فصل: الفصل الرابع والعشرون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الثالث والعشرون:

أخواني، شمروا عن سوق الدأب في سوق الأدب، واعتبروا بالراحلين وسلوا السلب قبل أن يفوت الغرض بالمرض إن عرض، فكأنكم بمبسوط الأمل قد انقبض، وبمشيد المنى قد انتقض.
يا ساكن الدنيا تأهّب ** وانتظر يوم الفراق

وأعد زادًا للرحيل ** فسوف يحدى بالرفاق

وابك الذنوب يا دمع ** تنهل من سحب المآق

يا من أضاع زمانه ** أرضيت ما يفنى بباق

أين عزائم الرجال؟ أين صرائم الأبطال؟ تدعي وتتوانى، هذا محال.
أشتاقكم ويحول العزم دونكم ** فأدعي بعدكم عني وأعتذر

وأشتكي خطرًا بيني وبينكم ** وآية الشوق أن يستصغر الخطر

إن هممت فبادر، وإن عزمت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر. قال عمر بن عبد العزيز: خلقت لي نفس تواقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة.
لأبي فراس:
بدوت وأهلي حاضرون لأنني ** أرى أن دارًا لست من أهلها قفر

وما حاجتي في المال أبغي وفوره ** إذا لم يفر عرضي فلا وفر الوفر

وقال أصيحابي الفرار أو الردى ** فقلت هما أمران أحلاهما مر

سيذكرني قومي إذ جد جدهم ** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به ** وما كان يغلو التبر لو نفق الصبر

ونحن أناس لا توسط عندنا ** لنا الصدر دون العالمين أو القبر

تهون علينا في المعالي نفوسنا ** ومن خطب الحسناء لم يغله المهر

ابتليت الهمم العالية بعشق الفضائل، شجر المكاره يثمر المكارم، متى لاحت الفريسة قذفت الغابة السبع، إذا استقام للجواد الشوط لم يحوج راكبه إلى سوط، من ضرب يوم الوغى وجه الهوى بسهم، ضرب مع الشجعان يوم القسمة بسهم، من اشتغل بالعمارة استغل الخراج، إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة ثم ردفه قمر العزيمة {أشرقت الأرض بنور ربها} يا طالبًا للبدعة أخطأت الطريق، علة الراحة التعب، إن لم تكن أسدًا في العزم ولا غزالًا في السبق فلا تتثعلب، يا هذا الجد جناح النجاة وكسلك مزمن، من كد كد العبيد تنعم تنعم الأحرار، من امتطى راحلة الشوق لم يشق عليه بعد السفر.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ** وتأتي على قدر الكرام المكارم

يا هذا ركائب الرحيل قد أنيخت بالجناب ولم تتحرج، وناقد البايع قائم على الباب ونقدك بهرج، كيف يلحق السابقين كسلان أعرج؟ لو تنقلت على عيطموس العزم وهوجاء الطلب وبميسجور القصد، وجعلباة السير، ومشمعلة الجد، ووصلت الديجور بالضحى لانقطعت الديمومة القذف، ولكنك استوطأت مهاد الكسل وإبر النحل دون العسل.
قيل لبعض أهل الرياضة: كيف غلبت نفسك؟ فقال: قمت في صف حربها بسلاح الجد، فخرج مرحب الهوى بدافع، فعلاه على العزم بصارم الحزم، فلم تمض ساعة حتى ملكت خيبر، وقيل لآخر: كيف قدرت على هواك؟ فقال: خدعته حتى أسرته واستلبت عوده فكسرته وقيدته بقيد العزلة، وحفرت له مطمور الخمول في بيت التواضع، وضربته بسياط الجوع، فلان يا فلان، ألك؟ في مجاهدة النفس نية أم النية نية؟ أتعبتني وأنت أنت، يا خنشليلا في كل دردبيس، إلى متى تجول في طلب هجول؟ ما نفشت غنم العيون النواظر في زروع الوجوه النواضر إلا وأغير على السرح، من تعرض للعنقفير لقي الأمرين، المتعرض للنبلة أبله، ما عزَّ يوسف إلا بترك ما ذل به ماعز، لو ركد كدر دهن الذهن سمت ذبالة المصباح.
أخواني إلى متى سكر عن المقصود؟ ألا صحو ساعة؟ أريقوا قرقف الهوى قبل هجوم صاحب الشرطة، اكسروا الظروف ظرفًا ليعلم حسن قصدكم للتوبة، وليشغلكم ذكر صوت الناي عن صوت الناي، والفكر في خراب المغاني عن لغات الأغاني، فكم من شاب ما شاب، وكم من راج راج له أن خاب، ما أسرع افتراق الصاحبين إذا صاح بين، (فمفترق جاران داراهما عمر).
مثل أهل الدنيا في غفلتهم وطول آمالهم كمثل الحاج، نزلوا منزلًا فقام أقوام يقطعون الصخور ويبنون البيوت، فقال المتيقظون: ويحكم ما هذا البله؟ الرحيل بعد ساعة، لو علم الورد قصر عمره ما تبسم، بينما هو ينشر بز ريحه، في شمال البكور بزه الناطور فإذا به في زجاجة الزور، فانتبه أنت ولا تغتر بزور نسيم الدجى يفتح مستغلق الجبند، وخوف سموم النهار يعيد اللينوفر إلى الماء، اسمع يا من لا يحركه تشويق، ولا يزعجه تخويف.
إذا المرء كانت له فكرة ** ففي كل شيء له عبرة

تزوج صلة بن أشيم فأدخله ابن أخيه الحمام، ثم أدخل إلى المرأة وقد طيب فقام يصلي فمد الصلاة إلى الفجر، فعاتبه ابن أخيه فقال: إنك أدخلتني أمس بيتًا ذكرتني به النار، ثم أدخلتني بيتًا ذكرتني به الجنة، فما زال فكري فيهما حتى أصبحت.
كفى حزنًا أن لا أعاين بقعة ** من الأرض إلا ازددت شوقًا إليكم

وإني متى ما طاب لي خفض عيشة ** تذكرت أيامًا مضت لي لديكم

مر بعض الفقراء بامرأة فأعجبته فتزوجها، فلما دخل البيت نزعوا خلقانه وألبسوه ثيابًا جددًا، فلما جن عليه الليل طلب قلبه فلم يجده فصاح: خلقاني خلقاني، فأخذها ورجع.
للشريف الرضي:
ما ساعفتني الليالي بعد بعدهم ** إلا ذكرت ليالينا بذي سلم

ولا استجد فؤادي في الزمان هوى ** إلا ذكرت هوى أيامنا القدم

لا تطلبن لي الأبدال بعدهم ** فإن قلبي لا يرضى بغيرهم

.الفصل الرابع والعشرون:

يا طويل الأمل في قصير الأجل، أما رأيت مستلبًا وما كمل؟ أتؤخر الإنابة وتعجل الزلل.
يا من يعد غدًا لتوبته ** أعلى يقين من بلوغ غد

المرء في زلل على أمل ** ومنية الإنسان بالرصد

أيام عمرك كلها عدد ** ولعل يومك آخر العدد

يا أخي التوبة التوبة قبل أن تصل إليك النوبة، الإنابة الإنابة قبل أن يغلق باب الإجابة، الإفاقة الإفاقة فيا قرب وقت الفاقة، إنما الدنيا سوق للتجر، ومجلس وعظ للزجر، وليل صيف قريب الفجر، المكنة مزنة صيف، الفرصة زورة طيف، الصحة رقدة ضيف، الغرة نقدة زيف، الدنيا معشوقة وكيف، البدار البدار فالوقت سيف.
يا غافلًا عن مصيره، يا واقفًا في تقصيره سبقك أهل العزائم وأنت في اليقظة نائم، قف على الباب وقوف نادم، ونكس رأس الذل وقل أنا ظالم، وناد في الأسحار مذنب وواجم، وتشبه بالقوم وإن لم تكن منهم وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاب دمع ساجم، قم في الدجا نادبا، وقف على الباب تائبا، واستدرك من الغمر ذاهبًا، ودع اللهو والهوى جانبًا، وإذ لاح الغرور رأى راهبًا، وطلق الدنيا إن كنت للأخرى طالبًا ولكن بلا قلب إلى أين أذهب.
يا من قد ضاع قلبه اطلبه في مظان إنشاد الضلال، الضايع إنما ينشد في المجامع، فاطلب قلبك في مجالس الذكر، أو بين أهل المقابر، وربما دخلت بيت الفكر فرأيته فأي موضع غلب على ظنك وجوده فلا تقصر في البحث عنه، هذه النسور والرخم على كثافة طبعها إذا رأت جيشًا تبعته لما ترجو من قتال يوجب قتلى وأخداج حامل، أفما ترجو أنت في المجلس إجابة دعوة أو حضور قلب؟ يا نائمًا طول الليل، سارت الرفقة، رحل القوم كلهم وما انتبهت من الرقدة، ويحك أتدري ما صنعت بنفسك؟ دخلت دار الهوى فقامرت بعمرك، كنت أمس قلب أمس فتراك في تصحيف ترى، لاحت لك العاجلة، فهمت كأنك ما فهمت فلما تبدلت تبلدت أخبرني عن تخليطك فالطبيب لا يكذب، سجيتك تعلمني فاسمع أحدثك، استكثرت من برودات الغفلة فقعد نشاط العزم، فلو قاومتها بحرارات الحذر لقام المقعد، أما تعلم أن مطاعم المطامع تولد سددًا في كبد الجد، المحنة العظمى موافقة الهوى من غير تدبر، أنت ترى ما تشتهي فتضرب الحد.
يا أسيرًا في قبضة الغفلة، يا صريعًا في سكرة المهلة، أما يخطر بقلبك خطر أمرك، ويحك قد وهن العظم العظيم وما شابت همة الأمل، اخلق برد الحياة وما انكفت كف البطالة، قربت نوق الرحيل وما في المزاد زاد قدمت معابر العبور وأنت تلهو على الساحل، أكثر العمر قد مر، وأنت تتغلغل في تضييع الغابر، أترجح الفاني على الباقي؟ تثبت، ففي الميزان عين، إن حركك حظ من حظ فالحظ الحظ الأحظ، والله لو شغلك نيل الجنة عن الحق لحظة كان في تدبيرك وكس، ويحك أنا بدك اللازم فالزم بدك، خاصمت عنك قبل وجودك {إني أعلم} واعتذرت عنك في زلل {فدلاهما} ولقنتك العذر {ما غرك بربك} وواصلتك برسائل «هل من سائل».
إذا لم يكن بيني وبينك مرسل ** فريح الصبا مني إليك رسول

كان بعض الأغنياء كثير الشكر، فطال عليه الأمد فبطر وعصى فما زالت نعمته ولا تغيرت حالته، فقال: يا رب تبدلت طاعتي، وما تغيرت نعمتي، فهتف به هاتف: يا هذا لأيام الوصال عندنا حرمة حفظناها وضيعتها.
للمهيار:
سَلْ بسلعٍ كان وكنا ** ليت شعري ما الذي ألهاك عنّا

أهوىً أحدّثْتَه أم كاشحٌ ** دبَّ أم ذنبٌ سرى أم تتجنّى

تاب رجل ممن كان قبلكم ثم نقض، فهتف به هاتف في الليل:
سأترك ما بيني وبينك واقفًا ** فإن عدت عدنا والوداد سليم

تواصل قومًا لا وفاء لعهدهم ** وتترك مثلي والحفاظ قديم

يا ناقضي العهود انظروا لمن عاهدتم، تلافوا خرق الخطاء قبل أن يتسع.
عودوا إلى العهد عودوا ** فالهجر صعب شديد

تذكرونا فما عهد ** نا لديكم بعيد

هل يرجع البان يومًا ** وهل تعود زرود

يا هذا أقبل علينا، تر من إقبالنا عليك العجب، احفظ الله يحفظك، اطلب الله تجده أمامك، من كان لنا عينا على قلبه، أجرينا له جامكية أمين.
أنت على البعد همومي إذا ** غبت أشجاني على القرب

لا أتبع القلب إلى غيركم ** عيني لكم عين وعلى قلبي

يا هذا حفر النهر إليك وإجراء الماء ليس عليك، احفر ساقية {فاذكروني} إلى جنب بحر {أذكركم} فإذا بالغ فيها معول الكد، فاضت عليك مياه البحر، «فبي يسمع وبي يبصر» الق بذر الفكر في أرض الخلوة وسق إلى ساقية من ماء الفكر، لعلها تنبت لك شجرة «أنا جليس من ذكرني».
للشريف الرضي:
يُرَنِّحُني إليكَ الشوق حتى ** أميل من اليمين إلى الشمالِ

كما مال المُعاقِر عاودَتْه ** حُمَيّا الكأس حالًا بعد حالِ

ويأخذني لذكراك ارتياحٌ ** كما نشط الأسير من العِقالِ

وأيسرُ ما ألاقي أن همّا ** يُغَصِّصُني بذا الماءِ الزلالِ

هبت رياح الخوف فقلقلت قلوب الخائفين فلم تترك ثمرة دمع في فنن جفن، إذا نزل آب في القلب، سكن أذار في العين.
تبلني بجفًا يزيد خضوعي ** يكفيك أن النار بين ضلوعي

وحياة سقمي في هواك فإنه ** قسم الهوى ووحق فيض دموعي

لأوكلن عليك عيني بالبكاء ** ولأعشقن عليك طول هلوعي

كانت مع هشام بن حسان جارية في الدار فكانت تقول: أي ذنب عمل هذا؟ من قتل هذا؟ فتراه الليل كله يبكي.
تركت الفؤاد عليلًا يعاد ** وشردت نومي فما لي رقاد

كان فتح الموصلي يبكي الدموع ثم يبكي الدم، فقيل له: على ماذا بكيت الدم؟ فقال: خوفًا على الدموع أن تكون ما صحت لي.
يا من لفؤاد وامق ما يصحو ** قد طال لعظم ما عناه الشرح

والعين لها دم ودمع سمح ** ذا يكتب شجوه وهذا يمحو