فصل: تفسير الآيات (6- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم بيّن سبحانه نوعًا آخر من قدرته، وبديع صنعه، فقال: {خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} وهي: نفس آدم {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} جاء بثمّ للدّلالة على ترتب خلق حواء على خلق آدم، وتراخيه عنه؛ لأنها خلقت منه، والعطف: إما على مقدّر هو صفة لنفس.
قال الفراء، والزجاج: التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة، ثم جعل منها زوجها.
ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة، أي: من نفس انفردت، ثم جعل إلخ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثمّ للدّلالة على أن خلق حوّاء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه، وخلقها على الصفة المذكورة لم تجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها، وقد تقدّم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف.
ثم بيّن سبحانه نوعًا آخر من قدرته الباهرة، فقال: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج} وهو معطوف على خلقكم، وعبر بالإنزال لما يروى: أنه خلقها في الجنة، ثم أنزلها، فيكون الإنزال حقيقة، ويحتمل أن يكون مجازًا، لأنها لم تعش إلا بالنبات، والنبات إنما يعيش بالماء، والماء منزل من السماء، كانت الأنعام كأنها منزلة، لأن سبب سببها منزل كما أطلق على السبب في قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

وقيل: إن أنزل بمعنى: أنشأ، وجعل، أو بمعنى: أعطى.
وقيل: جعل الخلق إنزالًا، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء، والثمانية الأزواج هي ما في قوله: {مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} [الأنعام: 143] {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} [الأنعام: 144] ويعني بالاثنين في الأربعة المواضع: الذكر، والأنثى، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة الأنعام.
ثم بيّن سبحانه نوعًا آخر من قدرته البديعة، فقال: {يَخْلُقُكُمْ في بُطُونِ أمهاتكم خَلْقًا مّن بَعْدِ خَلْقٍ} والجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم، وخلقًا مصدر مؤكد للفعل المذكور، و{مّن بَعْدِ خَلْقٍ} صفة له، أي: خلقًا كائنًا من بعد خلق.
قال قتادة، والسدّي: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظمًا، ثم لحمًا.
وقال ابن زيد: خلقكم خلقًا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم، وقوله: {فِى ظلمات ثلاث} متعلق بقوله: {يَخْلُقُكُمْ} وهذه الظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن، وظلمة الرّحم، وظلمة المشيمة قاله مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك.
وقال سعيد بن جبير: ظلمة المشيمة، وظلمة الرّحم، وظلمة الليل.
وقال أبو عبيدة: ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرّحم، والإشارة بقوله: {ذَلِكُمُ الله} إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة، والاسم الشريف خبره {رَبُّكُمْ} خبر آخر {لَهُ الملك} الحقيقي في الدنيا، والآخرة لا شركة لغيره فيه، وهو: خبر ثالث، وقوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} خبر رابع {فأنى تُصْرَفُونَ} أي: فكيف تنصرفون عن عبادته، وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره.
قرأ حمزة: {إمهاتكم} بكسر الهمزة، والميم.
وقرأ الكسائي بكسر الهمزة، وفتح الميم.
وقرأ الباقون بضم الهمزة، وفتح الميم.
وقد أخرج ابن مردويه، عن يزيد الرقاشي أن رجلًا قال: يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر، فهل لنا في ذلك من أجر؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا» قال: يا رسول الله إنما نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له» ثم تلا هذه الآية: {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يُكَوّرُ اليل} قال: يحمل الليل.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {خَلْقًا مّن بَعْدِ خَلْقٍ} قال: علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا {فِى ظلمات ثلاث} البطن، والرحم، والمشيمة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)} خاطَبَهم على قَدْرِ عقولهم وعقائدهم حيث قالوا: المسيحُ ابن اللَّهِ، وعُزَيْرُ وَلَدُ اللَّهِ؛ فقال: لو أراد أن يتَّخِذَ وَلَدًا للتبنِّى والكرامة لاخْتَارَ من الملائكة الذين هم مُنْزَّهون عن الأكل والشرب وأوصاف الخَلْقِ.
ثم أخبر عن تَقَدُّسِه عن ذلك فقال: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} تنزيهًا له على اتخاذ الأولاد لا في الحقيقة لاستحالة معناه في نَعْتِه، ولا بالتبنِّي لِتَقَدُّسِه عن الجنسية والمحالات، وإنما يذكر ذلك على جهة استبعاد،؛ إذا لو كان ذلك فيكف كان يكون حُكْمُه؟ كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
قوله جلّ ذكره: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِ}.
أي خَلَقَهما وهو مُحِقٌّ في خلقهما.
{يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكّوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى}.
يُدْخِلُ الليلَ على النهارِ، ويدخل النهارَ على الليل في الزيادة والنقصان، وسَخَّرَ الشمسَ والقمرَ. وقد مضى فيما تقدم اختلافُ أحوالِ العبد في القبض والبسط، والجَمْع والفَرْق، والأخذ والرد، والصحو والسُّكْرِ، ونجوم العقل وأقمار العلم، وشموس المعرفة ونهار التوحيد، وليالي الشَّكِّ والجَحْدِ ونهار الوصل، وليالي الهجر والفراق وكيفية اختلافها، وزيادتها ونقصانها.
{أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}.
{العزيز} المتعزِّز على المحبين، {الغفار} للمذنبين. اهـ.

.تفسير الآيات (6- 7):

قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان خلق الحيوان أدل على الوحدانية والقهر بما خالف به الجمادات من الحياة التي لا يقدر على الانفكاك عنها قبل أجله، وبما له من أمور اضطرارية لا محيص له عنها، وأمور اختيارية موكولة في الظاهر إلى مشيئته، وكان أعجبه خلقًا الإنسان بما له من قوة النطق، قال دالًا على ما دل عليه بخلق الخافقين لافتًا القول إلى خطاب النوع كله إيذانًا بتأهلهم للخطاب، وترقيهم في عُلا الأسباب، من غير عطف إيذانًا بأن كلًا من خلقهم وخلق ما قبلهم مستقل بالدلالة على ما سيق له: {خلقكم} أي أيها الناس المدعون لإلهية غيره {من نفس واحدة} هي آدم عليه السلام.
ولما كان إيجادنا منها بعد شق الأنثى منها، قال عاطفًا على ما تقديره: أوجدها من تراب، مبينًا بلفظ الجعل أن الذكر هو سببها ومادتها منبهًا بأداة التراخي على القهر الذي السياق له بالتراخي في الزمان بتأخير المسبب عن سببه المقتضي له إلى حين مشيئته لأن إيجادها منه كان بعد مدة من إيجاده، والأصل في الأسباب ترتب المسببات عليها من غير مهلة وعلى التراخي في الرتبة أيضًا بأن ذلك- لكونه شديد المباينة لأصله- من أعجب العجب: {ثم} أي بعد حين، وعبر بالجعل لأنه كافٍ في نفي الشركة التي هذا أسلوبها وليبين أنه ما خلق آدم عليه السلام إلا ليكون سببًا لما يحدث عنه من الذرية ليترتب على ذلك إظهار ما له سبحانه من صفات الكمال فقال: {جعل منها} أي تلك النفس {زوجها} أي ونقلكم بعد خلقكم منه إليها ثم أبرزكم إلى الوجود الخارجي منها، ويجوز- وهو أحسن- أن يكون المعنى لأن السياق لإحاطة العلم المدلول عليه بإنزال الكتاب وما تبعه: قدر خلقكم على ما أنتم عليه من العدد والألوان وجميع الهيئات حين خلق آدم بأن هيأه لأن تفيضوا منه، فلا تزيدون على ما قدره شيئًا ولا تنقصون وأن تفيض منه زوجه، وذلك قبل خلق حواء منه، ثم أوجدها فكان الفيض منها فيضًا منه فالكل منه، ولهذا ورد الحديث في مسند أحمد بن منيع عن أبي الدرداء رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله آدم يوم خلقه وضرب على كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في يساره: إلى النار ولا أبالي».
ولما كان تنويع الحيوان إلى أنواع متباينة أدل على القدرة التي هي منشأ القهر، وكان سبحانه موصوفًا بالعلو، وكان أكثر الأنعام أشد من الإنسان، فكان تسخيره له وتذليله إنزالًا عن قوته وإيهانًا لشدته، قال دالًا على ذلك الإنشاء والجعل بلفظ الإنزال: {وأنزل لكم} أي خاصة {من الأنعام} أي الإبل بنوعيها، والبقر كذلك، والضأن والمعز.
ولما لم يكن عند العرب البخاتي والجواميس لم يذكرها سبحانه، واقتصر على ما عندهم، وقال: {ثمانية أزواج} أي من كل نوع زوجين ذكرًا وأنثى، والزوج اسم لواحد معه آخر لا يكمل نفعه إلا به، وإذا نظرت هذه العبارة مع العبارة عن خلق الإنسان فهمت أن الأنعام خلق كل ذكرها وأنثاها على انفراده، لا أن أحدًا منها من صاحبه، وذلك أدل على إطلاق التصرف وتنويعه مما لو جعل خلقها مثل خلق الآدمي.
ولما كان تكوينهم في تطويرهم عجبًا قال مستأنفًا بيانًا لما أجمل قبل: {يخلقكم} أي يقدر إيجادكم أنتم والأنعام على ما أنتم عليه من أخلاط العناصر {في بطون أمهاتكم} ولما كان تطوير الخلق داخل البطن حيث لا تصل إليه يد مخلوق ولا بصره، قال دالًا على عظمته ودلالته على تمام القدرة والقهر: {خلقًا} ودل على تكوينه شيئًا بعد شيء بإثبات الحرف فقال: {من بعد خلق} أي في تنقلات الأطوار وتقلبات الأدوار.
ولما كان الحيوان لا يعرف ما هو إلا في التطوير الرابع، وكان الجهل ظلمة قال: {في ظلمات ثلاث} ظلمة النطفة ثم العلقة ثم المضغة، فإذا صار عظامًا مكسوة لحمًا عرف هل هو ذكر أو أنثى فزالت عنه ظلمات الجهل، وصار خلقًا آخر، وقيل؛ ظلمة البطن والرحم والمشيمة- نقل عن ابن عباس- رضى الله عنهما- وعزاه ابن أبي الدنيا في كتاب القناعة إلى عيسى ابن مريم عليه السلام.
ولما ثبت له سبحانه كمال العظمة والقهر، قال مستأنفًا ما أنتجه الكلام السابق معظمًا باداة البعد رميم الجمع: {ذلكم} أي العالي المراتب شهادتكم أيها الخلق كلكم، بعضكم بلسان قاله، وبعضكم بناطق حاله، الذي جميع ما ذكر من أول السورة إلى هنا أفعاله، ولما أشار إلى عظمته بأداة البعد، أخبر عن اسم الإشارة فقال: {الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال، ونبه على جهلهم مما يعلمون من ربوبيته لعملهم بالشرك عمل جاهل بذلك فقال واصفًا: {ربكم} أي المالك والمربي لكم بالخلق والرزق.
ولما كان المربي قد لا يكون ملكًا قال نتيجة لما سبق: {له} أي وحده {الملك} ولما كان المختص بالملك قد لا يكون إلهًا، قال مثبتًا له الإلهية على ما يقتضيه من الوحدانية وهو بمنزلة نتيجة النتيجة: {لا إله إلا هو}.
ولما تكفل هذا السياق بوجوب الإخلاص في الإقبال عليه والإعراض عما سواه، لأن الكل تحت قهره، وشمول نهيه وأمره، سبب عنه قوله: {فأنى} أي فكيف ومن أي وجه {تصرفون} أي قهرًا عن الإخلاص له إلى الإشراك به بصارف ما وإن كان عظيمًا، ونبه بالبناء للمفعول مع هذا على أنهم مقهورون في فعل ما هم عليه لأنهم تابعون للهلاك المحض، تاركون للأدلة التي لا خفاء في شيء منها، ومعلوم أنه لا يترك أحد الدليل في الفيافي العطشة الذي إن تركه هلك إلا قهرًا؛ وأن الناس هيئوا لطريق الهدى بما خلقوا عليه من أحسن تقويم بسلامة الفطر واستقامة العقول، وأشار إلى هذا لأنهم يأنفون من النسبة إلى القهر وأن يفعلوا شيئًا بغير اختيار لما عندهم من الأنفة وعلو الهمم والعظمة.
ولما ظهرت الأدلة وبهرت الحجج، بين ما على من غطاها بالإصرار، وما لمن تاب ورجع التذكار، فقال مستأنفًا لما هو نتيجة ما مضى، معرفًا لهم نعمته عليهم بأنه ما تعبد لشيء يخصه من نفع أو ضر، وإنما هو لمصالحهم خاصة بادئًا بما هو من درء المفاسد: {إن تكفروا} أي تستروا الأدلة فتصروا على الانصراف عنه بالإشراك {فإن الله} لأنه جامع لصفات الكمال {غني عنكم} أي فلا يضره كفركم ولا تنفعه طاعتكم، وأما أنتم فلا غنى لكم عنه بوجه، ولابد أن يحكم بينكم فلم تضروا إلا أنفسكم {ولا يرضى} لكم- هكذا كان الأصل بدليل ما سبقه ولحقه، وإنما أظهر ليعم وليذكرهم بما يجدونه في أنفسهم من أن أحدًا منهم لا يرضى لعبده أن يؤدي خرجه إلى غيره بغير إذنه فقال: {لعباده} أي الذين تفرد بإيجادهم وتربيتهم {الكفر} بالإقبال على سواه وأنتم لا ترضون ذلك لعبيدكم مع أن ملككم لهم في غاية الضعف، ومعنى عدم الرضى أنه لا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه أو يثيب فاعله ويمدحه، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ويذم عليه ويعاقب مرتكبه {وإن تشكروا} أي بالعبادة والإخلاص فيها {يرضه} أي الشكر الدال عليه فعله {لكم} أي الرضى اللائق بجنابه سبحانه بأن يقركم عليه أو يأمركم به ويثيبكم على فعله، والقسمان بإرادته، واختلاف القراء في هائه دال على مراتب الشكر- والله أعلم، فالوصل للواصلين إلى النهاية على اختلاف مراتبهم في الوصول والاختلاس للمتوسطين والإسكان لمن في الدرجة الأولى منه.
ولما كان في سياق الحكم والقهر، وكانت عادة القهارين أن يكلفوا بعض الناس ببعض ويأخذوهم بجوائرهم لينتظم لهم العلو على الكل لعدم إحاطة علمهم بكل مخالف لأمرهم، بين أنه سبحانه على غير ذلك فقال: {ولا تزر وازرة} أي وازرة كانت {وزر أخرى} بل وزر كل نفس عليها لا يتعداها يحفظ عليها مدة كونها في دار العمل، والإثم الذي يكتب على الإنسان بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وزر غيره، وإنما هو وزر نفسه، فوزر الفاعل على الفعل، ووزر الساكت على الترك لما لزمه من الأمر والنهي {ثم إلى ربكم} أي وحده لا إلى أحد ممن أشركتموه به {مرجعكم} أي بالبعث بعد الموت إلى دار الجزاء.
ولما كان الجزاء تابعًا للعلم، قال معبرًا عنه به: {فينبئكم} أي فيتسبب عن البعث أنه يخبركم إخبارًا عظيمًا {بما كنتم تعملون} أي بما كان في طبعكم العمل به سواء عملتموه بالفعل أم لا ثم يجازيكم عليه إن شاء.
ولما كان المراد- كما أشار إليه بكان- الإخبار بجميع الأعمال الكائنة بالفعل أو القوة، حسن التعليل بقوله: {إنه عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور} أي بصاحبتها من الخواطر والعزوم، وذلك بما دلت عليه الصحبة- كل ما لم يبرز إلى الخارج، فهو بما برز أعلم. اهـ.