لونُه فقال‏:‏ مالي أراك مُتَغَيِّراً لونُك قال‏:‏ لكلمة سمعتها منَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أسأله عنها قال وما ذاك قال‏:‏ سمعتُه يقول‏:‏ إني أعلم كلمة مَن قالها عند الموت مَحَّصت ذُنوبَه ولو كانت مثلَ زَبَد البحر فأنْسِيت أن أسأله عنها‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ أعَلِّمُكَها وهي‏:‏ لا إله إلا اللّه‏.‏

أبو الحُبَاب قال‏:‏ لما احتضر مُعاذ قال لخادمته‏:‏ وَيْحكِ‏!‏ هل أصْبَحْنَا قالت‏:‏ لا ثم تركها ساعةً ثم قال لها‏:‏ انظُري فقالت‏:‏ نعم قال‏:‏ أعوذ باللهّ من صباحٍ إلى النار‏.‏

ثم قال‏:‏ مَرْحباً بالموت مَرْحباً بزائر جاء علىِ فاقة أفلح من نَدِم‏.‏

اللهم إنك تعلم أني لم أحِبّ البقاء في الدنيا لِجَرْي الأنهار وغرْس الأشجار ولكن لمُكابدة اللَّيل الطويل وظمأ الهَواجر في الحرّ الشديد ومُزاحمة العُلماء بالرًّكب في مجالس الذِّكر‏.‏

ولما حضرت الوفاةُ عمرَ بن عُتبه قال لرفيقه‏:‏ نَزَلَ بي الموتُ ولم أتأهّب له اللهم إنك تعلم أنه ما سَنح لي أمران لك في أحدهما رضاً ولي في الآخر هوًى إلا آثرْتُ رِضَاك على هَوَاي‏.‏

ولما حضرَت الوفاةُ عمَر بنَ الخطاب‏:‏ قال لوَلده عبد الله بنِ ابن السمَّاك قال‏:‏ دخلتُ على يزيد الرَّقاشي وهو في الموت فقال لي‏:‏ سَبَقَني العابدون وقُطع بي والهْفَاه‏!‏ موسى الأسْوارِيّ قال‏:‏ دخلتُ على أزْدامَرْد وهو ثَقيل فإذا هو كالخُفَّاش لم يَبْقَ منه إلا رَأْسُه فقُلْت له‏:‏ يا هذا ما حالُك قال‏:‏ وما حالُ من يُرِيد سفراً ‏"‏ بعيداً ‏"‏ بغير زاد ويَنطلق إلى ملك عَدْل بغير حُجَّة ويَدْخُل قبراً مُوحشاَ بغير مُؤْنس قال عمرُ بن عبد العزيز لأبي قِلاَبة وقد وَلي غَسْل ابنه عبد الملك‏:‏ إذا غَسّلته وكَفَّنتَه فآذنِّي قبل أن تُغَطِّي وجهه فَفَعل فنظر إَليه وقال‏:‏ رَحمك اللّه يا بُني وغَفَر لك‏.‏

ولما مات محمد بن الحجَّاج جَزع عليه جَزَعاً شديداً وقال‏:‏ إذا غسَّلتموه وكَفَّنتُموه فآذنوني ففعلوا فنظر إليه وِقال مُتمثّلاً‏:‏ الآن لما كنتَ أكملَ مَنْ مَشى واْفترّ نابُك عن شَباة القارِح وتكاملتْ فيك المُروءة كُلُّها وأعنت ذلك بالفعال الصالح فقيل له‏:‏ اتّق اللّه واسترجع فقال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك‏:‏ كيف تجدك يا بُني قال‏:‏ أجِدُني في الموت فاحْتَبِسني فإنّ ثوابَ اللّه خيرٌ لك منّي قال‏:‏ واللَّه يا بُني لأن تكون في ميزاني أحب لي أن أكون في ميزانك قال‏:‏ وأنا واللهّ لأن يكون ما تُحب أحبَّ إليّ من أن يكون ما أحِب‏.‏

لما احتضر عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله استأذن عليه مَسْلمة بنُ عبد الملك فأذِن له وأمره أن يُخفِّف الوَقْفة فلما دخل وقف عند رأسه فقال‏:‏ جَزاك اللّه يا أميرَ المؤمنين عنّا خيراً فلقد ألنت لنا قُلوباً كانت علينا قاسية وجعلت لنا في الصالحين ذِكْراً‏.‏

حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أنَس بن مالك قال‏:‏ كانت فاطمةُ جالسةً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فتراكبت عليه كُرَب الموت فرفع رأسه وقال‏:‏ واكَرْباه‏!‏ فبكت فاطمة وقالت‏:‏ واكَرْباه لكَرْبك يا أبتاه‏!‏ قال‏:‏ لا كَرْب على أبيك بعد اليوم‏.‏

الرِّياشي عن عثمان بن عُمَر عن إسرائيل عن مَيْسرة بن حبيب عن المِنْهال بن عمرو عن عائشة بنت طَلْحَةَ عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت‏:‏ ما رأيتُ أحداً من خَلْق الله أشبه حَدِيثاً وكلاماً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة وكانت إذا دخلتْ عليه أخذ بيدها فقبَّلها ورَحَب بها وأجْلسها في مَجْلسه وكان إذا دخلِ عليها قامت إليه ورَحَّبَت به وأخذت بيده فقبَّلتها‏.‏

فدخلتْ عليه في مَرضه الذي تُوفي فيه فأسرَّ إليها فبكت ثم أسرّ إليها فضَحِكت‏.‏

فقلتُ‏:‏ كنتُ أحسَبُ لهذه المَرأة فضلاً على النِّساء فإذا هي واحدةٌ منهنّ بينما هي تَبكي إذا هي تَضْحك‏.‏

فلما تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتُها فقالت‏:‏ أسرّ إليّ فأخبرني أنه مَيِّت فبكيتُ ثم أسرَ إليَّ أني أولُ أهل بَيته لُحُوقاً به فَضَحكتُ‏.‏

القاسم بن محمد عن عائشة أمّ المؤمنين رضي اللهّ عنها‏:‏ أنها دخَلَت على أبيها في مرضه الذي مات فيه فقالت له‏:‏ يا أبَتِ اعهد إلى خاصتك وأنْفذ رأيك في عامّتك واْنقُل من دار جهازك إلى دار مُقامك وإنك مَحْضُور ومًتَصِل بقلبي لوْعتُك وأرى تخاذل أطْرافك وانتفاع لَوْنك فإلى ‏"‏ اللّه ‏"‏ تَعْزيتي عنك ولديه ثوابُ صَبْري عليك أَرْقأ فلا أرْقأ وأشْكُو فلا أشْكَى‏.‏

فرفعِ رأسه فقال‏:‏ يا بُنيّة هذا يوم يُحَلّ فيه عن غِطائي وأعاين جزائي إنْ فرٍحاً فدائم وإنْ تَرَحاً فمُقيم‏.‏

إني اضطلعت بإمامة هؤلاء القوم حين كان النكوص إضاعةً والحذر تَفْريطاً فشَهيدي اللّه ما كان بقلبي إلا إياه فتَبلَغت بصَحْفتهم وتعلّلت بدرّة لقْحَتهم وأقمت صَلاَي معهم لا مُخْتالاً أشِراً ولا مُكابِراً بَطِراً لم أعْدُ سَدَّ الجوْعة وتوْرية العَوْرة طَوًى مُمغص تَهْفُو له الأحْشاء وتَجِبً له الأمعاء واضطررت إلى ذلك اضطرار الجَرِض إلى الماء المَعيف الآجن فإذا أنا مِتُّ فردِّي إليهم صَحْفتهم ولَقْحَتهم وعَبْدَهم ورحَاهم ودِثَارة ما فوقي اتقيت بها أذى البرد ووِثارة ما تحتي اتقيتُ بها أذىَ الأرْض كان حَشْوهُما قِطَع السَّعف‏.‏

ودخل عليه عمر فقال‏:‏ يا خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كلفتَ القومَ بعدك تَعَبا ووَلَّيتهم نَصَبا فهيهات مِن شقّ غُبَارك فكيف باللحاق بك‏.‏

وقالت عائشة وأبوها يُغمَّض‏:‏ وأبْيَض يُسْتَسْقَى الغمامُ بوجهه رَبيع اليَتامى عصمة للأرامِل عليه فقالت‏:‏ لَعمرك ما يغني الثّرَاء عن الفَتى إذا حَشْرَجَت يوماً وضاق بها الصَّدْرُ قالت‏:‏ فنظر إليّ كالغضبان وقال لي‏:‏ قُولي‏:‏ ‏"‏ وَجَاءَتْ سَكْرةُ المَوْتِ بالحَقّ ذلِك ما كُنْتَ منه تَحِيد ‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ انظروا مُلاءَتيّ فاغْسلوهما وكفِّنوني فيهما فإن الحيَّ أحوجُ إلى الجديد من الميّت‏.‏

وقال مُعَاوية حين حَضرَته الوفاة‏:‏ أَلا لَيْتَني لم أغنَ في المًلْكِ ساعةً ولم أَكُ في اللَّذّات أعْشىَ النواظِرِ وكنْتُ كذِي طِمْرَيْنِ عاش بِبُلْغَةٍ لياليَ حتى زار ضَنْك المَقابِر لما ثَقُل مُعاوية ويزيدُ غائبٌ أقبل يزيد فوجد عُثمان بنَ محمد بن سُفيان جالساً فأَخذ بيده ودخل على مُعاوية وهو يجود بنفسه فكلَّمه يزيدُ فلم يُكلِّمه فبكى يزيدُ وتَضَوَّر مُعاوية ساعةً ثم قال‏:‏ أي بُنى إنّ أعظم ما أخافُ الله فيه ما كنتُ أصنع لك‏.‏

يا بني إني خَرجْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا مضى لحاجته وتوضأ أصبّ الماء على يَدَيه فنَظَر إلى قميص لي قد انخرِق من عاتقي فقال لي‏:‏ يا مُعاوية‏:‏ ألا أكسُوك قميصاً قُلت‏:‏ بلى فكَساني قميصاً لم ألبَسْه إلا لَبْسَةً واحدة وهو عندي واجتز ذات يوم فأخذتُ جُزازة شَعرِه وقُلامَة أظفاره فجعلتُ ذلك في قارُورة فإذا مِتِّ يا بُني فاغْسِلْني ثم اجعل ذلك الشّعر والأظفار في عَيْنَيَّ ومِنْخَري وفميِ ثم اجعل قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم شِعَاراً من تحت كَفَني إن نَفَع شيء نفع هذا‏.‏

لما احتُضِر عمرو بن العاص جمع بَنِيه فقال‏:‏ يا بَني ما تغنون عني من أمر اللّه شيئاً قالوا‏:‏ يا أبانا إنه الموت ولو كان غيرُه لَوَقَيْناكَ بأنفسنا فقال‏:‏ أَسْنِدُوني فأسْنَدوه‏.‏

ثم قال‏:‏ اللهم إنك أمرتني فلم أأْتمر وزَجَرتني فلم أَزْدَجِر اللهم لا قَوِي فأنتصر ولا بَريء فأعتذر ولا مُسْتكبر بل مُسْتغفر أستغفرك وأتوب إليك لا إله إلا أنت سُبحانك إني كنتُ من الظالمين‏.‏

فلم يَزَل يُكَرِّرها حتى مات‏.‏

قال‏:‏ وأخبرنا رجالٌ من أهل المدينة أنَّ عمرو بن العاص قال لبنيه عند موته‏:‏ إنيِّ لستُ في الشرِّك الذي لو مِتُّ عليه أدْخِلْتُ النار ولا في الإسلام الذي لو مِتُّ عليْه أدخِلت الجنَة فمهما قَصَرْتُ فيه فإنِّي مُستَمْسِك بلا إله إلا اللهّ وقَبَض عليها يده وقُبض لوقته‏.‏

فكانت يده تفْتَح تترَك فَتَنْقَبض‏.‏

وقال لبَنِيه‏:‏ إنْ أنا مِتُّ فلا تَبْكوا عليّ ولا يتبعني مادح ولا نائحٌ وشًنُّوا عليِّ التراب شَنًّا فليس جَنْبي الأيمن أولى بالتراب من الأيسر ولا تجعلوا في قَبري خَشبةً ولا حَجَراً وإذا وارَيْتموني فاقعدوا عند قَبري قَدْرَ نَحْر جَزُور وَتَفْصِيلها أسْتَأنس بكم‏.‏

 الجزع من الموت

الفُضَيل بن عِيَاض قال‏:‏ ما جَزع أحدٌ من أصحابنا عند الموت ما جزع سُفْيان الثوريّ فقلنا‏:‏ يا أبا عبد الله ما هذا الجَزَع أليس تَذْهَب إلى من عَبَدْته وفَرَرْت ببدنك إليه فقال‏:‏ ويحكم‏!‏ إني أسْلُك طريقاً لم أعرفه وأقْدم علِى ربٍّ لِم أره‏.‏

ولما تُوُفِّي سعيدُ بن أبي الحسن وجد عليه أخوه الحسن وَجْداً شديداً فكُلِّم في ذلك فقال‏:‏ ما رأيتُ الله جعل الحُزن عاراً على يَعْقوب‏.‏

وقال صالح المًرِّي‏:‏ دخلتُ على الحسن وهو في الموت وهو يُكثِر الاسترجاعَ فقال له ابنه‏:‏ أمثْلك يَسترجع على الدنيا قال‏:‏ يا بُني ما أسْتَرجع إلا على نفسي التي لم أُصَب بمثلها قَطًّ‏.‏

ولما أمر معاوية بقتل حجْر بن الأدْبَر وأصحابه بَعث إليهم أكفانهمِ وأمر بأن تُفْتح قبورهم ويُقْتلوا عليها‏.‏

فلما قُدِّم حُجْر بن الأدبر إلى السيف جزعِ جزَعاً شديداً فقيل له‏:‏ أمثلُك يَجزعٍ من الموت فقال‏:‏ وكيف لا أجزع وأرى سيفاً مشهوراً وكفناً منشوراً وقَبْراً مَحفوراً‏.‏

  البكاء على الميت

الشَّعبي عن إبراهيم قال‏:‏ لا يكون البُكاء إلا من فَضْلٍ ‏"‏ قُوة ‏"‏ فإذا اشتد الحُزن ذَهَبَ البكاء‏.‏

فلئن بَكَيْناهُ لَحُقّ لنا ولئن تَرَكْنا ذاك للصَّبرِ فَلِمِثْله جَرَت العُيونُ دماً ولمثله جَمَدت ولم تَجْرِ مر الأحنف بامرأة تبكي مَيتاً ورجل ينهاها فقال‏:‏ دَعْها فإنها تَنْدُب عَهْداً قريباً وسَفراً بعيداً‏.‏

قالوا‏:‏ لما توُفَي إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وسلم بكى عليه‏.‏

فسُئِل عن ذلك فقال‏:‏ تدمع العينان ويحزن القلب ولا نَقُول ما يُسْخِط الرب‏.‏

ومَر النبي صلى الله عليه وسلم بنِسْوة من الأنصار يَبْكين مَيِّتاً فزَجَرهنَّ عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ دَعْهن يا عُمر فإن النفسَ مُصابة والعينَ دامِعة والعهدَ قريب‏.‏

ولما بكت نساء أهل المدينة على قَتْلى أُحد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لكنَّ حمزةَ لا باكيةَ له‏.‏

فسَمِع ذلك أهلُ المدينة فلم يَقُمْ لهم مأتم ‏"‏ أبعدها ‏"‏ إلى اليوم إلا ابتدأ ‏"‏ النّساء ‏"‏ فيه بالبكاء على حمزة قالت النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لولا أن يُشَقّ على صَفيَّة ما دفنتهُ حتى يُحْشرً من حواصل الطير وبُطون السِّباع‏.‏

ولما نُعي النًّعمان بن مُقَرَّن إلى عمر بن الخطاب وضع يدَه على رأسه وصاح يا أسفي على النعمان‏.‏

ولما استُشهد زيد بن الخطاب باليمامة وكا صَحبه رجلٌ من بني عَدِيّ بن كعب فرَجع إلى المدينة فلما رآه عمرِ دَمَعَت عيناه وقال‏:‏ وقال عمرُ بنُ الخطاب ‏"‏ رضي الله عنه ‏"‏‏:‏ ما هَبت الصَّبا إلا وجدتُ نَسيم زيد‏.‏

وكان إذا أصابته مصيبة قال‏:‏ قد فقدتُ زَيداً فصبرتُ‏.‏

ولما تُوفي خالدُ بن الوليد أيام عمرَ بن الخطاب وكان بينهما هجرة فامتنع النساء من البكاء عليه‏.‏

فلما انتهى ذلك إلى عمر قال‏:‏ وما على نساء بني المغيرة أن يُرِقْنَ من دمعهن على أبي سُليمان ما لم يكن لَغْواً ولا لَقْلَقة‏.‏

وقال معاوية وذُكر عنده النساء‏:‏ ما مَرَّض المَرضى ولا نَدَب الموْتى مِثْلهنَّ‏.‏

وقال أبو بكر بن عيّاش‏:‏ نزلت بي مصيبة أوْجعتني فذكرتُ قولَ ذي الرُّمة‏:‏ لعل انحدار الدَّمع يُعْقِبُ راحةً من الوَجْد أو يَشْفي شَجِيّ البَلاَبِل فَخَلوتُ فبكيتُ فسلوتُ‏.‏

وقال الفرزدق في هذا المعنى‏:‏ ألم تَرَ أنّي يومَ جَوِّ سُوَيْقة بَكيتُ فنادَتني هُنَيْدَةُ ماليَا فقُلتُ لها إنَّ البُكاء لراحةٌ به يَشْتَفي من ظَنً أن لا تلاقيَا قعيدَ كما الله الذي أنتما له ألم تَسْمعا بالبِيضَتين المُنَاديا حَبِيبٌ دعا والرمل بَيني وبينه فأسمعنى سَقْياً لذلك داعِياً يقال‏:‏ قعيدك اللّه وقِعْدَك اللهّ معناه‏:‏ سألتك اللّه‏.‏

قال بعضُهم‏:‏ خرجنا مع زَيْد بن عليّ نُريد الحجَّ فلما بلغنا النِّبَاج وصرنا إلى مقابرها التفتَ إلينا فقال‏:‏ لكُلِّ أًناس مَقْبَر بِفنائهم فهم يَنْقُصُون والقُبور تَزيدُ فما إنْ تَزالُ دارُ حَيٍّ قد اخْرِبَتْ وقَبْرٌ بأَفْنَاءِ البُيوت جديد هُمُ جِيرَةُ الأحياء أما مَزارُهم فدانٍ وأما المُلتقى فبَعِيد وقال‏:‏ مررتُ بيزيد الرَّقاشيّ وهو جالسٌ بين المدينة والمقبرة فقلت له‏:‏ ما أجْلسك ها هنا قال‏:‏ أَنْظُر إلى هذين العَسْكرين فعسكرٌ يَقْذِف الأحياء وعسكرٌ يلْتقم الموتى ثمِ نادى بأعلى صوته‏:‏ يأهلَ القُبور المُوحِشَةَ قد نطق بالخَرَاب فَناؤُها ومُهِّدَ بالتُّرَاب بِناؤُها فمحلُّها مُقْترَب وساكنها مغْتَرب لا يتواصلون تواصلَ الإخوان ولا يتزاورون تَزاور الجيران قد طَحَنهم بكَلْكَله البِلَى وأكلتهم الجنادل والثّرى‏.‏

وكان عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه إذا دخل المَقبرة قال‏:‏ أما المنازل فقد سُكِنت وأما الأموال فقد قُسِّمت وأما الأزواج فقد نُكِحت فهذا خبر ما عندنا فليْتَ شِعْري ما عندكم ثم قال‏:‏ والذي نفسي بِيده لو أذِن لهم في الكلام لقالوا‏:‏ إن خير الزَّاد التَّقوى‏.‏

وكان عليُّ بن أبي طالب إذا دخل المقبرة قال‏:‏ السلامُ عليكم يأهل الدِّيار المُوحِشة والمَحالَ المقفرة من المؤمنين والمُؤمنات اللهم اغفرِ لنا ولهم وتجاوَز بعفوك عنّا وعنهم‏.‏

ثم يقول‏:‏ الحمد لله الذي جعل لنا الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً والحمد للهّ الذي منها خَلَقنا و ‏"‏ جعل ‏"‏ إليها مَعَادنا وعليها محشرنا طوبى لمن ذكر المَعاد وعمل الحسنات وقَنع بالكفاف ورَضي عن الله عزّ وجلِّ‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دَخل المَقْبرة قال‏:‏ السلامُ عليكم دارَ قوم مُؤمنين وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون‏.‏

وكان الحَسَن البَصريّ إذا دخل المقبرة قال‏:‏ اللهم رَبّ هذه الأجساد البالية والعِظامٍ النّخرة التي خَرَجت من الدُّنيا وهي بك مؤمنة أدخِل عليها رَوحاً منك وسَلاماً منَّا‏.‏

وكان عليُّ ابن الفَضْل إذا دَخل المقبرة يقول‏:‏ اللهم اجعل وَفَاتهم نجاةً لهم مما يَكْرَهون واجعل حِسابهم زيادة لهم فيما يُحبون‏.‏

الوقوفْ على القبور وتأبين الموتى وقف أعرابيٌ على قَبْر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قُلتَ فَقَبِلْنا وأمرتَ فحَفظنا وبلَغت عن ربك فسَمِعْنا‏.‏

‏"‏ ولَو أنهم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم جاءُوك فاستَغْفرُوا الله واسْتَغْفر لهم الرَّسًولُ لَوَجَدُوا الله تواباً رَحيَماً ‏"‏‏.‏

وقد ظَلمنا أنفسنا وجِئْناك فاستَغفر لنا‏.‏

فما بَقِيت عينٌ إلا سالَتْ‏.‏

وقفت فاطمةُ عليهما السلام على قبر أبيها صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ فليتَ قَبْلَكَ كان الموتُ صادَفَنا لما نُعِيتَ وحالتْ دونك الكُتُبُ حمّاد بن سَلَمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال‏:‏ لما فَرغنا من دَفن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلَتْ عليَّ فاطمةُ فقالت‏:‏ يا أنس كيف طابَتْ أنفسكم أن تَحْثُوا على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الترابَ ثم بَكت ونادت‏:‏ يا أبتاه‏!‏ أجاب ربًّا دعاه يا أبتاه‏!‏ مِن ربِّه ما أدناه يا أبتاه‏!‏ مَن ربُّه ناداه يا أبتاه‏!‏ إلى جبربل نَنْعاه يا أبتاه‏!‏ جَنَّة الفرْدَوْس مأواه‏.‏

قال‏:‏ ثم سَكَتتْ فما زادت شيئاً‏.‏

ولما دُفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقْبل عبدُ الله بن مَسعود وقد فاتَتْه الصلاةُ عليه فوَقَفَ على قَبره يبكي ويَطْرح رِداءه ثم قال‏:‏ واللّه لئن فاتَتْني الصلاةُ عليك لا فاتَني حُسْنُ الثّناء أما واللهّ لقد كنتَ سَخيا بالحقّ بخيلاً بالباطل تَرضى حين الرِّضا وتَسْخَط حين السُّخْط ما كنتَ عَياباً ولا مَدِّاحاً فجزاك الله عن الإسلام خَيْراً‏.‏

ووقف عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه على قَبْر خَبّاب فقال‏:‏ رَحم اللهّ خَبِّابا لقد أسْلم رَاغِباً وجاهد طائعاً وعاش زاهداً وآبتُلي في جسمه فَصَبر ولن يُضيِّعَ اللهّ أجرَ من أحسن عملاً‏.‏

ولما توُفي عليّ بن أبي طالب رضوان اللهّ عليه قام الحسنُ بن علي رضي اللهّ عنهما فقال‏:‏ أيها الناس إنه قُبِض فيكم الليلة رَجُلٌ لم يسبقه الأولون ولم يُدْركه الآخِرِون قد كان رسولُ للّه صلى الله عليه وسلم يَبْعثه فيَكتنفه جبريلُ عن يمينه وميكائيل عن شِماله لا يَنْثني حتى يَفْتح الله له ما تَرَك صَفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة دِرهم أعدَّها الخادم له‏.‏

عبدُ الرحمن بن الحسن عن محمد بن مُصْعَب قال‏:‏ لما مات داود الطائي تكلَّم ابن السّماك فقال‏:‏ إنّ داود نظر إلى ما بي يَدَيه من آخرته فأعشى بَصَرُ القَلْب بصرَ العيَنْ فكأنه لم ينْظر إلى ما إليه تَنْظرون وكأنًكم لم تَنْظروا إلى ما إليه نظر وأنتم منه تَعْجبون وهو منكم يَعْجَب فلما رآكم مَفْتُونين مَغرورين قد أذهَلت الدّنيا عًقُولكم وأماتت بحبِّها قُلوبكم آستوحش منكم فكنتَ إذا نظرتَ إليه حَسِبْتَه حيًّا وسْط أمْوات‏.‏

يا داود ما أعجب شأنك بين أهل زمانك‏!‏ أهَنت نَفْسك وإنما تُريد إكرامَها وأتْعبتها وإنما تُريد راحتها أخشَنْت المَطعم وإنما تُريد طيبَه وأخْشَنْت الملبس وإنما تُريد لينه ثم أمَتَّ نَفْسك قبل أن تموت وقَبرْتها قبل أن تُقْبَر وعذَّبتها قبل أن تُعَذَّب سَجَنْت نفسك في بَيْتك ولا مَحدِّث لها ولا جليس معها ولا فِرَاش تحتك ولا ستر على بابك ولا قُلّة تُبرَّد فيها ماءك ولا صَحْفة يكون فيها غَداؤُك وعشاؤك‏.‏

يا داود ما تشْتهي من الماء بارده ولا من الطعام طيِّبه ولا من اللِّباس ليِّنه بلى ولكن زَهِدْت فيه لما بين يَدَيك فلا أصغر ما بذلتَ وما أحقرَ ما تَرَكْتَ في جَنْبِ ما رَغِبْت وأمًلت‏!‏ لم تقبل من الناس عَطيَّة ولا من الإخوان هدية فلما مِتّ شَهَرَك رَبًّك بفَضْلك وألبسك رِدَاء عملك فلو رأيت مَنْ حَضرَك وقف الأحنفُ بن قيسِ على قَبْر أخيه فأنشد‏:‏ فوالله لا أنْسى قَتيلا رُزِئْتُه بجانب قوسىَ ما مَشيَ على الأرض على انها تَعْفُو الكُلومُ وإنما نوَكَلُ بالأدنى وإن جلَّ ما يَمْضي ووقف محمد بن الحَنَفية على قبر الحُسن بن علي رضي الله عنه فخَنَقَتْه العَبرَة ثم نَطقَ فقال‏:‏ يَرْحمك الله أبا أحمد فلئن عزّت حَياتُك فلقد هَدَّت وفاتُك ولَنِعْم الرُّوح روح ضَمّه بدَنك ولَنِعْمَ البدن بَدَنُ ضَمَّه كَفَنُك وكيف لا يكون كذلك وأنت بقيّة ولد الأنبياء وسليل الهُدى وخامِس أصحاب الكِساء غَذَتْك أكُفّ الحقّ ورُبيت في حِجْر الإسلام فطِبْت حيّا وطِبْت مَيِّتاً وإن كانت أنفسنا غيرَ طيِّبة بفراقك ولا شاكة في الخِيار لك‏.‏

ووقَفت عائشة على قبر أبي بَكْر فقالت‏:‏ نَضَّر الله وَجْهَك وشكرَ لك صالح سَعْيك فقد كًنت للدنيا مُذِّلاً بإدبارك عنها وكنت للآخرة مُعِزاً بإقبالك عليها ولئن كان أجلَّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رُزْؤُك وأعظم المصائِب بعده فقْدُك إنَّ كتاب الله لَيعِد بحُسْن الصبر فيك وحُسن العِوَض منك فأنا أنتجز موعد الله بحسن العزاء عليك وأستعيضه منك بالاستغفار لك فعليك السلامُ ورحمة اللهّ توديع غير قاليةٍ لك ولا زارية على القضاء فيك ثم انصرفت‏.‏

لما قُبض أبو بكر ‏"‏ رضي الله عنه ‏"‏ سُجِّي بثَوب فارتَجَّت المدينة بالبُكاء عليه ودهش القوم كيوم قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عليٌّ ابن أبي طالب باكياً مُسرعاً مسترجعاً حتى وَقف بالباب وهو يقول‏:‏ رَحمك الله أبا بكر كنت واللهّ أولَ القوم إسلاماً وأخلصهم إيماناً وأشدهم يقيناً وأعظمهم عناء وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحربَهم كل الإسلام وأحناهم على أهله وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خُلُقاً وَفَضْلاً وَهَدْياً وصمتاً فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول اللهّ وعن المُسلمين خيراً صدّقت رسول الله ‏"‏ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حين كَذًبه الناس وواسيتَه حين بَخِلوا وقمت معه حين قعدوا سمّاك اللهّ في كتابه صِدِّيقاً فقال‏:‏ ‏"‏ والَّذي جَاءَ بالصَدق وصَدق به ‏"‏ يريد محمداً ويُريدك‏.‏

كنت واللهّ للإسلام حِصْناً وعلى الكافرين عَذاباً لم تُفْلَل حُجَّتك ولم تَضْعُف بصيرتُك ولم تَجْبُن نفسك‏.‏

كنت كالجبلِ لا تُحَرِّكه العواصف ولا تُزيله القَواصف كنت كما قال رسول الله ‏"‏ صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏:‏ ضعيفاَ في بدنك قويًّا في أمر الله متواضعاً في نَفْسك عَظيماً عند اللهّ قليلاً في الأرض كثيراً عند المؤمنين لم يَكن لأحد عِنْدك مَطْمَع ولا لأحدٍ عندك هَوَادة فالقويُّ عندك ضعيف حتى تأخذَ الحقّ منه والضعيفُ عندك قويُّ حتى تأخذ الحقّ له فلا حَرَمنا الله أجرَك ولا أضَلنا بعدك‏.‏

وَقف عبد الملك بن مَرْوان على قبر معاوية فقال‏:‏ تاللّه إن كنت إلا كما علمت يُنْطقك العِلم وما الدَّهر والأيام إلاّ كما ترى رَزِيّة مالٍ أو فِراقُ حَبِيب الهيْثم بن عدى قال‏:‏ لما هَلَك زياد استعمل مُعاوية الضحّاك على الكُوفة فلما دخلها سأل عن قبر زياد فدُلَ عليه فأتاه حتى وَقف به ثم قال‏:‏ أبا المُغِيرة والدنيا مُفجِّعة وإنّ من غرَّت الدُّنيا لَمَغْرُورُ قد كان عِنْدك لَلْمَعْروف مَعْرفةٌ وكان عِنْدك للنَّكْرَاء تَنْكير لو خَلَّدَ الخِيرُ والإسلامُ ذا قَدَم إذًا لَخَلِّدَك الإسلامُ والخير والأبيات لحارثة بنَ بَدْر يَرْثى زياداً‏.‏

المدائنيّ قال‏:‏ لما دَفن عليُّ بن أبي طالب كرَّم اللهّ وجهه فاطمة عليهما السلام تَمثّل عند قبرها فقال‏:‏ لكًلّ اجْتماع من خَلِيلَين فًرْقَةٌ وكل الذي دون الممات قَلِيلُ وإنّ آفتقادى واحداً بعد واحدٍ دليل على أن لا يَدُومَ خَليل لما مات الحسنُ بن عليّ عليهما السلامُ ضرَبت آمرأته فُسْطاطا على قبره وأقامت حَوْلاً ثم انصرفتْ إلى بَيتِّها فسمعَتْ قائلاً يقَول‏:‏ أدرَكوا ما طَلبوا‏.‏

فأجابه مُجيب‏:‏ بل مَلُّوا فانصرفوا‏.‏

ابن الكَلْبي قال‏:‏ وقفت نائلة بنتُ الفُرافِصَة الكَلْبية عَلى قبر عثمان فتَرحمت عليه ثم قالت‏:‏ ثم انصرفتْ إلى منزلها فقالت‏:‏ إني رأيتُ الحُزْنَ يَبْلى كما يَبْلى الثوبُ وقد خِفْت أن يَبْلى حُزْنُ عثمان في قلبي‏.‏

فَدَعَتْ بفِهْر فهشَمت فاها وقالت‏:‏ واللّه لا قَعد منّي رجل مَقعد عثمان أبدا‏.‏

لما هلك الإسْكندر قامت الخُطباء على رأسه فكان من قولهم‏:‏ الإسكندر كان أمس أنطقَ منه اليوم وهو اليوم أوعظُ منه أمس‏.‏

أخذ هذا المعنى أبو العتاهية فقال عند دَفْنه ولداً له‏:‏ كَفي حَزَناً بِدَفْنِك ثم أني نفضتُ تُرَاب قَبْرك من يَديا وكنتَ وفي حًياتك لي عِظاتٌ فأنتَ اليومَ أوعظُ منك حيّا وَقف أبو ذرّ الهَمْداني على قبر ابنه ذرّ فقال‏:‏ يا ذَرّ شغلني الحزن لك عن الحزْن عليك فليت شِعْري ما قُلتَ وما قيل لك‏.‏

ثم قال‏:‏ اللهم إنّي قد وهبتُ لك إساءته إلي فَهَبْ له إساءته إليك‏.‏

فلما انصرف عنه التفتَ إلى قبره فقال‏:‏ يا ذرّ قد انصرفنا وتَرَكْناك ولو أقمنا ما نَفعناك‏.‏

وقف محمد بن سُليمان على قبر ابنه فقال‏:‏ اللهم إني أرجوك له وأخافك عليه فحقق رجائي وآمِنْ خوفي‏.‏

وَقفت أعرابيّة على قبر أبيها فقالت‏:‏ يا أبتِ إنَّ في اللهّ تبارك وتعالى من فَقْدِك عِوَضاً وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مُصيبتك أسْوة ثم قالت‏:‏ اللهمٍ نَزل بك عبدُك مُقْفِراً من الزاد مخشَوْشِن المِهاد غَنِيًّا عما في أيدي العباد فقيراً إلى ما في يَدَيك يا جواد وأنت أي ربّ خيرُ من نزل به المؤًمِّلون واْسْتَغْنى بفَضْلِهِ المقِلًّون وولَجَ في سَعة رَحْمَته المُذْنبون‏.‏

اللهم فَليكن قِرَى عبدك منك رحمتَك ومِهادُه جنّتك ثم انصرفت‏.‏

قال عبد الرحمن بن عمر‏:‏ دخلْتُ على امرأة من نجد بأعلى على الأرض في خِباءٍ لها وبين يَدَيْها بُنَيّ لها قد نزلَ به الموتُ فقامتْ إليه فأَغْمضَته وعَصَبته وَسَجَّته وقالت‏:‏ يابن أخي قلتُ‏:‏ ما تشائين قالت‏:‏ ما أَحَقَّ من ألبس النِّعمة وأطِيلَت به النَظِرة أن لا يدع التوثّق من نَفْسه قبل حِل عُقْدته والحُلول بعَقْوَته والمحالة بينه وبين نَفْسه‏.‏

قال‏:‏ وما يَقطر من عينها دمعة صبراً وآحتسابأ‏.‏

ثم نظرت إليه فقالت‏:‏ واللهّ ما كان ‏"‏ مالُه ‏"‏ لبَطنه ولا أمره لعِرْسه ثم أنشدت‏:‏ رَحِيبُ ذِرَاعُ بالتي لا تشينه وإن كانت الفَحْشاء ضاق بها ذَرْعا وَقفَ عمرُ بن عبد العزيزِ على قبر ابنه عبد الملك فقال‏:‏ رَحمك الله يا بُنيّ فلقد كنت سارًّا مولوداً بارًّا ناشئاَ وما أَحْسِب أنّي لو دعوتُك أَجبْتني‏.‏

تُوفي رجل كان مُسْرِفاً على نفسه بالذُّنوب فتحامَى الناسُ جِنَازَته فبلغ عمرَ بن ذرّ خبره فأوصى إلى أهله أن خذوا في جهازه فإذا فرغتم فآذنوني ففعلوا وشهده عمر بن ذر وشهده الناسُ معه فلما فَرَغ من دفنِه وقفَ عمر بن ذر على قبره فقال‏:‏ يَرْحمك الله أبا فلان فلقد صَحِبت عُمرَك بالتَّوحيد وعَفَرْت لله سمع الحسنُ جارية واقفة على قبر أبيِها وهي تقول‏:‏ يا أبتِ مثلَ يومك لم أَرَه‏.‏

قال الذي والله لم يرَ مثلَ يومه أبوك‏.‏

وسمع عمر بن عبد العزيز خَصِيًّا للوليد بن عبد الملك واقفاً على قبر الوليد وهو يقول‏:‏ يا مولاي ماذا لَقِينا بعدك فقال له عمر‏:‏ أما واللّه لو أُذِن له في الكلام لأخبر أنه لَقي بعدكم أكثرَ مما لَقيتم بعده‏.‏

وقف مُعاوية على قَبْر أخيه عُتْبة فدعا له وِتَرَحّم عليه ثمِ التفت إلى مَن معه فقال‏:‏ لو أن الدُنيا بُنِيت على نِسْيان الأحِبة ما نسِيت عُتبة أبداَ‏.‏

  المراثيّ من رثي نفسه ووصف قبره وما يكتب على القبر

قال قال ابن قتَيْبة‏:‏ بلغني أن أوّل مَنْ بكى على نفسه وذكرَ الموت في شِعْره يزيدُ بن خَذّاق فقال‏:‏ هَل للفتى من بنات الدهر مِن وَاقِي أم هل له من حِمام المَوْتِ من رَاقِي قد رَجَّلوني وما بالشَّعر من شَعَثٍ وألبَسوني ثِيَاباً غيرَ أخْلاق وطَيَّبوني وقالوِا أيما رَجُلٍ وأدرَجوني كأنّي طيّ مخْرَاق وأرسَلوا فِتْيَةً من خيْرِهِمْ حَسَباً لِيُسْنِدُوا في ضرَيح القَبْر أطباقي وقَسمُوا المال وارفضّت عوائدُهم وقال قائلُهُم مات ابن خَذّاق هَوِّن عليك ولا تُولَع بإشفاق فإنّما مالُنا للوارث الباقي وقال أبو ذُؤيب الهُذليّ يَصِفُ حُفرته‏:‏ مُطأْطَأةً لم ينبطوها وإنها لَيَرْضى بها فُرَّاطها أُمَّ واحدِ فكنتُ ذَنُوبَ البِئر لما تَبَسَّلت وأدرجتُ أكفاني ووُسَدْت ساعدي وقال عُروة بن حِزام لما نَزل به الموتُ‏:‏ مَن كان مِن أخَوَاتي باكياً أبداً فاليومَ إني أُراني اليوْمَ مَقْبُوضَا يُسْمِعْنَنِيه فإنّي غيرُ سامِعِه إذا علوتُ رِقابَ القول مَعْروضا وقال الطرمِّاح بن حَكِيم‏:‏ فيا رَبّ لا تَجعل وَفاتِيَ إن أتَتْ على شَرْجَعٍ يُعْلَى بخُضْر المَطَارفِ ولكنْ شهيداً ثاوياً في عِصابة يُصابون في فَجٍّ من الأرْض خائف إذا فارَقُوا دًنْياهُم فارَقُوا الأذىَ وصارُوا إلى مَوْعُود ما في الصَّحَائف فأقْتَلَ قَعْصاً ثم يُرْمى بأعْظُمِي مُفَرقةً أوصالُها في التَنَائف ويُصْبِحَ لَحْمِي بَطْنَ نَسْر مقيلُه بجَوَ السماءِ في نُسورعواكف وقال مالك بن الرّيْب يَرْثى نَفْسه ويصِف قَبْرَه وكان خرَج مع سَعيد بن عثمان بن عفّان لما وَليَ خُراسان فلما كان ببعض الطَّريق أراد أن يَلْبَس خُفَّه فإذا بأفعى في داخلها فلسعَتْه فلما أحسّ الموت استلقى على قَفاه ثم أنشأ يقول‏:‏ دَعاني الهَوَى من أهل أودَ وصُحْبَتي بذِي الطَّبَسينْ فآلتفتُّ ورَائِياً ألم تَرَني بِعْتُ الضلالةَ بالهدَى وأصبحتُ في جَيْش ابن عَفّان غازيا فللّه درِّى حين أَتْرُك طائعاً بَنيَّ بأعْلَى الرقْمَتين وماليا ودَرّ كبيرَىَّ اللذين كِلاهما علَيَّ شفيقٌ ناصح لو نهانيا ودرُّ الظِّبَاء السانحات عَشيةً يُخَبَرْن أني هالكٌ من أماميا تقول ابنتي لما رأت وَشْك رِحْلتي سِفَارُك هذا تارِكي لا أباليا ألا ليتَ شِعْري هل بَكتْ أمالك كما كنتُ لو عالَوْا نَعِيك باكيا على جَدَث قد جرَّت الرِّيح فوقَه تُرَابا كسَحْق المَرْنبانيّ هابيا فيا صاحَبيْ رَحْلِي دَنا الموت فاحفِرَا برابية إنّي مُقيم لياليا وخُطّا بأطراف الأسِنَّة مَضْجعِي ورُدَّا عَلَى عَيْني فَضْلَ رِدَائيا ولا تَحْسداني بارَك الله فيكما من الأرض ذاتِ العَرْض أن توسِعاليا خُذَاني فَجُراني بِبُرْدِي إليكما وقد كنت قبلَ اليوم صَعْباً قيَاديا تفَقَّدْت مَنْ يَبكى عليّ فلم أجد سوى السَّيف والرُّمح الردَيّنيِّ باكيا لعمري لَئِن غالت خُراسانُ هامتي لقد كنتُ عن بابَيْ خرَاسان نائيا تَحَمَّل أصحابي عِشَاءَ وغادَرُوا أخا ثِقَةٍ في عَرْصَة الدَار ثاوِيا يَقُولون لا تَبْعَد وهم يَدْفِنُونني وأينَ مَكان البُعْدِ إلا مَكانيا وقال رجُل من بني تَغْلب يقال له أفْنُون وهو لَقبه واسمه صُرَيم بن مَعْشر بن ذُهْل بن تَيْم بن عمرو بن مالك بن حَبيب بن عمرو بن عُثمان بن تَغْلِب ولَقِيَ كاهناً في الجاهلية فقال له‏:‏ إنك تموت بمكان يقال له إلاهَة‏.‏

فمكث ما شاء الله ثم سافر في رَكْب من قومه إلى الشام فأتَوْها ثم انصرفوا فضلّوا الطَّريق فمالوا لرجل‏:‏ كيف نَأخذ فقال‏:‏ سِيرُوا حتى إذا كنتم بمكان كذا وكذا ظَهَر لكم الطريق ورَأيتم إلاهة - وإلاهة قارة بالسّماوة - فلما أتَوْها نزل أصحابُه وأبى أن يَنْزل فبينما ناقتُه تَرْتعى وهو راكبها إذ أخَذتْ بمشْفر ناقته حَيَّة فاحتكت الناقةُ بمشْفرِها فلدغتْ ساقه فقال لأخيه وكان معه واسمَه مُعاوية‏:‏ احفر لي فإني ميّت ثَم تغنِّى قبل أن يموت يبكى نفسه‏:‏ فلستُ على شيء فُروحَنْ مُعاويا ولا المُشْفِقاتُ إذ تَبِعْنَ الحوَازيا ولا خَيْرَ فيما يَكْذِب المرْءُ نفسَه وتَقْوَالِه للشيء يا ليت ذا ليا وإن أعْجَبَتك الدهرَ حال من آمرىء فَدَعْه ووَاكلْ حاله واللّياليا فطأ مُعْرضاً إنِّ الحُتُوف كثيرةٌ وأنَّك لا تبْقى بنَفْسِك باقيا لعَمْرك ما يَدْري آمرؤ كيف يَتَّقىِ إذا هو لم يَجْعل له الله وَاقيا كفي حَزناً أن يَرحل الرَّكب غُدْوَةَ وأنزِلَ في أعلَى إلاهة ثاويا قال‏:‏ فمات فَدَفَنوه بها‏.‏

وقال هُدْبة العذُرِي لما أيْقن بالموت‏:‏ ألا عَلَلاني قبل نَوْح النوائح وقبلَ آطّلاع النَّفس بين الجَوَانح وقَبل غدٍ يالَهْفَ نفْسي على غَدٍ إذا راح أصحَابي ولستُ برائح إذا راح أصحابي بِفَيض دُموعهم وغُودِرتُ في لَحْدٍ عليّ صَفَائحي يَقولون هل أصلحتمُ لأخِيكُم وما الرمْس في الأرض القِوَاء بصالح وقال محمد بن بَشير‏:‏ ويلٌ لمن لم يَرْحَم الله ومَن تكون النار مثْوَاهُ والوَيل لي من كل يوم أتى يُذَكِّرُني الموتَ وأنسَاه كأنّه قد قيل في مَجْلًس قد كنتُ آتية وأغْشاه‏:‏ صار البَشيريّ إلى رَبّه يَرْحَمًنا اللهّ وإياه أذْنَ حَيّ تسمعي اسمعي ثم عِي وَعي أنا رَهْنٌ بمَضْجَعيِ فاحنَرِي مثلَ مَصْرَعي عِشْتُ تسعين حِجّةَ ثم وافيتُ مَضجَعي لي شيءٌ سِوى التُّقَى فخذِي منه أو دَعِي وعارَضه بعضُ الشعراء في هذه الأبيات وأوْصى بأن تُكتب على قَبره أيضاً فكُتبت وهي‏:‏ أَصبح القبرُ مَضْجَعي ومَحلِّي‏.‏

وِمَوْضِعي صَرَعَتْني الحُتوف في التُّرْب يا ذُلَ مَصْرَعي أين إخوانيَ الذي ن إليهم تَطلُّعي متُّّ وَحْدِي فلم يَمُتْ واحد مِنْهُمُ مَعي وُجِد على قَبْر جارية إلى جَنْب قبر أبي نُواس ثلاثةُ أبيات فقِيل إنها من قول أبي نواس وهي‏:‏ أقول لِقَبْر زُرْتُه مُتَلثِّماً سَقَى اللهّ بَرْدَ العفو صاحبة القبر لقد غَيَّبُوا تحت الثَّرَى قَمَرَ الدُّجى وشَمْس الضُحى بين الصَّفائح والعفْو إن كان لا يَرْجوك إلا مُحْسِنٌ فَبِمن يَلوذ ويستجير المُجْرِمُ أدْعُوك ربِّ كما أمرتَ تَضرُّعاً فإذا رَدَدْتَ يدِي فمن ذا يَرْحم مالي إليك وسيلةٌ إلا الرّجا وجَميلُ عَفوك ثم أني مُسْلِمُ الخُشنىّ قال‏:‏ أخبرنا بعضُ أصحابنا ممن كان يَغْشى مجلس الرِّياشي قال‏:‏ رأيتُ علي قبر أبي هاشم الإياديّ بواسط‏:‏ الموتُ أخْرَجَني من دار مَمْلكتِي والموتُ أضْرَعني من بَعد تَشْريفِي لله عَبْدٌ رَأى قَبري فأعْبرَه وخاف من دَهْره رَيْبَ التَصارِيف الأصمعي قال‏:‏ أخذ بيدي يحيى بن خالد بن بَرْمك فوقفني على قبره بالحِيرة فإذا عليه مكتوب‏:‏ إنَّ بَنِي المُنذر لما آنقضَوْا بحب شاد البَيْعة الراهب تنفَح بالمِسْك مَحاريبهم وعنبرٍ يقطبه قاطِبُ والخُبز واللَحم لهم راهنٌ وقهْوَة راوُوقها ساكِب والقُطْنُ والكَتّان أثوابُهم لم يَجْلِب الصُوفَ لهم جالِب فأَصْبَحوا قُوتاً لدُود الثَّرى والدَهرُ لا يَبْقى له صاحِب الشَيبانيّ قال‏:‏ وُجد مكتوباً على بعض القبور‏:‏ مَل الأحِبّةُ زَوْرتي فجفيت وسَكنتُ في دار البلَى فنسيتُ الحيّ يَكْذِب لا صَديقَ لِمَيِّتٍ لو كَان يَصْدُق مات حين يَمُوت يا مُؤْنِسا سَكن الثَّرى وَبَقِيتُ لو كنتُ أصدُق إذ بليتُ بَليت أو كان يعمَى للبكاء مُفَجًع من طُول ما أبكِي عليك عَمِيت وقال محمدُ بن عبد الله‏:‏ وعمّا قلَيلٍ لنْ تَرى باكياً لنا سَيَضْحك من يَبْكى وُيعْرض عن ذِكْري تَرى صاحبي يبكى قليلاً لِفًرْقتي ويَضْحك من طُول اللَيالي على قَبري ويُحْدِث إخواناً ويَنْسى مَودَتي وتَشْغله الأحباب عنّي وعن ذِكْري من رثى ولده‏:‏ فمن قولى في وَلدي‏:‏ بَلِيت عِظامُك والأسىَ يتجَدَد والصبْر يَنْفَد والبُكا لا يَنْفَدُ يا غائباً لا يُرْتَجَىِ لِإيَابه ولقائه دونَ القِيامة مَوْعد ومن قولي فيه أيضاً‏:‏ واكَبِدَا قد قُطعت كَبِدي وحَرَّقتها لواعجُ الكَمدِ ما مات حَيٌ لميِّتٍ أسَفآَ أعذر من والدِ على وَلد يا رَحْمةَ الله جاوِرِي جَدَثاً دفَنْتُ فيه حُشَاشتي بِيَدي ونَوِّري ظًلْمة القُبور على مَن لم يَصِلْ ظُلْمُه إلى أحد من كان خِلْواً من كل بائقِةِ وطَيِّبَ الرُّوح طاهرَ الجَسَد يا موت يَحيى لقد ذهبتَ له ليس بُزمَّيْلَةٍ ولا نَكِد يا مَوْتَه لو أقلتَ عَثْرته يا يومَه لو تركتَه لِغَدِ يا موتُ لو لم تَكُن تعاجله لكان لا شكّ بَيْضَة البَلد أو كنتَ راخيتَ في العِنان حاز العُلا واحتَوَى على الأمد أي حسام سلبت رَوْنَقه وأيَّ رُوح سًللت من جَسد وأيَ ساقٍ قطعت من قَدَم وأيَ كَفٍّ أزلْت من عَضدُ لو لم أَمُتْ عند مَوْته كمَداً لَحُقّ لي أن أموت من كَمَدي يا لَوْعةً ما يزال لاعِجُها يَقْدح نارَ الأسى على كَبِدي وقلت فيه أيضاً‏:‏ قَصَد المَنُون له فمات فَقِيدَا ومَضى على صَرْف الخطُوب حَمِيدا بأبي وأمِّي هالِكاً أفْرِدتُه قد كان في كلِّ العُلوم فَرِيدا سُود المقَابر أصبحتْ بِيضاً به وغَدت له بيضُ الضمائر سُودا لم نُرْزَه لما رزِينا وَحْدَه وإن استقلّ به المنون وَحِيدا لكنْ رُزِينا القاسمَ بنَ محمّد في فَضْله والأسْودَ بنَ يَزيدا وابن المُبارك في الرقائق مُخْبِراً وابن المُسيِّب في الحديث سَعِيدا والأخفَشيَنْ فَصاحةً وبلاغةً والأعْشَيَيْن رِوايةً ونشيدا كان الوَصيَّ إذا أردتُ وصيّةً والمُستفادَ إذا طلبتُ مفِيدا وَلَّى حَفيظاً في الأذمّة حافظا ومَضى ودودا في الوَرَى مَوْدُودا تأبَى القُلوب المسْتَكِينة للأسى مِن أن تَكون حجارةً وحَدَيدا إن الذي باد السُّرورُ بِموْته ما كان حُزني بعده لِيَبِيدا الآنَ لما أن حَوَيتَ مآثرِاً أعْيَت عَدُوّا في الوَرَى وحَسُودا ورأيتُ فيك من الصلاح شمائلاً ومن السَّماح دلائلاً وشُهودا أبْكِي عليك إذا الحمامة طَرَّبت وَجْهَ الصَّباح وَغَرِّدت تَغْريدا لولا الحَياء وأنْ أزَنّ بِبِدْعة مما يُعدِّده الوَرى تعْدِيدا لجعلتُ يومَك في المَنائح مَأتما وجعلتُ يومَك في الموالد عِيدا وقلت فيه أيضاً‏:‏ لا بَيْتَ يُسْكن إلا فارَق السكَنَا ولا امتلا فَرَحاً إلا امتلا حَزَنَا لَهْفِي على مَيِّت مات السُّرور به لو كَان حَيًّا لأحْيَا الدينَ والسُّنَنا واهاً عليك أبا بَكْرٍ مُرَدَّدةً لو سَكَّنتْ ولَهاً أو فَتَرت شَجَنا إذَا ذكرتُك يوماً قُلت واحَزَنا وما يَرُد عليّ القَوْلُ‏:‏ واحَزَنا لو كنتُ أعطَي به الدنيا مُعاوَضةً منه لما كانت الدُنيا له ثَمنا وقال أبو ذُؤيب الهُذلي وكان له أولادٌ سبعة فماتوا كلّهم إلا طفلا فقال يرثيهم‏:‏ أمِنَ المَنون وَرَيْبه نَتَوجع والدَهر ليس بمًعْتِب من يَجْزَعُ قالت أمَيمة ما لجسْمك شاحباً منذ ابتُذِلْت ومثلُ مالك يَنْفع أم ما لجسمك لا يُلائِم مَضْجَعاً إلا أقَضَّ عليك ذاك المَضْجع فأجبتُها أن ما لجسْمي أنّه أوْدىَ بنَي من البِلاَد فودَعوا أودى بَنيّ وأعقَبُوني حَسْرةً بعد الرُّقاد وعَبْرةً ما تُقلِع سَبَقُوا هًوىّ وأعْنَقُوا لهواهمُ فَتُخرِّموا ولكلِّ جَنْبٍ مَصرَع فَبقِيت بعدهُم بعَيْشٍ ناصِبٍ وإخَال أنِّي لاحقٌ مسْتتبِع ولقد حَرَصْت بأن أدافع عنهم وإذا المَنيّة أقبلتْ لا تُدْفَع وإذا المنيَّة أنْشَبت أظفارَها ألفيتَ كلَّ تَمِيمة لا تَنْفع فالعين بَعدهُم كأنّ حِدَاقها سُمِلت بشَوْك فهي عُورٌ تَدْمَع والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبْتَها وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تَقنَعُ وقال الأصمعي‏:‏ هذا أبْدَع بَيْت قالته العرب‏.‏

وقال أعرابيٌّ يَرْثى بَنِيه‏:‏ أسُكّان بَطْن الأرْض لو يُقْبَلُ الفِدَا فَدَينا وأعْطينا بكم ساكِني الظَّهْرِ فيا ليتَ مَن فيها عليها وليتَ مَن عليها ثَوَى فيها مُقِيماً إلى الحَشْر وقاسَمني دهرِي بَنيّ بِشَطْره فلما تَقَصىَّ شَطْرُه مالَ في شَطْري فصارُوا دُيوناً للمَنايا ولم يَكُن عليهم لها دَيْن قَضَوْه على عُسْر كأنهمُ لم يَعْرف الموتُ غيرَهم فثُكْلٌ على ثُكلِ وقبر إلى قَبْر وقد كنتُ حَيَّ الخَوْفِ قبل وَفاتهم فلما تُوفّوا مات خوْفي من الدَّهر فلله ما أعْطى وللّه ما حَوَى وليس لأيّام الرزَّية كالصَّبر وقيل لأعرابية مات ابنها‏:‏ ما أحسنَ عزاءَك قالت‏:‏ إن فَقْدي إياه امنَني كل فَقْدٍ سواه وإن مُصيبتي به هونت عليّ المصائب بعده‏.‏

ثم أنشأت تقول‏:‏ مَن شاء بعدك فَلْيَمُتْ فَعَليك كنت أحاذِرُ إنِّي وَغَيري لا محا لةَ حيثُ صِرْتَ لصائر أخذ الحسنُ بن هانئ معنى هذا البيت الأول فقال في الأمين‏:‏ طَوَى الموت ما بَيْني وبين محمد وليس لمَا تَطْوِي المِنيّة ناشر وكنتُ عليه أحذر الموتَ وحدَه فلم يَبْق لي شيءٌ عليه أحاذير لئن عَمَرت دُورٌ بمن لا أحبّه لقد عَمَرت ممّن أحبّ المقابر وقال عبدُ الله بن الأهتم يَرْثي ابنا له‏:‏ دَعوتُك يا بُنيِّ فلم تجِبْني فَرُدّت دَعْوِتي يأساً عليِّ بموتك ماتت اللّذات منّي وكانت حَيَّةَ ما دُمتَ حياً فيا أسفَا عليك وطُولَ شَوْقي إليك لو ان ذلك رَدّ شَيّا وأصيب أبو العتاهية بابن له فلما دَفنه وقَف على قبره وقال‏:‏ كَفي حَزَناً بَدَفْنك ثم أنِّي نَفَضْتُ تُراب قَبْرك مِن يَدَيّا وكانت في حياتك لي عِظاتٌ فأنت اليومَ أوْعظُ منك حَيّا ومات ابن لأعرابيّ فاشتد حُزْنه عليه وكان الأعرابيّ يُكْنى به فقيل له‏:‏ لو صَبرتَ لكان أعظمَ كيف السُّلوّ وكيف أنسى ذِكْره وإذا دُعِيت فإنما أدْعَي به خرج عمرُ بن الخطّاب رضي اللهّ عنه يوماً إلى بقيع الغَرْقد فإذا أعرابي بين يديه فقال‏:‏ يا أعرابيّ ما أدخلك دارَ الحق قال‏:‏ وَدِيعة لي ها هنا منذُ ثلاث سنين قال‏:‏ وما وَديعتك قال‏:‏ ابنٌ لي حين تَرَعْرع فقدتُه فأنا أنْدُبه قال عمر‏:‏ أسْمِعني ما قلتَ فيه فقال‏:‏ يا غائباً ما يؤوب من سَفَره عاجَله موتُه على صِغَره يا قُرّة العَين كُنْتَ لي سَكَناً في طُول لَيْلى نَعم وفي قِصرَه شَرِبْتَ كأساً أبوكَ شاربُها لا بدُ يوماً له على كِبرَه أشربُها والأنامِ كلهم مَن كان في بَدْوِه وفي حَضَره فالحَمْد لله لا شريك له الموتُ في حُكمه وفي قَدَره قد قَسَّم الموتَ في الأنام فما يَقْدِر خَلْقٌ يَزِيد في عُمرُه قال عمر‏:‏ صدقتَ يا أعرابي غَير أن الله خيرٌ لك منه‏.‏

الشَيباني قال‏:‏ لما مات جَعفر بن أبي جعفر اْلمَنصور اشتدّ عليه حزنه فلما فَرغ من دَفْنه التفت إلى الرَّبيع فقال‏:‏ يا ربيع كيف قال مُطيع بن إياس في يحيى بن زياد فأنشد‏:‏ يا هل دواء لِقَلْبيَ القَرِح وللدُّموع الذوارِفِ السُّفُح يا خير من يَحسُن البُكاءُ به الْيومَ ومَن كان أمس للمِدَح قد ظَفِر الحُزنُ بالسُّرِور وقد أديل مَكْروهُه مِنَ الفَرح وقالت أعرابيةً تَنْدُب ابناً لها‏:‏ ابنيّ غَيّبك المَحلّ المُلْحَدُ إمّا بَعُدت فأين من لا يَبْعُدُ أنت الذي في كل مُمْسىَ لَيْلةٍ تَبْلى وحُزْنك في الحَشىَ يتجدَّد وقالت فيه‏:‏ لئن كنتَ لهواً للعُيون وقُوَّةً لقد صِرْت سُقْماً للقُلوب الصَّحائح وهَوَّن حُزْني أنّ يومَك مُدْرِكي وأني غداً من أهل تلك الضَّرائح وقال أبو الخطّار يَرْثي ابنه الخَطّار‏:‏ ألا خَبِّراني بارك الله فِيكماِ مَتى العَهْدُ بالخَطّار يا فَتَيان فتى لا يَرى نَومَ العِشاء غَنِيمةً ولا يَنْثَني من صَوْلة الحَدَثَان وقال جرير يرْثي ولده سَوَادَة‏:‏ قالوا نَصِيبَك من أجر فقلتُ لهم كيف العزَاء وقد فارقتُ أشْبالي وقال أبو الشَّغْب يَرْثي ابنه شَغْباً‏:‏ قد كان شَغْبُ لو آن الله عَمّره عِزًّا تُزاد به في عِزّها مُضَرُ ليتَ الجبالَ تَدَاعت قبل مَصرعه دَكَّا فلم يَبْقَ من أحجارها حَجَر فارقتُ شَغْبا وقد قُوِّسْت من كِبَرٍ بِئْس الخلِيطان طولُ الحُزْن والكِبَر ولما تُوفي أيوبُ بن سُليمان بن عبد الملك في حياة سُليمان وكانَ ولِيّ عهده وأَكبر ولده رثاه ابن عبد الأعلى وكان من خاصّته فقال فيه‏:‏ ولقد أقولُ لذي الشَّماتة إذ رَأَى جَزَعي ومن يَذُق الحوادثَ يَجْزَع أَبْشِر فقد قَرَع الحوادِثُ مَرْوَتي وآفرحْ بِمَرْوَتك التي لم تُقْرَع إنْ عِشْتَ تُفجَع بالأحِبّة كلِّهم أو يُفْجَعوا بك إن بهم لم تُفْجَع أَيًّوبُ من يَشْمَت بِموْتك لم يُطِقْ عن نَفْسه دَفْعاً وهل مِن مَدْفع الأصمعيّ عن رجلِ من الأعراب قال‏:‏ كُنّا عشرةَ إخْوة وكان لنا أخ يقال له حسن فَنُعِي إلى أبينا فبقي سَنَتين يَبْكي عليه حتى كُفَّ بَصَرُه وقال فيه‏:‏ أَفلحتُ إن كان لم يَمُت حَسَنُ وكُفّ عنّي البُكاءُ والحَزَنُ بل أَكْذَب الله مَن نَعى حَسَناً ليس لتَكْذِيب قَوْله ثَمَن بُدِّلْتُهم منك ليتَ أنهمُ كانُوا وبَيْني وبَيْنهم مُدُن قد عَلِموا عند ما أنافرهم ما في قَناتي صَدْع ولا أُبَن قد جَرَّبوني فما ألاوِمُهم ما زال بَيني وبَينهم إحَن قد بُرى الجسمُ مذ نُعيتَ لنا كما بَرى فَرْع نَبْعة سَفَن فإن نَعِشِ فالمُنى حَياتُكَ وال خُلْد وأنت الحديثُ والوَسَن إن تَحْيَ نحْيَ بخير عَيْشٍ وإن تَمْض فتِلْك السَّبيلُ والسَّنن بَريدُك الحمدُ والسَّلامُ مَعاً فكُلّ حَيٍّ بالموت مُرْتَهَن يا ويح نَفْسي أن كنتَ في جَدَثٍ دونَك فيه الترابُ والكَفن علي للّه إن لقيتك من قَبْل الممات الصَيامُ والبُدُن أسوقُها حافياً مُجلَّلةً أدْما هِجَاناً قد كظَّها السِّمَن فلا نُبالي إذا بَقيتَ لنا من مات أو مَن أوْدى به الزَمن كُنتَ خليلَي وكنتَ خالِصتي لِكل حيٍّ من أهلْهِ سَكَن فإِن يَنْقَطع منك الرَّجاء فإنه سَيَبْقى عليك الحُزْن ما بَقِيَ الدَّهر وقال أعرِابِيّ يرثي ابنه‏:‏ بُنَيّ لئن ضنَّت جُفونٌ بمائها لقد قَرِحَتْ منّي عليك جُفُونُ دَفنتُ بكفّي بَعْضَ نفسي فأصبحتْ وللنفس منها دافِنٌ ودَفِين وهذا نظير قوِلِي في طِفل أصبْت به‏:‏ على مِثْلها من فجْعة خانني الصَّبْر فِراق حبيب دون أوْبته الحَشْرُ ولي كَبِدٌ مَشْطُورة في يَدِ الأسى فَتَحْتَ الثّرى شَطرٌ وفوق الثّرى شَطر يَقولون لي صَبِّر فُؤادَك بعدَه فقلتُ لهم مالي فؤادٌ ولا صَبر فُرَيخ من الحُمْر الحواصل ما اكْتَسى من الرِّيش حتى ضَمّه الموتُ والقَبْر إذا قلتُ أسْلو عنه هاجت بلابلٌ يُجدِّدها فِكْر يُجدِّده ذِكْر وأنظر حَوْلي لا أرى غير قَبْرِه كأنّ جَمِيعِ الأرْض عندي له قَبر أفَرْخ جِنَان الخُلْد طِرْتَ بمُهْجتي وليس سِوى قَعْرِ الضَّريح له وَكْر وقالت أعرابيّة تَرْثي ولدها‏:‏ أيقنتُ بعدكَ أنِّي غيرُ باقيةٍ وكيف يَبْقى ذراعٌ زال عن عَضُد تُوفي ابنٌ لأعرابيّ فَبكى عليه حينا فلما هَمّ أن يَسْلُو عنه تُوفيِّ له ابن آخر فقال في ذلك‏:‏ إنْ أُفِقْ مِن حَزَنٍ هاج حَزَنْ فَفُؤادي ما له اليومَ سَكَنْ وكما تَبْلَى وُجوهٌ في الثَّرى فَكذا يَبْلَى عليهنّ الحَزَن وقال في ذلك‏:‏ عُيون قد بَكَيْنَك مُوجَعاتٍ أضرَّ بها البُكاء وما يَنِينَا إذا أنْفَذْن دَمْعاً بعد دمْعٍ يُرَاجِعْن الشُؤونَ فيستقينا أبو عبد الله البَجَلي قال‏:‏ وقفتْ أعرابيةٌ على قبر ابن لها يقال له عامر فقالت‏:‏ أقمتُ أَبْكِيه على قَبْرِه مَنْ ليَ مِن بَعْدك يا عامرُ تَرَكْتَني في الدّار لي وَحْشَةٌ قد ذلَّ مَن ليس له ناصِر وقالت فيه‏:‏ هو الصَّبْرُ والتَسْلِيم للِهّ والرضّا إِذ نَزلتْ بي خُطَّة لا أَشاؤُهَا إذا نحنُ أُبْنا سالمِينَ بأنْفُسٍ كِرَام رَجَتْ أمْراً فَخاب رجاؤُها هو ابنىَ أَمْسى أجره ‏"‏ لي ‏"‏ وعَزَّني على نَفْسِه رَبُّ إليه وَلاَؤُها فإنْ احْتَسِب أوجَر وإن أبكِه أكنْ كباكيةٍ لم يُحْي مَيّتَاً بُكاؤُها الشَيبانيّ قال‏:‏ كانت امرأة من هُذَيل لها عَشرة إخْوة وعَشْرَة أعمام فَهَلكوا جمعياً في الطاعون وكانت بِكْراً لم تَتزوّج فَخَطبها ابن عمّ لها فتزوّجها فلم تَلْبث أنْ اشتملت على غُلام فولدتْه فنَبت نباتاً كأنما يُمد بناصِيَته وبلغ فزوّجتْه وأخذتْ في جَهازه حتى إذا لم يَبْق إلا البِنَاء ‏"‏ بأهْله ‏"‏ أتاه أجلُه فلم تَشُقِّ لها جَيْباً ولم تَدْمَع لها عَين فلما فَرغوا من جَهازه دُعِيت لتوديعه فأكبَّت عليه ساعةَ ثم رَفعت رأسَها ونظرت إليه وقالت‏:‏ ألا تلك المَسَرَّة لا تَدُوم ولا يَبْقَى على الدَّهر النَّعيمُ ولا يبقى على الحَدَثان غُفْر بشَاهِقَةٍ له أمٌّ رءُوم ثم اكبَّتْ عليه أخرى فلم تقطع نَحيبها حتى فاضت نَفسُها فَدُفِنا جميعاً‏.‏

خَليفة بن خَيّاط قال‏:‏ ما رأيت أشدَّ كَمَداً من آمرأة من بني شَيبان قُتِل ابنها وأبوها وزَوجُها وأمّها وعَمَّتها وخالتُها معِ الضَّحّاك الحَرُورِيّ فما رأيتُها قطُّ ضاحكةً ولا مُتَبَسِّمَةَ حتى فارقت الدنيا وقالت ترثيهم‏:‏ مَنْ لِقَلْبٍ شَفَّه الحَزَنُ ولنَفْس ما لها سَكَن مَعْشر قضَوْا نُحوبهم كل ما قد قدَّموا حَسَن صَبَرُوا عند السّيُوف فلم يَنْكلُوا عنها ولا جَبُنُوا فِتْيةٌ باعُوا نًفوسَهُم لا وَرَبِّ البَيْتِ ما غُبِنُوا فأصاب القومُ ما طَلَبوا مِنَّةً ما بعدها مِنَن وقال عبدُ الله بن ثَعلبة يَرْثي ولداً له‏:‏ أأخْضِب رَأسي أم أطَيِّبُ مَفْرِقي ورَأْسُك مَرْموسٌ وأنتَ سلِيبُ نَسِيبُك من أمْسى يُناجِيك طَرْفُه وليس لمن تحت التراب نَسِيب غَرِيبٌ وأطْرافُ البُيوت تُكِنّه ألاَ كلّ مَن تحت التراب غريب قال العُتْبِيّ - محمدُ بن عُبيد اللّه - يرثِي ابنا له‏:‏ أَضْحَتْ بخدي للدُّموع رُسُومُ أسَفاً عليك وفي الفؤاد كُلُومُ والصَّبْر يُحمد في المَوَاطن كلِّها إلاّ عليك فإنّه مَذْمُوم خَرج أعرابيّ هارباً من الطاعون فبينما هو سائر إذْ لدغته أفعَى فمات فقال أبوه يَرْثيه‏:‏ طافَ يَبْغِي نَجْوَة مِنْ هَلاَكٍ فَهَلَكْ كلُّ شيءٍ قاتِلٌ حين تَلْقى أجلَك لما قَتل عبد الله المأمون أخاه محمدَ بنَ زبيدة أرسلت أمه زُبيدة بنت جَعْفر إلى أبي العَتاهية أن يقول أبياتاً على لسانها للمأمون فقال‏:‏ ألا إن رَيْبَ الدّهر يُدْنىِ ويًبْعِد وللدَّهْرِ أيَّام تُذَمّ وتُحْمَدُ أَقول لرَحيب الدَّهر إن ذَهبتْ يدٌ فقد بَقِيتْ والحمدُ للهّ لِي يَد إذا بَقِيَ المأمونُ لِي فالرَّشِيدُ لِي وليِ جَعْفَرٌ لم يَهْلِكَا ومحمّد وكَتبت إليه من قوله‏:‏ لخير إمام مِن خَير مَعْشَر وأكرم بَسَّام على عُودِ مِنْبَرِ كَتبتُ وَعينىِ تستهلُّ دُموعُها إليْك ابن يَعْلي من دمُوعي ومحْجري فُجِعْنا بأدنىَ الناس مِنك قَرَابةً ومَن زلَّ عن كِبْدي فقَلّ تَصبُّري أتىَ طاهرٌ لا طهَّر الله طاهراً وما طاهرٌ في فِعْله بمُطَهَّر فأبْرزَني مَكْشوفَة الوَجْه حاسِراً وأنْهَب أمْوالِي وخَرَّب أدْوُرِي وعَزَّ على هارونَ ما قد لَقِيتُه وما نابني مِن ناقِص الخَلْق أعْوَرِ ذلك الوقت وقَبِلتْ منه ما وجّه ‏"‏ به ‏"‏ إليها‏.‏

فلما صارتْ إليه بعد ذلك قال لها‏:‏ مَن قائل الأبيات قالت‏:‏ أبو العَتاهية قال‏:‏ وبكم أمرْتِ له فقالت‏:‏ بعشرين ألفَ دِرْهم قال المأمون‏:‏ وقد أمرنا له بمثل ذلك‏.‏

واعتذر إليها من قَتْل أخيه محمد وقال ‏"‏ لها ‏"‏‏:‏ لستُ صاحبَه ولا قاتِلَه‏.‏

فقالت‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنّ لكما يوماً تَجْتمعان فيه وأرْجو أنْ يَغْفِر اللهّ لكما إن شاء اللّه‏.‏

أبُو شَأس يَرثي ابنه شأسا‏:‏ ورَبيَّتُ شأساً لِرَيْب الزمان فلله تَرْبيتي والنَّصبْ فلَيتَك يا شأسُ فيمن بَقِي وكنتُ مكانَك فيمنْ ذَهَب ‏"‏ من رثى إخوته الرِّياشي قال‏:‏ صَلَّى مُتَمِّم بن نوَيْرة الصُّبح مع أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه ثم أنشد‏:‏ نِعْم القَتِيلُ - إذا الرِّياحُ تَنَاوَحَتْ بين البيُوت - قَتَلْت يا بنَ الأزْور أدعَوْتَه باللّه - ثم قَتَلْتَه لو هو دَعاكَ بِذِمَّة لم يَغْدِر لا يُضْمِر الفَحْشاءَ تحت رِدَائه حلْوٌ شمائلُه عَفِيفٌ المِئزَر قال‏:‏ ثمّ بكى حتى سالت عَينُه العَوْراء‏.‏

قال أبو بَكر‏:‏ مَا دعوتُه ولا قتلتُه‏.‏

وقال مُتَمِّم‏:‏ ومُسْتَضْحِكٍ منّي أدّعى كَمصيبتي وليس أخو الشَّجْو الحَزِين بضاحكِ يَقُول أتَبكي مِن قُبُور رأيتَها لِقَبْر بأطْراف المَلاَ فالدَّكادك فقلتُ له إنّ الأسى يَبْعَث الأسىَ فَدَعني فَهذِي كلُّها قَبْرُ مالك وقال مُتَمّم يَرْثي أخاه مالكاً وهي التي تُسمَّى أمَّ المَراثي‏:‏ لَعَمْرِي وما دَهْرِي بتأبين هالكٍ ولا جَزَع ممّا أَلمّ فَأوْجَعَا لقد غَيَّب اْلمِنْهَالُ تحت رِدَائه فَتىً غَيرَ مبطَانِ العَشِيّات أَرْوعَا تَراه كنَصْل السّيف يهتز للنَّدَى إذا لم تَجد عند امرىء السَّوء مَطْمَعا فَعَيْنىّ هلا تَبْكيان لمالكٍ إذا هَزَّت الرِّيحْ الكَنِيفَ المُرفَّعا وأرملَة تَمْشي بأَشْعَثَ مُحْثَل كَفَرْخ الحُبَاري ريشهُ قد تَمَزَّعا وما كان وَقّافا إذا الْخَيْل أحْجَمت ولا طالباً من خَشْية اْلمَوِت مَفْزَعا ولا بكهامٍ سَيْفُه عَن عدوّه إذا هو لاقَى حاسراً أو مُقَنَّعا أبى الصَّبرً آياتٌ أراها وأنّني أرى كُلَّ حَبْل بعد حَبْلِك أقْطَعَا وأنّي متى ما أدْعُ باسمك لم تُجب وكُنت حَرِيًّا أن تُجيب وتسمعا تَحِيَّتَه منّي وإن كان نائيَاً وأمسى تُراباً فوِقهَ الأرضُ بَلْقَعا فإن تَكُنِ الأيّام فَرقْن بَيْننا فقَد بان مَحْموداً أخِي حِين وَدَّعا فَعِشْنا بِخيْر في الحَياة وقَبْلَنا أصاب المَنايا رَهْطَ كِسْرَى وتُبَّعا وكُنَا كَنَدْمَاًني جَدِيمة حِقْبَةً من الدَهر حتى قِيل لن يَتَصَدًعا فلمّا تَفَرَّقْنا كأنِّي ومالِكا لِطُول اجتماع لم نَبِت ليلةً معا سَقى الله أرضاً حَلَّها قَبْرُ مالك ذِهابُ الغَوَادي المُدْجنات فأمْرَعا قيل لعمرو بن بَحْر الجاحظ‏:‏ إنّ الأصمعيّ كان يُسَمِّي هذا الشعرَ أمَّ المَراثي فقال‏:‏ لم يَسمع الأصمعيًّ‏:‏ أي القلوب عليكم ليس يَنْصَدعُ وأي نَوْم عليكم ليس يَمْتَنعً وقال الأصمعيُّ‏:‏ لم يَبْتدى أحدٌ مَرْثِية بأحسنَ من ابتداء أوس بن حَجَر‏:‏ أيتُها النَّفْسً أجملِي جَزَعا إِنّ الذي تَحْذرين قد وَقَعا وبعدها قولُ زُمَيل‏:‏ أجارتَنَا مَن يجتمع يَتَفَرَّقِ ومَن يَكُ رَهْنَاً للحوادث يَعْلَقِ قال ابن إسحاق صاحبُ المغازي‏:‏ لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّفْراء - وقال ابن هشام‏:‏ الأثيل - أمَر عليَّ بن أبي طالب بضَرْب عُنق النضر بن الحارث بن كَلَدَة بن عَلْقمة بن عبد مَناف صَبْراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أُخته قُتَيْلة بنت الحارث تَرْثيه‏:‏ يا راكباً إنّ الأثَيل مَظَّنَة من صُبْح خامسةٍ وأنت مُوَفَّقُ أبْلغْ بها مَيْتاً بأنْ تَحيَّةً ما إن تَزال بها النَّجائِبُ تَخْفِقً هل يَسْمَعنِّي النَضْر إن ناديتُه أم كيف يَسْمع مَيِّتٌ لا يَنْطِق أمحمدٌ يا خير ضِنْء كريمةٍ في قومها والفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِق ما كان ضَرَّك لو مَنَنْتَ وربما مَنَّ الفتى وهو المَغِيظُ المُحْنِق فالنَّضر أَقْرَبُ مَنْ أسَرْتَ قَرَابَةً وأحقُّهم إن كان عِتْقٌ يُعْتَقُ ظَلَّت سُيوف بني أبيه تَنْوشه للّه أرحام هُناك تشقَّق صَبْراً يًقَاد إلى المنيَّة مُتْعَباً رَسْفَ المُقَيد وهو فانِ مُوثَق قال ابن هشام‏:‏ قال النبي الصلاُة والسلام لما بلغه هذا الشًّعر‏:‏ لو بلغني قبلَ قَتْله ما قتلتُه‏.‏

الأصمعيًّ قال‏:‏ نَظر عمرُ بن الخَطاب إلى الخَنساء وبها نًدوب في وَجْهها فقال‏:‏ ما هذه النُدوب يا خَنْساء قالت‏:‏ من طُول البُكاء على أخَوَيّ قال لها‏:‏ أخَواك في النار قالت‏:‏ ذلك أطْول لِحُزني عليهما إني كنتُ أشْفِق عليهما من النار وأنا اليوم أبْكي لهما من النار وأنشدتْ‏:‏ وقائلةٍ والنَّعشُ قد فات خَطْوَها لِتًدْرِكه‏:‏ يا لَهْفَ نفسي عَلَى صَخْرِ ألا ثَكِلت أُمُ الذين غَدَوْا به إلى القَبرِ ماذا يَحْمِلون إلى القَبر دخلت خَنساء على عائشة أمّ المؤمنين رضي اللهّ تعالى عنها وعليها صِدَار من شَعَر قد استشعرته إلى جِلْدِها فقالت لها‏:‏ ما هذا يا خَنساء فوالله لقد تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لَبِسْتُه قالت‏:‏ إنّ له مَعْنى دَعاني إلى لِباسه وذلك أنّ أبي زَوَجني سيّد قومه وكان رجلاً مِتْلافاً فأسْرف في ماله حتى أنْفده ثم رَجِع في مالي فأنْفده أيضاً ثم التفت إليّ فقال‏:‏ إلى أين يا خَنْساء قلتُ‏:‏ إلى أخي صَخر‏.‏

قالتَ‏:‏ فأتيناه فَقَسَّم مالَه شَطْرَين ثم خَيَّرنا في أحْسن الشَّطْرين فَرَجْعنا من عنده فلم يَزَل زَوْجي حتى أذْهَبَ جَمِيعَه‏.‏

ثم التفت إليّ فقال لي‏:‏ إلى أينِ يا خَنْساء قلت‏:‏ إلى أخي صَخْر‏.‏

قالت‏:‏ فَرَحَلْنا إليه ثمٍ قَسَّم ماله شَطْرين وخيَّرنا في أفضل الشَّطْرين‏.‏

فقالت له زوجتُه‏:‏ أما تَرْضى أن تشَاطِرهَم مالك حتى تُخَيِّرهم بين الشَطرين فقال‏:‏ واللّه لا أمْنَحها شِرَارَها فلو هَلَكْت قَدَّدَتْ خِمَارَها واتخذَتْ من شَعَر صِدَارَها ‏"‏ وهي حَصَان قد كَفتْني عارها ‏"‏ فآليت أن لا يُفارق الصِّدارُ جَسَدي ما بَقِيت‏.‏

قيل للخَنْساء‏:‏ صِفِي لنا أخَوَيك صَخْراً ومُعاوية قالت‏:‏ كان صَخْرٌ واللّه جُنةَ الزمان الأَغْبر وزُعافَ الخَميس الأحمر وكان واللّه مُعاوية القائلَ والفاعل‏.‏

قيل لها‏:‏ فأيهما كان أسْنَى وأفْخَر قالت‏:‏ أمّا صَخْر فَحَرُّ الشِّتاءِ وأما مُعاوية فَبَرْد الهواء‏.‏

قيل لها‏:‏ فأيهما أوْجع وأفْجَع قالت‏:‏ أسَدان مُحْمَرَّا المَخالب نَجْدَةً بَحْران في الزَمن الغَضُوب الأمْمرٍ قمرَان في النَّادِي رَفِيعا مَحْتدٍ في المَجْدِ فَرْعا سُودَدٍ مُتَخَير وقالت الْخنساء تَرْثِي أخاها ‏"‏ صَخْر بن الشرِيد ‏"‏‏:‏ قَذىً بعَيْنِك أمْ بالْعَينْ عُوَّارُ أم أقْفَرت إذ خَلَتْ من أهْلها الدًارُ كأنَّ عَيْني لذِكْراه إذا خًطَرتْ فَيْضٌ يَسِيلُ على الخَدَّين مِدْرار فالعَينْ تَبكِي على صَخْر وحُق لها ودُونه من جَديد الأرض أسْتار بُكاءَ والهةٍ ضَلَّت أليفَتها لها حَنينان إصْغار وإكبار ترعى إذا نسيت حتى إذا ذكرت فإنما هي إقبالٌ وإدبار وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علمٌ في رأسه نار حامي الحقيقة محمود الخليقة مه ديُّ الطريقة نفاع ضرار وقالت أيضاً‏:‏ ألا ما لعيني ألا مالها لقد أخضل الدمع سربالها أمن بعد صخرٍ من آل الشريد حلت به الأرض أثقالها سأحمل نفسي على خطة فإما عليها وإما لها وقالت أيضاً‏:‏ أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الجريء الجواد ألا تبكيان الفتى السيدا طويال النجاد رفيع العما د ساد عشيرته أمردا يحمله القوم ما غالهم وإن كان أصغرهم مولدا جموع الضيوف إلى بابه يرى أفضل الكسب أن يحمدا وقالت أيضاً‏:‏ فما أدركت كف امرئ متناولاً من المجد إلا والذي نلت أطول وما بلغ المهدون للمدح غاية ولول جهدوا إلا الذي فيك إفضل وما ألغيث في جعد الثرى دمث الربى تعبق فيها الوابل المتهلل بأفضل سيباً من يديك ونعمةً تجود بها بل سيب كفيك أجزل من القوم مغشي الرواق كأنه إذا سيم ضيماً خادرٌ متبسل أيا شجر الخابور مالك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يريد العز إلا من التقى ولا المال إلا من قناً وسيوف ولا الذخر إلا كل جرداء صلدمٍ وكل رقيق الشفرتين حليف فقدناه فقدان الربيع فليتنا فديناه من سادتنا بألوف خفيفٌ على ظهر الجواد إذا عدا وليس على أعدائه بخفيف عليك سلام الله وقفاً فإنني أرى الموت وقاعاً بكل شريف وقال آخر يرثي أخاه‏:‏ أخٌ طالما سرني ذكره فقد صرت أشجى إلى ذكره وقد كنت أغدو إلى قصره فقد صرت أغدو إلى قبره وكنت أراني غنيا به عن الناس لو مد في عمره وكنت إذا جئته زائراً فأمري يجوز على أمره وقالت الخنساء ترثى أخاها صخراً‏:‏ بكت عيني وعاودها قذاها بعوار فما تقضي كراها لئن جزعت بنو عمرو عليه لقد رزئت بنو عمرو فتاها له كف يشد بها وكفٌ تجود فيما يجف ثرى نداها ترى الشم الغطارف من سليم وقد بلت مدامعها لجاها أحامِيَكم ومُطْعِمَكم تركتُم لَدَى غَبْرَاءَ مُنْهَدم رَجاها فَمن للضَّيْف إِن هَبَّت شَمَالٌ مُزَعْزعة تُنَاوِحها صَبَاها وأَلْجأ برْدُها الأشْوالَ حُدْباً إلى الحُجُرات بادِيةً كُلاها هنالك لو نَزلْت بباب صَخْرِ قَرَى الأضيافَ شَحْماً من ذُرَاها وخَيْل قد دَلَفْتَ لها بِخَيْل فَدَارَتْ بين كَبْشَيْها رَحاها تُكَفْكِفُ فَضْلَ سابِغَة دِلاصٍ على خَيْفانةٍ خَفِقٌ حَشاها ‏"‏ وقال كعب يرثي أخاه أبا المِغْوار‏:‏ تقول سُلَيْمى ما لِجِسْمك شاحباً كأنَّك يَحْمِيكَ الطَّعامَ طَبِيبُ فقُلتُ شجُون من خُطُوبٍ تَتابعت عليّ كِبَارٌ والزَّمانُ يَريب أخٌ كان يَكْفِيني وِكان يُعِيننِيِ على نائباتِ الدَّهْرِ حين تَنوب هو العَسَل الماذيُّ لِيناً وشِيمةً وليثٌ إذا لاقى الرجالَ قَطُوب هَوَتْ أُمُّه ما يَبْعَثُ الصُّبحُ غادِياً وماذا يَرُدّ الليلُ حين يؤوب كعالِية الرُّمْح الرُّدَيْنيّ لم يَكًن إذا ابتدر الخيلَ الرجالُ يَخيب وَدَاعٍ دَعَا يا مَن يُجيب إلى النَّدا فلم يَسْتَجبه عند ذاك مُجِيَب فقلت ادعُ أخرى وارفَع الصوت ثانيا لعلّ أبي المغْوَار منْك قَرِيب يُجبْك كما قد كان يَفْعَل إنّه بأمْثالها رَحْبُ الذّراع أريب وحًدّثتُماني أنّما المَوْتُ بالقُرى فكيفَ وهاتي هَضْبة وكئِيبُ فلو كانت المَوْتى تُباع اشتريتُه بما لم تَكُن عنه النُّفوس تَطيب بِعَيْني أو يمنى يَدَيّ وخِلْتُني أنا الغانمُ الجَذْلانُ حين يؤوب لقد أفسد الموتُ الحياةَ وقد أتى على يَوْمِهِ عِلْقٌ إليّ حَبيب أتى دون حُلْو العَيْش حتى أمَرَّه قُطُوبٌ على آثارهن نُكًوب أَلا يا عَين جُودي لي شَنينَا وبَكِّي للملوك الذَّاهبينا مُلُوك مِن بني صَخر بن عمرو يُقَادُون العَشِيَّة يقْتَلونا فلم تُغْسَل رُؤوسُهم بِسِدْر ولَكنْ في الدِّمَاءِ مُزَمَّلينا فَلَو في يَوْم مَعْرَكة أصِيبُوا ولكنْ في ديَار بَني مَرِينا وقال الأبَيْرد بن المُعذَّر الرياحي يَرْثي أخاه بُرَيداً‏:‏ ‏"‏ تَطَاوَل لَيلي ولم أنمهُ تَقَلّباً كأنَّ فِرَاشي حالَ من دونه الجَمْرُ أراقب من ليل التِّمام نُجومَه لَدُن غاب قَرْنُ الشمس حَتَّى بدا الفجر تَذَكَّرَ عِلْق بَانَ منّا بنَصرِه ونائله يا حَبَّذا ذلك الذِّكْر فإن تَكُن الأيّام فَرَّقْن بَينَنا فقد عَذَرَتْنا في صَحابته العُذْر وكنتُ أرى هَجْراً فِراقك ساعةً ألا لا بَلِ الموتُ التفرُّق والهَجْرُ أحَقًّا عبادَ الله أَنْ لستُ لاقيا بُرَيْداً طَوَالَ الدَّهْرِ ما لألأ العُفْر فَتًى ليس كالفِتْيان إلاّ خِيارَهم مِن القَوْم جَزْلٌ لا ذَليلٌ ولا غُمْر فَليتَك كُنت الحيَّ في الناس باقياً وكنتُ أنا المَيْتَ الذي ضَمَّه القَبْر قتًى يَشتَري حُسْن الثَّناء بماله إذا السَّنَةُ الشَّهْباء قَلَّ بها القَطْر كأنْ لم يُصَاحِبْها بُرَيد بِغبْطةٍ ولم تَأْتنا يَوْماً بأَخْباره البُشْر لَعَمْري لَنِعْم المرءُ عالىَ نَعِيَّهُ لَنا ابنْ عَرِيْنٍ بعد ما جَنَح العَصْر تَمَضَّتْ به الأخْبار حتى تَغَلْغَلت ولم تَثْنِه الأطْباعُ عَنّا ولا الجُدْر فلمّا نَعى النّاعي بُرَيْداً تَغَوَّلَت بي الأرْض فَرْطَ الحُزْن وانْقَطَع الظَّهر عَساكِرُ تَغْشَى النَّفْس حتى كأنني أَخو نَشْوَةٍ ارت بهامَته الخَمْر إلى الله أشكُو في بُرَيْدٍ مُصِيبتي وبَثِّي وأحْزاناً يَجيش بها الصّدر وقد كُنتُ أَستَعفي الإله إذا اشتكى من ألأجر لي فيه وإِن سَرَّني الأجر وما زال في عَيْنَيّ بَعدُ غِشاوةٌ وسَمْعيَ عما كنتُ أَسْمعه وَقْر عَلى أنَّني أقنَى الحياءَ وأتَّقي شماتة أقوام عُيونُهم خُزْر فحيَّاكَ عَنّي اليلُ والصبحُ إذ بدا وهُوجٌ من الأرْواح غُدْوَتُها شَهْر ومُجْتَمع الحُجّاج حيث تَوَاقفَت رِفاقٌ من الآفاق تَكْبيرها جَأر ‏"‏ يَمينَ امريءٍ آلى وليسَ بكاذبٍ وما في يَمين بتَّها صادقٌ وِزْرُ لَئن كان أَمْسَى ابنُ المُعَذَّر قد ثَوَى بُرَيْدٌ لِنعْم المَرْء غَيَّبَه القَبْر هو المَرْء للمَعْرُوف والدِّين والنَّدَى ومِسْعَر حَرْب لا كَهَامٌ ولا غُمْر أَقام ونادَى أهلُه فَتَحَمَّلوا وصُرِّمَتِ الأسْباب واختَلفت النَّجْر فأيّ امريء غادرتُم في بُيوتكم إذا هي أَمْسَتْ لونُ آفاقِها حُمْر إذا الشَّول أَمْسَتْ وهي حُدْبٌ ظُهورها عِجَافا ولم يُسْمَع لِفَحْل لها هَدْر كَثِير رَماد النَّار يُغْشَى فِنَاؤه إذا نُودي الأيْسار واحْتُضِر الجُزْر فَتًى كان يُغلي اللحمَ نِيئاً ولحمُه رَخِيصٌ بكَفّيه إذا تَنْزِل القِدْر يُقَسِّمه حتى يَشِيع ولم يَكُن كآخَر يُضْحى من غيبته ذُخْر فَتى الحيِّ والأضياف إنْ رَوَّحَتْهم بَلِيلٌ وزادُ القَوم إن أَرْمَل السَّفْر إذا جَهَد القومُ المَطِيَّ وأَدْرَجَتْ من الضُّمْر حتى يَبْلغ الحقَبَ الضَّفْر وإن خَشَعتْ أبصارهم وتَضَاءَلت من الأيْن جلى مثلَ ما يَنْظُر الصَقْر وإنْ جارةٌ حَلَت إليه وَفي لها فباتت ولم يُهْتك لجارته سِتر عَفِيفٌ عن السوآت ما التَبَسَت به صليبٌ فما يُلفي بِعُودٍ له كَسْر سَلَكْت سبيلَ العاَلمين فما لَهم وراءَ الذي لاقَيْت مَعْدًى ولا قَصر وكلًّ امرىء يوِماً مُلاَقٍ حِمَامه وإن دَانت الدُّنْيا وطال به العُمْر فأبليت خيراً في الحياة وإنما ثوابُك عِنْدي اليومَ أن يَنْطِق الشَّعر لِيَفْدِك مَوْلًى أو أخٌ ذو ذِمامَةٍ قليل الغناء لا عطاءٌ ولا نصرْ لِشبْل بن مَعْبَد البَجَلى‏:‏ أتى دون حُلْوِ العَيْش حتى أمرَّه نُكُوبٌ على آثارهنّ نكُوبُ تَتَابَعْنَ في الأحْبَاب حتى أبَدْنَهم فلم يَبْقَ فيهمْ في الدِّيار قَريبُ بَرَتني صُروف الدَّهْرِ من كلّ جانب كما يَنبري دون اللحَاء عَسِيب فأصبحتُ إلا رحمةَ الله مُفْرَدًاً لَدَى الناس طُرًّا والفُؤاد كَئِيب فقلتْ لأصْحابي وقد قَذَفَتْ بنا نَوَى غُربةٍ عمن نُحِب شَطُوب مَتَى العهدُ بالأهْل الذين تَرَكْتُهم لهم في فُؤادي بِالعِرَاق نَصِيب فَما تَرَك الطاعونُ من ذِي قَرابة إليه إذا حانَ الإيابُ نَؤُوب فقد أصبحوا لا دارهمِ منك غرْبَةٌ بعد ولاهُمْ في الحياة قَريب وكُنْتَ تُرَجَّى أنْ تؤُوب إليهمُ فغالَتْهمُ من دون ذاك شَعُوب مَقادِير لا يُغْفِلن مَن حان يَوْمُه لهنّ على كلِّ النُّفوس رَقيب سَقَينْ بكَأس المَوْت مَن حان حَيْنُه وفي الحَيِّ مِن أنفاسِهنَّ ذَنًوب وإنَّا وإيّاهمْ كَوَارِد مَنْهَلٍ على حَوْضِه بالتَّاليات يُهِيب إِلَيه تَنَاهِينا ولو كان دُونه مياهٌ رَوَاء كلّهن شرُوب فهوَّن عني بَعْضَ وَجْدِيَ أنَّني رأيْتُ المَنايا تَغْتَدِي وَتَؤُوب ولَسْنا بأحْيَا مِنْهُم غيرَ أننا إلى أجَلٍ نُدْعَى له فَنجِيب وِإني إذا ما شِئْت لاقيتُ أسْوَةً تَكاد لها نَفْس الحَزِين تَطِيب دُمُوع مَرَاها الشجْوُ حتى كأنها جَدَاوِلُ تَجْري بَيْنَهن غروب إذا ما أردْتُ الصبرَ هاج لِيَ البُكا فُؤادٌ إلى أهل القًبُور طَرُوب بكَى شَجْوه ثم ارْعَوى بعد عَوْله كما واتَرَتْ بين الحنين سَلُوب دَعَاها الهَوَى من سَقْبها فَهِيَ والِهٌ ورُدّت إلى الألاَّفِ فَهي تَحُوب فَوَجْدِي بأهلِي وَجْدُها غيرَ أنهم شَبَابٌ يَزِينون النَّدى ومَشِيب من رثت زوجها قالت أسماء بنتُ أبي بكر ذاتُ النِّطاقين ‏"‏ رضي الله عنها ‏"‏ تَرْثي زَوْجَها الزُّبير بن العَوَّام وكان قَتله عَمْرو بن جُرْمُوز المُجاشِعيّ بوادي السِّباع وهو مًنْصَرف من وَقْعة الجَمَل‏.‏

‏"‏ وتروى هذه الأبيات لزوجته عاتكة التي تَزوّجها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ‏"‏‏:‏ غَدَر ابن جُرْمُوز فارس بهُمِةٍ يَومَ الهِيَاِج وكان غَيْر َمُعَرِّد يا عَمْرُو لو نَبَّهْتَه لوَجَدَتْه لا طائشاَ رَعِشَ الجَنَانِ ولا اليَد ثَكِلْتك أمًّك إن قَتَلْت لمُسْلِماً حَلَّت عليك عُقوبة المُتَعَمِّد الهلاليّ قال‏:‏ تَزَوّج محمد بن هارون الرشيد لُبانة بنت علي بن رَيْطة وكانت من أجمل النّساء فقُتل محمد عنها ولم يَبْنِ بها فقالت تَرْثيه‏:‏ أبْكِيكَ لا لِلنعِيم والأنُسٍ بل للمَعَالي والرُّمْح والفَرَس يا فارساً بالعَرَاء مطَّرَحاً خانَتْه قواده مَع الحرس أَبْكِي على سَيِّدٍ فجِعْتُ به أرْمَلَني قَبْل ليلة العُرُس أمْ مَن لِبِرِّ أمْ مَن لعائدة أم مَن لِذكْر الإله في الغَلَس وقالت أعرابيّة تَرْثي زَوْجَها‏:‏ كُنَا كغُصنَين في جُرْثومةٍ بَسَقَا حِيناً على خير ما يَنْمِي به الشَّجَر حَتّى إذا قِيلَ قد طالت فُرُوعُهما وطابَ قِنْواهُما واسْتُنْظِر الثَّمر أخْنَى على واحد رَيْبُ الزَمان وما يُبْقِي الزمانُ على شيء ولا يَذَر كُنِّا كأنْجمُ ليلٍ بينها قَمَر يَجْلو الدُجَى فَهَوَى مِن بَينها القَمر الأصْمعيّ قال‏:‏ دخلتُ بعضَ مَقابر الأعراب ومعي صاحبٌ لي فإذا جاريةٌ على قبر كأنها تِمثال وعليها من الحَلْى والحُلَل ما لم أر مِثْلَه وهي تَبْكي بعين غَزيرة وصوت شَجيّ‏.‏

فالتفتُّ إلى صاحبي‏.‏

فقلتُ‏:‏ هل رأيتَ أعجَب من هذه قال‏:‏ لا والله ولا أحسَبني أراه‏.‏

ثم قلتُ لها‏:‏ يا هذه إني أراك حَزِينة وما عليك زِيّ الحُزْن‏:‏ فانشأت تقول‏:‏ فإن تَسْألاني فِيم حُزْني فإننّي رَهِينةُ هَذا القَبْر يا فَتَيانِ وإني لأسْتَحْييه والترْب بيننا كما كنْتُ أستَحْييه حين يَرَاني أهابُك إجلالاً وان كُنتَ في الثرى مَخافَة يومٍ أن يَسُوك لِسَاني ثم اندفعت في البُكاء وجعلت تقول‏:‏ يا صاحبَ القَبْر يا مَنْ كان يَنْعَم بي بالاً ويُكثر في الدًنْيا مُوَاساتِي أردْتُ آتِيكَ فيما كنت أعرفُه انْ قد تُسَرُ به من بَعض هَيْئَاتي فمَن رَآني رأى عَبْرى مُوَلَهَةً عَجيبةَ الزِّيِّ تَبْكي بَينَ أمْوات وقال‏:‏ رأيتُ بصحراء جاريةً قد ألْصقت خدَّهَا بقَبْر وهي تَبْكي وتقول‏:‏ خدَي تَقيك خشُونةَ اللَّحْدِ وقَلِيلةٌ لك سَيِّدي خَدِّي يا ساكنَ القَبر الذي بوَفاته عَمِيتْ عَليَّ مسالِكُ الرُّشد اسْمَع أبثك علَتي فلعلَّني أطْفِي بذلك حُرْقَة الوَجْد من رثى جاريته كان لمُعلّى الطائِي جارية يُقال لها وَصْف وكانت أديبةً شاعرة فأخبرني محمد بن وَضّاح قال‏:‏ أدركتُ معلَّى الطائي بمصر وأعْطِي بجاريته وَصْف أربعةَ الآف دينار فباعها‏.‏

فلما دَخل عليها قالت له‏:‏ بِعْتني يا مُعلى‏!‏ قال نعم قالت‏:‏ واللّه لو مَلَكْتً منك مثلَ ما تَمْلك مني ما بِعْتك بالدُّنيا وما فيها‏.‏

فَردَ الدَّنانير واستقال صاحبَه فأصيب بها إلى ثمانية أيام فقال يَرْثيها‏:‏ يا موتُ كيفَ سَلَبْتَنيِ وَصْفَا قَدَّمْتها وتَرَكْتَني خَلْفَا هَلا ذَهَبْتَ بنا معاً فَلَقد ظَفِرَتْ يَدَاك فسُمْتَني خَسْفا فَعَلَيك بالباقي بلا أجَل فالموتُ بعد وفاتها أعفي يا موتُ ما بَقّيت لي أحداً لما زَفَفْت إلى البِلَى وَصْفا هَلاّ رَحِمْت شَبَابَ غَانِيةٍ رَيَّا العِظام وشَعْرَها الوَحْفا ورَحِمْت عَيْني ظَبْية جَعَلت بين الرّياض تُناظِر الخِشْفا تُغْفي إذا انتصبت فرائصه ولَظَلُّ تَرْعاه إذا أغفى فإذا مَشىِ اختلفت قوائمهُ وَقْت الرَّضاع فَيَنْطَوِي ضعْفا متحيراً في المَشيْ مُرْتَعِشاً يَخْطو فَيَضْرِب ظِلْفُه الظّلْفا فكأَنها وَصْفٌ إذا جَعَلت نحوي تُدِير مَحَاجِراً وُطْفا يا مَوْتُ أنت كذا لكلِّ أخِي إلفٍ يَصُون ببرِّه الإلْفا خَلَّيتني فَرْداً وبِنْت بها ما كنتُ قَبْلَك حافلا وكفا فَتَرَكْتُها بالرَّغْم في جَدَث للرّيح يَنْسِف تُرْبَه نَسْفا دون المُقَطَّم لا ألبسها من زينةٍ قُرْطاً ولا شَنْفا فكأَنّها والنفسُ زاهِقةٌ غُصْن من الرَّيْحانِ قد جَفّا يا قبرُ أبْقِ على محاسنها فلقد حويت النور والظرْفا لما هُزِم مَرْوان بن محمد وخَرج نحو مِصرْ كتب إلى جارية له خَلَّفها بالرَّمْلة‏:‏ وما زَال يَدْعُوِني إلى الصَّبر ما أَرى فآبى ويَثْنِيني الذي لكِ في صَدْري وكانَ عزيزاَ أنّ بَيْني وبينها حِجاباً فقد أَمسيتُ منك على عَشر وأنْكاهما لِلْقَلْب واللّه فاعلمي إذا ازددتُ مِثلَيها فَصِرْتُ على شَهْر وأعظمُ من هَذَينِ واللّه أنني أخاف بأن لا نَلْتَقي آخرَ الدَّهر سأَبْكِيك لا مُستَبْقِياَ فَيْض عَبْرة ولا طالباً بالصبر عاقبةَ الصَّبر وَجدوا على قبر جارية إلى جَنب قَبر أبي نُواس أبياتاً ذكروا أنَ أبا نُواس قالها وهى‏:‏ أَقُولُ لقبْرٍ زُرْتُه مُتَلَثِّما سَقَي اللهّ بَرْدَ العَفْو صاحبَة القَبْر لقد غيَّبوا تَحت الثّرَى قَمر الدُّجَى وشَمْس الضًّحَى بين الصَّفائح والعَفر عَجِبتُ لِعَينْ بَعدها مَلَت البُكا وقلْب عَلْيها يَرْتَجي راحَة الصَّبر وقال حَبِيب الطائي يَرثِي جارِية أصِيب بها‏:‏ وألبسنى ثوباً من الحُزْن والأسيَ هِلاَلٌ عليه نَسْجُ ثَوْب من التُّرب وكنتُ أرَجِّي القُرْبَ وهي بعيدة فقد ثقُلَت بَعْدي عن الًبُعدِ والقُرْب أقول وقد قالوا استراح بموتها من الكرب رَوْح المَوْت شَرٌّ من الكَرْب لها مَنزل تحت الثَّرَى وعَهدتُها لها منزلٌ بين الجَوانِح والقَلْب وقال يرْثيها‏:‏ ألم تَرَني خَلَيتُ نَفْسي وشانَها ولم أحفِل الدُّنيا ولا حَدَثانَها لقد خوَفَتْني النائباتُ صُرُوفَها ولو أَمَّنَتْني ما قِبِلتُ أمانَها وكيف على نارِ اللًيالي مُعرَّسي إذا كان شَيْبُ العارِضَين دُخانَها أُصِبْتُ بِخَوْد سوف أَعْبُر بعدها حليفَ أسى أبكى زماناً زمانَها عِنَانٌ من اللَذَّات قد كان في يَدِي فلما قَضىَ الإلْفُ استردت عِنَانَهَا مَنَحْتُ المَهَاهَجْرِي فَلاَ مُحْسِناتها أَوَدُّ ولا يَهْوىَ فُؤَادِي حِسانَها يقولون هَلْ يبكي الفَتَىِ لِخَريدةٍ إذا ما أراد اعتاض عَشْراً مَكانَها أمُنْفَصِلٌ عن ثَدْي أم كريمةٍ أم العاشقُ النَّابي به كلُّ مَضْجَع وقال محمود الورّاق يَرْثي جاريتَه نَشْو‏:‏ ومنتصح يُرَدِّد ذِكْر نَشْوٍ على عَمْدٍ لِيَبْعَثَ لي اْكتئاباً أقول - وَعَدَّ - ما كانت تُسَاوي سَيَحْسُبُ ذاك مَن خَلَقَ الْحِسابا عَطِيَّته إذا أعطَى سُرور وإن أخذ الذي أعطَى أَثَابَا فأيُ النِّعمتينْ أعمُّ نَفْعاً وأحسَنُ في عَواقِبها إيابا أنعِمْته التي أهْدت سروراً أم الأًخْرى التي أهدت ثَوَابا بل الأخرى وَإِنْ نَزَلَت بحُزْن أحَقُ بِشُكْرِ مَن صَبَرَ احتسابا أبو جَعفر البغداديّ قال‏:‏ كان لنا جارٌ وكانت له جاريةٌ جَميلة وكان شَديد المحبَّة لها فماتت فَوَجد عليها وَجْداً شديداً فبينا هو ذاتَ لَيْلة نائمٌ إذ أتتْه الجاريةُ في نَوْمه فأنشدتْه هذه الأبيات‏:‏ جاءت تَزور وسادِي بعدما دُفِنتْ في النَّوْم ألْثِمُ خَدًّا زَانَه الجيدُ فقلتُ قُرَّةَ عيني قد نُعيتِ لنا فكيفَ ذا وطَريقُ القبر مسدود فانتبه وقد حَفِظها وكان يحدّث الناس بذلك ويُنشدهم‏.‏

فما بَقي بعدَها إلا أيَّاماً يَسيرة حتى لَحِق بها‏.‏

  من رثى ابنه

قال البُحْتريّ في رثاء ابنة لأحد بَني حُمَيد‏:‏ ظَلَم الدَّهْرُ فِيكم وأساءَ فَعَزاءَ بَني حُمَيْد عَزَاءَ أنفْسٌ ما تَزَالُ تَفْقِدُ فَقْداً وصُدُورٌ ما تَبْرَح البُرَحَاءَ أصْبَحَ السيفُ دَاءَكم وهو الدَّاء الّذِي ما يزال يُعْي الدَّوَاءَ وانتحى القَتْلَ فيكم فَبَكَيْنا بِدمَاء الدُّمُوع تلك الدِّماء يا أبَا القاسم المُقَسَّم في النَّج دِة والجُودِ والنًّدَى أجزاء والهزَبْر الذي إذا دارت الحَر بُ به صرًف الرَّدىَ كيف شَاء الأسىَ واجبٌ على الحُرّ إمّا نِيَّةً حُرَّةً وإما رِياء وسَفَاها أن يَجْزَع الحُرّ مما كان حَتماً على العِبَاد قَضَاء أتُبكّى من لا يُنازل بالسَّيْفِ مُشيحاً ولا يَهُزّ اللِّوَاء والفَتى مَن رأى القُبورَ لمن طاب به مِر بَناته أكفَاء لَسْنَ مِن زينة الْحَياة لعِدّ اللَّ ه منها الأموال والأبناء لم يَئِدِتِرْ بهَنّ قَيْسُ تَمِيم عَيْلةً بل حَمِيَّةً وإبَاء وتَغَشى مُهلهلَ الذلُّ فيه ن وقد أعْطَى الأديم حِبَاء وشقيق بنُ فاتكٍ حَذَرَ العار عليهنّ فارَقَ الدَّهْناء وعَلَى غَيْرهنّ أحْزِن يَعْقو بُ وقد جاءَه بَنوه عِشاء وشعَيْب من أجلهنّ رَأَي الوُح دة ضعْفاً فاستَأجر الأَنبياء وَتَلَفَّتْ إلى القبائِل فانظُرْ أمهات ينسبن أَمْ أباء واستْزَلَّ الشَّيطانُ آدَم في الجنَّ ة لما أَغْرَى به حَوَّاء ولعمْري ما العَجْز عِندِيَ إلا أن تَبيتَ الرجالُ تَبْكي النِّساء مراثي الأشراف قال حَسّان بنُ ثابت يَرْثي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بَكر وعمر رضوانُ اللهّ عليهم‏:‏ ثَلاثَةٌ بَرَزُوا بِسَبْقِهمُ نَضرَهم ربُّهم إذا نُشرُوا عاشُوا بلا فُرْقة حَياتَهم واجْتَمعوا في المَمات إذ قُبِروا فَلَيْس مِن مُسْلِمٍ له بَصرٌ يُنْكِرهم فَضْلَهم إذا ذُكِروا إذا تَذَكرتَ شَجْواً من أخي ثِقَةٍ فاذْكُر أخاكَ أبا بكْرٍ بما فَعَلا خَيْرَ البرّية أتقَاها وأعْدَلها بعد النبي وأوفاها بما حَمَلا الثّانيَ اثنينِ والمَحْمُودَ مَشْهَدُه وأوّل الناس طُرا صَدَّق الرُّسُلا وكان حب رسول الله قد عَلِموا مِن البرية لم يَعْدِلْ به رَجُلا وقال يَرْثِي عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ عليك سَلامٌ من أمير وبارَكَتْ يَدُ اللهّ في ذَاك الأدِيم المُمَزَّقِ فمَن يَجْرِ أو يَرْكَبْ جَناحَيْ نَعامةٍ لِيُدْرِكَ ما قَدَّمْتَ بالأمْس يُسْبَق قَضَيْتَ أُموراً ثم غادرتَ بعدها نَوَافِجَ في أكمامِها لم تُفَتَّق وما كنتُ أخْشى أن تكونَ وفاتُه بَكَفَّيْ سَبَنْتي أَزْرَقِ العَينْ مُطْرِق وقال يَرْثي عثمان بنِ عفّان رضي الله عنه‏:‏ مَن سَرَّه الموتُ صِرْفاَ لا مِزَاج له فَلْيأْتِ ما سَرَّه في دار عُثْمانَا إنّي لمنهُمْ وإن غابوا وإن شَهِدُوا ما دمتُ حيًّا وما سُمِّيت حَسَّانَا يا ليت شِعْري وليت الطّيرِ تُخْبرني ما كان شَأْنُ علّيِ وابن عفّانَا وقال الفرزدق في قَتْل عثمان رضي الله تعالى عنه‏:‏ إنَّ الخِلاَفَةَ لما أظْعِنت ظَعَنتْ مِن أهْل يَثْربَ إذ غَيرَ الهُدَى سَلَكوا صارتْ إلى أهْلها منهم ووارثِها لما رأى الله في عثمانَ ما انتَهكوا السافِكي دَمِه ظُلْماً ومَعْصيةً أيَّ دَم لا هُدُوا من غَيهِمْ سفَكوا وقال السيّد الْحِميريّ يَرْثي عليَّ بن أبي طالب كًرَّم الله وَجْهه ويَذكر يومَ صِفِّين‏:‏ إنّي أدين بما دان الوَصي به وشاركتْ كفُه كَفِّي بصِفِّينا في سفْكِ ما سَفكَتْ فيها إذا احتُضِروا وأبرز اللّهُ للقِسطِ المَوازِينا تلك الدِّماء معاً يا ربّ في عُنقي ثم اسْقِني مثلَها آمينَ آمينا آمين من مِثْلهم في مِثْل حالِهمُ في فِتْيَة هاجَرُوا للهّ سارينا لَيْسُوا يريدون غيرَ اللهّ رَبِّهم نعم المُراد تَوَخَّاه المُرِيدونَا أنشد الرِّياشي لرجل مِن أهل الشام يرثي عمرَ بن عبد العزيز رضي اللهّ عنه‏:‏ قد غَيّب الدَّافنون اللحدَ إذ دَفَنُوا بدَيْرِ سِمْعان قِسْطاس المَوازينِ من لم يَكُنْ همُّه عَيْنًا يُفجِّرها ولا النَخيلَ ولا رَكْضَ البَراذِين ظَلُّوا على قَبْره يَسْتغْفِرون له وقد يَقُولون ثاراتٍ لنا العبَرُ يُقَبِّلون تُرابا فوق أعْظُمه كما يُقَبًل في المَحجُوجة الحَجَر للّه أرضٌ أجَنَّته ضَريحتُها وكيف يُدْفن في المَلْحُودة القَمَر إنّ المَنابر لا تَعْتاض عن مَلِك إليه يشخصُ فوق المِنْبر البَصر وقال جريرٌ يرثي عمرَ بنَ عبد العزيز‏:‏ يَنْعَى النُّعاة أميرَ المُؤمنين لنَا يا خير منْ حَجّ بيتَ الله واعتمرا حُمِّلتَ أمراً عظيماً فاصْطَبرتَ له وقُمْتَ فيه بأمْرِ اللهّ يا عُمَرا فالشمسُ طالعةٌ ليستْ بكاسفةٍ تَبْكي عليك نُجوم الليل والقمرا وقال جرير يَرْثي الوليدَ بن عبد الملك‏:‏ إنّ الخَلِيفة قد وَارَتْ شمائلَه غَبْراءُ مَلْحُودةٌ في جُولها زَوَرُ أمْسى بنو وقد جَلَّت مُصِيبتهم مثلَ النُجُوم هَوَى من بينها القَمَر كانوا جَميعاً فلم يَدْفَع مَنَّيتَه عبدُ العزيز ولا روْحٌ ولا عُمَر وقال غيره يرثي قَيْس بن عاصم المنقريّ‏:‏ فما كان قيسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ ولكنّه بُنْيان قَوْم تَهدَّما وقال أبو عَطَاء السِّنْدي يَرْثي يزيد بن عمر بن هُبَيرة لما قُتل بوَاسط‏:‏ ألا إنّ عيناً لم تجُد يومَ واسطٍ عليكَ بِجَارِي دمْعِها لَجَمُودُ عَشِيّةَ راحَ الدَّافِنُون وشُقِّقتْ جُيوب بأيدي مأتم وخُدود فإن تك مَهْجُورَ الفِناء فربما أقام به بعد الوُفود وُفود وإنك لم تَبْعد على متعهِّد بَلى إنّ مَن تحت التراب بَعيد وقال منصور النَّمري يَرْثي يزيد بن مَزْيد‏:‏ مَتى يَبْرُد الحُزْن الذي في فُؤاديا أبا خالدٍ من بعد أن لا تَلاَقِيَا أبا خالدٍ ما كان أدهَى مُصِيبةً أصابت مَعدًا يومَ أصْبَحْت ثاويا لَعَمْرِي لئن سُرّ الأعادي وأظهَروا شَمَاتاً لقد سُّرُوا برَبْعِكَ خالِيا وأوْتار أقْوَام لَدَيْكَ لَوَيْتَها وزُرْتَ بها الأجْداثَ وهِي كما هيا نُعَزِّي أميرً المؤمنين ورَهْطَه بسَيْفٍ لهم ما كان في الحَرْب نابيا على مِثْل ما لاقَى يزيدُ بن مَزْيد عليه المَنايا فالْقَ إن كنْتَ لاقِيا سأبكيكَ ما فاضت دموعي فإن تَغِضْ فَحَسْبُكَ منّي ما تّجنّ الجَوانِحُ كأن لم يَمُتْ حَيٌّ سِواك ولم تَقُم على أحدٍ إلا عليكً النَّوائح لئن حَسُنت فيك المَرَاثي وذِكْرُها لقد حَسُنَت من قبلُ فيك المَدَائحُ فما أنا مِن رُزْءٍ وإنْ جلَّ جازعٌ ولا بسُرورٍ بعد مَوْتك فارِح وقال زِياد الأعجم يرثي المُغيرة بن المهلًب‏:‏ إنَ الشَّجاعهَ والسَّماحةَ ضُمَنا قَبْرًا بِمَرْوَ على الطَّريق الواضِح فإذا مَرَرْتَ بقبره فاعقرْ به كُومَ الهِجَان وكل طِرْفٍ سابح ‏"‏ وانضح جوانبَ قَبْره بدمائها فلقد يكون أخا دَم وذَبائح ‏"‏ والآن لما كنْتَ أكملَ مَنْ مَشىَ وافتر نابُكَ عن شَبًاةِ القارِح وتَكامَلَت فيك المروءةُ كلُّها وَأعَنْتَ ذلك بالفَعَال الصَالح للمهلًبي من مَرْثيته للمتوكل‏:‏ لا حُزْنَ إلا أراه دُونَ ما أَجدُ وهَلْ كمن فَقَدَتْ عَيْناي مَفتَقَدُ لا يَبْعدَنْ هالكٌ كانت مَنِيته كما هَوَى من غِطاء الزُّبْية الأسد هلاَّ أَتَتْهُ أعاديه مُجاهرةً والحَربُ تَسْعَر والأبطال تَجْتلد فخَر فوق سرَير المُلْكِ مُنْجدلاً لم يَحْمه مُلكُه لما آنقضىَ الأمد قد كان أنصارُه يَحْمُون حَوْزتَه وللردىَ دون أرْصاد الفَتَى رَصَد وأصْبَح الناس فَوْضىَ يَعْجَبون له لَيثاً صريعاً تَنَزَّى حوله النَّقَد علَتْكَ أسيافُ من لا دونه أحدٌ وليسَ فوقك إلا الواحد الصمد جاءُوا عظيماً لدُنيا يَسْعدون بها فقد شَقُوا بالذي جاءُوا وما سَعِدوا ضَجَّت نِساؤًك بعد العزَ حين رأتْ خدًّا كريماً عليه قارِت جَسِد أضحى شهيدُ بني العبّاس مَوْعِظةً لكلّ ذي عِزّة في رأسه صَيَد خَليفةٌ لم ينل ما ناله أحدٌ ولم يكن مثله رُوِح ولا جَسَد كم في أديمك من فَوْهاء هادرة من الجَوَائف يَغْلى فوقها الزَّبَد إذا بَكيتُ فإنّ الدمع مُنْهملٌ وإن رَثيتُ فإنَ القولَ مُطَرد قد كنتُ أسرف في مالي ويُخْلِف لي فعلَّمتْني الليالي كيف أقْتَصِد ‏"‏ إذا قُرَيْشَ أرادوا شَدِّ مُلكهمُ بغير قَحْطان لم يَبْرَح به أوَد ‏"‏ من الألى وَهَبوا للمَجد أنْفًسَم فما يبالون ما نَالوا إذا حُمدوا قد وتُر الناسُ طرًّا ثم صَمَتُوا حتى كأنَّ الذي يَبْلونه رَشَد وقال آخر‏:‏ وِفتًى كأنّ جَبينَه بَدْرُ الدُّجا قامت عليه نَوَادِبٌ ورَوَامِس غرَسَ الفَسِيلَ مُؤَمّلاً لِبَقائه فنَما الفَسِيلُ ومات عنه الغارس وقال الأسود بن يَعْفُر‏.‏

ماذا أؤَمِّلُ بعد آل مُحَرق تَرَكُوا منازلَهم وبَعد إيَادِ أهل الخَوَرْنَقِ والسَّدير وبارقٍ والقَصْر ذي الشّرفات مِن سِنْداد نَزَلوا بأَنقِرة يَسِيلُ عليهمُ ماءُ الفرات يَجىء مِن أطواد جَرَت الرِّياحُ على محلِّ دِيارهم فكأنما كانوا عَلَى مِيعاد ولقد غَنُوا فيها بأنعِم عِيشةٍ في ظِل مُلْكٍ ثابتِ الأوتاد وإذا النَّعيم وكلًّ ما يلْهَى به يوماَ يصِيرُ إلى بِلًى ونَفَاد يا حار ما طَلَعت شمسٌ ولا غَرَبتْ إلا تُقَرَبُ آجالا لميعاد هل نحن إلا كأرْواح يُمر بها تحت التراب وأجسادٌ كأجساد لما مات أسماء بن خارجة الفَزَاري قال الحجاج‏:‏ ذلك رجل عاش ما شاء ومات حين شاء‏.‏

وقال فيه الشاعر‏:‏ إذا مات ابن خارجةَ بنِ زَيْدٍ فلا مَطَرَتْ على الأرض السماءُ ولا جاء البَريدُ بغُنْم جَيْشٍ ولا حُمِلت على الطهر النساء فَيَومٌ منْك خيرٌ من رِجالٍ كثيرٍ عندهم نَعَمٌ وَشَاء وقال مسلم بن الوليد الأنصاري‏:‏ أمَسْعود هل غادَاكَ يومٌ بفَرْحَةٍ وأمْسَيْتَ لم تَعْرِضْ لها التَّرَحَاتُ وهل نحْنُ إلاّ أنفسٌ مُستعارةٌ تَمر بهما الرَّوَحات والغدوات بكيتَ وأَعْطَتْكَ البكاءَ مُصيبة مَضَتْ وَهْيَ فَرد ما لها أخَوَات كأنك فيها لم تَكن تَعْرِفُ العَزَا ولم تَتعمَّد غيْرَك النَّكَبات سَقَى الضاحكُ الوَسْميُ أعظُمَ حُفْرَةٍ طَواها الردَّى في اللّحْدِ وَهْي رُفات وقال أيضاً‏:‏ أمَّا القُبورُ فإنَّهُنَّ أوانسٌ بِجِوار قَبْرِك والدِّيار قُبُورُ عًمَتْ فَوَاضِلُه وعَمَّ مُصابه فالناسُ فيه كُلّهم مَأجور رَدَّت صنائعه إليه حياتَه فَكانه من نَشْرِها منْشور وقال أشجع بن عمرو السُّلَمي يرثي منصور بن زِياد‏:‏ يا حُفْرةَ الملك المُؤَمَّل رِفدُهُ ما في ثَرَاكِ مِن النَدَى والخِير لا زِلْتِ في ظِلَّين ظِلِّ سَحابةٍ وَطْفَاَءَ دانيةٍ وظِل حبُور وسَقَى الوليُّ على العِهاد عِراصَ ما وَالاكِ من قَبْرٍ ومن مَقْبور يا يومَ مَنصورٍ أبَحْتَ حِمَى النَدى وَفَجَعْته بِوليّه المَذكور يا يومَه أعْرَيْتَ راحلةَ النَّدَى من رَبِّها وحَرَمْتَ كل فَقير يا يومه ماذا صنَعت بِمُرْمل يرْجُو الغِنى ومُكبّل مأسور يا يومَه لو كنت جِئتَ بِصيْحَةٍ فَجَمَعت بين الحيِّ والمقبور للهّ أوْصال تقسمها البِلى في اللحد بين صَفائحٍ وصخور ذَلَتْ بمصرعه المكارِمُ والندى وذُبابُ كلِّ مُهَنَّد مأثُور أَفَلتْ نجوم بَني زِيادٍ بَعدما طَلَعَت بنوِر أهلَّة وبُدُور لولا بقاءُ محمد لتصدَعت أكبادُنا أَسفاً على منصور أبقى مَكارِمَ لا تَبِيدُ صفَاتُها ومَضىَ لِوَقت حِمَامه المَقْدُور أصْبحتَ مَهْجوراً بحُفرتك التي بُدِّلْتها من قَصرْك المَعْمُور بَلَيت عِظَامُك والصفاحُ جَديدة ليس البلى لفَعَالك المَشْهور إِنْ كُنْت ساكِنَ حفْرةٍ فلقد تُرى سَكناً لعُودي مِنْبرٍ وسرَير وقال يرثي محمد بن مَنْصور‏:‏ أنْعَى فَتِىَ الجُودِ إلى الجود ما مِثلُ مَن أنْعَى بِمَوْجُودِ أنْعَي فَتَى مَصَّ الثَّرى بعده بَقِية الماءِ مِنَ العُود فانْثَلم المَجْدُ به ثَلمَةً جانِبُها ليس بِمَسْدُود أنْعَي ابن مَنْصور إلى سَيِّدٍ وأيِّدٍ ليسَ برِعْدِيد أوْرَده يومٌ عَظِيمٌ ثَأى في المجد حوضاَ غير محمود كُلُّ آمرىءٍ يَجرى إلى مٌدَّة وأجَل قد خُطّ مَعْدُود سَيَنْطَق الشِّعُرُ بأيامه على لِسانٍ غَيْرِ مَعْقُود فكل مَفْقودٍ إلى جَنْبِه وإنْ تعالى غَير مَفْقُود يا وافِدَيْ قومهما إنّ مَن طَلَبتما تحت الْجَلاميد طَلَبتما الجودَ وقد ضَمَه محمدٌ في بطن مَلْحُود فاتَكما الموت بمعْرُوفِه وليس ما فات بِمَرْدُود يا عَضداً لِلْمَجْدَ مَفْتوتةً وساعِداً ليس بمَعْضود أوْهَن زَنْدَيْها وَأكْباهما قَرْعُ المنايا في اَلصنَّاديد وهدَّت الرُكْنَ الذي كان بالأمْس عِمَاداً غَيْرَ مَهْدُود وقال حبيبٌ الطائيًّ يَرثي خالدَ بن يَزيد بن مَزيد‏:‏ أشَيْبان لا ذاك الهِلالُ بطالعٍ عَلَينا ولا ذاك الغَمَام بعائدِ وأنشد أبو محمد التّيْمي في يَزيد بن مَزْيد‏:‏ أحقاً أنّه أودى يَزِيدُ تَبَينَّ أيها النَّاعي المُشِيدُ أتدْرِي من نَعَيت وكيف فاهتْ به شَفَتَاكَ واراك الصَّعِيد أحامي المُلْكِ والإسْلام أوْدى فَما للأرْض وَيْحَكَ لا تَمِيد تَأمَّلْ هل تَرَى الإسْلامَ مالتْ دَعائمُهُ وهل شَابَ الوَليد وهَلْ شِيمَتْ سُيوف بني نِزَارٍ وهَل وُضِعت عن الخَيْل اللُّبُود وهَلْ نَسْقِي البِلادَ عِشَارُ مُزْنٍ بدرَّتها وهَلْ يَخْضَرُ عُود أما هُدَّت لمَصرَعه نِزَار بَلَى وتقوّض المجد المَشِيد وحلَّ ضَرِيحَه إذ حَلَّ فيه طَرِيفُ المَجْدِ والحَسَبُ التَّلِيد وهُدَّ العِزُّ والإسْلامُ لما ثَوَى وخَلِيفة اللهّ الرَّشيد لقد أوْفي رَبِيعَةَ كُلُّ نحْسٍ لمهْلِكه وغُيِّبت السُّعُود وأنْصِلَت الأسِنّة مِن قَنَاهاً وأشْرعت الرِّمَاح لِمَن يَكِيد فمِن يَحْمي حِمَى الإسْلام أمْ مَن يَذُبّ عن المَكارم أو يذُود ومَن يَدْعُو الإمامُ لكلّ خَطْبِ يخاف وكُلِّ معضلة تَؤُود ومَن تُجْلَى به الغَمَراتُ أم مَنَ يَقُوم لها إذا اعوج العنيد ومن يحمي الخميس إِذا تعَايا بحيلة نَفْسه البَطَل النَّجِيد وأين يَؤُمِّ منْتَجع وَلاجٍ وأين تَحُطّ أرْحُلَها الوُفُود لقد رُزِئتْ نِزَارٌ يوْمَ أودْىَ عمدٌَ ما يقاسُ به عَمِيد فلو قُبِلَ الفِدَاءُ فَدَاهُ منّا بِمُهْجَته المُسَوَّدُ والمَسُود أبَعْدَ يَزيد تَختَزن البَوَاكِي دُمُوعاً أو تُصَان لها خُدُود أما واللّه لا تَنْفَكُّ عَيْنِي عليه بدَمْعِها أبداً تجود وإنْ تَجْمُد دُمُوعُ لَئيم قَوْم فليس لِدَمْع ذي حَسَب جُمود وإن يك غالَه حَينٌ فأَوْدَىً لقد أودىَ وليس لهًُ نَدِيد وإنْ يَعْثر بهِ دهرٌ فكم قَد تَفَادىَ من مخافته الأسُود ألم تَعْلَم أخِي أن المَنايا غَدَرْنَ به وهُنَّ له جُنود قَصَدْنَ له وكُنَّ يَحدْنَ عنه إذا ما الحَرْبُ شبّ لها الوَقُود فهلا يوْمَ يَقْدُمهَا يَزِيدُ إلى الأبطال والخُلان حِيد ولو لاقى الحُتُوف عَلى سِوَاه للاقاها به حتْفٌ عَنِيد أضَرَاب الفوارس كل يوْم ترَى فيه الحُتُوفُ لها وَعِيد فمن يُرْضى القَواطع والعَواليً إذا ما هَزّها قَرْعٌ شَديد لِتَبْكِكَ قبَّةُ الإسلام لمَّاَ وَهتْ أطنابُها وَوَهى العَمُود وًيبْكِك مُرْهَقٌ تتْلُوهُ خَيْلٌ إبَالَةُ وهو مَجْدُول وَحِيد وَيَبْكِكَ خاملٌ ناداك لمَّا تَوَا كَلَهُ الأقارِبُ والبعيد وَيَبْكِكَ شاعرٌ لم يُبْقِ دَهرٌ له نَشبَا وقد كَسَدَ القَصِيد تَرَكْتَ المَشرفيَّة والعَوَالي مُحَلاةً وقد حانَ الوُرُود وغادَرْتَ الجِيَاد بكُلِّ لُغْزٍ عَوَاطِلَ بَعْدَ زِينتها تَرُود لَقَد عَزَّى ربيعةَ أَنَّ يوماً عليها مثلُ يَوْمك لا يعود ومِثْلُك من قَصَدْن له المنايا بأسْهُمها وهُنَّ له جُنود فيا للدهر ما صَنَعَتْ يَدَاهُ كأنَّ الدهر منها مستقيد سَقَى جَدَثاً أقامَ به يزيدُ من الوَسْمِيِّ بَسَّام رَعُود فإن أَجْزَعْ لمَهْلِكة فإنّي على النَّكَبات إذ أوْدىَ جَلِيد لِيَذْهَبْ مَن أَراد فَلَسْت آسىَ على مَن مات بعدك يا يزيد وقال مَرْوان بن أبي حَفْصَة يَرْثي مَعْنَ بن زائدة‏:‏ زار ابن زائدةَ المَقابِر بَعْدَ ما أَلْقَتْ إليه عُرَى الأمور نِزَارُ إنَّ القبائلَ مِنْ نزَارٍ أصْبَحَتْ وقلُوبُها أسفاً عليه حَرَارُ وَدَّتْ رَبِيعَةُ أنَّها قسمتْ لَهُ منها فعاشَ بِشَطْرِها الأعمار فَلأبْكِينًّ فَتَى رَبِيعَة ما دَجَا ليلٌ بِظُلْمَته ولاح نَهَار لا زال قَبْرُ أبي الوَليد تَجُوده بِعِهادها وبوَبْلِهِا الأمْطَار لهفاً عليك إذا الطِّعَانُ بمأزِق تَرَكَ القَنَا وطِوالُهُنَ قِصَار خلَّى الأعنة يومَ مات مشَيعٌَ بَطَلُ اللِّقَاءِ مُجَربٌ مِغْوَار يُمْسي وَيُصْبِحُ مُعْلَماً تًذْكَى بِه نَارٌ بمُعْتَرَكٍ وَتُخْمَدُ نَار مهما يُمرَّ فليس يَرْجُو نقْضَهُ أحدٌ وليس لِنَقْضِهِ إمْرَارُ لو كان خَلْفَكَ أو أمامَكَ هائباً أحداً سِوَاك لَهَابَكَ المِقْدَار وقال يرثيه‏:‏ بَكى الشامُ مَعْناً يومَ خَلَى مكانَه فكادت له أرض العِرَاقين تَرْجُفُ ثَوَى القائدُ المَيْمُون والذائد الذي به كان يُرْمَى الجانبُ المتَخَوَف أتى الموتُ مَعْناً وهو للعِرْض صائنٌ وللمجدِ مُبْتَاعٌ وللمالِ مُتلِف وما مات حَتَّى قّلدَتْهُ أمُورَها ربيعةُ والحيَّان قيْسٌ وخِنْدِف وحتىَ فَشَا في كلِّ شَرْقٍ ومَغْرِبِ أيادٍ له بالضرُِّ والنفْع تُعْرَف وكم مِن يدٍ عنْدِي لِمَعنٍ كَريمةٍ سأشْكُرُها ما دامت العين تَطْرِف جَرَت جَوَارٍ بالسَّعد والنَّحس فنحن في وحْشَةٍ وَفي أنْس العينُ تَبْكىِ والسنُّ ضاحكةٌ فنحن في مأتمٍ وفي عُرْس يُضْحِكُنا القائم الأمِينُ ويُب كِينا وفاة الإمام بالأمْس بدْرَانِ بَدْرٌ أَضْحَى ببَغْداد في ال خُلْدِ وبَحْرُ بطُوس في الرّمْس وأنشد العُتْبي‏:‏ والمرءُ يجمع مآلَهُ مُسْتَهْتِراً فَرٍحاً وليس بآكِلِ ما يجمعُ وليأتينّ عليك يومٌ مرَّةً يُنكَى عليك مُقَنَّعاً لا تَسْمَع وقال حارثه بن بَدْر الغُدانيّ يرثي زياداً‏:‏ صَلّى الإلهُ علي قبرٍ وطهَرَه عند الثَّويِّة يَسْفِي فوقه المُورُ زَفَّتْ إليه قُرَيْشٌ نعْشَ سيِّدها فثَمَّ كلّ التُّقَى والبر مقبور أبا المغيرَة والدُّنْيَا مُغَيِّرَةٌ وإنَ من غرّت الدُّنيا لمغرُور قد كان عندكِ للْمعْرُوف معرفةٌ وكان عندك للنَّكْراء تَنْكير لوْ خلَّدً الخيرُ والإسلامُ ذا قَدَم إذاً لخلَّدَك الإسْلاَمُ والخِير ألا ذَهَبَ الغَزْو المُقَرِّبُ لِلغِنَى ومات النَّدَى والحَزْم بعد المهلَّبِ أقاما بمَرْو الرّوذ رَهْن ضرَيحه وقد غيبَا من كلِّ شرق ومَغْرِب وقال المهلْهل بنُ رَبيعة يرْثي أخاه كًلَيْب وائل وكان كُلَيب إذا جَلس لم يِرْفَع أحد بحضْرتِه صوتَه‏:‏ ذَهَبَ الخِيار من المَعاشر كلِّهم واستْبَّ بعدك يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ وَتناولُوا من كُلِّ أمرِ عظيمةٍ لو كنتَ حاضرِ أمرِهم لم يَنْبسوا وقال عبد الصَّمد بن المُعذَّل يَرْثِي سَعيد بن سَلم‏:‏ كم يتيم جَبَرْتَه بعد يُتْمٍ وعَدِيمٍ نعَشْتَه بعد عُدْم كلما عض بالحوادث نادى رَضيَ اللهّ عن سعيد بنِ سَلمَ وقال ابن أخت تأبطَ شرا يرْثي خاله تأبطَ شرّا الفَهْمي وكانت هُذَيل قتلته‏:‏ إنْ بالشَعْب الذي دونَ سَلْع لقتيلاً دمه ما يُطَل قَذف العَبءَ عليَّ ووَلّى أنا بالعِبْء له مستَقِل وَوراء الثأرِ منيَ ابن أختٍ مَصعٌ عُقْدَتُهُ ما تُحَل بَزَّني الدَّهر وكان غَشوماً بأَبّي جارُهُ ما بُذَلُّ شامِسٌ في القُرِّ حتى إذا ما ذَكَتِ الشِّعري فَبَرْدٌ وَظِلُّ يابِسُ الجَنْبَينْ من غير بُؤسٍ وندِيُّ الكَفَّين شَهْمٌ مُدِلّ ظاعِن بالْحَزم حتًى إذا ماَ حَل حَلَّ الحزْمُ حيْثُ يَحلُّ وله طَعْمانِ أَرْيٌ وَشَرْيٌ وكلا الطعْمَينْ قد ذاقَ كل رائحٌ بالمَجْدِ غادٍ عليه من ثيابِ الحمْدَ ثَوْبٌ رِفَلّ أفْتَحُ الراحة بالجُودِ جَواداً عاش في جَدْوَى يدَيْه المُقِلُّ مُسْبِلٌ في الحَيّ أَحْوَى رِفَل وإذا يَغْزُو فسِمْع أزَلُّ يرْكَبُ الهوْلَ وَحيداً يَصحَبُه إلا اليماني اقَلّ ولا فاحتَسوا أنفاسَ يوم فلمّا هَوَّموا رُعْتَهُمْ فاشْمَعَلّوا كلُّ ماض قد تَردَّى بمًاض كسَنَا البَرْق إذا ما يُسَل فَلئِنْ فَلّت هُذَيْلٌ شَبَاه لَبِمَا كان هُذَيْلاً يَفُلّ تَضْحًكُ الضَّبْعُ لِقَتْلَى هُذيلِ وتَرَى الذِّئْبَ لها يَستهل وعِتَاقُ الطَّير تَغْدُو بِطاناًَ تَتَخَطَّاهمُ فما تستقلّ وفُتُوّ هَجَّروا ثم أسْرَوْا ليْلَهم حتَّى إذا آنجاب حَلُّوا فاسْقِنِيها يا سوادَ بن عَمْروٍ إِنّ جِسْمي بعدَ خالِي لَخَلُّ وقال أُمَية بن أبي الصلت يَرْثى قَتلَى بَدْر ‏"‏ من قُريش ‏"‏‏.‏

ألاّ بَكّيْتِ عَلَى الكِرام بَني الكِرام أولِى المَمَادحْ كَبُكا الحَمام على فُروع الأيْكَ في الغُصنُِ الجوانح ‏"‏ يبكين حَرَّى مُستكي ناتٍ يَرُحْن مع الروَائح ‏"‏ أَمْثالَهنَّ الباكِيا ت المُعْوِلات من النوائح مَنْ يَبكهِم يَبْكى على حُزْنٍ وَيَصدُق كُلَّ مادح من ذا بِبَدْر فالعقن قل من مَرازِبة جَحَاجِح شُمْطٍ وَشُبَّانٍ بَهَا ليل مَناوير وَحَاوح دُعْمُوص أبواب المُلو ك وجائِب لِلخَرْق فاتح ومن السرَّاطِمَة الحَلا جمةَ المَلاًزِبة المنَاجِح القائِلين الفاعلي ن الآمِرين بكُلِّ صالح المُطْعِمينَ الشَحْم فوقَ الخُبْزِ شَحْماً كالأنافح نُقُل الجفَانِ مع الجفَا ن إلى جِفَانَ كالمنَاضِح ليست باَّصْفارٍ لِمَنْ يَعْفُو ولا رَح رَحارِح ‏"‏ للضيْف ثُمَّ الضَيْف بعد الضَّيْفِ والبُسْط السَّلاطح ‏"‏ وُهُب المِئين من المِئين إلى المِئين من اللواقح سَوْقَ المُؤَبَّلِ للمؤبَّل صادِرَاتِ عن بَلاَدِح لِكِرامهم فوق الكرا م مزَيّة وَزْن الرَّواجح كتثاقل الأرطال بالقسطاس في الأيدي الموائح للّه در بني عليّ أيّم منهم وناكح وُيلاقِ قِرْن قِرْنَهُ مَشي المُصَافح للمُصَافح بزُهاءِ ألْفٍ ثُمَ أل ف بين ذي بَدنٍ ورَامح الضَّارِبين التَقْدُمِيَّة بالمُهنَّدَة الصفائح روى الأخفش لسَهل بن هارون‏:‏ ما للحوادث عنْكَ مُنصَرِف إلاّ بنَفْس ما لهَا خَلَفُ فَكأَنّها رَامٍ عَلَى حَنقٍ وَكأنَّنى لِسَهَامِها هَدَف دهرٌ سُرِرْت به فأَعْقَبَني جَرَيانه ما عِشْتُ ألْتَقف فابْكِ الّذي وَلِّى لمَهْلِكهَ عنك السُّرورُ خُلِّفَ الأسف إذ لا يَردّ عليك ما أخذَتْ منك الحوادثُ دَمْعةٌ تَكِف قَبْرٌ بمُخْتَلف الرِّياح به مَنْ لَسْتُ أبلغه بما أَصِف أنسَ الثرى بمحَلِّه وله قد أوحَشَ المُسْتَأْنَس الألِف فالصبر أحسن ما اعْتَصَمْتَ به إذ ليس منه لدَيّ منتصف تَجْري المَجَرّة والنِّسْرَان بَيْنهما والشمسُ والقمرُ الساري بمقدَار لقد علمتُ وخَيرُ العِلْم أنْفعه أن السَّيَدَ الذي ينْجُو منَ النار وقال يرْثى قَوْمَه‏:‏ همُ نَصَبُوا الأجْسَاد للنَبْل والقَنَا فلم يَبْق منها اليومٍ إلا رَميمُها تَظلّ عِتاقُ الطير تحجلُ حَوْلهم يُعلِّلن أجساداً قليلا نَعيمها لِطَافاً بَرَاها الصَّوْمُ حتى كأنَها سيوفٌ إذا ما الخَيلُ تَدْمى كلومُها التعازي قال عبد الرحمن بن أبي بكر لسليمان بن عبد الملك يُعزِّيه في ابنه أيوب وكان وليّ عهده وأكبر ولده‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه من طال عمره فَقَدَ أحبَّتَهُ ومن قَصر عُمره كانت مُصيبته في نفسه‏.‏

فلو لم يكن في مِيزانك لكُنْتَ في ميزانه‏.‏

وكَتَب الحسنُ بن أبي الحسن إلى عُمَر بن عبد العزيز يُعزِّيه في ابنه عبد الملك‏:‏ وعوِّضْتَ أَجْرًا مِنْ فَقِيدٍ فَلاَ يَكُنْ فَقِيدُكَ لا يَأتي وأَجْركَ يَذْهَبُ العُتْبىِ قال‏:‏ قال عبدُ الله بن الأهْتَم‏:‏ مات لي ابن وأنا بمكة فجزِعْتُ عليه جَزَعاً شديداَ فَدَخَل عليَّ ابن جُرَيجٍ يُعَزِّيني فقال لي‏:‏ يا أبا محمد اسْلُ صَبراً واحْتِساباً قبْلَ أن تَسْلُو غفلة ونسْياناً كما تَسْلو البهائم‏.‏

وهذا الكِلامُ لعليّ ابن أبي طالب كرّم الله وجهَه يُعزِّي به الأشْعَتَ بن قيْس في ابن له ومنه أخذه ابن جُرَيْج‏.‏

وقد ذكَرَه حبيب في شعره فقال‏:‏ وقال عليّ في التعازي لأشْعَثٍ وخاف عليه بعضَ تلك المآثِم أتَصْبِرُ لِلْبلْوَى عَزَاءً وحِسْبَةً فَتُؤْجَرَ أَمْ تَسْلُو سًلُوَّ البهائم أتى عليُّ أبي طالب كَرَّم الله وجهه لأشْعَث يُعَزِّيه عن ابنه فقال‏:‏ إن تَحْزَنْ فقد آستحقًتْ ذلك مِنك الرّحم وإن تَصْبر فإن في الله خَلَفاً من كلِّ هالك مع أنّك إن صَبَرت جرَى عليك القَدَر وأنت مَأجُور وإن جَزِعْت جَرَى عليك القَدَر وأنت آثِم‏.‏

وعزَّى ابن السمَّاك رجلاً فقال‏:‏ عليك بالصَّبْر فبه يَعْمل من احتَسَب وإليه يَصير مَن جزع واعلم أنه ليست مُصيبة إلا ومعها أعظمُ منها من طاعة الله فيها أو مَعْصيته بها‏.‏

الأصمعيّ قال‏:‏ عزّى صالحٌ المُرِّي رجلاً بابنه فقال له‏:‏ إنْ كانت مُصيبتك لم تُحْدِث لك مَوْعظةً فمُصِيبتك بنَفْسك أعظمُ من مُصيبتك بابنك واعلم أنّ التَّهْنِئَة على آجِل الثَّوَاب أولَى من التَّعزِية على عاجل المصيبة‏.‏

العُتْبىّ قال‏:‏ عزَى أبي رجلاً فقال‏:‏ إنما يَسْتوجب على اللهّ وَعْده من صبر لحقه فلا تجْمَع إلى ما فُجِعت به الفَجيعةَ بالأجر فإنها أعظمُ المصيبتن عليك ولكلّ اجتماعٍ فُرْقة إلى دار الحُلولِ‏.‏

عزّى عبدُ الله بن عبَّاس عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه في بُنى له صَغير فقال‏:‏ عوَّضك الله منه ما عوّضه الله منك‏.‏

وكان عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه إذا عزَّى قوماً قال‏:‏ عليكم بالصَّبر فإنّ به يأخُذ الحازم وإليه يَرْجع الجازع‏.‏

وكان الحسنُ يقول في المُصيبة‏:‏ الحمدُ لله الذي آجَرَنا على ما لو كلَّفنا غيرَه لعَجَزْنا عنه‏.‏

أما بعد فإنَ أحق مَن تعزَّى وأوْلى مَنْ تأسى وسلّم لأمر اللّه وقَبِلَ تأديبَه في الصَبر على نَكبَات الدنيا وتجرع غُصَص البَلْوى مَن تَنجَز من الله وعده وفَهِم عن كتابه أمرَه وأخْلص له نفسَه واعترف له بما هو أهلُه‏.‏

وفي كتاب اللّه سَلوَة من فَقْدَ كل حَبيب وإن لم تَطب النفسُ عنه وأنْسٌ من كلِّ فقيد وإن عَظًمت اللوعةُ به إذ يقول عزَّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ كلُّ شيءَ هَالِكٌ إلاّ وَجْهَه لَهُ الحُكم وَإلَيْهِ تُرْجَعُون ‏"‏ وحيث يقول‏:‏ ‏"‏ الذِين إذا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إنّا للّه وَإنّا إلَيْهِ رَاجِعُون أولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهمْ وَرَحْمَةٌ وأولئِكَ هم المُهُتَدُون ‏"‏‏.‏

والموتُ سبيل الماضِين والغابرين ومورِد الخَلاَئق أجْمعين وفي أَنبياء الله وسالفِ أوليائه أفضلُ العِبْرة وأحْسن الأسوة فهل أحد منهم إلا وقد أخذ من فجائع الدُّنيا بأَجْزل العطاء ومن الصبر عليها باحتساب الأجْر فيها بأوْفر الأنصِبَاء فِجع نبيّنا عليه الصلاةُ والسلام بابنه إبراهيم وكان ذخْرَ الإيمان وقُرَّة عَين الإسلام وعَقِب الطٌهارة وسَلِيل الوحي ونَتِيج الرَّحمة وحَضِين الملائِكة وبِقيّة آل إبراهيم وإسماعيل صلوات اللهّ عليهم أجمعين وعلى عامة الأنبياء والمُرْسلين فعمَت الثقلَين مُصِيبتُه وخَصَّت الملائكةَ رَزِيتَّهً ‏"‏ ورضى صلى الله عليه وسلم من فراقه بثواب الله بدلاً ومنِ ‏"‏ فِقْدَانه عِوَضاً فشكَرَ قَضَاه واتبع رِضَاه فقال‏:‏ يَحْزَن القَلب وتَدْمَع العين ولا نقول ما يُسْخِط الربّ وإنّا بك يا إبراهيم لَمَحْزونون‏.‏

وإذا تأمَّل ذو النّظَر ما هو مُشْفٍ عليه من غَير الدُّنيا وانْتَصح نفسه وفِكْرَه في غِيرَها بتنقُّل الأحوال وتقارُب الآجال وانقطاع يسير هذه المُدَّة ذَلَّت الدُّنيا عنده وهانت المصائبُ عليه وتَسهًّلت الفجائعُ لديه فأخَذ للأَمر أُهْبته وأعدَّ للموت عًدَّته‏.‏

ومن صَحِب الدُّنيا بحُسْن رَويَّة ولاحَظَها بعين الحقيقة كان على بَصِيرة من وَشْكِ زوالها‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أذكُرُوا الموت فإنه هادم اللذات ومُنَغِّص الشَّهَوَات‏.‏

وليس شيء مما اقتصصتُ إلا وقد جعلك اللهّ مُقَدَّماً في العِلْم به‏.‏

ولَعْمري إن الخَطْبَ فيما أصِبْتَ به لَعَظيم غير أن تَعوّصه من الأجْر والمَثُوبة عليه بحُسْن الصَّبر يُهَوِّنان الرَّزِيِّة وإن ثَقُلَت ويُسَهِّلاَن الخَطْب وإن عَظُم‏.‏

وهب الله لك من عِصْمة الصَّبر ما يُكمل لك به زُلْفي الفائزين ومزيد الشاكرين وجعلك من المُرتَضين قَوْلاً وفِعلا الذين أعطاهم ‏"‏ الحُسْنَى ‏"‏ ووفَّقهم للصَّبْر والتَّقْوَى‏.‏

محمد بن الفَضل عن أبي حازم قال‏:‏ مات عُقْبة بن عِيَاض بن غَنْم الفِهْريّ فعزَّى رجلٌ أباه فقال‏:‏ لا تَجْزع عليه فقد قُتِل شهيداً فقال‏:‏ وكيف أجزع على من كان في حَيَاته زينةَ الدُّنيا وهو اليومَ من الباقيَات الصَّالحات‏.‏

ابن الغاز قال‏:‏ حَدَّثنا عيسى بن إسماعيل قال‏:‏ سمعتُ الأصمعيّ يقول‏:‏ دخلتُ على جعفر بن سُليمان وقد ترك الطعامَ جَزَعاً على أخيه محمد بن سليمان فأنشدته بيتين فما برحتُ حتى دعا بالمائدة‏.‏

فقلتُ للأصمعيّ‏:‏ ما هما فسكت فسألتهُ فقال‏:‏ أتدري قد زادهُ كلَفاً بالحُبِّ إذ مَنَعت أحبُ شيء إلى الإنسان ما مُنِعاَ قال أبو موسى‏:‏ والأبيات لأراكة الثقفي يرْثى بها عمرو بن أراكَة ويُعزِّى نفسه حيث يقول‏:‏ لَعَمْري لئن أَتْبَعْتَ عينك ما مضى به الدَّهْرُ أو ساق الحِمَامُ إلى القَبر لتستنفدن ماءَ الشُّئون بأَسْره وإنْ كُنْتَ تَمريهنَ من ثَبَج البَحْر تَبَيّنْ فإنْ كان البُكا ردّ هالِكاً على أَحَدٍ فاجْهَد بُكاك على عَمْرو فلا تَبْكِ مَيْتاً بعد مَيت أَجَنَّة عليُّ وعبَّاس وآل أبي بَكْر أبو عمر بن يزيد قال‏:‏ لما مات أخو مالكَ بن دِينار بكى مالك وقال‏:‏ يا أخي لا تَقَرُّ عيْني بعدك حتى أعْلم أفي الجنِّة أنت أم في النَّار ولا أعلم ذلك حتى ألحق بك‏.‏

وقالت أعرابية ورأت ميتاً يُدْفَن‏:‏ جافي الله عن جَنْبَيْه الثَّرَى وأعانه على طول البِلَى‏.‏

وعَزَّى أعرابيَ رجلاً فقال‏:‏ أوصيك بالرِّضا من الله بقَضائه والتنجًّز لما وعد به من ثوابه فإنَ الدُّنيا دار زوال ولا بد من لقاء اللهّ‏.‏

وَعزَّى أيضاً رجلاً فقال‏:‏ إنّ من كان لك في الآخرة أجراً خيرٌ لك ممن كان لك في الدُّنيا سرُوراً‏.‏

وجَزع رجلٌ على ابن له فشكا ذلك إلى الحسن فقال له‏:‏ هل كان ابنك يَغيب عنك قال‏:‏ نَعم كان مَغيبُه عنِّي أكثر من حضوره قال‏:‏ فاترًكه غائباً فإنه فإنه لم يَغِب عنك غيبةً الأجر لك فيها أعظمُ من هذه الغَيْبة‏.‏

وعزّى رجلٌ نصرانيٌّ مسلماً فقال له‏:‏ إنّ مِثْلي وكان عليُّ بن الحُسين رضى الله عنه في مجلسه وعنده جماعةٌ إذ سمع ناعيةً في بَيْته فنَهض إلى منزله فَسَكّنَهم ثم رجَعَ إلى مجلسه فقالوا له‏:‏ أَمِنْ حَدَث كانت الناعية قال‏:‏ نعم‏.‏

فعَزَّوه وعَجِبوا من صَبْره فقال‏:‏ إنا أهل بيت نُطيع الله فيما نُحب ونَحْمَدُه على ما نَكره‏.‏

تعزية - التمس ما وَعد الله من ثَوَابه بالتّسليم لقضائِه والانتهاء إلى أمره فإن ما فات غير مُسْتَدْرَك‏.‏

وعزى موسى المَهْدِيّ إبراهيمَ بن سَلْم على ابن له مات فَجَزع عليه جزعاً شديداً فقال له‏:‏ أَيسرُّك وهو بلية وفِتْنَة ويَحْزُنك وهو صَلَوات ورحمة سُفيان الثّوْري عن سعيد بن جُبير قال‏:‏ ما أعْطِيَتْ أمّة عند المُصِيبة ما أعْطِيَت هذه الأمة من قولها‏:‏ ‏"‏ إنّا للّه وإنّا إليه رَاجِعُون ‏"‏‏.‏

ولو أعْطِيها أحدٌ لأعْطيها يَعْقوب حيثُ يقول‏:‏ ‏"‏ وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ‏"‏‏.‏

وعَزَى رجلٌ بابن له فقال له‏:‏ ذَهب أبوك وهو أصلُك وذَهب ابنك وهو فَرْعك فما بَقَاء مَن ذهب أصلُه وفرعه تعازى الملوك العُتْبى قال‏:‏ عَزّى أكثَم بن صَيْفيّ عمرو بنَ هِنْد ملكَ العرب على أخيه فقال له‏:‏ أيها الملك إنّ أهلَ الدار سَفْرٌ لا يَحُلّون عُقَد الرحال إلا في غَيْرها وقد أتاك ما ليس بمردود عنك وارتحل عنك ما ليس براجع إليك وأقام معك مَن سَيَظْعَنِ عنك ويَدَعك‏.‏

واعلم أنّ الدُنيا ثلاثة أيام‏:‏ فأمس عِظَة وشاهدُ عَدْل فَجَعَك بِنفْسه وأبْقَى لك عليه حُكْمَك واليوم غَنيمة وصَدَيق أتاك ولم تَأته طالت عليك غَيْبَتُه وستُسْرع عنك رِحْلته وغَد لا تَدري من أهلُه وسيأتيك إنْ وَجَدك‏.‏

فما أحسَن الشُّكر للمُنْعم والتسليمَ للقادر‏!‏ وقد مَضت لنا أصولٌ نحن فُروِعها فما بَقَاء الفُروع بعد أصُولها‏!‏ واعلم أنّ أعظم من المُصيبة سوءُ الخَلف منها وخيرٌ من الخير مُعْطيه وشرٌ من الشرّ فاعله‏.‏

لما هَلك أميرُ المؤمنين المَنصور قَدِمَت وُفود الأنصار على أمير المؤمنين المهديّ وقَدِمَ فيهم أبو العَيْناء المُحَدَث فَتَقَدَّمَ إلى التّعْزية فقال‏:‏ آجَر الله أميرَ المؤمنين على أمير المؤمنين قبلَه وبارك لأمير المُؤمنين فيما خَلِّفه له فلا مُصِيبةَ أعظمُ من مُصيبة إمام والد ولا عُقْبَى أفْضَلُ من خِلافة الله على أوليائه فاْقبل من الله أفضلَ العطية واصْبر له على الرزيّة‏.‏

ولما مات معاويةُ بن أبي سفيان ويزيدُ غائب صلَّى عليه الضحّاك بن قيس الفِهْري ثم قَدِمَ يزيد من يومه ذلك فلم يَقْدَم أحدٌ على تَعْزيته حتى دخل عليه عبدُ الله بن همّام السلوليّ فقال‏:‏ اصْبرْ يزيدُ فقد فارقتَ ذا مِقَةٍ واشكُر حِبَاءَ الذي بالمُلْك حاباكَا لا رُزْءَ أعظمُ في الأَقْوَام قد عَلِمُوا مما رُزِئْتَ ولا عُقْبَى كعُقْبَاكا أصبحتَ رَاعى أهل الأرض كلِّهمُ فأنت تَرعاهُم واللّه يَرْعاكا وفي مُعاويةَ الباقي لنا خلف إذا بقيتَ فلا نَسْمَع بِمَنْعاكا فافتتح الخُطباء الكلام‏.‏

عَزى شَبيبُ بن شَيْبَة المنصورَ على أخيه أبي العبّاس فقال‏:‏ جَعل الله ثوابَ ما رُزِئت به لك أَجراً وأعْقَبك عليه صبرا وخَتَم لك ذلك بعافية تامّة ونعْمة عامّة فثوابُ الله خير لك منه وما عند الله خير له منك وأحقُّ ما صُبر عليه ما ليس إلى تَغْييره سبيل‏.‏

وكتب إبراهيم بن إسحاق إلى بعض الخُلَفاء يُعَزِّيه‏:‏ إنّ أحَقَّ مَن عَرف حقَ اللهّ فيما أَخَذ منه مَن عَرف نِعْمَته فيما أبقَى عليه‏.‏

يا أميرَ المؤمنين إِنّ الماضيَ قبلك هو الباقي لك والباقيَ بعدك هو المأجور فيك وإِنّ النِّعمة على الصابرين فيما ابتُلوا به أعظمُ منها عليهم فيما يُعَافَوْنَ منه‏.‏

دخل عبدُ الملك بن صالح دار الرّشيد فقال له الحاجبُ‏:‏ إن أمير المؤمنين قد أصِيب بابن له ووُلد له آخر‏.‏

فلما دخل عليه قال‏:‏ سرَّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءَك ولا ساءَك فيما سرّك وجَعل هذه بهذه مَثُوبةً على الصبر وجزاءً على الشكر‏.‏

ودخل المأمونُ عَلَى أم الفَضْل بن سَهل يُعَزِّيها بابنها الفَضْل بن سهل فقال‏:‏ يا أُمّه إنك لم تَفْقِدِي إلا رؤيته وأنا ولدُك مكانَه فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ رجلا أفادني ولداً مثلك لَجَدير أن أَجْزع عليه‏.‏

لما مات عبدُ الملك بن عمر بن عبد العزيز كتب عمر إلى عُمّاله‏:‏ إِنَّ عبد الملك كان عبداً من عَبيد اللهّ أَحْسَنَ الله إليه وإليّ فيه أعاشه ما شاء وقَبَضَه حين شاء وكان - ما علمتُ من صالِحِي شباب أَهْل بَيْته قراءةً للقرآن وتَحَرِّياً للخير وأعوذ باللّه أن تكون لي مَحَبّة أخالف فيها محبة اللّه فإن ذلك لا يَحْسُن في إحسانه إليّ وتتابُع نَعمه عليّ ولأعلمنّ ما بكت عليه باكية ولا ناحت عليه نائحة قد نَهينا أهلَه الذين هم أحقُّ بالبكاء عليه‏.‏

دخل زيادُ بن عثمان بن زياد على سُليمان بن عبد الملك وقد تُوفي ابنه أيُّوب فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنّ عبدَ الرحمن ابن أبي بكر كان يقول‏:‏ من أَحبّ البقاء - ولا بقاء - فَلْيُوَطِّن نفسه على المصائب‏.‏

لما مات مُعاوية دخل عَطاء بن أبي صيْفِيّ على يزِيد فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أصبحتَ رُزِئْت خليفةَ اللّه وأعطيت خلافةَ اللّه فاحْتسِب على الله أعظم الرزيّة واشكُره على أحسن العَطية‏.‏

عزّى محمدُ بن الوليد بن عتبة عُمَر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أعِدّ لما تَرَى عُدَّةً تكنِ لك جُنّة من الحُزن وسِتْراً من النار‏.‏

فقال عمر‏:‏ هلِ رأيتَ حُزْناً يُحْتَجّ به أو غَفْلة يُنبّه عليها قال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين لو أن رجلاً ترَك تعْزية رجل لِعِلْمِه وانتباهه لكُنَته ولكن الله قضى أن الذِّكرى تنفع المؤمنين‏.‏

وتُوُفِّيَت أخْتٌ لعمر بن عبد العزيز فلما فرغ من دَفْنها دَنا إليه رجل فعزَّاه فلم يَرُدّ عليه شيئاً ثم دنا إليه آخرُ فعزَّاه فلم يرُدَّ عليه شيئاً فلما رأى الناسُ ذلك أمسكوا عنه ومَشَوْا معه‏.‏

فلما بلغ البابَ أقبل على الناس بوجهه وقال‏:‏ أدركتُ الناس وهم لا يُعَزون بامرأة إلا أن تكون أًمًّا انقلبوا رحمكم اللهّ‏.‏

وُجد في حائط من حيطان تُبَّع مكتوب‏:‏ اصبِرْ لِدَهْرٍ نال من ك فهكذا مضت الدهور فرح وَحُزْنٌ مرةً لا الحزن دام ولا السرور وهذا نظيرُ قول العتَّابي‏:‏ وقائلة لمَّا رَأَتْني مسهداً كَأَنّ الحَشَا مِنِّي تُلَذِّعُه الجَمُرْ أباطِنُ داءٍ أم جَوَى بك قاتلٌ فقلتُ الذي بي ما يَقوم له صبر تَفرّق ألافٍ وموتُ أَحِبّة وفَقْدُ ذَوى الإفْضَال قالت كذا الدهر كتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى المُتوكل يُعزيه بابن له‏:‏ ليس المُعزى ببعد ميته بباق بعد مَيِّته ولا المعزِّي وإن عاشا إلى حِين وقال أبو عُيَينة‏:‏ فإنْ أَشكُ من لَيلى بجُرْجان طُولَه فقد كنت أشكو منه بالبَصرة القِصَرْ وقائلةٍ ماذا نأى بك عنهمُ فقلت لها لا عِلْم لي فَسَلِي القَدَر وقال بعض الحُكماء لسُليمان بن عبد الملك لما أصِيب بابنه أيّوب‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنّ مثلَك لا يُوعَظ إلا بدون عِلْمه فإن رأَيتَ أن تًقَدِّم ما أخَّرَت العَجَزة من حُسن العَزاء والصَّبر على المُصيبة فتُرضي ربَّك وتُرِيح بدنك فافعل‏.‏

وكتب الحسنُ إلى عمر بن عبد العزيزُ يعزِّيه في ابنه عبد الملك ببيت شعر وهو‏:‏ وعُوِّضْتُ أَجْراً مِن فَقيد فلا يكُن فَقِيدُك لا يَأتي وأَجْرُك يَذْهَبُ ولما حَضرت الإسكندرَ الوفاةُ كَتب إلى أمِّه‏:‏ أن اصنَعي طعاماً يحضُره الناسُ ثم تَقدّمي إليهم أن لا يَأكل منه مَحْزون ففَعلت‏.‏

فلم يبْسُط إليه أحدٌ يده فقالت‏:‏ ما لكم لا تَأكلون فقالوا‏:‏ إنك تقَدّمت إلينا أن لا يأكلَ منه مَحْزون وليس منَّا إلا من قد أصيب بِحَميم أو قرِيب فقالت‏:‏ مات واللّه ابني وما أَوْصى إِليّ بهذا إلا ليُعَزِّينَى به‏.‏

وكان سهل بن هارون يقول في تَعْزِيته‏:‏ إن التَهْنِئَة بآجل الثَوَاب أوجبُ من التَّعزية على عاجل