فصل: الفصل الرابع والأربعون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الرابع والأربعون:

أخواني، شحم المنى هزال، وشراب الآمال سراب وآل، ولذات الدنيا منام وخيال، وحربها قتل بلا قتال.
والمرء يبليه في الدنيا ويخلقه ** حرص طويل وعمر فيه تقصير

يطوق النحر بالآمال كاذبة ** ولهذم الموت دون الطوق مطرور

جذلان يبسم في أشراك ميتته ** إن أفلت الناب أردته الأظافير

تيقظ لنفسك واذكر زوالك، ودع الأمل ولو طوى الدنيا وزوى لك، فكأنك بالموت قد حيرك وأبدى كلالك، ونسيك الحبيب، لأنه أرادك له لا لك، وخلوت تبكي خلالك في زمان خلا لك، وشاهدت أمرًا أفظعك وهالك، تود أن تفتديه بالدنيا لو أنها لك، فتنبه من رقاد الهوى لما هو أولى لك، واحذر أن أعمالك أعمى لك، وأفعالك كالأفعى لك.
لو كان باعث من نفسك، ما احتجت إلى محرك من خارج، هذا الديك يصيح في أوقات معلومة من الليل لا تختلف، يؤدي وظائفها بباعث الطبع وإن لم يكن في القرية ديك غيره، وأنت تؤخر وظائف صلواتك، وتنقص من واجبات عباداتك، فإن بكيت في المجلس فلبكاء الجماعة، فإذا خلوت خلوت من محرك، هيهات من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ، إذا لم يكن للدجاجة همة الحضن لم تنفع تغطيتها بمنخل الحاضن، تصابر الشقاء لما تأمل من العواقب والرعناء تكسر البيض قصدًا.
الخصائص أوضاع والسوابق خواص، «هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي» المغناطيس يجذب الحديد بخاصية فيه، الظليم يبتلع الحصى والحجارة فيذيبها حرُّ قانصته حتى يجعلها كالماء الجاري، ولو طبخ ذلك بالنار لم ينخل، ذنب الجرادة يشق الصخرة وليس بالقوي، إبرة العقرب تنفذ في الطشت، خرطوم البعوضة يغوص في جلد الجاموس، من تعلق عليه برادة الحديد لم يغط في نومه، إذا ترك الرصاص أو الزيبق في تنور سقط الخبز كله، فإن ترك الرصاص في قدر لم ينضج اللحم، إذا كان الزعفران في دار لم تدخلها وزغه، إذا دفن الحديد في الدقيق زال عنه الصدأ، إذا ترك سراج على شيء في نهر سكنت ضفادعه، إذا دفنت ذئبة في قرية لم تدخلها الذئاب، إذا نظر صاحب الثآليل إلى كوكب ينقض فمسح بيده حينئذٍ على ثآليله ذهبت، إذا عسرت الولادة فصاحت بالمرأة بكر يا فلانة أنا جارية عذراء وقد ولدت وأنت لم تلدي ولدت في الحال للنملة، فضل حسن في الشم تدرك الأراييح البعيدة، لما شق ختام نافجة النبوة ملأت ريحها الأرض، فاستنشقها أهل العافية، فوصل إلى خياشم سلمان في فارس وصهيب في الروم وبلال في الحبشة، وكان ابن أُبي مزكومًا فما نفعه قرب الدار، كم من نفر دخلت مجلسي وهي حامل جنين الإصرار، فلما استنشقت ريح المواعظ أسقطت.
أيها التائب من حركك؟ وقد كان تحريك الجبل دون إزعاجك {صُنْعَ الله الذي أتقن كلَّ شيء} أتدرون هذا التائب لم انزعج؟ أما تجدون في نفسه حرَّ وهج.
صبا لنسيم الصبا إذ نفح ** وارقه لمع برق لمح

واذكره عيشه بالحمى ** وعهدًا تقادم سرب سنح

فحن إلى السفح سفح العقيق ** فسح له دمعه وانسفح

وكان كتومًا لسر الهوى ** ولكن جرى دمعه فافتضح

فدعه ينادي طلول الحمى ** ويسأل رامه عمن نزح

يا غائبًا عنا، وهو حاضر أما لك ناظر ناظر؟ أما دموع الوجد قد ملأت الحناجر؟ أف لبدوي لا يطربه ذكر حاجر، أقل أحوال الزمن أن يبكي إذا رأى المشاة، انظر إلى التائبين وحرقهم، والتفت إلى العارفين وقلقهم.
اسمع أنين العاشقين ** إن استطعت له سماعا

راح الحبيب فشيعته ** مدامع تجري سراعا

لو كلف الجبل الأصم ** فراق ألف ما استطاعا

كلما بكى الخائفون أزعجوني، وكلما استغاث الواجدون ألهفوني.
وإني لمجلوب لي الشوق كلما ** تنفس باك أو تألم ذو وجد

تعرض رسل الشوق والركب هاجد ** فيوقظني من بين نوامهم وحدي

يا صبيان التوبة، ارفقوا بمطايا أبدانكم فقد ألفت الترف {ولا تُضارُّوهنَّ لتضيِّقوا عليهنَّ}
هب لها من النسيم رائد ** فعادها من الغرام عائد

نوق نفى عنها الحمى طيب الكرى ** فهي كما شاء السرى سواهد

أنحلها تحت الدؤب أينها ** فمارت الأنساع والقلائد

فلا تخالفها إذا ما التفتت ** شوقًا إلى بان الحمى يا قائد

وقل لها لعا إذا ما عثرت ** فهي لحمل وجدها تكابد

مذ حكم البين عليها لم تزل ** تبكي عليها البيد والفدافد

يا صبيان التوبة، للنفس حظ وعليها حق {فلا تميلوا كلَّ المَيْل} خذوا مالها، واستوفوا ما عليها {وزِنوا بالقسطاس المستقيم} فإن رأيتم من النفوس فتورًا فاضربوهن بسوط الهجر {فإنْ أطعْنَكُم فلا تبغوا عليهنَّ سبيلا} على أني أوصي صبيان التوبة بالرفق، وبعيد أن يقر خائف أو يسمع العذل محب.
ليت شعري هل أرى في طريقي ** سعة تفسح كرب المضيق

قد رماني الحب فلج بحر ** فخذوا يا قوم كف الغريق

حل عندي حبكم في شغافي ** حل مني كل عقد وثيق

عفت دنياي اشتياقًا إليكم ** وتساوى خامها والدبيقى

ورفضت الكل شغلًا بوجدي ** فانجلى لي كل معنى دقيق

يا صديقي عندي اليوم شغل ** فاله عني واشتغل يا صديقي

بيدان تذكر لي حب قلبي ** فأعد ذكرهم يا رفيقي

غصني الشوق إليهم بريقي ** واحريقي في الهوى واحريقي

.الفصل الخامس والأربعون:

أخواني، البدار البدار، فما دار الدنيا بدار، إنما هي جلية لجريان الأعمار، وكم تبقى الفريسة بين النيوب الأظفار.
ما دار دنيا للمقيم بدار ** وبها النفوس فريسة الأقدار

ما بين ليل عاكف ونهاره ** نفسان مرتشفان للأعمار

طول الحياة إذا مضى كقصيرها ** واليسر للإنسان كالإعسار

والعيش يعقب بالمرارة حلوه ** والصفو فيه مخلف الأكدار

وكأنما تقضي بنيات الردى ** لفنائنا وطرًا من الأوطار

ويروقنا زهر الأماني نضرة ** هدم الأماني عادة المقدار

والمرء كالطيف المطيف وعمره ** كالنوم بين الفجر والأسحار

خطب تضاءلت الخطوب لهوله ** أخطاره تعلو على الأخطار

تلقى الصوارم والرماح لهوله ** ونلوذ من حرب إلى استشعار

إن الذين بنوا مشيدًا وانثنوا ** يسعون سعي الفاتك الجبار

سلبوا النضارة والنعيم فأصبحوا ** متوسدين وسائد الأحجار

تركوا ديارهم على أعدائهم ** وتوسدوا مدرًا بغير دثار

خلط الحمام قويهم بضعيفهم ** وغنيهم ساوى بذي الإقتار

والدهر يعجلنا على آثارهم ** لا بد من صبح المجد الساري

وتعاقب الملوين فينا ناثر ** بالكر ما نظما من الأعمار

تالله ما صح من يطلبه مرضه، ولا سر من سير وصل حل غرضه ولا استقام غصن يلويه كاسره، ولا طاب عيش الموت آخره، إن الطمع لعذاب، وحديث الأمل كذاب، وفي طريق الهوى عقاب، وآخر المعاصي عقاب، فلا يخدعنك ضياء ضباب، ولا يطمعنك شراب سراب، فمجيء الدنيا على الحقيقة ذهاب، وعمارة الفاني إن فهمت خراب، وفرح الغرور ثبور واكتئاب، ودنو الشيب ينسخ ضياء الشباب وكلما نادى الأمل {فأبلغه مأمنه} صاح الأجل {فضرب الرقاب}.
يا تايهًا في ظلمة ظلمه، يا موغلًا في مفازة تيهه، يا باحثًا عن مدية حتفه، يا حافرًا زبية هلكه، يا معمقًا مهواة مصرعه، بئس ما اخترت، لأحب الأنفس إليك، ويحك، تطلب الجادة ولست على الطريق، كم فغر الزمان بوعظه فمًا، فما سمعت {لينذر من كان حيًّا} كيف تطيب الدنيا؟ لمن لا يأمن الموت ساعة، ولا يتم له سرور يوم إذا كان عمرك في إدبار، والموت في إقبال: فما أسرع الملتقى، لقد نصبت لك أشراك الهلاك، والأنفاس أدق الحبائل، يا ماشيًا في ظلمة ليل الهوى لو استضئت بمصباح الفكر فما تأمن من بئر بوار، الشهوات مبثوثة في طريق المتقين، وما يسلم من شرها شره الأولياء في حرم التقوى {ويُتخطَّف الناسُ من حولهم} الدنيا مثل منام والعيش فيها كالأحلام، قيل لنوح عليه السلام يا أطول النبيين عمرًا كيف وجدت الدنيا؟ قال: كدار ذات بابين، دخلت من باب وخرجت من باب.
فلما تفرقنا كأني ومالكا ** لطول اجتماع لم نبت ليلة معًا

يا ثقيل النوم، أما تنبهك المزعجات؟ الجنة فوقك تزخرف، والنار تحتك توقد، والقبر إلى جانبك يحفر وربما يكون الكفن قد غزل، أيقظان أنت اليوم أم حالم، يا حاضرًا يرى التائبين، وهو في عداد الغائبين.
واقف في الماء عطشان ** ولكن ليس يسقي

عاتب نفسك على هواها فقد وهاها، قل لها ادرجي درج المدرج وقد لاحت مني، لا يوقفنك في الطريق طاقة من أم غيلان، فالخبط في المنزل مهيؤ لك، تلمح عواقب الهوى يهن عليك الترك، تفكر في حال يوسف لو كان زل من كان يكون؟ هل كانت إلا لذة لحظة وحسرة الأبد، عبرت والله أجمال الصبر سليمة من مكس وبقيت مديحة {إنه من عبادنا المخلصين}.
يا هذا، احسب صبر يومك ساعة نومك تحظ في غداة برغدك، البدار إلى الشهوات والندامة فرسا رهان، والتواني عن التوبة والخيبة رضيعا لبان، واعجبًا غرتك حبة فخ فحصلت وما حوصلت، اليوم واطربًا للكأس، وغدًا واحربًا للإفلاس، آه من حلاوة لقم أورثت مرارة نقم، تأمل العاقبة لا يحصل إلا لنا قد يصير، من تلمح إذا تلا {وإذا ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ} وعرف قدر مدح {فأتمهنّ} علم أنه لم يبق في فيه شيئًا من مرارة البلى مرارة {وإذا ابتلى} ضجت الملائكة حين هموا بإلقائه في النار، فقالوا ائذن لنا حتى نطفي عنه، فقال تعالى: إن استغاث بكم فأغيثوه وإلا فدعوه. فلما ألقي عرض له جبريل، وهو يهوي في الهواء فأراد أن ينظر هل للهوى فيه أثر؟ فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، فأقبل بمنشور {وإبراهيم الذي وفَّى}.
قالت لطيف خيال زارها ومضى ** بالله صفه ولا تنقص ولا تزد

فنال خلفته لو مات من ظماء ** وقلت قف عن ورود الماء لم يرد

قالت صدقت الوفا في الحب عادته ** يا برد ذلك الذي قالت على كبدي