فصل: الفصل الثالث عشر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الثالث عشر:

كم أخرج الموت نفسًا من دارها لم يدارها، وكم أنزل أجسادًا بجارها لم يجارها، وكم نقل ذاتًا ذات أخطاء بأوزارها، وكم أجرى عيونًا كالعيون بعد بعد مزارها.
يا مغرمًا بوصال عيشٍ ناعم ** ستصد عنه طائعًا أو كارها

إن المنية تزعج الأحرار عن ** أوطانهم والطير عن أوكارها

أخواني: قد حام الحمام حول حماكم، وصاح بكم إذ خلا النادي وناداكم، وأولاكم من النصح حقكم، فما أحقكم بالتدبر وأولاكم، وهو عازم على اقتناصكم، وما المقصود سواكم. كم أخلى الموت دارًا فدارا؟ أما استلب كسرى بن دارا؟ أدارى لما أخذ دارًا؟ أما ترك العامر قفارًا؟ أما أذاق الغصص المر مرارًا؟ لقد جال يمينًا ويسارًا؟ فما حابى فقرًا ولا يسارًا.
يا هذا، مطايا العمر قد أعنقت وأنت في مسامرة الأمل، معاول الساعات تهدم حايط الأجل، فرايس المهج في مضابث أسد المنايا، أسنة القنا مشرعة ولا درع، عقارب الخدع دائمة للسع، غير أن خدران الغفلة يمنع الإحساس بسريان السم، آه من مثاقف ما ينتهي عن القتل، الناس في الدنيا ككيزان الدولاب، فالشاب مثل الممتلي، والكهل قد فرغ بعضه، والشيخ لم يبق فيه شيء. الشاب المتقي في مقام {يحبهم} والكهل المنحط في مرتبة {خَلَطوا عملًا صالحًا} والشيخ في حيز «تجدني عند المنكسرة قلوبهم».
يا من قد انطوى برد شبابه، وخبيت خلع تلفه، وبلغت سفينته ساحل سفره، قف على ثنية الوداع، فلم تبق إلا ساعة تتغنم، لو فتحت عين اليقظة لرأيت حيطان العمر قد تهدمت، فبكيت على خراب دار الأجل. صاح ديك الإيقاظ في سحر ليل العبر، فما تيقظت فستنتبه، إذا نعق الغراب البين بين البين.
ومشتت العزمات ينفق عمره ** حيران لا ظفر ولا أخفاق

لا في الشباب وافقت، ولا في الكهولة رافقت، ولا في الشيب أفقت، ولا من العتاب أشفقت، فكأنك ما آمنت بالمعاد ولا صدقت.
يا مقيمًا على الهوى وليس بمستقيم، يا مبذرًا في بضاعة العمر متى يؤنس منك رشد؟ يا أكمة البصر، لا حيلة فيها لعيسى، يا طويل الرقاد ولا نوم أهل الكهف، كيف يفلح من هو والكسل كندمائي جذيمة؟.
الدنيا مضمار سباق، والليل سرى، وطلب الراحة تحنث:
فلا تحسبوا أن المعالي رخيصة ** ولا أن إدراك العلى هين سهل

فما كل من يسعى إلى المجد ناله ** ولا كل من يهوى العلا نفسه تعلو

من تذكر حلاوة العاقبة نسي مرارة الصبر، الرجولية بالهمة لا بالصورة، نزول همة الكساح حطه في بئر الأنجاس، قنديل الفكر في محراب قلبك مظلم، فاطلب له زيت خلوة، وفتيلة عزم بينك وبين المتقين حبل الهوى، نزلوا بين يديه ونزلت خلفه، فاطو فضل منزل تلحق، لو علوت نشز الجد، بانت بانة الوادي.
للمهيار:
إن كنت ممن يطلع الوادي فسلْ ** بين البيوت عن فوادي ما فعلْ

عز هواكِ فأذلَّ جَلَدي ** والحب ما رقَّ له الجَلْد وذلّ

أين ليالينا على الخيف وهل ** يرد عيشًا فائتًا قولك هل

يا مقيدًا بقيود الطرد، الق نفسك في الدجى على باب الذل، وقل إلهي، كم لك سواي ومالي سواك، فبفقري إليك وعناك عني، ألا عفوت عني.
أيا منعمًا لم يزل محسنًا ** برى جسدي سخطك الدائمُ

إلى النحر مني مضمومة ** يداي كما يفعل النادمُ

يزل الحليم ويكبو الجواد ** وينبو عن الضربة الصارمُ

يا هذا، ليس في المياه ما يقلع آثار الذنب من ثوب القلب إلا الدموع، فإن نضبت ولم يزل الأثر فعليك بالاغتراف من بحر الاعتراف.
ودعت قلبي حين ودعتهم ** وقلت يا قلبي عليك السلامُ

وصحتُ بالنوم انصرف راشدًا ** فإن عيني بعدهم لا تنامُ

أحضر نادي المتهجدين ونادهم طوبى لكم وجدتم قلوبكم فارحموا من لا يجد:
إذا وصلتم إلى وادي العقيق سلوا ** عن حال منقطع أودى به السهر

وفتشوا عن فؤاد هائم قلق ** قد ضاع مني فلا عين ولا أثر

أنجع الوسائل الذل، وأبلغ الأسباب في العفو البكاء، والعي عن ترتيب العذر بلاغة المنكسر.
يا من أشكو إليه ما يعلمه ** والدمع يذيع كلما أكتمه

هذا المسكين من ترى يرحمه ** قد هان عليه كلما يؤلمه

بالجسم من السقام ما يحرضه ** والقلب يذوب من جوى يمرضه

ما قد حكم الإله من ينقضه ** قد أعوزني الصبر فمن يقرضه

.الفصل الرابع عشر:

لقد خوفنا الموت بمن أخذ منا، ونعلم هجومه علينا وقد آمنا، ما أذكرتنا المواعظ فما لنا ما لنا:
لا ترقدن لعينك السهر ** وانظر إلى ما تصنع العبرُ

انظر إلى عبر مصرفة ** ما دام يمكن طرفك النظرُ

فإذا جهلت ولم تجد أحدًا ** فسل الزمان فعنده الخبرُ

فإذا نظرت تريد معتبرًا ** فانظر إليك ففيك معتبرُ

أنت الذي تنعاه خلقته ** ينعاه منه الشعر والبشرُ

يا من يؤمل أنت منتظر ** أملًا يطول ولست تنتظرُ

ماذا تقول وأنت في غصصٍ ** ماذا تقول وذوقك المدرُ

ماذا تقول وقد لحقت بما ** يجري عليه الريح والمطرُ

كم قد عفتْ عين لها أثر ** درستْ ويُدرس بعدها الأثرُ

يا من يشيع ببدنه الميت، فأما قلبه ففي البيت، أتخلى بين المودود والدود؟ وتعود إلى المعاصي حين تعود، هلا أجلت بالبال ذكر البالي؟ وقلت للنفس الجاهلة: هذا لي، من زار القبور والقلب غافل وسعى بين الأجداث والفكر ذاهل وشغله عن الاعتبار لهو شاغل فهو قتيل قد أسكره القاتل:
وما أعطى الصبابة ما استحقت ** عليه ولا قضى حق المنازل

ملاحظها بعين غير عبرى ** وزايرها بجسم غير ناحل

شيّع الحسن جنازة فجلس على شفير القبر فقال: إن أمرًا هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإن أمرًا هذا أوله، لحقيق أن يخاف آخره.
أخواني، كيف الأمن؟ وهذا الفاروق يقول: لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا وفضة لافتديت بها، كيف الأمن؟ من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر؟ لما طعن عمر قال لابنه ضع خدي على التراب فوضعه فبكا حتى لصق الطين بعينيه وجعل يقول: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي، ودخل عليه كعب، وكان قد قال له إنك ميت إلى ثلاثة أيام، فلما رآه أنشد:
وواعدني كعب ثلاثًا بعدها ** ولا شك أن القول ما قاله كعب

وما بي حذار الموت إني لميت ** ولكن حذار الذنب الذي يتبعه الذنب

واعجبًا من خوف عمر مع كماله وأمنك مع نقصانك، قيل لابن عباس: أي رجل كان عمر؟ فقال: كان الطائر الحذر الذي كان له بكل طريق شركًا.
يا مسدود الفهم بكثرة الشواغل أحضر قلبك لحظة للعظة، يا جامدًا على وضع طبعه، تحرك إلى قطر التذكرة، يا عبد الطمع طالع ديار الأحرار، ما أطول غشية غفلتك فلمن تحدث؟ قلبك في غلاف غفلة وفطنتك في غشاوة غباوة، وحبل عزمك الجديد حديد، لو خرج عقلك من سلطان هواك، عادت الدولة عادة، لو صح مزاجك فطرتك طعم النصح في فمك، المفروض عنك مرفوض، وكلام النصيح صوت الريح.
يا تلميذ الهوى اخرج من وصف التبعية، يا مقيد الوجود في فناء الفناء قامت قيام الملامة وما تسمع، لقد ضحل صوت النصيح، ولكن صلخ صماخ السمع مانع.
يا هذا، لو وقف مرضك رجونا لك البرء، ولكن المرض يزيد وقوة العزم تضعف:
متى يلتقي الآلاف والعيس كلما ** تصعد من واد هبطن إلى واد

يا مقبلًا على المعاصي أدبرت، ويحك إذا أخرجت من يديك فمن يحصل؟ كم تعد بالتوبة ولا تفي؟ ويحك إن اللذة بالعقوبة لا تفي، ضمانك عقيم، ووعدك عاقر، إذا أقمت بناء توبة اكتريت ألف نقاض، ويحك لا تفعل، فإنه ما سحب أحد ذيل الهوى إلا وتعثر، اكتب قصة الندم بمداد الدمع، وفي الحال تصل:
سألت ودمع العين سايل ** ودعت وداعي البين شاغل

فأجاب دمعي وهو في ** صفق الأسى سحبان وائل

أعرضت عنك فما تروم ** وبنت منك فمن تواصل

لم يبق من سنن الهوى ** إلا الوقوف على المنازل

يا مشردًا عن الأوطان إلى متى ترضى بالتمردك؟ للقطاة أفحوص، ولابن آوى مأوى، منذ خمسين سنة تجدف في العبور إلى ساحل التوبة وما تلحق الشط، قوة الأمل عقدة في وجه منشار الجد، الرياء عيب في رئة الإيمان، يسل المرض إلى السل، شدة الحرص على الفاني سدة في كبد اليقين، ومن صبر على مرارة الدواء عوفي:
السقم على الجسم له ترداد ** والصبر يقل والهوى يزداد

ما أبعد شقتي وما لي زاد ** ما أكثر بهرجي ومالي نفاد

يا أرباب الدنس يا أوساخ الذنوب {هذا مُغْتَسَلٌ بارد وشراب} لا تقنعوا بصب ماء التوبة على الظاهر، بلوا الشعر وانقوا البشرة، ما لم تسبح بدمع عينيك لم تأت بسنة الغسل:
فلو داواك كل طبيب داء ** بغير كلام ليلى ما شفاكا

أبلغ المراهم لجراح الذنوب الندم، وأوطأ فراش المعتذر القلق، وأسرع الأوقات إجابة السحر، فاطرد عن عينيك لذة النوم، وناد في نادي الأسى مع القوم:
يا من بسهامه لقلبي جرحا ** صل مشتاقًا بغيركم ما فرحا

ما ناح له مطوق أو صدحا ** إلا شرب الدمع وعاف القدحا

يا نائمًا طول الليل ما تحس برد السحر؟ لقد نم النسيم على الزهر، ودلت أغاريد الحمام، على دنو الفجر، صاح الديك فلم تنتبه، وأعاد فلم تفق، فقوى ضرب الجناحين لطمًا على غفلتك.
صفق أما ارتياحه لسنا الفجر ** وأما على الدجا أسفا

يا مطولًا بالقيام ** مستلذًا بالمنام

قم فقد فاتك يا ** مغبون أرباح الكرام

وخلوا دونك بالمو ** لى وفازوا بالمرام

وكذا تسبقك القو ** م إلى دار السلام