فصل: الفصل الثاني عشر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الحادي عشر:

أيتها النفس، أقلعي عن الجناح وتوبي، وراجعي إلى الصلاح وأوبي، أيتها النفس قد شان شاني عيوبي، أيتها الجاهلة تكفيني ذنوبي:
يا ويح نفسي من تتابع حوبتي ** لو قد دعاني للحساب حسيبي

فاستيقظي يا نفس ويحك واحذري ** حذرًا يهيج عبرتي ونحيبي

واستدركي ما فات منك وسأبقى ** سطوات موت للنفوس طلوب

وابكي بكاء المستغيث واعولي ** إعوال عان في الوثاق غريب

هذا الشباب قد اعتللت بلهوه ** أفليس ذا يا نفس حين مشيبي

هذا النهار يكر ويحك دائبًا ** يجري بصرف حوادث وخطوبِ

هذا رقيب ليس عني غافلًا ** يحصي علي ولو غفلت ذنوبي

أوليس من جهل بأني نائم ** نوم السفيه وما ينام رقيبي

آه لنفسي تركت يقينها وتبعت آمالها، ما لها؟ جهلت ما عليها وما لها، أما ضربت العبر؟ بأخذ أمثالها أمثالها، من لها؟ إذا نازلها الموت فغالها، وأخذ منها ما نالها وقد أنى لها، ليتها تفقدت أمورها، أو شهدت أحوالها، تحضر المجالس بنية، فإذا قامت بدا لها، ويحها لو ترى أجزآءا من مالها لهالها.
لابن المعتز:
وكم دهى المرء من نفسه ** فلا تؤكلن بأنيابها

وإن مكنت فرصة في العدو ** فلا تبدو فعلك إلا بها

قال أبو زيد: رأيت الحق في المنام، فقلت: يا رب كيف أجدك؟ قال: فارق نفسك وتعال.
جاء رجل إلى أبي علي الدقاق، فقال: قد قطعت إليك مسافة، فقال: ليس هذا المر بقطع المسافات، فارق نفسك بخطوة وقد حصل لك مقصود، لو عرفت منك نفسك التحقيق لسارت معك في أصعب مضيق، لكنها ألفت التفاتك، فلما طلبت قهرها، فاتك، هلا شددت الحيازم، وقمت قيام حازم، وفعلت فعل عازم، وقطعت على أمر جازم، تقصد الخير ولكن ما تلازم:
ويعرف أخلاق الجبان جوادُه ** فيجهده كرًا ويرهبه ذعرا

ومن كل تطلاب المعالي بصدره ** بحد حلو ما يعطاه من غير هامرا

حريم العزم الصادق حرام على المتردد، متى تحزم العزم هزم، لو رأيت صاحب العزم وقد سرى حين رقدت السراحين، بهمة تحل فوق الفرقد فلنفسه نفاسة ولإنفه إنفة، سهم الشهم مفوق عرضة الغرض.
كان الفضيل ميتًا بالذنوب، وابن أدهم مقتولًا بالكبر، والسبتي هالكًا بالملك، والجنيد من جيد الجند، فنفخ في صور المواعظ، فدبت أرواح الهدى في موتى الهوى، فانشقت عنهم قبور الغفلة، وصاح إسرافيل الاعتبار {كذلك يحيي الله الموتى} إنما سمع الفضيل آية، فذلت نفسه لها واستكانت، وهي (كانت) إنما زجر ابن أدهم بكلمة كلمت قلبه فانقلب، هايف عاتبه ولام أخرجه من بلخ إلى الشام كانت عقدة قلوبهم بأنشوطة، ومسد قلبك كله عقد، لاحت للقوم، جادة السلوك {قالوا ربنا الله ثم استقاموا}.
هيهات منك غبار ذلك الموكب، ركبوا سفين العزم فهبت لهم رياح العون، فقطعوا بالعلم لجج الجهل، فوصلوا إلى إقليم أرض الفهم فأرسلوا على ساحل بلد الوصل، إذا استصلح القدر أرض قلب قلبها بمحراث الخوف وبذر فيها حب المحبة، وأدار لها دولاب العين، وأقام ناطور المراقبة، فتربى زرع التقى على سوقه، أصفهم عند من؟ انثر الدر على دمن:
بلغ سلامي بالغوير جيرة ** قلبي وإن حالوا إليهم تائق

فارقتهم كرهًا وليت أنني ** للروح من دونهم مفارق

ولست أنساهم وإن تقطعت ** بالبعد فيما بيننا علايق

يا نفس، عند ذكر الصالحين تبكين، وعند شرح جدهم تأنين، وإذا تصورت طيب عيشهم تحنين، فإذا عرفت قيامهم بالخدمة تنكبين.
للمهيار:
أمن خفوق البرق ترزمينا ** حِنِّي فما أمنعك الحنينا

سيري يمينًا وسراك شأمةً ** فضلة ما تتلفّتينا

نعم تُشاقين وأشتاق له ** ونعلن الوجد وتكتمينا

فأين منا اليوم أو منك الهوى ** وأين نجد والمغوِّرينا

لما اشتغل القوم بإصلاح قلوبهم أعرضوا عن إصلاح أبدانهم، عري أويس حتى جلس في قوصرة، وقدم بشر من عبادان وهو متشح بحصير.
للسموءل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ** فكل رداء يرتديه جميل

وإن هول يحمل على النفس ضيمها ** فليس إلى حسن الثناء سبيل

كان أويس يلتقط النوى فيبيعه بما يفطر عليه، فإذا أصاب حشفة ادخرها لإفطاره، ويجمع الخرق من المزابل فيغسلها في الفرات ويرقعها ليستر عورته، ويفر من الناس فلا يجالسهم، فقالوا مجنون، لا تصح المحبة، حتى يمحي الاسم المعروف، باسم متجدد، فإن اسم قيس نسي، وعرف بالمجنون:
لولا جنوني فيك ما ** قعد العواذل لي وقاموا

أولى يلوم العاذلون ** وليس لي قلي يلام

بني أهل أويس له بيتًا على باب دارهم، فكانت تأتي عليه السنون لا يرون له وجهًا، وكان إذا خرج يمشي ضرب الصبيان عقيبه بالحجارة حتى تدمي، وهو ساكت ولسان حاله يقول:
ولقيت في حبيك ما لم يلقه ** في حب ليلى قيسها المجنون

لكنني لم أتبع وحش الفلا ** كفعال قيس والجنون فنون

لقي بعض الجند إبراهيم بن أدهم في البرية، فقال له: أين العمران؟ فأومى بيده إلى المقابر، فضربه فشج رأسه، فقيل له: هذا ابن أدهم فرجع يعتذر إليه فقال له إبراهيم: الرأس الذي يحتاج إلى اعتذارك تركته ببلخ:
عزى ذلي وصحتي في سقمي ** يا قوم رضيت بالهوى سفك دمي

عذالي كفوا فمن ملامي ألمي ** من بات على وعد اللقا لم ينم

مر رجل بابن أدهم وهو ينظر كرمًا فقال: ناولني من هذا العنب فقال ما أذن لي صاحبه، فقلب السوط وضرب رأسه، فجعل يطأطئ رأسه، ويقول: اضرب رأسًا طالما عصى الله:
من أجلك قد جعلت خدي أرضًا ** للشامت والحسود حتى ترضى

مولاي إلى متى بهذا أحظى ** عمري يفنى وحاجتي ما تقضى

لو قطعني الغرام إربًا إربًا ** ما ازددت على الملام إلا حبا

لا زلت بكم أسير وجد صبا ** حتى أقضي على هواكم نحبا

كان ابن أدهم يستغيث من كرب وجده، ويبول الدم من كثرة خوفه، فطلب يومًا سكونًا من قلقه، فقال: يا رب إن كنت وهبت لأحد من المحبين لك ما يستريح به، فهب لي، فقيل له في نومه: وهل يسكن محب بغير حبيبه؟
الجسم يذيبه الأسى والسهد ** والقلب ينوبه الجوى والكمد

هم قد وجدوا وهكذا ما وجدوا ** ما جن بهم مثل جنوني أحد

شوق وجوى ونار وجد تقد ** مالي جلد ضعفت ما لي جلد

.الفصل الثاني عشر:

عجبًا لذكر الموت كيف يلهو؟ ولخائف الفوت وهو يسهو، ولمتيقن حلول الليل ثم يزهو، وإذا ذكرت له الآخر مر يلغو.
لأبي العتاهية:
إني أرقت وذكر الموت أرَّقني ** فقلتُ للدمع أسعدني فأسعدني

إن لم أبك لنفسي مشعرًا حزنًا ** قبل الممات ولم آسف لها فمن

يا من يموت ولم تحزنه موتته ** ومن يموت فما أولاه بالحزن

لمن أثْمِّرُ أموالي وأجمِّعها ** لمن أروح لمن أغدو لمن لمن

لمن سيرفع بي نعشي ويتركني ** في حفرتي ترب الخدين والذقن

يا غافلًا عن الموت وقد لدغه، أخذ قرينه فقتله ودمغه، تأمل صنع الدهر بالرأس إذ صبغه، بأي حديث ترعوي أو بأي لغة؟ كم رأيت مغرورًا قبلك؟ كم شاهدت منقولًا مثلك؟ من أباد أقرانك؟ ومن أهلك أهلك؟ لقد نادى الموت وقال: أخذتم أماني يا أهل الأماني والآمال، أين من كان في روح وسعة؟ نقلته إلى مكان ما وسعه، أين من كان يسري آمنًا في سربه، أما قيل للتلف؟ خذه وسر به، أما عاقبة الألفة فرقة؟ أما آخر جرعة اللذة شرقة؟ أما ختما الفرح قلق وحرقة؟ أما زاد ذي المال إلى القبر خرقة؟ أعِرْ سمعك الأصوات، فهل تسمع إلا فلانًا مات؟ أجل بصرك في الفلوات فهل ترى إلا القبور الدارسات؟
قوض الموت طود عزهم الشا ** مخ قسرًا والدهر ذو حدثان

واسترد الذي أعار وللأ ** يام ظهرًا خشونة وليان

وإذا صاح صايح الموت في قو ** م غدوا كل واحد في مكان

يا ساكنًا مسكن من قد أزعج، يا شاربًا فضلة من شرق، تصحو في المجلس ساعة من خمار الهوى، ثم تسليك حميا الكأس، هيهات ليس في البرق اللامع مستمتع لمن يخوض الظلمة، كم أعطف عطفك بلجام العظة إلى عطفة اليقظة، فإذا انقضى المجلس عاد الطبع {ثانيَ عطْفِه} وتأبى الطباع على الناقل يا من قد لجج في لجة الهوى، قارب الساحل في قارب، دنا رحيل الرفقة وما اشتريت للمير قوت ليلة، كلما جد اللعب فتر النشاط في الجد، صحح نقدة عملك فقد انقرضت أيام الأسبوع، جوّد غزل عزمك، فلربما لم تسامح وقت الوزن، صابر غبش العيش فقد دنا فجر الأجر.
انتبه الاغتنام عمرك، فكم يعيش الحيوان؟ مد بحر القدرة، فجرى بمراكب الصور، فرست على ساحل إقليم الدنيا فعاملت في موسم الحياة مدة الجزر، ثم عاد المد فرد إلى برزخ الترب، فقذف محاسن الأبنية في حفر اللحود، وسيأتي طوفان البعث عن قرب، فاحذر أن تدفع دونك سفينة النجاة، فتستغيث وقت الفوت ولا عاصم كأنك بك في قبرك، على فراش الندم وأنه والله لأخشن من الجندل.
فازرع في ربيع حياتك قبل جدوبة أرض شخصك، وادخر من وقت قدرتك لزمان عجزك، واعتبر رحلك قبل رحيلك، مخالفة الفقر في القبر إلى لازم الأخذ {أن تقول نفسٌ يا حسرتا}.
يا هذا. مثل لنفسك صرعة الموت، وما قد عزمت أن تفعل حينئذ وقت الأسر، فافعله وقت الإطلاق.
لقيس بن ذريح:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها ** فكنت كآت حتفه وهو طائع

فيا قلب خبرني إذا شطت النوى ** بلبنى وبانت عنك ما أنت صانع

كأنك بحرب التلف قد قامت على ساق، وانهزمت جيوش الأمل وإذا بملك الموت قد بارز الروح، يجتذبها بخطاطيف الشدائد من تيار أوتار العروق، وقد أوثق كتاف الذبيح، وحار البصر لشدة الهول وملائكة الرحمة عن اليمين، قد فتحوا أبواب الجنة، وملائكة العذاب عن الشمال قد فتحوا أبواب النار وجميع المخلوقات تستوكف الخبر، والكون كله قد قام على صيحة، إما أن يقال: سعد فلان، أو شقي فلان، فحينئذ تتجلى أبصار {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري} ويحك تهيأ لتلك الساعة، حصل زادًا قبل العوز.
للصمة القشيري:
تمتع من شميم عرار نجد ** فما بعد العشية من عرار

وا أسفاه من حياة على غرور، وموت على غفلة، ومنقلب إلى حسرة، ووقوف يوم الحساب بلا حجة.
يا هذا، مثل نفسك في زاوية من زوايا جهنم وأنت تبكي أبدًا، وأبوابها مغلقة وسقوفها مطبقة وهي سوداء مظلمة، لا رفيق تأنس به، ولا صديق تشكو إليه، ولا نوم بريح ولا نفس، قال كعب إن أهل النار ليأكلون أيديهم إلى المناكب، من الندامة على تفريطهم، وما يشعرون بذلك. يا مطرودًا عن الباب، يا مضروبًا بسوط الحجاب، لو وفيت بعهودنا، ما رميناك بصدودنا، لو كاتبتنا بدمع الأسف، لعفونا عن كل ما سلف.
ولو أنهم عند كشف القناع ** وحل العقود ونقض العهودِ

وخلعهم لعذار الحياء ** ولبسهم لبرود الصدودِ

أناخوا بأبوابنا ساعة ** وأجروا مدامعهم في الخدودِ

لعدنا سراعًا إلى وصلهم ** وقلنا قلوب المحبين عودي