فصل: الفصل الثالث والتسعون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الثالث والتسعون:

سبحان من فاوت بين القلوب فمنها ما لا يصلح إلا لخدمة الدنيا ومنها ما لا يصلح إلا للتعبد ومنها روحاني مشغول بمحبة الخالق. للمتنبي:
أروح وقد خمنتُ على فؤادي ** بحبكَ أن يحل به سواكا

فلو أني استطعت غضضت طرفي ** فلم أبصر به حتى أراكا

أحبكَ لا ببعضي بل بكلي ** وإن لم يبق حبك لي حراكا

ويقبح من سواك الفعل عندي ** فتفعله فيحسن منك ذاكا

وفي الأحباب مختص بوجد ** وآخر يدعي معه اشتراكا

إذا اشتبكت دموع في خدود ** تبين من بكى ممن تباكى

فأما من بكى فيذوب شوقًا ** وينطق بالهوى من قد تباكى

النهار يزيد في كرب المحب والليل يروحه السحر روضة نجدية يجد فيها المحب ضالة وجده، شراب المناجاة يروي ظمأ العشاق، لو رأيت المحب في الليل يتقلقل ويناجي حبيبه ثم يتململ وكلما أزعجه الشوق تحير وتبلبل، وما ألذ ما يصف حاله ويتعمل.
أحباي أما جفن عيني فمقروح ** وأما فؤادي فهو بالشوق مجروح

يذكرني مر النسيم عهودكم ** فأزداد شوقًا كلما هب الريح

أراني إذا ما الليل أظلم أشرقت ** بقلبي من نار الغرام مصابيح

أصلي بذكراكم إذا كنت خاليًا ** إلا أن تذكار الأحبة تسبيح

يشح فؤادي أن يخامر سره ** سواكم وبعض الشح في المرء ممدوح

لو لبس أحد المحبين حلة علم أنه من الزهاد، كيف يخفي الليل بدرًا طالعًا، كم بالغوا في كتم الحال؟ وستر المحب محال:
أسائل عمن لا أريد وإنما ** أريدكم من بينهم بسؤالي

فيعثر ما بين الكلام ورجعه ** لساني بكم حتى ينم بحالي

وأطوي على ما تعلمون جوانحي ** وأظهر للعذال أني سال

كلما قوي حامل المحبة، زيد في حمله، «نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاءًا ثم الأمثل فالأمثل» فوران قدر القلب من قدر شدة الإيقاد، كان يسمع لصدر الخليل أزيز من بعيد خوفًا من الله تعالى وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي ولخوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء، كان الوحي إذا نزل عليه وهو على ناقته أثر فيها فربما وتدت بيديها في الأرض وربما بركت لثقل الوحي.
للشريف الرضي:
أحست بناري في ضلوعي فأصبحت ** يخب بها حر الغرام ويوضع

تحنين إلا أن بي لأبك الهوى ** ولي لا لك الألف الخليط المودع

وباتت تشكي رحلي ضامرًا ** كلانا إذن يا ناق نضو مفجع

أماعت قلوبهم بالخوف فهاتبهم الجوامد فالحجر يسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم والسكين لا تعمل في الذبيح، مالك أيتها المدية وعادتك القطع؟ قالت بلسان الحال: أخواتي تحز رقاب الكفار، وأنا قد ابتليت بقطع عنق إسماعيل فقد وقفت مدهوشة بالبلوى فعندي شغل، قطع يد زليخا يجوز فأما يد يوسف فمشكل أتراك تحلو لك عباراتي؟ أو تفهم إشاراتي، كم أجلو عليك عرائس المحبة؟ ولست كفؤًا، وإنما يحل النظر لمن يعقد، أقل أحوال القوم رفض الهوى وهذا كالمستحيل عندك، كانوا إذا ابتلوا صبروا ثم صاروا إذا ابتلوا شكروا، ثم رأوا في البلى المبتلى، فسكروا أين الذين أصفهم؟ مروا وعبروا.
ليس بالصب من يحرك بالشكوى ** لسانًا ويودع الدمع خدا

أيها الوامق الذي جعل الكتمان ** بين الوشاة والحب سدا

صاح لولا صوني الغرام لأجريت ** دموعًا توفى على البحر مدا

قل لحي على اللوى والكثيب الفرد ** جاد الحيا الكثيب الفردا

قد وقفنا من بعدكم نسأل البان ** ضلالًا عنكم ونشكو الرندا

أين تبغي يا حادي الركب أفنيت ** المطايا سيرًا ذميلًا ووخدا

قف قليلًا في الربع وارفق فما أبقيت ** منها إلا عظامًا وجلدا

فلدار الهوى علينا حقوق ** إن تركنا أداءها كان ادا

يا بني الورد والوفاء وما أسمع ** إلا قولًا وفاءًا وودا

لم نقضتم من غير جرم عهودًا ** ما نقضنا منها على الرمل عهدا

كم أنشر بز المحبة ولا أرى إلا مفلسًا، تنزهوا في السلع فسهل على طي المنشور، ما أحلى ذكر الأحباب ما أطيب حديث أولي الألباب.
لصردر:
إيه أحاديث نعمان وساكنه ** إن الحديث عن الأحباب أسمارُ

أفتش الريح عنكم كلما نفحتْ ** من نحو أرضكم نكباء معطارُ

تمكن الحب من حبات قلوبهم فأخرجهم إلى الوله فلو رأيتموهم لقلتم مجانين.
قد لج بي الغرام حتى قالوا ** قد جن بهم وهكذا البلبال

الموت إذا رضيتم سلسال ** في مثل هواك ترخص الآجال

كانت رابعة تقول: لقد طالت علي الأيام والليالي بالشوق إلى الله تعالى.
أمرت عنك بصبر ** وليس لي عنك صبر

يا آمري بالتسلي ** ما لي مع الشوق أمر

قال الشبلي: رأيت جارية حبشية فقلت من أين؟ قالت من عند الحبيب، قلت: وإلى أين؟ قالت: إلى الحبيب، قلت: ما تريدين من الحبيب؟ قالت: الحبيب.
وجدي بكم وصفو ودي لكم ** والقلب فمذ نأيتم عندكم

عيني عين لبعدكم بعدكم ** لو شقوا قلبي لما رأوا غيركما

.الفصل الرابع والتسعون:

يا هذا اشتغلت بفنون تعليلك عن ذكر تحويلك وستسلب من أخيك وخليلك وعلى تخبيطك وتخييلك.
كأنك بالمضي إلى سبيلك ** وقد جد المجهز في رحيلك

وجيء بغاسل فاستعجلوه ** بقولهم له أفرغ من غسيلك

ولم تحمل سوى كفن وقطن ** إليهم من كثيرك أو قليلك

وقد مد الرجال إليك نعشًا ** فأنت عليه ممدود بطولك

وَصَلوا ثم إنهم تداعوا ** لحملك في بكورك أو أصيلك

ولما أسلموك نزلت قبرك ** ومن لك بالسلامة في نزولك

أعانك يوم تدخله رحيم ** رؤف بالعباد على دخولك

فسوف تجاور الموتى طويلًا ** فدعني من قصيرك أو طويلك

أخي إني نصحتك فاستمع لي ** وبالله استعنت على قبولك

ألست ترى المنايا كل يوم ** تصيبك في أخيك وفي خليلك

إخواني ما من الموت بدّ، باب البقاء في الدنيا قد سد كم قد في القبر قد قد؟ كم خد في الأخدود خد؟ يا من ذنوبه لا تحصى إن شككت عد، يا من أتى باب الإنابة كاذبًا فرد لقد حملت على نفسك ما يثقلها، فحسبك ما قد مضى أتقتلها؟ يا طول سفرة الموت أولها أين جزع النفس؟ أين تململها؟ كأنها بالمرض قد نزل يزلزلها ويعث إليها رائد الأسف يستعجلها، الحذر الحذر فقد فوق السهام مرسلها، الدروع الدروع فقد جلى السيوف صيقلها ما هذه الخصال المذمومة؟ أتؤثر العقول لذة مسمومة؟ ما هذا الحرص؟ والأرزاق مقسومة، أنسيت يوم تنشر الصحف المختومة؟ أما تعلم أنها ستظهر قبائح مكتومة؟ يا لها لوعظة بين المواعظ كالأيام المعلومة أحسن من اللآلئ المنثورة وأعجب من العقود المنظومة العلم والعمل توأمان أمهما علو الهمة.
أيها لمعلم تثبت على المبتدى {وقدِّر في السَّرْدِ} فللعالم رسوخ وللمتعلم قلق، ويا أيها الطالب تواضع في الطلب فإن التراب بينا هو تحت الأخمص صار طهور للوجه، السهر مرقي إلى أطيب مرقد:
الهون في طلب الهوينا كامن ** وجلالة الأخطار في الأخطار

قلب العالم بحر ما للجنة قرار، إذا نزل غواص الفكر ترقى إلى ساحل اللسان قدر الإمكان، مياه المعاني مخزونة في صدر العالم تفتح لزرع قلبه. سيحًا بعد سيح، ويدخر أصفاها قوتًا للروح، فإذا تكاثرت عليه صاح السيل العالم ينفخ في صور فيه بعبارة التخويف فيموت هوى العاصي ثم ينفخ في صور التشويق فيحيي روح المعرفة فيخرج التائب من قبر غفلته في كفن يقظته وقد بدلت الأرض غير الأرض فيفتح له رضوان الرضا باب جنة الوصل.
لا تظنوا العالم شخصًا واحدًا، العالم عالم تصانيف العالم أولاده المخلدون دون أولاده، من خلق للعلم شف جوهره من الصغر فتراه ينفق في الجد بضاعة الشبيبة ويسابق سائق العجز، يصل الكدود ليله بنهاره، كدود القز في زمان الشدة فإذا امتلأ وعاء قلبه بما وعى نسج الفهم في زوايا الذهن من المعاني المستنبطة نسج القز فإذا رأى عريانًا من العلم فأراد كسوته بعث الفكر فسل من لطائف اللطف طاقات ثم أرسلها إلى صانع القوة فبالغ في تحسينها وتأنق في تلوينها ثم ينسجها اللسان على منوال البلاغة فتظهر رقوم نقوشها عن شدود عقدتها الفطن الباطنة فإذا الثوب نسيج وحده ومثل تلك المطارف الطرائف لا تبتذل إلا في عيد مجلس الذكر، ليس كل من ربى دود القز سلالًا ولا كل قزاز سقلا طونيا.
آه، من اشتراك الأسماء وتلقيب القصدير بالبيع، ليس كل معدن عرق الذهب، ولا في بطن كل غزال مسك، ليس من عام في قرار البحر حتى وقع بالدر اليتيم كمن قعد على الساحل يجمع الصدف، أمراء العبارات رعية لفصاحتي، ويك إنه كيل بلا ثمن سقى فصاحتي سيح فقد تضاعفت علي زكاة الشكر، سافر لفظي ببضائع فكري من أرض قلبي إلى بادية فمي فسلم سلع النطق إلى منادي لساني هيهات فواكه الألفاظ اللذيذة في مذاق الأفهام السليمة ليس لها ثمن. فهو يعرضها في موسم النصح على تجار الإرادة، فمن منكم يشتري حكمة بقبول؟ قد يرى علو مكاني وينسى الدرج كم قد خضت بحرًا ملحًا؟ حتى وقعت بعذب، كم قطعت مهمهًا وحدي؟ حتى سميت بالدليل أنضيت مركب الجسم ورفضت شهوات الحس وواصلت الليل بالنهار في الجد وأوقدت في دجى الهوى نار الصبر فإن وثقتم بأمانتي فهذا تخيير الشراء:
شربت لأغلالي رحيقًا بسلسال ** من الشاهق العالي على غير تصريد

فأصبحت نشوانًا من الشرب سكرانا ** وأطرب أحيانًا بلا نغمة العود

وكم جبت من وادٍ وسرت بلا حاد ** وبتُّ بلا زادٍ سوى ذكر معبودي