فصل: الفصل السادس والخمسون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل السادس والخمسون:

يا من أيام عمره في حياته معدودة، وجسمه بعد مماته مع دودة.
رأيتك في النقصان مذ أنت في المهد ** تقربك الساعات من ساعة اللحد

ستضحك سن بعد عين تعصرت ** عليك وإن قالت بكيت من الوجد

أتطمح أن يشجى لفقدك فاقد ** لعل سرور الفاقدين مع الفقد

يا من عمره يقضي بالساعة والساعة، يا كثير التفريط. في قليل البضاعة، يا شديد الإسراف يا قوي الإضاعة، كأني بك عن قلي ترمى في جوف قاعة، مسلوبًا لباس القدرة وبأس الاستطاعة، وجاء منكر ونكير في أفظع الفظاعة، كأنهما أخوان في الفظاظة من لبان الرضاعة، وأمسيت تجني ثمار هذي الزراعة، وتمنيت لو قدرت على لحظة الطاعة وقلت {ربِّ ارجعوني} ومالك كلمة مطاعة، يا متخلفًا عن أقرانه قد آن أن تلحق الجماعة.
يا ساهيًا لاهيًا عما يراد به ** آن الرحيل وما قدمت من زاد

ترجو البقاء صحيحًا سالمًا أبدًا ** هيهات أنت غدًا فيمن غدا غاد

مركب الحياة تجري في بحر البدن برخاء الأنفاس، ولا بد من عاصف قاصف تفككه وتغرق الركاب.
حكم المنية في البرية جار ** ما هذه الدنيا بدار قرار

جبلت على كدر وأنت تريدها ** صفوًا من الأقذار والأكدار

فاقضوا مآربكم عجالًا إنما ** أعماركم سفر من الأسفار

يا لقم الآجال يا أشباه الدجال، أما تسمعون صريف أنياب الصروف؟ كم غافل وأكفانه عند القصار؟ ولبن قدره قد ضرب، يا سخنة عين قرت بالغرور، يا خراب قلب عمر بالمنى، العمر زاد في بادية، يوخد منه ولا يطرح فيه، يا من عمره يذوب ذوبان الثلج توانيك أبرد، كان بعض من يبيع الثلج ينادي عليه: ارحموا من يذوب رأس ماله يا مؤخرًا توبته حتى شاب وقت الاختيار، يا ابن السبعين لقد أمهل المتقاضي، البدار البدار فنقاض البدن قد عرقب الأساس.
ولم يبق من أيام جمع إلى منى ** إلى موقف التجمير غير أماني

بادر التوبة من هفواتك قبل فواتك، فالمنايا بالنفوس فواتك، أعجب خلائقَ الخلائق، محسن في شبابه، فلما لاح الفجر فجر، آه لموسم فاتك، لقد ملأ الأكياس الأكياس، رجلت الرباحة فألحقهم في المنزل.
وكم وقفت وأصحابي بمنزلة ** يبيت يقظانها ولهان وهلانا

فهاجنا حين حيانا النسيم بما ** سقناه يوم التقى بالجزع أحيانا

تبكي وتسعدنا كوم المطي فهل ** نحن المشوقون فيها أم مطايانا

فلا ومن فطر الأشياء ما وجدت ** كوجدنا العيس بل رقت لبلوانا

يا هذا عقلك يحثك على التوبة وهواك يمنع والحرب بينهما، فلو جهزت جيش عزم فر العدو، تنوي قيام الليل فتنام، وتحضر المجلس فلا تبكي، ثم تقول ما السبب؟ {قل هو مِن عند أنفسكم} عصيت النهار فنمت بالليل، أكلت الحرام فأظلم قلبك، فلما فتح باب الوصول للمقبولين طردت، ويحك فكر القلب في المباحات يحدث له ظلمة، فكيف في تدبير الحرام؟ إذا غير المسك الماء منع التوضوء فكيف بالنجاسة، متى تفيق من خمار الهوى؟ متى تنته من رقاد الغفلة؟ للشريف الرضي:
يا قلبِ ما أطولَ هذا الغرام ** يوم نوى الحيِّ ويوم المُقام

متى تُفيق اليومَ من لوعةٍ ** وأنت نشوانُ بغير المُدام

أين أنت من أقوام كشفت عن أبصار بصائرهم أغطية الجهل؟ فلاحت لهم الجادة فجدوا في السلوك، كان مسروق يصلي حتى تتورم قدماه، فتقعد امرأته تبكي مما تراه يصنع بنفسه.
أمسى وأصبح من تذكاركم قلقًا ** يرثي لها المشفقان الأهل والولد

قد خدد الدمع خدي من تذكركم ** واعتادني المضنيان الشوق والكمد

وغاب عن مقلتي نومي فنافرها ** وخانني المسعدان الصبر والجلد

لا غرو للدمع أن تجري غواربه ** وتحته والخافقان القلب والكبد

كأنما مهجتي نضو ببلقعة ** يعتاده الضاريان الذئب والأسد

لم يبق إلا خفى الروح من جسدي ** فداؤك الباقيان الروح والجسد

يا هذا.
أول الطريق سهل ثم يأتي الحزن، في البداءة إنفاق البدن وفي التوسط إنفاق النفس، فإذا نزل ضيف المحبة تناول القلب فأملق المنفق قلق القوم بلا سكون، انزعاجهم بلا ثبات، خلقت جفونهم على جفاء النوم، فلو سمعت ضجيجهم في دياجي الليل.
من لقلب يألف الفكرا ** ولعين لا تذوق كرى

ولصب بالغرام قضى ** ما قضى من حبكم وطرا

أحصر القوم في سبيل المحبة، فأقعدتهم عن كل مطلوب {لا يستطيعون ضربًا في الأرض}.
رأيت الحب نيرانًا تلظى ** قلوب العاشقين لها وقود

فلو كانت إذا احترقت تفانت ** ولكن كلما نضجت تعود

لاحت نار ليلى ليلًا فنهض المجنون، فخبت فضل فضج.
ردوا الفؤاد كما عهدت إلى الحشى ** والمقلتين إلى الكرى ثم اهجروا

.الفصل السابع والخمسون:

إخواني، قد كفت الكفات في العبر، ووعظ من عبر من غبر، وقد فهم الفطن الأمر وخبر، وما عند الغافل من هذا خبر.
يا أيها الناس أين أولكم ** أما أتاكم للذاهبين خبر

اعتبروا فالمقدمون خلوا ** وكلهم للمؤخرين عبر

تعبر بالمصر عابرًا فإذا ** سألت عمن تود قيل عبر

اصبر على العسر في الزمان فكم ** عسر ويسر أتاك ثمت مر

والصبر أولى بكل من صحب ** العيش ومن جرب الزمان صبر

يرفع شأن الكرام فعلهم ** والفعل إن خالف الجميل حذر

كادت شخوص في الأرض بالية ** تنطق حقًا إذا المقال غدر

بالأمس كنا من الأنام فأما ** اليوم في تربنا فنحن مدر

ابك على نفسك قبل أن يبكى عليك، وتفكر في سهم قد صوب إليك، وإذا رأيت جنازة فاحسبها أنت. وإذا عاينت قبرًا فتوهمه قبرك وعد باقي الحياة ربحًا.
لمتمم بن نويرة:
لقد لامني عند القبور على البكا ** رفيقي لتذراف الدموع السوافك

فقال أتبكي كل قبرٍ رأيته ** لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك

فقلت له إن الشجا يبعث الشجا ** فدعني فهذا كله قبر مالك

غريب، يا راكبًا عجز الهوى وفي يده جنيب، يا مارًا على وجهه قل لي متى تنيب؟ ألا تأخذ قبل الفوت بعض النصيب؟ ألا تتزود ليوم شره شر عصيب؟،
ألا تخرج عن وادي الجدب إلى الربع الخصيب؟ أحاضر أنت قل لي، ما أكثر ما تغيب، ألا مريض لبيب يقبل رأي الطبيب، إن الرحيل بلا عدة فج،
فكيف به على بعد الفج؟ أحرم عن الحرام وقدر أنه حج، واسكب دموع الأسى واحسبه ثج، واستغث من الزلل ومثله العج، وبادر، فقد تفوت الوقفة أهل وج، اقبل نصحي فمثل نصحي لا يمج. كم فهم وعظي ذو فطنة فهج، يا من يقول إذا شئت تبت.
اليوم عهدكم فأين الموعد ** هيهات ليس ليوم عهدكم غد

إن خرجت اليوم ولم تتب، خرجت من أولي الفهم.
لأيّ مرمى تزجر إلا يانقًا ** إن جاوزت نجدًا فلست عاشقًا

وقوع الذنب على القلب كوقوع الدهن على الثوب، إن لم تعجل غسله وإلا انبسط {وإنْ منكُمْ لَيُبْطِئَنَّ}.
يدي في قائم العضب ** فما الإبطاء بالضرب

ما دامت نفسك عند التوبيخ تنكسر، وعينك وقت العتاب تدمع، ففي قلبك بعد حياة، إنما المعاصي أوجبت سكتة، فانشق هواك حراق التخويف وقد عطس، يا من قد أبعدته الذنوب عن ديار الأنس، ابك وطر الوطن عساك ترد.
قال بعض السلف: رأيت شابًا في سفح جبل عليه آثار القلق ودموعه تتحادر، فقلت: من أين؟، فقال: آبق من مولاه، قلت: فتعود فتعتذر؟ فقال: العذر يحتاج إلى حجة ولا حجة للمفرط، قلت فتتعلق بشفيع؟ قال: كل الشفعاء يخافون منه، قلت: من هو؟ قال: مولى رباني صغيرًا فعصيته كبيرًا، فوا حيائي من حسن صنعه وقبح فعلي، ثم صاح فمات، فخرجت عجوز فقالت: من أعان على قتل البائس الحيران؟ فقلت: أقيم عندك أعينك عليه، فقالت: خلّه ذليلًا بين يدي قاتله عساه يراه بغير معين فيرحمه.
بالله عليك يا فتى الأعراب ** إن جزت على مواطن الأحباب

فاشرح سقمي وقل لهم عما بي ** ذاك المضني يموت بالأوصاب

أيها التائبون بألسنتهم ولا يدرون ما تحت نطقهم؟، لا يحكم بإقراركم {حتَّى تعلَموا ما تقولونَ}، متى صدقت توبة التائب بنى بيت التعبد بصخور العزائم ولم ينته في أساسه دون الماء، ما ضرب بسيف العزيمة قط إلا قط، التوبة الصادقة تقلع آثار الذنوب، إذا قرئ على التائب عهد {ألَسْتُ} ذكر الإقرار وعرف الشهود، فخجل من الخيانة فجرت العين وأطرق الرأس، إن التائبين كاتبوا الله بدموعهم وهم ينتظرون الجواب.
يا حادي الأظعان عج متوقفًا ** وانظر دموع العاشقين تراق

صبروا على ألم التهاجر والقلى ** وتجرعوا مر الفراق وذاقوا

يا معاشر التائبين من أقامكم وأقعدنا؟ {إنْ نحنُ إلاّ بشرٌ مثلُكُمْ ولكنَّ اللهَ يمُنُّ على مَنْ يشاءُ مِنْ عبادِهِ} قفوا لأجل زمن، ارحموا من قد عطب.
ردّوا المطايا وإلاّ ردها نفسي ** وأدمعي فهما سيلٌ ونيران

يا سائق الظعن قلبي في رحالهم ** أمانة رعيها والحفظ إيمان

يخيّل لي أن الحيطان تبكي معنا، إن النسيم قد رقّ لحزننا.
فلا ومن فطر الأشياء ما وجدت ** كوجدنا العيس بل رقت لبلوانا

ما أحسن هؤلاء التوّاب، ما أذل وقوفهم على الباب فاعتبروا {يا أُولي الأَلْبابِ}.
بما بيننا من حرمة هل رأيتما ** أرق من الشكوى وأقسى من الهجر

وأفضح من عين المحب لسرّه ** ولا سيّما إن أطلقت عبرة تجري

وجوههم أضوأ من البدر، جباههم أنور من الشمس، نوحهم أفضل من التسبيح، سكوتهم أبلغ من فصيح، لو علمت الأرض قدر خوفهم تزلزلت، لو سمعت الجبال ضجيجهم تقلقلت.
لابن المعتز:
اقني فالبوم نشوان ** والربى صاد وريّان

وندامى كالنجوم سطوا ** بالمنى والدهر جذلان

خطروا والسكر ينفضهم ** وذيول القوم أردان

كلما رأيت تقلقلهم، تقلقل قلبي، وإلاّ لمحت اصفرارهم تبلبل لبي، وإذا شاهدت دموعهم زاد كربي، وإذا سمعت حنينهم تبدد ماء عيني.
ما لي وبانات اللوى ** لولا الصبابة والهيام