فصل: الفصل الحادي والثلاثون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الحادي والثلاثون:

يا جامعًا المال لغيره، تاركًا للتزود في سيره، أتحظى بشر كسبك، ويحصل سواك بخيره:
سابق إلى مالك وراثه ** ما المرء في الدنيا بلباث

كم صامت يخنق أكياسه ** قد صلح في ميزان ميراث

أين جامع الدنيا؟ طرحها واطرح، أين اللاهي بها؟ حزن بعد أن فرح، جال في وصف الحرب عنها فاغتيل وجرح، وظن الأمر سهلًا فإذا الرجل قد ذبح، بينا هو في لذاته يغتبق ويصطبح برح به أمر مرحل، فما برح نزل والله لحدًا ضيقًا فما ينفسح، وصمت تحت الثرى فكأنه لم ينطق ولم يصح، وكتب على قبره ما أخّر خسر، وما قدم ربح، وعدل إلى قصره بعد الدفن فافتتح، وأصبحت سهام الوارث في ماله تنتطح، يا معرضًا عن الهدى والأمى متضح، أو ما حالك كهذا الحال؟ الذي شرح، كأنك بك في ضيق خناقك تبكي على قبيح أخلاقك، وحبل الدموع تجري في حلبات آماقك، وقد تحيرت عند التفاف ساقك بساقك، وأسرت لا بقيد عن حركات إطلاقك، وناداك تفريطك: هذا بعض استحقاقك.
لا تكذبن فإنني ** لك ناصح لا تكذبنه

فاعمل لنفسك ما استطعـ ** ـت فإنها نار وجنة

أخواني، كم من حريص قد جمع المال جمع الثريا؟ فرقته الأقدار تفريق بنات نعش، يا ذا اللب، حدثني عنك، أتنفق العمر الشريف في طلب الفاني الرذيل؟ ويحك، إن الهوى مرعاد مبراق بلا مطر، الدنيا لا تساوي نقل أقدامك في طلبها، أرأيت غزالًا يغدو خلف كلب، الدنيا مجاز والأخرى وطن، والأوطار في الأوطان أطوار، إيثار ما يفنى على ما يبقى برسام حاد.
أأبناء الدنيا إنها مذمومة في كل شريعة، والولد عند الفقهاء يتبع الأم، يا من هو في حديثها أنطق من سبحان، وفي انتقاد الدنانير أنسب من أغفل، فإذا ذكرت الآخرة فأبله من باقل، حيلتك في تحصيلها أدق من الشعر، وأنت في تدبيرها أصنع من النحل، وعين حرصك عليها أبصر من العقاب، وبطن أملك أعطش من الرمل، وفم شرهك أشرب من الهيم، تجمع فيها الدر جمع الذر، يا رفيقًا في البله لدود القز، ما انتفعت بموهبة العقل:
كدود كدود القز ينسج دائمًا ** ويهلك غمًا وسط ما هو ناسجه

ويحك، إن سرورها أقتل من السم، وإن شرورها أكثر من النمل، إنها في قلبك أعز من النفس، وسنصير عند الموت أهون من الأرض، حرصك بعد الشيب أحر من الجمر، أبقي عمر؟ يا أبرد من الثلج، يا من هو عن نجاته أنوم من فهد، ضيعت عمرًا أنفس من الدر، أنت في الشر أجرى من جواد، وفي الخير أبطأ من أعرج، تسعى إلى العاجل سعي رث، ويمشي في الأجل مشي فرزان، الزكاة عليك أثقل من أحُد، والصلاة عندك كنقل صخر على ظهر، وطريق المسجد في حسبان كسلك كفرسخي دير كعب، صدرك عن حديث الدنيا أوسع من البحر، ووقت العبادة أضيق من تسعين، معاصيك أشهر من الشمس، وتوبتك أخفى من السهي، إن عرضت خطيئة وثبت وثوب النمر، فإذا لاحت طاعة رغت روغان الثعلب، تقدم على الظلم أقدام السبع، وتخطف الأمانة اختطاف الحدأة، يا أظلم من الجلندي ما تأمنك غزلان الحرم، يا كنعان الأمل، يا نمرود الحيل، يا نعمان الزلل، أنت في حب المال شبه الحباحب، وفي تبذير العمر رفيق حاتم، تمشي في الأمل على طريق أشعب، وستندم ندامة الكسعي، يا عذري الهوى في حب الدنيا، يا كوفي الفقه في تحصيلها، يا بصري الزهد في طلب الآخرة، إنما يتعب في تعليم البازي ليصيد ماله قدر، ولما تعلم بازي فكرك، أرسلته على الجيف.
ويحك تفكر قبل سلوك طريق الهوى، في كثرة المعاثر والصدمات أوما المكروهات في طي المحبوبات كوامن؟ يا مطلقًا نفسه في محظور شهواتها، اذكر الغمس في الرمس، يا ذا البال الناعم فوق الأرض، اذكر الناعم البالي تحتها، أتلفق؟ والزمان يفرق، أتؤلف؟ والحدثان يمزق، أتصفي؟ والدهر يرنق، أتؤمل؟ والموت معوق، ويحك إن القاصد قاصم، وما للعاصي عاصم، أنت في أرباب الذنوب غريق، وفي روم الهوى بطريق، فاحذر عقاب الأكابر، يا قليل الخبرة بالطريق اطلب رفقة، إذا لم تعرف القبلة بالعلامات، ففي المساجد محاريب، إذا رأيت قطار التائبين متصلًا فعلق عليه.
أهل الغرام تجمعوا ** فاليوم يوم عتابنا

نعق الغراب ببيننا ** فغرابنا أغرى بنا

إن الذين نحبهم ** قد وكلوا بعذابنا

قوموا بنا بحياتكم ** نمضي إلى أحبابنا

قوم إذا ظفروا بنا ** جادوا بعتق رقابنا

من مشى إليَّ هرولتُ إليه، دعوناك بالوسائط فلم تحضر، فأتى المرسل ينزل إلى السماء، النظر متشابه والذوق محكم.
ولما رأيت الحب قد مد جسره ** ونودي بالعشاق قوموا بنا فاسروا

خرجتُ مع الأحباب كيما أحوزه ** فصادفني الحرمان وانقطع الجسر

ومالت بنا الأمواج من كل جانبٍ ** ونادى مناد الحب قد غرق الصبر

.الفصل الثاني والثلاثون:

يا هذا، لو عاينت قصر أجلك لزهدت في طول أملك، وليقتلنك ندمك إن زلت بك قدمك.
للمتنبئ:
إلى كم ذا التواني في التواني ** وكم هذا التمادي في التمادي

وما ماضي الشباب بمستردٍّ ** ولا يومٌ يمر بمستعار

متى لحظتْ بياض الشيب عيني ** فقد وجدته منها في السواد

متى ما ازددت من بعد التناهي ** فقد وقع انتفاضي في ازدياد

إلى متى تحرص على الدنيا وتنسى القدر؟ من الذي طلب ما لم يقدر فقدر؟ لقد أذاك إذ ذاك النصب، وأوقعك الحرص في شرك الشرك إذ نصب، أتحمل على نفسك فوق الجسد؟ ولو قنعت أراحك الزهد فلماذا تحمل ما آذى ولمن؟ ومن ينفعك إن قتلت نفسك يا هذا، ومن؟ تحمل على الهم الهم، لأمر لو قضى تم، أحرصًا على الدنيا. لا كانت، أم شكًا في عيوبها؟ فقد بانت.
رأيت ظنوني بها كالسراب ** فأيقنت أن سرابي سرابي

كم غرت الدنيا فرخها؟ فعرت، ثم ذبحته بمدية ما مرت، إنها لتقتل صيادها، وتقتل أولادها.
عزيز على مهجتي غرني ** وسلم لي الوصل واستسلما

فلما تملكني واحتوى ** على مهجتي سل ما سلما

والله لو كنت من رياشها أكسى من الكعبة، لم تخرج منها إلا أعرى من الحجر الأسود.
قيل لراهب: ما الذي حبب إليك الخلوة وطرد عنك الفترة؟ قال: وثبة الأكياس من فخ الدنيا.
وقيل لآخر: لم تخليت عن الدنيا؟ فقال: خوفًا والله من الآخرة أن تتخلى عني.
من غرس في نفسه شرف الهمة فنبت، نبت عن الأقذار، ومن استقر ركن عزيمته وثبت، وثبت نفسه عن الأكدار.
قد انقضى العمر وأنت في شغل ** فاجسر على الأهوال إن كنت رجل

يا زمن الهمة، يا مقعد العزيمة، يا عليل الفهم، يا بعيد الذهن.
أما اشتقت مغنى الهوى حين طاب ** ومنبت غصن الصبي حين مالا

أما آن من نازح أن يحن ** وللوصل من هاجر أن يدالا

سار المجدون وتركوك، ونجا المخفون وخلفوك، نادهم إن سمعوك، واستغث بهم إن رحموك.
أيها الراحلون من بطن خيف ** وركاب النوى بهم تترامى

إن أتيتم وادي الأراك فاهدوا ** لحبيبي تحيتي والسلاما

وردوا ماء ناظري عوض الغدر ** ان وارعوا بين الحشى لا الخزامى

واطلبوا إلى قلبي وآيته أن ** تجدوا فيه من هواهم سهاما

يا من أبعدته الخطايا عنهم، أدرج مرحلة الهوى وقد وصلت أنت تتعلل للكسل بالقدر فتقول: لو وفقني، ولكسب الشهوات بالندب إلى الحركة {فامشوا في مناكبها} أنت في طلب الدنيا قدري، وفي طلب الدين جبري، أي مذهب وافق غرضك تمذهبت به.
أوليس في الإجماع {من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها} جسدك عندنا وقلبك في البيت، نحن في واد وأنت في واد.
بكرت صبحًا عواذله ** ورسيس الحب قاتله

هوى في واد ولسن به ** والهوى عنهن شاغله

يتمنين السلو له ** ومناه من يواصله

لا بد والله من قلق وحرقة أما في زاوية التعبد أو في هاوية الطرد، إما أن تحرق قلبك بنار الندم على التقصير والشوق إلى لقاء الحبيب، وإلا فنار جهنم أشد حرًا:
شجاك الفراق فما تصنع ** أتصبر للبين أم تجزع

إذا كنت تبكي وهم جيرة ** فما ذا تقول إذا ودعوا

القلق القلق يا من سلب قلبه، والبكاء البكاء يا من عظم ذنبه.
كان الشبلي يقول في مناجاته: ليت شعري ما اسمي عندك يا علام الغيوب، وما أنت صانع في ذنوبي يا غفار الذنوب، وبم تختم عملي يا مقلب القلوب؟ وكان يصيح في جوف الليل: قرة عيني، وسرور قلبي ما الذي أسقطني من عينك؟ أقلت هذا فراق بيني وبينك؟
هجرانك قاتلي سريعا ** والهجر من الحبيب قاتل

إن كنت نسيتني فعندي ** شغل بك لا يزال شاغل

قلبي يهواك ليت شعري ** ما أنت بذا المحب فاعل

حقًا قد قلت يا حبيبي ** قام على قولي الدلائل

شوق وجوى ونار وجد ** تذكي بعظائم البلابل

سائل دمعي فجفن عني ** لا يبرح بالبكاء سائل

إن جن لي الليل يا حبيبي ** فجنة القلب في الرسائل

أبكي ما كان من وصال ** والحزن تهيجه المنازل

هذا خدي على ثراكم ** لا أبرحه ولا أزايل

إن أنت طردتني فويلي ** بعد الإعراض من أواصل

كلا والجود لي شفيع ** والجود مقدم الوسائل

.الفصل الثالث والثلاثون:

يا من بين يديه الأهوال والعجائب، وقدمًا نوى له الدهر النوائب، أما سهم المصائب كل يوم صائب، أحاضر فتحمل من عتبنا؟ كلا بل أنت غائب.
وكيف قرّت لأهل العلم أعينهم ** أو استلذوا لذيذ النوم أو هجعوا

والموت ينذرهم جهرًا علانية ** لو كان للقوم أسماعٌ لقد سمعوا

والنار ضاحية لا بد موردهم ** وليس يدرون من ينجو ومن يقع

قد أمست الطير والأنعام آمنة ** والنون في البحر لن يغتالها فزع

والآدمي بهذا الكسب مرتهن ** له رقيب على الأسرار يطلع

حتى يوافيه يوم الجمع منفردًا ** وخصمه الجلد والأبصار والسمع

إذ النبيون والأشهاد قائمة ** والجن والإنس والأملاك قد خشعوا

وطارت الصحف في الأيدي ** منشرة فيها السرائر والأخبار تطلع

فكيف سهوك والأنباء واقعة ** عما قليل ولا تدري مما يقع

أفي الجنان وفوز لا انقطاع له ** أم الجحيم فلا تبقي ولا تدع

تهوي بساكنها طورًا وترفعهم ** إذا رجوا مخرجًا من غمها قمعوا

طال البكاء فلم يرحم تضرعهم ** هيهات لا رقة تغني ولا جزع

لينفع لعلم قبل الموت عالمه ** قد سأل قوم بها الرجعى فما رجعوا

يا من عمره يقد بالساعات ويعد بالأنفاس، يا خل الأمل خل أحاديث الوسواس، يا طويل الرقاد إلى كم ذا النعاس؟، قد بقي القليل لا ريب وهذا الشيب يقلع الأغراس، إن في المقابر عبرًا، وما أدراك ما الأدراس؟، تالله لو سكن اليقين القلب، لضربت أخماسًا في أسداس، هل تجد لماضي العمر لذة؟ والباقي على القياس، ماذا التهول في البوار، وجر الأذيال في الخسار، كأنك لم تسمع بجنة ولا نار، لهيب حرصك ما يطفي، وشر شرهك ما يخفى، أترى هذا؟ على ماذا، أليس لما إذا؟ قيل آذى.
أنت في طلب الدنيا أحير من صَب، تبيت في عشقها أسهر من صب، أين ما حلا في الفم وحلى في العين، ذهب الكل وأنت تدري إلى أين، ما أصعب السباحة في غدير التمساح، ما أشق السير في الأرض المسبعة، إن المفروح به هو المحزون عليه، غير أن عين الهوى عميا، طاير الطبع يرى الحبة لا الشرك، ضيعت سهادك بسعادك، رمَتْكَ إلى الهند هند، صَيرتَ نهارك ليلا ليلى، ويحك ربات الظلم ظلم، كم أراق الهوى دمًا في دمن، ويحك دع سلمى وسل ما ينفعك، دعة لمثلك ترك دعد للنوى، وسعادة لك هجرة لسعاد، قطع الطمع من خضر الدنيا بموسى الياس، تجمع للقلب عزم الخضر وموسى وإلياس.
يا معشر الفقراء الصادقين قد لبستم حلة الفقر، فتجملوا بحلية الكتمان، اصبروا على عطش الزهد، ولا تشربوا من مشربة من، فالحرة تجوع ولا تأكل بثدييها، لا تسألوا سوى مولاكم فسؤال الغير غير سيده تشنيع عليه، إن الفقير ترك الدنيا إنفة رآها قاطعًا فقاطع، جاز على جيفة مستحيلة فسد منخر الظرف وأسرع، الأنف الأشم لا يشم رذيلة بينا هو في قطع فيافي القناعة، وقع بكنز ما وجده الإسكندر، فقلبه أغنى من قارون، وبيته أفرغ من فؤاد أم موسى. كان إبراهيم بن أدهم يعطي عطاء الأغنياء وهو فقير، ويستدين عليه ثم يؤثر به.
للشريف الرضي:
وهم ينفذون المالَ في أول الغنى ** ويستأنفون الصبرَ في آخر الصبر

مغاوير في الجُليّ مغاييرُ في الحمى ** مفاريج للغُمّي مداريكُ للوِتْر

وتأخذهم في ساعة الجود هِزّةٌ ** كما خايل المطرابُ عن نزوةِ الخمرِ

فتحسبهم فيها نشاوى من الغنى ** وهم في جلابيب الخَصاصة بلا وفر

عظيمٌ عليهم أن يمنّوا بلا يدٍ ** وهَيْنٌ عليهم أن يبيتوا بلا وفر

إذا نزل الحيّ الغريبُ تقارعوا ** عليه فلم يدرِ المُقل من المثري

يميلون في شِق الوفاء مع الردى ** إذا كان محبوب البقاء مع الغدر

أحكم القوم العلم فحكم عليهم بالعمل، فقاطعوا التسويف الذي يقطع أعمار الأغمار، وانتبهوا فانتبهوا الليل والنهار، أخرجوا قوى العزائم إلى الأفعال، فلما قضوا ديون الجد قضت علومهم بالحذر من الرد، أقدامهم على أرض التعبد قد ألفت الصفون تعتمد على سنابك الحذر، فإذا أثر عندها النصب، راوحت بين أرجل الرجاء قلوب كالذهب ذهب غشه، أنفاسهم لا تخفى، نفوسهم تكاد تطفى، لون المحب غماز، دمع المشوق نمام.
أخفي كمدي ودمع عيني ** في الخد على هواك شاهد

فالجفن بلوعتي مقر ** للعاذل واللسان جاحد

اشتد الخوف يومًا بإبراهيم بن أدهم، فسأل الراحة فعوتب.
لو شئت داويت قلبًا أنت سقمه ** وفي يديك من البلوى سلامته

علامة كتبت في خد عارفكم ** من كان مثلي فقد قامت قيامته

ضجت الناقة لثقل الحمل، رأت عظامها قد فرغت ففغرت فم الشكوى فرغت.
يا حادي العيس قد براها ** حمل هموم لها عظام

رفقًا بها إنها جلود ** ملصقات على عظام

أشواقها خلفها وشوقي ** خلاف أشواقها أمامي

تمادى في قلب العارف جبل الخوف وجبل الحزن، فلما وصل اسكندر الفكر عبى زبر الهموم، حتى إذا ساوى بين الصدفين صاح بجنود الفهم، انفخوا، فاستغاث الواجد لتراكم الكرب.
أيا جبلي نعمان بالله خلّيا ** نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها

أجد روحها أو تشف مني حرارة ** على كبد لم يبق إلا صميمها

لأن الصبا ريح إذا ما تنسمت ** على نفس مكروب تجلت همومها