فصل: في رياض آيات السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمقابلة السابعة بين التوحيد والإخلاص، بين من يعملون ابتغاء وجه ربهم ومن يطلبون وجوه الآخرين من أصنام أو رؤساء أو جماهير. وعبادة غير الله تشمل أولئك جميعا. بل أستطيع الجزم بأن هناك أقواما خلت قلوبهم من الله كل الخلو وامتلأت باسترضاء هذا أو اصطناع ذاك! ومبدأ عبادة البطل يدخل في هذه الدائرة. وكذلك مبدأ كسب الأصوات. إن المؤمن حين يصلى يخضع لله وحين يزكى يعطى لله، وحين يجاهد يفنى في الله. لقد توحدت وجهته واستراح ضميره {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}. وقد شرح الشاعر ذلك بقوله: اعمل لوجه واحد يكفيك كل الأوجه!! والمقابلة الثامنة في قوله تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون}.
ظهر الأرض حافل بالأوهام والأباطيل، وما أشد غربة الحق في هذه الدنيا. وأجدر الناس بالتقدير والتكريم من عرف الحق وعرفه لغيره، وقال الصدق وأيد الصادقين. أما شرار الناس فهم الذين يفترون على الله الكذب، وإذا قادهم أحد إلى الصدق تمردوا عليه ورفضوا اتباعه. وقد وعد الله حزب الحق بأنهم: {لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون}.
ولم أر بشرى أعذب وقعا وألطف أثرا من هذه البشرى الندية السخية. ويجىء في سورة الزمر هذا التساؤل المثير: {أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه} إن الله هو الخافض الرافع الضار النافع المعز المذل الذي لا معقب على حكمه، ولا راد لأمره ولا مجير عليه، فكيف لا يكفى عبدا توكل عليه؟ وبمن يحتمى الناس دونه؟ وهذا المعنى أساس المقابلة التاسعة في السورة، فإن غير الله لايستطيع إصدار أمر ولا إمضاء حكم، بل لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فكيف يحمى الآخرين {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}. ومن ثم يردد الموحدون- في وجه المشركين- هذا النداء {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم}. أما المقابلة العاشرة فتصف بعد الشقة بين الموحدين والمشركين، ونحن نحسب أن المخطئ يعرف أنه مخطئ، وأن عابد الوثن يعرف أنه عاكف على قطعة حجر. إن جماهير المخطئين تحسب نفسها على صواب {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا}. وهى تذود عن باطلها بضراوة، وتعتقد أن غيرها هو المبطل! وتدبر هذه الآيات في وصفهم {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون}! ماذا يصنع الرسول مع هؤلاء؟ {قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون}. وأغلب سكان هذه الكرة غرقى في أوهامهم، ولذلك فإن العبء على دعاة الحق ثقيل. فلتكن خدمتهم له شكر ما هداهم الله إليه ومهد لهم الطريق! والمقابلة الحادية عشرة تفهم من قوله تعالى: {فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}. هذه مقابلة بين الإنسان ونفسه على حاليه من بأساء ونعماء، إنه إذا أحرج جأر بالدعاء وسأل الله النجدة وأحس بعجزه، وكان عبدا منيبا! فإذا تغيرت الأيام وتكاثرت لديه النعم، شعر بحوله وطوله.
وقال: هذا النجاح وليد ما لدى من ذكاء! فأين كان هذا الذكاء بالأمس؟! ولم لم تعتمد عليه في إذهاب ما تشكو؟
إن هذا الذهول والعقوق باب الضياع، فليلزم المرء حدود عبوديته.. والإسراع في التوبة من عزائم الإيمان، أما تسويفها والإبطاء فيها فهو دليل عجز عن جبر ما انكسر، أو هو صحو مشوب بنوم واسترخاء! وفى تنشيط القدرة على الخير يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «أتبع السيئة الحسنة تمحها». وقد ييأس الإنسان من نفسه، ويستسلم للشيطان، ويستكثر أخطاءه ويستبعد النجاة منها، وإطفاء لهذه الفتنة جاء في هذه السورة: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا}. وعقدت المقابلة الثانية عشرة بين من يحدوهم الأمل في عفو الله فيمضون في طريقه ويسارعون في مرضاته، وبين من يتقاعسون ويتكاسلون فيفوتهم الخير ويندمون حين لا يجدى ندم {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين}. وعندئذ يقال له: {بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين}. ويقول الله تعالى مقابلا بين الصدق والكذب في العقائد والمسالك والأخلاق: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون}. وهذه هي المقابلة الثالثة عشرة، وقد عبر عن التقوى بالصدق في قوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم}. وعبر بالتقوى والصدق معا عن معالم البر كلها {أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}. والحقيقة واحدة في هذه الآيات جميعا. وتختم السورة بهذه المقابلة الحاسمة، فبعد الحساب العدل والمساءلة الدقيقة يرسل كل فريق من الناس إلى مستقره العتيد {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا} {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا}. أما أهل جهنم فسيعلمون بعد فوات الأوان أنهم نسوا الله فنسيهم.
وأما أهل الجنة فسيستأنفون في ديار النعيم ما شغلوا به في الدنيا من ذكر وشكر: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. وفى ظلال النعمة الوارفة والسعد المقيم يتجاوب هتاف الملائكة مع تسبيح المؤمنين {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الزمر:
لا يخفى وجه اتصال أولها بآخر ص، حيث قال في ص {إِن هو إِلا ذكر للعالمين} ثم قال هنا {تنزيل الكتاب من اللَهِ} فكأنه قيل: هذا الذكر تنزيل وهذا تلاؤم شديد، بحيث إنه لو أسقطت البسملة لا لتأمت الآيتان كالآية الواحدة وقد ذكر الله تعالى في آخر ص قصة خلق آدم، وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه، وخلق الناس كلهم منه، وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقًا من بعد خلق، ثم ذكر أنهم ميتون، ثم ذكر وفاة النوم والموت، ثم ذكر القيامة، والحساب، والجزاء، والنار، والجنة وقال: {وقَضى بينَهُم بالحق وقيل الحمدُ للَهِ ربِ العالمين} فذكر أحوال الخلق، من المبدأ إلى المعاد، متصلًا بخلق آدم المذكور في السورة التي قبلها. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 3):

قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم الله} الذي تمت كلمته فع أمره {الرحمن} الذي وضع، رحمته العامة أحكم وضع فدق لذي الأفهام سره {الرحيم} الذي خص أولياءه بالتوفيق لطاعته فعمهم بره.
لما تبين من التهديد في ص أنه سبحانه قادر على ما يريد، ثم ختمها بأن القرآن ذكر للعالمين، وأن كل ما فيه لابد أن يرى لأنه واقع لا محالة لكن من غير عجلة، فكانوا ربما قال متعنتهم: ما له إذا كان قادرًا لا يعجل ما يريده بعد حين، علل ذلك بأنه {تنزيل} أي بحسب التدريج لموافقة المصالح في أوقاتها وتقريبه للأفهام على ما له من العلو حتى صار ذكرًا للعالمين، ووضع موضع الضمير قوله: {الكتاب} للدلالة على جمعه لكل صلاح، أي لابد أن يرى جميع ما فيه لأن الشأن العظيم إنزاله على سبيل التنجيم للتقريب في فهمه وإيقاع كل شيء منه في أحسن أوقاته من غير عجلة ولا توان، ثم أخبر عن هذا التنزيل بقوله: {من الله} أي المتصف بجميع صفات الكمال {العزيز} فلا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {الحكيم} الذي يضع الأشياء في محالها التي هي أوفق لها، فلكونه منه لا من غيره كان ذكرًا للعالمين، صادقًا في كل ما يخبر به، حكيمًا في جميع أموره.
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما بنيت سورة ص على ذكر المشركين وعنادهم وسوء ارتكابهم واتخاذهم الأنداد والشركاء، ناسب ذلك ما افتتحت به سورة الزمر من الأمر بالإخلاص الذي هو نقيض حال من تقدم، وذكر ما عنه يكون وهو الكتاب، فقال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصًا له الدين} {ألا لله الدين الخالص} وجاء قوله تعالى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء}- الآية في معرض أن لو قيل: عليك بالإخلاص ودع من أشرك ولم يخلص، فسترى حاله، وهل ينفعهم اعتذارهم بقولهم {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وهؤلاء هم الذين بنيت سورة ص على ذكرهم، ثم وبخهم الله تعالى وقرعهم فقال: {لو أراد الله أن يتخذ ولدًا لاصطفى}- الآية، فنزه نفسه عن عظيم مرتكبهم بقوله سبحانه {هو الله الواحد القهار} ثم ذكر بما فيه أعظم شاهد من خلق السماوات والأرض وتكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل وذكر آيتي النهار والليل ثم خلق الكل من البشر من نفس واحدة، وهي نفس آدم عليه السلام، ولما حرك تعالى إلى الاعتبار بعظيم هذه الآيات وكانت أوضح شيء وأدل شاهد، عقب ذلك بما يشير إلى معنى التعجب من توقفهم بعد وضوح الدلائل، ثم بين تعالى أنه غني من الكل بقوله: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم} ثم قال: {ولا يرضة لعباده الكفر} فبين أن من اصطفاه وقربه واجتباه من العباد لا يرضى له بالكفر، وحصل من ذلك مفهوم الكلام أن الواقع من الكفر إنما وقع بإرادته ورضاه لمن ابتلاه به ثم أنس من آمن ولم يتبع سبيل الشيطان وقبيلته من المشار إليهم في السورة قبل فقال تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} [الأسراء: 7] {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} ثم تناسجت الآي والتحمت الجمل إلى خاتمة السورة- انتهى.
ولما أخبر أنه من عنده، علل ذلك بما ثبت به جميع ما مضى من الخير، فقال صارفًا القول عن الغيبة منبهًا على زيادة عظمته بذكر إنزاله ثانيًا، مبرزًا له في أسلوب العظمة مختبرًا أنه خص به أعظم خلقه، معبرًا بالإنزال الظاهر في الكل تجوزًا عن الحكم الجازم الذي لا مرد له: {إنا} أي على ما لنا من العظمة {أنزلنا} أي بما لنا من العظمة، وقرن هذه العظمة بحرف الغاية المقتضي للواسطة إشارة إلى أن هذا كان في البداية بدلالة اتباعه بالأمر بالعبادة، بخلاف ما يأتي في هذه السورة فإنه للنهاية بصيرورته خلقًا له- صلى الله عليه وسلم، فكان بحرف الاستعلاء أنسب دلالة على أن ثقله الموجب لتفطر القدم وسبب اللمم خاص به- صلى الله عليه وسلم، ومن قرب منه ويسره وسهولته لأمته فقال: {إليك} أي خاصة بواسطة الملك، لا يقدر أحد من الخلق أن يدعي مشاركتك في شيء من ذلك، فتكون دعواه موجبة لنوع من اللبس، وأظهر موضع الإضمار تفخيمًا بالتنبيه على ما فيه من جمع الأصول والفروع واللطائف والمعارف {الكتاب} أي الجامع لكل خير مع البيان القاطع والحكم الجازم بالماضي والآتي، والكائن، متلبسًا {بالحق} وهو مطابقة الواقع لجميع أخباره، فالواقع تابع لأخباره، لا يرى له خبر إلا طابقه مطابقة لاخفاء بشيء منها، لا حلية له ولا لباس إلا الحق، فلا دليل على كونه من عنده من ذلك، فليتبعوا خبره، ولينظروا عينه وأثره.
ولما ثبت بهذا أنه خصه سبحانه بشيء عجز عنه كل أحد، ثبت أنه سبحانه الإله وحده، فتسبب عن ذلك قوله لفتًا للقول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه بلحظ جميع صفات الكمال لأجل العبادة تعظيمًا لقدرها لأنها المقصود بالذات: {فاعبد الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال حال كونك {مخلصًا} والإخلاص هو القصد إلى الله بالنية بلا علة {له} أي وحده {الدين} بمعانقة الأمر على غاية الخضوع لأنه خصك بهذا الأمر العظيم فهو أهل منك لذلك وخسأ عنك الأعداء، فلا أحد منهم يقدر على الوصول إليك بما يوهن شيئًا من أمرك فأخلص لتكون رأس المخلصين الذين تقدم آخر سورة ص أنه لا سبيل للشيطان عليهم وتقدم ذكر كثير من رؤوسهم، ووقع الحث على الاقتداء بهم بما ذكر من أمداحهم لأجل صبرهم في إخلاصهم، قال الرازي: قال الجنيد: الإخلاص أصل كل عمل وهو مربوط بأول الأعمال، وهو تصفية النية ومنوط بأواخر الأعمال بأن لا يلتفت إليها ولا يتحدث بها ويضمر في جميع الأحوال، وهو إفراد الله بالعمل، وفي الخبر «أنا أغنى الشركاء عن الشرك».
ولما أمره سبحانه بهذا الأمر، نادى باستحقاقه لذلك وأنه لم يطلب غير حقه، وأن ذلك لا يتصور أن يكون لغيره، فقال في جواب من كأنه قال: لم منعه من الالتفات إلى غيره؟ مناديًا إشارة إلى أنه لا مكافئ له فلا يسع أحدًا يبلغه هذا النداء إلا الخضوع طائعًا أو كارهًا: {ألا لله} أي الملك الأعلى وحده {الدين الخالص} لأنه له الأمر والخلق لا يشركه فيه أحد، فكما تفرد بأن خلقك وخلق كل ما لك من شيء فكذلك ينبغي أن تفرده بالطاعة، ولأنه إذا عبده أحد مخلصًا كفاه كل شيء، وأما غيره فلو أخلص له أحد لم يمكن أن يكفيه شيئًا من الأشياء فضلًا عن كل شيء والدين الذي هو أهل للإخلاص هو الإسلام الذي كان في كل ملة المنبني على القواعد الخمس المثبتة بالإخلاص المحض الناشئ من المراقبة في الأوامر والنواهي وجميع ما يرضي الشارع للدين أو يسخطه، فتكون جملته لله من غير شهوة ظاهرة أو باطنة في شهرة ولا غيرها، وإنما استحقه سبحانه دون غيره لأنه هو الذي شرعه ولا أمر لأحد معه فكيف يشركه من لا أمر له بوجه من الوجوه، وأما ما كان فيه أدنى شرك فهو رد على عامله والله غني حميد، وهذه كما ترى مناداة لعمري تخضع لها الأعناق فتنكس الرؤوس ولا يوجد لها جواب إلا بنعم وعزته وأي وكبريائه وعظمته، قال القشيري: وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد اللهم إلا أن يكون بأمره فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته فأطاعه لا يخرج عن الاحتساب باحتسابه أمره فيه، ولولا هذا لما صح أن يكون في العالم مخلص، قال ابن برجان: وذلك- أي ترك الإخلاص- كله مولد عن حب البقاء في الدنيا ونسيان لقاء الله تعالى، ثم قال ما معناه: إن ذلك من الشرك، وهو ثلاثة أنواع: شرك في الإلهية وهو أن يرى مع الله إلهًا آخر، وهو شرك المجوس والمجسمة: والوثنية، ويضاهيه غلط القدرية، الثاني شرك في العبادة بالرياء وإضافة العمل إلى النفس، والثالث الشرك الخفي وهو الشهوة الخفية، وهو أن يخفي العمل ويخاف من إظهار ويحب لو اطلع عليه ومدح بأسراره، ومن أحسن العون على الإخلاص الحياء من الله أن تتزين لغيره بعمل ألهمك إياه وقواك عليه وخلت فيه وزعمت تطلب التقرب إليه فأتاك عدوه إبليس الذي عاداه فيك فتطيعه فيما يضرك ولا ينفعك، فاستعن على عبادتك بالستر فاستر حسناتك كما تستر سيئاتك، فإن عمل السر يزيد على عمل العلانية سبعين ضعفًا، وذلك كالشجرة إذا ظهرت عروقها ضعف شربها، وأضر بها حرارة الهواء وبرده، وتعرضت للآفات من قطع ويبس وغير ذلك ولم تحسن فروعها وخف ورقها فقل نفعها، وإذا غاصت عروقها غابت عن الآفات وأمنت القطع من أيدي الناس، فكثر شربها فجرى ماؤها فيها، فتزايدت لذلك فروعها واخضر ورقها وكثر خيرها وطاب ثمرها لجانيها، فكذلك العمل إذا كانت له أصول في القلب مستورة زكا في نفسه وطهر من الأدناس وكثر خيره وطاب ثوابه لعامله، وإذا بدا لم يؤمن عليه من أبصار الناظرين، وإذا خفي لم يبق ما يخاف منه إلا العجب ومحبة أن يطلع عليه، وهي الشهوة الخفية، ومن قولهم من عرف الله بعد الضلالة وعرف الإخلاص بعد الرياء وأنزل الموت حق منزلته لم يغفل عن الموت والاستعداد له بما أمكنه انتهى.