فصل: الفصل التاسع والعشرون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل التاسع والعشرون:

أخواني تفكروا في مصارع الذين سبقوا، وتدبروا مصيرهم أين انطلقوا؟ واعلموا أن القوم انقسموا وافترقوا، قوم منهم سعدوا ومنهم قوم شقوا.
والمرء مثل هلالٍ عند طلعته ** يبدو ضئيلًا لطيفًا ثم يتسق

يزداد حتى إذا ما تم أعقبه ** كر الجديدين نقصا ثم ينمحق

كان الشباب رداءً قد بهجت به ** فقد تطاير منه للبلى خرق

وبات منشمرًا يحدو المشيب به ** كالليل ينهض في أعجازه الفلق

عجبتُ والدهر لا تفنى عجائبه ** للراكنين إلى الدنيا وقد صدقوا

وطال ما نغصوا بالفجع ضاحية ** وطال بالفجع والتنغيص ما طرقوا

دار تغر بها الآمال مهلكة ** وذو التجارب فيها خائف فرق

يا للرجال لمخدوع بزخرفها ** بعد البيان ومغرور بها يثق

أقول والنفس تدعوني لباطلها ** أين الملوك ملوك الناس والسوق

أين الذين إلى لذاتها ركنوا ** قد كان فيها لهم عيش ومرتفق

أمست مساكنهم قفرًا معطلة ** كأنهم لم يكونوا قبلها خلقوا

يا أهل لذات دار لا بقاء لها ** إن اغترارًا بظل زايل حمق

أين من كان في سرور وغبطة؟ أين من بسط اليد في بسيط البسطة؟ لقد أوقعهم الموت في أصعب خطة، جسروا على المعاصي فانقلبت على الجيم النقطة، بيناهم في الخطأ خطا إليهم صاحب الشرطة، هذا دأب الزمان فإن صفا فغلطة، كم تخون الموت منا أخوانا، وكم قرن في الأجداث أقرانا، كم مترف أبدله الموت ديدانا، وهذا أمر إلينا قد تدانى، كم معد عودًا لعيده؟ صارت ثيابه أكفانا، وما شاهدنا مصرعها وما كفانا، كم مسرور بقصره عوض من قبره أعطانا، افترانًا، هذا الأمن، من أعطانا؟
لنمنا وصرف الدهر ليس بنائم ** خزمنا له قسرًا بغير خزائم

من سعى إلى شهواته مستعجلًا تعثر بحسك الأسف، تلمح العواقب قبل الفعل أمان من الندم، قد عرفتم عقابيل قابيل وعلمتم حسن سرابيل هابيل:
الشرى يوجد في أعقابه ضرب ** خير من الأرى في أعقابه لسع

الهوى مطمورة ضيقة في حبس وعر ومذ خلق الهوى خلق الهوان، لا يتصرف الهوى إلا بربع قلب فارغ من العلم، الجهل خندق يحول بين الطالب والمطلوب والعلم يدل على القنطرة، كتابة العلم في ليل الجهل تفتقر إلى مصباح فطنة ودهن الذهن غال، ما قدر لص قط على فطن، ومتى نام حارس الفكر انتبه لص الهوى، من ثبت قلبه في حرب الشهوات لم يتزلزل قدمه.
أول ما ينهزم من المهزوم عقله، ما دمتَ في حرب العدو فلا تبال بالجراح، فإنه قد يصاب الشجاع، إنما المهادنة دليل الذل، تأثيرات الذنوب على مقاديرها، وقعت غلطة من يوسف فقُدَّ القميص وقويت زلة آدم، فخرج عريانًا من الثياب، أين عزيمة توبة ماعز؟ لا عزيمة توبة، أين هم أويس لا غم قيس، ما لم يكن لك محرِّك من باطنك فالخلق تضرب في حديد بارد.
لصردر:
ظللت أكر عليه الرقي ** وتأبى عريكته أن تلينا

ويحك، من زم جوارحه ولازم الباب كان على رجاء الوصول، فكيف بمن لازم ولا لازم، طوبى للزهاد لقد مروا في المطلق، من يرافقني إلى ديار القوم؟ ما أجوز على البلدان إنما أمضى على السماوة، وهذه خيام ليلى فأين ابن الملوح:
هذي منازلهم ومالي ** بعد بعد القوم خبر

ويلي أحظى كله ** من دونه صد وهجر

كان سري يدافع أول الليل فإذا جن أخذ في البكاء إلى الفجر:
أقطع ليلى وجيش وجدي ** من عن شمالي وعن يميني

تالله لو عادني رسول ** لعاد عن مدنف حزين

ما حيلتي فيك غير أني ** أسرق من زفرتي أنيني

ذلوا له ليرضى، فإذا رأيتهم قلت مرضى.
لصردر:
مرض بقلب ما يعاد ** وقتيل حب ما يقاد

يا آخر العشاق ما ** أبصرت أولهم يذاد

يقضي المتيم منهم ** نحبًا ولو ردوا لعادوا

يأنسون في الدجى بالظلام، ويطربون بنوح الحمام، مرضى الأبدان من طول الغرام، أصحاء القلوب مع السقام، إذا ذكرت حبيبهم رأيت المستهام قد هام.
للمهيار:
وأنتَ إن كنتَ رفيقًا فأعِد ** ذكر الحمى أطيب ما غُنّيا

أعِدْ فمن آية سكان الحمى ** وذكرهم أن يذهب الشجونا

شجوًا كشجوى يا حمام ساعدي ** إن الحزين يسعد الحزينا

كم من دموع ردها صوب دم ** تخلج البرق على يبرينا

قال الشبلي: لقيت جارية حبشية، فقلت: من أين؟ فقالت: من عند الحبيب، قلت: وإلى أين؟ قالت: إلى الحبيب، قلت: ما الذي تريدين من الحبيب؟ قالت: الحبيب. قلت: فكم تذكرين الحبيب؟ فقالت: ما يسكن لساني عن ذكراه حتى ألقاه:
وحرمة الورد ما لي عنكم عوض ** وليس لي في سواكم بعدكم غرض

ومن حديثي بكم قالوا به مرض ** فقلت لا زال عني ذلك المرض

رأى معروف في المنام كأنه تحت العرش، فقال الله عز وجل: ملائكتي من هذا؟ فقالوا: أنت أعلم، هذا معروف قد سكن من حبك، فلا يفيق إلا بلقائك:
فداو سقمًا بجسم أنت متلفه ** وابرد غرامًا بقلب أنت مضرمه

ولا تكلني على بعد الديار إلى ** صبري الضعيف فصبري أنت تعلمه

تلق قلبي فقد أرسلته فرقا ** إلى لقائك والأشواق تقدمه

.الفصل الثلاثون:

أخواني البدار البدار، والجد الجد، فالخصم معد، والقصم مجد:
مكرُ الزمان علينا غيرُ مأمون ** فلا تظنن أمرًا غيرَ مظنون

بل المخوف علينا مكرَ أنفسنا ** ذات المنى دون مكر البيض والجون

إن الليالي والأيام قد كشفت ** من مكرها كل مستور ومكنون

وحدثتنا بأنا من فرائسها ** نواطقًا بفصيح غير ملحون

واستشهدت من مضي منا فأنبأنا ** عن ذاك كل لقي منا ومدفون

وأم سوء إذا ما رام مرتضع ** أخلافها صد عنها صد مزبون

ونحن في ذاك نصيفها مودتنا ** تبًا لكل سفيه الرأي مغبون

نشكو إلى الله جهلًا قد أضر بنا ** بل ليس جهلًا ولكن علم مفتون

أغوى الهوى كل ذي عقل فلست ترى ** إلا صحيحًا له أفعال مجنون

حتى متى نشتري دنيا بآخرة ** سفاهة ونبيع الفوق بالدون

نبني المعاقل والأعداء كامنة ** فيها بكل طرير الحد مسنون

ونجمع المال نرجو أن يخلدنا ** وقد أبى قبلنا تخليد قارون

نظل نستنفق الأعمار طيبة ** عنها النفوس ولا نسخر بما عون

وما تأخر حي بعد ميتة ** ألا تأخر نقد بعد عربون

يا من دعى إلى نفعه نبا ونشز، يا جامعًا لغيره ما جمع وكنز، يا متثبطًا في الخير فإذا لاح الشر جمز، كأنك بالألم وقد ألم، فنكى ونكز، وكد التبار الروح بالتباريح، واشتد العلز، وأخذ النفس النفس فاضطرها وحفز، ودارت في فلك الفوت فإذا ملك الموت قد برز، فسماك بالمقبور وبالمثبور قد نبز، فتأهب فالسعيد منا من تأهب للخير وانتهز، لقد علت سنك وانتهيت. وما انتبهت ولا انتهيت. أتعبت ألف رايض ولم تؤد الفرايض.
كم ضيعت عمرًا طويلًا حملت فيه وزرًا ثقيلًا. كم نصب لك الموت دليلًا إذ ساق العزيز ذليلًا، لقد حمل إلى القبور جيلًا جيلًا، ونادى في الباقين رحيلًا رحيلا، لكن الهوى أعاد الطرف كليلا، وما كان الذي رأيت قليلا، يا مرضًا عجيبًا كم أتعبت طبيبا، لقد تنوع ضروبا فأخذ كل عضو نصيبًا، إلام يبقى الغصن رطيبًا؟ من يرد برد الصبي قشيبًا، لقد أمسى الموت قريبًا، وستبصر يومًا غريبًا.
عجبًا لك، لا الدهر يعظك، ولا الحوادث تنذرك، والساعات تعد عليك، والأنفاس تعد منك، وأحب أمريك إليك، أعودهما بالضرر عليك.
يا هذا، من جلا بصيرته من قذى الهوى جلّى على بصره عرائس الهدى. الصور تزاحم المعاني فمن حلها حلى بمغنى المعنى فتعلم حلها بالتدريج. كل ذرة من الكون تخبر بلغة بليغة عن حكمة الفاطر، غير أنه لا يفهم نطق الجوامد إلا العقل نظر الأبصار اليوم إلى الصانع بواسطة المصنوع تدريج إلى رفع الوسايط غدًا، يا محبوسًا في سجن غفلته أخرج من ديار أدبارك واعبر في معبر اعتبارك، قف على بعض بقاع قاع ترى كيف نمت خضرة حضرته بأسرار الخالق إذ تمت. تلمح أصناف النبات في ثياب الثبات قد برزت في عيد الربيع تميس طربًا بالري، تأمل مختلف الألوان في الغصن الواحد، فإن صباغ القدرة صناع. اسمع غناء الورق، على عيدان العيدان. لعل مقاطع السجوع توجب رجوع المقاطع:
ولقد تشكو فما أفهمها ** ولقد أشكو فما تفهمني

غير أني بالجوى أعرفها ** وهي أيضًا بالجوى تعرفني

الحمائم نواح المشتاقين قد رضيت من خلعهم بجريان الدموع:
ناحت سحرًا حمامة في غصن ** قد جرعها الفراق كأس الحزن

تبكي شجنًا تلقته مني ** ما يبكي باك إلا ويروي عني

واعجبًا، متى يثمر لك وجود الثمر معرفة النعم. كم تنضج الثمار وتتناولها وثمرة عرفانك بعد فجة. ليس حظك من النبات إلا الأكل. أين التدبير لعجيب الصنعة والصنع. يا مؤثرًا ضنك الحس، على فضاء العقل. كيف تبيع صفاء للتأمل بكدر الإهمال؟ من العجب أن ندعوك إلى تلمح العبر في الغير وأنت ما تبصر نفسك، تدبر قطرة قطرة من ماء. صبت على إيقاد نار الشهوة. كيف ظهرت فيها عن حركات اللذة؟ رقوم نقوش عقدتها يد القدرة. كما تظهر الصورة في ثوب السقلاطوني عن حركات الشد.
تأمل نطفة مغموسة في دم الحيض، ونقاش القدرة يشق سمعها وبصرها من غير مساس. كيف تربى في حرر مصون عن مشعب، بينا هي ترفل في ثوب نطفة اكتست رداء علقة. ثم اكتست صفة مضغة، ثم انقسمت إلى عظم ولحم. فاستترت من يد الأذى بوقاية جلد. ثم خرجت في سربال الكمال تسحب مطارف الطرائف. فبينا هي في صورة طفل درجت درجة الصبي. فتدرجت إلى النطق وتشبثت بذيل الفهم. فكم من صوت بين أرجل النقل من تحريك جلاجل العبر. في خلاخل الفكر، كلما رنت غنت ألسن الهدى في مغاني المعاني. وكيف يسمع أطروش الغفلة؟ هذا بعض وصف الظاهر، فكيف لو فهمت معنى الباطن؟ الآدمي كتاب مسطور. وشخصه رق منشور. قلبه بيت معمور. همه سقف مرفوع. علمه بحر مسجور. من ينتفع بأسماعكم بعدي؟ وما تحسن الأيام تكتب ما أملى.