فصل: الفصل الثامن والسبعون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل السابع والسبعون:

إذا هبت رياح المواعظ أثارت من قلوب المتيقظين غيم الغم على ما سلف، وساقته إلى بلد الطبع المنحرف برعد الوعيد وبرق الخشية، فتترقى دموع الأحزان من بحر قعر القلب إلى أوج الرأس فتسيل في ميازيب الشئون على سطوح الوجنات فإذا أعشب السر اهتز فرحًا بالإنابة.
محت بعدكم تلك العيونُ دموعَها ** فهل من عيون بعدها نستعيرها

رحلنا وفي سر الفؤاد ضمائرٌ ** إذا هب نجدي الصبا يستثيرها

أتنسى رياض الغَورِ بعد فراقها ** وقد أخذ الميثاق منك غديرَها

يجعده مر الشمال وتارة ** يغازله كر الصبا ومرورها

الأهل إلى شم الخزامى وعرعر ** وشيح بوادي الأثل أرض نسيرها

ألا أيها الركب العراقي بلّغوا ** رسالة محزونٍ خواه سطورها

إذا كتبت أنفاسه بعض وجدها ** على صفحة الذكرى محاه زفيرها

ترفق رفيقي هل بدت نار أرضهم ** أم الوجد يذكي ناره ويثيرها

أعد ذكرهم فهو الشفاء وربما ** شفى النفس أمر ثم عاد يضيرها

ألا أين أزمان الوصال التي خلت ** خلا ما حلا منها وجاء مريرها

سقى الله أيّامًا مضت ولياليًا ** تضوع رياها وفاح عبيرها

من تفكّر في تفريطه أنَّ، ومن تذكر أيام وصله حنّ، من سمع صوت الحمام ظنه لحسن الصوت، كلا بل لذكر ما مر من العيش، إذا نظر الأسير إلى نفسه في ضيق القد ولم يقدر على ضك القيد قطع حزنه حيازيم القلب فنفسه بالأسف في آخر نفس.
تهيم إذا ريح الصبا نسمت لها ** وتبكي إذا الورقاء في الغصن غنت

إذا جذب الصبح اللثام تأوهت ** وإن نشر الليل الجناح أرنت

كان داود يؤتى بالإناء ناقصًا فلا يشربه حتى يتمه بالدموع.
يا ساقي القوم إن دارت علي فلا ** تمزج فإني بدمعي مازج كأسي

كان في خد عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء وكان في وجه ابن عباس كالشراكين الباليين من الدمع.
للمهيار:
ألا من لعين من بكاها على الحمى ** تجف ضروع المزن وهي حلوب

بكت وغدير الحي طام وأصبحت ** عليه العطاش الحائمات تلوب

وما كنت أدري أن عينًا ركية ** ولا أن ماء الماقيين شروب

كان الحسن يبكي حتى يرحم، وكان الفضيل بن عياض يبكي في النوم حتى ينتبه أهل الدار ببكائه. وكان عطاء يبكي في غرفة له حتى تجري دموعه في الميزاب، فقطرت يومًا إلى الطريق على بعض المارين فصاح يا أهل الدار: أماؤكم طاهر؟ فصاح عطاء: اغسله فإنه دمع من عصا الله.
وممن لبه مع غيره كيف حاله ** ومن سره في جفنه كيف يكتم

وقالوا لعطاء السلمي: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن أبكي حتى لا أقد أن أبكي.
وإن شفائي عبرة مهراقة ** فهل عند رسم دارس من معول

كان أشعث الحداني وحبيب العجمي يتزاوران فيبكيان طول النهار وكان حزام وسهيل وعبد الواحد كل واحد في بيت يتجاوبون بالبكاء.
للخفاجي:
ركب هوى تجاذبوا حديثه ** فاترعوا من الغرام أكؤسا

واسبلوا من الجفون أدمعًا ** ظننتها ماءً وكانت أنفسا

لقد سمعت في الرحال أنَّةً ** أظنها نشطة وجد حبسا

البكاء موكل بعيون الخائفين كلما همت بفتح طرف لتنظر إلى طرف من طرف الدنيا طرفته دمعة، قال عليه السلام: «عينان لا تمسّهما النار، عين بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله». قال الحسن: لو بكي عبد من خشية الله لرحم من حوله ولو كانوا عشرين ألفًا. وقيل لثابت البناني عالج عينيك ولا تبك. فقال: أي خير في عين لا تبكي.
لصردر:
إذا لم أفز منكم بوعدٍ ونظرةٍ ** إليكم فما نفعي بسمعي وناظري

متى غنت الورقاءُ كانت مدامتي ** دموعي وزفراتي حنين مزاهري

البكاء لأجل الذنوب مقام المريد، والبكاء على المحبوب مقام العارف.
روحي إليك بكلها قد أجمعت ** لو كان فيك هلاكها ما أقلعت

تبكي عليك بكلها عن كلها ** حتى يقال من البكاء تقطعت

فانظر إليها نظرة بتعطفٍ ** فلطالما متعتها فتمتعت

إخواني: حر الخوف صيف الذوبان وبرودة الرجاء شتاء الغفلة. ومن لطف به كان زمانه كله فصلا:
عين تسر إذا رأتك وأختها ** تبكي لطول تباعدٍ وفراق

فاحفظ لواحدة دوام سرورها ** وعِد التي أبكيتها بتلاق

سبحان من روح أرواح الخائفين بريح الرجاء الضعيف، إذا لم يتلاف تلف لا بد للمكروب من نسيم بارد:
بالله يا ريح الشمال ** إذا عزمت على الهبوب

فتحملي شكوى المحب ** المستهام إلى الحبيب

قرب الضنى من مهجتي ** لما بعدت عن الطبيب

وقفت عتبة الغلام ليلة على ساحل البحر إلى الصباح يقول: إن تعذبني فإني لك محب، وإن ترحمني فإني لك محب. يا قومنا المحب مع بذل روحه يرتاح إلى المنى وإلى لعل لأنه لا يرى ما بذل، يصلح ثمنًا لما طلب:
بقلبي منهم علق ** ودمعي فيهم علق

وبي من حبهم حرق ** لها الأحشاء تحترق

وما تركوا سوى رمقي ** فليتهم له رمقوا

كان عبد الواحد يقول لعتبة: أرفق بنفسك فيبكي ويقول: إنما أبكي على تقصيري.
قالوا تصبر فما هذا الجنون بهم ** فقلت يا قوم ليس القلب من قبلي

واعجبًا، أو يقدر المحب على التصرف في قلبه؟ كلا دين المحب الجبر. لأبي الشيص الخزاعي:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ** متأخر عنه ولا متقدم

أجد الملامة في هواك لذيذة ** حبًا لذكرك فليلمني اللوم

دخلوا على رابعة فقالت: لقد طالت عليَّ الأيام بالشوق إلى لقاء الله تعالى: ودخلوا عليها مرة أخرى فقالوا: أتشتاقين إليه؟ فقالت: هو حاضر معي. قالوا: يا رابعة هذا ضد الأول، أجابت بلسان الحال: هكذا تحير المحب.
ومن عجب أني أحن إليهم ** وأسأل عنهم من أرى وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادها ** ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

إذا بدت رابعة في القيمة مختمرة وقعت لهيبة خمارها طيالسة العلماء، كان سفيان يتأدب لرابعة كان هو صاحب مخزن العلم فتردد إلى القهرمانة لأن لها دخولًا أكثر منه رحل الملاك وبقي المدعون، أترى أي طريق سلكوا؟ نحن ملكنا والقوم ملكوا.
للشريف الرضي، وللمهيار:
يا صاحبَيْ رَحْلي قِفا ** فسائلا لي الدِّمَنا

وامطرا دمعكما ** ذاك الكثيب الأيمنا

ما الدار عندي سكن ** إذا عدمت السكنا

كان فؤادي وهمُ ** فظعنوا فظَعِنا

مُنىً لعيني أن ترى ** تلك الثلاث من منى

ويوم سلع لم يكن ** يومي بسلع هينا

ويوم ذي البان ** تبايعنا فحزتُ الغبنا

كان الغرام المشترى ** وكان قلبي الثمنا

وبارق أشيمه ** كالطرف أغضى ورنا

ذكرني الأحباب ** والذكرى تهيج الحزنا

من بطن مر والسرى ** تؤام عسفان بنا

وبالعراق وطرى يا ** بعد ما لاح لنا

.الفصل الثامن والسبعون:

المحب يتعلق بكل شيء ويهيم في كل واد، على القلق يمشي وعلى الحرق يمسي:
بقيت على الأطلال من بعدكم ملقى ** أهيم بكمُ غربًا وأطلبكم شرقا

وأسأل أنفاس الرياح إذا جرت ** يمانية عنكم وأستنبؤ البرقا

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء ويبدو إلى التلاع. مقاساة الخلق ظلمة، والحبيب لا يتجلى إلا في خلوة.
وأخرج من بين البيوت لعلني ** أحدث عنك النفس في السر خاليا

المحب مقتول بلا سيف ملقى في منى المنى لا عند الخيف، إذا سمع صوت منشد قد غرد خلع لجام الصبر وتشرد.
ولما غرد الحادي ** وسار القوم في الوادي

وراح القلب يتبعهم ** بلا ماء ولا زاد

رأيت قتيل بينهم ** صريعًا ما له فاد

أول علامات المحبة دموع العين وأوسطها قلق القلب ونهايتها احتراقه.
لقيس ذريح:
هل الحب إلا زفرة بعد زفرة ** وحر على الأجساد ليس له برد

وفيض دموع تستهل إذا بدا ** لنا علم من أرضكم لم يكن يبدو

قال ذو النون: لقيت امرأة متعبدة فوعظتني فبكيت فقالت: لم تبكي؟ قلت لها: أو العارف لا يبكي؟ قالت: إذا بكى استراح ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه.
لا وحبيك لا أصافح ** بالدمع مدمعا

من بكى شجوه استراح ** وإن كان موجعا

كبدي في هواك ** أهون من أن تقطعا

لم تدع سورة الضنى ** فيَّ للسقم موضعا

المحبة نزالة وقوتها المهج. كانت أضلاع عمر بن عبد العزيز تعد، وكان جسد سرى كالشن. وقف أبو يزيد في المحراب فكبر فتقعقعت عظامه.
وإني لتعروني لذكراك روعة ** لها بين جلدي والعظام دبيب

فما هو إلا أن أراها فجأة ** فأبهت حتى لا أكاد أجيب

إذا رأيت محبًا ولم تدر لمن؟ فضع يدك على نبضه. وسم كل من تظنه المحبوب، فإن النبض لا ينزعج إلا عند ذكره {إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم}.
للمهيار:
ألا فتى يسأل قلبي ماله ** ينزو إذا برق الحمى بداله

فهب يرجو خبرًا من الحمى ** يسنده عنه فما روى له

أراد نجدًا معه فانتقضت ** إرادة هاجت له بلباله

وانتسم الريح الصبا ومن له ** بنفحة من الصبا طوبى له

المحب في قلق لا سكون، والعجب أنه يتكلف الثبات.
الوجد يحركه والليل يقلقه ** والصبر يسكته والحب ينطقه

ويستر الحال عمن ليس يعذره ** وكيف يستره والدمع يسبقه

المحب مبالغ في كتمان وجده، غير أن الدمع نمام.
آفة السر من جفو ** ن دوام دوامع

كيف يخفى من الدمو ** ع الهوامى الهوامع

كان أكثر القوم، إذا جائه البكاء دافعه، اتقاء اللاحي له، فيغلبه فلا حيلة له.
للمتنبي:
حاشى الرقيب فخانته ضمائره ** وغيَّض الدمع فأنهلت بوادره

وكاتم الحب يوم البين مفتضح ** وصاحب الوجد لا تخفى سرائره

إذا أقلقه الحب ضج، وإذا أرقه الشوق عج، وكلما حبس دمعه ثج، وإذا استوحش من الخلق هج، فالهموم تنوبه من كل فج، حشيت قلوب القوم بالغموم، حشو الورد في قوارير الزور، وكلما التهبت نار الحذر جرت عيون الدمع في جداول العيون فرشت على الخدود ماء، ما ماء الورد عنده بطيب.
لأبي المعتز:
أسر القلب فأمسى لديه ** فهو يشكوه ويشكو إليه

عذب الأحباب بالهجر حينًا ** فهم يبكون بين يديه

واعجبًا لضعف بدن العارف كم يحمل؟ وآسفا لقلب المحب كم يصبر.
نعم تحمل الأشواق والعيس ظلع ** ويمشي الهوى والناقلات قعود

ما أقوى جلد جلد القلب على نار الحب، كأنه قد ألبس ريش السمندل على أنه لا بد من لذع يبين أثره في صعود الصعداء دلالة تدل على الحريق، اشتط اللهيب فشاطت القلوب لولا أن القوم على شواطي بحر الدموع نزول.
للشريف الرضي:
خذي حديثك في نفس من النفس ** وَجْدُ المَشوق المُعَنَّى غير ملتبس

الماء في ناظري والنار في كبدي ** إن شئتِ فاغترفي أو شئت فاقتبسي

أشد ما على المحب من مقاساة الحب سماع اللوم، واعجبًا من خلي يعذل ذا شجا ويحك خل شأنه وشانه.
فيا حبهم زدني جوى كل ليلة ** ويا سلوة الأيام موعدك الحشر

لما أسلم سعد بن أبي وقاص قالت له أمه: والله لا آكل ولا أشرب ولا يظللني سقف بيت حتى تكفر بمحمد. فقال: اسمعي يا أماه، والله لو كان لك مائة نفس فخرجت واحدة بعد واحدة لم أكفر بمحمد. ويحها ما خبرت خبر المحبة؟ متى وقع السلو في حب صادق؟ للمتنبي:
عذل العواذل حول قلبي التائه ** وهوى الأحبة منه في سودائه

القلب أعلم يا عذول بدائه ** وأحق منك بجفنه وبمائه

فومن أحب لأعصينك في الهوى ** قسمًا به وبحسنه وبهائه

أأحبه وأحب فيه ملامة ** إن الملامة فيه من أعدائه

لا تعذل المشتاق في أشواقه ** حتى تكون حشاك في أحشائه

واعجبًا لعاذل في حب ما ذاقه، وآمر بهجر حبيب ما شاقه.
وماذا على مفرد بالعراق ** تذكر بالرمل عهدًا فحنا

وإني لكل شج عاذر ** إذا ناح من طرب أو تغنى

كانت أم الربيع بن خيثم إذا رأت قلقه بالليل. قالت: يا بني لعلك قتلت قتيلًا فيقول يا أماه قتلت نفسي، قيل لعابد كان ينتحب: إنك تفسد على المصلين صلاتهم بارتفاع صوتك. فقال: إن حزن القيامة أورثني دموعًا غزارا، فأنا أستريح إلى ذرفها أحيانا.
مهلًا عذول صليت نار جوانحي ** وغرقت في تيار دمعي المسيل

هذي حشاي لديك فانظر هل ترى ** قلبًا فإن صادفت قلبًا فاعذل

غاية العاذلين إيصال اللوم إلى الأسماع، فأما القلوب فلا سبيل إليها.
سيان إن لاموا وإن عذروا ** ما لي عن الأحباب مصطبر

لا غرو إن أغرى بحبهم ** إذ ليس لي في غيرهم وطر

لا بد لي منهم وإن تركوا ** قلبي بنار الهجر يستعر

وعلي أن أرضى بما صنعوا ** وأطيعهم في كل ما أمروا

لو رأيت المحب يهرب من العذل إلى فلوات الخلوات، فإذا ناوله الوجد كأس الدموع اقترح عليه غناء الحمائم.
ذكر الأحباب والوطنا ** والصبا والألف والسكنا

فبكى شجوًا وحق له ** مدنف بالشوق حلف ضنى

أبعدت مرمى به رجمت ** من خراسان به اليمنا

من لمشتاق تميله ** ذات سجع ميلت فننا

لم تعرض في الحنين بمن ** مسعد إلا وقلت أنا

لك يا ورقاء أسوة من ** لم تذيقي طرفه الوسنا

بك أنسي مثل أنسك بي ** فتعالى نبد ما كمنا

نتشاكى ما نجن إذا ** بحت شكوى صحت واحزنا

أنا لا أنت البعيد هوى ** أنا لا أنت الغريب هنا

أنا فرد يا حمام وها ** أنت والألف القرين ثنا

اسرحا رأد النهار معًا ** واسكنا جنح الدجى غصنا

وابكيا يا جارتي لما ** لعبت أيدي الفراق بنا

أين قلبي ما صنعت به ** ما أرى صدري له وطنا

كان يوم النفر وهو معي ** فأبى أن يصحب البدنا

أبه حادي الرفاق حدا ** أم له داعي الفراق عنى