فصل: فَضِيلَةُ الزُّهْدِ وَحَقِيقَتُهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.فَضِيلَةُ الزُّهْدِ وَحَقِيقَتُهُ:

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طَهَ: 131] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشُّورَى: 20] وَفِي حَدِيثِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 34] قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَبًّا لِلدُّنْيَا تَبًّا لِلدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ» فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَهَانَا اللَّهُ عَنْ كَنْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَأَيُّ شَيْءٍ نَدَّخِرُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ لِسَانًا ذَاكِرًا وَقَلْبًا شَاكِرًا وَزَوْجَةً صَالِحَةً تُعِينُهُ عَلَى أَمْرِ آخِرَتِهِ».
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ» وَالْبُخْلُ ثَمَرَةُ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالسَّخَاءُ ثَمَرَةُ الزُّهْدِ، وَالثَّنَاءُ عَلَى الثَّمَرَةِ ثَنَاءٌ عَلَى الْمُثْمِرِ لَا مَحَالَةَ.
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ. وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ».
ثُمَّ إِنَّ أَصْنَافَ مَا فِيهِ الزُّهْدُ تَكَادُ تَخْرُجُ عَنِ الْحَصْرِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعَةً مِنْهَا فَقَالَ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آلِ عِمْرَانَ: 14] ثُمَّ رَدَّهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى إِلَى خَمْسَةٍ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الْحَدِيدِ: 20] ثُمَّ رَدَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى اثْنَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [مُحَمَّدٍ: 36] ثُمَّ رَدَّ الْكُلَّ إِلَى وَاحِدٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَقَالَ: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النَّازِعَاتِ: 40- 41] فَالْهَوَى لَفْظٌ يَجْمَعُ جَمِيعَ حُظُوظِ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الزُّهْدُ فِيهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزُّهْدَ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّغْبَةِ عَنْ حُظُوظِ النَّفْسِ كُلِّهَا إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا عِلْمًا بِأَنَّ الْمَتْرُوكَ حَقِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَأْخُوذِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ تَارِكَ الْمَالِ زَاهِدٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ تَرْكَ الْمَالِ وَإِظْهَارَ الْخُشُونَةِ سَهْلٌ عَلَى مَنْ أَحَبَّ الْمَدْحَ بِالزُّهْدِ، بَلْ لَابُدَّ مِنَ الزُّهْدِ فِي حُظُوظِ النَّفْسِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوِّلَ الزَّاهِدُ فِي بَاطِنِهِ عَلَى ثَلَاثِ عَلَامَاتٍ:
الْأُولَى: أَنْ لَا يَفْرَحَ بِمَوْجُودٍ وَلَا يَحْزَنَ عَلَى مَفْقُودٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الْحَدِيدِ: 23].
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ ذَامُّهُ وَمَادِحُهُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أُنْسُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْغَالِبُ عَلَى قَلْبِهِ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ.

.كِتَابُ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ:

.فَضِيلَةُ النِّيَّةِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الْأَنْعَامِ: 52] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النِّسَاءِ: 35] وَالْمُرَادُ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ هِيَ النِّيَّةُ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
وَفِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا قَطَعْنَا وَادِيًا وَلَا وَطِئْنَا مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا أَنْفَقْنَا نَفَقَةً وَلَا أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ إِلَّا شَرِكُونَا فِي ذَلِكَ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ» قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَيْسُوا مَعَنَا؟ قَالَ: «حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» فَشَرِكُوا بِحُسْنِ النِّيَّةِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ».
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ وَهُوَ لَا يَنْوِي أَدَاءَهُ فَهُوَ زَانٍ، وَمَنِ ادَّانَ دَيْنًا وَهُوَ لَا يَنْوِي قَضَاءَهُ فَهُوَ سَارِقٌ.

.تَفْضِيلُ الْأَعْمَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّيَّةِ:

اعْلَمْ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: طَاعَاتٌ وَمَعَاصٍ وَمُبَاحَاتٌ.
فَأَمَّا الْمَعَاصِي: فَلَا تَتَغَيَّرُ عَنْ مَوْضِعِهَا بِالنِّيَّةِ، أَعْنِي أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَنْقَلِبُ طَاعَةً بِالنِّيَّةِ، كَالَّذِي يَغْتَابُ إِنْسَانًا مُرَاعَاةً لِقَلْبِ غَيْرِهِ، أَوْ يُطْعِمُ فَقِيرًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، أَوْ يَبْنِي مَدْرَسَةً أَوْ مَسْجِدًا بِمَالٍ حَرَامٍ وَقَصْدُهُ الْخَيْرُ، فَهَذَا كُلُّهُ جَهْلٌ وَالنِّيَّةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي إِخْرَاجِهِ عَنْ كَوْنِهِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَمَعْصِيَةً، بَلْ قَصْدُهُ الْخَيْرَ بِالشَّرِّ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ شَرٌّ آخَرُ، فَإِنْ عَرَفَهُ فَهُوَ مُعَانِدٌ لِلشَّرْعِ، وَإِنْ جَهِلَهُ فَهُوَ عَاصٍ بِجَهْلِهِ؛ إِذْ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَالْخَيْرَاتُ إِنَّمَا يُعْرَفُ كَوْنُهَا خَيْرَاتٍ بِالشَّرْعِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّرُّ خَيْرًا؟ هَيْهَاتَ، وَلِذَلِكَ قَالَ سهل رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا عُصِيَ اللَّهُ بِمَعْصِيَةٍ أَعْظَمَ مِنَ الْجَهْلِ قِيلَ: يَا أبا محمد هَلْ تَعْرِفُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الْجَهْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْجَهْلُ بِالْجَهْلِ وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالْجَهْلِ يَسُدُّ بِالْكُلِّيَّةِ بَابَ التَّعَلُّمِ، فَمَنْ يَظُنُّ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ فَكَيْفَ يَتَعَلَّمُ؟ وَكَذَلِكَ أَفْضَلُ مَا أُطِيعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْعِلْمُ، وَرَأْسُ الْعِلْمِ الْعِلْمُ بِالْعِلْمِ. كَمَا أَنَّ رَأْسَ الْجَهْلِ الْجَهْلُ بِالْجَهْلِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النَّحْلِ: 43، وَالْأَنْبِيَاءِ: 7] نَعَمْ، لِلنِّيَّةِ دَخْلٌ فِي الْمَعَاصِي وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا انْضَافَ قُصُودٌ خَبِيثَةٌ تَضَاعَفَ وِزْرُهَا وَعَظُمَ وَبَالُهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي الطَّاعَاتُ: وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِالنِّيَّاتِ فِي أَصْلِ صِحَّتِهَا وَفِي تَضَاعُفِ فَضْلِهَا.
أَمَّا الْأَصْلُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ، فَإِنْ نَوَى الرِّيَاءَ صَارَتْ مَعْصِيَةً. وَأَمَّا تَضَاعُفُ الْفَضْلِ فَبِكَثْرَةِ النِّيَّاتِ الْحَسَنَةِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ الْوَاحِدَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً فَيَكُونُ لَهُ بِكُلِّ نِيَّةٍ ثَوَابٌ؛ إِذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ حَسَنَةٌ، ثُمَّ تُضَاعَفُ كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا كَمَا وَرَدَ، وَمِثَالُهُ الْقُعُودُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ طَاعَةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْوِيَ فِيهِ نِيَّاتٍ كَثِيرَةً حَتَّى يَصِيرَ مِنْ فَضَائِلِ أَعْمَالِ الْمُتَّقِينَ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ بَيْتُ اللَّهِ وَأَنَّ دَاخِلَهُ زَائِرُ اللَّهِ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَنْتَظِرَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَيَكُونَ فِي صَلَاةٍ.
ثَالِثُهَا: التَّرَهُّبُ بِكَفِّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْأَعْضَاءِ عَنِ الْحَرَكَاتِ وَالتَّرَدُّدَاتِ.
رَابِعُهَا: عُكُوفُ الْهَمِّ عَلَى اللَّهِ وَلُزُومُ السِّرِّ لِلْفِكْرِ فِي الْآخِرَةِ، وَدَفْعُ الشَّوَاغِلِ الصَّارِفَةِ عَنْهُ بِالِاعْتِزَالِ إِلَى الْمَسْجِدِ.
خَامِسُهَا: التَّجَرُّدُ لِذِكْرِ اللَّهِ أَوْ لِاسْتِمَاعِ ذِكْرِهِ وَلِلتَّذَكُّرِ بِهِ.
سَادِسُهَا: أَنْ يَقْصِدَ إِفَادَةَ الْعِلْمِ بِأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ؛ إِذِ الْمَسْجِدُ لَا يَخْلُو عَمَّنْ يُسِيءُ فِي صَلَاتِهِ أَوْ يَتَعَاطَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، فَيَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُرْشِدُهُ إِلَى الدِّينِ فَيَكُونُ شَرِيكًا مَعَهُ فِي خَيْرِهِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْهُ فَتَتَضَاعَفُ خَيْرَاتُهُ.
سَابِعُهَا: أَنْ يَسْتَفِيدَ أَخًا فِي اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَنِيمَةٌ وَذَخِيرَةٌ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمَسْجِدُ مُعَشَّشُ أَهْلِ الدِّينِ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ.
ثَامِنُهَا: أَنْ يَتْرُكَ الذُّنُوبَ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَحَيَاءً مِنْ أَنْ يَتَعَاطَى فِي بَيْتِ اللَّهِ مَا يَقْتَضِي هَتْكَ الْحُرْمَةِ.
فَهَذَا طَرِيقُ تَكْثِيرِ النِّيَّاتِ، وَقِسْ بِهِ سَائِرَ الطَّاعَاتِ، إِذْ مَا مِنْ طَاعَةٍ إِلَّا وَتَحْتَمِلُ نِيَّاتٍ كَثِيرَةً وَإِنَّمَا تَحْضُرُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِقَدْرِ جَدِّهِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَتَشَمُّرِهِ لَهُ، فَبِهَذَا تَزْكُو الْأَعْمَالُ وَتَتَضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ الْمُبَاحَاتُ: وَمَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ إِلَّا وَيَحْتَمِلُ نِيَّةً أَوْ نِيَّاتٍ يَصِيرُ بِهَا مِنْ مَحَاسِنِ الْقُرُبَاتِ، كَالتَّطَيُّبِ مَثَلًا فَإِنَّهُ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ وَالتَّنَعُّمِ مُبَاحٌ، وَأَمَّا إِذَا نَوَى بِهِ اتِّبَاعَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْوِيحَ جِيرَانِهِ لِيَسْتَرِيحُوا بِرَوَائِحِهِ، وَدَفْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ عَنْ نَفْسِهِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى إِيذَاءِ مُخَالِطِيهِ، وَزِيَادَةِ فِطْنَتِهِ وَذَكَائِهِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ دَرْكُ مُهِمَّاتِ دِينِهِ بِالْفِكْرِ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنَ النِّيَّاتِ الْحَسَنَةِ الَّتِي لَا يَعْجِزُ عَنْهَا مَنْ غَلَبَ طَلَبُ الْخَيْرِ عَلَى قَلْبِهِ مِمَّا يَنَالُ بِهَا مَعَالِيَ الدَّرَجَاتِ.
وَأَمَّا مَنْ قَصَدَ بِالتَّطَيُّبِ إِظْهَارَ التَّفَاخُرِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ أَوْ رِيَاءِ الْخَلْقِ لِيُذْكَرَ بِذَلِكَ أَوْ لِيَتَوَدَّدَ إِلَى قُلُوبِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذَا يَجْعَلُ الطِّيبَ مَعْصِيَةً وَيَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ أَنْتَنَ مِنَ الْجِيفَةِ.
وَالْمُبَاحَاتُ كَثِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ إِحْصَاءُ النِّيَّاتِ فِيهَا فَقِسْ بِهَذَا الْوَاحِدِ مَا عَدَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنِّي لَأَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي فِي كُلِّ شَيْءٍ نِيَّةٌ حَتَّى فِي أَكْلِي وَشُرْبِي وَنَوْمِي وَدُخُولِي لِلْخَلَاءِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ سَبَبٌ لِبَقَاءِ الْبَدَنِ وَفَرَاغِ الْقَلْبِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْبَدَنِ فَهُوَ مُعِينٌ عَلَى الدِّينِ، فَمَنْ قَصَدَ مِنَ الْأَكْلِ التَّقَوِّيَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَمِنَ الْوِقَاعِ تَحْصِينَ دِينِهِ وَتَطْيِيبَ قَلْبِ أَهْلِهِ وَالتَّوَصُّلَ بِهِ إِلَى وَلَدٍ صَالِحٍ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَهُ كَانَ مُطِيعًا بِأَكْلِهِ وَنِكَاحِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَسْتَحْقِرَ شَيْئًا مِنْ حَرَكَاتِكَ فَلَا تَحْتَرِزْ مِنْ غُرُورِهَا وَشُرُورِهَا وَلَا تُعِدَّ جَوَابَهَا يَوْمَ السُّؤَالِ وَالْحِسَابِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْكَ وَشَهِيدٌ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وَقَدْ قَالَ الحسن: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ اللَّهُ، فَيَقُولُ وَاللَّهِ: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ: بَلَى أَنْتَ أَخَذْتَ لَبِنَةً مِنْ حَائِطِي وَأَخَذْتَ خَيْطًا مِنْ ثَوْبِي فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ قَطَّعَ قُلُوبَ الْخَائِفِينَ. فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ وَالنُّهَى وَلَمْ تَكُنْ مِنَ الْمُغْتَرِّينَ فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ الْآنَ وَدَقِّقِ الْحِسَابَ عَلَى نَفْسِكَ قَبْلَ أَنْ يُدَقَّقَ عَلَيْكَ.

.فَضِيلَةُ الْإِخْلَاصِ وَحَقِيقَتُهُ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الْبَيِّنَةِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزُّمَرِ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النِّسَاءِ: 146] وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110] وَعَنْ علي كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: لَا تَهْتَمُّوا لِقِلَّةِ الْعَمَلِ وَاهْتَمُّوا لِلْقَبُولِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَخْلِصِ الْعَمَلَ يُجْزِكَ مِنْهُ الْقَلِيلُ.
وَقَالَ يعقوب المكفوف: الْمُخْلِصُ مَنْ يَكْتُمُ حَسَنَاتِهِ كَمَا يَكْتُمُ سَيِّئَاتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَشُوبَهُ غَيْرُهُ، فَإِذَا صَفَا عَنْ شَوْبِهِ وَخَلُصَ عَنْهُ سُمِّيَ خَالِصًا، وَيُسَمَّى الْفِعْلُ الْمُصَفِّي الْمُخَلِّصُ: إِخْلَاصًا، وَالْإِخْلَاصُ يُضَادُّهُ الْإِشْرَاكُ، فَمَنْ لَيْسَ مُخْلِصًا فَهُوَ مُشْرِكٌ، إِلَّا أَنَّ الشِّرْكَ دَرَجَاتٌ، وَقَدْ جَرَى الْعُرْفُ عَلَى تَخْصِيصِ اسْمِ الْإِخْلَاصِ بِتَجْرِيدِ قَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ، فَإِذَا امْتَزَجَ قَصْدُ التَّقَرُّبِ بِبَاعِثٍ آخَرَ مِنْ رِيَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الْإِخْلَاصِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَصُومَ لِيَنْتَفِعَ بِالْحِمْيَةِ الْحَاصِلَةِ بِالصَّوْمِ مَعَ قَصْدِ التَّقَرُّبِ، أَوْ يَحُجَّ لِيَصِحَّ مِزَاجُهُ بِحَرَكَةِ السَّفَرِ، أَوْ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ عَدُوٍّ لَهُ، أَوْ يُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، أَوْ يَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ أَوْ يَخْدِمَ الْعُلَمَاءَ وَالصُّوفِيَّةَ لِذَلِكَ، أَوْ يَعُودَ مَرِيضًا لِيُعَادَ إِذَا مَرِضَ أَوْ يُشَيِّعَ جِنَازَةً لِيُشَيَّعَ جَنَائِزُ أَهْلِهِ، أَوْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِيُعْرَفَ بِالْخَيْرِ وَيُذْكَرَ بِهِ، وَيُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الصَّلَاحِ وَالْوَقَارِ.
فَمَهْمَا كَانَ بَاعِثُهُ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنِ انْضَافَ إِلَيْهِ خَطْرَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخَطَرَاتِ حَتَّى صَارَ الْعَمَلُ أَخَفَّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَقَدْ خَرَجَ عَمَلُهُ عَنْ حَدِّ الْإِخْلَاصِ وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ الشِّرْكُ.
وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ حَظٍّ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا تَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الْقَلْبُ قَلَّ أَمْ كَثُرَ إِذَا تَطَرَّقَ إِلَى الْعَمَلِ تَكَدَّرَ بِهِ صَفْوُهُ وَزَالَ بِهِ إِخْلَاصُهُ، فَإِنَّ الْخَالِصَ مِنَ الْعَمَلِ هُوَ الَّذِي لَا بَاعِثَ عَلَيْهِ إِلَّا طَلَبُ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مِنْ مُحِبٍّ لِلَّهِ لَمْ يَبْقَ لِحُبِّ الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ قَرَارٌ، وَلِذَا كَانَ عِلَاجُ الْإِخْلَاصِ كَسْرَ حُظُوظِ النَّفْسِ وَقَطْعَ الطَّمَعِ عَنِ الدُّنْيَا وَالتَّجَرُّدَ لِلْآخِرَةِ بِحَيْثُ يَغْلِبُ ذَلِكَ عَلَى الْقَلْبِ، فَإِذْ ذَاكَ يَتَيَسَّرُ الْإِخْلَاصُ.
وَكَمْ مِنْ أَعْمَالٍ يَتْعَبُ الْإِنْسَانُ فِيهَا وَيَظُنُّ أَنَّهَا خَالِصَةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ وَيَكُونُ فِيهَا مَغْرُورًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى وَجْهَ الْآفَةِ فِيهَا. فَلْيَكُنِ الْعَبْدُ شَدِيدَ التَّفَقُّدِ وَالْمُرَاقَبَةِ لِهَذِهِ الدَّقَائِقِ، وَإِلَّا الْتَحَقَ بِأَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.

.فَضِيلَةُ الصِّدْقِ وَدَرَجَاتُهُ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الْأَحْزَابِ: 23] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَالْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا».
وَالصِّدْقُ دَرَجَاتٌ:
الْأُولَى صِدْقُ اللِّسَانِ: وَحَقٌّ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَحْفَظَ أَلْفَاظَهُ فَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِالصِّدْقِ. وَكَمَالُ صِدْقِ الْقَوْلِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْمَعَارِيضِ، فَقَدْ قِيلَ: فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْكَذِبِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَتَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَفِي تَأْدِيبِ الصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ، وَفِي الْحَذَرِ عَنِ الظَّلَمَةِ، وَفِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى الْأَسْرَارِ. فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَصِدْقُهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ نُطْقُهُ فِيهِ لِلَّهِ فِيمَا يَأْمُرُهُ الْحَقُّ بِهِ وَيَقْتَضِيهِ الدِّينُ، فَإِذَا نَطَقَ بِهِ فَهُوَ صَادِقٌ، وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ مُفْهِمًا غَيْرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ مَا أُرِيدَ لِذَاتِهِ بَلْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، فَلَا يُنْظَرُ إِلَى صُورَتِهِ بَلْ إِلَى مَعْنَاهُ. نَعَمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ إِلَى الْمَعَارِيضِ مَا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى سَفَرٍ وَرَّى بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَيْ لَا يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَعْدَاءِ فَيُقْصَدَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ فِي شَيْءٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ بِكَذَّابٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَالَ خَيْرًا أَوْ أَنْمَى خَيْرًا».
وَرَخَّصَ فِي النُّطْقِ عَلَى وِفْقِ الْمَصْلَحَةِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ، وَمَنْ كَانَ فِي مَصَالِحِ الْحَرْبِ، وَالصِّدْقُ هَهُنَا يَتَحَوَّلُ إِلَى النِّيَّةِ فَلَا يُرَاعَى فِيهِ إِلَّا صِدْقُ النِّيَّةِ وَإِرَادَةُ الْخَيْرِ، فَمَهْمَا صَحَّ قَصْدُهُ وَصَدَقَتْ نِيَّتُهُ وَتَجَرَّدَتْ لِلْخَيْرِ إِرَادَتُهُ صَارَ صَادِقًا وَصِدِّيقًا كَيْفَمَا كَانَ لَفْظُهُ، ثُمَّ التَّعْرِيضُ فِيهِ أَوْلَى، وَطَرِيقُهُ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُهُ بَعْضُ الظَّلَمَةِ وَهُوَ فِي دَارِهِ فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ: خُطِّي بِأُصْبُعِكِ دَائِرَةً وَضَعِي الْأُصْبُعَ عَلَى الدَّائِرَةِ وَقُولِي: لَيْسَ هُوَ هَهُنَا، وَاحْتَرَزَ بِذَلِكَ عَنِ الْكَذِبِ وَدَفَعَ الظَّالِمَ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ صِدْقًا، وَأَفْهَمَ الظَّالِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدَّارِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاحْتِرَازِ عَنْ صَرِيحِ اللَّفْظِ وَعَنِ الْمَعَارِيضِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ هُوَ الْكَمَالُ الْأَوَّلُ فِي صِدْقِ الْأَوَّلِ.
وَهُنَاكَ كَمَالٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنْ يُرَاعِيَ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي أَلْفَاظِهِ الَّتِي يُنَاجِي بِهَا رَبَّهُ كَقَوْلِهِ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الْأَنْعَامِ: 79]. فَإِنَّ قَلْبَهُ إِنْ كَانَ مُنْصَرِفًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَشْغُولًا بِأَمَانِي الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهِ فَهُوَ كَذِبٌ، وَكَقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الْفَاتِحَةِ: 5] وَكَقَوْلِهِ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ.
فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَّصِفْ بِحَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَكَانَ لَهُ مَطْلَبٌ سِوَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ صِدْقًا، وَلَوْ طُولِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالصِّدْقِ فِي قَوْلِهِ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ، لَعَجَزَ عَنْ تَحْقِيقِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ عَبْدًا لِنَفْسِهِ أَوْ عَبْدًا لِدُنْيَا أَوْ عَبْدًا لِشَهَوَاتِهِ لَمْ يَكُنْ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ، وَكُلُّ مَا تَقَيَّدَ الْعَبْدُ بِهِ فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ.
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ» سَمَّى كُلَّ مَنْ تَقَيَّدَ قَلْبُهُ بِشَيْءٍ عَبْدًا لَهُ، وَإِنَّمَا الْعَبْدُ الْحَقُّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ أَعْتَقَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاشْتَغَلَ بِاللَّهِ وَبِمَحَبَّتِهِ، وَتَقَيَّدَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ بِطَاعَتِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مُرَادٌ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الصِّدْقُ فِي النِّيَّةِ وَالْإِرَادَةِ: وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ بَاعِثٌ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ مَازَجَهُ شَوْبٌ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ بَطَلَ صِدْقُ النِّيَّةِ.
الثَّالِثَةُ صِدْقُ الْعَزْمِ: وَهُوَ الْجَزْمُ فِيهِ بِقُوَّةٍ، وَالصَّادِقُ فِيهِ هُوَ الَّذِي تُصَادِفُ عَزِيمَتُهُ فِي الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا قُوَّةً تَامَّةً لَيْسَ فِيهَا مَيْلٌ وَلَا ضَعْفٌ وَلَا تَرَدُّدٌ، بَلْ تَسْخُو أَبَدًا بِالْعَزْمِ الْمُصَمِّمِ الْجَازِمِ عَلَى الْخَيْرَاتِ، كَمَنْ يَقُولُ: إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا تَصَدَّقْتُ بِشَطْرِهِ، وَإِنْ أَعْطَانِي اللَّهُ وِلَايَةً عَدَلْتُ فِيهَا وَلَمْ أَعْصِ اللَّهَ تَعَالَى بِظُلْمٍ وَمَيْلٍ إِلَى خَلْقٍ فَصِدْقُ هَذِهِ الْعَزِيمَةِ هُوَ سَخَاءُ نَفْسِهِ بِمَا نَوَى.
الرَّابِعَةُ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَزْمِ: فَإِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَسْخُو بِالْعَزْمِ فِي الْحَالِ إِذْ لَا مَشَقَّةَ فِي الْوَعْدِ وَالْعَزْمِ، وَالْمَؤُونَةُ فِيهِ خَفِيفَةٌ، فَإِذَا حُقَّتِ الْحَقَائِقُ وَحَصَلَ التَّمَكُّنُ وَهَاجَتِ الشَّهَوَاتُ انْحَلَّتِ الْعَزِيمَةُ وَغَلَبَتِ الشَّهَوَاتُ وَلَمْ يَتَّفِقِ الْوَفَاءُ بِالْعَزْمِ، وَهَذَا يُضَادُّ الصِّدْقَ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الْأَحْزَابِ: 23] فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أنس أَنَّ عَمَّهُ أنس بن النضر لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ وَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غِبْتُ عَنْهُ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ قَالَ: فَشَهِدَ أُحُدًا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا دُونَ أُحُدٍ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ رَمْيَةٍ وَضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ: مَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِثِيَابِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}.
وَقَالَ مجاهد: رَجُلَانِ خَرَجَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ قُعُودٍ. فَقَالَا: إِنْ رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى مَالًا لَنَصَّدَّقَنَّ، فَبَخِلُوا بِهِ فَنَزَلَتْ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التَّوْبَةِ: 75- 77] فَجَعَلَ الْعَزْمَ عَهْدًا، وَجَعَلَ الْخُلْفَ فِيهِ كَذِبًا وَالْوَفَاءَ بِهِ صِدْقًا.
الْخَامِسَةُ الصِّدْقُ فِي الْأَعْمَالِ: وَهُوَ أَنْ يَجْتَهِدَ حَتَّى لَا تَدُلَّ أَعْمَالُهُ الظَّاهِرَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي بَاطِنِهِ لَا يَتَّصِفُ هُوَ بِهِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَيْئَةِ الْخُشُوعِ فِي صَلَاتِهِ لِيُرَائِيَ غَيْرَهُ، وَلَكِنَّهُ فِي الْبَاطِنِ قَائِمٌ فِي السُّوقِ بَيْنَ يَدَيْ شَهْوَةٍ مِنْ شَهَوَاتِهِ؛ فَهُوَ كَاذِبٌ بِلِسَانِ الْحَالِ فِي عَمَلِهِ غَيْرُ صَادِقٍ فِيهِ، فَالصِّدْقُ فِيهِ هُوَ اسْتِوَاءُ السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ بِأَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ مِثْلَ ظَاهِرِهِ أَوْ خَيْرًا مِنْ ظَاهِرِهِ.
إِذَا السِّرُّ وَالْإِعْلَانُ فِي الْمُؤْمِنِ اسْتَوَى ** فَقَدْ عَزَّ فِي الدَّارَيْنِ وَاسْتَوْجَبَ الثَّنَا

فَإِنْ خَالَفَ الْإِعْلَانُ سِرًّا فَمَا لَهُ ** عَلَى سَعْيِهِ فَضْلٌ سِوَى الْكَذِبِ وَالْعَنَا

ثُمَّ دَرَجَاتُ الصِّدْقِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ صِدْقٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْجَمِيعِ فَهُوَ الصِّدِّيقُ حَقًّا.