فصل: الفصل الخامس عشر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الخامس عشر:

أخواني، الدنيا دار الآفات، الإثم بقي والالتذاذ فات، بينا نرى فيها الغصن خضرًا متمايلًا ذابلًا ذابلي.
يا أيهذا الذي قد غره الأمل ** ودون ما يأمل التنغيص والأجل

ألا ترى أنما الدنيا وزينتها ** كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا

حتوفها رصد وعيشها نكد ** وصفوها كدر وملكها دول

تظل تفزع بالروعات ساكنها ** فما يسوغ له عيش ولا جذل

كأنه للمنايا والردى غرض ** تظل فيه سهام الدهر تنتضل

والنفس هاربة والموت يتبعها ** وكل عثرة رجل عندها جلل

والمرء يسعى بما يسعى لوارثه ** والقبر وارث ما يسعى له الرجل

أخواني، ألبسوا الدنيا جنة الهجر، واسمعوا فيها من مواعظ لزجر، واحبسوها يومًا صممتموه للأجر، وصابروا ليل البلى فما أسرع إتيان الفجر، فلا تبيعوا اليقين بالظن فحرام بيع المجر.
لقد أبصرت عيون الفطن في نهار المشيب سبل الرحيل، وسمعت آذان الفجر بقعقعة الصلب الصلب أذان التخويل، لله در أقوام بادروا أيامهم وحاذروا آثامهم، جعلوا الصوم طعامهم والصمت كلامهم، فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى والقلوب في رياض الملكوت ترعى، قاموا لخوف القيامة بالأوامر، ووقفوا أنفسهم على الخير، ما توقفوا كالموامر، هجروا بالصيام لذيذ الهوى في الهواجر وصمت اللسان كأنه مقطوع في الحناجر بالخناجر، وجرى الدمع واصبًا، حتى قد محا المحاجر، متى تطرق طريقهم؟ قبل طروق الطوارق، هذا ذئب السقام قد عوى للعوائق، يا من أعماله فيما خلا للخلائق، كم داواك الطبيب؟ وكم رقا بالرقايق؟ أين من ربا في الربى، ونما بين النمارق، أبرزهم حادي الموت لما حدا من الحدايق، وأمال مستقيمهم فالتوى فهل من هذا التوى أنت واثق؟ ويحك إن الدنيا سراب مخلف فإن وجد شراب أعطش، أزدهت فدهت على أنها تذم وتضم، كم عقدت لمحبها عقد عهدها؟ فلما حلت عنده حلت، إنها لعجوز وهي في عينك كالقمر، وقد قمر هواها قلبك فما أبقى منه إلا قلب قمر. للشريف الرضي:
شَرَتِ الفؤادَ رخيصةً أعلاقُهُ ** ومضى يَعَضُّ بنانه المغبونُ

أفنيت عمرك في طلبها وما حصل بيدك منها إلا ما حصل بيد قيس من ليلى.
صحا كل عذري الغرام عن الهوى ** وأنت على حكم الصبابة نازلُ

ول الدنيا ظهرك تنص الآخرة لك نقابها، تعر عن الدنيا تعز، وخذ قدر البلغة وجز تفز، إلى متى زنبيل حرصك على كاهل همتك وأنت تسعى في مزابل طمعك، تحش وقود الحطام لنار هواك وقد أقمت موقدًا من الشره لا يفتر، أما علمت أنه كلما ترقى دخان أتون الهوى في برابخ الحس سود وجه القلب، أنت في جمع الحطام نظير الزبال، وفي فعل الخير غلام الخبال عالم الهمم مختلف الأجناس هذا الشفنين لا يقرب غير زوجته أبدًا، فإن ماتت لم يتزوج أبدًا وكذلك الأنثى والدجاجة مع أي ديك كان.
كلامي يدور حول ستور سمعك، وموانع الهوى تحجبه أن لا يصل فلو قد وصل إلى القلب أثّر، عضت رجلًا حية فلم يعلم أنها حية فلم يتغير، فلما أخبر أنها حية مات، لأنه حين أخبر انفتحت مسامه. فوصل السم إلى القلب. يا أطروش الهوى صاحب من يسمع، يا عمي البصيرة امش مع من يبصر، تشبه بالصالحين تعد في الجملة، هذا الطاووس يحب البساتين فهو يوافق الأشجار، إذا ألقت ورقها ألقى ريشه، فإذا اكتست اكتسى، لو سرت في حزب المتقين خطوات لعرفوا لك حق الصحبة، يا من كان لهم رفيقًا فأصبح لا يعرف لهم طريقًا، اطلب اليوم أخبارهم واتبع في السلوك آثارهم فإن وقعت ببعضهم حملك إلى أرضهم.
للمصنف:
في شغل عن الرقاد شاغل ** من هاجه البرق بسفح عاقل

يا صاحبي هذي رياح ربعهم ** قد أخبرت شمائل الشمائل

نسيمهم سحيري الريح فما ** تشبهه روايح الأصائل

ما للصبا مولعة بذي الصبا ** أو الصبا فوق الغرام القاتل

ما للهوى العذري في ديارنا ** أين العذيب من قصور بابل

لا تطلبوا ثأرًا بنا يا قومنا ** دماؤنا في أذرع الرواحل

لله در العيش في ظلالهم ** ولي وكم أسار في المفاصل

واطربي إذا رأيت أرضهم ** هذا وفيها دميت مقاتلي

يا طرة الشيح سقيت أدمعي ** ولا ابتليت في الهوى بما بلى

ميلك عن زهو وميلي عن أسًا ** ما طرب المخمور مثل الثاكل

يا من قد كثر تردده إلى المجلس ولم تزل قسوة قلبه لا تضجر، فللدوام أثر، جالس البكائين يتعد إليك حزنهم، فتأثير الصحبة لا يخفى، أما ترى دون البقل أخضر؟ يا من يشاهد ما يجري على الخائفين ولا ينزعج، أقل الأقسام أن يبكي رحمة لهم، إذا رأيت الثكلى تتقلقل فلا بد من رحمة الجنس.
للمهيار:
ولما وقفنا في الديار تشابهت ** جسومٌ براهنَّ البِلى وطلول

فباكٍ بداءٍ بين جنبيه عارفٌ ** وباكٍ بما جر الفراقُ جهول

كان العاصي قتيل عشق الدنيا، فكشف له بالمخوفات نقاب المحبوبة فسلا، ثم جليت عليه بالمشوقات محاسن الآخرة فمال الجيد إلى الجيد.
ألفيتها وللحدا تغريد ** برامة إن ذكرت زرود

ولاح برق بثنيات الحمى ** تشيمه للأعين الرعود

فمالت الأعناق منها طربًا ** كما يميل الناشد المنشود

هيهات يخفي ما به متيم ** دموعه بوجده شهود

أتدرون ما أوجب اصفرار هذا التائب؟ ومن أي شراب سكر هذا الشارب؟ وأي كتاب أقدم هذا الغائب؟
كلما زاد كربه ** في هوى من يحبهُ

طار نحو الحبيب من ** شدة الشوق قلبه

دنف كاد ينقضي ** بيد البين نحبه

خبرونا عن العقيق ** متى سار ركبه

.الفصل السادس عشر:

يا من نسبه معرق في الموتى، وقد وعظوه وإن لم يسمع صوتًا، أدرك أمرك فما تأمن فوتًا.
لأبي نواس:
ألا كلُّ حي هالك وابن هالك ** وذو نسب في الهالكين عريق

فقل لغريب الدار إنك راحلُ ** إلى منزل نأى المحل سحيق

وما تعدم الدنيا الدنية أهلها ** شواظ حريق أو دخان حريق

تجرع فيها هالكًا فقد هالك ** وتشجى فريقًا منهم بفريق

فلا تحسب الدنيا إذا ما سكنتها ** قرارًا فما دنياك غير طريق

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له ** عن عدو في ثياب صديق

عليك بدار لا يزال ظلالها ** ولا يتأذى أهلها بمضيق

فما يبلغ الراضي رضاه ببلغة ** ولا ينفع الصادي صداه بريق

يا راقدًا وق أوذن بالرحيل، يا مشيد البنيان في مدارج السيول، بادر العمل قبل انقضاء العمر، لا تنس من يعد الأنفاس للقائك.
وما هي إلا ليلة ثم يومها ** ويوم إلى يوم وشهر إلى شهر

مطايا يقربن الجديد إلى البلى ** ويدنين أشلاء الصحيح إلى القبر

ويتركن أزواج الغيور لغيره ** ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر

يا عجبًا، أما تعلم ما أمامك؟ فتهيأ للرحيل وأصلح خيامك، وتأهب للردى واقطع قطع المدى مدامك، واجتهد أن ينشر الإخلاص في المحل الأعلى أعلامك، وأحضر قلبك وسمعك وإن ملا من لامك، وإياك والفتور فإني أرى الدواء دوامك، اطلب ما شئت بالعزم وأنا زعيم لك بالظفر، من عزم على أمر هيأ آلاته، لما كان شغل الغراب الندب على الأحباب لبس السواد قبل النوح.
أنفت شقة المهامة أن تقـ ** ـطع إلا بالشد والترحال

وأبى المجد أن ينال بغير الـ ** ـجد فلتنتبه عقول الرجال

إذا وقعت عزيمة الإنابة في قلب من {سبقت لهم منا الحسنى} قلعت قواعد الهوى من مسناة الأمل، ركب ابن أدهم يومًا للصيد وقد نصب له فخ {يهديهم ربهم} حوله حب {يحبهم} فصيد قبل أن يصيد، سمع هاتفًا يقول ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت، فكانت تلك العظة شربة نقضت قولنج الهوى يا له من سهم ألقاه عن قربوسه وبوسه، كان راقد الفهم في ليل الغفلة، مشغولًا بأحلام المنى، فصيح به قم فقام، فقيل له سر فاستقام.
للشريف الرضي:
رأى على الغور وميضًا فاشتاق ** ما أجلب البرق لماء الإماق

وعظه خطيب اليقظة فوصلت ملامته إلى سمع الأنفة، فنهضت حمية الرجولية، يا ابن أدهم مبارزة الصيد أول مراتب الشجاعة، أفترضى أن تستأسر لثعلب الهوى؟ يا ابن أدهم قتلك حب الدنيا فثر لأخذ الثأر، إن كانت لك عزيمة يا ابن أدهم فهذا الكميت وهذا الأدهم فصادف التحريض حريضًا فنهض.
للشريف الرضي:
ذكرتماني طلب الفضائل ** أيقظتما مني غير غافل

قوما فقد مللت من إقامتي ** والبيض أولى بي من المعاقل

شنا بي الغارات كل ليلة ** وعوداني طرف العوامل

إن كان لا بد من الموت فمت ** تحت ظلال الأسل الذوابل

هتف به متقاضي الشوق: يا ابن أدهم دخلت شهور الحج فما قعودك ببلخ؟ فرحل الراحلة وراح، لاحت له نار الهدى فصاح في جنود الهوى: {إنِّي آنست} فتجلى له أنيس {تجدني} فغاب عن وجوده، فلما أفاق من صعقة وجده وقد دك ظور نفسه، صاح لسان الإنابة {تُبتُ إليك}.
رويدًا أيها الحادي ** سقيت الرايح الغادي

فتلك الدار قد لاحت ** وهذا الربع والوادي

فلما خرج عن ديار الغفلة، أومأت اليقظة إلى البطالة.
لابن المعتز:
سلام على اللذات واللهو والصبى ** سلام وداع لا سلام قدوم

يا ابن أدهم لو عدت إلى قصرك فعبدت فيه، قال العزم كلا ليس للمبتوتة نفقة ولا سكنى.
أحن إلى الرمل اليماني صبابة ** وهذا لعمري لو رضيتُ كئيب

ولو أن ما بي بالحصى فلق الحصى ** وبالريح لم يسمع لهن هبوب

أمرضه التخم فاستلذ طعم الجوع، وحمل جلده على ضعف جلده خشونة الصوف.
حملتم جبال الحب فوقي وإنني ** لأعجز عن حمل القميص واضعف

لاح له جمال الآخرة فتثبتت في النظر عين اليقين، فتمكن الحب من حبة القلب فقام يسعى في جمع المهر من كسب الفقر، طال عليه انتظار اللقا فصار ناطور البساتين، تقاضته المحبة باقي دينها فسلم الروح في الغربة، هذا ثمن الوصل فتأخر يا مفلس.
دون المعالي مرتقى شاهق ** فطر إلى ذروته أوقع

من لم يخض غمرتها لم يشد ** قواعد المجد ولم يرفع

كان إبراهيم إسكندري الهمة فاحتقر قصير بلخ في جنب ما أمل، فانتخب سوابق العزم وسار في جند الجد حتى قطع ظلمات الطبع، وبلغ إلى مطلع شمس لا تغرب، شكا إليه صفاء القلب من يأجوج وساوس النفس، فاستغاث بحامي المسكن فقيل له: شد سد العزم، فاستظهر بعد الزبر بالقطر، ثم انفرد من جند جوارحه فوقع بعين الحياة في السر فعاش بالتوفيق أبد الدهر.
أما تقومون كذا أو فاقعدوا ** ما كل من رام السماء يصعدُ

نام على الهون الذليل ودرى ** جفن العزيز لم بات يسهدُ

أخفهم سعيًا إلى سودده ** أحقهم بان يقال سيدُ

عن تعب أو رد ساق أولا ** ومسحت غرة سباق يد

لو شرف الإنسان وهو وادع ** لقطع الصمصام وهو مغمدُ