فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذن فهذا الاختلاف بين الكائنات الحية ومنها الإنسان- هو أثر من آثار الروح التي لبسته، وأنه بقدر حظه من الروح- قدرا لا نوعا- يكون حظه من الترقي في سلم الحياة.
وإذا كان لنا أن نشبه عالم الروح بمولد كهربائى عظيم، وكان لنا أن نشبه الأجسام بلمبات الكهرباء، على اختلاف قوتها، مما هو دون الشمعة، إلى آلاف الشمعات- كان لنا أن نتمثل الأجسام، أو اللمبات الكهربائية، وقد اتصلت بالمولد الكهربائى العظيم، فأخذ كل جسم أو كل لمبة بقدر قوته من النور الكهربى، أو من عالم الروح!.
وعلى هذا نرى أن الكائن الحي، جسد وروح، وأن الإنسان كذلك جسد وروح، وإن كان حظه من عالم الروح- قدرا لا نوعا- أكبر من أي كائن حى آخر في غير عالم الإنسان.
إذن فما النفس؟
أهي الروح الإنسانية، سميت بهذا الاسم، للتفرقة بين روح الإنسان، وروح الحيوان.. إذ كان للإنسان النصيب الأوفى من هذا النور العلوي المفاض على الأحياء؟ أم هي شيء مضاف إلى خلق الإنسان، به صار الإنسان إنسانا، بعد أن أصبح بالروح حيوانا؟
يحدث القرآن الكريم عن النفس، على أنها كائن له وجود ذاتى مستقل، وبمعنى آخر، إن القرآن يخاطب الإنسان في ذات نفسه، باعتبار أن النفس هي القوة العاقلة المدركة فيه، فيقول سبحانه: {وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها}.
ويقول جل شأنه: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27- 30] ويقول سبحانه: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] ويقول: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} (18: يوسف) ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (1: الطلاق) ويقول سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارًا} (6: التحريم).
فالنفس هنا، وفى مواضع أخرى كثيرة من القرآن، هي الإنسان العاقل، المكلف، وهى الإنسان الذي يتوقع منه الخير أو الشر، والهدى أو الضلال.
ثم هي الإنسان بجميع مشخصاته، جسدا وروحا!.
ومرة أخرى.. ما هي النفس؟
والجواب الذي نعطيه عن هذا السؤال هو مستمد من القرآن الكريم، بعيدا عن مقولات الفلاسفة، وغير الفلاسفة ممن لهم حديث عن النفس.
وعلى هذا نقول:
يشخّص القرآن الكريم النفس، ويجعلها الكائن الذي يمثل الإنسان أمام اللّه، بل وأمام المجتمع أيضا.
فالقتل الذي يصيب الإنسان هو قتل للنفس، كما يقول سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (29: النساء) ويقول جل شأنه: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (32: المائدة).
وفى مقام القصاص تحسب {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (45: المائدة).
وفى مقام التنويه بالإنسان، ودعوته ليلقى الجزاء الحسن، تخاطب النفس، وتدعى، فيقول سبحانه: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: 27- 30).
والنفس في القرآن هي الإنسان المسئول المحاسب: {وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها} [الشمس: 7- 10].
{بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ} [القيامة: 14- 15] وإن بالفهم الذي يستريح إليه العقل في شأن النفس، هو أنها شيء غير الروح، وغير العقل.. وأنها هي الذات الإنسانية أو الإنسان المعنوي، إن صح هذا التعبير.. إنها تتخلق من التقاء الروح بالجسد، إنها التركيبة التي تخلق في الإنسان ذاتية يعرف بها أنه ذلك الإنسان بأحاسيسه ووجدانه ومدركاته.
النفس هي ذات الإنسان، أو هي مشخصات الإنسان التي تنبىء عن ذاته.
ولا نريد أن نذهب إلى أكثر من هذا.. وحسبنا أن نؤمن بأن الروح من أمر اللّه، فلا سبيل إلى الكشف عنها كما يقول سبحانه: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وأن النفس، جهاز خفى عامل في الإنسان.. هي الإنسان المعنوي- كما قلنا- ولهذا كانت موضع الخطاب من اللّه تعالى، كما أنها كانت موضع الحساب والثواب والعقاب.
قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ}؟
هو بيان لضلالة من ضلالات المشركين، بعد إقرارهم بأن اللّه- هو الذي خلق السموات والأرض- فهم مع إقرارهم هذا- يتخذون من الأصنام وسائل يتوسلون بها إلى مرضاة اللّه، ويرجون بها الشفاعة عنده، ويقولون لمن يحاجّهم فيها: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} (3: الزمر) فهم- مع اعترافهم بأن هذه الأصنام ليست الإله الخالق الرازق، المالك لما في السموات والأرض- مع اعترافهم هذا- لا يوجهون وجوههم إلى اللّه مباشرة، بل يجعلون بينهم وبين اللّه من يتولى الاتصال باللّه عنهم، والشفاعة لهم فيما يريدون من اللّه، من جلب خير، أو دفع ضرّ.. وهذا ضلال من وجوه:
فأولا: أن الإنسان- من حيث هو إنسان- مخلوق كريم عزيز بين مخلوقات اللّه.. قد أحسن اللّه خلقه، وأمر الملائكة بالسجود له، وأقامه خليفة له في الأرض.
وهذه منزلة عالية، ودرجة رفيعة، جدير بالإنسان أن يقيم وجوده فيها، ويطلب من اللّه الاستزادة منها.. وذلك بدوام الاتصال باللّه، وطلب القرب منه، بالولاء المطلق للّه، والإخلاص في عبادته، والاجتهاد في طاعته.
وفى تخلّى الإنسان عن هذا المقام، وإسلام زمامه لغيره، من دمى وأشباه دمىّ، لتقوده إلى اللّه- في هذا نزول بالإنسان عن منزلته، واعتراف منه بأنه ليس أهلا لها.
وثانيا: أن اللّه- سبحانه- الذي كرم الإنسان، جعل طريقه إليه مفتوحا ليس عليه خزنة أو حجاب وذلك حتى يتحرر الإنسان من التبعية لأى مخلوق، تلك التبعية التي يسلم فيها وجوده العقلي والروحي لغيره، فيفقد بذلك ذاتيته، ويصبح كائنا مسلوب الإرادة، يتحرك بإرادة غيره، فيقاد، كما يقاد الحيوان.
وقد حرّرت الشريعة الإسلامية الإنسان تحريرا كاملا، وأطلقت كل قواه وملكاته من كل قيد ومن كل تبعية، حتى أن الولاء الذي يعطيه المؤمن للنبىّ ليس ولاء أعمى، بل المطلوب منه شرعا أن يكون ولاء مستندا إلى العقل، وإلى الاقتناع.. حتى ينبع هذا الولاء عن نفس راضية وقلب مطمئن.. ولهذا كانت دعوة الإسلام دعوة قائمة على مجرد البلاغ، والعرض لما بين يديها من هدى.. ثم إن للناس أن يعرضوا هذا المعروض عليهم، على عقولهم.. ثم إن لهم مع هذا إرادتهم المطلقة، في قبول ما عرض عليهم، أو رفضه.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ويقول سبحانه لنبيه الكريم: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] ويقول جلّ شأنه: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (256 البقرة) وثالثا: هؤلاء المشركون، الذي يتعاملون مع تلك الأصنام، قد ضلوا ضلالا بعد ضلال.. فهم ضلوا أولا، لأنهم لم يوجهوا وجوههم إلى اللّه مباشرة، بل جعلوا بينهم وبين اللّه من يقودهم إليه، وضلوا ثانيا لأنهم أسلموا زمامهم لتلك الدّمى التي لا تعقل، ولا تسمع ولا تبصر!! فكيف يكون لهذا الدّمى أن تتجه بهم إلى متجه، وهى تابعة في أماكنها لا تملك تحولا من حال إلى حال، أو من مكان إلى مكان؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ}؟ أي أيتعاملون مع هذه المعبودات ويسلمون أمرهم إليها، ولو كانت لا تملك شيئا ولا تعقل أمرا؟ فإذا كان الإنسان على ضلال إذا أسلم نفسه لإنسان عاقل مثله، أو لمن هو أعقل منه، فإنه يكون على ضلال مبين، وسفه غليظ، إذا هو أسلم نفسه لحيوان أو حجر!!
قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هو تقرير لتلك الحقيقة المطلقة التي غفل عنها المشركون، وعمى عنها الضالون، وهى أن الشفاعة جميعها للّه وحده، لا يملك أحد مع اللّه شيئا منها.
فهو سبحانه مالك السموات والأرض، وإليه يردّ كل ما يجرى فيهما، وما يقع للمخلوقات من نفع أو ضر.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هو دعوة إلى الناس أن يرجعوا إلى اللّه، وأن يسلموا أمرهم إليه وحده يوم الحساب والجزاء.. فهو- سبحانه- الذي يتولى حساب الناس وجزاءهم.. فمن السفه والجهل معا أن يكون هناك عمل يتجه به إلى غيره.. إنه عمل ضائع، لا يقام له وزن! بل هو وزر يحمله الإنسان معه، لأنه حجه عن اللّه، وقصّر به دون العمل لمرضاته.
والشفاعة هنا: هي ما يجلب به الخير، ويدفع به الضر.. أي أن كل ما هو مطلوب للإنسان من جلب خير أو دفع ضر، هو بين يدى اللّه، وهو سبحانه المتصرف فيه وحده.. فمن طلب فليطلب من اللّه وحده.. ومن طلب من غيره شيئا، فقد ضل سعيه وخاب رجاؤه.
قوله تعالى: {وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} هو فضح لحال من أحوال المشركين، وكشف لضلالة من ضلالاتهم.
فهم إذا ذكر اللّه وحده، من غير أن تذكر معه آلهتهم- اشمأزت قلوبهم، أي نفرت، وجزعت، وهلعت.. وإذا ذكرت آلهتهم، وما لها من شفاعة عند اللّه، فرحوا واستبشروا.
وفى قوله تعالى: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} إشارة إلى أن الإيمان بالآخرة، لا يكون إلا بعد الإيمان باللّه.. فالإيمان بالآخرة، إيمان بها وباللّه.. وقد يكون إيمان باللّه وكفر بالآخرة، كما كان عليه إيمان المشركين.
فهم يعرفون اللّه، ويؤمنون بأن على هذا الوجود إلها واحدا.. ولكنهم يتخذون معه آلهة أخرى، هى- عندهم- دون اللّه جلالا وقدرا.. إنها قربان يتقربون بها إلى اللّه.. ثم هم لا يؤمنون بالآخرة، إذ يستبعدون أن يحيى اللّه الناس بعد أن يصيروا ترابا.. وهذا قصور في فهمهم، لجلال اللّه وقدرته. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يصلح هذا أن يكون مثَلًا لحال ضلال الضالين وهُدى المهتدين نشأ عن قوله: {فمن اهتدى فلنفسه إلى قوله وما أنت عليهم بوكيل} [الزمر: 41].
والمعنى: أن استمرار الضالّ على ضلاله قد يحصل بعدَه اهتداء وقد يوافيه أجله وهو في ضلاله فضرب المثل لذلك بنوم النائم قد تعقبه إفاقة وقد يموت النائم في نومه، وهذا تهوين على نفس النبي برجاء إيمان كثير ممن هم يومئذٍ في ضلال وشرك كما تَحقّقَ ذلك.
فتكون الجملة تعليلًا للجملة قبلَها ولها اتصال بقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام} إلى قوله: {في ضلال مبين} [الزمر: 22].
ويجوز أن يكون انتقالًا إلى استدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف في الأحوال فإنه ذكر دليل التصرف بخلق الذوات ابتداءً من قوله: خلق السموات والأرض بالحق إلى قوله: {في ظُلُمات ثَلاث} [الزمر: 5، 6]، ثم دليل التصرف بخلق أحوال ذواتتٍ وإنشاءِ ذواتتٍ من تلك الأحوال وذلك من قوله: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض إلى قوله: {لأُولى الألباب} [الزمر: 21] وأعقَبَ كل دليل بما يظهر فيه أثره من الموعظة والعبرة والزجر عن مخالفة مقتضاه، فانتقل هنا إلى الاستدلال بحالة عجيبة من أحوال أنفُس المخلوقات وهي حالة الموت وحالة النوم.
وقد أنبأ عن الاستدلال قوله: {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} فهذا دليل للناس من أنفسهم، قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21] وقال: {ضرب لكم مثلًا من أنفسكم} [الروم: 28]، فتكون الجملة استئنافًا ابتدائيًا للتدرج في الاستدلال ولها اتصال بجملة {خلق السموات والأرض بالحق} وجملة {ألم تر أن الله أنزل} المتقدمتين، وعلى كلا الوجهين أفادت الآية إبراز حقيقتين عظيمتين من نواميس الحياتين النفسية والجسدية وتقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي لإِفادة تخصيصه بمضمون الخبر، أي الله يتوفّى لا غيره فهو قصر حقيقي لإِظهار فساد أَنْ أشركوا به آلهة لا تملك تصرفًا في أحوال الناس.
والتوفِّي: الإماتة، وسميت توفّيًا لأن الله إذا أَمات أحدًا فقد توفّاه أجلَه فالله المتوفِّي ومَلك الموت متوفًّ أيضًا لأنه مباشر التوفّي.
والميت: متوفى بصيغة المفعول، وشاع ذلك فصار التوفّي مرادفًا للإِماتة والوفاة مُرادفة للموت بقطع النظر عن كيفية تصريف ذلك واشتقاقه من مادة الوفاء.
وتقدم في قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم} في سورة [البقرة: 234]: وقوله: {قل يتوفاكم ملك الموت} في سورة [السجدة: 11].
والأنفس: جمع نَفْس، وهي الشخص والذات قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} وتطلق على الروح الذي به الحياة والإِدراك.
ومعنى التوفي يتعلق بالأنفس على كلا الإِطلاقين.
والمعنى: يتوفّى الناس الذين يموتون فإن الذي يوصف بالموت هو الذات لا الروح وأنَّ توفيها سَلب الأرواح عنها.
وقوله: {والتي لم تمت} عطف على الأنفس باعتبار قيد {حين موتها} لأنه في معنى الوصف فكأنه قيل يتوفى الأنفس التي تموت في حالة نومها، والأنفسَ التي لم تمت في نومها فأفاقت.
ويتعلق {في منامها} بقوله: {يَتَوفَّى} أي ويتوفى أنفسًا لم تمت يَتوفاها في منامها كل يوم، فعلم أن المراد بتوفِّيها هو منامها، وهذا جار على وجه التشبيه بحسب عرف اللغة إذ لا يطلق على النائم ميّت ولا متوفى.
وهو تشبيه نُحِيَ به منحَى التنبيه إلى حقيقة علمية فإن حالة النوم حالة انقطاع أَهم فوائد الحياة عن الجسد وهي الإِدراك سوى أن أعضاءه الرئيسيّة لم تفقد صلاحيتها للعودة إلى أعمالها حينَ الهبوب من النوم، ولذلك قال تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه} كما تقدم في سورة [الأنعام: 60].
{والفاء في فيمسك} فاء الفصيحة لأن ما تقدم يقتضي مقدرًا يفصح عنه الفاء لبيان توفي النفوس في المقام.
والإِمساك: الشدّ باليد وعدم تسليم المشدود.
والمعنى: فيبقِي ولا يردّ النفْس التي قضى عليها بالموت، أي يمنعها أن ترجع إلى الحياة فإطلاق الإِمساك على بقاء حالة الموت تمثيل لدوام تلك الحالة.