فصل: الفصل الثاني والخمسون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الثاني والخمسون:

العزلة حمية البدن والمناجاة قوت القلب، ومن أنس بمولاه استوحش من سواه.
يا منتهى وحشتي وأنسي ** كن لي إن لم أكن لنفسي

أوهمني في غد نجاتي ** حلمك عن سيئات أمسي

خلق القلب طاهرًا في الأصل، فلما خالطته شهوات الحسن تكدر، وفي العزلة يرسب الكدر، الحيوان المميز على ثلاثة أقسام: فالملائكة خلقت من صفاء لا كدر فيه، والشياطين من كدر لا صفاء فيه، والبشري مركب من الضدين، فالعجب أن تقوى عنده التقوى، تقديس الملائكة يدور على ألسنة لا تشتاق بالطبع إلى الفضول سبح تسبيحهم عقود ما نظمتها كلف التكليف، تمرات زروعهم، نشأت لا عن تعب، سقاها سيح العصمة، فكثر في زكوات تعبدهم قدر الواجب {ويستغفرون لمن في الأرض}.
كانت أقدم تعبدهم سليمة فاستبطئوا سير زمني الهوى، فقيل: «إذا رأيتم أهل البلاء، فسلوا الله العافية» واعجبًا من منحدر في سفن التعبد يستبطئ مصاعدًا في الشمال، سمعوا بيوسف الهوى وما رأوه، فأخذوا يلومون زليخا الطبع من حبس عتب {تُراوِد فتاها} فلما قالت الدنيا يوم هاروت وماروت {اخرُج عليهنّ} قطعوا أكف الصبر وصاح في تلك المواقف مواقف {أتجعل فيها} إن للحرب رجالًا خُلقوا، ألهم أنين المذنبين؟ أو خلوف الصائمين، أو حرقة المحبين، أما عب بحر الأمانة يوم {إنَّا عرضنا الأمانة} توقفت الملائكة على الساحل، ونهضت عزيمة الآدمي لسلوك سبيل الخطر، بلى لأقدام المحب أقدام.
يغلبني شوقي فأطوي السرى ** ولم يزل ذو الشوق مغلوبا

لا نحتاج أن نناظر الملائكة بالأنبياء، بل نقول: هاتوا لنا مثل عمر، كل الصحابة هاجروا سرًا وعمر هاجر جهرًا، وقال للمشركين قبل خروجه ها أنا. على عزم الهجرة فمن أراد أن يلقاني فليلقني في بطن هذا الوادي، فليت رجالًا فيك قد نذروا دمي، مذ عزم عمر على طلاق الهوى أحد أهله عن زينة الدنيا.
وعزمة بعثتها همة زحل ** من تحتها بمكان الترب من زحل

لما ولي عمر بن عبد العزيز خيَّر النساء، فقال: من شاءت فلتقم ومن شاءت فلتذهب، فإنه قد جاء أمر شغلني عنكن.
لمهيار:
أقسَم بالعفة لا تيَّمهُ ** ظبيٌ رنا أو غصنٌ تأوَّدا

وكلما قيل له قف تسترحْ ** جزتَ المدى قال وهل نلتُ المدى

للعزائم رجال ليسوا في ثيابنا، وطنوا على الموت فحصلت الحياة.
إذا ما جررت الرمح لم يثنني أب ** ملح ولا أم تصيح ورائي

وشيعني قلب إذ ما أمرته ** أطاع بعزم لا يروغ ورائي

يا مختار القدر اعرف قدرك، فإنما خلقت الأكوان كلها لأجلك، يا خزانة الودائع يا وعاء البدائع، يا من غذي بلبان البر وقلب بأيدي الأيادي، يا زرعًا تهمى عليه سحب الألطاف، كل الأشياء شجرة وأنت الثمرة، وصور وأنت المعنى، وصدف وأنت الدر، ومخضة وأنت الزبد، مكتوب اختيارنا لك، واضح لخلط، غير أن استخراجك ضعيف، متى رمت طلبي فاطلبني عندك.
ساكن في القلب يعمره ** لست أنساه فاذكره

غاب عن سمعي وعن بصري ** فسويدا القلب تبصره

ويحك لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي، إنما أبعدنا إبليس لأجلك لأنه لم يسجد لك، فالعجب منك كيف صالحته وهجرتنا؟
رعى الله من نهوى وإن كان ما رعى ** حفظنا له الود القديم فضيعا

وواصلت قومًا كنت أنهاك عنهم ** وحقك ما أبقيت للصلح موضعا

يا جوهرة بمضيعة، يا لقطة تداس، كم في السماوات من ملك يسبح؟ ما لهم مرتبة {تتجافى} لا يعرفون طعم طعام، وما لهم مقام «ولخلوف» أنين المذنبين عندنا، أو في من تسبيحهم، سبحان من اختارك، على الكل وجادل عنك الملائكة قبل وجودك {إني أعلم} خلق سبعة أبحر واستقرض منك دمعة، له ملك السماوات والأرض واستقرض منك حبة.
الماء عندك مبذول لوارده ** وليس يرويك إلا مدمع الباكي

كانت الأمتعة المثمنة واللآلئ النفيسة تباع بمصر فلا ينظر إليها يوسف فإذا جاءت أجمال صوف من كنعان لم تحل إلا بين يديه (لا تسئل عن عبادي غيري).
للخفاجي:
لاح وعقد الليل مسلوب ** برق بنار الشرق مشبوب

أسأله عنكم وفي طيه ** سطر من الأحباب مكتوب

لو كان في قلبك محبة، لبان أثرها على جسدك، عجب ربنا من رجل ثار عن وطائه ولحافه إلى صلاته، تلمح معنى ثار، ولم يقل قام، لأن القيام قد يقع بفتور، فأما الثوران فلا يكون إلا بالإسراع حذرًا من فائت.
إذا هزنا الشوق اضطربنا لهزه ** على شعب الرحل اضطراد الأراقم

فمن صبوات تستقيم بمائل ** ومن أريحيات تهب بنائم

أخواني من ناقره الوجد ناقره النوم، قال سفيان الثوري: بت عند الحجاج ابن الفرافصة إحدى عشرة ليلة، فما أكل وما شرب ولا نام.
اسأل عيني كيف طعم الكرى ** علالة وهو سؤال محال

وكيف بالنوم على الهجر لي ** والنوم من شرط ليالي الوصال

.الفصل الثالث والخمسون:

يا طويل الأمل في قصير الأجل، يا كثير الزلل في يسير العمل، خلا لك الزمان وما سددت الخلل، أفما عندك وجل من هجوم الأجل؟
تجهز إلى الأجداث ويحك والرمس ** جهازًا من التقوى لا طول ما حبس

فإنك ما تدري إذا كنت مصبحًا ** بأحسن ما ترجو لعلك لا تمسى

سأتعب نفسي أو أصادف راحة ** فإن هوان النفس أكرم للنفس

وازهد في الدنيا فإن مقيمها ** كظاعنها ما أشبه اليوم بالأمس

يا معاشر الأصحاء اغتنموا نعمتي السلامة والإمهال، واحذروا خديعتي المنى الآمال، قد جربتم على النفس تبذيرها في بضاعة العمر، فانتبهوا لانتهاب الباقي {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} الدنيا حلم يقظة، ويوم الحساب تفسير الأضغاث، أيام معدودة وسيفنى العدد وطريق صعبة على قلة العدد، وقد سار الركب ولاح الجدد، أترى تظن أن تبقى إلى الأبد؟ أما يعتبر بالوالد الولد، أين المتحرك في الهواء همد، أين اضطرام تلك النار؟ خمد، أين ماء الأعراض الجاري؟ جمد، تساوى في الممات الثعلب والأسد، وشارك الوهى بين الحديد والمسد، وجمع التلف عنقاء مغرب والصرد، واستقام قياس النقض للكل وأطرد، أفلا ينتبه من رقدته من قد رقد؟ يا شاربين من منهل أبوى شرب الهيم، يا جاعلين نهار الهدى كالليل البهيم، مقيمين على الدنس وليس فيهم مقيم، سالمين من أمراض البدن وكلهم سليم، أتعمرون ربوع النقم برتوع النعم؟ وتستبدلون بالقرآن، محرمات النغم، وقد توطنتم ناسين تروح النزوح فلم تذكروا الممات. تروح الروح، تالله ليعودن المستوطن في أهله غريبًا، والمغتبط بفرحه مغيظًا كئيبًا {إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا}.
أين أرباب البيض والسمر؟ والمراكب الصفر والحمر، والقباب والقب الضمر، ما زالوا يفعلون فعل الغمر إلى أن تفضي جميع العمر، يا من عمره قد رحل وولى، كأنك بك تندم وتتقلى، والسمع والبصر للموت قد كلا، ويد التناول للتوبة شلا، والعين تجري وابلًا لا طلا، وعصافير الندم قد أنضجها القلا، وأنت تستغيث {ربِّ ارجعونِ} فيقال {كلا} ألا كان هذا قبل هذا.
ألا يا ثقيل النوم، يا بطيء اليقظة، يا عديم الفهم، أما ينبهك الأذان؟ أما تزعجك الحداة؟ أترى نخاطب عجمًا؟ أو نكلم صمًا، كم نريك عيب الدنيا؟ ولكن عين الهوى عوراء، كم تكشف للبصر قصر العمر؟ ولكن حدقة الأمل حولاء.
ليس في الدنيا سرور ** إنما الدنيا غرور

ومآتيم إذا فكر ** ت فيها وقبور

يا من شاب وما تاب ولا أصلح، يا معرضًا إلى ما يؤذي عن الأصلح، ليت شعري بعد الشباب بماذا تفرح؟ ما أشنع الخطايا في الصبا وهي في الشيب أقبح، إذ نزل الشيب ولم يزل العيب فبعيد أن يبرح.
للبحتري:
وإذا تكامل للفتى من عمره ** خمسون وهو إلى التقى لا يجنح

عكفت عليه المخزيات فماله ** متأخر عنها ولا متزحزح

وإذا رأى الشيطان غرة وجهه ** حيى وقال فدَيْتُ من لا يفلح

أخواني، فتشوا أحمال الأعمال، قبل الرحيل {ولتنظُر نفسٌ ما قدَّمتْ لغد} يا مطلقي النواظر، في محرم المنظور {لتَرَوُنَّ الجحيم} لا يغرنكم إمهال العصاة {إنَّ إلينا إيابَهم} يا من عاهدناه من يوم {ألستُ} لا تحلن عقد العهد بأنامل الزلل فما يليق بشرف قدرك خيانة.
بحرمة الود الذي بيننا ** لا تفسد الأول بالآخر

اذكر ملازمة المطالبة بالوفاء في أضيق خناق، يا منكر ويا نكير انزلا إلى الخارج من بساتين الأرواح فانظرا، هل استصحب وردة من اليقين أو شوكة من الشك؟
قفوا سائلوا بأن العقيق هل الهوى ** على ما عهدنا فيه أم حال حاله

استنكها فمه، الذي قال به {بلى} يوم {ألستُ} هل غير طيبه طول رقاد الغفلة؟ هل انجاس زلله؟ مما يدخل قليلها تحت العفو، هل معرفته في قليب قلبه يبلغ قلتين، أنا مقيم له على الوفاء في كل حال، فانظر إلى حاله هل حال؟ لقيس المجنون:
ألا حبذا نجد وطيب ترابه ** وأرواحه إن كان نجد على العهد

ألا ليت شعري عن عويرضتي قبا ** بطول الليالي هل تغيرتا بعدي

وعن علويات الرياح إذا جرت ** بريح الخزامى هل تهب على نجد

المعرفة غرس في القلب والتذكار ماء، ومتى جفت المياه عن الغروس جفت شجرات {ألستُ} تسقي من مياه «هل من سائل».
إذا مرضنا أتيناكم نزوركم ** وتذنبون فنأتيكم فنعتذر

العقل ما ينسى إنما الحس مغفل، سبب النسيان أمراض من التخليط في مطاعم الهوى عقدت بخارًا في هام الفهم، فإذا عالجها طبيب الرياضة تحللت فذكر ما نسي من عهد {ألست}.
قيل لذي النون: أين أنت من يوم {ألست}؟ قال: كأنه الآن في أذني.
للمهيار:
سل أبرق الحنان واحبس به ** أين ليالينا على الأبرقِ

وكيف باناتُ بسقط اللوى ** ما لم يُجدها الدمع لم تورقِ

هل حملتْ لا حملتْ بعدنا ** عنك الصَّبا عَرْفا لمستنشقِ

يا سائق الأظعان رفقًا وإن ** لم يُغن قولي للعسوفِ ارفقِ

لولا زفيري خلف أجمالهم ** وحر أنفاسي لم تنشقِ

سميتَ لي نجدًا على بعدها ** يا وله المشئم بالمعرقِ