فصل: الفصل السابع والعشرون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل السابع والعشرون:

إن الدنيا مذ أبانت محبها أبانت حالها، لقد روت وما روت، فأرت مآلها، لقد عرف إدبارها من قد ألف إقبالها، وما اطمأنت أرضها، إلا زلزلت زلزالها.
قل لمن فاخر بالدنيا وحامى ** قتلت قبلك سامًا ثم حاما

ندفن الخِلَّ وما في دفننا ** بعده شك ولكن نتعامى

إن قدامك يومًا لو به ** هددت شمس الضحى عادت ظلاما

فانتبه من رقدة اللهو وقم ** وانف عن عين تماديك المناما

صاح صح بالقبر يخبرك بما ** قد حوى واقرأ على القوم السلاما

فالعظيم القدر لو شاهدته ** لم تجد في قبره إلا العظاما

تالله لقد ركض الموت فأسرع في الركض، بث الجنود وطبق الأرض، ما حمل على كتيبة إلا وفض، ولا صاح بجيش إلا جاش وارفض، ولا لوح إلى طائر في البرج إلا انقض، إذا تكلمت قوسه بالنبض أسكنت النبض، بينا الحياة تعرب بالرفع جعل الشكل الخفض، أين مصون الحصون؟ أزعج عنها، أين مقصور القصور؟ أخرج منها، نقله هادم اللذات نقلًا سريعًا، ومقله في بحار الآفات مقلًا فظيعًا، وفرق بينه وبين بنيه، وطرقه بطارق النقض فأنقض ما كان يبنيه، لقد ولى ولاء ذي ود ينفعه، وبان فبان لباني الدنيا مصرعه، هجره والله من هاجر إليه، ونسيه نسيبه وقد كان يحنو عليه، فلا صديقه صدقه في مودته، ولا رفيقه أرفقه في شدته، حلوا والله بالبلاء في البلى، وودعهم من أودعهم ثم قلى، وانفردوا في الأخدود بين وحش الفلا، وسألوا الإقالة فقيل: أما هذا فلا، لو نطق الموتى بعد دفنهم لندموا على غيهم وافتهم، ولقالوا: رحلنا عن ظلم شرورنا إلى ظلم قبورنا، وخلونا عن الأخلاء بترابنا في آفات لا ترى بنا، أفترى محبنا إذ ظعنا، بمن اعتاض عنا؟ وهذا مصيرك بعد قليل، فتأهب يا مقيم للتحويل، يا سليمًا يظن أنه سليم، جوارحك جوارحك، سور تقواك كثير الثلم، وأعداؤك قد أحاطوا بالبلد، ويحك، قبل الرمي تراش السهام، وبين العجز والتواني ينتج التوى، يا قالي القائل للنصايح إداؤك داؤك، كيف تجتمع همتك مع غوغاء المنى وضوضاء الشهوات، كيف تتصرف في مصالحك والشواغل للشوي غل، كم صادفت الهوى فصدفت؟ لقد خدع قلبك الهوى فاسترق فاسترق، أضرّ ما عليك سوء تدبيرك، آه للابس شعار الطرد وما يشعر به وأسفًا، لمضروب ما يحس صوت الشوط، عجبًا لمن أصيب بعقله وعقله معه، يا معثر الأقدام مع إشراق الشمس، يا فارغ البيت من القوت في أيام الحصاد.
أملي من أملي ما ينقضي ** وغرامي من غرامي قاتلي

كلما أفنيتُ عامًا فاسدًا ** جاء عامٌ مثله من قابل

كلما أملت يومًا صالحًا ** عرض المقدور لي في أملي

وأرى الأيام لا تُدني الذي ** أرتجي منك وتدني أجلي

يا جرحى الذنوب قد عرفتم المراهم، اخرجوا من قصر مصر الهوى وقد لاحت مدينة مدين، اطلبوا بئر الشرب وإن صد الرعاء فلعل حضور موسى يتفق، متى استقامت لكم جادة البكاء فلا تعرجوا عنها، كان عمر بن عبد العزيز وفتح الموصلي يبكيان الدم.
قولوا لسكان الحي ** تبدل الدمع دما

وكل شهد بعدكم ** قد صار مرًا علقما

إذا تكاثفت كثبان الذنوب في بوادي القلوب، نسفها نسف أسف في نفس، يا أهل الزلل قوموا نفس أنفسكم فقد جمع قسر القهر، بين الناقص والتام، لقد تاب الله على المؤمنين {وعلى الثلاثة الذي خُلِّفوا}.
لست وإن أعرضتم ** أيأس من أن تعطفوا

فلا برى وجدي بكم ** ولا أفاق الشغف

وصبر يعقوب معي ** حتى يرد يوسف

يا من كان له وقت طيب وقلب حسن، فاستحال خله خمرًا، ابكِ على ما فقدت في بيت الأسف.
لعل انحدار الدمع يعقب راحة ** من الوجدان يطفي نجى البلابل

ما أحسن ما كنتَ فتغيرت، ما أجود جادتك فكيف تعثرت.
وكنا جميعًا قبل أن يظهر الورى ** بأنعم حالي غبطة وسرور

فما برح الواشون حتى بدت لنا ** بطون الهوى مقلوبة لظهور

البكاء على الفايت معول الحزين.
لأبي تمام:
وانجدتم من بعد اتهام داركم ** فيا دمع انجدني على ساكني نجد

لعمري قد أخلفتم جدة البكا ** عليّ وجددتم به خلق الوجد

يا معاشر المطرودين عن صحبة أهل الدين.
تعالوا نقم مأتمًا للفراق ** ونندب إخواننا الظاعنينا

هلموا نرق دمع تأسفنا على قبح تخلفنا، ونبعث مع الواصين رسالة محضر لعلنا نحظى بأجر المصيبة، أنجع المراهم لجراحات الذنوب البكاء، هتكة الدمع ستر على الذنب.
قد كنت أصون دمعتي في الأماق ** سترًا للحب وهو ما ليس يطاق

حتى صاح الوجد عن صحيح الأشواق ** ما حيلة من بلى بمهجر وفراق

كان محمد ابن المنكدر كثير البكاء فسئل عن ذلك فقال: آية من القرآن أبكتني {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} كيف لا تذهب العيون من البكاء؟ وما تدري ما قد أعد لها.
سبقت السعادة لمحمد صلى الله عليه وسلم قبل كونه، ومضت الشقاوة لأبي جهل قبل وجوده، وخوف العارفين من سوابق الأقدار قلقل الأرواح هيبة {لا يُسئل} مع تحكم {ولو شئنا لآتينا كلَّ نفسٍ هداها} قوي قلق العلماء.
أترى سألوا لما رحلوا ** ماذا فعلوا أم من قتلوا

أحليف النوم أقل اللوم ** فعندي اليوم بهم شغل

أدنى جزعي لم يبق معي ** قلب فيعي منذ احتملوا

جلدي سلبوا جسدي نهبوا ** كمدي وهبوا كبدي تبلوا

لما ذرفت عيني وقفت ** أترى عرفت ما بي الإبل

ولحا اللاحي وهو الصاحي ** وهو راحي وأنا الثمل

.الفصل الثامن والعشرون:

تيقظ لنفسك يا هذا وانتبه، وأحضر عقلك وميز ما تشتبه، أما هذا منزلك اليوم؟ وغدًا لست به.
إذا ما انجلى الرأي فاحكم به ** ولا تحكمن بما يشتبه

ونبّه فؤادك من رقدة ** فإن الموفق من ينتبه

وإن كنتُ لم أنتبه بالذي ** وعظت به فانتبه أنت به

لقد أمكنت الفرصة أيها العاجز، ولقد زال القاطع وارتفع الحاجز، أين الهمم العالية وأين النجايز؟ أما تخاف هادم اللذات والمنى الناجز؟ أما اعوجاج القناة دليل على الغامز؟ أما الطريق طويلة وفيها المفاوز، أما القبور قنطرة العبور فمن المجاوز، أما يكفي في التنغيص حمل الجنايز؟ أما العدو محارب فهل من مبارز؟ أما الأمن بعيد والهلك ناشز، والقنا مشرع والطعن واخز، تالله تطلب الشجاعة من بين العجايز، وتروم إصلاح فارك وتقويم ناشز، إن لم يكن سبق التصديق فلتكن توبة ماعز، ما هذه الغفلة والبلى مصيرك! وكم هذا التواني فلقد أودى تقصيرك، أما صاح بك في سلب نذيرك، أفلا تتأهب لقدساء تدبيرك.
إبْ يا شارد الطبع من سفر الهوى، وأذب جامد الدمع بنيران الأسى، لعل شفيع الاعتراف يسئل في أسير الاقتراف، نق عينيك من عيوبك، وخلص ذنوبك من بحر ذنوبك، وصن صندوق فمك بقفل صمتك، واطو طيلسان لسانك عن بذلة نطقك، وأغمض عينك عن عيبك حفظًا لدينك، واكفف كفك مكتفيًا بما كفك، وابن منبر التذكير لواعظ القلب في ساحة الصدر، وناد في شجعان العزائم ورهبان الفكر، هلموا إلى عقد مجلس الذكر، واحذر عين العدو أن يوقع تشتيت الهم في جمع العزم، فإن رماك القدر بسهم الفتور عن قوس الحكمة من يد لكل عامل فترة فاتق بجنة الاعتذار، فإن ألقى كرة قلبك إلى صولجان التقليب في بيداء المؤمن مفتن فجل في ميدان الدل فإن دب ذئب الهوى فعاث في مزرعة التقى فأقم ناطور القلق، فإن أفلت دجال الطبع فأقام صليب الزلل وأطلق خنزير الشره فألجأ إلى حرم التوبة واستغث بعيسى العون لعله ينزل من سماء الألطاف فيهلك الدجال ويقتل الخنزير ويكسر الصليب، اجلس ليلة على مائدة السحر وذق طعام المناجاة تنسيك كل لذة، أرواح الأسحار لا يستنشقها من كوم غفلة، إنها لتأتي بألطاف الحبيب ثم تعود فيحاء تطلب رسالة، فمن لم يكتب كتابًا فماذا يبعث؟ لو وقفت على جادة التهجد ليلة لرأيت ركب الأحباب لو سرت في أعراض القوم لحرك قلبك صوت الحداة، أقبلت رياح الأسحار فاحتشمت تقبيل أقدامهم، وذكت أذيال أثوابهم.
للشريف الرضي:
وأمستِ الريحُ كالغيرى تجاذبنا ** على الكئيب فضول الرَّيط واللَّمم

يشي بنا الطيبُ أحيانًا وآونةً ** يُضيئنا البرقُ مجتازًا على أَضَم

يُولّع الطلُّ بُرْدَيْنا وقد نسمت ** رويحة الفجر بين الضال والسلم

حديث القوم مع الدجى يطول، يسيحون في فلوات خلواته، يندبون أطلال الحب ويرتاحون إلى تنسمه لشدة الطرب.
وإني لأستنشي الشمال إذا جرت ** حنينا إلى آلاف قلبي وأحبابي

وأهدي مع الريح الجنوب إليهم ** سلامي وشكوى طول حزني وأوصابي

واعجبًا الرسايل تحمل في الأسحار، لا يدري بها الفلك، والأجوبة ترد إلى الأسرار لا يعلمها الملك.
يا حبذا رند العقيق وبأنه ** سقى العقيق وأهله وزمانه

راقت خمايله ورق نسيمه ** وصفت على عصبائه غدرانه

وشكت تباريح الصبابة ورقه ** وتمايلت بيد الصبا أفنانه

يا مفردًا في حسنه صل مفردًا ** في حزنه لعبت به أشجانه

صبًا إذا ذكر العقيق وأهله ** صابت مدامعه وجن جنانه

اجتمع المحبون في مساجد التعبد أول الليل، فرماهم الوجد في آخره على قوارع الطرق.
مشوا إلى الراح مشى الرخ فانصرفوا ** والراح تهشي بهم مشي الفرازين

أرواح أزعجها الحب، وأقلقها الخوف، سبحان من أمسكها باللطف.
قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا ** ماتوا وإن عاد من يهوونه بعثوا

ترعى المحبين صرعن في ديارهم ** كفتية الكهف يدرون لا كم لبثوا

والله لو حلف العشاق أنهم ** موتى من الحب أو قتلى لما حنثوا

مجلسنا بحر، يرده الفيل والعصفور كل أناس مشربهم أطيار صناعتها في الجو بالقلب.
فأين الطروب، سحائب التفهيم قد هطلت بودق البيان، أفتراها أخضرت رياض الأذهان؟ نحن في روضة طعامنا فيها الخشوع وشرابنا فيها الدموع ونقلنا هذا الكلام المطبوع، نداوي أمراضًا أعجزت بختيشوع، ونرقى الهاوي ونرقى الملسوع، فليته كان كل يوم لا كل أسبوع.
لصردر:
يا صحابي وأين منِّي صحبي ** فتنتهم عيون ذاك السربِ

كلمات أسماؤهن استعارات ** وما هن غير طعن وضربِ

أرني ميتة تطيب بها النفس ** وقتلا يلذُّ غير الحبِّ

لا تزل بي عن العقيق ففيه ** وطري إن قضيته أو نحبي

لا رعيتُ السوامَ إن قلتُ للصحبة ** خفّي عني وللعيس هبِّي

وحدي أتكلم، وجدي يتألم، ألا مريد يتعلم؟ ألا دموع تتسلم؟ لابن المعلم:
هو الحمى ومغانيه معانيه ** فاحبس وعان بليلى ما تعانيه

ما في الصحاب أخو وجد تطارحه ** حديث نجد ولا صب تجاريه

إليك عن كل قلب في أماكنه ** ساه وعن كل دمع في مآقيه

يوهي قوى جلدي من لا أبوح به ** ويستبيح دمي من لا أسميه

يبلى فما في لساني ما يعاتبه ** ضعفا بلى في فؤادي ما يداريه