فصل: الفصل التاسع والخمسون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الثامن والخمسون:

ما زالت المنون ترمي عن أقواس حتى طاحت الجسوم والأنفس، وتبدلت النعم بكثرة الأبؤس، واستوى في القبور الأذناب والأرؤس، وصار الرئيس كأنه قط لم يرؤس.
قل للمفرط يستعد ** ما من ورود الموت بد

قد أخلق الدهر الشباب ** وما مضى لا يسترد

فإلامَ يشتغل الفتى ** في لهوه والأمر جد

والعمر يقصر كل يوم ** بي وآمالي تمد

لقد وعظت الدنيا فأبلغت وقالت، ولقد أخبرت برحيلها قبل أن يقال زالت، وما سقطت جدرانها حتى أنذرت ومالت، قرب الاغتراب في التراب، ودنا سل السيف من القراب، كم غنت رباب برباب، ثم نادت على الباب بتباب يا من زمانه الذي يمضي عليه: عليه، يا طويل الأمل وهو يرى الموتى بعينيه، يا من ذنبه أوجب أن لا يلتفت إليه، قد مزجت لك كأس كربة ولا بد والله من تلك الشربة، يا منقولًا بعد الأنس إلى دار غربة، يا طين تربة، وهو يطلب في الدنيا رتبة، هذا مجلس ابن زيد فأين عتبة؟، أتلهو برند الصبا وبأنه؟ ويروقك برق الهوى بلمعانه، وتغتر بعيش في عنفوانه، فتمد يد الغفلة إلى جني أغصانه، وتنسى أنك في حريم خطره وامتحانه، أما لقمة أبيك أخرجته من مكانه؟ أما نودي عليه بالفطر في رمضانه؟ أما شأنه شانه لولا وكف شانه؟ أما يستدل على نار العقاب بدخانه؟ نزل آدم عن مقام المراقبة درجة فنزل فكان يبكي بقية عمره ديار الوفا، برد النفس بالهوى لحظة أثمر حرارة القلق ألف سنة، فاعتبروا، سالت من عينيه عيون، استحالت من الدماء دموع شغلته عن لذات الدنيا هموم.
للمهيار:
هل بعد مفترق الأظعان مجتمعُ ** أم أهل زمانٍ بهم قد فات مرتجعُ

تحملوا تسعُ البيداءُ ركبَهُمُ ** ويحمل القلب منهم فوق ما يسعُ

الليلُ بعدهمُ كالهجر متصلٌ ** ما شاء والنومُ مثلُ الوصل منقطعُ

اشتاق نعمان لا أرضى بروضته ** دارًا وإن طاب مصطافٌ ومرتبَعُ

كان آدم كلما عاين الملائكة تنزل تذكر المرتبع في الربع فتأخذ العين أعلى في إعانة الحزين.
رأى بارقًا من نحو نجدٍ فراعه ** فبات يسح الدمع وجدًا على نجد

هل الأعصر اللاتي مضين يعدن لي ** كما كن لي أم لا سبيل إلى الرد

ما أمر البعد بعد القرب، ما أشد الهجر بعد الوصل، يا مطرودًا بعد التقريب أبلغ الشافعين لك البكاء.
للمتنبئ:
وكيف التذاذي بالأصائل والضحى ** إذا لم بعد ذاك النسيمَ الذي هبّا

ذكرت به وصلًا كأن لم أفُزْ به ** وعيشًا كأني كنت اقطعه وثبا

كان لقوم جارية، فأخرجوها إلى النخاس فأقامت أيامًا تبكي، ثم بعثت إلى ساداتها تقول: بحرمة الصحبة ردّوني فقد ألفتكم. يا هذا قف في الدياجي وامدد يد الذلّ، وقل قد كانت لي خدمة، فعرض تفريط أوجب البعد، فبحرمة قديم الوصل ردوني فقد ألفتكم.
علِّلونا بوصالٍ نافعٍ ** إننا للبعد كالشيء اللقا

أو خذوا أرواحنا خالصة ** أو ذروا في كل جسمٍ رمقا

وارحموا من تنقضي أيامه ** غمرات والليالي أرقا

ويح قلبي ما لقلبي كلما ** خفق البرق اليماني خفقا

يا هذا لا تبرح من الباب ولو طردت، ولا تزل عن الجناب ولو أبعدت، وقل بلسان التملق إلى من اذهب؟
يا ربع إن وصلوا وإن صرموا ** فهم الأولى ملكوا الفؤاد همُ

شغلوا بحسنهم نواظرنا ** وعلى القلوب بحبهم ختموا

أتبعتهم نظرًا فعاد جوى ** ومن الشفاء لذي الهوى سقم

تمحو دموعي وسم إبلهم ** وزفير أنفاسي لها يسم

كان الحسن شديد الحزن، طويل البكاء سئل عن حاله، فقال: أخاف أن يطرحني في النار، ولا يبالي.
يعزُّ عليَّ فراقي لكمُ ** وإن كان سهلًا عليكم يسيرا

يا من كان له قلب فمات، يا من كان له وقت ففات، استغث في بوادي القلق ردّوا عليَّ لياليَّ التي سلفتن أحضر في السحر فإنه وقت الإذن العام، واستصحب رفيق البكاء فإنه مساعد صبور، وابعث سائل الصعداء فقد أقيم لها من يتناول.
للمصنف:
عبرت بريحكم الصبا سحرًا ** فارتاح قلبي المدنف الحرض

ما لي أراك سقيمة بهم ** يا ريح عندي لا بك المرض

أتبعتها نفسًا أشيّعها ** فإذا جروح القلب تنتقض

قف صاحبي إن كنت تسعدني ** عند الكثيب فثمَّ لي غرض

وانشد فؤادي عند كاظمة ** في كل ركب راح يعترض

أشكو ومني مبتدى ألمي ** عيني رمت وفؤادي الغرض

فرضوا على الأجفان إذ هجروا ** لا تلتقي فاصبر لما فرضوا

كيف اصطباري بعد فرقتهم ** يا جيرة ما عنهم عوض

.الفصل التاسع والخمسون:

يا من سيب قلبه في مراعي الهوى، وألقى حبله على الغارب، سلم من يطول نشدانه للضلال؟.
للمهيار:
دع ملامي بالحمى أو رح ودعني ** واقفًا أطلب قلبًا ضاع مني

ما سألت الدارَ أبغي رجعها ** ربَّ مسئول سواها لم يجبني

أنا يا دار أخو وحشِ الفلا ** فيكِ من خان فعزمي لم يخني

ولئن غال مغانيك البلى ** عادة الدهر فشخصُ منك يُغني

إن خَبَتْ نارٌ فهذي كبدي ** أو جفا الغيثُ فهذا لك جفني

أكثر فساد القلب من تخليط العين، مادام باب العين موثقًا بالغض فالقلب سليم من آفة، فإذا فتح الباب طار طائر وربما لم يعد، يا متصرفين في إطلاق الأبصار جاء توقيع العزل {قُلْ للمؤمنينَ يَغُضُّوا من أبصارِهِم} إطلاق البصر ينقش في القلب صورة المنظور والقلب كعبة «ويسعني» وما يرضي المعبود بمزاحمة الأصنام.
عيناي أعاننا على سفك دمي ** يا لذة لحظة أطالت ألمي

كم أندم حين ليس يغني ندمي ** ويلي ثبت الهوى وزلت قدمي

يا مطلقًا طرفه لقد عقلك، يا مرسلًا سبع فمه لقد أكلك، يا مشغولًا بالهوى مهلًا قتلك، بادر رمقك فقد رمقك، بالرحمة من عذلك.
للمهيار:
عثرتَ يومَ العذيب فاستقلِ ** ما كلُّ ساعٍ يُحسُّ بالزلل

ما سلمتْ قبلك القلوب على ** الحسن ولا الراجمونَ بالمقلِ

سافر طرفي يوم الظعائن بالسَّفْـ ** ـحِ وآبَ الفؤادُ بالخبلِ

نظرة غرٍّ جنت مقارعة ** يفتك فيها الجبان بالبطل

حصلت منها على جراحتها ** واستأثر الظاعنون بالنفل

إذا لاحت للتائب نظرة لا تحل، فامتدت عين الهوى، فزلزلت أرض التقى ونهض معمار الإيمان {وأَلْقَى في الأرضِ رواسيَ أنْ تميدَ بكُمْ} لاحت نظرة لبعض التائبين، فصاح:
حلفت بدين الحب لا خنت عهدكم ** وتلك يمين لو علمت غموس

إذا خيم سلطان المعرفة بقاع القلب، بث جنده في بقاع البدن، فصارت السباخ رياضًا لرياضة ساكن في القلب يعمره إذا نزل الحبيب ديار القلب لم يبق فيه نزالة.
وكان فؤادي خاليًا قبل حبكم ** وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح

فلما دعا قلبي هواك أجابه ** فلست أراه عن فنائك يبرح

رميت ببعد منك إن كنت كاذبًا ** وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح

فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل ** فلست أرى قلبي لغيرك يصلح

أول منازل القوم، عزفت نفسي عن الدنيا، وأوسطها لو كشف الغطاء، ونهايتها ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله فيه.
وما تطابقت الأجفان عن سنة ** إلا وجدتك بين الجفن والحدق

وهل ينام حزينٌ موجعٌ قلقٌ ** أجفانه وكلت بالسهد والأرق

شغلت نفسي عن الدنيا ولذتها ** فأنت والروح شيء غير مفترق

فلم تعذبها بالصد يا أملي ** ارحم بقية ما فيها من الرمق

أرواح المحبين خرجت بالرياضة من أبدانها العادات، وهي في حواصل طير الشوق ترفرف على أطلال الوجد، وتسرح في رياض الأنس عند المحبين شغل عن الجنة فكيف يلتفتون إلى الدنيا؟، ما ترى عين المحبين إلا المحبوب، فبي يسمع وبي يبصر.
أنت عين العين إن نظرت ** ولسان الذكر إن ذكرا

أنت سمعي إن سمعت به ** أنت سر السر إن خطرا

ما بقي لي فيك جارحة ** كلها يا قاتلي أسرا

باتت قلوبهم يقلقها الوجد، فأصبحت دموعهم يسترها الجفن، فإذا سمعوا ناطقًا يهتف بذكر الحبيب، أخذ جزر الدمع في المد، من أقلقه الخوف، كيف يسكن؟ من أنطقه الحب، كيف يسكت؟، من آلمه البعد، كيف يصبر؟ سل عنهم الليل فعنده الخبر، أتدري كيف مر عليهم؟ أبلغك ما جرى لهم؟ أيعلم سال كيف بات المتيم؟، افترشوا بساط قيس، وباتوا بليل النابغة، إن ناحوا فأشجى من متيم، وإن ندبوا فأفصح من خنساء، اجتمعت أحزاب الأحزان، على قلب الخائف، فرمت كبداء الخوف الكبد فوصل نصل القلق ففلق حبة القلب فانقلب فصاح الوجد من شاء اقتطع، فلو رأيت فعل النهاية لرحمت المتمزق.
للمهيار:
أيها الرامي وما أجرى دمًا ** لا تجنب قد أصبتُ الغرضا

اطلبوا للعين في أثنائه ** نظرةً تكحِلُها أو غُمُضا

طال حبس المحبين في الدنيا عن الحبيب، فضجت ألسن الشوق فلو تيقظت في الدجى سمعت أصوات أهل الحبوس.
للمصنف:
طال ليلي وداما ** ومنعت المناما

وجد الوجد عندي ** منذ بانوا مقاما

ليتهم حين راحوا ** ودعوا مستهاما

سار قلبي وجسمي ** لم يسر بل أقاما

لست أدري فؤادي ** إذ غذوا أين هاما

حبهم قرت قلبي ** منذ كنت غلاما

حملوا ضعف قلبي ** يذبلا وشماما

كم رموني برشقٍ ** وأحدوا سهاما

ما لعيني تبكي ** إن سمعت حمانا

كلما ناح رشت ** فظننت الغماما

هل نسيم لكربي ** أين ريح الخزامى

هجركم يا حبيبي ** كان موتًا زؤاما

أكل اللحم مني ** ثُم أبلى العظاما

صار ليلي نهارًا ** ونهاري ظلاما

إنما بتُّ أشكو ** لوعتي والغراما

فاعذروا أو فلوموا ** ما أبالي الملاما

إفرجوا عن طريقي ** قد خلعت اللجاما

ورميت سلاحي ** وكشفت اللثاما

أسعدوني فإني ** قد فنيت سقاما