فصل: فرع على مسألة النكاح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحيط البرهاني في الفقه النعماني



.كتاب البيع:

هذا الكتاب يشتمل على ستة وعشرين فصلًا:
1- فما يرجع إلى انعقاد البيع به.
2- وفي الاختلاف الواقع بين الإيجاب والقبول، وفي الحوادث التي تمنع صحة قبول المشتري.
3- في قبض البيع بإذن البائع وبغير إذنه، وفي تصرف أحد العاقدين في البيع قبل القبض، وفيما يلزم المتعاقدين من المؤنة في تسليم البيع، وفي تسليم الثمن.
4- في المسائل التي تتعلق بالثمن.
5- فيما لا يدخل تحت البيع من غير ذكره صريحًا، وفيما يدخل تحته من غير ذكره.
6- وفيما يجوز بيعه وما لا يجوز.
7- وفي الشروط التي تفسد البيع والتي لا يفسد.
8- وفي بيان أحكام الشراء الفاسد والتصرف في المملوك بالعقد الفاسد.
9- وفي شراء الفضولي وبيعه وبيع أحد الشريكين في شيء كله أو بعضه، وما يكون إجازة في ذلك وما لا يكون، وفي اجتماع الفضولين على التصرف في محل واحد، ويدخل فيه بعض مسائل بيع الغصب.
10- وفي الاختلاف الواقع بين البائع والمشتري.
11- وفي الزيادة في الثمن والمثمن وازديادها، وفي الحط والإبراء عن الثمن، وفي هبة الثمن من المشتري به.
12- في البيع بشرط الخيار.
13- في خيار الرؤية.
14- وفي العيوب.
15- وفي بيع المرابحة والتولية والوضيعة.
16- في الاستحقاق وبيان حكمه.
17- وفي الاستبراء.
18- وفي بيع الأب والوصي والقاضي ومال الصبي وشرائهم له.
19- وفي كراهية التفريق بين الرقيق.
20- وفي الإقالة.
21- في الدعاوى والشهادة في البيع.
22- في السلم.
23- وفي القروض.
24- وفي الاستصناع.
25- في البياعات المكروهة، والأرباح الفاسدة وما جاء فيها من الرخصة.
26- وفي المتفرقات.

.الفصل الأول: فيما يرجع إلى انعقاد البيع:

قال أصحابنا رحمهم الله: كل لفظين بلسان عن التمليك والتملك على صيغة الماضي والحال ينعقد بهما البيع، وذلك نحو أن يقول أحدهما ويقول الآخر: اشتريت وقبلت، وكذلك كل لفظين يؤديان معناهما، ولو قال البائع: ابتعك فقال المشتري: اشتريت بمعنى بعت لا ينعقد البيع بينهما، وفرق البيع والنكاح، فإن الرجل إذا قال للمرأة: تزوجيني فقالت: تزوجت ينعقد النكاح، والفرق قد عرف في موضعه.
ولو قال لغيره: بعت منك هذا العبد بكذا فقال المشتري: اشتريت ولم يسمع البائع كلام المشتري لا ينعقد البيع بينهما، فسماع المتعاقدين كلامهما في البيع شرط انعقاد البيع بالإجماع، فإن سمع أهل المجلس كلام المشتري والبائع يقول: لم أسمع ولا وقر في أذنه لا يصدق البائع؛ لأن الظاهر يكذبه، وإذا قال لغيره: بعت منك هذا العبد فقال المشتري: أجرب ينعقد البيع بينهما، ذكره في (الأمالي).
وإذا قال لغيره: بعت منك هذا العبد وقال الآخر: قبلت قال الفقيه أبو بكر رحمه الله: يكون بيعًا، وقال الفقيه أبو جعفر: لا يكون بيعًا، وبه أخذ الفقيه أبو الليث.
رجل قال لغيره: عبدي هذا لك إن أعجبك فقال: أعجبني فهذا بيع، وكذلك إذا قال: إن أردت فهو سلف بعت، فهذا كله بيع في الجواب، وأما في الابتداء فلا يلزمه.
إذا قال الآخر: إن أديت إليّ كذا كذا درهمًا ثمن هذا الثوب فقد بعته منك، فأدى الثمن في المجلس يكون بيعًا صحيحًا استحسانًا ذكره في (السير) وكذا إذا قال: (فروختم جون بها بن ربيد) فأعطاه الثمن في المجلس فهذا بيع صحيح استحسانًا. وفي (النوازل) إذا قال الآخر: بعت منك عبدي هذا بألف درهم فقال المشتري: قد فعلت فهذا بيع؛ لأن هذا تحقيق، ولو قال: نعم لا يكون بيعًا، فقد فرق بين قوله فعلت وبين قوله نعم، واستشهد فقال: ألا ترى من قال لامرأته اختاري نفسك فقالت: قد فعلت فهذا اختيار، ولو قالت نعم فهذا ليس باختيار.
وذكر في (فتاوى أهل سمرقند) أن من قال: لغيره اشتريت عبدك هذا بألف درهم فقال البائع قد فعلت أو قال: نعم أو قال: هات الثمن صح البيع بينهما؛ لأن هذا جواب، وسوى بين قوله فعلت وبين قوله نعم فكان فيه قولان والأصح أنه ينعقد البيع، وإذا قال لغيره بالفارسية: ابن خانه وآخر يدي ازمن بجندين فقال: اخر يدم ولم يقل المخاطب بعد ذلك فروختم. حكى الإمام الأجل ظهير الدين عن عمه شمس الإسلام الأوزجندي عن أستاذه الإمام شمس الأئمة السرخي: أنه ينعقد البيع؛ لأن قوله فروختم مضمر في قول البائع معناه خريدي كه فروختم، وإذا قال: بعت فلانا الغائب فحضر في المجلس فلان، وقال: اشتريت يصح، وإذا قال لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم فقبضه المشتري ولم يقل شيئًا ينعقد البيع بينهما ذكره شيخ الإسلام في بيوعه في باب.... في البيع، وإذا قال لغيره: كل هذا الطعام بدرهم لي عليك، فأكل كان هذا بيعًا وكان ما أكل حلالًا له، ذكره شمس الأئمة السرخي في شرح كتاب الاستحسان، وفي (فتاوى أبي الليث): إذا قال الرجل لغيره: بعتك عبدي هذا بألف درهم فقال المشتري: اشتريت منك بألفي درهم فالبيع جاز، فإن قيل: الزيادة في المجلس البيع بألفي درهم؛ لأنه أمكن تصحيحه بأن يقل كأن المشتري قال: قبلت البيع بألف درهم ورددتك ألفًا أخرى.
وفي (فتاوى أهل سمرقند) رجل قال لغيره: اشتريت منك هذا بألفين فقال ذلك الغير: بعته منك بألف فهو جائز، ويجعل كأن البائع بالغير قال حططت عنك ألفًا، وإذا قال لغيره: جعلت عبدي لك هذا بألف درهم وقال ذلك الغير قبلت هل ينعقد البيع بينهما؟ اختلف المشايخ فيه، وقد ذكر محمد رحمه الله في (الجامع) مسألة تدل على أنه ينعقد. وصورتها: رجل مات وترك عبدًا قيمته ألف درهم لا مال له غيره، وعلى الميت لرجل ألف درهم دين فأعطى القاضي الغريم بدينه وقال هذا العبد: بيع لك بدينك أو قال: جعلته لك بدينك وبنى على اللفظين أحكام البيع، قال شمس الأئمة السرخي: وهذا هو الصحيح؛ لأنهما بمعنى البيع إن لم يأتيا بلفظ البيع، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ، وهذه المسألة أيضًا دليل على أن من قال لغيره: هذا العبد بيع لك بدينك فقبل ذلك الغير، إنه ينعقد البيع بينهما.
وفي (طلاق النوازل): إذا قال لغيره: هذا العبد عليك بألف درهم فقال الآخر: قبلت يكون بيعًا، قال: ألا ترى أنه لو قال لامرأته ثلاث تطليقات عليك إنه يقع الثلاث عليها، وإذا قال لغيره بعد ما جرى بينهما مقدمات البيع: بعت هذا العبد بألف وقال المشتري: اشتريت يصح، وإن لم يكن البائع قال: بعت منك. وفي (فتاوى أهل سمرقند) إذا قال لغيره: بعت هذا الثوب مني فقال ذلك الغير: بعت فقال المشتري: لا أريده فله ذلك؛ لأن البيع لم يتم بعد. ومثله لو قال المشتري: اشتريت منك طعامك هذا بألف فتصدق به على المساكين ففعل ولم يتكلم جاز؛ لأن هذا دلالة القبول.
وفي (فتاوى أهل بلخ) سئل أبو الليث الكبير رحمه الله عمن قال لآخر: بكم هذا الوقر من الحطب؟ فقال: بدرهم فقال: سق الحمار قال: يكون بيعًا ما لم يسلم الحطب وينقد منه الثمن، وقد قيل: لو قال قائل إن هذا بيع لا ينفذ؛ لأن قوله سق الحمار رضا بالبيع، فإذا ساقه البائع فقد ساعده على ذلك الرضا، فظهر تراضيهما بالبيع، وسئل أبو زيد الكبير أيضًا عمن قال لآخر خذ هذا الثوب بعشرة ليس له أن يمتنع بعد قوله أحد يسأله وقال خلف: سألت أسدًا عمن قال في السوق: من عنده ثوب هروي بعشرة فقال له رجل: أنا، فأعطاه قال: هذا ليس ببيع إلا أن يقول حين أخذه: أخذته بعشرة فاذهب وانظر إليه. وسألت الحسن عن هذا فقال: البيع جائز ولكل واحد منهما حق نقض هذا البيع، وإذا قال الرجل لغيره: بعتك عبدي هذا بألف درهم فقال ذلك الغير: بعتك عبدي هذا بألف درهم فقال ذلك الغير: هو حر. ذكر شيخ الإسلام والصدر الشهيد في دعوى الجامع أن هذا جواب ويعتق العبد، وذكر في (العيون) أنه ليس بجواب ولا يعتق العبد، ولو قال: فهو حر فهو جواب وعتق العبد وعليه ألف درهم.
وروى إبراهيم عن محمد في رجل قال لغيره: بعني غلامك هذا بألف درهم فقال: بعت فقال: اشتريت هو حر، قال: قال أبو حنيفة قوله هو حر قبض منه له وعتق عليه، قال: إبراهيم وقال محمد رحمه الله لا يعتق ولا يكون قابضًا بالعتق.
وفي (المنتقى) عن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لآخر: بعتك هذا العبد فقال الآخر: هو حر أو قال: هو مدبر فذلك سواء في قولي، وليس هذا ببيع حتى يأخذه ثم يعتقه. قال: وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا قال: هو حر يعتق عليه. وفي (فتاوى الأصل) إذا قال لغيره: بعتك عبدي هذا بألف درهم، وهبت لك الألف منك، فقال المشتري: اشتريت صح البيع ولا يجوز....؛ لأن الثمن لم يجب بعد. وفي (مجموع النوازل) أن البيع لا يصح في هذه الصورة؛ لأن هذا في معنى البيع بلا ثمن.
وفي (الفتاوى): سئل أبو القاسم عمن ابتاع من آخر ثوبًا بتسعة فقال: ربُّ الثوب بالفارسية: يده درهم يسند بدي بدين فقال المشتري: رضيت لا يجب به البيع حتى لو امتنع البائع عن تسليمه لا يجبر عليه، إذ ليس في هذه اللفظة ما ينبؤ عن إيجاب البيع.
وفي (فتاوى أهل سمرقند) رجل جاء إلى قصاب وقال: كم يعطي من هذا اللحم بدرهم فقال: منوين فقال الرجل زن منوين فوزن القصاب ودفعه إلى الرجل وأخذ الدرهم ولم يقل القصاب بعت ولا قال المشتري اشتريت وتفرقا عن ذلك فهو بيع جائز، ويعيد بذلك الوزن؛ لأنه يثبت البيع بينهما مقتضى الوزن سابقًا عليه، فيكون الوزن بعد البيع فيعتدُّ به، رجل قال: من أين أهب خورا با اسب نو عرض كردم، فقال الآخر: وأنا فعلت أيضًا فهذا بيع، هكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي.
رجل قال: لآخر بعت هذا العبد من فلان فبلغه، فبلغه الرسول وقال المشتري: اشتريت فهو بيع، ولو لم يقل بلغه فبلغه وقال المشتري: اشتريت لا يصح؛ لأن شطر البيع لا يتوقف على ما وراء المجلس، ولو قال: بعته منه فبلغه، فبلغه رجل آخر جاز؛ لأنه حين قال: فبلغه فقد أظهر من نفسه الرضا بالتبليغ فكل من بلغه كان التبليغ برضاه، فإن قال: صح البيع وهذا شيء يحفظ جدًا، وإذا قال لآخر: بعت منك هذا العبد بكذا، فقال الآخر لرجل آخر: قد اشتريت، فقال الرجل: اشتريت، ينظر إن أخرج الأخر الكلام مخرج الرسالة صح الشراء، وإن أخرج مخرج الوكالة لا يصح.
وفي (مجموع النوازل): رجل له على آخر دين فطالبه فجاء المطلوب بشعير قدرا معلومًا وقال للطالب: خذه بسعر البلد قال: إن كان سعر البلد معلومًا وهما يعلمان ذلك كان بيعًا تامًا، وإذا لم يكن سعر البلد معلومًا وهما يعلمان ذلك كان بيعًا تامًا، وإذا لم يكن سعر البلد معلومًا إلا أنهما لا يعلمان ذلك لا يكون بيعًا. رجل قال لآخر: بعتك هذا العبد ثم قام أحدهما عن المجلس، إما البائع أو المشتري ثم قبل الآخر لا يصح قبوله، هذا هو المذكور في عامة المواضع، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في الباب الثاني من (شرح الجامع) أنه إذا باع وهو قاعد ثم قام البائع، إلا إنه لم يذهب عن ذلك المكان حتى قبل المشتري صح قبوله، وهكذا كتب في هذا الباب أيضًا، لو كانا يمشيان فقال أحدهما: بعت وقال الآخر بعدما مشيا خطوة أو خطوتين: قبلت، رأيت في موضع من المواضع أنه لا يجوز في ظاهر الرواية، وفي رواية يجوز، ورأيت مكتوبًا على ظهر الجزء الثاني من شرح البيوع: شرحه الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله أن من قال لغيره: بعت منك هذا العبد فمشيا مكانا ثم قبل المشتري، إن في انعقاد هذا البيع وصحته اختلاف المشايخ، وسئل نصير بن يحيى عمن قال لآخر: بعت منك هذا العبد وفي يدي المشتري قدح ماء فشربه ثم قال: اشتريته كان بيعًا تامًا، وكذا لو أكل لقمة ثم قال: اشتريت لا ينعقد البيع بينهما؛ لأن المجلس قد تبدل.
قال لآخر: اشتريت منك هذا الثوب بكذا فاقطعه قميصًا لي، فقطعه فهذا بيع بينهما، في فتاوي شمس الأئمة السرخي رحمه الله، وفي نوادر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: أبعتني عبدك بألف استفهام فقال: نعم فقال: قد أخذته فهذا بيع لازم، فإن كان قد اشتراه بالأمس شراءً فاسدًا ثم لقيه اليوم فقال: أليس قد بعتني عبدك هذا بألف درهم قال: بلى قال: قد أخذته، فهذا باطل؛ لأن هذا على ما كان أمس، وإن كان ماكرًا بيع أمس فهذا اليوم جائز، ولو كان قال له أمس: بعتك عبدي هذا بألف درهم، فإن لم تجئني اليوم بالثمن فلا بيع بيني وبينك فقبل المشتري ذلك ولم يجئ بالثمن اليوم ولقي البائع من الغد وقال له: قد بعتني عبدك بألف درهم فقال: نعم قد أخذته فهذا شراء الساعة ولا أبطله بما كان منه أمس؛ لأن ذلك الشراء قد انتقض حين ما يأته بالثمن أمس قال: ولا يشبه هذا الشراء الفاسد.
رجل قال لآخر: بعت منك هذا العبد بألف فقال المشتري: اشتريت وقال البائع: رجعت وخرج قول البائع رجعت مع قول المشتري اشتريت معًا لا يصح البيع؛ لأنه قارن البيع ما يمنع صحته وهو رجوع البائع، كتب رجل إلى رجل: بعت عبدك هذا مني بكذا، فكتب المكتوب إليه: بعت منك عبدي هذا فهذا ليس ببيع، ولو كتب الأول اشتريت عبدك فلانًا بكذا، فكتب المكتوب إليه: إني قد بعت فهذا بيع، والفرق: أن البيع لابد له من الركنين، ففي الفصل الأول لم يوجد أحد الركنين، وفي الفصل الثاني وجد الركنان، وفي (فتاوى أبي الليث): رجل قال لغيره: بعت منك هذا الثوب بعشرة والمشتري قال: أخذته بتسعة وتقابضا قال: هو بتسعة؛ لأنه ينظر إلى آخرهما كلامًا فيحكم بذلك.
وفي (العيون) عن محمد رجل ساوم رجلًا فقال البائع: أبيعه بخمسة عشر وقال المشتري: لا آخذه إلا بعشرة، فإن كان الثوب بيد المشتري حين ساومه فهو بخمسة عشر لما ذهب به، وإن كان الثوب في يد البائع وقت المساومة فدفعه إلى المشتري فهو بعشرة؛ لأن البائع رضي بعشرة لما دفع الثوب إلى المشتري، وعنه أيضًا: رجل ساوم رجلًا بثوب فأخذه على المساومة أو دفعه إليه وهو يساومه وقال: هو بعشرة فذهب به المشتري، قال: هو على الثمن الذي قاله البائع يرده عليه أن يقول المشتري: لا آخذه إلا بتسعة لا أرضى إلا بتسعة، وعن أبي يوسف رجل أخذ ثوبًا من رجل فقال البائع بعشرين، وقال المشتري: لا أزيدك على عشرة فذهب بالثوب وضاع فهو بعشرين.
وفي (الواقعات) رجل قال لآخر: بكم هذا الثوب فقال: بعشرين فقال المشتري: لا أريده بعشرين، فذهب ثم جاء وأخذ الثوب وذهب به فهو بعشرين؛ لأنه رضي به وأخذ من الرجل ثوبًا، وقال: اذهب به، فإن رضيته اشتريته فذهب به وضاع الثوب فلا شيء عليه، ولو قال: إن رضيت أخذته بعشرة فضاع فهو ضامن قيمته بناء على أن المقبوض على سوم الشراء إنما يكون مضمونًا إذا كان الثمن مسمى. عن أبي يوسف في رجل ساوم رجلًا بثوب فقال صاحب الثوب: هو بعشرة فقال المساوم: هاته حتى أنظر إليه فدفعه إليه على ذلك فضاع لم يلزمه شيء علل فقال: لأنه أخذ على النظر، أشار إلى أنه ليس بمقبوض على سوم الشراء، إن أخذه على غير النظر ثم قال: انظر إليه فضاع لم يخرجه قوله انظر إليه عن الضمان، وهو على ما أخذه عليه أول مرة. هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله أيضًا.
وصورة ما روي عنه: رجل قال لغيره: هذا الثوب لك بعشرة فقال ذلك الرجل: هاته حتى أنظر إليه، فأخذه على هذا فضاع منه فلا شيء عليه، ولو قال: هاته، فإن رضيته أخذته فضاع فهو على ذلك الثمن، رجل قال لغيره: إن الناس يشرون كرمك هذا بألفي درهم فلم لا تبيعه فقال له صاحب الكرم: بعته منك بألف درهم فقال المشتري: اشتريته بها صح البيع إن لم يكن على طريق الهزل، وإن اختلفا فالقول قول البائع أنه أراد به الهزل بأن يكون قوله بعت بألف درهم رد الكلام ذلك الرجل، وإن كان المشتري أعطاه شيئًا من الثمن وأخذه ثم ادعى الهزل لا تسمع دعواه بعد ذلك؛ لأن قبض الثمن علامة الجد، وينعقد البيع بلفظ السلم بالإتفاق، وفي انعقاد السلم بلفظ البيع روايتان وسيأتي بيان ذلك في موضعه.
وينعقد البيع بالتعاطي بدون لفظة الإيجاب والقبول، على هذا اتفقت الروايات، والأصل فيه عرف الناس وعاداتهم. وصورة ذلك ما مر قبل هذا: رجل قال لقصاب: بكم يعطي من هذا اللحم بدرهم؟ فقال منوين فقال الرجل: زن منوين فوزن ودفع الرجل درهمًا إلى القصاب وذهب باللحم فهذا بيع، وإن لم يتلفظا بلفظة البيع والشراء.
وذكر في (النوازل): وضع فلسًا عند بقال وأخذ رمانة برضاه ولم يتكلما شيئًا فهذا بيع ثم اختلف المشايخ فيما بينهم، بعضهم قالوا: إنما ينعقد البيع بالتعاطي في الأشياء الخسيسة نحو البقل والرمانة والخبز وأشباه ذلك، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه وعامتهم على أنه ينعقد في جميع الأشياء الخسيسة والنفيسة في ذلك على السواء، وفي الكتاب مسائل تدل على هذا القول وهو الصحيح، واختلف المشايخ أن الشرط في بيع التعاطي: الإعطاء من الجانبين، أو الإعطاء من أحد الجانبين يكفي، وأشار محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): أن تسليم المبيع يكفي، وفي مسائل الوكيل مسألتان: أحدهما: تدل على أنه يشترط الإعطاء من الجانبين، والأخرى: تدل على أن الإعطاء من أحد الجانبين يكفي، وستأتي صورتهما في موضعهما، وسيأتي في فصل الإقالة نص أن الشرط هو الإعطاء من الجانبين، وكان الشيخ الإمام شمس الحلواني يشترط الإعطاء من الجانبين وكان يقول: إذا وجد قبض البدلين في المجلس ينعقد البيع بالتعاطي ومالا فلا، وبعض مشايخنا اكتفوا بالإعطاء من أحد الجانبين وهذا القائل شرط بيان الثمن لانعقاد هذا البيع بتسليم البيع، وهكذا حكى فتوى الشيخ الإمام أبو الفضل الكرماني.
وفي (المنتقى): رجل ساوم رجلًا بشيء أراد شراءه منه ولم يكن معه وعاء يأخذه منه، ثم جاء بالوعاء بعد ذلك وأعطاه الدراهم فهذا جائز، فقد حكم بجواز البيع بإعطاء الدراهم، فهذا يدل على انعقاد البيع بالتعاطي من أحد الجانبين، وعن أبي يوسف في رجل قال لغيره: كيف بيع الحنطة؟ فقال كل قفيز بدرهم فقال كل لي خمسة أقفزة فكال فذهب بها، قال: هذا بيع وعليه خمسة دراهم، وهذه المسألة دليل على انعقاد البيع بالإعطاء من أحد الجانبين أيضًا.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: إذا قال للقصاب: زن لي ما عندك من اللحم أو قال: زن لي من هذا الجنب أو قال من هذا الرجل على حساب ثلاثة أرطال بدرهم، فوزن له فلا خيار له، وفي (المجرد) عن أبي حنيفة إذا قال للحام: كيف بيع اللحم؟ قال: كل ثلاثة أرطال بدرهم فقال: قد أخذت منك زن لي، ثم بدا للحام أن لا يزن، فقبل قبض المشتري كان لكل واحد الرجوع، فإن قبضه المشتري أو جعله البائع في وعاء المشتري بأمره تم البيع وعليه درهم. وهذه المسألة دليل أيضًا على انعقاد البيع بإعطاء من أحد الجانبين.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: إذا قطع القصاب اللحم ووزن والمشتري ينظر أن يقبض له ذلك حتى يقول: رضيت أو يقبض. رجل اشترى وقرين من آخر بثمانية دراهم ثم قال البائع: أنت تؤمر آخر بهذا الثمن والغد هاهنا، فجاء البائع بوقر آخر والعين في ذلك الموضع فهذا بيع، وله أن يطالب الأخر بثمانية دراهم.
ومما يتصل بهذا الفصل معرفة المبيع والثمن؛ لأن البيع لابد له من المبيع والثمن. قال القدوري في كتابه: ما يتعين بالعقد فهو مبيع، وما لا يتعين فهو ثمن إلا أن يقع عليه لفظ البيع ثم قال: الدراهم والدنانير أثمان أبدًا؛ لأنها في الأصل خلقت ثمن الأشياء وقيمتها قال الله تعالى: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} [يوسف: 20] عين الثمن بالدراهم، وقال القدوري في (كتابه) الثمن: ما يكون في الذمة والدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات على أصلنا، وإنما ينعقد على مثلها دينًا في الذمة، فجعلوا الدراهم والدنانير أثمانًا لهذا، والأعيان التي ليست من ذوات الأشياء مبيعةً أبدًا، والمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة بين مبيع.... فإن كان مقابلها الدراهم والدنانير فهي مبيعة، وإن كان مقابلها عين، فإن كانت المكيلات والموزونات معينة فهي مبيعة وثمن؛ لأن البيع بدل من مبيع وثمن، وليس لأحدهما بأن يجعل مبيعًا بأولى من الآخر؛ لأن المكيل والموزون يتقينان في البياعات كالعروض، فجعلنا كل واحد منهما مبيعًا على وجه ثمنًا من وجه.
وإن كانت المكيلات والموزونات غير معينة، فإن استعملت استعمال الأثمان فهي ثمن نحو أن يقول: اشتريت هذا العبد بكذا كذا حنطة ونحو ذلك، وإن استعملت استعمال المبيع كان مبيعًا بأن قال: اشتريت منك بكذا كذا حنطة بهذا العبد فلا يصح العقد إلا بطريق السلم، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح شهادات (الجامع) أن المكيل والموزون إذا لم يكن معينا فهو ثمن، دخل عليه حرف الباء أو لم يدخل؛ لأن المكيل والموزون من ذوات الأمثال حتى يضمنا بالمثل في الإتلاف، فصار نظير الدراهم والدنانير، والدراهم والدنانير أثمان دخل عليها حرف الباء، أو لم يدخل، والفلوس بمنزلة الدراهم والدنانير في أنها لا تتعين بالتعيين، وكان أبو الحسن الكرخي يقول: الدراهم والدنانير يتعينان في العقود ولا يتعينان في التسليم، ويستدل بمسألة ذكرها محمد في (الجامع).
وصورتها: إذا قال الرجلان: بعت هذا العبد بهذا الكر وبهذه الألف فهما في المساكين صدقة، فباع العبد بهما لزمه التصدق بالكر دون الألف، ولم تتعين الدراهم في العقد، ولا يجب التصدق بشيء؛ لأن شرط وجوب التصدق البيع بالكر المعين والدراهم المعينة، فإذا كانت الدراهم لا تتعين في العقود كان البيع واقعا بكر معين والدراهم في الذمة فكان الموجود نصف الشرط، وبوجوب نصف الشرط لا ينزل الجزاء.
والجواب عن هذا الإشكال وهو وجه تخريج هذه المسألة: أن شرط وجوب التصدق وجود البيع مضافا إلى الكر وإلى الدراهم وتسميتها في البيع، فأما تعيين الدراهم فليس من الشرط في شيء؛ لأنه ليس من صنع العبد، فصار في التقدير كأنه قال: إن بعت هذا العبد بيعا مضافا إلى هذا الكر وإلى هذه الألف فهما في المساكين صدقة، فإذا أضاف البيع إليهما وسماها في البيع فقد وجد شرط وجوب التصدق فيلزمه التصدق.
وإذا عرفت المبيع والثمن فنقول من حكم المبيع إذا كان منفعة أن لا يجوز بيعه قبل القبض، ورد الأثر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولأنه تمكن في هذا العقد غرر يمكن التحرز عنه، ونهى رسول الله عليه الصلاة والسلام «عن بيع فيه غرر».
بيانه: أن المشتري الأول لو قبض المبيع بعدما باع يتم البيع الأول ويصير بائعا ملك نفسه، ومتى لم يقبض حتى هلك في يد البائع الأول فيفسخ البيع الأول ويعود العبد إلى ملك البائع الأول، فيصير المشتري الأول بائعا ملك الغير، فأما إذا كان لا يدري أنه يقبضه أو لا يقبضه لا يدري أن يكون بائعا ملكه فيصح، أو يكون بائعًا ملك غيره فلا يصح، فكان فيه غرر من هذا الوجه، وكل جواب عرفته المشتري فهو الجواب في الأجرة إذا كانت الأجرة عينا وقد شرط تعجيلها لا يجوز بيعها قبل القبض، وكذلك بدل الصلح عن الدين إذا كان عينا لا يجوز بيعه قبل القبض؛ لأن النص وإن ورد في البيع ولكن المعني الغرر فكان غير ملك يعقد، وينفسخ العقد فيه بهلاكه قبل القبض إن كان فيه غرر فيكون النص واقعا فيه دلالة، فأما المهر وبدل الخلع وبدل الصلح عن دم العمد.
إذا كان عينا فبيعها جائز قبل القبض وهم الغرر بانفساخ العقد في هذه الأشياء منتف فلا يكون النص ورادا في هذه الأشياء والمطلق للتصرف موجود وهو الملك، فجاز بيع هذه الأشياء قبل القبض، وما لا يجوز بيعه قبل القبض فكذا لا يجوز إجازته.
ولو تصدق بالمنقول المشتري قبل القبض وبما هو في معنى الشراء نحو الأجرة وبدل الصلح عن دعوى الغير فعلى قول أبي يوسف لا يجوز، وعلى قول محمد يجوز، وعلى هذا إذا وهبه، فأبو يوسف اعتبر معنى العود على نحو مابينا في البيع وأشباه ذلك، ومحمد يقول: تمام هذه التصرفات بالقبض، فكانت العبرة بحالة القبض، ولهذا كان الشيوع وقت القبض مانعا جواز الهبة ولم يكن وقت العقد مانعا. قلنا: والمانع زائل وقت القبض فيصح، ويصير الموهوب له وغيره مما ذكرنا عنه في القبض، فيصير قابضا لنفسه بخلاف البيع والإجارة؛ لأن ذلك مما يلزم بنفسه، وعند ذلك المانع قائم والقرض والوصية على هذا الخلاف أيضًا. هذا إذا تصرف المشتري في المنقول قبل القبض، فأما إذا تصرف فيه مع بائعه فإن باعه منه لم يجز بيعه أصلًا قبل القبض، وإن وهبه له لا يصح إقالة والبيع لايصح أصلًا.
الفرق: وهو أن لفظة الهبة تستعمل مقام لفظة الإقالة يقول الرجل: اللهم هب لي ديوني كما يقول: أقلني عثرتي، فعند تعذر العمل بحقيقته يجعل مجازا عن الإقالة.
وفي (فتاوي الفضلي): اشترى دارا ووهبها لغير البائع قبل القبض جاز بالاتفاق. فرق محمد بين الهبة لا تتم إلا بالقبض، فمتى أمر المشتري الموهوب له بالقبض صح الأمر؛ لأنه صادف ملكه، وصار الموهوب له وكيل المشتري في القبض فصار قبضه كقبض المشتري، فصار هبة للحال، وهو ما بعد قبض الموهوب فيكون هبة بعد القبض، فأما تمام البيع فبالإيجاب والقبول لا بالقبض، فلا يمكن أن يجعل تبعًا من الثاني للحال وهو ما بعد قبضه ليكون تبعًا بعد القبض.
وذكر الكرخي في (مختصره): إذا قال المشتري للبائع قبل القبض: بعه لنفسك فهو نقض البيع؛ لأنه لا يتصور بيعه لنفسه إلا بعد فسخ الأول فالأمر به من جهة المشتري وقبول البائع ذلك يتضمن فسخ الأول، ولو قال: بعه لي لا يكون نقضا، لو باعه لم يجز بيعه؛ لأن هذا أمر بما هو باطل فلا يتضمن فسخ الأول، ولو قال: بعه ولم يقل: لي أو لنفسك فقبل فهو نقض للأول وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف: لا يكون نقضا. وجه قول أبي يوسف: أن قوله بعْ ينصرف إلى البيع للأمر؛ لأن الملك له، فكأنه قال: بعه، وجه قولهما؛ لأن الأمر بالبيع للأمر لا يصح للمأمور بواسطة انفساخ البيع الأول للمأمور، ويتضمن ذلك انفساخ الأول كما لو قال: بعه لنفسك، ولو قال المشتري للبائع قبل القبض أعتقه فأعتقه البائع جاز العتق عن البائع وينفسخ البيع الأول، ولا يقع العتق عن المشتري عند أبي حنيفة؛ لأن بالعتق يصير المشتري قابضا والبائع لا يصلح قابضا للمشتري بطريق النيابة عنه فيقع العتق عن البائع، وطريقه: أن ينفسخ البيع الأول فيعود إلى ملك البائع، وعند أبي يوسف: العتق باطل؛ لأنه لا يقع عن المشتري لما قاله أبو حنيفة، ولا يقع عن البائع لعدم الملك، ولو ملك المنقول بالوصية أو بالميراث يجوز بيعه قبل القبض، أما في الميراث فلأن يد الورثة يد المورث؛ لأنهم خلفا عنه فكان هذا بيع المقبوض، وأما الوصية فلأنهما أحب الميراث فكان حكمها حكم الميراث، وأما مسألة العقار فنقول: العقار إذا ملك بالبيع أو الإجارة أو الصلح عن الدين لا يجوز التصرف فيه قبل القبض عند محمد وزفر والشافعي لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض، ويجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف لانتفاء الغرر إذ العقار لا يتصور هلاكه، والحديث خاص في المنقولات؛ لأن القبض حقيقة يتصور في المنقول دون العقار فينصرف الحديث إليه.
وفي (النوازل): إذا اشترى دارا وأوقفها قبل القبض وقبل نقد الثمن فالأمر موقوف إن أدى الثمن وقبضها جاز الوقف قيل: هذا على قول من لا يوقف صحة الوقف على التسليم إلى المتولي، هذا هو الكلام في طرف المبيع، جئنا إلى طرف الثمن فنقول: التصرف في الأثمان قبل القبض والديون استبدالا سوى السلم والصرف جائز عندنا، واختلفت عبارة المشايخ فيه بعضهم قالوا: لأن الثمن بيع المنقول قبل القبض إنما لا يجوز لمكان الغرر وهو انفساخ البيع الأول بالهلاك، وهذا المعنى لا يتأتى في جانب الثمن فيجوز التصرف فيه عملا بالمطلق، وبعضهم قالوا: لأن الثمن واجب في الذمة، والقبض لا يرد عليه حقيقة، وإنما طريق قبضه أن يقبض مثله عينا مضمونا عليه معًا فيلتقيان قصاصًا، وإذا كان طريق القبض هذا لا يقع التفرقة بين أن يكون المقبوض من جنسه أو من خلاف جنسه؛ لأنه مضمون بمعناه، والمقاصة تقع به وروي عن ابن عمر أنه قال: كنا نبيع الإبل بالبقيع ونأخذ مكان الدراهم الدنانير ومكان الدنانير الدراهم، وكان يجوزه رسول الله عليه السلام..... بخلاف السلم؛ لأنه وإن كان دينا لكن الشرع جعل المقبوض في السلم غير المستحق بالعقد؛ لأن الأصل فيه أن يكون مبيعًا، والاستبدال فيه بالقبض لا يجوز، وذكر الطحاوي أنه يجوز التصرف في القرض قبل القبض قال: لأنه لا يجوز تأجيله فلا يجوز التصرف فيه أيضًا، وهذا منه إشارة إلى أن الاستبدال إنما يصح في الديون المطلقة؛ لأن طريق قبض الديون قبض أمثالها لا أعيانها.
وفي باب القرض الواجب رد العين؛ لأنه إعارة فيصير كأنه انتفع بالعين وردّه، ومن هذا الوجه لم يجز التأجيل؛ لأن التأجيل في العواري لا يلزم فلا يصح الاستبدال عنه أيضًا. قال القدوري في (كتابه): هذا سهو والصحيح أنه لا يجوز؛ لأن الواجب بالقرض رد المثل لا رد العين، وأقيم رد المثل مقام رد العين فكان طريق رده ماهو الطريق إيفاء الديون فيصح الاستبدال.
ومما يتصل بهذه المسائل: إذا اشترى من آخر عبدا بدراهم وتقابضا ثم تقايلا ولم يقبض البائع العبد بحكم الإقالة حتى باعه ثانيا من المشتري صح، ولو باعه من أجنبي لا يصح، وبمثله لو اشترى رجل من آخر عبدا وباعه قبل القبض من بائعه أو من أجنبي لا يجوز، ففي بيع المنقول المشتري قبل القبض سوى بين البيع من بائعه وبين البيع بين أجنبي، وفي مسألة الإقالة فرق بين البيع من المشتري وبين البيع من الأجنبي، والوجه في ذلك: أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق الثالث، ففي حق المتعاقدين يعود إلى البائع قديم ملكه وأنه مقبوض، فإذا باعه من المشتري فقد باع ماهو مقبوض في حقهما، وفي حق الثالث لما كان عقدًا جديدًا جعل في حق الثالث كأن البائع اشتراه ثانيًا من المشتري ولم يقبضه بحكم الشراء، فكان هذا البيع المنقول قبل القبض، فوقع الفرق في مسألة الإقالة من هذا الوجه.
وفي مسألة الشراء هذا بيع المنقول قبل القبض في حق الكل فاستوى فيه البيع من البائع والبيع من الأجنبي، ولو اشترى غلامًا من رجل بألف درهم بشرط الخيار للمشتري ثلاثة أيام وتقابضا ثم فسخ المشتري العقد بخيار الشرط فلم يردها على البائع حتى اشتراه منه ثانيا صح، ولو اشتراه أجنبي صح أيضًا.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن في كل موضع انفسخ البيع بين البائع والمشتري في المنقول بسبب هو فسخ من كل وجه في حق الناس كافة فباعه البائع قبل أن يقبضه من المشتري أو من أجنبي، وفي كل موضع انفسخ البيع بينهما بسبب هو فسخ في حق المتعاقدين عقد جديد في حق الثالث، ولو باعه من المشتري يصح، ولو باعه من أجنبي لا يصح، وهذا أصل جنس كبير أشار إليه محمد رحمه الله في (بيوع الجامع) وفي (المنتقى) رواية مجهولة: رجل اشترى من رجل عبدًا وقبضه ثم أقاله البيع ثم باعه من الذي هو بيديه قبل أن يقبضه فالبيع... حتى يقبض.

.الفصل الثاني: في الاختلاف الواقع بين الإيجاب والقبول وفي الحوادث التي تمنع صحة القبول:

المشتري إذا أوجب البائع البيع في سنتين أو ثلاثة وأراد المشتري أن يقبل العقد في أحدهما دون الآخر فهذا على وجهين: إن كانت الصفقة واحدة ليس له ذلك، وإن كانت متفرقة فله ذلك، وهذا لأن الصفقة إذا كانت واحدة فالمشتري بقبول العقد في أحدهما يريد تفريق الصفقة على البائع وذلك ضرر بالبائع؛ لأن العادة فيما بين الناس أنهم يضمون الرديء الى الجيد في البياعات وينقصون أشياء عن ثمن الجيد لترويج الرديء بالجيد، فلو جاز قبول العقد في أحدهما فالمشتري يقبل العقد في الجيد ويترك الرديء على البائع فيزول الجيد عن ملك البائع بأقل من ثمنه، وفيه ضرر بالبائع، وكذلك لو قال: بعتك هذا العبد فقال المشتري: قبلت في نصفه لم يصح؛ لأن فيه ضرر عيب الشركة فالشركة في الأعيان عيب.
قال القدوري في (الكتاب): إلا أن يرضى البائع في المجلس نحو أن يقول: بعتك هذين القفيزين بعشرة فيقول المشتري: قبلت في أحدهما فيرضى به البائع ويكون ذلك من المشتري في الحقيقة استئناف إيجاب القبول، فإذا رضي به البائع في المجلس فيجوز، قال: وإنما يصح مثل هذا إذا كان للتبعيض الذي قبل المشتري حصة معلومة من الثمن على نحو ما ذكرنا من المثال في القفيزين؛ لأن الثمن ينقسم عليهما باعتبار الأجزاء فيكون حصة كل قفيز معلومة، فأما إذا كان الثمن ينقسم باعتبار القيمة نحو إن أضاف العقد إليه عبدين أو ثوبين فلم يصح العقد إذا قبل المشتري في أحدهما؛ وإن رضي البائع به؛ لأن القبول من المشتري لما جعل بمنزلة ابتداء الإيجاب، فإذا لم يكن حصة كل واحد مسمى لو جاز البيع في الذي قبل كان هذا ابتداء العقد بالحصة وإنه لا يجوز.
ثم لابد من بيان معرفة اتحاد الصفقة وتفرقها فنقول: إذا اتحد البيع والشراء والثمن بأن ذكر الثمن جملة والبائع واحد والمشتري واحد فالصفقة متحدة قياسا واستحسانًا، كذلك لو تفرق الثمن بأن سمى لكل بعض من المبيع ثمنا على حدة واتحد الباقي، بأن قال البائع: بعتك هذه الأثواب العشرة كل ثوب منها بعشرة، كانت الصفقة متحدة أيضًا، وكذلك إذا كان البائع والمشتري اثنين بأن قال البائع لرجلين: بعت منكما بكذا، وقال المشتريان: اشتريناها منك بكذا، كانت الصفقة متحدة، هذا هو الكلام في الاتحاد، وأما الكلام في جانب التفرق فنقول: إن تفرقت التسمية بأن سمى لكل بعض ثمنًا على حدة وتكرر البيع أو الشراء والبائع والمشتري اثنان وكان أحدهما اثنين فالصفقة متفرقة، وكذلك إذا تفرق الثمن وتكرر البيع أو الشراء والبائع والمشتري واحد، بأن قال البائع لرجل: بعت منك هذه الأثواب، بعتك هذا بعشرة، بعتك هذا بخمسة، أو قال المشتري: اشتريت منك هذه الأثواب، اشتريت هذا بعشرة، اشتريت هذا بخمسمائة كانت الصفقة متفرقة بالاتفاق، وأما إذا تفرق الثمن إلا أنه لم يتكرر لفظ البيع والشراء واختلف العاقدان بأن كان بأمر أحد الجانبين أو كان من كل جانب اثنين ذكر في بعض المواضع أنها صفقة واحدة، وذكر في بعض المواضع أنها صفقتان قيل: الأول: استحسانًا، والثاني: قياس وقيل: الأول قول أبي حنيفة، والثاني قول صاحبيه، ذكر الصدر الشهيد هذه الجملة في بيوع (الجامع).
وذكر شيخ الإسلام في شرح (صلح المبسوط) في باب اختلف الشراء والصلح إذا كان العبد بين رجلين فباعاه من رجل.... على أن نصيب الآخر ألف وجعل الصفقة متفرقة حتى قال: لو قبل المشتري البيع في نصيب أحدهما جاز، وعلل فقال: لأن كل واحد منهما بين لنصيبه ثمنا لا تقتضيه الواحدة؛ لأن الصفقة الواحدة تقتضي (أن) يكون الثمن بينهما نصفين على قدر ملكهما، فإذا سميا على التفاوت فقد غير حكم الصفقة الواحدة، وذكر حكم صفقتين فصارت الصفقة الواحدة في حكم صفقتين متفرقتين، بخلاف ما إذا سميا الثمن على المساواة بأن سمى كل واحد منهما لنصيبه خمسمائة، حيث تكون الصفقة متفرقة؛ لأن كل واحد منهما سمى لنفسه مقدار ما تقتضيه الصفقة الواحدة فيكون ذلك تقديرا لموجب الصفقة الواحدة لا تغيرا لها، فكانت الصفقة حقيقة وحكما متحدة وينبني على اتحاد الصفقة وتفرقها ما إذا اشترى شيئين أو أشياء مختلفة أو شيئًا واحدا ونفد بعض الثمن، وأراد أن يقبض بعض المبيع، فإن كانت الصفقة متفرقة فله ذلك.
بيان هذه الصورة فيما ذكر محمد رحمه في (الجامع): وصورته: رجل اشترى من آخر عشرة أثواب يهودية كل ثوب بعشرة دراهم وبعث المشتري عشرة دراهم وقال: هذه العشرة ثمن هذا الثوب بعينه وأراد أن يقبض ذلك ليس له؛ لأن الصفقة متحدة، وفي الصفقة الواحدة ضم الرديء إلى الجيد في البيع والحط عن بعض ثمن الجيد معتاد فيما بين الناس، فلو جاز له قبض أحدهن يقبض الجيد ولا يتسارع إلى قبض الرديء، وربما يهلك الرديء قبل القبض وينفسخ العقد فيه ويسلم للمشتري الجيد بأقل من ذلك، وفي ذلك ضرر على البائع،.... المشتري عن ثمن أحد هذه الأثواب بعينه فقال المشتري: أنا أجد ذلك الثمن لم يكن له ذلك اعتبارا للبراءة الحاصلة بالاستيفاء، وكذلك لو أخر البائع عن المشتري ثمن ثوب بعينه سهوا لم يكن له أن يقبض ذلك الثوب اعتبارا للبراءة المؤقتة بالبراءة المؤبدة، وكذلك لو أبراه عن جميع الثمن إلا درهما، وكذلك لو كان الثمن مائة وللمشتري على البائع سبعون درهمًا، فصار ذلك قصاصا بما وجب على المشتري قبض شيء من الثياب حتى تنفذ العشرة اعتبارًا للبراءة الحاصلة بالمقاضاة بالبراءة الحاصلة بالإيفاء باليد، وكذلك إذا كان ثمن أحد الأثواب بعينه عشرة دنانير، وثمن الباقي مائة درهم فنقد الدنانير أو نقد الدراهم لم يقبض شيئًا منها، وكذلك لو وقع الشراء على أن ثمن ثوب منها بعينه حالا وثمن الباقي مؤجلًا لم يكن له أن يقبض شيئًا حتى ينفذ المال.
ومما يتصل بهذه المسائل: رجلان اشتريا من رجل عبدًا بألف درهم فغاب أحدهما وحضر الآخر فليس له أن يقبض شيئًا من العبد ما لم ينقد الثمن جملة؛ لأن الصفقة متحدة، فلا يملك الحاضر تفريقها، فإن أوفى جميع الثمن قبل القبض قبض كله، ولا يكون متطوعًا، وإذا حضر الغائب ليس له أن يقبض حصته حتى يدفع الى الحاضر ما نقده من حصته، فإذا فعل ذلك قبض نصيبه، فإن هلك العبد في يد الذي قبضه قبل أن يحضر الغائب أو بعد ما حضر قبل أن يطلبه هلك أمانة حتى حضر الغائب رجع الأول عليه بحصته، وإن حضر الأول وطلب نصيبه فمنعه حتى يستوفي ما نقده عنه ثم هلك هلك بما نقد عنه، بمنزلة المبيع يهلك في يد البائع، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف يقال للحاضر: ليس لك أن تقبض شيئًا من العبد حتى تنقد جميع الثمن، فإذا نفذت جميع الأثواب لم تقبض إلا نصيبك وكتب متطوعا مع ذلك عن الشريك.
فوجه قول أبي يوسف: أن الغائب لم يرض بقبض الحاضر نصيبه فلا يصح قبضه عليه، وإنما يقبض نصيب نفسه إلا أنه لا يمكنه قبض نصيب نفسه ما لم ينقد جميع الثمن لما قلنا، فإذا نقد جميع الثمن ملك قبض نصيبه؛ لأن البائع لما رضي بتسليم الكل عند تسليم جميع الثمن كان أرضى بتسليم النصف عند قبض جميع الثمن، ويكون متبرعا إذ لا يجيء بما أدى للغائب ملكا ولا يدًا.
وجه قولهما: أن الحاضر محتاج إلى قبض نصيبه ولا يمكنه قبض نصيبه إلا بقبض الكل كيلا يؤدي الى تفريق اليد على البائع، ولا يمكنه قبض الكل، فكان مضطرا في أداء ما على الغائب، والمضطر لا يكون متبرعا، فكان بمنزلة الوكيل وكان له حبسه بما أدى كالوكيل، فإذا هلك عنده بعد البيع صار كالبيع يهلك في ضمان البائع، وعن أبي يوسف في (النوادر): أنه يدفع نصف الثمن ويأخذ نصف المبيع؛ لأن المستحق عليه نصف الثمن وقد أدى، فلو توقف حقه في قبض نصيبه لتوقف على أداء ما على صاحبه، وحق الإنسان لا يتوقف على أداء ما على غيره، ولو كان البائع أبرأ أحد الشريكين عن حصته من الثمن أو أخر عنه شهرا لم يكن له أن يقبض حصته من العبد حتى ينقد الآخر حصته من الثمن؛ لأن البراءة الحاصلة بالإبراء أو بالتأخير لا تكون أعلى حالا من البراءة الحاصلة بالإيفاء، وهناك ليس له أن يقبض لنفسه ما لم يوفِ كل الثمن كذا هاهنا، ولو أن المشتريين اشترى كل واحد منهما نصفه بخمسمائة بأن قال: كل واحد منهما للبائع، اشتريت منك نصف هذا العبد بخمسمائة فقال البائع: بعت ثم نقد أحدهما حصته فله أن يقبض نصيبه من العبد؛ لأن الايجاب وإن كان متحدًا فالقبول متفرق، فرجحنا التفرق بحكم تفرق التسمية، وكذلك لو أن البائع أبرأ أحدهما حصته أو أخر أحدهما عن حصته كان له قبض نصيبه، وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل.

.الفصل الثالث: في قبض المبيع بإذن البائع وبغير إذنه في تصرف أحد المتعاقدين في المبيع قبل القبض، وفيما يلزم المتعاقدين في المؤونة في تسليم المبيع، وفي تسليم الثمن:

قال أصحابنا رحمهم الله: وللبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن إذا كان الثمن مالًا؛ لأن البائع عين حق المشتري في المبيع، فيجب على المشتري تعيين حق البائع في الثمن تحقيقا للتساوي بينهما، ثم تعيين النقود بالقبض، فيجب تقديم القبض في الثمن تعيينًا لحق البائع، ولو وقع البيع عينا بعين أو دينا بدين سلما معا؛ إذ لا مزية لأحدهما على الآخر، وإن كان الثمن مؤجلا لم يمكن له حق الحبس؛ لأن حق الحبس إنما يثبت للبائع تحقيقا للتسوية بينهما، وقد سقط حق البائع في المساواة بحكم التأجيل، فيسقط حقه في الحبس ضرورة، ولو كان بعض الثمن حالا وبعضه مؤجلا فله حبسه حتى يستوفي الحال اعتبارا للبعض بالكل، ولو بقي من الثمن شيء قليل كان له حبس جميع المبيع؛ لأن حق الحبس لا يتجزأ، ولو دفع بالثمن هنا أو كفل به كفيلًا لم يسقط حق البائع لأنه وثيقة، والوثيقة توجب تأكيد الأصل، فكان حق البائع في الثمن قائما قبل المشتري فيبقى له حق الحبس، ولو أحال المشتري البائع على غريم له بالثمن لا يبطل حق البائع في الحبس، ولو أحال البائع غريمًا من غرمائه على المشتري حوالةً مقيدة بالثمن يبطل حقه بالحبس، هكذا ذكر المسألة في (الزيادات): ووجه ذلك أن سقوط حق البائع بالحبس يتعلق بسقوط حقه عن المطالبة بالثمن لا ببراءة المشتري عن الثمن، بدليل أن الثمن إذا كان مؤجلا سقط حق البائع في الحبس؛ وإن بقي الثمن في ذمة المشتري، فإذا أحال المشتري البائع على غريم من غرمائه لم يسقط حق البائع عن المطالبة بالثمن، ولكن عين المشتري في حق تحمل هذه المطالبة، فلهذا لا يسقط حق البائع عن المطالبة بالثمن فيسقط حقه في الحبس.
وفي (القدوري): إذا أحال المشتري البائع بالثمن على إنسان أو أحال البائع رجلا على المشتري سقط حق البائع في الحبس في قول أبي يوسف، وقال محمد: إذا أحال المشتري البائع بالثمن على إنسان لم يسقط حق البائع في الحبس، ولو أحال البائع رجلا سقط حقه. وتبين لما ذكر (القدوري) أن ما ذكر في (الزيادات) قول محمد وأبي يوسف إلى جانب ابني المشتري، وقال: ذمة المشتري برئت عن الثمن بالحوالة فتعتبر بالأداء، ومحمد نظر إلى جانب البائع، وقال: إن حق البائع إنما ثبت في الحبس لتعيين حقه في الثمن، فما دام حقه في المطالبة فإنما يبقى حقه في الحبس، فإذا أحال البائع رجلا على المشتري فقد سقط حق البائع في المطالبة فيبطل حقه بالحبس، أما إذا أحال المشتري الباقي على رجل فحق المطالبة للبائع قائم، لكن المشتري أقام غيره مقامه في حق تحمل المطالبة فلا يبطل حق البائع في الحبس.
وفي (المنتقى) رواية مجهولة: لو أحال البائع غريما من غرمائه على المشتري بالثمن مؤجلا فلم يقبض المشتري حتى حل الأجل كان له قبضه قبل نقد الثمن وليس للبائع منعه؛ لأن حق البائع في الحبس سقط بالتأجيل والساقط متلاشي لا يقبل العود، ولو أحله بالثمن سنة غير معينة فلم يحضر المشتري حتى مضت السنة فالأجل سنة من حين يقبض المبيع في قول أبي حنيفة، وإن كانت سنة بعينها صار الثمن حالا، وقال أبو يوسف ومحمد: الثمن حال في الوجهين؛ لأن مطلق الأجل ينصرف إلى ما يلي العقد كمدة الإجارة، فاستوى المعين وغير المعين، ولأبي حنيفة رحمه أن التأجيل إنما شرع نظرًا للمشتري لتتأخر عنه المطالبة بالثمن مع حصول الانتفاع له بالبيع والتصرف في المبيع في مدة الأجل ليؤدي الثمن عند مضي الأجل ويستفصل لنفسه أشياء.
وهذا المعنى إنما يحصل باعتبار الأجل من وقت القبض فيجب اعتباره ما أمكن، وقد أمكن اعتباره إذا كانت السنة غير معينة، فأما إذا كانت معينة فلأنها إذا كانت معينة فأتت لو بينا التأجيل في سنة أخرى كان هذا إثباتًا للحكم في غير المحل الذي تناوله اللفظ وهذا لا يجوز، بخلاف ما إذا لم تكن السنة معينة، ولو كان في المبيع خيار لهما أو أحدهما والأجل مطلق فابتداؤه من حين يلزم العقد، وأما في خيار الرؤية فالأجل يعتبر من حين العقد؛ لأن التأجيل لتأخير المطالبة إلى وقت مضي الأجل، وذلك إنما يكون في موضع يجب البدل لولا التأجيل، وذلك من وقت لزوم العقد، فأما خيار الرؤية فلا يمنع وجوب الثمن ولا يوجب المطالبة بالثمن، فاعتبر التأجيل من وقت العقد، وتسليم البيع: هو أن يحل بين المبيع وبين المشتري على وجه يتمكن المشتري من قبضه من غير حائل، كذا التسليم في جانب الثمن، وقال الشافعي رحمه: التخلية ليست بقبض والصحيح مذهبنا؛ لأن التسليم مستحق على الإنسان يجب أن يكون له طريق الخروج عن عهدته بنفسه، لو قال لوقف ذلك على وجود الفعل من غيره، وذلك الغير مختار في الفعل يبقى هو في عهدة الواجب، وإذا اشترى حنطة بعينها وخلى البائع بينها وبين المشتري في بيت البائع فعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يصير المشتري قابضا حتى لو هلكت هلكت من مال البائع، وعلى قول محمد يصير المشتري قابضًا حتى لو هلكت هلكت من المشتري، وعلى هذا الخلاف إذا اشترى خلا في دن وخلى البائع بين المشتري وبين الدن في بيت البائع وختم المشتري على الدن صار المشتري قابضا للحال عند محمد خلافا لأبي يوسف.
حجة محمد أن التخلية من البائع قد صحت؛ لأن صحتها بإزالة البائع يده، وقد زالها حين خلى بينه وبين الطعام، فيجب أن يصير قابضا، كما لو خلى في غير بيت البائع، ولأبي يوسف أن صحة التخلية بزوال يد البائع إن زالت حقيقة لم تزل من حيث الحكم؛ لأن البيت وما فيه في يد البائع حكمًا.
وفي (العيون): إذا اشترى من آخر حنطة في بيت ودفع البائع المفتاح إلى المشتري وقال: خليت بين الحنطة وبينك فهذا قبض، ولو دفع المفتاح إليه ولم يقل: خليت بينها وبينك فهذا ليس بقبض، ولو قال: خذ لا يكون قبضًا، ولو قال: خذه فهو قبض إذا كان يصل إلى أخذه ومرآه.
في (أجناس الناطفي) وفي (فتاوي الفضلي) إذا قال لغيره: بعت منك هذه السلمة وسلمتها إليك فقال ذلك الغير: قبلت لم يكن هذا تسليما حتى يسلمه بعد البيع، فإنما يعتبر بعد تمام البيع، ثم لاخلاف أن بالتخلية يقع القبض إذا كان المعقود عليه يقربهما، فأما إذا كان يبعد عنهما فقد ذكر الناطفي في (أجناسه) وهشام في (نوادره) فيمن باع من آخر دارا غائبه فقال البائع للمشتري: سلمتها إليك، وقال المشتري: قبضتها كان ذلك قبضا في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا كان يقدر على دخولها وأعلامها كان قبضا.
قال في (العيون): وكذلك الهبة والصدقة وأشار الخصاف في (شرح الحيل) أن التخلية تقع بالقبض وإن كان المعقود عليه يبعد عنهما، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ذكر في (النوادر) أن الرجل إذا باع ضيعته وخلى بينها وبين المشتري إن كانا بقرب من الضيعة يصير المشتري قابضا، وإن كانا ببعد عنها لا يصير قابضا، قال محمد رحمه الله: والناس عن هذا غافلون، فإنهم يشترون الضيعة في السواد ويقرون بالقبض والتسليم في المصر، وذلك مما لا يصح به القبض إلا رواية شاذة عن أبي يوسف رحمه الله.
قال: ولا يؤخذ بتلك الرواية ولا يعمل بها، وفي (فتاوى الفضلي): إذا باع دار إنسان ببلدة أخرى ولم يسلمها إليه إلا باللفظ ثم امتنع المشتري عن تسليم الثمن كان له ذلك؛ لأن تسليم الثمن إنما يجب عند قدرة البائع على تسليم المبيع، والبائع في هذه الصورة غير قادر على تسليم المبيع في الحال، فهذه المسألة دليل أن بالتحلية لا يقع القبض إذا كان المعقود عليه يبعد من المتعاقدين، وفي (نوادر هشام) عن محمد: رجل اشترى من آخر سمكة وهي مشدودة بخيط في الماء فقبضها المشتري، كذلك ثم ناول الخيط البائع وقال: احفظها فجاءت سمكة وابتلعت المشدودة، فالتي ابتلعت المشدودة للبائع إذا كان البائع هو الذي مد الخيط وأخرجها؛ لأنه هو الذي صادها، وأما المشدودة فهي للمشتري، فإن كانت المشدودة هي ابتلعت الماسة فهما جميعًا للمشتري سواء كان المشتري قبض المشدودة أو لم يقبضها؛ لأن الماسة كسب ملكه، وإن كان المشتري لم يقبض المشدودة فابتلعت الماسة المشدودة فالمشتري بالخيار: إذا خرجت المشدودة من بطن الذي ابتلعتها وقد ضرب بها لمن شاء، وإن شاء ترك.
وفي (كتاب العلل) قال: إذا أخذ البائع الآكلة وسلم المشدودة إلى المشتري جاز، وإن عجز عن تسليم الآكلة فقد عجز عن تسليم المبيع صح المشتري، كما لو أبق العبد المشترى قبل القبض، وإن كان المشتري قبض السمكة المشدودة ثم قال للبائع: أمسكها لتصيد بها فما كان من ذلك فهو للمشتري، زاد في (كتاب العلل) وإن بيد البائع الخيط وكان البائع كالعون له؛ لأن المشتري إنما ترك المشدودة ليصطاد بها، فهو بمنزلة ما لو نصب شبكة ووقع صيد فقال الآخر: مد فم الشبكة ففعل.
وفي (نوادر هشام) عن محمد: رجل اشترى من آخر دارًا بالكوفة وهما ببغداد وقبض الثمن ولم يسلم الدار، خاصمه المشتري فيها فإن القاضي يأمر بائع الدار أن يوكل وكيلًا يشخص مع المشتري إلى الكوفة فيأخذ الدار ويأخذ المشتري كفيلًا من البائع بنفسه، ويوكل المشتري هاهنا وكيلًا بخصومة البائع، ثم يخرج المشتري إلى الدار مع الوكيل ويكتب: قاضي بغداد له إلى قاضي الكوفة فيأخذ الدار ويأخذ المشتري كفيلًا بخصومة البائع بما استقر عنده من أمرها، فإن كتب قاضي الكوفة إلى قاضي بغداد أن الوكيل لم يسلم الدار، يعني جحد الوكالة وأعادها لنفسه حبس القاضي البائع في السجن حتى يسلم وكيله الدار.
وفي (فتاوى أبي الليث): إذا باع دارًا وسلمها إلى المشتري وفيها متاع قليل للبائع لا يصح التسليم حتى يسلمها إليه فارغة؛ لأن يد البائع قائمة، وقيام يد البائع تمنع صحة التسليم، وإن أذن البائع للمشتري بقبض الدار والمتاع صح التسليم؛ لأن المتاع صار وديعة عند المشتري، فزالت يد البائع عن الدار، وكذلك إذا باع أرضًا فيها زرع البائع وسلم الأرض إلى المشتري لا يصح التسليم، ذكر محمد رحمه الله في (السير الكبير): إذا ولى الإمام رجلًا بيع المغانم فجعل ذلك الأرماك في حظيرة وباع رمكة منها وقال للمشتري: ادخل الحظيرة واقبض الرمكة فخليت بينك وبينها، فدخل الرجل الحظيرة لقبض الرمكة، فعالجها فأفلتت منه وخرجت من باب الحظيرة وذهبت ولا يدري أين ذهبت، ينظر في ذلك إن كان المشتري لا يقدر على أخذها فالهلاك على البائع؛ لأن المشتري لم يصر قابضًا لها لا حقيقة وهذا ظاهر، ولا حكمًا لأنه لم يتمكن من قبضها، إذا كان لا يقدر على أخذها، وإن كان المشتري يقدر على أخذها فالهلاك على المشتري؛ لأنه صار قابضًا لها حكمًا، ثم في هذا الوجه يستوي الجواب بينهما إذا كان يقدر المشتري على أخذها من غير كلفة ومشقة وبين ما إذا كان يقدر على أخذها بكلفة ومشقة، ففي الحالين جميعًا يصير قابضًا لها بالتخلية؛ لأن المعتبر في هذا الباب التمكن من القبض لا غير. ألا ترى أن من اشترى من آخر صبرة عظيمة مشارًا إليها وخلى البائع بينها وبين المشتري صار قابضًا لها، وإن كان لا يقدر على قبضها إلا بكلفة ومشقة وإن كان المشتري لا يقدر على أخذها وحده ويقدر على أخذها لو كان معه أعوان أو له فرس ينظر إن كان الأعوان أو الفرس معه يصير قابضًا.
وإن كانت الرمكة في يد البائع وهو يمسك لها فقال المشتري: هاك الرمكة فأثبت المشتري يده عليها أيضًا حتى صارت الرمكة في أيديهما والبائع يقول للمشتري: خليت بينها وبينك وأنا أمسكها منعًا لها، وإنما أمسكها حتى يضبطها فانفلتت في أيديهما فالهلاك على المشتري؛ لأن المشتري قابض لنصفها حقيقة ولنصفها حكمًا لتمكنه منه؛ لأن البائع لا يمنعه من ذلك، فإن قيل: الرمكة في يد البائع حقيقة، وقيام يد البائع عنها يمنع بثبوت يد غيره عليها، قلنا: قيام يد الإنسان على المحل يمنع ثبوت يد غيره عليه على طريق تمكين المشتري وإعانته عليه إياه على تقدير يده، فلا يمنع ذلك صحة قبض المشتري.
وإن كانت الرمكة في يد البائع ولم تصل إليها يد المشتري فقال البائع للمشتري: خليت بينها وبينك فاقبضها، فأبى إنما أمسكها لك فانفلتت من يد البائع قبل أن يقبض المشتري وهو يقدر على أخذها من يد البائع وضبطها كان الهلاك على البائع، بخلاف ما إذا كانت الرمكة في أيديهما والبائع لا يمنعها من المشتري فانفلتت فإن هناك الهلاك على المشتري.
والفرق: أن المشتري لا يصير قابضًا للمشترى ما لم يزل قبض البائع، ومتى كانت الرمكة في أيديهما والبائع لا يمنع فقد زال قبض البائع حكمًا؛ لأن يد المشتري ثابتة على أحد النصفين حقيقة، وعلى النصف الآخر حكمًا، إنما يد البائع ثابتة على أحد النصفين لا غير، فكان قبض البائع حكمًا دون قبض المشتري فيرتفع بقبض المشتري، وأما إذا كانت الرمكة كلها في يد البائع فلم يزل قبض البائع حكمًا؛ لأن جميع الرمكة في يد البائع حقيقة، ويد المشتري ثابتة عليها حكمًا، إذا كان لا يمنعها البائع عن المشتري فكان قبض المشتري دون قبض البائع فلا يرتفع به قبض البائع، ومع قيام قبض البائع لا يعتبر قبض المشتري، وبخلاف ما إذا لم تكن الرمكة في يد البائع ولا في يد المشتري وهو قريب من البائع، والمشتري بحيث لو أراد المشتري قبضها أمكنه ذلك، فقال البائع للمشتري: خليت بينك وبينها فانفلتت في هذه الحالة كان الهلاك على المشتري؛ لأن الثابت لكل واحد منها، أعني البائع والمشتري في هذه الصورة التمكين من القبض لا القبض الحقيقي، فكان يد كل واحد منهما مثل يد صاحبه، فجاز أن تزول يد البائع بيد المشتري، فإن كانت الرمكة ببعد عن المشتري والبائع فقال البائع للمشتري: خليت بينها وبينك فهذا لا يكون قبضًا، وقد مر هذا في فصل الضيعة والدار.
وسئل شمس الإسلام الأوزجندي: عن فرس بين اثنين وهو في المرعى، باع أحدهما نصيبه من صاحبه وقال للمشتري: اذهب واقبضه وهلك الفرس من قبل أن يذهب المشتري إليه قال: الهلاك عليهما؛ لأن المشتري لم يقبض المشترى حقيقة ولا حكمًا، وكان الهلاك على المشتري، ووقعت في زماننا أن رجلًا اشترى بقرة من رجل وهي في المرعى فقال له البائع: اذهب واقبض البقرة فأفتى بعض مشايخنا: أن البقرة إن كانت بمرأى العين بحيث يمكن الإشارة إليها فهذا قبض وما لا فلا، وهذا الجواب ليس بصحيح والصحيح أن البقرة إن كانت بقربهما بحيث يتمكن المشتري من قبضها لو أراد فهو قابض لها بدليل المسألة التي ذكرناها، ولو كان المشتري اشترى الأرماك كلها في الحظيرة وخلى البائع بينها وبين المشتري والأرماك بحيث لا يقدر على الخروج إلا بفتح الباب، ففتح المشتري باب الحظيرة ليدخل فلعله يأخذ بعض الرماك فعليه الرماك وخرجت من الحظيرة وذهبت فالهلاك على المشتري والثمن لازم، سواء كان المشتري يقدر على أخذها لو دخل الحظيرة أو لا يقدر، وهذا الجواب ظاهر فيما إذا كان يقدر على قبضها لو دخل الحظيرة؛ لأن المشتري صار قابضًا لها لما تمكن من قبضها، مشكل فيما إذا كان لا يقدر على قبضها لو دخل الحظيرة؛ لأن المشتري لم يقبضها لا حقيقة باليد ولا حكمًا بالتمكن من القبض، فينبغي أن يكون الهلاك على البائع في هذه الصورة. ألا ترى لو فتح غير المشتري الباب، ولو كان المشتري لا يقدر على أخذ الرماك لو دخل الحظيرة فانفلتت رمكة وخرجت لا يكون الهلاك على المشتري لم يصر قابضًا لها لما لم يكن متمكنًا من قبضها، والجواب أن الجواب صحيح في الوجهين؛ لأن المشتري إذا كان لا يقدر على قبض الرماك إن كان لا يصير قابضًا لها بالتمكن من القبض يصير قابضًا لها بالإتلاف. والقبض كما يتحقق من المشتري بالتمكن من القبض يتحقق منه بالإتلاف. ألا ترى أن من اشترى عبدًا والعبد يبعد منه بحيث لا يتمكن من قبضه لو أراد قبضه فأعتقه يصير قابضًا حتى يتأكد عليه الثمن وما صار قابضًا لتمكنه من القبض؛ لأن العبد يبعد منه، وإنما صار قابضًا بالإتلاف كذا هنا، وبيان الإتلاف أن فتح الباب سبب خروج الرمكة وإتلافها، فيقام مقام مباشرة الإخراج والإتلاف.
وخرج على هذا ما إذا كان فاتح الباب غير المشتري ولا يلزم أبا حنيفة وأبا يوسف ما إذا فتح الرجل باب قفص إنسان أو باب اصطبل إنسان فطار الطير أو خرجت الدابة من فور ذلك؛ فإنه لا يضمن الفاتح عندهما مع أنه سبب لإخراج الدابة والطير بالفتح؛ لأن هناك لو فتح الباب ضمن الفاتح إنما يضمن ضمان غصب؛ لأنه لم يوجد منه عقد ضمان في حق الطير والدابة، والمشتري في فعل الرمكة لو ضمن بفتح الباب ضمن ضمان العقد؛ لأنه وجد منه عقد ضمان في حق الرمكة، وقد جرى في بعض ضمان العقد من السهولة ما لم يجر في ضمان الغصب. ألا ترى أن المشتري قابض بحكم العقد وضامن بالتمكن من قبض ما اشترى، ولا يثبت الغصب بمجرد التمكن بالقبض فكذا هنا.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا اشترى طيرًا في بيت والباب مغلق فهبت الريح بالباب وفتح الباب وطار الطير لا يصح التسليم، وإن فتح المشتري الباب وطار الطير صح التسليم، وهذا الجواب ليس بصحيح،...... أن المشتري إذا كان بحال يمكنه قبض المشترى بيده من غير أعوان أو مع أعوان إلا أن الأعوان معه يصير قابضًا حتى لو انفتح الباب وطار الطير ذهب من مال المشتري سواء انفتح الباب بفتح المشتري أو بهبوب الريح أو بفعل أجنبي، وإن كان بحال لا يمكنه الأخذ أصلًا أو كان يمكنه بعون إلا أن الأعوان ليسوا معه، فإن فتح الباب بفتح المشتري وذهب الطير ذهب من مال المشتري، وإن انفتح الباب بهبوب الريح أو بفتح الأجنبي ذهب من مال البائع بدليل مسألة الشراء.
اشترى من آخر دهنًا معينًا ودفع إليه قارورة ليزنه فيها، فوزن بحضرة المشتري صار قابضًا، وإن كان في دكان البائع أو بيته لا وزن البائع هنا منقول من المشتري؛ لأن الأمر به قد صح، وإن وزن بغيبة المشتري ذكر بعض المتقدمين في شرح (الجامع الصغير) أن المشتري لا يصير قابضًا، والصحيح أنه يصير قابضًا لما ذكرنا.
ولو أن البائع حين صب رطلًا انكسرت وهما لا يعلمان بذلك، فما صب قبل الانكسار يهلك على المشتري وما صب بعد الانكسار يهلك على البائع، في القارورة شيء بعد الانكسار، فما وزن قبل الانكسار فصب البائع في القارورة رطلًا حتى خرج الكل عن القارورة، فالبائع يصير ضامنًا للمشتري مثل ما بقي في القارورة بعد الإنكسار، وإن دفع المشتري القارورة منكسرة إلى البائع ولم يعلما بذلك فصب فيه بأمر المشتري فذلك كله على المشتري.
ولو أن المشتري أمسك القارورة بنفسه ولم يدفعه إلى البائع والمسألة بحالها كان الهلاك في جميع ما ذكرنا على المشتري.
وفي (المنتقى): لو دفع القارورة إلى البائع منكسرة ولا يعلم به المشتري والبائع يعلم وكاله فيه فتلف فالبائع متلف فيه ولا شيء على المشتري ولو لم يعلم به البائع أو كانا يعلمان به وكاله فيه، فالمشتري قابض له.
قال هشام في (نوادره): سألت محمدًا عن رجل اشترى من آخر شيئًا وأمره المشتري أن يجعله في وعاء المشتري، فجعله فيه ليزنه عليه، فانكسر الإناء وتوي ما فيه فهو من مال البائع؛ لأنه إنما جعله في إناء المشتري ليزنه فيعلم وزنه لا للتسليم إلى المشتري، فإن وزنه ثم انكسر الإناء فهو من مال البائع أيضًا، وإن وزنه في شيء للبائع ثم جعله في إناء المشتري ثم انكسر فهو من مال المشتري.
قال للبائع: زن لي في هذه الإناء كذا وكذا وابعث به مع غلامك أو قال مع غلامي ففعل، فانكسر الإناء في الطريق، قال: هو من مال البائع حتى يقول: ادفعه إلى غلامك أو قال: إلى غلامي، فإذا قال ذلك فهو وكيل، فإذا دفعه إليه فكأنه دفعه إلى المشتري.
وفي (مجموع النوازل): إذا اشترى من قروي وعاء هديل، وأمره أن يذهب به إلى منزله، فسقط في الطريق وهلك، فالهلاك على البائع إن لم يقبضه المشتري.
رجل باع من آخر ثوبًا وأمره أن يقبضه فلم يقبضه حتى أخذ إنسان الثوب، فإن كان حين أمره البائع بالقبض أمكنه القبض من غير قيام صح التسليم، وإن كان لا يمكنه القبض إلا بقيام لا يصح التسليم.
في (فتاوى أبي الليث) وفيه أيضًا: إذا اشترى من آخر دابة والبائع راكبها، فقال له المشتري: احملني معك فحمله معه، فهلكت الدابة هلكت من مال المشتري؛ لأن ركوب المشتري قبض منه. وقيل: إن كان المشتري ركب على السرج والبائع رديفه يصير قابضًا وما لا فلا، وإن لم يكن عليه سرج فهو قابض كيف ما كان، ولو كانا راكبين فباع أحدهما من صاحبه لا يصير قابضًا بمنزلة ما لو باع دارًا والبائع والمشتري في الدار.
رجل اشترى من آخر حنطة بعينها، ثم قال للبائع: أعرني جوالقك هذا، أو قال جرابك هذا، وكل لي ما اشتريت منك حتى أرجع فاحمله، فذهب المشتري ففعل البائع ذلك وضاعت الحنطة، فهذا ليس بقبض حتى يدفع إليه المشتري آنية له يكيل فيها الطعام أو يقبض منه المشتري وعاءه التي استعارها ويدفعها إليه، فإذا كان كذلك فهو قبض هكذا رواه ابن سماعة عن محمد رحمهما الله.
وذكر عمرو بن أبي عمرو عن محمد إذا قال المشتري للبائع: أعرني جوالقك هذا كله فيه، ففعل صار المشتري قابضًا، ولو قال: لم هذا والباقي بحاله لا يصير.
وفي (القدوري): وقال أبو يوسف: إذا استعار المشتري من البائع جوالق أو أمره أن يكيل فيها، فإن كانت الجوالق بعينها صار المشتري قابضًا بالكيل فيه، وإن كانت بغير أعيانها نحو أن يقول: أعرني جوالق أو كِلْ فيها ففعل فإن كان المشتري حاضرًا فهو قبض، وإن كان غائبًا لم يكن قبضًا، وقال محمد رحمه الله: لا يكون قابضًا في المعينة في الوجهين حتى يقبض الجوالق منه ثم يسلمها إليه، فإذًا على ما ذكره القدوري بينهما اتفاق أن المشتري إذا لم يعين الغرائر لم يصر المشتري قابضًا بكيل البائع حال غيبة المشتري، وهذا لأن البائع بالكيل عامل لنفسه من وجه من حيث إنه يميز ملكه عن ملك المشتري، وعامل المشتري من وجه من حيث إنه يميز ملك المشتري فينتقل فعله إلى المشتري من وجه دون وجه، فلا يثبت القبض بالشك بمجرد الأمر بالكيل بخلاف ما لو دفع إليه غرائر نفسه حيث يصير قابضًا بجعله في غرائره بعد الكيل والتمييز؛ لأنه عامل في هذا للمشتري من كل وجه، فيصير فعله في هذا منقولًا إلى المشتري من كل وجه، ويصير كأن المشتري هو الذي جعله في غرائره بعد الكيل والتمييز؛ لأنه عامل في هذا للمشتري من كل وجه فيصير فعله في هذا منقولًا إلى المشتري من كل وجه، فيصير فعله في هذا منقولًا إلى المشتري من كل (وجه) ويصير كأن المشتري هو الذي جعل الغرائر بعد الكيل والتمييز ولأن الاستعار مع الجهالة لا يصح، فقبل التعيين لا تصير الغرائر للمشتري لا ملك منفعة ولا ملك رقبة، فلا يحصل الجعل في غرائر المشتري، وبدون الجعل في غرائر المشتري (لا يصير) قابضًا، وأما إذا عين الغرائر وأمره بالكيل بها ففعل بعينه المشتري، فعلى قول محمد لا يصير قابضًا؛ لأن العارية لا تتم بدون القبض، وما لم يتم العارية لا تصير الغرائر للمشتري لا ملك منفعة ولا ملك رقبة، وقال أبو يوسف: يصير قابضًا؛ لأن استعارة الغرائر غير مقصودة لعينها وإنما يثبت حكمًا لتصحيح القبض، فكانت قصدية من وجه حكمية من وجه، فشرطنا التعيين لكونها قصدية ولم يشترط القبض لكونها حكمية.
وفي (القدوري) أيضًا: إذا اشترى من آخر كرًا بعينه وله على البائع كر دين، فأعطاه جوالق وقال: كلها فيه، فإن كان العين أولًا ثم الدين صار المشتري قابضًا لهما، أما للعين فظاهر، وأما للدين فلأن البائع خلطه بمال المشتري بأمره، وهذا سبب ملك لو وجد من الآمر، فإن خلطه الجنس بالجنس بسبب ملك، وإذا كان هذا سبب ملك كان المشتري أمر للبائع أن يباشر له بسبب ملك، فيكون عاملًا للمشتري بأمره كما لو أمره بالشراء فاشترى، وإن كان الدين أولًا ثم العين لم يصر قابضًا للدين وكانا شريكين، فهذا على قول محمد و(على) قول أبو يوسف يصير قابضًا لهما؛ لأن خلطه الجنس بالجنس استهلاك، فإذا خلطه الدين بملك المشتري بأمره صار المخلوط ملكًا للمشتري، فصار قابضًا له لاتصاله بملكه.
وجه قول محمد: أن المشتري لو صار قابضًا الدين، إما أن يصير قابضًا بالكيل أو يجعل المكيل في غرار المشتري، لا وجه إلى الأول؛ لأن الكيل لم يصر منفعة لا إلى المشتري؛ لأن أمره بالكيل لم يصح؛ لأن الكيل يلاقي ملك المديون، فلا يصير المكيل منقولًا إلى المشتري كما قبل الأمر، ولا وجه إلى الثاني، وإن صح الأمر من المشتري بجعل الحنطة في غرائره من حيث إنه يصرف في الغرائر ملك المشتري؛ لأن جعل المديون الدين في غرائر المشتري لا يصير منقولًا إلى المشتري؛ لأن المديون في ذلك عامل لنفسه؛ لأن الحنطة ملك المديون، وقد أذن له المشتري أن يجعلها في غرائره، فصار معير الغرائر من المديون، والمستعير في الانتفاع بالعارية عامل لنفسه وإن كان بأمر المعير، ولهذا كان قرار الضمان على المستعير، وإذا صار عاملًا لنفسه فيما صح الأمر به لم يصر فعله منقولًا إليه لا في حق الكيل ولا في جعله في الغرائر، صار الحال بعد الأمر كالحال قبله، وقبل الأمر لا يصير قابضًا فكذا هاهنا، بخلاف شراء العين؛ لأن هناك فعل البائع وهو الكيل وجعل الحنطة في غرائر المشتري صار منقولًا إلى المشتري؛ لأن البائع في جعل الحنطة في غرائر المشتري عامل للمشتري؛ لأنه يضع ملكه ومنفعة ذلك له فكان عاملًا له، فانتقل فعل البائع إلى المشتري حكمًا، وصار المشتري فعل ذلك بنفسه، فلهذا صار قابضًا، وعن هذا قلنا: إن في فصل العين إذا أمر المشتري البائع بالطحن، فطحن يصير المشتري قابضًا، وفي الدين لا يصير؛ لأن الأمر بالطحن من المشتري قد صح؛ لأنه لاقى ملك المشتري ومنفعته تعود إليه، فانتقل فعل البائع إليه. أما الأمر بالطحن من رب الدين فلم يصح؛ لأنه لاقى ملك المديون فلم ينتقل فعله إلى رب الدين.
وإذا ثبت من مذهب محمد أن المشتري لم يصر قابضًا للدين في هذه الصورة بقي دين المشتري على البائع حاله، وبقي الكر في الجوالق على ملك المديون لكن صار البائع خالطًا ملك المشتري بملك نفسه بأمر المشتري، فكانا شريكين فيه.
ولو أحدث المشتري في المبيع عيبًا أو أخذ البائع بأمره فهو قبض من المشتري، أما إذا أحدث المشتري فلأن هذا لا يتأتى إلا بالاستيلاء على المحل، وذلك فوق القبض حقيقة في إثبات القدرة على المحل. وأما إذا فعل البائع بأمره فلأن فعل غيره بأمره كفعله بنفسه.
وكذلك لو أعتقه المشتري أو دبره أو أقر أن الجارية أم ولد له فهو قبض من المشتري، أما الإعتاق فلأنه إبطال المحل حكمًا فيعتبر بالإتلاف حقيقة، وما عدا الإعتاق من التدبير والإقرار.... منه الولد ينقبض حكمًا، فيعتبر بالقبض حقيقة وهو الصلت.
ولو زوج المشتري الأمة المشتراة قبل القبض من إنسان، فالقياس: أن يكون قابضًا بنفس النكاح، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله. وفي الاستحسان: لا يصير قابضًا ما لم يطأها الزوج، وهذا لأن النكاح ليس بتعييب من حيث إتلاف الملك وتنقيص المالية بل هو تعييب حكمي من حيث...... الناس، فهو في معنى نقصان السعر بخلاف الإعتاق والتدبير؛ لأن ذلك إتلاف الملك وتنقيص المال، فلهذا افترقا، فإذا وطئها الزوج الآن يصير قابضًا؛ لأن الوطء استيلاء على المحل وقد فعل الزوج بتسليط المشتري فيعتبر بما لو فعل المشتري بنفسه.

.فرع على مسألة النكاح:

في (المنتقى) فقال: رجل اشترى من رجل جارية وزوجها قبل القبض وماتت الجارية قبل أن يدخل بها الزوج ينتقض البيع ويموت من مال البائع بناء على ما قلنا: إن المشتري بنفس النكاح لم يصر قابضًا، فإذا ماتت فقد ماتت قبل القبض، وهلاك المبيع قبل القبض يوجب انتقاض البيع ثم قال: ويكون المهر الذي على الزوج للمشتري وعليه حصته من الثمن يقسم على المهر من الثمن لزمه، ويتصدق بالفضل إن كان في المهر فضل. قال: والمهر في هذا بمنزلة الولد، ولا يشبه المهر الهبة لو وهب للجارية هبة، فإن الهبة لا حصة لها من الثمن قال: لأن المهر من الجارية، ألا ترى أن الجارية المرهونة إذا وطئت كان المهر رهنًا معها، لو وهب هبة كانت الهبة للراهن ولم يكن رهنًا.
قال ثمة أيضًا: رجل اشترى من رجل عبدًا لجارية فلم يتقابضا حتى زوج المشتري الجارية من إنسان بمئة درهم ثم مات العبد في يد البائع قبل أن يدفعه إلى مشتري العبد، فإن العقد ينتقض فيما بينهما ورجعت الجارية التي كانت له مهرها، ويرجع الذي كانت الجارية له على مشتريها بقدر النقصان. قال: ولا يكون نكاح المشتري إياها قبضًا منه لها، وإن كان هذا عيبًا فليس بعيب في يديها. ألا ترى أن المشتري لو أقر بدين عليها في يد البائع قبل القبض جاز إقراره عليه، وإن كان ذلك عيبًا أخذته فيها ولم يصر به قابضًا لها ما كان الطريق إلا ما قلنا: وذكر هذه المسألة في موضع آخر من (المنتقى) وزاد في وصفها فقال: رجل اشترى من رجل جارية بعبد، فقبل أن يقبض المشتري الجارية زوجها المشتري من رجل بمئة درهم، وقد كانت الجارية تساوي قبل التزويج ألفي درهم، فنقصها التزويج خمسمئة ثم وطئها الزوج في يد البائع ثم مات العبد قبل التسليم إلى مشتريه، قال: المهر للذي باعها ويكون الخيار إن شاء أخذ جاريته ناقصة ولا شيء له غيرها، وإن شاء ضمن مشتريها قيمتها يوم وطئها الزوج؛ لأن بموت العبد قبل القبض فسد البيع في الجارية، والمبيع بيعًا فاسدًا مضمون على المشتري بقيمته يوم القبض، ويوم قبض المشتري يوم وطء الزوج إياها.
ولو كان المشتري زوجها من البائع قبل القبض فوطئها الزوج ثم مات العبد قبل التسليم، فإن بائع الجارية إن شاء يسلم الجارية لمشتريها منه وضمنه قيمتها يوم وطئها هو بحكم النكاح من قبل أن المشتري صار قابضًا لها بوطء الزوج، ولا يغرم البائع مهر مثلها للمشتري، وإن شاء بائع الجارية نقض المبيع فيها وأخذ جاريته من المشتري وفسد النكاح وبطل المهر، والخيار في نقض البيع وتركها إلى بائعها دون مشتريها وينتقض البيع (وإن لم) ينقضه القاضي، ألا ترى أن في البيع الفاسد إذا قبض البائع الجارية من المشتري ونقض البيع فيها انتقض البيع، وإن لم ينقضه القاضي.
وإن كان المشتري زوجها إياه بعدما قبضها بأمره والباقي بحاله لم يكن للبائع سبيل على الجارية من قبل أنه وجب المهر بعد القبض، ولا يستطيع بائعها أن يأخذها ويأخذ معها مهرًا لم يكن في البيع ويضمن المشتري قيمتها يوم قبضها وسلم هي للمشتري ويكون المهر على البائع والنكاح صحيح.
ولو كان المشتري قبضها بغير أمر البائع ثم لقي البائع فزوجها إياه وقد علم البائع نقضه لها أو لم يعلم، فإن هذا لا يكون تسليمًا عن البائع للمشتري؛ لأن تزويجه إياها قبل القبض صحيح، فإن وطئها البائع بعد ذلك في يد المشتري بحكم النكاح، فإن هذا تسليم من البائع لقبضه، فإن مات العبد قبل التسليم لم يكن للبائع على الأمة سبيل من قبل أنه وجب لها في يدي المشتري مهر؛ لأن قبضه الأول قد سلم له.
وفي (العيون): اشترى من غيره فصًا في خاتم بدينار، فدفع البائع الخاتم إليه، فهلك في يده فإن أمكن نزع الفص من غير ضرر، فعليه ثمن الفص لا غير؛ لأن التسليم قد صح، فيتأكد الثمن وهو في الخاتم أيسر وإن لم يمكن نزع الفص إلا بضرر لا شيء عليه؛ لأنه لا يصح التسليم.
وفي (القدوري): لو باع قطنًا في فراش وحنطة في سنبل وسلم كذلك، فإن كان المشتري لا يتمكن إلا بفتق الفراش ودق السنبل لم يصر قابضًا؛ لأن المشتري لا يملك التصرف في ملك البائع والفتق والدق تصرف في ملك البائع، فلم يكن مملوكًا للمشتري، فلم يصر المشتري متمكنًا من المبيع، فلم يصر قابضًا.
قال: ولو باع التمر على الشجر وسلمه كذلك صار قابضًا؛ لأنه لا يحتاج في قبض المبيع إلى إحداث فصل تلك البائع، فلا يمتنع صحة التسليم.

.نوع آخر منه:

إذا قبض المبيع بغير إذن البائع كان للبائع أن يسترده منه حتى يستوفي حق الإنسان لا يبطل من غير رضاه، ولو تصرف المشتري في ذلك تصرفًا يلحقه النقض بأن باع أو وهب أو رهن أو آجر أو تصدق نقض التصرف، وإن كان لا يلحقه الفسخ كالعتق والتدبير والاستيلاء لم يملك البائع رده إليه والفرق وهو أن تصرف المشتري حصل في ملكه والنقض عليه لحق البائع، ولكن إنما يجب رعاية حق البائع عند الإمكان تصرف المشتري قابلًا للنقض، فالإمكان ثابت، ولا كذلك ما إذا لم يكن تصرف المشتري قابلًا للنقض، ولو نقده الثمن، فوجده البائع... أو مستحقًا أو وجد بعضه كذلك كان للبائع منعة، فإن كان المشتري قبضه بغير إذن البائع بعد ما نقد الزيوف أو الستوق فللبائع أن ينتقض قبضة. ولو تصرف فيه المشتري بعض تصرفه؛ لأن ما نقد ليس حق البائع، فصار وجوده والعدم بمنزلة، فصار كأنه قبض بغير إذن البائع قبل نقد الثمن، وهناك قد ذكرنا أن للبائع أن ينقض قبض المشتري وتصرفه إذا كان تصرفًا يحتمل النقض فكذا هنا.
ولو قبض بأمره ثم وجد الدراهم المقبوضة زيوفًا لم يكن للبائع أن يسترده، وقال زفر له أن يسترده وهو قول أبي يوسف الأول، ووجه ذلك: أن البائع إنما سلم المبيع بناء على أن المقبوض من الثمن حقه، وقد تبين أنه لم يكن حقًا له؛ لأن حقه في الجياد والمقبوض زيوف، فلم يتم رضاه بالتسليم فكان له أن يعيده إلى يده بمنزلة الرهن، فإن الراهن إذا سلم الدين وقبض المرهون بإذن المرتهن ثم وجد المرتهن المقبوض زيوفًا كان له أن يرد المقبوض ويسترد الرهن كذا هنا. ولنا: أن الزيوف من جنس حقه، ولهذا لو تجوز به في الصرف والسلم يجوز إلا أن بها عيبًا، والعيب لا يبدل الجنس حقه، فإذا أذن له بالقبض بناء على ما وجد من الاستيفاء، وذلك يصلح أن يكون استيفاء يسقط حقه في الجنس، وعمل إذنه والساقط لا يتحمل العود بخلاف الرهن؛ لأن ما ثبت للمرتهن من ملك اليد والجنس لا يبطل، وإن وجد قبض الرهن بإذن المرتهن ألا ترى أن المرتهن لو سلم الرهن إلى الراهن بطريق الوديعة أو العارية كان له أن يسترده، وإنما المقسط لحقه وصول كمال حقه إليه ولم يوجد، ولو وجد المقبوض رصاصًا أو ستوقًا أو مستحقًا كان له أن يسترد المبيع، وإن قبضه المشتري بإذنه بخلاف الزيوف، والفرق: أن إذن البائع في القبض كان بناء على ما يوجد من الاستيفاء وقبض الستوق والرصاص لا يصلح للاستيفاء؛ لأن الستوق ليس من جنس حقه، ولهذا لو تجوز به في الصرف والسلم لا يجوز، فإذا لم يصلح استيفاء والإذن كان بناء على الاستيفاء صار وجود الإذن والعدم بمنزلة، وكذلك قبض المستحق موقوف على إجازة المالك، فإذا لم يجز انتقض القبض فيه من الأصل، فصار الحكم فيه بعدم الإجازة نظير الحكم في الستوق والرصاص، فإن لم يجد البائع شيئًا مما ذكرنا في الثمن حتى باع المشتري العبد أو أجره أو رهنه وسلم، ثم إن البائع وجد في الثمن شيئًا مما ذكرنا، فجميع ما صنع المشتري في العبد جائز لا يقدر البائع على رده ولا سبيل له على العبد، وهذا الجواب ظاهر فيما إذا وجد الثمن زيوفًا أو نبهرجة وذلك حق البائع في الجنس قد بطل حتى لم يكن له أن ينقض قبض المشتري قبل وجود التصرف من المشتري، فلا يكون له نقض تصرفه أيضًا كما لو أذن له في القبض مرسلًا أو استوفى الثمن بتمامه مشكل مما إذا وجد الثمن رصاصًا أو ستوقًا أو مستحقًا؛ لأن حق البائع في الجنس في هذه الصورة لم يسقطه إلا أن له أن ينقض قبض المشتري، فكان له أن ينقض تصرفه أيضًا كما لو قبض بغير إذنه. والجواب: أن قبض المشتري في هذه الصورة وقع فاسدًا؛ لأن شرط صحته أن يكون بإذن البائع من كل وجه، وهنا قبض المشتري حصل بغير إذن البائع من وجه باعتبار المعنى، وبإذنه من وجه باعتبار الحقيقة، فيعتبر القبض الفاسد، وفي البيع الفاسد إذا قبض المشتري المبيع بإذن البائع كان له أن ينقض قبضه بحكم الفساد، وكان له أن ينقض تصرفه؛ لأنه لم يحصل بتسليطه، فكذا هاهنا حتى كان القبض فاسدًا، وقد حصل بإذن البائع كان للبائع نقض قبضه بحكم الفساد، ولا يكون نقض تصرفه وهو حصل بغير إذن البائع كان للبائع نقض قبضه ونقض تصرفه أيضًا.
وإن كان البائع حين علم بقبض المشتري بغير إذنه في هذه الصورة سلم ذلك ورضي به والباقي بحاله كان هذا مثل إذنه في القبض في الابتداء؛ لأن الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء، ودلت المسالة على أن الإجازة تلحق الأفعال كما تلحق العقود.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): وإذا اشترى الرجل مصراعي باب..... أو دهليز، فقبض أحدهما بغير إذن البائع ولم يقبض الآخر حتى هلكت ما كان عند البائع، فلم يجعل قبض أحدهما قبضًا للآخر، وقال: خير في المقبوض، فقد جعلهما في حق الخيار كشيء واحد.
ولو قبض أحدهما فاستهلكه أو عيبه صار قابضًا للآخر حتى لو هلك الآخر عند البائع قبل أن يحدث البائع فيه حبسًا أو بيعًا هلك (على) المشتري، ولو منعه البائع بعد ذلك ثم هلك هلك على البائع حتى سقط من الثمن بحصته، فجعلها كشيء واحد في الاستهلاك والتعييب، وفي حق الاسترداد جعلهما بمنزلة العبدين والثوبين حتى لم يجعل استرداد البائع أحدهما كاستردادهما.
ولو جنى البائع على أحدهما بإذن المشتري صار قابضًا لهما حتى لو هلكا بعد ذلك هلكا من مال المشتري، ولو منع البائع أحدهما بعد ذلك أو منعهما كان عليه قيمة ما هلك. ولو أذن البائع للمشتري في قبض أحدهما كان إذنًا في قبضهما حتى لو قبضها ثم استرد البائع أحدهما ليحبسه بالثمن صار غاصبًا.
ولو رأى المشتري أحدهما فرضيه لم يلزمه حتى لو رأى الآخر كان له أن يردهما بخيار الرؤية.
ولو أحدث بأحدهما عيبًا لم يكن له أن يرد الآخر بالعيب ولا يختار الرؤية ولو جاء أجنبي واستهلك أحدهما كان لصاحبهما أن يدفع إليه الآخر ويضمنه قيمتهما.
والأصل في هذه المسائل أن القبض فعل حقيقي يلاقي الصورة، والمعنى فيه تابع، فاعتبرا فيه بالثوبين والعبدين، فأما الخيار فإنما يثبت باعتبار نقصان في مالية القائم، فإن هلاك أحدهما يوجب نقصانًا في مالية القائم، والهلاك كان في ضمان البائع، فجعل كأن انتقاض مال القائم حصل في ضمان البائع، والتعييب ينتقص المالية، والاستهلاك يفوت المالية، وهما في المالية كشيء واحد، فأوجب ذلك تعييبًا في الآخر مقبوضًا، فصار بحكم التعييب، واسترداد البائع يلاقي الصورة، فاعتبرا فيه بالثوبين، والإذن في قبض أحدهما إنما كان لإيصال المشتري إلى منفعة ملكه، وهما فيه كشيء واحد؛ وجناية البائع بإذن المشتري بمنزلة جناية المشتري بنفسه لكن برضا البائع، وجناية المشتري بنفسه على أحدهما بإذن البائع؛ لأن ذلك تعييب أو إتلاف للمالية، وهما في ذلك كشيء واحد، فيوجب ذلك قبض الآخر وبطلان حق الحبس لرضا البائع بقبضهما، فكذا جناية البائع بإذن المشتري على أحدهما، فإذا منع البائع بعد ذلك صار غاصبًا والغصب يلاقي الصورة، فاعتبرا فيه بالثوبين والعبدين، فلم يصر غصب أحدهما غصبًا للآخر وخيار الرؤية إنما يثبت باعتبار الجهل بأوصاف المعقود عليه، فإنما يبطل بالعيان الذي يدرك به معرفة الأوصاف، والعيان يلاقي الصورة فاعتبرا فيه بالثوبين، وإذا أحدث عيبًا بأحدهما، فذلك يوجب نقصانًا في مالية الآخر، فيبطل خيار العيب والرؤية فيهما؛ لأن شرط الرد بخيار الرؤية على الوجه الذي خرج عن ملك البائع واستهلاك الأجنبي أحدهما يوجب نقصانًا وخللًا في مالية الآخر، فكان بمنزلة من عيب دابة غيره أو ثوب غيره عيبًا فاحشًا، وهناك كان لصاحبه أن يضمنه قيمة الكل ويسلم إليه المعيب كذا هاهنا.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): رجل اشترى من رجل جارية بألف درهم ولم ينقد ثمنها حتى قبضها بغير إذن البائع وباعها من رجل بمئة درهم وتقابضا وغاب المشتري الأول وحضر بائعه، وأراد استرداد الجارية من المشتري الآخر، فإن أقر المشتري في الآخر أن الأمر كان وضعه البائع كان للبائع الأول أن يستردها منه؛ لأن المشتري الآخر أقر بثبوت حق الاسترداد للبائع في ملكه فصح إقراره، وإذا استردها بطل البيع الثاني؛ لأن البيع الأول أبطل قبض المشتري الأول بحق سابق على قبضه فانتقض قبضه من الأصل.
وإن كذب المشتري الآخر البائع الأول فيما قال أو قالت: لا أدري أحق ما قال أو باطل لا خصومة بينهما حتى يحضر الغائب؛ لأن الجارية صارت مملوكة للمشتري الآخر والبائع الأول مقر بذلك ثم هو يدعي على البائع حقًا، فلا يصدق إلا بحجة والحجة لا تسمع على الغائب إلا إذا كان عن خصم حاضر، والمشتري الثاني ليس بخصم عن الأول، فإن حضر الغائب وصدق البائع الأول فيما قال لا يصدق على المشتري الآخر، وإن كذبة يقال للبائع الأول: أقم البينة على أنه ما غيب، فإن أقام البينة بمحضر من المشتري الأول والثاني ردها القاضي على البائع الأول وانتقض البيع الثاني لما مر، إلا أن ينقد المشتري الأول الثمن قبل الرد على البائع الأول، فحينئذ لا يردها القاضي على البائع الأول؛ لأن حق البائع الأول في الاسترداد، إنما يثبت له حق الاسترداد حبسًا للجارية بالثمن، فإذا سلم له الثمن لو بقي له حق الاسترداد يبقى مقصودًا وهذا مما لا وجه له.
وإن نقد المشتري الأول الثمن بعدما أخذها البائع الأول سلمت الجارية للمشتري الأول، ولم يكن للمشتري الآخر عليها سبيل؛ لأن شراءه قد انتقض على ما مر، فلا يعود إلا باستحقاق جديد ولم يوجد.
ولو ماتت الجارية في يد المشتري الآخر كان للبائع الأول أن يضمن المشتري الآخر قيمتها؛ لأن للبائع الأول على الجارية يدًا مستحقة لأجل الحبس، فصار المشتري الثاني بقبضه خائنًا على البائع الأول فصار كالغاصب، وهكذا المشتري الأول؛ لأن قبض المشتري الأول أوجب تأكيد الثمن عليه للبائع الأول، فلا يوجب القيمة عليه، أما قبض المشتري الآخر لا يوجب الثمن عليه للبائع الأول ليمكن إيجاب القيمة عليه للبائع الأول، وتكون القيمة المردودة على البائع الأول قائمة مقام الجارية حتى لو هلكت عند البائع الأول انتقض البيعان ويرجع المشتري الآخر على المشتري الأول بما يعدله من الثمن كما لو هلكت الجارية بعد الاسترداد في يد البائع الأول، ولو لم تهلك والقيمة في يد البائع الأول حتى نقد المشتري الأول الثمن أخذ القيمة من بائعه، ولم يكن للمشتري الثاني على القيمة سبيل لما لم يكن له على الجارية في هذه الصورة سبيل، ورجع المشتري الثاني على المشتري الأول بالثمن الذي نقده. وإذا سلمت القيمة للمشتري الأول ينظر إن كان من غير جنس الثمن لا يتصدق بالفضل إن كان ثمة فضل.
قال في (الجامع) أيضًا: رجل اشترى من رجل ثوبًا بعشرة ولم يقبضه حتى أحدث فيه عيبًا يعني المشتري صار قابضًا على ما مر ثم هلك الثوب في يد البائع، فإن هلك قبل أن يمنعه البائع هلك من مال المشتري، وإن هلك بعد ما منعه البائع هلك من مال البائع، وهذا لأن المشتري صار قابضًا للثوب، وإنما ينتقض قبضه بالاسترداد كون المال في يد البائع لا يصير البائع مستردًا ألا ترى أنه لا يصير غاصبًا بهذا القدر، فكذا لا يصير مستردًا فبقي قبض المشتري على حاله، فإذا هلك يهلك من مال المشتري. فأما إذا منعه البائع فقد صار مستردًا. ألا ترى أنه يصير غاصبًا مال الغير بمجرد المنع عنه، فكذا يصير مستردًا فانتقض قبض المشتري وعاد الثوب إلى ضمان البائع، فإذا هلك تهلك من مال البائع وبطل الثمن على المشتري إلا قدر ما انتقص بفعل المشتري، فإن ذلك القدر ينفرد على المشتري؛ لأنه لم يوجد الاسترداد لذلك القدر لكونه هالكًا.
وإن كان الثوب على عاتق البائع وفي حجره فعيبه المشتري ثم هلك من غير فعل أخذ به البائع هلك على المشتري؛ لأن كون الثوب على عاتقه أو في حجره لا يصلح أن يكون غصبًا، ولهذا لو هبت الريح بثوب إنسان ألقته على عاتقه أو في حجره لا يصير غاصبًا، فلا يصير البائع مستردًا، وكذلك لو كان البائع ممسكًا الدابة؛ لأن مجرد إمساك الدابة لا يصلح غصبًا، ولهذا جاز للبائع أن يفعل ذلك في المبيع، ولو كان أمسك الثوب أو ركب الدابة فأحدث المشتري فيه عيبًا ينقصه ثم لم يمنعه البائع حتى هلك هلك من مال البائع؛ لأن دوام الركوب واللبس يصلح غصبًا، ولهذا لو استعار ثوبًا يومًا، فدام على اللبس بعد ما مضى اليوم يصير ضامنًا، وكذا دوام الركوب على هذا فصار البائع مستردًا للدابة والثوب.
ولو كانت دار فهدم المشتري حائطًا منها حتى يصير قابضًا، ثم إن البائع سكن الدار بعد ذلك لا يصير البائع مستردًا عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر؛ لأن السكنى لا يصلح غصبًا موجبًا للضمان عندهما، فلا يصير البائع به مستردًا. وعند محمد وهو قول أبي يوسف الأول: السكنى تصلح غصبًا للعقار، فيصير البائع مستردًا فبطل الثمن عن المشتري إلا حصة ما هدم.
وصار الحاصل أن المشتري إذا قبض المبيع بغير إذن البائع فإنما يصير البائع مستردًا؛ بما يصير به غاصبًا مال الغير حتى أن مجرد التمكن والتخلية لا يصير مستردًا، وهذا بخلاف المشتري، فإن المشتري بمجرد التمكن والتخلية يصير قابضًا.
والفرق: أن التسليم مستحق على البائع، فيجب تعليقه بما في وسعه وهو التمكين والتخلية حتى لا يبقى في العهدة المستحق، أما التسليم غير مستحق على المشتري بعد ما قبض المبيع بغير إذن البائع لما عرف أنه ليس للبائع يد مستحقة على المبيع إنما على المشتري تسليم الثمن، فلو علقنا التسليم بحقيقة الأخذ لا يبقى المشتري في عهدة المستحق.

.نوع آخر إذا باع الرجل من غيره شيئًا هو في يد ذلك الغير:

الأصل في هذا النوع من المسائل أن البيعان إذا تجانسا تناوبا؛ لأن التجانس دليل التشابه والمتشابهان ينوب كل واحد منهما عن صاحبه، وإذا تغايرا ناب الأعلى عن الأدنى؛ لأن في الأعلى ما في الأدنى وزيادة، فوجد القبض المحتاج إليه وزيادة شيء، والأدنى لا ينوب عن الأعلى؛ لأن الأدنى من الأعلى قدر بعضه والمحتاج إليه كله، والقبض المستحق بالشراء أن يقبض المشتري لنفسه قبضًا موجبًا ضمان نفسه وهو قيمة العين، أما القبض لنفسه؛ لأنه متملك بالشراء، والمتملك في القبض يكون قابضًا لنفسه وأما موجبًا ضمان نفسه؛ لأنه ملك بعقد المعاوضة فيكون بعوض، والعوض الأصلي للعين قيمته إلا أنه يصار إلى المسمى قطعًا للمنازعة، ويكون المسمى قيمة اصطلاحية قائمة مقام قيمة العين كما في باب النكاح، فإن منافع البضع مضمون بمهر المثل بقضية الأصل وإنما يصار إلى المسمى قطعًا للمنازعة كذا ها هنا.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): رجل غصب من آخر جارية أو إناء فضة ووضعه في بيته ثم لقيه واشتراه منه بمئة دينار ونقده الثمن وليس الإناء بحضرتهما صار المشتري قابضًا بنفس الشراء حتى لو هلك قبل أن يصل المشتري إلى بيته هلك من مال المشتري قبل الشراء كان لنفسه، وإنه موجب ضمان نفسه وهو قيمة العين، وكان مجانسًا للقبض المستحق بالعقد فناب عنه.
ولو أراد البائع أن يسترد الجارية من المشتري ليحبسها بالثمن لم يكن له ذلك؛ لأنه لما أوجب العقد مع علمه بقيام قبض ينوب عن القبض المستحق وذلك يسقط حقه عن العين صار راضيًا بسقوط حقه عن العين القبض.
ولو كانت العين وديعة في يد المشتري أو عارية فاشتراه لا يصير قابضًا بنفس الشراء حتى لو هلك قبل أن يقبضه المشتري هلك من مال البائع؛ لأن قبض الوديعة والعارية قبض أمانة، وقبض المشتري قبض ضمان فكانا متغايرين، وقبض الأمانة أدنى ولا ينوب عن قبض الشراء. ومعنى آخر يخص الوديعة أن المودع قابض لغيره والمشتري قابض لنفسه، والقبض الواقع للغير كيف ينوب عن المستحق لنفسه، وبه فارق قبض الغصب، فإن ذهب المودع أو المستعير إلى العين أو انتهى إلى مكان يتمكن من أخذه الآن يصير المشتري قابضًا له بالتخلية، فإذا هلك بعد ذلك يهلك من مال المشتري، فإن فعل المشتري في فصل الوديعة والعارية ما يكون قبضًا ثم أراد البائع أن يحبسها بالثمن لم يكن له ذلك؛ لأنه لما باعه منه مع علمه أن المبيع في بيت المشتري وهو يتمكن من القبض يصير راضيًا بقبض المشتري دلالة، وقبض المشتري برضا البائع يسقط حقه في الحبس، فإن أخذها البائع من بيت المودع قبل أن يصل إليه يد المودع كان له ذلك؛ لأن البائع إنما يصير راضيًا بقبض المشتري بطريق الدلالة، والإذن دلالة لا يمكن إثباته مع المنع صريحًا.
ولو كان المبيع بحضرتهما فباعه منه لم يكن للبائع حبسه؛ لأن بيعه منه رضا منه بالقبض دلالة، فمتى كان المبيع بحضرته، وذلك يصلح قبضًا جديدًا يثبت القبض بحكم الشراء برضا البائع، فلا يكون للبائع حق الحبس، ولو كان العين رهنًا في يد المشتري فالمشتري لا يصير قابضًا له بنفس الشراء؛ لأن قبض الرهن في حق العين قبض أمانة، والضمان الذي يثبت ضمان استيفاء الدين، فإن المرتهن بعقد الرهن يصير مستوفيًا الدين بالعين في حق ملك اليد والحبس والاستيفاء يعتمد المجانسة ولا مجانسة بين العبد والدراهم من حيث العين، وإنما المجانسة بينهما من حيث المالية، فكان القبض في حق العين، فلا ينوب قبض الرهن عنه، فلا يصير قابضًا بنفس الشراء، فإذا ذهب إلى بيته وانتهى إلى مكان يتمكن من قبضه حقيقة الآن يصير قابضًا بالتخلية.
وإذا اشترى إبريق فضة بمائة دينار وقبض المشتري الإبريق ولم ينقد الدنانير حتى افترقا وبطل الصرف لعدم قبض أحد البدلين في المجلس كان على المشتري رد الإبريق على البائع، فإن وضع المشتري الإبريق في بيته ولم يرده حتى لقي البائع واشترى الإبريق منه..... مستقبلًا بدنانير ونقد الثمن ثم افترقا فالبيع جائز ويصير قابضًا الإبريق بنفس الشراء؛ لأن الإبريق بعد بطلان عقد الصرف مضمون بضمان نفسه، ولهذا لو هلك قبل التسليم إلى البائع يهلك مضمونًا بالقيمة، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض المشتري، فحصل الافتراق بعد قبض البدلين فلا يبطل الصرف.
ولو اشترى رجل من رجل عبدًا بألف درهم وتقابضا (وتقا) يلا ثم إن المشتري اشتراه ثانيًا من البائع قبل أن يسلمه إلى البائع صح الشراء على ما مر لا يصير المشتري قابضًا بنفس الشراء حتى لو هلك قبل أن يحدد المشتري قبضًا يهلك بالعقد الأول ويبطل الإقالة والبيع الثاني لا بعد الإقالة العين في هذه الصورة مضمون على المشتري بالثمن حتى لو هلك في يد المشتري قبل التسليم إلى البائع يبطل الإقالة ويعود حكم العقد الأول حتى يلزمه الثمن ومثل هذا القبض لا ينوب عن قبض الشراء.
ولو اشترى رجل من رجل غلامًا بجارية وتقابضا وجعل كل واحد منهما ما اشترى في منزله ثم تقايلا، ثم اشترى أحدهما من مال صاحبه ما أقاله إياه قبل أن يدفعه إليه حتى جاز الشراء صار المشتري قابضًا له بنفس الشراء حتى لو هلك أحدهما قبل الرد لا تبطل الإقالة، وكان على الذي هلك في يده قيمته، وهذا لأن في بيع العرض بالعرض يصح ابتداء الإقالة بعد هلاك أحدهما وإذا لم تبطل الإقالة بهلاك أحدهما لا يعود حكم العقد الأول فبقي مضمونًا ضمان نفسه، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء بخلاف الفصل الأول، وهو ما إذا اشترى بدراهم؛ لأن هناك محل الإقالة والتصرف لا يبقى بعد فوات محله، فتبطل الإقالة بهلاك العبد ويعود حكم العقد الأول، فكان العبد مضمونًا بالثمن أما هاهنا بخلافه، هذا إذا تقايلا العبد مع الجارية قائمين.
فأما إذا تقايلا العقد بعدما هلك العبد بعد التقابض صحت الإقالة، ووجب على مشتري العبد قيمة العبد. فإن اشترى من في يده الجارية في هذه الصورة الجارية من بائعها قبل أن يدفعها إليه وليست الجارية بحضرتهما ثم ماتت الجارية بعد الشراء الثاني قبل أن يحدد المشتري لها قبضًا هلكت بالشراء الأول وبطلت الإقالة والشراء الثاني؛ لأن الجارية بعد هلاك العبد مضمونة على المشتري بغيرها وهو قيمة العبد حتى لو هلكت بعد الإقالة قبل الشراء الثاني هلكت بقيمة العبد ومثل هذا القبض لا ينوب عن قبض الشراء.
ولو كانا قائمين بعد الإقالة ثم اشترى كل واحد منهما من صاحبه ما في يده بدراهم ثم هلكا معًا أو على التعاقب هلك كل واحد منهما من مال من اشتراه؛ لأن كل واحد منهما مضمون بضمان نفسه، ولهذا لو هلك أحدهما بعد الإقالة قبل الشراء تجب قيمته، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء. ولو اشترى جارية بدراهم على أن المشتري بالخيار فيه ثلاثة أيام وتقابضا ثم فسخ المشتري البيع بخيار الشرط، فلم يردها على البائع حتى اشترى منه شراء مستقبلا صح؛ لأن الرد بحكم خيار الشرط فسخ في حق الناس كافة، وكذلك ينبغي أن يصح شراء الأجنبي من البائع قبل قبض البائع؛ لأن الرد بخيار الشرط فسخ في حق الناس كافة فلو هلكت الجارية قبل أن يصل إليها يد المشتري بطل الشراء الثاني والفسخ وهلك بحكم الشراء الأول؛ لأن المبيع في خيار الشرط بعد الفسخ مضمون على المشتري بضمان غيره وهو الثمن؛ ومثل هذا القبض لا ينوب عن قبض الشراء. وإذا هلكت الجارية هلكت بالشراء؛ لأن المشترى بشراء الخيار للبائع مضمون على المشتري بضمان نفسه وهو القيمة قبل الفسخ وبعد الفسخ، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء.
والجواب في الرد بخيار الرؤية وبخيار العيب نظير الجواب فيما إذا كان البيع بشرط الخيار للمشتري؛ لأن هذا الخيار لا يمنع زوال ملك البائع كخيار المشتري فيكون الجواب عنهما على السواء.
وإذا أرسل الرجل غلامه في حاجته ثم باعه من ابن صغير له حي جاز العبد حتى مات مات من مال الأب؛ لأن قبض الأب أمانة ولأنه قبض لنفسه فلا يقع عن قبض مضمون لغيره، فإن لم يمت الغلام حتى رجع إلى الولد وتمكن من القبض صار قابضًا له عن ولده، وإذا لم يرجع العبد حتى بلغ الغلام ثم رجع العبد إلى الولد لم يصر قابضًا للولد حتى لو هلك هلك على الولد وانتقض البيع فيكون القبض في هذا إلى الولد.
فرق بين هذا وبين ما إذا اشترى الوالد لولده الصغير من غيره ثم بلغ قبل القبض، فإن القبض وتسليم الثمن يكون إلى الوالد واستفاء الحقوق يكون له أيضًا، وفي شراء الوالد لولده من نفسه ترجع الحقوق إلى الولد متى بلغ. والفرق: أن الاب إذا اشترى من نفسه، فالعقد في حق الحقوق ما وقع للأب؛ لأن الأب هو المملك، فلا يجوز أن يثبت له على نفسه حقًا، وكانت الحقوق ثابتة للصغير على الأب يستوفيه بحكم النيابة عن الصغير، فإذا بلغ وصار أهلًا للاستيفاء بنفسه بطلت النيابة وعاد إلى الأصل، فأما إذا اشترى من غيره فالعقد في حق الحقوق وقع للأب؛ لأنه لم يوجد المانع من ذلك، والقبض من حقوق العقد، وبعد البلوغ لم يوجد ما يغير العقد فلا يتغير حقوقه فبقي حق القبض واقعًا للأب والله أعلم.

.نوع آخر في تصرف أحد المتعاقدين في المبيع قبل القبض:

إذا أمر المشتري البائع أن يعمل في المبيع عملًا، فإن كان ذلك العمل لا ينقصه مثل القصارة والغسل بأجر أو بغير أجر لم يصر قابضًا والأجرة واجبة، وإن كان ذلك العمل مما ينقصه فهو قبض، والفرق وهو أن العمل إذا كان ينقصه فهو استهلاك الجزء من المبيع وذلك غير مملوك للبائع، فإذا حصل بأمر المشتري صار كأن المشتري فعل بنفسه فيصير قابضًا، فأما إذا كان لا ينقصه الفعل المأمور به، فذلك الفعل مملوك للبائع؛ لأنه فيما يرجع إلى نفس الثوب إمساك، وما يحدث في الثوب من الوصف يفعله من قصارة أو غير ذلك، فذلك وصف زائد يتصل بالمبيع حصل بإذن المشتري فبقي تصرفه في المبيع إمساكًا، فيكون مقصورًا على الفاعل، فلا يصير به قابضًا إلا أنه يجب الأجر؛ لأن هذا العمل غير مستحق على البائع فصح ذكر البدل في مقابلته، هكذا ذكر في (شرح القدوري).
وفيه أيضًا: لو أرسل المشتري العبد في حاجته صار قابضًا؛ لأنه صار مستعملًا له (و) بالاستعمال تثبت يد المستعمل على المحل. ألا ترى أن الأجنبي يصير به غاصبًا وطريقه ما قلنا.
وكذلك لو أعاره المشتري أجنبيًا أو أودعه أجنبيًا يصير قابضًا؛ لأنه أثبت يد غيره على المحل فيصر كما لو أثبت يد نفسه، وهناك يصير قابضًا فكذا هاهنا. ولو أعاره المشتري البائع أو أودعه إياه أو آجره منه، فإن المشتري لا يصير قابضًا به؛ لأن يد البائع ثابتة على المحل للحبس، فلا يتصور ثبوتها بجهة أخرى مع قيام الأولى كما كانت صار الحال بعد هذا التصرفات والحال قبلها سواء.
في (الجامع): إذا قال المشتري للبائع: قل للعبد يعمل لي كذا، فأمره البائع فعمل صار المشتري قابضًا؛ لأنه جعل البائع رسولًا ينتقل إلى المرسل، فكأن المشتري قال للعبد: اعمل كذا فعمل، وهناك ينتقل المشتري قابضًا كذا هاهنا. ولو كان المشتري أجره من البائع شهرًا فاستعمل البائع بحكم الإجارة لا يلزمه الأجر؛ لأن هذه إجارة فاسدة، وفي الإجارة الفاسدة إنما يجب الأجر باستيفاء المنافع إذا وجد التسليم إلى المستأجر، ولم يوجد التسليم هنا إلى المستأجر إذ ليس للمشتري آلة التسليم وهو اليد، إنما اليد للبائع والبائع لا يصلح نائبًا عن المشتري في القبض، فلم يتحقق التسليم، فكيف يجب الأجر؟.
في (النوازل): إذا اشترى عبدًا بثمن معلوم فلم يقبضه حتى أمر البائع أن يؤاجره من إنسان معين، فأجره جاز ويصير المشتري قابضًا له، والغلة التي يأخذها البائع تجب من الثمن؛ لأن الأمر من المشتري قد صح؛ لأنه صادف ملكه والمستأجر ينتصب نائبًا عنه في القبض ثم يصير قابضًا لنفسه بحكم العقد.
وفي (العيون): إذا اشترى غلامًا فلم يقبضه حتى وهبه لرجل أو رهنه وأمره بالقبض فقبض جاز، ولو آجره وأمر المستأجر بالقبض لم يجز والفرق أن الهبة والرهن إنما تصح بعد التسليم، وعند التسليم يصير قابضًا فيكون الرهن والهبة نافذًا بعد قبض المشتري، ولا كذلك الإجارة.
في (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل اشترى من آخر كر حنطة بعينه وكر شعير بعينه، فلم يقبضه المشتري حتى خلطهما البائع، قال: يقوم كر من هذا أي من المخلوط ويقوم الحنطة قبل الخلط ثم يقسم ثمن الحنطة عن المشتري ما دخل الحنطة من النقصان ويأخذ المشتري الكر ويأخذ الشعير بثمنه. وكذلك لو باعه رطلًا من زنبق ورطلًا من بنفسج، فخلطهما. ولو باعه (رطلًا) من زنبق ومئة رطل من زيت وخلط الزنبق بالزيت فقد بطل في الزنبق البيع؛ لأن البائع استهلكه وللمشتري أن يأخذ الزيت إن أحب، فيأخذ مئة رطل ولا خيار فيه وإن كان ذلك لم ينقصه.
و(لو) أن رجلًا كان في خابيته زيت عشرة أرطال، فاشتراها منه رجل فلم يقبضها حتى خلطها البائع بما في الخابية كان المشتري في أخذه بالخيار؛ لأن البائع خلطها بمتاعه.
رجل باع من رجل عبدًا بألف درهم فلم يقبضه المشتري، باعه البائع من رجل آخر ودفعه إليه فمات في يد المشتري الثاني أو وهبه له ودفع إليه ومات في يده، أو أعاره إياه ودفعه إليه فمات في يده، فالمشتري الأول بالخيار إن شاء نقض البيع واسترد الثمن إن كان قد دفع الثمن، وإن شاء أمضى البيع وضمن المشتري الثاني قيمة العبد يوم قبضه، وكذلك في الهبة والعارية، ولا يرجع الموهوب له ولا المستعير على البائع بشيء، وإن اختار الأول نقض البيع ونقضه، فللبائع أن يُضَمِّن المشتري الثاني قيمته يوم دفعه إليه، وكذلك في الهبة والعارية؛ لأن العبد إنما صار له بعد قبض المشتري الأول وبيعه.
ولو كان البائع آجره من رجل أو أودعه إياه فمات في يده انتقض البيع ولا سبيل للمشتري على تضمين واحد منهما؛ لأنه إن ضمنه رجع به على البائع، وإذا كان كذلك صار كأنه مات في يد البائع والرهن نظير الإجارة والوديعة رواه هشام عن محمد رحمه الله. وعن أبي يوسف: إذا أودع البائع العبد المبيع قبل التسليم إلى المشتري من رجل ودفعه إليه أو أعاره إياه أو أجره ودفعه إليه، فمات عنده من غير عمله، فلا ضمان عليه ولا على البائع.
ولو مات عبد المستعير من عمله المودع فمات من ذلك، فإن شاء المشتري أمضى البيع واتبع المستعير والمستودع بالقيمة، وإن شاء نقض البيع وكان للبائع أن يضمن المستودع القيمة؛ لأنه استعمله بغير أمره وليس له أن يضمن المستعير؛ لأنه استعمله بأمره، وأما المستأجر فإن عطب من عمله فليس للمشتري أن يضمنه؛ لأنه لو ضمنه رجع على البائع؛ لأن البائع غره وليس على المستعير غرر.
ولو كان البائع أجر رجلًا أن يقتله فقتله فالمشتري بالخيار إن شاء ضمن القاتل قيمته ودفع الثمن إلى البائع، وإن شاء نقض البيع، فإن ضمن القاتل فالقاتل لا يرجع على البائع؛ لأن القتل ليس فيه غرر، ولو كان مكان العبد ثوبًا فقال البائع لخياط: اقطعه لي قميصًا بأجر أو بغير أجر لا يكون للمشتري أن يضمن الخياط؛ لأن الخياط يرجع بالقيمة على البائع.
رجل باع شاته من رجل وأمر البائع رجلًا حتى ذبحها، فإن كان الذابح يعلم بالبيع فللمشتري أن يضمن الذابح ولا يرجع الذابح به على الآمر، وإن كان الذابح لا يعلم بالبيع لم يكن للمشتري أن يضمنه؛ لأنه لو ضمنه يرجع به على البائع الآمر، فيصير كأن البائع ذبح بنفسه.

.نوع آخر فيما يلزم المتعاقدين من المؤنة في تسليم المبيع والثمن:

الأصل أن مطلق العقد يقتضي تسليم المعقود عليه وقت العقد، ولا يقتضي تسليمه في مكان العقد، هذا هو ظاهر مذهب أصحابنا، حتى إنه لو اشترى حنطة وهو (في) المصر والحنطة في السواد يجب تسليمها بالسواد. ومن الناس من قال: يجب تسليمها حيث عقدا العقد قبيل باب السلم. ذكر ابن سماعة في (نوادره) عن محمد رحمه الله: أن من اشترى تمرًا على نخل، فجزه على المشتري. في (المنتقى): أنه إذا باعه مجازفة فالجواب كذلك، وإذا باعه مكايلة فعلى البائع أن يقطعه ويكيله، وكذلك الجز والقطع والتسليم على المشتري، وكذلك قلع البصل هكذا ذكر في رواية ابن سماعة. وذكر في (المنتقى) أن على البائع قلع أنموذج قدر ما برأه المشتري، فإذا رضي به كان القلع على المشتري. وفي (المنتقى): إذا اشترى حنطة في سعفه فالإخراج على المشتري، وكذلك إذا باع حنطة في جراب أو ثوبًا في جراب باع الحنطة والثوب دون الجراب ففتح الجراب على البائع، والإخراج من الجراب على المشتري وأجرة الكيال والوزان والذراع والعداد على البائع إذا باعه مكايلة أو موازنة أو مذارعة؛ لأن الكيل والوزن فيما باع مكايلة أو موازنة من تمام التسليم، والتسليم على البائع فما يكون من تتمته يكون عليه.
وفي (نوادر هشام): قال: سألت محمدًا رحمه الله عمن اشترى شيئًا بدراهم فعلى من الانتقاد وقد زعم المشتري أن دراهمه جياد قال: القول له؛ لأن الدراهم كلها جياد حتى يتبين لنا غير ذلك، فإن قال البائع هي رديئة فالقول قول المشتري وعلى البائع أن يجيء بالناقد والأجرة عليه.
وعن إبراهيم عن محمد أن الانتقاد على المستوفي والوزن على الموفي، يريد أن انتقاد الثمن على البائع ووزن الثمن على المشتري. وفي (العيون): أن أجرة وزان الثمن والناقد على المشتري، وكان الصدر الشهيد يقول بأن أجرة الناقد على المشتري ونفتي به.
وروي عن محمد أنه جعل أجرة الناقد على من عليه الدين إلا أن يقتضي دينه رب الدين ثم يدعي أنه من غير نقده، فيكون الأجر على رب الدين.
والفرق بينهما قبل القبض وبينهما بعد القبض على هذه الرواية: أن الواهب على المديون إيفاء دراهم مقدرة جيدة، فكان النقد قبل القبض لإيفاء الحق في الجودة كما أن الوزن لإيفاء الحق في القدر، ثم أجرة الوزان على المديون، فكذا أجرة الناقد، فأما إذا قبض رب الدين فقد دخل في ضمانه، فإذا ادعى أنه على خلاف حقه كان النقد محتاجًا إليه ليتمكن من الرد، وذلك يقع لرب الدين فيكون الأجر عليه.
ولو اشترى وقد دخل في المصر فحملها إلى بيت المشتري على البائع، ولو هلك في الطريق من مال البائع. ولو اشترى حنطة في سنبلها فتخليصها بالكدس والتذرية على البائع؛ لأن التسليم لا يتهيأ بدون ذلك وصبها في وعاء المشتري على البائع بحكم العرف، وصب الماء من القربة على البائع أيضًا بحكم العرف.
ولو اشترى دارًا وطلب من البائع أن يكتب صكًا على الشراء لا يجبر البائع عليه وإن كتب المشتري الصك من مال نفسه وأمره بالإشهاد لا يجبر على الخروج إلى الشهود، وإن أبى الشهود يجبر على إشهاد شاهدين، وهو أن يقر بين شاهدين، فإن أبى البائع يرفع المشتري الأمر إلى القاضي، فإن أقر بين يد القاضي كتب له سجلًا وأشهد عليه.

.الفصل الرابع: في المسائل التي يَتعلق بالثمن:

قال محمد رحمه في كتاب الصرف: إذا اشترى الرجل من آخر شيئًا بألف درهم أو بمئة دينار ولم يسمِ شيئًا، فهذا على وجهين:
الأول: أنه يكون في البلد نقد واحد معروف في هذا الوجه جاز العقد، وينصرف إلى نقد البلد بحكم العرف؛ لأن الناس يتبايعون بنقد البلد والمعروف كالمشروط.
الوجه الثاني: إذا كان في البلد نقود مختلفة، وإنه على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون الكل في الرواج على السواء ولا صرف لبعضها على البعض، وفي هذا الوجه جاز العقد، وإن كان الثمن مجهولًا إذ لم يصر نقد من النقود معلومًا لا بحكم العرف ولا بحكم التسمية إلا أن هذه جهالة لا توقعهما في منازعة مانعة من التسليم والتسلم، وإن كان لبعضها صرف على البعض والكل في الرواج على السواء كما في العطارف العدال في الزمان السابق لا يجوز البيع؛ لأن الجهالة هاهنا توقعهما في المنازعة المانعة من التسليم، وإن كان لبعضها فضل على البعض إلا أن واحدًا منهما أروج، فإنه يجوز لأن العقد ينصرف إلى الرواج.
في (كتاب الصرف) أيضًا: إذا اشترى الرجل مئة فلس بدرهم فنقد الدرهم ولم يقبض شيئًا من الفلوس حتى كسدت الفلوس، فالقياس: أن لا ينقض العقد، ويتخير المشتري إن شاء قبضها كذلك، وإن شاء فسخ العقد وأخذ الدراهم كما لو تعيب المبيع قبل القبض، وبالقياس أخذ زفر. وجه ذلك: أن بالكساد لم يهلك ما تعلق العقد به قبل القبض بل تعيب؛ لأن العقد في جانب الفلوس تعلق بها من حيث إنها ثمن؛ لأن الفلوس صارت ثمنًا باصطلاح الناس، وبالكساد لم تزل الثمنية من كل وجه؛ لأن بعد الكساد يباع وزنًا والموزون ثمنًا، وإذا بقيت الثمنية من وجه بقي ما تعلق به العقد لكنه صار معيبًا من حيث إنه لم يبقَ ثمنًا باعتبار العدد، والعيب لا يوجب انتقاض المبيع إنما يوجب الخيار كما لو تعيب المبيع قبل القبض.
وكما لو اشترى شيئًا بقفيز رطب في الذمة ثم انقطع أوانه فهذا هو وجه القياس، وفي (الاستحسان): ينتقض العقد كالمبيع إذا هلك قبل القبض. بيانه: أن العقد في جانب الفلوس تعلق بها من حيث إنها ثمن باعتبار العدد وبالكساد بطلت الثمينة باعتبار العدد، فإن بعد الكساد يباع وزنًا لا عددًا، وقولنا بلا خلاف انتباه إلى أن بعد الكساد وإن كانت تباع وزنًا، والموزون يصلح ثمنًا؛ لأن الثمنية من حيث الوزن لم تحدث بالكساد حتى يجعل حلها عن الثمنية من حيث العدد، وإنما زالت الثمنية من حيث الوزن بالاصطلاح على الثمنية من حيث العدد، فإذا زالت بالاصطلاح على العدد عادت الثمنية باعتبار الوزن الذي كان في الأصل بسبب الكساد، وليس كالمبيع إذا هلك وجب القيمة؛ لأن هناك القيمة وجبت بسبب القتل؛ لأنها لم تكن واجبة قبل القتل بل وجبت ابتداءً بمقابلة المبيع، فكانت خلفا عن المبيع بخلاف الرطب إذا انقطع أوانه؛ لأن هناك ما تعلق به العقد لم يهلك؛ لأن العقد متعلق بالرطب من حيث إنه ثمن، وثمنية الرطب من حيث إنه مكيل وقد بقي مكيلا بعد الانقطاع، إلا أنه لا يوجد في أيدي الناس والشراء بثمن ليس عنده حالة العقد ولا عند آخر جائز، فإنه لو اشترى برطب والرطب منقطع عن أيدي الناس يجوز، فلأن يبقى أولى.
وإذا اشترى شيئًا بدراهم هي نقد البلد ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت، فإن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق فسد البيع؛ لأنها هلكت، وإن كانت تروج ولكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع، وليس للبائع إلا ذلك؛ لأنها لا تهلك.
وفي (عيون المسائل): إن عدم الرواج إنما يوجب فساد البيع إذا كان لا يروج في جميع البلدان؛ لأنه حينئذ يصير هالكًا ويبقى البيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة ويروج في غيرها، فلا يفسد المبيع؛ لأنه لم يهلك ولكنه يعيبه، فكان للبائع الخيار: إن شاء قال: أعط مثل النقد الذي عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمته ذلك دنانير، قالوا: وما ذكر في (العيون) مستقيم على قول محمد رحمه الله، أما لا يستقيم على قولهما إذ يكتفي لفساد المبيع في كل بلدة بالكساد في تلك البلدة بناء على اختلافهم في بيع الفلس بالفلسين عندهما يجوز اعتبارًا لاصطلاح بعض الناس، وعند محمد رحمه الله: لا يجوز اعتبارًا لاصطلاح الكل، والكساد يجب أن يكون على هذا القياس أيضًا.
وذكر في كتاب الصرف: إذا اشترى بدراهم ونقد الثمن ولم يقبض الفلوس حتى كسدت بطل البيع استحسانًا، وإن كان قبض الفلوس ولم يقبض الدراهم حتى كسدت الفلوس، فالبيع جائز والدراهم دين على حالها؛ لأن العقد قد انتهى في الفلوس بالقبض، فهلاكها بالكساد لا يؤثر في العقد.
ولو اشترى بفلوس فاكهة أو غيرها وقبض ما اشترى ولم ينقد الفلوس حتى كسد بطل استحسانًا.
وفي (القدوري) في باب استقراض الفلوس: إذا اشترى بفلوس وكسدت قبل القبض فسد العقد في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يفسد العقد وفي (المنتقى): إذا كسدت الفلوس قبل القبض فعلى المشتري قيمة الفلوس في قول أبي يوسف، وهذه إشارة إلى أن العقد لا يفسد على قوله.
وذكر محمد في كتاب الرهن مسألة تدل على أن البيع لا ينتقض بهلاك الفلوس قبل القبض، وصورتها: رجل رهن من آخر فلوسًا تساوي عشرة بعشرة، فكسدت فهي رهن على حالها حتى لو هلكت هلكت بالعشرة، ولو كان الكساد بمنزلة الهلاك لسقط الدين بمجرد الكساد، والمشايخ اختلفوا في هذه المسألة، بعضهم قالوا: ينتقض البيع كما ذكر في كتاب الصرف، وبعضهم قالوا: لا ينتقض، واستدلوا بمسألة الرهن. وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يصحح رواية كتاب الصرف، وشيخ الإسلام يصحح رواية الرهن، وهذا القائل يقول معنى قول محمد في كتاب البيع يبطل البيع أنه يخرج من أن يكون لازمًا حتى لا يجبر البائع على القبض دفعا للضرر عنه، أما لو اختار البائع الأخذ فله ذلك.
وعن أبي يوسف أنه إذا اشترى فلوسًا بدراهم أو دنانير وكسدت الفلوس قبل القبض بطل البيع، وإذا اشترى بالفلوس شيئًا فاكهة أو عرضًا وكسدت الفلوس قبل القبض لا يبطل البيع، والفرق: أن الفلوس الرائجة ثمن بيع الفلوس والشراء بها بيع الثمن والشراء، وبالكساد تصير مبيعة بمقابلة الدراهم والدنانير؛ لأن الدراهم والدنانير أثمان من كل وجه، فلو اتقينا ذلك البيع اتقينا على المبيع، وإنه ما ورد على المبيع فبطل ضرورة، فأما بمقابلة العرض والفاكهة يمكن أن يجعل الفلوس الفاسدة ثمنًا؛ لأن العرض والفاكهة مبيع والفلوس بمقابلة المبيع يمكن أن تجعل ثمنًا باعتبار أنه عددي متقارب كالجوز وغيره.
وفي (المنتقى): إذا اشترى فلوسًا بدراهم وبمد من دقيق بعينه، فقبض المد والدراهم ولم يقبض الفلوس حتى كسدت فسد البيع في قياس أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: ينتقض البيع في حصة الدراهم ويجوز في الدقيق بحصته وعليه قيمة الفلوس تلك الحصة من الدراهم أو الفلوس هذا إذا كسدت الدراهم أو الفلوس قبل القبض، فأما إذا غلت بأن ازدادت قيمتها، فالبيع على حاله ولا يخير المشتري، وإذا انتقصت قيمتها فالبيع على حاله ويطالبه بالدراهم بذلك العنان الذي كان وقت البيع.
وفي (المنتقى): إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت، قال أبو يوسف رحمه الله: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء وليس له غيرها، ثم رجع أبو يوسف وقال: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض، والذي ذكرنا من الجواب في الكساد فهو الجواب، والانقطاع إذا انقطعت الدراهم عن أيدي الناس قبل القبض فسد المبيع عند أبي حنيفة، وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة في البيوت، وقيل: إذا كان يوجد في يد الصيارفة فهو ليس بمنقطع، والأول أصح وسيأتي جنس هذه المسائل في مسائل السلم إن شاء الله.
وفي (المنتقى): قال أبو حنيفة: كل ما يكال أو يوزن إذا كان ثمنًا بغير عينه وقد انقطع عن أيدي الناس أن الطالب بالخيار إن شاء أخره إلى الجديد، وإن شاء أخذ قيمة بيعه، فقد حكم بفساد العقد حتى أوجب قيمة المبيع، وقال أبو يوسف: إن شاء أخره إلى الجديد، وإن شاء أخذ قيمة الثمن قبل انقطاعه بلا فضل، ولأبي يوسف في هذا قول آخر أن عليه قيمة الثمن يوم وقع البيع وهو قوله وعليه الفتوى. وكذلك الدراهم والفلوس إذا انقطع عن أيدي الناس قبل القبض، فللبائع قيمة الدراهم والفلوس يوم وقع البيع في قول أبي يوسف الآخر وعليه الفتوى.
وروى بشر عن أبي يوسف في (الأمالي) في رجل اشترى من عبده شيئًا بألف درهم غلة، والغلة يوم اشترى طبرية ويزيدية، فكسدت الطبرية فإن عليه أن يعطيه غلة سوى الطبرية ما يقع عليه اسم الغلة، وإن أبى واحد منهما أجبر عليه. ولو باع سلعة بكذا دينارًا حتى كان له نقد الناس، فكسد صنف من الدنانير ما كان يجوز مثله فله نقده من الدنانير التي تجوز بين الناس، ولو باع شيئًا بدراهم مسماة مكروهة فكسد صنف من المكروهة أي المكحلة، فإن عليه أن يعطيه الصنف الباقي منها، ولو باعه بألف درهم طبرية والطبرية على صنفين صنف غلة وصنف نقد بيت المال كان له الطبرية الغلة الجائزة بين الناس. ولو كسدت لم يكن له من الطبرية المقدسي، وإنما له قيمة الكاسدة من الذهب، وهذا قول أبي يوسف فقد أشار إلى أن البيع لا يفسد بالكساد إذ لو فسد لوجب قيمة المبيع، ثم إذا فسد البيع بالكساد أو بالإنقطاع على قول من يقول به، فإن لم يكن المبيع مقبوضًا فلا حكم لهذا البيع أصلًا، وإن كان مقبوضًا إن كان قائمًا رده على البائع، وإن كان مستهلكًا أو هالكًا يرجع البائع عليه بقيمة المبيع إن لم يكن المبيع مثليًا وبمثله إن كان مثليًا.
دلال باع متاع الغير بإذنه بالدراهم واستوفى الدراهم فقبل أن يدفعها إلى صاحب المتاع كسدت الدراهم، فليس للدلال على المشتري سبيل؛ لأن حق القبض للدلال؛ لأنه هو العاقد وقد قبض.
وفي (النوازل): رجل باع من آخر شيئًا بألف درهم فوزن له المشتري ألفًا ومئتي درهم فقبضها البائع ثم ضاعت من يده فهو مستوف للثمن ولا ضمان عليه؛ لأنه بقدر الألف استوفى حقه، وفيما زاد فهو مؤتمن فيه، فإن ضاع نصفها فالنصف الباقي على ستة أسهم، فالأصل أن المال المشترك إذا هلك منه شيء، فالهالك يهلك على الشركة، فلو عزل منها مئتي درهم، فضاعت المئتان يردها كان الألف بينهما على ستة أسهم لما قلنا. ولو ضاعت الألف فللبائع أن يرجع في المائتين بخمسة أسداسها.
وإذا باع جارية بألف درهم، فدفع إليه المشتري كيسًا على أن فيه ألف درهم فذهب به البائع إلى المنزل، فإذا فيه دنانير فحمل الدنانير ليردها فضاعت في الطريق فلا ضمان عليه؛ لأنه أخذ بإذن فكان أمينًا.
وإذا اشترى شيئًا وأعطى دراهم صحاحًا فكسرها ولا شيء عليه؛ لأنه لم يتلف عليه مالًا، وكذا إذا دفع إليه إنسان لينظر.
في (فتاوى أبي الليث) وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا باع بدراهم جياد ودفع المشتري الدراهم، فأراها البائع رجلًا فأنقدها فوجد فيها قليل نبهرجة، فاستبدل وأراد أن يصرف في شراء الحوائج فلم يأخذها آخذ، وقالوا: كلها نبهرجة إن كان أقر البائع أنها جياد لا يرد؛ لأنه مناقض إلا إذا صدقه المشتري، وإن لم يكن أقر بذلك يرد؛ لأنه مناقض.

.الفصل الخامس: فيما لا يدخل تحت البيع من غير ذكره صريحًا، وما يدخل تحته من غير ذكره صريحا:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.نوع منها:

قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): رجل اشترى منزلًا فوقه منزل فليس له الأعلى إلا إذا قال بكل حق هو له، أو قال بمرافقه، أو قال قليل أوكثير هو فيه أو منه وعلم بأن هاهنا ثلاث مسائل مسألة في بيع الدار، ومسألة في بيع المنزل، ومسألة في بيع البيت، ففي المنزل الجواب ما قلنا. وبيع الدار يدخل العلو تحت البيع وإن لم يذكر كل حق هو لها أو ما أشبه ذلك، كما يدخل السفل وإن لم يذكر كل حق هو لها أو ماأشبه ذلك، وفي بيع البيت لايدخل العلو تحت (البيع) إلا بالتنصيص عليه، وهذا لأنَّ العلو بمنزلة البناء من وجه، وبمنزلة بيت آخر من وجه من حيث إن قوام العلو بالسفل هو بمنزلة البناء؛ لأن قوام البناء بالأرض، ومن حيث إنه يبنى لينتفع بنفسه لايصير السفل منتفعًا به فهو كبيت آخر، بخلاف البناء فإنه لا يبنى على الأرض لينتفع بنفسه، وإنما يبني ليصير داخل البيت منتفعًا بالبيت، فكان البناء تبعًا للأرض قوامًا وانتفاعًا، فإذا كان العلو بينهما كان يجب أن يوفر على الشبهين حظهما في المسائل كلها فيجعل العلو منزلًا بين منزلين في المسائل كلها، فيقال: متى ذكر الحق يدخل العلو وإن لم يذكر العلو نصًا كالبناء يدخل من غير ذكره ومتى لم يذكر الحق لا يدخل كبيت آخر، إلا أن العمل بالشبهين على هذا الوجه متعذر في المسائل أجمع لما فيه من التسوية بين اسم الدار والبيت والمنزل في الاستتباع ولا يجوز التسوية بين هذه الأسماء في الاستتباع؛ لأن معاني هذه الأسماء متفاوتة في العموم والخصوص، فإن اسم الدار أعم من اسم البيت والمنزل من حيث المعنى، فإن الدار مشتقة من الدوران في موضع أدير عليه، فكان الاسم مأخوذًا من الدوران من إدارة الحائط، وفي الدوران نزول كما في المنزل، وبيتوته كما في البيت؛ لأن الدوران يكون بالنهار والمنزل أخص من الدار؛ لأنه مأخوذ من النزول دوران أما فيه بيتوته إلا أنه أعم من البيت؛ لأن البيت موجود من البيتونة:
عبارة عن المقام ليلا ونهارًا، فكانت الدار أعم من المنزل، والبيت أخص من الدار والمنزل جميعًا، فألحق العلو بالبناء في الدار حتى يظهر اسم الدار وإنه أعم زيادة رتبة في الاستتباع ليس ذلك للمنزل، قلنا: إن ذكر الحق يستتبع العلو، وإن لم يذكر لا يستتبع العلو حتى يظهر نقصان رتبة المنزل في الاستتباع عن رتبة الدار، وفي البيت قلنا: لا يدخل العلو إلا بالتنصيص عليه.
وذكر محمد بن مقاتل الرازي في شروطه أن العلو إنما يدخل في بيت المنزل بذكر الحقوق أو المرافق أو بذكر كل قليل وكثير هو فيها ومنها إذا كان طريق الصعود إلى العلو في منزل الأسفل، فأما إذا كان في غيره فلا أعرف عن أصحابنا لهذا رواية، ويحتمل أن لا يدخل.
ويدخل الكنيف الشارع في الدارفي بيع الدار، وإن لم يذكر بكل حق هو لها؛ لأن الكنيف من حقوق الدار؛ لأن قراره على الدار، ولأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط والحائط أدير على الكنيف، فيكون الكنيف من الدار، فيدخل تحت بيع الدار من غير ذكر.
وأما الظلة التي تكون على الطريق وهي الساباط التي أحد طرفيه على جدار هذه الدار والطرف الآخر على جدار دار أخرى أو على الأسطوانات خارج الدار لا يدخل تحت بيع الدار إلا بذكر كل حق هو لها وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يدخل وإن لم يذكر كل حق لها إذا كان مفتحها إلى هذه الدار؛ لأن قرار الظلة في الدار كانت بمنزلة العلو والكنيف، ولأبي حنيفة أن قرار أحد طرفي الظلة لما كان بالأسطوانات خارج الدار وبدار أخرى كانت الظلة تبعًا للدار المبيعة من وجه دون وجه، فلكونها تبعًا للدار المبيعة لا يشترط التنصيص عليها لدخولها في بيع الدار، ولكونها تبعًا للدار المبيعة اكتفينا بذكر الحقوق لدخولها في بيع الدار عملًا بالشبهين، وإذا ذكر الحقوق.
والمرافق يدخل الظلة عند أبي حنيفة في البيع إذا كان مفتحها إلى الدار المبيعة، وإن لم يكن مفتحها إلى الدار المبيعة لا يدخل، وإن ذكر الحقوق أو المرافق، قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي في (شرح الجامع الصغير): هذا الذي ذكر محمد في (الكتاب) من الفصل بين الدار والمنزل والبيت في الجواب عرف أهل الكوفة، فأما في عرف بخارى يدخل العلو من غير ذكر اسم، سواء باع باسم الدار والمنزل والبيت؛ لأن في ديارنا المسقف بسقف واحد قلما يكون، وكل مسكن يسمى خانة سواء كان كبيرًا أو صغيرًا إلا دار السلطان، والعلو يدخل من غير ذكر على كل حال.
ويدخل في بيع الدار المخرج والمربط والمطبخ والبئر ذكروا المرافق أو لم يذكروا، وفي بيع منزل من الدار وبيت من الدار لم تدخل هذه الأشياء إلا بذكر؛ لأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط، فكل ما هو داخل في بيع الدار، فأما اسم المنزل من النزول واسم البيت من البيتوتة وهذه الأشياء سوى البيت في معنى النزول والبيتوتة فيها على السواء، فتكون هذه الأشياء منازل وبيوتًا باعتبار الاسم، وهو إنما ذكر في البيع منزلًا واحدًا وبناء واحدًا فلا تدخل هذه الأشياء تحت البيع.
والبئر لا يتأتى فيه النزول والبيتوتة فلا يدخل تحت اسم المنزل والبيت، ويشترط التنصيص على هذه الأشياء ولا يكتفى بذكر الحقوق والمرافق؛ لأن حقوق الشيء ما يقصد إليه لأجل ذلك الشيء لا بعينه، وهذه الأشياء مقصودة بنفسها من غير المنزل والبيت فلا تكون من حقوقها ومرافقها.
والحاصل أن الحق في العادة يذكر فيما هو تبع للمبيع ولابد للمبيع منه، ولا يقصد إليه إلا لأجل المبيع كالشرب والطريق في الأرض، والمرافق عبارة عما يرتفق به ويختص بما هو من التوابع كالشرب للأرض ومسيل الماء وقوله: كل قليل أو كثير يذكر على وجه المبالغة في إسقاط حق البائع عن المبيع وما هو متصل بالمبيع، وهذا إذا كان المخرج والمربط في الدار المبيعة. فأما إذا كان في دار أخرى متصلًا بالدار المبيعة لا تدخل هذه الأشياء تحت بيع الدار.
قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى بيتًا في دار أو منزلًا لا يدخل الطريق ومسيل الماء من غير ذكر، وكذلك إذا اشترى أرضًا لا يدخل الشرب في الشراء من غير ذكر، وفي الإجارة تدخل هذه الأشياء من غير ذكر، والفرق: أن الإجارة تعقد للانتفاع، ولهذا لا يجوز إجارة ما لا ينتفع به في الحال كالمُهْر الصغير والأرض السبخة ولا يمكن الانتفاع بهذه الأشياء إلا بالطريق ومسيل الماء والشرب للمستأجر لا يشتري هذه الأشياء عادة ولا يجد ليستأجر، ولو استأجر الطريق الذي لصاحب الدار لا يجوز، فتدخل هذه الأشياء في الإجارة تصحيحًا لها، فأما البيع فلا يعقد للانتفاع عينًا بل يعقد للانتفاع، وتحصيل العين المتقوم ممكن بدون الطريق فلا ضرورة إلى إدخاله في البيع، فلا يدخل إلا بالتنصيص أو بذكر الحقوق أو بذكر المرافق، وأراد بالطريق الذي لا يدخل في بيع الأرض والدار من غير ذكر الطريق الخاص.
والطريق ثلاثة: طريق إلى الطريق الأعظم، وطريق إلى سكة غير نافذة، وطريق خاص في ملك إنسان، فالطريق الخاص في ملك الإنسان لا يدخل في البيع من غير ذكر إما نصًا وإما بذكر الحقوق والمرافق، والطريقان الآخران يدخلان في البيع من غير ذكر، وكذا مسيل الماء في ملك خاص وحق إلقاء الثلج في ملك خاص لا يدخل في البيع إلا بالذكر إما نصًا أو بذكر الحقوق والمرافق.
وإذا باع بيتًا من دار ولم يذكر الطريق ولا الحقوق ولا المرافق حتى لم يدخل الطريق في البيع، فللمشتري أن يزداد قال: يرد، أو قال: ظننت أن لي..... إلى الطريق هكذا ذكر في (المنتقى) يريد به أن البيت إذا كان لا يلي الطريق الأعظم حتى لا يمكنه أن يقع البيت بابًا إليه، وقال: وقت البيع أن البيت يلي الطريق الأعظم ويمكنني أن افتح بابًا إليه فله أن يرد البيت، وفي بعض الكتب لم يذكر الخيار، وإنما ذكر أن البيت إذا كان لا يلي الطريق الأعظم لا يبطل البيع وله أن يستأجر أويستعير من صاحب الأرض، ثم الطريق الذي يدخل في البيع بذكر الحقوق والمرافق الطريق وقت البيع لا الطريق الذي كان قبل البيع حتى أن من سد طريق منزله وجعل طريقًا آخر وباع المنزل بحقوقه دخل تحت بيع المنزل الطريق الثاني دون الأول.
وإذا باع دارًا وفيها بستان ذكر في (فتاوى أبي الليث) أنه إذا كان البستان في الدار يدخل في البيع من غير ذكره صغيرًا كان البستان أم كبيرًا؛ لأنه من جملة الدار. وإن كان البستان من خارج الدار إلا أن مفتاحه إلى الدار اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا يدخل، وبعضهم قالوا: إن كان البستان أصغر من الدار يدخل من غير ذكر، وإن كان مثل الدار أو أكبر لا يدخل، وبعضهم قالوا: يحكم الثمن.
وفي بيوع (المنتقى): قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول في رجل اشترى دارًا، وفيها بستان إن البستان ليس بداخل في بيع الدار إلا أن يسميه إلا أن يكون البستان في وسط الدار والدار محدودة، قال هشام: ذاكرت أبا يوسف مرة أخرى فيمن باع دارًا وفيها بستان، قال: البستان منها، قلت: فإن كان للبستان بابان أحدهما في الدار والآخر خارج منها، قال: هو منها.
وفي (العيون): إذا اشترى دارًا وفيها رحاء الإبل وقد اشتراها بحقوقها ومرافقها لا يكون الرحاء ولا متاعها للمشتري؛ لأن هذا ليس من حقوق الدار وهذا بخلاف ما لو باع ضيعة وفيها رحاء باعها بكل حق هو لها حيث كان الرحاء المشتري؛ لأن هذا من عمارة الضيعة وصلاحها، فكان من حقوقها وفي الدار من خراب الدار فلم يكن من حقوقها، وكذلك دولاب الضيعة للمشتري بمنزلة الرحاء والدالية للبائع؛ لأنها معلقة بغير بناءٍ وكذلك جذعها.
وروى إبراهيم بن رستم عن محمد رحمه الله فيمن اشترى بيتًا وفيها رحا بكل قليل أو كثير هو فيه، فله الأسفل والأعلى، وكذلك إذا كان فيه قدر نحاس موصولًا بالأرض.
وفي (فتاوي الفضلي) دار فيها بيوت باع صاحب الدار بعض البيوت بمرافقها، ثم أراد أن يرفع باب الدار الأعظم وأبى المشتري ليس لصاحب الدار أن يرفعه؛ لأنه باع الأبيات بمرافقها والباب الأعظم من مرافقها، وكذلك لو كان باع البيوت بمرافقها من حقوقها؛ لأن الطريق دخل في البيع بقوله من حقوقها، فيدخل الباب أيضًا؛ لأنه منصوب على الطريق.
وفيه أيضًا: إذا اشترى بيتًا من منزل بحدوده وحقوقه وصاحب المنزل يمنعه عن الدخول ويأمره بفتح الباب إلى السكة ينظر: إن كان البائع بين له طريقًا معلومًا ليس له منعه، وإن لم يبين اختلف المشايخ فيه منهم من قال: له منعه؛ لأن بقوله بحقوق هذا البيت في السكة حتى لا يمنع عن المرور في السكة العظمى، ومنهم من قال: ليس له منعه؛ لأن الباب الأعظم دخل يذكر الحقوق على ما ذكرنا في المسألة المتقدمة. قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار.
وفي (العيون): إذا باع دارًا لا بناء فيها، وفيها بئر ماء ومخرج وآجر مطوي في البئر وأشياء أخر كلها متصلة بالبئر دخل تحت البيع.
وفي (النوازل): إذا باع دار فيها بئر وعليها بكرة ودلو وحبل، فإن باعها بمرافقها دخل الحبل والدلو في البيع؛ لأنهما من مرافق الدار، وإن لم يذكر المرافق لا يدخلان والبكرة يدخل على كل حال؛ لأنها مركبة والأصل أن ما كان في الدار من البناء أو ما كان متصلًا بالبناء يدخل في بيع الدار من غير ذكر بطريق التبعية، وما لا يكون متصلًا بالبناء لا يدخل في بيع الدار من غير ذكر إلا إذا كان شيئًا جرى العرف فيه فيما بين الناس أن البائع لا يضن به ولا يمنعه عن المشتري، فحينئذ يدخل، وإن لم يذكره في البيع.
وعن هذا أن الغلق وفارسيته: كليدان يدخل في البيع من غير ذكر لكونه متصلًا بالبناء، والمفتاح يدخل استحسانًا ولا يدخل قياسًا؛ لأنه غير متصل بالبناء، فصار كثوب موضوع في الدار إلا أنا استحسنا وقلنا بالدخول بحكم العرف؛ لأن العرف فيما بين الناس أن بائع الدار لا يمنع المفتاح عن المشتري ويسلمون الدار بتسليم المفتاح، فإنما دخل المفتاح من غير ذكر بحكم العرف والقفل ومفتاحه لا يدخل، والسلم إن كان متصلًا بالبناء يدخل سواء كان من خشب أو مدر، فإن كان غير متصل بالبناء لا يدخل، والسرر نظير السلاليم.
وإذا اشترى رحا ماء يدخل في البيع من آلاته ما كان متصلًا بالبناء من غير ذكر؛ لأنه كالبناء فعلى هذا الحجر الأسفل يدخل تحت البيع من غير ذكر؛ لأنه متصل بالبناء، فكان كالبناء، والحجر الأعلى لا يدخل قياسًا؛ لأنه غير مركب بالبناء ألا ترى أنه يمكن رفعه من غير أن يحتاج فيه إلى نقض شيء من البناء. وفي (الاستحسان) يدخل؛ لأن الرحا اسم لبيت فيه حجر دوارة، فالدوارة فيه الحجر الأعلى، فإذا كان اسم الرحى ثبت بالأعلى كان الأعلى وما يديره من البكرة داخلًا تحت اسم الرحى.
وعلى هذا إذا اشترى طاحونة، فالحجر الأسفل يدخل من غير ذكر، والأعلى لا يدخل قياسًا واستحسانًا. وإذا كان درج في الدار من خشب أو ساج أصلها في البناء، فإنها تدخل في بيع الدار من غير ذكر، ولو لم يكن في بناء........... فهو للبائع وهذا مثل السلم. ولو كان في البيت باب موضوع لا يدخل في البيع من غير ذكر.
في (المنتقى) وفي (العيون): اشترى دارًا واختلفا في بيت منها، فإن كانت الدار في يد المشتري، فالقول فيه قوله سواء كان الباب معلقًا أو موضوعًا، وإن كانت الدار في يد البائع، فإن كان الباب موضوعًا فيه فالقول قول البائع، وإن كان معلقًا فالقول قول المشتري.
وفي (النوازل): إذا اشترى دارًا واختلفا في باب الدار فقال البائع: لم يدخل في البيع، وقال المشتري: دخل، فإن كان الباب متصلًا بالبناء، فالقول قول المشتري سواء كان الدار في يد البائع أو في يد المشتري؛ لأن الباب من جملة الدار، وإن كان غير متصل بالبناء بل كان موضوعًا في الدار، فالقول قول من كان الدار في يده؛ لأن الباب ليس من جملة الدار هاهنا. بقي الاختلاف في الملك، فيكون القول قول صاحب اليد، وهذه المسألة غير مسألة (العيون).
وفي (المنتقى): إذا قال لغيره: بعتك هذا البيت وما أغلق عليه بابه من المتاع للمشتري، وهذا يقع على حقوقه كأنه قال: بعتك بحقوقه، قال هشام: قلت لأبي يوسف: إن قال له: بعتك بما فيه من شيء، قال: هذا على حقوقه أيضًا، وإن قال على ما فيه من المتاع، فهذا جائز على ما فيه من المتاع.

.نوع آخر:

باع من آخر حانوتًا وباب الحانوت من.... يغلق ويفتح وينزع..... دخل الألواح تحت البيع، سواء باع الحانوت بمرافقه أو لم يبعه بمرافقه؛ لأن ألواح الحانوت مركبة بالحانوت معنى، هكذا ذكر في (المنتقى).
ولو كان على الحانوت ظلة في السوق كما يكون في الأسواق، فإن كان باع الحانوت بمرافقه دخل الظلة؛ لأن الظلة من مرافقه، وإن كان باعه مطلقًا فالظلة لا تدخل.
وذكر في (العيون): إذا اشترى حانوتًا فالألواح للبائع، والصحيح ما ذكرنا أن الألواح للمشتري ويدخل مفتاح الحانوت في البيع من غير ذكر استحسانًا لما قلنا في مفتاح الدار.
وكوز الحداد للمشتري وكوز الصائغ للبائع؛ لأن الأول مركب، والثاني لا، قال في (المنتقى): وكوز الحداد بمنزلة أتون الأجر وورق الحداد الذي منع فيه للبائع، وقدر من النحاس يطبخ فيه الحنطة السويق أو للصباغين يطبخ فيه الصبغ، أو للقصارين يوضع فيها الثياب للبائع، هذا كان معلاه السواقين من طين دخلت في البيع، وقد ذكرنا قبل هذا رواية محمد رحمه الله في القدر من النحاس إذا كان موصولًا بالأرض أنه يدخل في بيع البيت.
والصندوق المثبت في البناء أو حالهم و.............. أو المنفعة في البناء لا يدخل، وليست هذه الأشياء من متاع الدار ولا من حقوقها، وكذلك جذع القصار الذي زيد عليه الثوب لا يدخل في البيع؛ لأن هذا ليس من حقوق الحانوت ويستوي في هذه المسائل إن ذكر الحانوت مطلقًا أو بمرافقه أو حقوقه؛ لأن هذه الأشياء ليست من حقوق الحانوت ومرافقه، إنما هذا من حقوق التجارة أو الفعلة والعمال. وقدر الحمام يدخل في البيع من غير ذكر، والقصاع لا تدخل، وإن ذكر الحقوق... ألقي على الأولاد ليست في البناء للبائع.
وإذا اشترى حانوتًا أو دارًا ووجد في جذع منه دراهم فإن قال البائع: إنها لي فالقول قول البائع؛ لأنا عرفناها في يده، وإن قال: ليس لي فحكمها حكم اللقطة؛ لأنه لم يعرف لها مالك.
ومن هذا الجنس إذا اشترى دارًا أو حانوتًا فانهدم حائط منها فوجد فيه رصاصًا أو صاجًا أو خشبًا إن كان من جملة البناء كالخشب الذي تحت الجدار يوضع ليبتنى عليه ويسمى سبح بالفارسية فهو للمشتري، وإن كان مودعًا فيه فهو للبائع.

.نوع آخر:

إذا باع أرضًا أو كرمًا ولم يذكر الحقوق ولا المرافق ولا ذكر بكل قليل أو كثير، فإن يدخل تحت البيع باركب للتأبيد.... والأشجار والأبنية؛ لأن هذه الأشياء بمعنى الأرض إذ ليس لنهايتها مدة معلومة، وما يعلم مدة نهايته فهو للتأبيد كالأرض، فإنها ذات نهاية ولكن لما لم يكن لنهايتها مدة معلومة..... كانت للتأبيد، فإذا كانت هذه الأشياء للتأبيد كانت كالأرض من كل وجه، فيدخل تحت بيع الأرض من غير ذكر، فأما الزرع والثمر لا يدخلان في البيع. والقياس: أن يدخل متصل بالأرض اتصال قوام والثمر متصل بالشجر إيصال قوام، فكان كالأشجار مع الأرض إلا أنا استحسانًا وقلنا: بأنهما لا يدخلان لقوله عليه السلام: «من باع نخلًا مؤبرًا فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع» والزرع مثل التمر من حيث إن لكل واحد منهما غاية معلومة، فالنص الوارد في الثمر يكون واردًا في الزرع دلالة، والمعنى في ذلك: أن لقطعهما غاية معلومة وما لنهايته غاية معلومة.
وإن ذكر في بيع الأرض الحقوق أو المرافق لا يدخل الزرع والثمار أيضًا؛ لأنهما ليسا من جملة حقوق الأرض ومرافقه، وإن قال: بعتها بكل قليل وكثير هو منها وفيها، إن قال: في أثرها من حقوقها، أو قال: من مرافقها، فالثمار والزرع لا يدخلان، وإن لم يقل: في آخرها من حقوقها ومرافقها يدخلان في البيع، وذكر الحاكم أحمد السمرقندي في (شروطه): أنه إذا ذكر في بيع الضيعة والنخيل كل حق يدخل الزرع والثمر في البيع قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ولم يذكر كل قليل وكثير، وهكذا ذكر الناطفي أن بذكر الحقوق والمرافق يدخل الزرع والثمر في بيع الأرض.
وفي (المنتقى) عن أبي يوسف برواية ابن سماعة عن محمد: أن الثمر والزرع لا يدخل بذكر الحقوق والمرافق. وإذا قال: بكل قليل أو كثير هو منها أو فيها يدخل استحسانًا. وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه يدخل الزرع والثمر في الألفاظ كلها، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في آخر شرح المزارعة الكبيرة أنه إذا قال في بيع الضيعة: بكل قليل وكثير فيها على رواية كتاب الشرب لا يدخل الزرع والثمر في البيع. وهكذا ذكر في (المنتقى) عن محمد؛ لأن الزرع ليس من الأرض، وعلى رواية كتاب الشفعة والمزارعة يدخل.
وإن قال بكل قليل وكثير هو فيها يدخل جميع ما فيها من الثمر والزرع والبقل والرياحين وغير ذلك، وإن كان فيها زرع قد حصدت أو ثمار قد جزت لا يدخل في البيع، قال ابن أبي مالك: سمعت أبا يوسف قال: هما سواء، ويدخل الثمر في البيع.
وفي (شرح القدوري) وشرح القاضي الإمام الإسبيجابي: أن الزرع إنما لا يدخل في بيع الأرض من غير ذكر، إذا لم يثبت بعد، وصار له قيمة يدخل، ثم إن محمدًا رحمه الله ذكر أن الشجرة تدخل في بيع الأرض من غير ذكر، ولم يفصل بين المثمرة وغير المثمرة، ولا بين الصغيرة والكبيرة، فمن مشايخنا من فصل بين المثمرة وغير المثمرة، فقال: المثمرة تدخل من غير ذكر وغير المثمرة لا تدخل، وذهب في ذلك إلى أن غير المثمرة بمعنى الزرع لنهايتها مدة معلومة كما للزرع، فأما المثمرة فليس لنهايتها مدة معلومة، فكان مؤبدًا، فكان كالأرض، ومنهم من قال: الشجرة الكبيرة إذا كانت مثمرة تدخل من غير ذكر، وإذا كانت غير مثمرة لا تدخل، والصغيرة لا تدخل إلا بالذكر مثمرة كانت أو غير مثمرة؛ لأن الصغير لقطعها مدة معلومة عند الناس مثمرة كانت أو غير مثمرة، فإنها تقلع وتنقل من موضع إلى موضع، ولمدة ذلك وقت معلوم بين الناس، وكذلك الكبيرة المثمرة هي مثمرة لقلعها مدة معلومة بين الناس، فصار كالزرع بخلاف الكبيرة المثمرة، ومنهم من قال: الكل يدخل من غير ذكر وهذا أصح؛ لأن غير المثمرة ليس لنهايتها مدة معلومة بل تتفاوت بتفاوت الأراضي تفاوتًا فاحشًا صغيرة كانت أو كبيرة بمعنى الكبيرة المثمرة.
وأما قوائم الخلاف هل يدخل في بيع الأراضي من غير ذكر؟ من المشايخ من قال: لا يدخل وألحقها بالثمرة؛ لأن لنهايتها مدة معلومة، ومنهم من قال تدخل؛ لأن مدة نهايتها تتفاوت بتفاوت الأراضي تفاوتًا فاحشًا، فصار بمنزلة الأشجار المثمرة وهو الأقيس.
وأما الورد والآس لا يدخلان في البيع من غير ذكر؛ لأن لنهايتها مدة معلومة لا تتفاوت إلا يسيرًا، فصارت كالثمرة، فأما أصلهما (فيدخل) في البيع من غير ذكر؛ لأنه ليس لنهايتها مدة معلومة، فكانت بمنزلة سائر الأشجار، هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الشفعة. وفي (العيون): أن أصل الآس لا يدخل؛ لأنه بمنزلة الثمر؛ لأنه يقطع كذلك.
وأما القطن فلا يدخل في البيع من (غير) ذكر وهو كالثمرة. وأما أصلها فقد قالوا: لا يدخل وهو الصحيح؛ لأن لنهايتها مدة معلومة، فإن بعد ما فرغ من القطن يقطع، ومنهم من قال: يدخل؛ لأن مدة قطعها يتفاوت بتفاوت الأراضي، فإن في بلاد الحر لا يقطع إلا بعد سنين وفي بلادنا يقطع في كل سنة.
وشجرة الباذنجان لا تدخل في بيع الأرض من غير ذكر، هكذا ذكر الحاكم أحمد السمرقندي في (شرحه)، وعلى قياس مسألة القطن يجب أن يكون فيه اختلاف المشايخ. وأما الكراث والقت وفارسية: تيبست والرطبة فما كان على وجه لا يدخل في البيع من غير ذكر كالزرع والثمر؛ لأن لنهايتها مدة معلومة، وأما أصول هذه الأشياء وهي ما كان مغيبًا في الأرض، فمنهم من قال: لا يدخل؛ لأن لنهاية الأصول مدة معلومة فيما بين الناس فصار كالزرع، ومنهم من قال: يدخل؛ لأن نهاية هذه الأشياء تتفاوت تفاوتًا فاحشًا بتفاوت الأراضي، فصار كالأشجار وصار الأصل أن ما كان لقطعه مدة معلومة ونهاية معلومة فهو بمنزلة الشجر فيدخل تحت بيع الأرض من غير ذكر.
والزعفران لا يدخل من غير ذكر وكذلك أصله، ذكر في (العيون) لأنه يقطع كذلك وصار كالثمرة، والقصب لا يدخل في بيع الأرض من غير شرط، والفرو يدخل؛ لأن الفرو شجر؛ لأن له ساق ولا يقطع أصله حتى كان شجرًا يدخل تحت بيع الأرض من غير ذكر، وما لم يكن بهذه الصفة لا يدخل تحت بيع الأرض من غير ذكر؛ لأنه بمنزلة الثمرة.
وإذا باع أرضًا وفيها حطب ثابت لا يدخل في بيع الأرض من غير ذكر، ذكره في (العيون) وفي (البقالي) عن أبي حنيفة في الخلاف والحطب والقصب والطرف وأنواع الخشب أنها للمشتري. وروى بشر عن أبي يوسف أن القصب للبائع. وفي (المنتقى): أن الشوك لمن أخذه بخلاف الحطب، ذكر شيخ الإسلام في شرح المزارعة الكبيرة أن الشجر الذي ذكره محمد في الكتاب أنه يدخل في بيع الأرض من غير ذكر شجر يغرس للبقاء، أما الشجر الذي يغرس للقطع كشجر الحطب وغيره لا يدخل في البيع من غير ذكر.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا اشترى أرضًا وفيها أشجار تقطع في كل ثلاث سنين إن كان يقلع من الأصل فهو للمشتري؛ لأنه شجر وهو الشجر الصغير الذي يباع في السوق في فصل الربيع، وإن كان يقطع من وجه الأرض فهو للبائع؛ لأنه بمنزلة الثمر.
ولا يدخل في بيع الأرض شربه وطريقه إلا إذا ذكر ذلك نصًا أو دلالة بأن قال: بجميع حقوقها أو قال بمرافقها، وإذا اشترى أرضًا ونخلًا وليس لها شرب وهو لم يعلم بذلك فله الخيار، هكذا ذكر في (المنتقى).
وفي (العيون): اشترى نخلة في أرض بطريقها في الأرض ولم يبين موضع الطريق وليس إليها طريق يعني من ناحية معروفة. قال أبو يوسف: الشراء جائز ويأخذ إلى النخلة طريقًا من أي ناحية أحب؛ لأن هذا مما لا يتفاوت حتى (إن) كان متفاوتًا كان البيع باطلًا، وعن محمد رحمه الله: أن البيع باطل ما لم يبين الطريق لمكان الجهالة. وفي (فتاوي الفضلي): إذا اشترى اشترى أرضًا... وبين والأرض مسناة وعلى المسناة أشجار، وجعل أحدهما حدود الأرض إلا قذف دخل المسناة وما عليها من الأشجار تحت البيع؛ لأنه جعل المسناة في البيع فيكون من جملة المحدود.
وقال في (المنتقى): وإذا (اشترى) نخلة فهذا على الجذع، ولا يكون بأرضها واعلم بأن شراء الشجرة من ثلاثة أوجه: إما أن يشتريها للقلع بدون الأرض، وفي هذا الوجه يؤمر المشتري بقلعها بعروقها، وأصلها يدخل في البيع، وليس له أن يحفر الأرض إلى ما يتناهى إليه العروق، ولكن يقلعها على ما عليه العرف والعادة إلا إذا شرط البائع القلع على وجه الأرض أو يكون في القلع مضرة للبائع، نحو أن يكون بقرب الحائط أو ما أشبه ذلك، فحينئذ يؤمر المشتري أن يقطعها على وجه الأرض، فإن قلعها أو قطعها ثم نبت من أصلها أو عرقها شيء، فالنابت للبائع، وإن قطع من أعلى الشجرة فما نبت يكون للمشتري.
وأما إذا اشتراها مع قرارها من الأرض، فإنه لا يؤمر المشتري بقلعها، ولو قلعها فله أن يغرس مكانها أخرى.
وأما إذا اشتراها ولم يشترط شيئًا، فعند أبي يوسف رحمه الله: الأرض لا تدخل في البيع، وعند محمد: تدخل، وله الشجرة مع قرارها من الأرض هذه الجملة في بيوع (شرح الطحاوي).
وأجمعوا أن ما تحت الشجرة من الأرض يدخل في القسمة.
وفي (كتاب العيون): في باب بيع الشجرة قبل كتاب الرهن: أن دخول الأرض في الوصية الشجرة على الاختلاف الذي ذكرنا في البيع. قال: والهبة والصدقة كالوصية.
وذكر شيخ الإسلام في كتاب القسمة: أن ما تحت الحائط من الأرض يدخل في الإقرار والقسمة والبيع، وذكر في (المنتقى) أيضًا: أن ما تحت الحائط من الأرض يدخل في بيع الحائط، والمذكور في (المنتقى) إذا باع حائطًا من دار فهذا بأرضه، قال: لأن الحائط بغير الأرض لا يسمى حائطًا.
وفي (المنتقى) أيضًا: وقال أبو حنيفة في الحائط: هو له بأصله، وفي النخلة يقلعها بأصلها في البيع والهبة كل شيء، وقال أبو يوسف: مثل ذلك إلا أنه قال أستحسن في الشجرة أن له بأصلها فصار حاصل الجواب في الشجر أن على قول أبي حنيفة لا تدخل الأرض في بيع الشجرة، وعند محمد تدخل، وعن أبي يوسف روايتان، قال الصدر الشهيد: والفتوى في مسألة البيع على أن الأرض تدخل، وفي أي موضع دخل ما تحت الأرض من الشجر، فإنما يدخل بقدر غلظ الشجرة وقت مباشرة ذلك التصرف، حتى لو ازدادت الشجرة غلظًا تحت الأرض كان لصاحب الأرض أن يسحب ولا يدخل تحت الأرض ما يتناهى إليه العروق والأغصان وعليه الفتوى.
وفي (المنتقى) إذا قال لغيره: بعت منك هذه المبطخة فهذا على البطيخ إذا كان فيه بطيخ، وكذلك المنقلة إذا كان فيه نقل، وكذلك هذه الرطبة ولو قال بعتك هذا الكرم أو هذا النخيل، فهذا على الأرض. قالوا: وأراد بالنخيل البستان أو الذي يقال له بالفارسية در خبيان.
فقد حكينا قبل هذا رواية (المنتقى): أن من اشترى نخلة فهذا على الجذع ولا يكون بأرضها، وإذا قال: بعتك هذا الكرم أو هذا النخيل وفيه تمر أو عنب فإني أنظر إلى الثمن فإن كان ثمنًا للعنب أو التمر فهو على العنب (والتمر)، وإن كان ثمنًا للنخيل والكرم (فهو على النخيل والكرم) ذكره في (المنتقى): ولم ينسبه إلى أحد.
وهو نظير ما ذكر في دعوى (العيون): إذا اشترى الرجل من آخر مزبلة بمائة درهم ثم اختلفا قال المشتري: إنما اشتريت منك الأرض وقال البائع: بعتك الكناسة بحكم الثمن إن كان مثل ذلك الثمن يكون للأرض قضيت ببيع المزبلة دون الأرض.
في (نوادر ابن سماعة): عن أبي يوسف إذا قال لغيره: بعتك كرمي هذا، أو قال: بستاني هذا فهذا على الكرم بأصله والبستان بأرضه، فإن كان في البستان أو النخيل أو الكرم تمر فهذا كله على تمر البستان والنخيل والكرم ولم يقل ينظر إلى الثمن كما في المسألة المتقدمة.
وفي (المنتقى): رواية مجهولة إذا قال لغيره: بعتك قريتي التي يقال لها كذا وكذا ولم يسم حدودها فهو على موضع القرية البناء والبيوت دون المحرث.
ولو باع قرية أخرى بجنبها فقال بعتك هذه القرية أحد حدودها أو الثاني أو الثالث أو الرابع قرية البائع تدخل أرض هذه القرية التي لم يبعها في أرض القرية التي باعها مما يليها، وإن قال: أحد حدود هذه القرية أرض قرية كذا لم تدخل فيه أرض القرية التي لم يبعها.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا اشترى كرمًا وفيه ورق التوت والورد وذكر حقوقها لا يدخل ذلك في البيع؛ لأنه بمنزلة الثمر، وقد ذكر الكلام في دخول الثمر في البيع بذكر الحقوق وما فيه من الاختلاف ففي ورق التوت والورد يكون كذلك.
وفيها أيضًا: اشترى شجرة بعروقها وقد نبت من عروقها أشجار، فإن كانت الأشجار النابتة بحيث لو قطعت شجرة الأصل يبست صارت مبيعة وإلا فلا؛ لأنها إذا كانت تيبس بقطع الشجرة كانت نابتة من هذه الشجرة، فكانت مبيعة.
ذكر في (النوازل) وفي (فتاوي الفضلي): أن من اشترى أشجارًا وعليها ثمار إلا أنها بحال لا قيمة لها فإنها للمشتري. وذكر فيه أيضًا: علة المسألة فقال: لأن بائعها لو قصد بيعها على الإنفراد لا يجوز، وفي الجواب نظر وفي التعليل كذلك، وينبغي أن تكون الثمار للبائع لما ذكرنا قبل هذا، وبيعها على الانفراد جائز هو الصحيح على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وفي (فتاوى أبي الليث): رجل باع كرمًا بمجرى مائة وكل حق له، ومجرى مائة في سكة بينه وبين رجلين وعلى ضفة النهر أشجار، فإن كان المجرى ملك البائع فالأشجار للمشتري؛ لأن رقبة المجرى دخلت تحت البيع، فدخلت الأشجار تبعًا، وإن لم يكن المجرى ملك البائع لكن له حق المسيل، فالأشجار للبائع؛ لأن رقبة المجرى لم تدخل تحت البيع فلا تدخل الأشجار تبعًا لو دخلت دخلت أصلًا باسمها ولم يوجد.

.نوع آخر:

اشترى من آخر جارية وعليها ثيابها التي يباع مثلها دخل الثياب تحت البيع بحكم العرف وإنما تدخل ثياب مثلها إن شاء البائع أعطاها الذي عليها، وإن شاء أعطاها غير ذلك؛ لأن الدخول بحكم العرف والعرف في كسوة مثلها لا بعينها هكذا ذكر المسألة في (العيون).
وليس معنى قوله: دخل الثياب تحت البيع أنه يصير للثياب حصة من الثمن بل لا يصير حتى لو استحق شيء من الثياب من يدي المشتري أو وجد المشتري بالثياب عيبًا لا يرجع بشيء من الثمن في فصل الاستحقاق ولا يرد الثياب بالعيب في فصل العيب، وإنما معناه أن للمشتري أن يطالب البائع بذلك.
وكذلك إذا وجد بالجارية عيبًا ردها، وإن لم يجد بالثياب عيبًا، وذكر هذه المسألة في (النوازل) ووضعها في الغلام، فقال: إذا باع غلامًا وعليه ثياب دخل الثياب في العقد، ولو استحق ثياب الغلام لا يرجع المشتري على البائع؛ لأن الثياب لم تدخل تحت البيع حتى يصير له حصة من الثمن، فيردها بالعيب ويرجع ببعض الثمن عند الاستحقاق، ولكن للمشتري مطالبة البائع بذلك؛ لأن البائع صار مملكًا ذلك من المشتري تبعًا للبيع عرفًا، ولو وجد بالغلام عيبًا رده؛ لأن الثياب ليست بمبيعة ليمتنع رد الجارية بالعيب.
وفي (النوازل) أيضًا: إذا باع حمارًا دخل العذار وهو الذي بالفارسية فسار في البيع بحكم العرف، وإذا باع حمارًا موكفًا دخل الإكاف والبردعة في البيع بحكم العرف، وإذا لم يكن عليه بردعة ولا إكاف دخل البردعة والإكاف أيضًا، كذلك اختاره الصدر الشهيد، وإذا كان موكفًا ودخل الإكاف والبردعة لا يكون له حصة من الثمن على نحو ما ذكرنا في ثياب الجارية والغلام وبعض المشايخ قالوا: إذا كان على الحمار إكاف وبردعة دخل الإكاف، وإذا كان عريانًا لا يدخل شيء من ذلك في البيع.
وهذا القائل يفرق بين الحمار والجارية، والغلام والجارية، والغلام إذا بيع ليس عليه ثياب يدخل ثياب مثله في العقد؛ لأن الغلام والجارية لا يباعان عريانًا عادة بخلاف الحمار، فإنه يباع عريانًا عادة كما يباع مع البردعة والإكاف.
ولم يذكر في شيء من الكتب ما إذا باع فرسًا وعليه سرج، قيل: وينبغي أن لا يدخل السرج في البيع إلا بالتنصيص عليه أو يكون الثمن شيئًا كثيرًا لا يشترى ذلك الفرس عادة بمثل ذلك الثمن (إلا) مع مثل ذلك السرج؛ لأن العادة ما جرت ببيع الفرس معه ولا كذلك ببيع الحمار وبيع الغلام والجارية.
قال هشام: سألت أبا يوسف: عن رجل باع جاريته وعليها قلب فضة أو قرطان ولم يشترط ذلك والبائع ينكر، قال: لا يدخل شيء من الحلي فهو لها، وإن سكت عن طلبه وهو يراه فهو بمنزلة ما لو سلم ذلك.
وفي صلح (فتاوى الفقيه أبي الليث) رحمه الله: عبد له مال باعه المولى مع ماله قال: إن لم يسم ماله، فالبيع فاسد، قوله: إنه باع العبد مع ماله ولكن لم يبين مقداره، وأما إذا باع العبد وسكت عن ذكر المال، فالبيع يكون جائزًا ويكون المال للبائع وهو الصحيح، ولو كان باعه مع ماله وسمى أي سمى مقدار ماله ينظر إن كان ثمن العبد من جنس ماله بأن كان مال العبد دراهم وثمن العبد أيضًا دراهم أو كان مال العبد دنانير وثمن العبد دنانير لابد، وأن يكون الثمن زائدًا على مال العبد ليكون بإزاء مال العبد من الثمن قدره والباقي يكون بإزاء العبد، فأما إذا كان ثمن العبد أقل من مال العبد أو مثله لا يجوز وإن كان ثمن العبد من خلاف جنس مال العبد بأن كان ثمن العبد دراهم ومال العبد دنانير أو على العكس يجوز كيف ما كان ثمن العبد، ولكن يشترط قبض حصة الصرف في المجلس، فإن افترقا قبل القبض بطل العقد بحصة الصرف وبقي بحصة العبد، ولو كان مال العبد دينًا أو كان بعضه دينًا فالعقد فاسد.
وفي (القدوري): إذا اشترى سمكة فوجد فيها لؤلؤة فهي للمشتري.
ولو اشترى دجاجة فوجد فيها لؤلؤة فهي للبائع.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: إذا اشترى سمكة فوجد في بطنها سمكة أخرى فهما جميعًا للمشتري، ولو وجد في بطنها لؤلؤة فهي للبائع؛ لأن هذا مما لا يأكل السمك، قالوا: أراد بقوله فهي للبائع يأخذها وتكون لقطة في يده.
قال: ولو وجد في بطنها صدف فيه لحم وفي اللحم لؤلؤة كما يكون في الأصداف فهي للمشتري؛ لأن هذا مما يأكل السمك له. قال: ألا ترى أنه لو اشترى رجل من رجل أصدافًا ليأكل ما فيها من اللحم فوجد في بطنها لؤلؤة في اللحم أن ذلك له؛ لأنها خلقة في اللحم من الصدف قال: ولا يشبه هذا اللؤلؤة المنزوعة في بطن السمك.
وفي (نوادر هشام) قال: سألت محمدًا عمن باع الصدفة كما هو قال: البيع جائز واللؤلؤة يعني للبائع ما لم يسم اللؤلؤة، وإن اشتراها بدرهم وهي ثمن أكثر من ألف درهم وهذا يخالف رواية ابن سماعة رحمه الله.
وعن محمد رحمه الله برواية ابن رستم: لو اشترى سمكة ووجد في بطنها عنبرة فهي للمشتري؛ لأنها طعامها وهي حشيش يأكل السمك في البحر والله أعلم.

.الفصل السادس: فيما يجوز وما لا يجوز بيعه:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.نوع من ذلك في بيع الدين بالدين وبيع الأثمان، وبطلان العقد بسبب الافتراق قبل القبض:

فنقول: بيع الدين بالدين جائز إذا تفرقا عن المجلس بعد قبض البدلين حقيقة أو بعد قبض البدلين حكمًا، سواء كان عقد صرف أو لم يكن، أما بعد قبض البدلين حقيقة بأن اشترى من آخر دينارًا بعشرة دراهم حتى كان صرفًا أو لم تكن الدنانير والدراهم بحضرتهما ثم نقدا في المجلس وتفرقا جاز.
فكذلك إذا اشترى فلوسًا أو طعامًا بدراهم حتى لم يكن صرفًا ولم يكن بحضرتهما ثم نقدا في المجلس وتفرقا جاز، وأما بعد قبض البدلين حكمًا بأن كان لرجل على آخر بعشرة دراهم وللآخر عليه دينار فاشترى كل واحد منهما ما عليه بماله على صاحبه كان العقد صرفًا أو لم يكن صرفًا بأن كان على آخر فلوسًا أو طعامًا، وللآخر عليه دراهم فاشترى كل واحد منهما ما عليه بماله على صاحبه وتفرقا كان العقد جائزًا، وهذا فراق بعد قبض البدلين حكمًا، وأما بعد قبض البدلين أحدهما حقيقة، والآخر حكمًا بأن كان لرجل على رجل عشرة دراهم، فاشترى من عليه الدراهمُ الدراهمَ بدينار نقد الدينار وتفرقا عن المجلس فالعقد جائز، وهذا افتراق بعد قبض البدلين أحدهما حقيقة والآخر حكمًا.
وكذلك إن كان لرجل على رجل حنطة فاشترى من عليه الحنطةُ بالدراهم ونقد الدراهم في المجلس جاز.
وذكر في صلح (الفتاوى) مسألة الحنطة وقال: لا يجوز البيع وإن نقد الدراهم في المجلس قالوا: وما ذكر في صلح (الفتاوى) محمول على ما إذا كانت الحنطة مسلمًا فيها؛ لأن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز، أما إذا كانت الحنطة قرضًا أو ثمن بيع جاز البيع على ما ذكرنا، وأما إذا حصل الافتراق بعد قبض أحد البدلين في بيع الدين بالدين إن حصل الافتراق بعد قبض أحد البدلين حقيقة جاز في غير الصرف.
بيانه: فيمن اشترى دينارًا بعشرة دراهم حتى كان العقد صرفًا فقبض الدينار ولم يسلم العشرة حتى تفرقا أو سلم العشرة ولم يقبض الدينار حتى تفرقا كان البيع فاسدًا.
ولو اشترى فلوسًا أو طعامًا بدراهم حتى لم يكن العقد صرفًا وتفرقا بعد قبض أحد البدلين حقيقة كان العقد جائزًا وأما إذا حصل الافتراق بعد قبض أحد البدلين حكمًا كان العقد فاسدًا سواء كان عقد صرف أو غير عقد صرف.
بيانه: فيما إذا كان له على رجل دينار، فاشترى الدينار الذي عليه بعشرة دراهم حتى كان العقد صرفًا، أو تفرقًا قبل نقد العشرة كان باطلًا.
وكذلك إذا كان عليه فلوس أو طعام فاشترى ما عليه بدراهم حتى لم يكن العقد صرفًا وتفرقا قبل نقد الدراهم كان العقد باطلًا، وهذا افتراق بعد قبض أحد البدلين حكمًا؛ لأن ما في ذمة أحدهما مقبوضة وهذا فصل يجب حفظه والناس عنه غافلون.
فإن العادة فيما بين الناس إن كان له على آخر حنطة أو شعير أو ما أشبه ذلك فصاحبها يأخذ ممن عليه عند غلاء الشعير حطًا بالذهب أو بالفضة ويسمون ذلك فيما بينهم كندم رابها كردن، فإنه فاسد لكونه افتراقًا عن دين بدين، وإنما جاز هذا العقد بعد قبض البدلين حقيقة أو حكمًا لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال: إني أكري الإبل من البقيع إلى مكة بالدراهم وآخذ مكانها دنانيرًا أو بالدنانير وآخذ مكانها دراهم، فقال عليه السلام: «لا بأس بأن تأخذ بسعر يومها وقد افترقتما وليس بينكما عمل» معناه إذا افترقتما ولا يبقى أحد البدلين دينًا لأحدكما في ذمة الآخر بعد ما تفرقتما، فقد جوز رسول الله عليه الصلاة والسلام بيع الدين بالدين وإن كان صرفًا إذا تفرقا وليس بينهما عمل على التفسير الذي قلنا، وإذا جاز هذا في الصرف جاز فيما ليس بصرف من الطريق الأولى وصار هذا البيع مستثنيًا عن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله عليه الصلاة والسلام «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» أي: الدين بالدين.
وأما إذا تفرقا بعد قبض أحد البدلين حقيقة فإن كان صرفًا، فالعقد باطل؛ لأنهما افترقا وقد بقي بينهما عمل فإن أحد البدلين بقي دينًا لأحدهما على صاحبه فيحتاج إلى قبضه بعد ما تفرقا عن المجلس، ورسول الله عليه الصلاة والسلام جوز بيع الدين بالدين في الصرف إذا افترقا وليس بينهما عمل لم يكن داخلًا تحت المجوز، فيكون داخلًا تحت المحرم وهو النهي عن بيع الدين بالدين.
وإن لم يكن صرفًا فالعقد جائز؛ لأن البدل المقبوض صار عينًا بالقبض فيكون هذا افتراقًا عن عين بدين وإنه لا يفسد العقد في غير الصرف وعلى هذا جميع بياعات الناس، وأما إذا تفرقا بعد قبض أحد البدلين حكمًا لا يجوز سواء كان عقد صرف أو غير صرف؛ لأنهما افترقا عن دين بدين وإنه يفسد العقد صرفًا كان أو غير صرف.
وإذا اشترى دراهم بيضاء فأعطاه البائع مكانه سوداء ورضي به المشتري جاز؛ لأن السود دراهم ولكن مع العيب فكان الجنس واحدًا، فإذا رضي المشتري بسقوط حقه عن الجودة كان مستوفيًا لا مستبدلًا فيجوز، والمراد من السود المضروب من النقرة السوداء لا الدراهم التجارية حتى لو قبض مكان الدراهم البيض درهمًا تجاريًا لا يجوز؛ لأن الجنس مختلف فيكون هذا استبدالًا فلا يجوز.
وإذا أعطى البيض مكان السود ذكر شمس الأئمة السرخسي والشيخ أبو الحسن القدوري رحمهما الله: أنه يجبر على القبول وإليه أشار عصام في (مختصره).
وإذا باع فلسًا بفلسين حالة الرواج، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يبيع فلسًا بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما، وفي هذا الوجه البيع فاسد لوجهين:
أحدهما: أن هذا بيع الدين بالدين.
والثاني: أن الجنس بانفراده محرِّم للنساء عندنا على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني: إذا باع فلسًا بعينه بفلسين بأعيانهما وفي هذا الوجه البيع جائز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز.
وجه قوله: أن الفلوس أثمان حتى لا يتعين بالتعيين وبيع الأثمان واحدًا باثنين لا يجوز كبيع الدراهم والدنانير واحدًا باثنين، ولأبي حنيفة وأبي يوسف: أن ثمنية الفلوس إنما تثبت باصطلاح الناس، فإذا عيناه فقد أبطلا جهة الثمنية فعادت سلعة كما كانت فيجوز البيع متساويًا متفاضلًا.
فإن قيل: الثمنية تثبت باصطلاح الكل، فلا يبطل باصطلاحهما على خلاف ذلك.
قلنا: الثمنية في حقهما يثبت باصطلاح غيرهما عليهما، وإن قلنا: إن الثمنية لا تبطل إلا أن ربا النقد إنما يجري بالجنس والقدر وهو الكيل أو الوزن وهاهنا إن وجد الجنس لم يوجد القدر، أما الكيل فظاهر.
وأما الوزن؛ فلأن الناس تعارفوا بيع الفلوس عددًا إلا وزنًا، ولهذا قلنا: إذا باع فلسًا بعينه وأحدهما أثقل من الآخر وزنًا إنه يجوز، ولو كان موزونًا لكان لا يجوز كما إذا باع درهمًا بدرهم أثقل من الآخر وزنًا وهاهنا لما جاز علمنا أن الوزن ساقط الاعتبار في الفلوس فلم يوجد إلا لجنس فلا يجري الربا.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: وكل جواب ذكرناه في الفلوس فهو في الدراهم التجارية أعني بها العطارف من جملة الفلوس؛ لأنها صفر كالفلوس، وكذلك الجواب في الرصاص والستوقة قالوا: ويجب أن يكون في العدلي كذلك؛ لأن الصفر فيه غالب فصار بمنزلة الفلوس.
الوجه الثالث: إذا كان أحد البدلين عينًا والآخر دينًا وفي هذا الوجه إن كان ما في الذمة مؤجلًا لا يجوز البيع لما ذكرنا أن الجنس بانفراده يحرم النسّاء عندنا، وإن كان ما في الذمة غير مؤجل لا شك أن على قول محمد: لا يجوز؛ لأن عنده لو باع فلسًا بعينه بفلسين بأعيانهما لا يجوز، فإذا كان أحد البدلين بغير عينه أولى.
وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: فقد اختلف المشايخ بعضهم قالوا: يجوز؛ لأن الفلوس عندهما تصير بمنزلة العرض حال مقابلته بجنسه، قالوا: لو باع فلسًا بعينه بفلسين بأعيانهما يجوز كما لو باع قمقمة بقمقمين، فإذا صار الفلس المعين على مذهبهما بمنزلة العرض كان بمنزلة ما لو باع عرضًا بعينه بفلسين في الذمة.
ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأن الفلس عندهما إنما تتعين بالتعيين حال تعيين أحد البدلين فلا (يجوز)؛ وهذا لأن الفلوس الرائجة لها حكم العرض من وجه.
ولهذا قال في ظاهر الرواية: يجوز السلم في الفلوس، والسلم إنما يجوز في المثمنات لا في الأثمان، فمن هذا الوجه الفلوس بمنزلة العروض ولها حكم الأثمان من وجه.
ولهذا قالوا: إذا قوبلت بخلاف جنسه لا يتعين كالدراهم والدنانير حتى لو هلكت الفلوس المشار إليها لا يبطل العقد، وإذا كان للفلوس حكم العروض من وجه وحكم الأثمان وفرنا على الشبهين حظهما فلشبهها بالعروض قالا: بالتعين حال تعين البدلين إلحاقًا لها بالعروض ولشبهها بالدراهم قالا: بعدم التعين حال تعيين البدلين إلحاقًا لها بالدراهم، وإذا ألحقاها بالدراهم في هذه الحالة كان بمنزلة ما لو باع درهمًا بعينه بدرهمين بغير أعيانها.
ثم إذا باع فلسًا بعينه بفلسين بأعيانهما حتى جاز العقد عند أبي حنيفة، هل يشترط التقابض في المجلس؟ ذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في صرف (الأصل) ولم يشترط التقابض فهذا دليل على أن التقابض ليس بشرط، وذكر في (الجامع الصغير): ما يدل على أنه شرط.
فإنه قال: إذا باع فلسًا بفلسين يجوز يدًا بيد إذا كان بعينه من مشايخنا من لم يصحح ما ذكر في (الجامع الصغير): لأن التقابض مع العينية إنما يشترط في الصرف وهذا ليس بصرف، ومن مشايخنا من صحح ما ذكر في (الجامع الصغير) لأن الفلوس لها حكم العروض من وجه وحكم الأثمان من وجه، فمن حيث إن لها حكم العروض جوزنا بيع واحد باثنين إذا كان عينين كما لو باع سيفًا بسيفين، ومن حيث إن لها حكم الدرهم شرطه التقابض في المجلس صح العينية عملًا بالدليلين بقدر الإمكان.
وذكر القدوري في (شرحه): إذا باع الفلس بالفلس وقبض أحدهما ما اشترى ولم يقبض الآخر حتى تفرقا، أو تقابضا ثم استحق ما في يد أحدهما بعد الافتراق، فالعقد صحيح على حاله.
وكذا لو باع الفلوس بالدراهم أو بالدنانير فقد اكتفى بقبض أحد البدلين لصحة هذا العقد ولبقائة على الصحة فهذا دليل أن التقابض ليس بشرط.
وروى هشام عن محمد: فيمن اشترى فلوسًا بدراهم وقبض الفلوس ولم يقبض الدراهم حتى افترقا فهو جائز قال: ألا ترى أني أسلم الدراهم في الفلوس فقد اكتفى بقبض الفلس لصحة العقد.
ووجه ذلك من أحدهما: أن الفلوس في الأصل عرض وليست بأثمان وإنما يثبت لها وصف الثمنية بعارض، فيجب إثبات هذا الوصف على وجه لا ينعدم المعنى الأصلي، فاكتفينا بقبض أحد البدلين كما في العروض إذ به يخرج من أن يكون دينًا بدين، فأما قبض البدلين إنما يعين فيما هو أثمان بقبضه الأصل، وهذا ليس بهذه الصفة.
والثاني: أن قضية القياس أن لا يجب قبض البدلين في المجلس، وإن كان العقد صرفًا ولكن عرفنا اشتراط التقابض في عقد الصرف بالنص، والنص الوارد في بيع الصرف لا يكون واردًا في بيع الفلس؛ لأن ثمنية الفلس عارضة على شرف الزوال بالكساد فرد بيع الفلس إلى ما يقضتيه القياس.
ذكر القدوري في (شرحه) أيضًا: قال محمد رحمه الله: فإذا اشترى فلوسًا على أن كل واحد منهما بالخيار وتقابضا وتفرقا عن ذلك فالبيع فاسد؛ لأن الخيار يمنع الملك وصحة القبض، فكأنهما افترقا من غير قبض، ولو كان أحدهما بالخيار فالبيع جائز. ويجب أن يكون هذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على أصلهما: خيار المشتري لا يمنع ثبوت الملك له فيما اشترى، فلا يمنع صحة القبض فينعدم القبض المستحق من أحد الجانبين.
والقبض إنما يعتبر فيهما لا في أحدهما، أما على قول أبي حنيفة يؤمر من الجانبين، فإنه كما لا يملك على المشروط له الخيار البدل الذي من جانبه عند أبي حنيفة لا يملك هو البدل الذي من جانب صاحبه، فاشتراط الخيار لأحدهما يمنع صحة القبض وتمامه فيهما جميعًا.
قالوا: وينبغي على قول أبي حنيفة وأبي يوسف إذا باع فلسًا بعينه بفلسين بأعيانهما بشرط الخيار أن يجوز البيع؛ لأنهما بمنزلة العروض في هذه الحالة عندهما فلم يكن القبض شرطًا.
ولو اشترى بفلوس كاسدة في موضع لا ينفق فإن كانت بأعيانهما جاز، وإن لم تكن معينة لا يجوز؛ لأنها بعد الكساد تعود عرضًا، وشرط صحة العقد في العروض التعيين.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): وإذا استقرض الرجل كرًا من طعام وقبضه ثم إن المستقرض اشترى من المقرض الكر الذي له عليه بمائة درهم (صح شراؤه)؛ لأن المستقرض صار ملكًا للمستقرض بنفس القبض ووجب عليه للمقرض كرًا مثله، فيصح شراؤه بخلاف ما إذا اشترى غير من عليه الكر حيث لا يجوز؛ لأن هناك الحاجة إلى التسليم ولا يمكنه للتسليم إلا بالقبض، فكان عاجزًا عن التسليم في الحال وهاهنا لا حاجة إلى التسليم؛ لأن المبيع في يد المشتري؛ لأنه في ذمته، وإذا جاز الشراء إن نقد المائة في المجلس فالشراء ماض على الصحة، وإن افترقا من غير قبض بطل الشراء، وهذا بخلاف ما لو وجب للمستقرض على المقرض كر حنطة، ثم إن كل واحد منهما اشترى ما عليه لصاحبه عليه وتفرقا حيث يجوز؛ لأن في المسألة الأولى الافتراق حصل بعد قبض أحد البدلين حكمًا، وفي المسالة الثانية حصل بعد قبض البدلين حكمًا.
قالوا: وهذا الجواب الذي ذكر في (الكتاب) قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن عندهما المستقرض يصير ملكًا للمستقرض بنفس القبض، فيجب عليه مثله دينًا في الذمة فيصح الشراء، أما على قول أبي يوسف: المستقرض لا يصير ملكًا للمستقرض إلا بالاستهلاك بعد القبض فلم يجب في ذمة المستقرض للحال شيء، فلا يصح الشراء، فإذا استهلكه ثم اشتراه الآن يصح الشراء بلا خلاف.
ثم إذا نقد المشتري وهو المستقرض المائة في المجلس ثم وجد بالكر القرض عيبًا لم يرده؛ لأنه لا وجه إلى رده حكم الشراء لم يتناوله ولا وجه إلى رده بحكم القرض؛ لأن القرض ينزع لا يوجب السلامة عن العيب لكن يلزم المستقرض مثل المقبوض ولكن يرجع بنقصان العيب من الثمن؛ لأن المبيع كر وجب في الذمة بحكم القرض والمقبوض بحكم القرض معيب فكذا ما وجب بدلًا عنه، والعقد يقتضي السلامة عن العيب، وقد ظهر العيب بالمبيع وتعذر رده؛ لأنه كان دينًا في ذمة المستقرض وقد سقط عن ذمته كما اشتراه وهلك فهو بمنزلة ما لو اشترى عبدًا وهلك في يد المشتري ثم اطلع على عيب به.
ولو كان القرض المقبوض مستهلكًا كان الجواب كما قلنا إلا أن الفصل الأول يكون مختلفًا، والفصل الثاني يكون مجمعًا، وكذلك الجواب في كل مكيل وموزون غير الدراهم والدنانير والفلوس إذا كان قرضًا.
ولو كان المستقرض اشترى الكر الذي عليه بالقرض بكر مثله جاز، إذا كان دينًا لا يجوز إلا إذا قبضه في المجلس لما مر، فإن وجد المستقرض بالقرض (عيبًا) لم يرده ولم يرجع بنقصان العيب بخلاف الفصل الأول.
والفرق: أن في هذا الفصل لو رجع بنقصان العيب يرجع ببعض الكر الذي دفع المستقرض فيكون هذا مبادلة كل كر من طعام بأقل من الكر وذلك ربا، أما في الفصل الأول لو رجع بنقصان العيب يرجع بنقصان الدراهم التي دفع المستقرض عوضًا من الكر المستقرض فيكون هذا مبادلة كر بأقل من مائة درهم وذلك جائز.
وإذا اشترى المستقرض الكر المستقرض بعينه وهو مقبوض لم يصح شراؤه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنه صار ملك المستقرض بنفس القبض، فإنما اشترى ملك نفسه وعلى قول أبي يوسف يصح؛ لأنه صار ملك المقرض.
فإن قيل: لم لا يقدم فسخ القرض تصحيحًا لما قصدا كما تقدم فسخ البيع بألف على البيع بألفين تصحيحًا لما قصدا.
قلنا: فسخ القرض لا يتم إلا برد المقرض، وذلك فعل والأفعال لا يمكن إثباتها بطريق الاقتضاء، فلا يثبت فسخ القرض إلا إذا سقط اعتبار الرد الفسخ مقتضى الإقدام على البيع ولا وجه إلى ذلك؛ لأن ما صار شرطًا للشيء لا يسقط اعتباره، وإن كان ثبوت ذلك الشيء بطريق الاقتضاء.
ونظير هذا ما قال أبو حنيفة فيمن قال لغيره: أعتق عبدك عني بغير شيء لا يثبت الهبة بطريق الاقتضاء؛ لأن القبض شرط لها، وإنه فعل فلا يمكن إثباتها بطريق الاقتضاء إلا إذا سقط اعتبار القبض شرطًا للهبة ولم يسقط، وإن كان ثبوت الهبة مقتضى غيره وهو الإعتاق عن الأمر كذا هاهنا.
ولو اشترى المقرض من المستقرض غير القرض صح (عند) أبي حنيفة؛ لأنه ملك المستقرض، وعلى قول أبي يوسف: لا يصح؛ لأنه بقي على ملك المقرض.
رجل أقرض رجلًا ألف درهم على أنها جياد فقبضها ثم اشتراها المقرض ما عليه بعشرة دنانير صح، أما على قول أبي حنيفة: فلأنه وجب على المستقرض مثل تلك الدراهم دينًا في الذمة بنفس القبض، وأما على قول أبي يوسف: فلأن العقد لا يتعلق بالدراهم المعينة بالإشارة، فلا يتعلق في الدراهم التي في الذمة بالإضافة إليها بل يتعلق بمثلها، ويصير هو بائعًا الدنانير بمثل تلك الدراهم فصار وجوب تلك الدراهم في الذمة والعدم بمنزلة، بخلاف مسألة الطعام؛ لأن العقد يتعلق بالطعام المعين بالإشارة إليه، فيتعلق بما في الذمة بالإضافة، فإذا لم يكن في ذمته شيء لا يصح الشراء.
ثم إذا صح الشراء هاهنا بالاتفاق فإن لم ينقد الدنانير في المجلس وافترقا بطل العقد، وإن قبض الدنانير في المجلس فالعقد ماض على الصحة؛ لأن في الوجه الأول افترقا بعد قبض أحد البدلين حكمًا.
وفي الوجه الثاني: افترقا بعد قبض البدلين أحدهما حقيقة والآخر حكمًا، فإن وجد المستقرض الدراهم القرض زيوفًا أو نبهرجة لم يردها على ما ذكرنا، ولا يرجع بنقصان العيب هاهنا أيضًا بخلاف مسألة شراء الكر (يرجع) عليه بالدراهم.
والفرق: أن العقد يتعلق بالكر الذي هو عين بالإشارة فيتعلق بالكر الذي في ذمة المستقرض بالاضافة، وإذا تعلق العقد بالكر الذي في ذمة المستقرض فلو رجع بحصة العيب من الدراهم كان مشتريًا الكر بأقل من المائة، وإنه ليس بربا. أما العقد لا يتعلق بالدراهم التي في ذمة المستقرض بدلًا عن الدنانير وللمقرض على المستقرض ألف درهم مثل ذلك بزعمهما فالتقيا قصاصًا وصار المستقرض قاضيًا ما كان للمقرض بما وجب للمستقرض في ذمة المقرض بالشراء، فلو رجع عليه بنقصان العيب يسلم له ألف درهم وشيء بمقابلة ألف درهم وهو الربا.
وإذا ادعى رجل على غيره شيئًا مما يكال أو يوزن أو يعد فاشتراه المدعى عليه من المدعي بمائة دينار ثم تصادقا أنه لم يكن للمدعي على المدعى عليه شيء فالعقد باطل تفرقا أو لم يتفرقا؛ لأن العقد يتعلق بالكر في الذمة بالإضافة، فإذا تبين أنه لم يكن في الذمة تبين أنه باع المعدوم وبيع المعدوم باطل.
ولو ادعى دراهم أو دنانير أو فلوسًا فاشتراها المدعى عليه بدراهم ونقد الدراهم ثم تصادقا أنه لم يكن عليه شيء، ففي مسألة الدراهم والدنانير إن لم يتفرقا ورجع بمثل ما اشترى في المجلس يصح العقد؛ لأن العقد لم يتعلق بالمسمى في الذمة فيجعل كأنه وجد مطلقًا، فلا يبطل بتأخير القبض إلى آخر المجلس.
ولو تفرقا عن المجلس بطل العقد لافتراقهما عن المجلس قبل أخذ البدلين حقيقة في الفلوس لا يبطل العقد، وإن تفرقا عن المجلس قبل قبض ما اشترى؛ لأن في بيع الفلوس بالدراهم يكتفي بقبض أحد البدلين حقيقة؛ لأنه ليس بصرف على ما ذكرنا.
ولو اشترى الرجل من غيره شيئًا بدراهم على المشتري وهما يعلمان أنه لا شيء للبائع على المشتري لا يجوز الشراء، ويكون هذا بمنزلة الشراء بغير ثمن؛ لأنه سمى ما لا يتصور ثمنًا.
وإذا باع درهمًا كبيرًا بدرهم صغير أو درهمًا جيدًا بدرهم صغير رديء يجوز؛ لأن لهما فيه غرضًا صحيحًا.
فأما إذا كانا مستويين في القدر والصفة فبيع أحدهما بالآخر هل يجوز وهل يصير مثله دينًا في الذمة؟ واختلف المشايخ قال بعضهم: لا يجوز، وإليه أشار محمد رحمه الله في (الكتاب): وبه كان يفتي الحاكم الإمام أبو أحمد.
وإذا اشترى من آخر ألف درهم بمائة دينار ونقد مشتري الدراهم الدينار ولم ينقد بائع الدراهمِ الدراهمَ وقد كان لبائع الدراهم على مشتري الدراهم ألف درهم دين قبل عقد الصرف، فقال بائع الدراهم لمشتري الدراهم: اجعل الألف التي وجب لك علي بعقد الصرف بالألف التي لي عليك ورضي به المشتري جاز، وهذا استحسان.
والقياس: أن لا يجوز. ولقب المسألة أن المتصارفين إذا تقاصّا بدل للصرف بدين وجب قبل عقد الصرف جاز استحسانًا؛ لأنهما لما قصدا وقوع المقاصة فقد حولا عقد الصرف إلى ذلك الدين، ولو أضافا إليه العقد في الابتداء بأن اشترى بالعشرة التي له دينارًا وبقبض الدينار في المجلس يجوز، فكذا إذا حولا العقد إليه في الانتهاء، وهذا لأنهما قصدا تصحيح هذه المقاصة وتحويل الصرف إلى ذلك الدين. طريق تصحيح هذه المقاصد وما يتوصل به إلى المقصود يكون مقصودًا لكل أحد.
ولهذا شرطنا التراضي منهما على المقاصة وإن كان في سائر الديون يقع المقاصة بدون التراضي؛ لأن هذا تحويل العقد إلى ذلك الدين والعقد قديم بهما، فالتصرف فيه بالتحويل لا يكون إلا بتراضيهما، وأما المقاصة بدين وجب بالشراء بعد عقد الصرف بأن اشترى رجل من رجل دراهم بدينار ونقد الدينار ولم يقبض الدراهم حتى اشترى مشتري الدراهم من بائع الدراهم ثوبًا بدراهم، فقال بائع الدراهم: اجعل الدراهم التي عليك بالدراهم التي لك علي بعقد الصرف، وتراضيا عليه؛ ذكر في رواية أبي سليمان أنه يجوز، وإليه أشار في (الزيادات). وذكر في رواية أبي حفص: أنه لا يجوز وهو الأصح.
وجه ذلك: أنهما يملكان تحويل العقد إلى ما كان يصح منهما إضافة العقد إليه في الابتداء، وذلك في الدين (الذي) سبق وجوبه على عقد الصرف لا في الدين الذي تأخر وجوبه عن عقد الصرف.
قال محمد رحمه في (الجامع): وإذا بيعت الدراهم المغشوشة بالفضة الخالصة فهو على ثلاثة أوجه:
الأول: أن تكون الفضة فيها مغلوبة بأن كان ثلثا هذه الدراهم صفرًا وثلثها فضة فبيع بعض هذه الدراهم بالفضة الخالصة وزنًا بوزن، فإن كان وزن الفضة الخالصة مثل وزن هذه الدراهم المغشوشة يجوز؛ لأن قدر ما في الدراهم المخلوطة من الفضة يقابله من الفضة الخالصة مثل وزنه، والباقي من الفضة الخالصة بإزاء الصفر الذي في الدراهم، فيقع الأمن عن الربا. وإن كانت الفضة الخالصة مثل وزن ما في الدراهم المخلوطة من الفضة كان باطلًا؛ لأن الصفر لا يقابله شيء من هذه الصفرة فيكون ربا، وكذلك إن كانت الفضة الخالصة أقل وزنًا من الفضة التي في الدراهم لا يجوز من الطريق الأولى.
وكذلك إذا كان لا يدرى أي الفضتين أكثر الخالصة منهما أو المخلوطة أو هما سواء لا يجوز؛ لأن هذا البيع يجوز بجهة واحدة وهي أن يكون الفضة الخالصة أكثر، ولا يجوز من وجهين وهو أن تكون الفضة المخلوطة أكثر أو كانا سواء، فكان ما يوجب الفساد غلب فيرجح جانب الفساد.
الوجه الثاني: أن تكون الفضة في الدراهم المغشوشة غالبة بأن كان ثلثاها (فضة) وثلثها صفراء فبيعت الفضة الخالصة لم يجز إلا سواء بسواء؛ لأن الصفر إذا كان أقل كان مغلوبًا مستهلكًا فلم يعتبر وصار تحت الفضة فاعتبر بيع الزيوف بالجياد، وقد جاءت السنة في هذا أن جيدها ورديئها سواء، فلم يعتبر الصفر حال كونه مغلوبًا بل أهدره.
وفرق بين الصفرة والفضة حيث اعتبر الفضة وإن كانت مغلوبة، ولم يجعلها هدرًا.
والفرق بينهما: هو أن الفضة وإن كان أقل فهي قائمة للحال حقيقة، فإنها ترى وتشاهد، فإن اللون لون الفضة ومتى أذيبت تخلص الفضة وتخرج بيضًا خالصة ولا تحترق وإنما يحترق الصفر، وما أمكن تحصيله لا يكون مستهلكًا، فكانت الفضة قائمة باعتبار الحال والمآل، هذا من جهة الحقيقة، وأما من جهة العرف فلأن الفضة لا يجعل في الصفر ليصير خلطًا للصفر بل لترويج الصفر بالفضة ولهذا سموه دراهم، ولهذا جعلوا الفضة ظاهرًا والصفر باطنًا، فكانت الفضة معتبرة وإن كان أقل من الصفر، فأما الصفر إذا كان أقل، فإنه مستهلك باعتبار الحال؛ لأنه لا يشاهد في الدراهم وكذا باعتبار المآل فإن الصفر يحترق عند التمييز؛ لأنه أضعف جوهرًا من الفضة فكان أشد احتراقًا على ما يقوله أهل هذه الصنعة وهم السباكون، فلم يكن به عبرة هذا من جهة الحقيقة، وكذا من جهة العرف، فإن الصفر إنما يحصل في الفضة ليكون خلطًا للفضة ورداءة لها عن الجودة إلى الرداءة، فصار بمنزلة جيد الفضة فسقط اعتباره وصار هذا البيع بمنزلة بيع فضة جيدة بفضة رديئة فيعتبر فيه المساواة على ما مر.
وأما الوجه الثالث: وهو ما إذا كانا على السواء بأن كانت الدراهم المخلوطة نصفها فضة ونصفها صفر، فبيعت بالفضة الخالصة.
قال في (الكتاب): هذا على وجهين: إما إن كانت الفضة التي في الدراهم غالبة على الصفر أو لم تكن فإن كانت الفضة هي الغالبة، فهذا والوجه الثاني من الباب سواء لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا وزنًا بوزن، وإن لم تكن الفضة هي الغالبة بل كانا على السواء فهو بمنزلة الأول من الباب فيكون على التفصيل الذي مر.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا التفصيل؟ إن الفضة التي في الدراهم إما أن تكون أغلب من الصفر التي فيها أو على السواء، وقد وضع المسألة فيما إذا تساويا.
قلنا: معنى هذا الكلام ما حكي عن العلماء من الصيارفة أن الصفر والفضة إذا دخلا في النار، فالصفر أشدهما احتراقًا وأسرعهما ذهابًا فيجوز أن يكون النصف من هذا والنصف من ذاك حال حملهما إلى النار للذوب وبعدما حملا إلى النار وأذيبا واختلطا يحترق شيء من الصفر قبل أن يذوب شيء من الفضة، فتصير الفضة في النار غالبة على الصفر، فإنما أراد بقوله النصف من هذا والنصف من ذاك حال حملهما إلى النار.
وما فصل من الجواب فقال: إذا كانت الفضة غالبة أو كانا على السواء أراد بذلك بعدما أذيبا فربما ينتقص الصفر فيصير الفضة غالبة وربما لا ينتقص فيبقيان على السواء، فإن كانت الفضة هي الغالبة كان نظير الوجه الثاني من الباب، وإن كانا نظير الوجه الأول من الباب فيكون على التفاصيل الذي مر.
ولم يذكر محمد رحمه الله في هذه المسألة ما إذا كان الصفر غالبًا على الفضة، وإنما لم يذكر؛ لأنه وضع هذه المسألة فيما إذا كانت الفضة والصفر سواء حال حملهما إلى النار، ويعتبر الغلبة بعد الذوب والاختلاط وعليه الصفر بعد الذوب إذا كانا سواء مثل ذلك لا يكون بحال؛ لأن الصفر أكثر احتراقًا من الفضة على ما مر.
فإنما لم يذكر هذا الوجه في هذه المسألة، لهذا قال في (الجامع) أيضًا: وإذا كانت الدراهم ثلثاها صفرًا وثلثها فضة فاشترى بها رجل متاعًا وزنًا جاز على كل حال ولا تتعين تلك الدراهم، وإن اشترى بدراهم مسماة من هذه الدراهم يعتبر عينها عددًا وهي بينهم وزنًا فلا خير في ذلك؛ لأن قوله: اشتريت بكذا درهمًا انصرف إلى الوزن؛ لأنهم متى تعاملوا الشراء بها وزنًا لا عددًا تقررت الفضة الأصلية للدراهم وهي الوزن وصارت العبرة للوزن، والثمن إذا كان موزونًا فإنما يصير معلومًا بأحد أمرين إما بذكر الوزن، وإما بالإشارة إليها ولم يوجد شيء من ذلك فكان الثمن مجهولًا وهذا جهالة يوقعها في المنازعة؛ لأن فيها الخفاف والثقل معتبر عند الناس متى تعاملوا الشراء بها وزنًا، فلهذا لم يجز.
وإن اشتراها بعينها عددًا فلا باس وإن كان تعامل الناس المبايعة بها وزنًا؛ لأن جهالة الوزن في المشار إليه لا يمنع جواز البيع فيصح، ويصير معتبرًا لبيان النقد والمقدار، فيصير كأنه قال: اشتريت بمثل وزن هذه الدارهم، فبعد ذلك إن أدى من غيرها يحتاج إلى وزن هذه الدارهم المشار إليها ليمكنه معرفة قدرها بالوزن، فيتمكن من أداء غيرها بمثل وزن هذه الدارهم، وإن أدى عينها صح من غير وزن كما في الدراهم الخالصة.
ولو عين هذه الدراهم وسماها وقال: اشتريت منك هذا المتاع بهذه الدراهم وهي كذا وكذا درهمًا، أراد به تسمية الوزن وكانت تباع فيما بين الناس وزنًا وقع ذلك على الوزن؛ لأن تقدير كلامه اشتريت منك هذا العرض بهذه الدارهم على أنها ألف أو على أنها مائة، ولو قال هكذا وجب على المشتري أن يوفيها وزن الذي يكون في بلادهم كذا هاهنا.
هذا إذا كان بينهم وزنًا، وإن كان بينهم عددًا، فاشترى بها يعتبر عينها عددًا جاز، وإن كان فيها الخفاف والثقال؛ لأن الناس تعاملوا الشراء بها عددًا لا وزنًا، فالجهالة من حيث الثقل والخفة لا يوقعها في المنازعة فلا يمنع الجواز.
وإن كانت الدراهم ثلثاها فضة وثلثها صفرًا فهي بمنزلة الدراهم الزيوف والنبهرجة إن اشترى بها إن لم يكن مشارًا إليها لا يجوز الشراء إلا وزنًا كما لو كان الكل فضة زيفًا، ولهذا لم يجز استقراضها إلا وزنًا، وإن كان مشارًا إليها يجوز الشراء بها من غير وزن كما في الدراهم الزائفة، وإن كانت الدراهم نصفها صفرًا ونصفها فضة، فالجواب فيما إذا كانت الدراهم ثلثاها صفرًا وثلثها فضة سواء عند الاستواء لا تصير الفضة تبعًا للصفر، فلا يجوز الشراء في حق الفضة إلا بطريق الوزن، فكذا في حق الصفر.
ولو اشترى رجل من آخر ثوبًا بدراهم بعينها من التي ثلثاها صفر وهي عندهم وزنًا أو عددًا فلم يتفرقا حتى ضاعت لم ينتقض البيع حتى يعطيه مثلها؛ لأنها إن كانت تباع عددًا فهي بمنزلة الفلوس الرائجة، وأيهما كان لا يتعين بالتعيين فهلاكها لا يوجب انتقاض البيع، وهذا إذا علم عددها أو وزنها حتى يتمكن المشتري من اعطاء مثلها عددًا أو وزنًا كما قال محمد رحمه الله في (الكتاب): أما إذا لم يعلم ينتقض البيع؛ لأن الثمن يصير مجهولًا فلا يتهيأ للمشتري رد مثل المشار إليه والحالة هذه.
وإن كانت الدراهم ثلثاها فضة وثلثها صفرًا فهو بمنزلة الدراهم النبهرجة والزيوف لا ينتقض البيع بهلاكها ويرد مثلها وزنًا إن علم وزن المشار إليه، فإن لم يعلم وزن المشار إليه ينتقض البيع، وكذلك الجواب فيما إذا كان نصفها فضة ونصفها صفرًا؛ لأنه إذا كان هكذا فهو بمنزلة فضة ضم إليها فلس رائج فلا يتعين أيضًا، وإن كانت الدراهم ثلثاها صفر بيعت وزنًا كالسلع يجب أن تتعين بالتعيين، فيبطل البيع بهلاكها قبل التسليم، كذا قاله مشايخنا رحمهم اللَّه.
وإذا كانت الدراهم صنوفًا مختلفة منها ما ثلثها فضة، وثلثها صفر، ومنها ما نصفها صفر فلا بأس ببيع إحدى هذه الصنوف بالصنف الآخر متفاضلًا يدًا بيد ولا خير في ذلك نسيئة يريد به أنه لا بأس ببيع ما كان الصفر فيه غالبًا بما كان الصفر فيه مغلوبًا وببيع ما كان الصفر فيه مغلوبًا بما كان الصفر والفضة فيه على السواء، وعلى العكس يدًا بيد وإن كان متفاضلًا؛ لأنه تصرف فضة هذا إلى صفر ذلك وصفر ذلك إلى فضة هذا، وجعل بمنزلة ما لو باع صفرًا وفضة بصفر وفضة فإنه يجوز كيف ما كان، ولكن بعد أن كان يكون يدًا بيد، وأما لا خير فيه نسيئة؛ لأن الوزن يجمعهما وهما ثمنان فيحرم النَّساء.
فأما إذا باع جنسًا منها بذلك الجنس متفاضلًا ففيما إذا كانت الفضة غالبة لا يجوز؛ لأن المغلوب ساقط الاعتبار، فكان الكل فضة فلا يجوز إلا مثلًا بمثل، وفيما إذا كان الصفر غالبًا أو كانا على السواء يجوز متساويًا ومتفاضلًا؛ لأن الصفر معتبر والفضة كذلك، فأمكن صرف الجنس إلى خلاف الجنس، ويشترط أن يكون يدًا بيد باعتبار صورة الفضة.
وعلى قياس هذه المسألة قالوا: إذا باع من العدليات في زماننا واحدًا باثنين يجوز بعد أن يكون يدًا بيد هذه الجملة من (الجامع الكبير) وفي (نوادر ابن سماعة) سئل أبو يوسف عن بيع درهم بخاري بدرهمين وقد يكون في بعض البخاري من النحاس دانقين ونصف وفي بعضها دانقين قال: لا يجوز من قبل أن الفضة غالب فلا يجوز إلا مثلًا بمثل وزنًا (بوزن) قال: ولو كان النحاس غالبًا لا يجوز أيضًا إلا مثلًا بمثل، وفي زمن العطارف ببخارى أكثر المشايخ كانوا يفتون بجواز بيع عطريفة بعطريفتين يدًا بيد وكانوا يقولون: في كل عطريفة سدس فضة فإن بيع منها الثنتان أو ثلثه أو أربعه أو خمسه بدرهم فضة خالصة يجوز، ويجعل من الفضة الخالصة بمثل الفضة التي في العطارف والفضل بإزاء النحاس.
وسئل أبو حنيفة عن الدراهم البخارية إذا كان الغالب فيها النحاس فقال: هي بمنزلة الفلوس، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله لا يفتي بجواز بيع العطارف واحدًا باثنين، وكان يقول: تقررت العطارف ثمنًا في بلادنا بحيث لا تتبدل ولا تتغير فالتحقت بالدراهم الجياد.
وروى بشر عن أبي يوسف أنه قال: إذا كان النحاس هو الغالب على الفضة في الدراهم وكل واحد منهما يتخلص على حدة إن خلص لم يجز أن يشتريها إلا بأكثر من الفضة التي فيها، وإن كان يحترق الفضة ويبقى النحاس فهو نحاس كله لا بأس بأن يشتريها بأقل من الفضة التي فيها، وهي بمنزلة الفلوس لا تحتسب بالفضة التي تحترق فلا يبقى. وإن كانت الفضة تبقى والصفر تحترق بل تحتسب بالصفر وعومل به كما يعامل بالفضة، ثم قال: كل شيء من ذلك يحترق فيذهب ويذوب لم يحتسب به.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل اشترى من آخر دينارًا بعشرين درهمًا وقبض الدينار ولم يدفع الدراهم حتى وهب الدينار لبائعه ثم فارقه قبل أن يدفع إليه الدراهم قال: الهبة في الدينار جائزة ولبائع الدينار على مشتري الدينار دينار مثله؛ لأن بالافتراق قبل قبض الدراهم بطل عقد الصرف، فوجب على المشتري رد ما قبض من الدينار وقد عجز عن رد عينه، فيلزمه فلم يحكم بانتقاض الهبة ببطلان عقد الصرف.
وروى بشر عن أبي يوسف: أن البيع باطل والهبة باطلة؛ لأنها بناء على البيع وقد بطل البيع بالافتراق ولا شيء على المشتري لبائع الدينار؛ لأن بانتقاض الهبة رجعت الهبة إلى بائعها بحكم قديم ملكه فلا شيء له غير ذلك.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل له على رجل كر حنطة فباعه إياه بعشرة دراهم على أن مشترى الكر فيه بالخيار إلى أجل مسمى وقبض الدراهم قال: هذا فاسد؛ لأن مشتري الكر لم يملك الدراهم حين شرط الخيار لنفسه في الكر. فهذا دين بدين؛ لأنه اشترى الكر وهو دين بعشرة دراهم وهو دين حين لم يملكها من بائع الكر واللَّه أعلم.

.نوع آخر في بيع الأشجار وفي بيع الثمار والكرم والأوراق والمبطخة وفي بيع الزرع والرطبة والحشيش:

ذكر في (فتاوى أبي الليث): رحمه الله فيمن اشترى أشجارًا ليقطعها من وجه الأرض، فلم يفعل حتى أتى على ذلك مدة وجاء أوان الصيف فأراد المشتري أن يقطعها، فهذا على وجهين:
الأول: أن لا يكون في القطع ضرر بين بالأرض وأصول الأشجار، وفي هذا الوجه له أن يقطعها؛ لأنه يتصرف في ملكه.
الثاني: أن يكون في القطع ضرر بين بالأرض وأصول الأشجار، وفي هذا الوجه ليس له أن يقطع دفعًا للضرر عن صاحب الأرض والأشجار.
وإذا لم يكن للمشتري ولاية القطع في هذه الصورة ماذا يصنع؟ اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يدفع صاحب الأشجار قيمة الأشجار إلى مشتريها وتصير الأشجار له، واختلفوا فيما بينهم أنه يدفع قيمتها مقطوعة أو قائمة.
عامتهم على أنه يدفع قيمتها قائمة؛ لأنه يتملكها قائمة وهو الصحيح، وبعضهم قالوا: ينتقض البيع بينهما في الأشجار ويرد صاحب الأرض على المشتري ما دفع إليه من ثمن الأشجار؛ لأنه عجز عن التسليم معنى، وبه كان يفتي الفقيه أبو جعفر الهندواني، واختاره الصدر الشهيد في (واقعاته): وهكذا كان يفتي في جنس هذه المسألة نحو بيع الأوراق وغير ذلك.
في (فتاوى أهل سمرقند): طلب الرجل من آخر أن يبيع منه أشجارًا في أرضه للحطب، فاتفقا على رجال من أهل البصر لينظروا إلى أشجار بعينها أنها كم وقرًا تكون من الحطب، فاشتراها بثمن معلوم، فلما قطعها كانت أكثر من خمسة وعشرين وقرًا، فأراد البائع أن يمنع الزيادة ليس له ذلك؛ لأن هذا وصف الشجر فيطيب للمشتري كالزيادة في الثوب.
وفي (فتاوى أبي الليث): رجل (عنده) مشجرة جعل على بعض الأشجار علامة، فباع المشجرة إلا الأشجار التي عليها العلامات، فقطع المشتري الأشجار ثم ادعى البائع على المشتري أنك قطعت بعض الأشجار التي عليها العلامة، وأنكر المشتري فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه منكر.
وإن ادعى البائع أنه كسر أغصان الأشجار التي عليها العلامة، وقال المشتري: لم أتعمد ذلك ولكن لم يكن منه بد إذا قطعت أشجاري، فإن كان ذلك مما يمكن التحرز عنه فعليه ضمان النقصان؛ لأنه غير مأذون من جهة البائع في ذلك، وإن كان ذلك مما لا يمكن التحرز عنه فلا ضمان؛ لأنه مأذون من البائع في ذلك دلالة.
وفي (واقعات الناطفي): إذا باع شجرًا وعليه ثمرة قد أدرك أو لم يدرك جاز، وعلى البائع قطعه من ساعته؛ لأن المشتري يملك الشجرة فيجبر البائع على تسليمها فارغة، وكذلك لو أوصى بنخلة لرجل وعليه تمر ثم مات الموصي أجبر الورثة على قطع التمر وهو المختار من الرواية.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): شجرة جوز أصلها واحد ولها فرعان باع صاحبها أحد الفرعين جاز إن عين موضع القطع ولم يكن في القطع ضرر؛ لأن هذا بيع استجمع شرائطه، باع نصيبًا له من الشجرة بغير إذن شريكه وبغير رضا، فإن كانت الأشجار قد بلغ أوان قطعها فالبيع جائز؛ لأن المشتري لا يتضرر بالقسمة، وإن لم يبلغ أوان قطعها لم يجز؛ لأن المشتري يتضرر بالقسمة.
وفي (العيون): اشترى رجل نخلة فيها تمر وتواضعا على أن لأحدهما النخلة وللآخر الرطب، فالبيع جائز ويقسم الثمن على قيمتها؛ لأن كل واحد منهما تفرد بالبيع.
وكذا لو اشترى أرضًا فيها نخيل على أن لأحدهما الأرض وللآخر النخيل جاز، ولصاحب الشجر أن يقلعه، فإن كان في قلعه ضرر بيّن فهو بينهما؛ لأنه حينئذ بمنزلة الفص مع الخاتم، والحلية مع السيف، ويجوز شراء الشجرة بشرط القلع، وأما شراؤها بشرط القطع فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يجوز.
في شفعة شيخ الإسلام في شفعة الأرضين والأنهار: وأما بيع الثمار على الأشجار فهو على وجهين:
الأول: أن يبيعها قبل الطلوع أي قبل الظهور، وفي هذا الوجه لا يجوز البيع.
الوجه الثاني: أن يبيعها بعد الطلوع وإنه على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يبيعها قبل أن تصير منتفعًا بأن لم يصلح لتناول بني آدم وعلف الدواب، وفي هذا اختلاف المشايخ ذكر شمس الأئمة السرخسي، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده: لا يجوز، وذكر الشيخ أبو الحسن القدوري والقاضي الإمام الإسبيجابي أنه يجوز، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب الزكاة في باب الغرر في (الجامع) في كتاب الإجارات.
والحيلة في ذلك: حتى يجوز البيع على قول الكل أن يبيعه مع أوراقه بأن يبيع الكمثرى في أول ما يخرج من ورده مع أوراقه، فيجوز في الكمثرى تبعًا للبيع في الأوراق، ويجعل كأنه ورق كله حتى يجوز البيع.
الوجه الثاني: إذا باعه بعدما صار منتفعًا به، وتناهى عظمه، ولا شك أن في هذا الوجه يجوز البيع إذا باعه مطلقًا أو بشرط القطع.
وإن باع بشرط الترك فالقياس: أن لا يجوز، وبه أخذ أبو حنيفة وأبو يوسف، وفي الاستحسان: يجوز، وبه أخذ محمد.
وجه ما ذهب إليه محمد رحمه اللَّه: أن شرط الترك لو أوجب فساد العقد في هذه الصورة، إما أن يوجب من حيث إنه بيع شرط فيه إجارة أو عارية ولا وجه إليه؛ لأن إجارة النخل وإعارته لا تتحقق، أو من حيث إنه شرط فيه زيادة مال يحصل للمشتري من ملك البائع سوى المبيع ولاوجه إليه أيضًا؛ لأنه تناهى عظمه بخلاف ما إذا لم يتناه عظمه؛ لأن فيه اشتراط زيادة من مال البائع سوى المبيع.
فأما أبو حنيفة وأبو يوسف: ذهبا في ذلك إلى أنه شرط في هذا البيع ما لا يقتضيه العقد، ولأحد العاقدين فيه منفعة.
بيانه: أنه إن كان لا يثبت بهذا الشرط إجارة أو عارية أو زيادة مال من مال البائع سوى المبيع يحصل للبائع زيادة وطراوة وللمشتري فيه منفعة، والبيع لا يقتضي هذا، ومثل هذا الشرط يوجب فساد البيع.
الوجه الثالث: إذا باعه بعدما صار منتفعًا إلا أنه لم يتناه عظمه وفي هذا الوجه البيع جائز إذا باع مطلقًا أو بشرط القطع، وإن باع بشرط الترك فالبيع فاسد؛ لأن هذا بيع شرط فيه مالا يقتضيه البيع، ولأحد العاقدين فيه منفعة.
بيانه: أن المشتري شرط لنفسه زيادة مال يحصل له سوى ما دخل تحت البيع من مال البائع، وهذا شرط لا يقتضيه العقد، ولأحد العاقدين فيه منفعة، ومثل هذا يوجب فساد البيع لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
ثم إذا جاز البيع إذا باع مطلقًا أو بشرط القطع: إذا ترك المشتري حتى أدرك هل يطيب له الزيادة؟ إن ترك بإذن البائع أو استأجر منه الأشجار يطيب له الزيادة؛ لأن الزيادة إنما استفادها المشتري من مال البائع بإذنه، فيطيب له ذلك.
وإذا اشترى ثمار بستان على ما هو العرف ويقال بالفارسية: برباغ وبعض الثمار قد خرج وبعضها لم يخرج بعد، هل جاز هذا البيع؟ ظاهر المذهب أنه لا يجوز، وكان شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يفتي بجوازه في الثمار والباذنجان والبطيخ وغير ذلك، وكان يزعم عن أصحابنا رحمهم الله، وهكذا عن الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه كان يفتي بجواز هذا البيع، وكان يقول: أجعل الموجود أصلًا في هذا العقد وما يحدث بعد ذلك تبعًا، ولهذا (شرط) أن يكون الخارج أكثر؛ لأن الأقل يجعل تابعًا للأكثر، أما الأكثر لا يجعل تابعًا للأقل.
وقد روي عن محمد رحمه الله في بيع الورد على الأشجار أنه يجوز، ومعلوم أن الورد لا يخرج جملة، ولكن يتلاحق البعض بالبعض. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصح عندي أنه لا يجوز؛ لأن المصير إلى هذا الطريق إنما يكون عند تحقيق الضرورة هاهنا؛ لأنه يمكنه أن يبيع أصول هذه الأشياء مع ما فيها من الثمرة؛ وما يتولد بعد ذلك يحدث على ملك المشتري، وعلى هذا نص في (القدوري).
وإن كان البائع لا يعجبه بيع الأشجار، فالمشتري يشتري الثمار الموجودة ببعض الثمن فيؤخر العقد في الباقي إلى وقت وجوده، أو يشتري الموجود بجميع الثمن، ويحل له البائع الانتفاع بما يحدث، فيحصل مقصودهما بهذا الطريق، فلا ضرورة إلى تجويز العقد في المعدوم.
وإذا اشترى الكرم وبعض الثمار صار منتفعًا لاشك أن هذا الشراء جائز على قول من قال بجواز شراء الثمار قبل أن يصير منتفعًا، ومن قال بأن شراء الثمار قبل أن يصير منتفعًا لا يجوز اختلفوا فيما بينهم. قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح عندي أنه لا يجوز، وطريقه ما قلنا.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا اشترى أنزل الكرم وبعضه ني وبعضه قد أنضج، فإن كان كل نوع بعضه ني وبعضه قد أنضج جاز، وإن كان بعض الأنواع نيًا والبعض قد أنضج لا يجوز، قال: لأن المجوز العرف ولا عرف هاهنا، والصحيح أنه يجوز في الوجهين جميعًا.
وإذا باع الكل فإن باع البعض وبعضها ني وبعضها قد أنضج، أو الكل ني لا يجوز. وكذلك إذا كان مشتركًا بين رجلين باع أحدهما نصيبه وبعضه ني أو الكل ني لا يجوز؛ لأنه يحتاج إلى القسمة والمنتفع يقسم وغير المنتفع لا يقسم.
هذا إذا باع من أجنبي، فإن باع من شريكه أفتى ركن الإسلام السغدي أنه لا يجوز، وبعضهم قالوا: لو باع من العامل لا يجوز، ولو باع العامل من رب الكرم يجوز كما في الزرع على ما يأتي بيانًا بعدُ إن شاء الله تعالى.
فأما إذا باع من الأجنبي لا يجوز ولكن لا لما قالوا: إنه يجوز ولكن لما قالوا: إنه يحتاج إلى القسمة وغير المنتفع؛ لأن بعض الثمار ينتفع قبل النضج انتفاع أعلاف الدواب بها، ومع هذا لا يجوز البيع في الكل.
ولكن الوجه في ذلك أنه يحتاج إلى القسمة ولا تتأتى القسمة إلا بالقلع وفي القلع ضرر للمشتري.
وفي (متفرقات شمس الإسلام الأوزجندي) رحمه الله: أن بيع الثمار على رؤوس الأشجار قبل أن يبدو صلاحها وبعدما بدا صلاحها يجوز وفسد بدو الصلاح بصيرورته منتفعًا.
قال: ولا يشترط النضج إلا في الكمثرى والجوز والخوخ؛ لأن هذه الأشياء غير منتفع بها من حيث الأكل قبل النضج، وهذا (ليس ب) صواب في الكمثرى؛ لأن قبل النضج يصير منتفعًا من حيث أعلاف الدواب.
وفي صلح (فتاوى أبي الليث): إذا باع الثمار قبل أن يدرك أن كان الثمار حصرمًا أو تفاحًا أو ما أشبه ذلك يجوز، وإن كان خوخًا أو كمثرى لا يجوز إلا أن يكون قد أدرك بعضها فيجوز فيما أدرك وفيما لم يدرك على تلك الشجرة إذا لم يشترط الترك، وهذا كما قال أبو يوسف: فيمن باع الفيلق وبعضها دود لم يصر فيلقًا جاز البيع في الكل، والجواب الذي ذكر غير مستقيم في الكمثرى لما مر.
ولو باع نزل الكرم والعنب كالمج إن عبر بعبارة العنب لا يجوز البيع، وإن صار عنبًا لا ينقلب البيع جائزًا، وإذا لم يعبر بعبارة العنب لا يجوز البيع في الحال؛ لأنه لا ينتفع به أصلًا، وإذا باع عنبًا فذلك البيع جائز.
وإذا باع الثمر على الشجر والبعض قد خرج ثم خرج الباقي، فإن حلل له البائع جاز.
ولو اختلط الحادث بالموجود، فإن كان يعرف الحادث فالعقد صحيح على حاله، ولو اختلط الحادث بالموجود، فإن كان قبل التخلية فسد البيع؛ لأنه تعذر التسليم بسبب الاختلاط فيعتبر بما لو تعذر بسبب الهلاك. وإن كان بعد التخلية لا يفسد العقد؛ لأن تمام العقد بالتسليم وقد وجد فانتهى نهايته فلا يفسد بالاختلاط وقد اختلط ملك أحدهما بالآخر، فإن كانا شريكين فيه فالقول قول المشتري في قدر ذلك؛ لأنه في يده.
وفي (القدوري) أيضًا: إذا اشترى ثمرة بدا صلاح بعضها وصلاح الباقي يتقارب وشرط الترك جاز عند محمد؛ لأن المعتاد أن الثمرة يدرك أكثرها ويتلاحق فصار كما لو كان الكل مدركة فصح شرط الترك عنده، وإن كان يتأخر إدراك البعض تأخرًا كثيرًا فالبيع جائز فيما أدرك ولم يجز في الباقي، وهذا إنما يكون في العنب غالبًا؛ لأن بلوغ الأسود منه يتقدم ويتأخر كثيرًا، فيصير كالجنسين إذا بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر، فيجوز بيع ما قد بلغ عنده بشرط الترك دون ما لم يبلغ لما عرف من أصله.
وإذا اشترى الرجل عنب كرم على أنه ألف منٍ فلم يخرج منه إلا قدر تسعمائة، فللمشتري أن يطالب البائع بحصة مائة مَنَ من الثمن؛ لأن البيع بقدر المائة المَنَ لم يصح لمكان العدم وصح بقدر التسعمائة المَنِّ فيطالب البائع بحصة ما لم يصح فيه البيع.
قالوا: على قياس قول أبي حنيفة: ينبغي أن يفسد العقد في الباقي؛ لأن العقد فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد وهو العدم، والأصل عنده: أن العقد متى فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد يفسد العقد في الباقي، وكان القاضي أبو الحسين قاضي الحرمين يروي عن أبي حنيفة في جنس هذا أن العقد فاسد في الكل، وبه كان يقول شمس الأئمة الحلواني وعليه كثير من المشايخ، وكان شمس الأئمة السرخسي يقول: بأن العقد فيما وجد صحيح عند الكل؛ لأن البائع ما ضم المعدوم إلى الموجود في البيع بل باع الموجود، وظن أنه مقدار معين وتبين أنه لم يكن ذلك المقدار، ولهذا لا يصير بائعًا، وسيأتي جنس هذه المسألة بعد هذا إن شاء الله.
وفي (النوازل): إذا قال الرجل لغيره: بعت منك عنب هذا الكرم (كل) وقر بكذا، والوقر معروف لهم، فهذا على وجهين: أما إن كان العنب من جنس واحد، وفي هذا الوجه يجوز البيع في الكل ذكر مطلقًا من غير ذكر خلاف.
قال الصدر الشهيد في (واقعاته): يجب أن يكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة رحمه الله: يجوز في وقر واحد، وعلى قولها: يجوز في الكل بناء على مسألة الصبرة إذا قال لغيره: بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم على قول أبي حنيفة: يجوز في قفيز واحد، وعندهما: يجوز في الكل، قال رحمه الله: والفتوى على قولهما تيسيرًا للأمر على الناس، وإن كان العنب أجناسًا مختلفة فعلى قول أبي حنيفة ينبغي ألا يجوز أصلًا، وعلى قولهما: يجوز في الكل.
وفي (النوازل) أيضًا: وإذا باع أوراق الشجرة وقد ظهرت على الشجر بثمن معلوم وقبض الثمن ولم يأخذ المشتري الأوراق حتى ذهب وقتها، فأراد الرجوع بالثمن، فإن كانت الأوراق بأغصانها وكان موضع القطع معلومًا ليس له الرجوع؛ لأنه قادر على قبض المشترى بالقطع إلا أنه إذا كان في القطع فساد الشجر تخير البائع: إن شاء رضي بالقطع، وإن شاء نقض البيع.
قال الصدر الشهيد: وهذا هو المختار في مسألة بيع الاشجار التي تقدم ذكرها، فإن كان اشترى الأوراق بدون الأغصان كان له الرجوع بالثمن؛ لأنه لما بقي إيامًا يفسد البيع؛ لأنه لابد وأن يخرج شيء من الأوراق في هذه المسألة، فيتخلط المبيع بغير المبيع وكذلك بيع ثمار الاشجار على هذا.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا اشترى أوراق التوت على أن يقطعها من ساعته يجوز، وإن اشتراها على أن يأخذ شيئًا فشيئًا لا يجوز؛ لأنه يزداد فيختلط المبيع بغير المبيع، وإن اشتراها ولم يشترط شيئًا، فإن أخذها في اليوم جاز، وإن مضى يوم فسد البيع؛ لأنه يزداد ويمكن التحرز عنه.
والحيلة في ذلك أن يشتري الشجرة بأصلها، ويأخذ الأوراق ثم يبيع الشجرة من البائع.
وأما بيع المبطخة: رجل أراد بيع مبطخة على وجه يصح البيع بالاتفاق ينبغي أن يبيع الحشيش وأشجار البطيخ ببعض الثمن الذي اتفقا عليه حتى أن ما يحدث بعد ذلك يحدث على ملك المشتري، ثم يؤاجر الأرض من المشتري ببقية الثمن ليتمكن المشتري من إبقاء الحشيش والأشجار، فيحصل مقصودهما.
في (فتاوي الفضلي): إذا باع من آخر شجرة البطيخ قبل أن يخرج الحدجة بهذه اللفظة: أين خيار زار بتوفر وختم؛ جاز لأن البيع يقع على شجرة البطيخ دون ما يخرج من الحدجة، ثم (ما) يخرج من الحدجة يخرج على ملكه.
وفي هذا الموضع أيضًا: مبطخة بين شريكين باع أحدهما نصيبه من إنسان لا يجوز (قلعه لأن) في قلعه ضرر يلحق غير البائع، والإنسان لا يجبر على عمل الضرر، وإن رضي به فينبغي أن يشتري كل المبطخة من الشريكين ثم يفسخ البيع في النصف، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عن بيع الغاليين قبل أن يظهر شيء قال: لا يجوز.
وأما بيع الزرع والحشيش: إذا باع الزرع وهو بقل إن باعه على أن يقطعه المشتري أو على أن يرسل دابته فيها لتأكل جاز؛ لأنه شرط ما يقتضيه العقد، وإن باعه على أن يتركه حتى يدرك لا يجوز؛ لأنه شرط ما لا يقتضيه العقد، وكذلك إذا باع رطبة وفارسيته سبست زار، فهو على التفصيل الذي ذكرنا هو المختار، وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله.
في (فتاوى أبي الليث): أرض بين رجلين فيها زرع لهما، باع أحدهما نصف الزرع الذي هو نصيبه من غيره بدون الأرض فهذا على وجهين: إن كان الزرع مدركًا يجوز؛ لأنه لا يتضرر بهذا البيع صاحبه؛ لأن أكثر ما فيه أن المشتري يقلع الزرع ليمكنه أخذ النصف إلا أنه لا ضرر على صاحبه في ذلك إن كان مدركًا، وإن كان غير مدرك لا يجوز إلا برضا صاحبه باع مطلقًا أو بشرط القطع، وإن باع بشرط الترك لا يجوز وإن رضي به صاحبه، أما إذا باع بشرط الترك إنما لا يجوز وإن رضي به صاحبه؛ لأن هذا بيع شرط فيه شرط فاسد، وإنه لا يوجب الفصل بين الرضا.
وأما إذا باع مطلقًا وبشرط القطع إنما لا يجوز إذا رضي به صاحبه؛ لأنه ضمن إلحاق الضرر بصاحبه؛ لأنه لا يمكن للمشتري قلع النصف وإبقاء النصف باعتبار مساحة الأرض؛ لأن الزرع في أطراف الأرض يتفاوت قد يكون في بعضها مبلغًا ولا يكون في البعض كذلك، فتتعذر القسمة باعتبار مساحة الأرض، فيجب اعتبار القسمة باعتبار المقلوع، فإذا قلع الكل يتضرر به صاحبه إذا لم يكن مدركًا، وأحد الشريكين إذا تصرف في المحل المشترك تصرفًا يتضرر به صاحبه وإنه يقبل الرد لا يجوز تصرفه إلا برضا صاحبه، هذه الجملة من صلح شيخ الإسلام رحمه الله.
ومسألة المبطخة التي تقدم ذكرها مع تعليلها أن الإنسان لا يجبر على تحمل الضرر وإن رضي به دليل أن بيع نصف الزرع بدون الأرض لا يجوز وإن رضي به صاحبه.
ولو باع أحدهما نصف الزرع مع نصف أرضه جاز، وقام المشتري مقام البائع، ثم في الفصل الأول إذا لم يجز بيع نصف الزرع أو لم يفسخ العقد حتى أدرك الزرع انقلب العقد جائزًا؛ لأن المانع من الجواز قد زال ويعلم من هذه المسألة كثير من المسائل، فإذا كان الزرع كله لرجل باع نصفه من رجل بدون الأرض إن كان الزرع مدركًا يجوز، وإن لم يكن مدركًا لا يجوز؛ لأن هذا البيع يتضمن إلحاق الضرر بالبائع في غير ما تناوله البيع، فيكون فاسدًا كبيع الجذع في السقف.
وإذا كان الزرع من الأرض مشتركًا بين رجلين باع أحدهما نصيبه من الزرع من شريكه بدون الأرض لا يجوز إذا لم يكن الزرع مدركًا؛ لأن هذا هذا بيع يضمن إلحاق الضرر بالمشتري فيما ليس بمعقود عليه؛ لأن البائع يأمر المشتري بقلع ما اشترى منه ليفرغ أرضه وعلى هذا القطن وسائر أنواع الزرع إذا كان مشتركًا بين اثنين باع أحدهما نصيبه من صاحبه بدون الأرض، وأما إذا باع نصف الزرع مع نصف الأرض من شريكه أو من أجنبي بغير رضا شريكه جاز في شفعة شيخ الإسلام.
وفي (الأجناس): إذا باع النصف من الزرع المشترك من شريكه يجوز في ظاهر الرواية، وروى هشام عن محمد أنه لا يجوز.
وإذا كان الزرع بين رب الأرض وبين الأكار، فباع رب الأرض نصيبه من الأكار لا يجوز، ولو باع الأكار نصيبه من رب الأرض جاز؛ لأنه لا يحتاج في التسليم إلى القسمة فلا يتضرر به أحدهما.
في الباب الأول من بيوع (الواقعات): ولو كان مدركًا جاز بيع كل واحد منهما نصيبه من صاحبه، ومن مزارعة (الجامع الأصغر) قال: يصير مزارعًا بالثلث، باع نصيبه من الزرع من رب الأرض أو غيره لا يجوز. وفي (نوادر إبراهيم بن رستم) عن محمد: رجل دفع أرضه مزارعة ثم باع الأرض بزرعه يعني بنصيبه من الزرع والزرع بقل، فأجاز المزارع فهو جائز، وإن أجاز على أن يكون نصيبه في الأرض مزارعة فهذا فاسد.
قال في (البقالي): وإذا استحصد الزرع وقد كان سمى الزرع في البيع جاز البيع وقسم الثمن على قيمة الأرض ونصيب البائع، فأحاله إلى كتاب المزارعة.
وفي (المنتقى): رواية مجهولة: إذا اشترى الرجل أرضًا فيها زرع للبائع والحراب لمشتري الأرض بنصيب البائع من الأرض، فإن طلب تسليم الأرض لم يجز، وإن قال: أنا أسكت حتى تستحصد الأرض جاز؛ ولا يتصدق المشتري بشيء من الزرع؛ لأنه زاد في أرضه.
وفي (البقالي): إذا كان الأرض بين رجلين فزرعها أحدهما ونبت الزرع فتراضيا على أن يعطيه الأجر مثل نصف البذر، ويكون الزرع بينهما ولا يجوز قبل أن ينبت. ولو طلب الآخر القطع قسمت الأرض ويؤمر الزارع بقلع ما في نصيب الشريك، ويغرم نقصان نصيب الشريك إن كانت الزراعة قد نقصت الزرع.
ومن اشترى أرضًا وزرعها فأشرك غيره في الأرض والزرع جاز، ولو أشركه في الزرع دون الأرض لا يجوز، ذكره محمد رحمه الله في النصاب.
وإذا اشترى أرضًا وفيها زرع والزرع بقل، فقبل أن يقبض الأرض دفعها مزارعة إلى البائع بالنصف لا يجوز؛ لأنه يصير بائعًا الزرع وهو منقول قبل القبض، وإذا باع الأرض مع نصف الزرع أشار في كتاب المزارعة في باب العذر في المزارعة أنه لا يجوز ثم بيع نصف الزرع بدون الأرض، وإنما لا يجوز في موضع كان لصاحب الزرع حق القرار بأن زرع في ملكه، أما إذا لم يكن له حق القرار بأن كان متعديًا في الزراعة كالغاصب جاز بيع نصف الزرع؛ لأنه إذا لم يكن لصاحب الزرع حق القرار كان القلع مستحقًا عليه ومستحق القلع كالمقلوع، ولو كان مقلوعًا حقيقة جاز بيع نصفه كذا هاهنا. وعلى هذا إذا باع نصف البناء بدون الأرض إن (كان) محقًا في البناء لا يجوز، وإن كان متعديًا جاز؛ ذكر هذه الجملة شيخ الإسلام في شرح كتاب الشفعة في باب الفروض.
وإذا اشترى الفضل فهذا على وجهين:
الأول: أن يشتريه قبل أن يصير منتفعًا وفي جوازه اختلاف على نحو ما بينا في الثمار.
الثاني: إذا يشتريه بعد ما صار منتفعًا به يصلح لعلف الدواب، فإن اشتراه بشرط القطع أو أطلق الكلام فالبيع جائز، وإن اشتراه بشرط الترك فالعقد فاسد.
ثم إذا جاز بأن اشتراه بشرط القطع أو مطلقًا، فاستأجر المشتري الأرض مدة معلومة جاز، وفي الثمار لو استأجر الأشجار مدة معلومة في مثل هذه الصورة لا يجوز.
وفرق آخر بينهما: أن هاهنا لو استأجر الأرض إلى وقت الإدراك يلزمه أجر المثل ولا يطيب له الفضل، ولو استأجر الأشجار إلى وقت إدراك الثمر في مثل هذه الصورة يطيب له الفضل ولا يلزمه شيء من الأجر.
والفرق: أن الإجارة في مسألة النخيل أضيف إلى غير محلها وهي الأشجار؛ لأن الحادث من الأشجار زيادة في التمر والزيادة في التمر عين وليس بمحل الإجارة، فالتصرف المضاف إلى غير محله لا جواز له ولا انعقاد، فيبقى مجرد الإذن بالترك من غير عقد ولا فساد فيه، فيطيب الفضل ولا يجب الأجر.
أما في مسألة الفضل: الإجارة أضيفت إلى محلها وهو الأرض. والحاصل من الأرض منفعة... فأما الزيادة في الحب يحصل من الفضل؛ لأن الفضل للحب كالشجر للتمر لما وجدنا هاهنا أصلًا بحصول زيادة العين إليه كان الحاصل من الأرض مجرد منفعة... فتنعقد الإجارة عليها بوصف الصحة عند بيان المدة، وبوصف الفساد عند ترك بيان المدة، فما حصل من الزيادة بسبب خبيث وهو العقد الفاسد فيجب التصدق مع أجر المثل.
وإذا باع جزة من الكرات بعدما غلا يجوز، وإن باع كذا كذا جزة لا يجوز؛ لأن البيع إنما ينعقد على ما هو موجود، وقد غلا وهي الجزة الأولى، أما الجزة الثانية والثالثة معدومة لم يثبت بعد فلا يجوز البيع، وكذلك هذا في سائر البقول إذا باع منه جزة بعدما غلا يجوز، وإن باع كذا كذا جزة لا يجوز.
وكذلك في الفضل إذا باعه بعدما غلا ليفضل في الحال يجوز البيع، وكذلك هذا في الأشجار إذا باعها وهي نابتة ليقطع أو ليقلع في الحال فهو جائز، وأما قوائم الخلاف وسعف النخيل فقد اختلف المشايخ في جواز بيعها، ونص الكرخي في (كتابه) على الجواز ورواه عن أصحابنا.
ولو باع حشيشًا في أرضه إن كان صاحب الأرض هو الذي أنبت بأن سقاها لأجل الحشيش، فنبت بتكلفه جاز؛ لأنه ملكه ألا ترى أنه ليس لأحد أن يأخذه بغير إذنه، وإن نبت بنفسه لا يجوز؛ لأنه ليس بمملوك له، بل هو مباح الأصل، ألا ترى أن لكل أحد أن يأخذه فلهذا لم يجز بيعه، هكذا ذكر في (النوازل): وفي (القدوري): ولا يجوز بيع الكلأ في أرضه، وكذا لا يجوز بيع الكمأة في الأرض، قال ثمة: ولو ساق الماء إلى أرضه وبحصة موته حتى خرج الكلأ لم يجز بيعه، قال: لأن الشركة في الكلأ ثابتة بالنص، وإنما تنقطع الشركة بالحيازة، وسوق الماء إلى أرضه ليس بحيازة للكلأ على الشركة فلا يجوز بيعه. وما ذكر القدوري رحمه الله يخالف ما ذكر في (النوازل).

.نوع آخر في بيع المرهون والمستأجر والمغصوب والآبق وأرض القطيعة والأخاد والإكارة:

اختلفت عبارة الكتب في بيع المرهون وقع في بعض (الكتب بيع) المرهون فاسد ووقع في بعضها أن البيع موقوف، من مشايخنا من قال: في المسألة روايتان، وعامتهم على أن الصحيح أن البيع موقوف إن قضى الراهن المال أو أبرأه المرتهن منها ورد الرهن عليه ورضي به تم البيع وإن لم يجز المرتهن بيعه وطلب المشتري من القاضي التسليم، فالقاضي يفسخ العقد بينهما، وهذا لأن البيع صدر من المالك، وللمرتهن حق في المحل، وكما يجب مراعاة حق صاحب الحق وإنما يصير الحقان مراعًا إذا قلنا بالتوقف.
ومعنى قوله في بعض الكتب: أن بيع المرهون فاسد أنه لا حكم له، فكان فاسدًا في حكم الحكم؛ وهذا لأن البائع مالك للغير وتأثير حق الغير في دفع الحكم لا في إفساد العقد في نفسه كبيع مال الغير وبيع المستأجر نظير بيع المرهون موقوف عند عامة المشايخ وهو الصحيح، وللمشتري الخيار إذا لم يعلم وقت الشراء أن المشترى مرهون أو مستأجر لتأخر التسليم بحق المرتهن والمستأجر، وإن (كان) عالمًا به وقت الشراء فكذلك عند محمد يثبت له الخيار؛ لأن كون المشترى مرهونًا أو مستأجرًا عند محمد بمنزلة الاستحقاق.
ومن اشترى من غيره مال غيره والمشتري يعلم أن المشترى مال الغير كان للمشتري حق النقض، والرجوع على البائع بالثمن، وعند أبي يوسف: ليس له حق نقض الشراء؛ لأن كون المشترى مستأجرًا أو مرهونًا عنده بمنزلة العيب.
ومن اشترى شيئًا معيبًا وعلم بكونه معيبًا وقت الشراء فلا خيار له في فسخ العقد، وذكر شمس الأئمة الحلواني الخلاف على هذا الوجه في شرح (حيل الخصاف) وأحاله إلى (النوادر)، وذكر الصدر الشهيد في (واقعاته): أنه إذا كان يعلم بكونه مرهونًا أو مستأجرًا فله الخيار في ظاهر الرواية.
وذكر القاضي الإسبيجابي في (شرحه): أنه إذا كان عالمًا به، فلا خيار له في ظاهر الرواية، وكذلك إذا اشترى أرضًا ولها إكار فهو على هذين الوجهين يعني في حق ثبوت الخيار للمشتري.
إذا علم وقت الشراء أن لها أكارًا، أو لم يعلم، ذكره الصدر الشهيد، وليس للمستأجر حق فسخ البيع بلا خلاف؛ لأن حقه في المنفعة والبيع صادف الرقبة، فأما المرتهن هل له حق فسخ هذا البيع؟ اختلف المشايخ فيه منهم من قال: ليس له ذلك؛ لأن حقه في اليد لا في الرقبة، والبيع لا يصادف الرقبة، ومنهم من قال: له حق الفسخ؛ لأن البيع يبطل ملك الرقبة، وهو وسيلة إلى استيفاء الدين منه عند الهلاك، وليس للراهن الآخر حق فسخ هذا البيع؛ لأن هذا البيع ينعقد صحيحًا في حقهما نص عليه الخصاف في أدب ما لا يجب فيه اليمين، وإنما التوقف في حق المستأجر والمرتهن.
وفي رهن (المنتقى): إذا باع الراهن المرهون من رجل بغير إذن المرتهن، ثم باعه من المرتهن جاز البيع من المرتهن، وهو نقض للبيع الأول.
وفي الباب الأول من رهن (الجامع): إذا باع الراهن المرهون من رجل بغير إذن المرتهن، ثم باعه من رجل آخر بغير إذن المرتهن أيضاَ، ثم أجاز المرتهن أحد العقدين نفذ البيع الذي لحقته الإجازة واليمين للمرتهن يستوفي منه حقه، وروي عن أبي يوسف إن البيع الأول نفذ، وإن أجاز البيع الثاني ينفذ البيع الثاني، ولو كان مكان البيع الثاني رهنًا أو إجارة، وأجاز المرتهن الرهن أو الإجارة ينفذ البيع ويبطل الرهن والإجارة.
والآجر إذا باع المستأجر من رجل بغير إذن المستأجر، ثم باعه من المستأجر جاز البيع من المستأجر، وهو نقض للبيع الأول.
وأما بيع المغصوب فقد ذكره محمد رحمه الله في (الأصل): أنه موقوف إن أقر به الغاصب تم البيع ولزم، وإن جحد وكان للمغصوب منه بينة عادلة، فكذلك الجواب، وإذا لم يكن بينة، ولم يسلمه حتى هلك انتقض البيع، بعض مشايخنا قالوا: قول محمد في (الكتاب) وإن لم يكن للمغصوب منه بينة، ولم يسلمه حتى هلك انتقض البيع بظاهره غير صحيح، وينبغي أن لا ينقض البيع هاهنا إلا أن يختار المشتري النقض.
فكان تأويل قول محمد: انتقض إذا اختار المشتري النقض، وبعضهم قالوا: قول محمد بظاهره صحيح، وينتقض البيع من غير اختيار المشتري النقض؛ لأن الغاصب هي ضمن القيمة بملك المغصوب من وقت الغصب، وبيع المولى كان بعد ذلك، فيظهر أنه كان بائعًا مال الغير، وهو الغاصب بخلاف ما لو قبل بعد البيع أو غصب؛ لأن القيمة هناك وجبت بعد البيع، فمتى بقي البيع لا يؤدي إلى أن يصير بائعًا مال الغير.
وفي (نوادر بشر): قال: سألت محمدًا عمن اشترى المغصوب منه، وهو في يد الغاصب، والغاصب جاحد له، قال: يجوز، ويقوم المشتري في دعواه ذلك مقام المالك قال: وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
وذكر ابن سماعة في (نوادره) عن أبي يوسف: أنه قال: قال أبو حنيفة: لا يجوز بيعه من غير الغاصب، وقلت أنا: هو جائز.
وروى بشر عن أبي يوسف في رجل غصب من آخر طعامًا وتصدق به، وكان قائمًا في يد المساكين حتى اشتراه الغاصب من المغصوب منه جاز شراؤه ويرجع في صدقته، ولا يجزئه عن كفارة يمينه، وإن استهلك المساكين الطعام بعد الشراء ضمنوا، ولو لم يشتر وضمن قيمته جازت صدقته وأجزأت عنه ولم يرجع فيها، ولو كان الطعام مستهلكًا حال ما اشتراه الغاصب من المغصوب منه في أيدي المساكين، فالشراء باطل إلا أن يقول: أشتري منك ما لك علي من الطعام، فيجوز الشراء وجازت الصدقة للمساكين.
قال محمد في (الجامع): رجل غصب من آخر عبدًا، ثم أن الغاصب أمر رجلًا حتى يشتريه له من مولاه، فاشترى صح الشراء، وصار الآمر قابضًا له بنفس الشراء؛ لأنه في يده مضمون بضمان نفسه، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء، فكأن الآمر جدد القبض، أكثر ما في الباب أن حق القبض للوكيل لا للموكل، ولكن هذا لا يمنع صحة قبض الموكل، بالبيع ليس له حق قبض الثمن من المشتري مع هذا لو قبض صح كذا هاهنا.
وكذلك لو أمر رجل أجنبي الغاصب أن يشتريه له، ففعل صح، وصار الآمر قابضًا بنفس الشراء؛ لأنه وجد في حق المأمور، وهو الغاصب قبض ينوب هو عن قبض الشراء، فصار هو قابضًا، وقبض المأمور بمنزلة قبض الآمر، فصار الآمر قابضًا من هذا الوجه.
قال في (الجامع) أيضًا: رجل غصب من آخر جارية، وغصب رجل من رب الجارية عبدًا، وتبايعا العبد بالجارية وتقابضا، ثم بلغ المالك ذلك فأجازه كان باطلًا؛ لأن الإجازة إنما تعمل في العقد الموقوف لا في العقد الباطل، وهذا العقد وقع باطلًا؛ لأن البيع تمليك بتملك، وذلك لا يكون في بيع مال الرجل بماله.
توضحه: أن الإجارة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء، ولو أذن المالك لهما في الابتداء بذلك لا ينفذ، فإذا فعلا بغير إذنه لا يتوقف أيضًا، ولو كان مالكهما رجلين فبلغهما، وأجازا كان جائزًا، وصارت الجارية لغاصب الغلام، والغلام لغاصب الجارية، هذا لأن كل واحد منهما صار مشتريًا ما في يد صاحبه بما في يده بائعًا ما في يده بما في يد صاحبه، ولا يوقف في الشراء، فقد عرف إن شراء الفضولي لا يتوقف على إجازة بل ينفذ على المشتري، وإنما التوقف في البيع، فصار شراء كل واحد منهما واقعًا لنفسه كأن كل واحد من المالكين قال لغاصبه: اشترِ مملوك فلان لنفسك بمملوكي، وإنما احتيج إلى الإجازة لنفاذ البيع، فانعقد تصرف كل واحد منهما على أن يفيد الملك للمشتري، ولكن عند إجازة المالك، وعلى صاحب الغلام قيمة الغلام لمولاه، وعلى صاحب الجارية قيمة الجارية لمولاها؛ لأن كل واحد منهما صار مستقرضًا ما غصب حتى يكون البدل على من يثبت له الملك في المبدل.
واستقراض الحيوان، وإن كان لا يجوز إلا أنه إنما لا يجوز إذا حصل ابتداءً، والاستقراض منهما حصل في ضمن الشراء، وإنه تصرف مشروع فيصير مشروعًا بشرعته، والمستقرض فيما لا يصل مضمون بالقيمة، فيوجب على كل واحد من الغاصبين قيمة ما غصب من هذا الوجه.
وفيه أيضًا: لو أن رجلًا غصب من رجل مائة دينارٍ وغصب آخر من رب الدينار ألف درهم، ثم تبايعا الدراهم بالدنانير يعني الغاصبان وتقابضا وتفرقا، ثم بلغ المالك ذلك فأجازه جاز.
فرق بين هذا وبين المسألة المتقدمة، والفرق: أن هاهنا العقد ما ورد على الدراهم والدنانير بأعيانهما، وإنما وقع على مثلهما دينًا في الذمة، فلم يقع على مالين لمالك واحد، فصح البيع بلا توقف.
ألا ترى أن مالك الدراهم والدنانير لو لم يجز وأخذ دراهمه ودنانيره، ولم يتفرقا حتى نفذ كل واحد منهما من مال نفسه يجوز، ولا يفسد البيع، فعلم أن العقد وقع على مثلهما دينا في الذمة إلا أن كل واحد منهما صار قابضًا ما وجب في ذمته بما غصب، فإذا أجاز المالك، وجاز صار مقرضًا، أما في المسألة المتقدمة العقد وقع على العرضين بأعيانهما؛ لأن العرض يتعين في عقد المعاوضة، فإذا كانا لشخص واحد لم ينعقد العقد على ما بينا، والفلوس في هذا نظير الدراهم والدنانير؛ لأنهما لا يتعينان بالتعيين.
وفيه أيضًا: رجل غصب من رجل جارية، وغصب رجل من صاحب الجارية مائة دينار، فباع غاصب الجارية الجارية من غاصب الدنانير بتلك الدنانير، فبلغ المالك، فأجاز صح؛ لأن الجارية إن تعينت في العقد فالدنانير لم تتعين، فلم يقع العقد على مالين لواحد، بل وقع على جارية مغصوبة بدنانير في الذمة، فإذا أجازه صحت الإجازة في حق البيع؛ لأن بيع الجارية قد توقف على إجازته؛ لأنه يملك الإذن ببيع جاريته بالدنانير، فيملك الإجازة فيه إذا غصب علم المغصوب منه أنه نفذ من ماله، ويصير هو مقرضًا الدنانير من مشتري الجارية؛ وهذا لأن الشراء لمّا تعلق بدنانير في الذمة صار مشتري الجارية بنقد الدنانير المغصوبة قاضيًا ما عليه بمال غير متوقف على إجازته.
فإذا جاز النقد أيضًا يلزم ذلك قرضًا للدنانير على ما مر، فصارت الدنانير ملكًا لمشتري الجارية بالقرض مقتضى القضاء، وصار المشتري قاضيًا دنانير نفسه، وقد نفذ بيع الجارية على مالكهما بالإجازة، وتثبت الوكالة بالإجازة، فيصير بائع الجارية قابضًا الدنانير لمالك الجارية بحكم الوكالة، فإن بقيت الدنانير في يد بائع الجارية فهي للمغصوب منه، وإن هلكت في يده فلا ضمان؛ لأنها هلكت في يد الوكيل.
وهلاك الثمن في يد الوكيل لا يوجب عليه ضمانًا، وإن كان النقد بعد الإجازة، وهلكت الدنانير في يد بائع الجارية، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء ضمن بائع الجارية، وإن شاء ضمن مشتري الجارية، وهذا لأن الإجازة إذا حصلت قبل النقد فليس الجارية ذلك بإذن في النقد؛ لأن النقد لم يكن موجودًا، ولا يدري هل ينقد المغصوب أو لا ينقد؟ فلم تعمل الإجازة في حق النقد، فصار مشتري الجارية يأخذ دنانير المغصوب منه بغير إذنه، وصار هو غاصبًا بالنقد، وصار بائع الجارية غاصبًا لها بالقبض.
فإذا هلكت كان للمالك الخيار في تضمينها، فإن ضمن مشتري الجارية ظهر انه ملك الدنانير من وقت القبض السابق، وأنه نقد ملك نفسه، فصح النقد، وصار بائع الجارية قابضًا دنانير مشتري الجارية بإذنه فكان أمينًا فيها، وإن ضمن بائع الجارية رجع البائع على المشتري؛ لأن قبض البائع لم يسلم ثمنًا له لما استحق عليه عوضه، فاستوجب الرجوع به على المشتري، كما لو كانت الدنانير قائمة بأعيانها، فأخذت من يده.
وإذا ادعى رجل أرضًا في يدي رجل، وأقام البينة على ما ادعى، وقضى القاضي بالأرض له، فباعها من رجل، ثم ظهر أنه قد كان باع هذه الأرض قبل أن يدعيها عند القاضي من رجل آخر، فالجائز هو البيع الأول؛ لأنه يتبين أنه باع المغصوب وله بينة، فجاز الأول، ومن ضرورة جواز الأول بطلان الثاني، فأما بيع الآبق، فقد ذكر محمد رحمه الله في (الأصل): أنه لا يجوز، فقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام «نهى عن بيع الآبق»؛ ولأنه معجوز التسليم، والقدرة على التسليم شرط جواز البيع، وهذا بخلاف ما لو باع عبدًا أرسله في حاجته؛ لأن القدرة على التسليم هناك ثابتة وقت العقد حكمًا واعتبارًا؛ لأن الظاهر عوده إلى المولى، ولا كذلك الآبق، فإن عاد من الإباق وسلمه إلى المشتري روي عن محمد: أنه يجوز، به أخذ الكرخي وجماعة من مشايخنا، وهكذا القاضي الإسبيجابي في (شرحه): والمذكور في (شرحه): إذا ظهر الآبق وسلمه إلى المشتري يجوز البيع، وأيهما امتنع إما البائع عن التسليم، أو المشتري عن القبض يجبر عليه، ولا يحتاج إلى بيع جديد إلا إذا كان المشتري رفع الأمر إلى القاضي، وطلب التسليم من البائع، وظهر عجزه عند القاضي، وفسخ القاضي العقد بينهما، ثم ظهر العبد حينئذ يحتاج إلى بيع جديد، وهذا لأن المانع من الجواز العجز عن التسليم بسب الإباق، وقد ارتفع العجز حين ظهر من الإباق.
وروي عنه رواية أخرى: أنه لا يجوز البيع، ويحتاج إلى بيع جديد، وبه أخذ جماعة من مشايخنا، وبه كان يفتي أبو عبد الله البلخي، وهكذا ذكر شيخ الاسلام رحمه الله في شرح كتاب البيوع الفاسدة؛ لأن شرط جواز العقد، وهو القدرة على التسليم كان فائتًا وقت البيع فلا يجوز البيع، وإن وجد من بعد.
وصار كما لو باع خمرًا، فصار خلًا في المجلس وتسلمه، أو باع طيرًا في الهواء، أو سمكًا في الماء، أو وحشًا في الفضاء، ثم أخذه، وسلم في المجلس فإنه لا يجوز البيع، وطريقه ما قلنا، ومن أخذ بهذه الرواية الأولى أنهما تراضيا عليه عند العبد، فينعقد بينهما بالتعاطي.
إما أن يقال: بأن ذلك العقد يجوز فلا، وإن جاء رجل إلى مولى الآبق، وقال: إن عبدك الآبق عندي، وقد أخذته فبعه مني، فباعه جاز، ولو قال: عود هو عبد فلان قد أخذه فبيعه، فباعه لا يجوز.
الفرق: أن فساد بيع الآبق عرف بالأثر، والأثر ورد في الآبق المطلق، وهو الآبق في حق أحد المتعاقدين، وفيما إذا قال الذي يريد شراءه: هو عبدي قد أخذته، فهذا ليس بآبق في حق المشتري، فلا يكون آبقًا مطلقًا، وفيما إذا قال: هو عبد فلان، فهو آبق في حق البائع والمشتري، فكان آبقًا مطلقًا؛ ولأن في الصورة الأولى العبد غير معجوز التسليم في حق المشتري، ولا كذلك في الفصل الثاني، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن بيع الآبق جائز ذكر القدوري هذه الرواية.
وكان أبو الحسن الكرخي يقول: بيع الآبق فاسد إلا أن يرضي المشتري أن ينتظر حتى يتمكن البائع من التسليم، وفاسد بيع المرهون والمستأجر.
وفي (المنتقى): رواية الحسن عن أبي حنيفة: إذا باع الآبق، والمشتري يعلم بمكانه جاز، فإن باعه وقبضه، ثم اختلفا فقال المشتري: لم أعلم بمكانه حين بعتني، وقال البائع: لا بل علمت، فالقول قول البائع وهو الصحيح، وإن باعه ولا يعلم أحدهما بمكانه لم يجز، وأما بيع أرض القطيعة جائز، وهي التي أقطعها الإمام لقوم وخصهم بها؛ لأنهم ملكوها بالقطيعة فيجوز بيعهم، وأما بيع أرض الإجارة والإكارة، فالإجارة هي الأرض الخراب يأخذها إنسان بأمر صاحبها فيعمرها ويزرعها، وإن كانت الأرض التي في يد الأكرة، فنقول: إن باعها صاحبها جاز؛ لأنه مالك رقبتها، وإن باع الذي له أجارتها وآكارتها لا يجوز البيع؛ لأن له العمارة لا غير، وإنه مال متقوم، وإذا باع الأرض وهي في عقد مزارعة أخرى، قال شمس الآئمة الحلواني: المزارعة أولى في مدته من أيهما كان البذر، فإن أجاز المزارع البيع فلا أجر لعمله.
في (مجموع النوازل): إن أجاز المزارع يكون كلا النصيبين للمشتري يريد به إذا كان في الأرض غلة، وإن لم يجز لا يجوز البيع، وكذا في الكرم سواء ظهر الثمار، أو لم يكن هذا الفصل في الزتدويستي.
وقيل: الجواب على التفصيل إن كان البذر من المزارع لا يجوز في حقه؛ لأن مستأجر الأرض، وكذا في الكرم إن لم يظهر الثمار، ويجوز البيع، وبه كان يفتي ظهير الدين رحمه الله.

.نوع آخر في بيع الحيوانات:

قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): ولا يجوز بيع السمك في حظيرة لا يستطيع الخروج منها إذا كن لا يؤخذن إلا بصيد، وإن كن يؤخذن بغير صيد جاز البيع، والمشتري بالخيار إذا رآهن، يجب أن يعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما إن اجتمعن فيها باحتياله واصطيادهن، ثم أرسلهن في الحظيرة، وفي هذا الوجه إن كان لا يقدر على أخذهن من غير احتيال جاز بيعهن؛ لأن ملكهن بالاصطياد، فقد باع ملكه، وهو قادر على التسليم، فيصح كما لو باع عبدًا له قد أرسله في حاجته، وإن اجتمعن في الحظيرة لا باحتياله واصطياده لا يجوز بيعهن أمكن أخذهن من غير اصطياد واحتيال، أو لم يمكن؛ لأنه لم يحرزهن فلم يملكهن، فقد باع ما ليس بمملوك له.

.فرع على هذا الفصل:

وهو ما إذا اجتمعن في الحظيرة لا باحتياله واصطياده، فقال: لو سد موضع دخول الماء، فصرن بحالة لا يستطعن الخروج عنها لا يجوز البيع عند بعض المشايخ؛ لأنه لم يملكها؛ لأن هذا القدر ليس بإحراز فهو بمنزلة طير طار في بيت إنسان، فسد الباب والكوة، وهناك لا يصير محرزًا له بهذا القدر ما لم يأخذه كذا هاهنا، ولا ملك بدون الإحراز، فإنما باع ما لا يملك فلا يجوز.
وعند بعض المشايخ: يجوز البيع إذا أمكن أخذهن من غير اصطياد؛ لأنه بما فعل صار آخذًا لهن حكمًا، فصرن ملكًا له بمنزلة ما لو وقع في شبكته، فيجوز بيعه، وهذا الخلاف إذا لم يهيء الحظيرة لاصطياده، فأما إذا هيأها ملكهن بلا خلاف، فيجوز بيعهن.
وفي كل موضع جاز بيع السمك في الماء، فإذا قبضه المشتري ورآه فله الخيار؛ لأنه اشترى ما لم يره، وإذا أخذ سمكة وجعلها في حب ماء فالجواب فيه على التفصيل الذي قلنا في الحظيرة: إن كان يقدر على أخذها من غير اصطياد جاز بيعه، وإن كان في الحظيرة سمك وقصب باع السمك والقصب جملة، فإن كان لا يمكن أخذ السمك إلا بصيد، فالبيع فاسد في الكل اصطاد السمكه قبل ذلك أولا، أما في السمك؛ فلأنه باع ما لا يقدر على تسليمه، وأما في القصب فلجهالة الثمن؛ لأن قيمة السمك مجهولة لا يدرى إذا كان لا يؤخذ بغير صيد، وجهالة قيمة السمك توجب جهالة حصة القصب، فيفسد البيع في القصب بجهالة الثمن، وإن كان يمكن أخذ السمك من غير صيد إن لم يكن اصطاد السمك قبل ذلك فالبيع فاسد في السمك وهل يفسد في القصب؟ قالوا: على قياس قول أبي حنيفة: يفسد؛ لأن قبول العقد في السمك يصير شرطًا لقبوله في القصب إذا كانت الصفقة واحدة، وقبول العقد في السمك شرط فاسد، فيفسد العقد في القصب، وعلى قياس قولهما لا يفسد؛ لأن قيمة السمك معلومة إذا كان يؤخذ بغير صيد، فيكون حصة القصب معلومة.
والصحيح: أن على قولهما يفسد في القصب؛ لأن حصة القصب تصير معلومة بالحرز والظن إذ الصفقة متحدة وما يعرف بالحزر يكون مجهولًا، فهو نظير ما لو اشترى عبدين بألف درهم، فإذا أحدهما حر، وإن كان اصطاد السمك قبل ذلك يجوز البيع في الكل عندهم جميعًا.
ذكر شيخ الإسلام هذه الجملة في شرح كتاب الشفعة قبيل باب تسليم الشفعة، وإذا أراد الرجل أن يبيع برج حمام مع الحمام إن باع ليلًا جاز؛ لأن في الليل يكون الحمام بجملته داخل البرج، ويمكن أخذه من غير احتيال، فيكون بائعًا ما يقدر على تسليمه.
وفي النهار بعضه يكون خارج البرج لا يمكن أخذه باحتيال، فيكون بائعًا ما لا يقدر على تسليمه. قال محمد رحمه الله: في (الجامع الصغير) عن أبي حنيفة: ولا يجوز بيع النحل وقال: إنما النحل بمنزلة الزنبور وهو قول أبي يوسف.
وقال محمد رحمه الله: يجوز بيعه إذا كان مجموعًا، وجه قول محمد: إن هذا حيوان ينتفع به ويتمول فيصح بيعه، وإن لم يؤكل كالحمار والبغل، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن النحل لا ينتفع بعينه، وإنما ينتفع بما يحدث، فقبل الحدوث لا يكون منتفعًا، والعين إنما يصير مالًا بكونه منتفعًا به، ولأنه من جملة الهوام، فلا يجوز بيعه كالزنبور.
وذكر القدوري في (شرحه): إذا كان في كوارتها عسل، فاشترى الكوارة بما فيها من النحل جاز عند أبي حنيفة، ويدخل النحل في البيع تبعًا للعسل، وأنكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله: جواز بيع النحل مع العسل، فقال: إنما يدخل الشيء في العقد تبعًا لغيره إذا كان من حقوقه كالشرب مع الأرض، وهذا ليس من حقوقه.
وفي (فتاوى أبي الليث): إذا اشترى العلق الذي يقال له بالفارسية مرنمك يجوز، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله لحاجة الناس، فإن الناس يحتاجون إليه ويتمولونه.
وفي (القدوري): ويجوز بيع دود القز إن ظهر القز فيه، وإن لم يظهر لا يجوز، هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد رحمه الله: يجوز البيع، وإن لم يظهر فيه القز لما قلنا في النحل، قال الصدر الشهيد في (واقعاته): والفتوى على قول محمد، وأما بيع دود القز فعلى قول أبي حنيفة: لا يجوز؛ لأنه غير منتفع باعتبار ذاته بل باعتبار غير معدوم، وعندهما: يجوز اعتبارًا للعادة؛ ولأنه يتولد منه ما هو منتفع به، فصار كبذر البطيخ، فيجوز بيعه، والصدر الشهيد في (واقعاته): اختار قولهما.
ولا يجوز بيع هوام الأرض كالحية والعقرب والوزغ، وما أشبه ذلك؛ لأن لانتفاع بهذه الأشياء حرام ومحليته يعتمد جواز الانتفاع بها، ولا يجوز بيع ما يكون في البحر كالصفد والسرطان وغيره إلا السمك، وما يجوز الانتفاع بجلده أو عظمه، والحاصل: أن جواز البيع يدور مع حل الانتفاع، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما بيع الكلب وأشباهه فقد ذكر في (القدوري): بيع كل ذي ناب من السباع وذو مخلب من الطير جائز معلمًا كان، أو غير معلم، وفي رواية (الأصل) ولا شك في جواز بيع الكلب المعلم؛ لأنه آلة الحراسة والاصطياد، فيكون محلًا للبيع.
ألا ترى أنه جاز بيع البازي المعلم والصقر المعلم، وإنما جاز؛ لأنه آلة الاصطياد؛ وهذا لأنه إذا كان آلة الحراسة والاصطياد كان منتفعًا حقيقة وشرعًا، فيكون مالًا؛ لأن المال غير الأدمي خلق لمنافع الأدمي والمال محل للبيع، وأما بيع كلب غير المعلم.
فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي: أنه إذا كان الحال يقبل التعليم يجوز بيعه قال رحمه الله: هو الصحيح من المذهب، وهذا لأنه إذا كان يقبل التعليم كان منتفعًا به، فيكون محلًا للبيع، الدليل عليه أنه ذكر في (النوادر): ولو باع الجرو وجاز بيعه؛ لأنه يقبل التعليم، فهذا يبين لك أن غير المعلم إذا كان يقبل التعليم، فهو والمعلم سواء في حق محلية البيع، وإنما لا يجوز بيع العقور والذي لا يقبل التعليم ولا يصطاد به لا يجوز البيع، والفهد والبازي يقبلان التعليم على كل حال، فيجوز بيعهما.
وأما القرد فقد اختلفت الروايات فيه عن أبي حنيفة روى الحسن عنه: أنه يجوز بيعه، وروى أبو يوسف عنه: أنه لا يجوز بيعه، وبيع الفيل جائز؛ لأنه منتفع به حقيقة وشرعًا، فهو كسائر الحيوانات، وأما الهرة فقد ذكر شيخ الإسلام في (شرح السير): أنه يجوز بيعها، سئل عطاء بن رباح عن ثمن الهرة فقال: لا بأس به.

.نوع آخر في بيع المحرمات:

بيع المحرم الصيد لا يجوز، وكذلك بيع صيد الحرم لا يجوز، وإن كان المتبايعان حلالين، وهما في الحرم، والصيد في الحل جاز ذلك في قول أبي حنيفة.
وقال محمد: إن قوام العقد بالعاقد والمحل، ثم المحل إذا كان في الحرم لا يجوز بيعه، فكذا إذا كان العاقدان في الحرم، وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أن المحرم.
وهذا ليس صيد الحرم، ولهذا لو أمر إنسانًا بإتلافه جاز، ولا شك أن الأمر بالإتلاف فيما يرجع إلى التعويض للصيد دون العقد عليه، فإذا لم يحرم ذلك لكون الصيد خارج الحرم، فكذا العقد، ولو أحرم وفي يده صيد لغيره، فباعه مالكه، وهو حلال جاز، ويجبر على التسليم، وعليه الجزاء إن تلف، وهذا لأن البائع عقد البيع على ملك نفسه، وهو حلال فصح، وإحرام الذي هو في يديه لا يمنع رد الوديعة، فيجب الرد إلا أنه صار مضمونًا عليه بالإمساك وهو محرم، فلا يبرأ من الضمان مع بقاء الإحرام إلا بالإرسال، ولو وكل محرم حلالًا ببيع صيد فباعه، فالبيع جائز في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: البيع باطل، والخلاف في هذا نظير الخلاف في المسلم إذا وكّل ذميًا ببيع الخمر وشرائه، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولو وكل الحلال محرمًا ببيع الصيد أو شرائه لا يجوز، وهذا إذا تبين لك أن المعترف العاقد، ولو وكل رجل رجلًا ببيع صيد فأحرم الآمر، وباع المأمور، فالبيع جائز في قول أبي حنيفة، وعندهما البيع باطل، وهذا لأن الوكالة ليست بلازمة، وما ليس بلازم، فلدوامه حكم إنشاء الوكالة بعد الإحرام، وإنه على الخلاف، فهذا بناء عليه.
ولو اشترى حلال من حلال صيدًا، فلم يقبضه حتى أحرم أحدهما انتقض البيع؛ لأن للقبض شبهًا بالعقد، فيجعل المقارن للعقد، ألا ترى أنه لما نزلت آية الربا أبطل رسول الله عليه السلام ما لم يقبض من الربا، وأجاز ما قبض.
ولا يجوز بيع ذبيحه المجوسي والمرتد وغير الكتابي، وكذلك لا يجوز بيع ما تركت التسمية عليه عمدًا، ويجوز بيع ذبائح أهل الكتاب، وهو بناء على ما قلنا: أن جواز البيع يدور مع حل الانتفاع، ولا يحل الانتفاع بهذه الأشياء، فلا يجوز بيعها.
وفي (العيون): لا بأس ببيع عظام الفيل وغيره من الميتة؛ لأن الموت لا يحل العظام ولا دم فيه، فلا يتنجس، فيجوز بيعه إلا عظم الأدمي والخنزير، فإنَّ بيعها لا يجوز، وهذا إذا لم يكن على عظم الفيل وأشباهه دسومة، فأما إذا كان فهو نجس، فلا يجوز بيعه.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا ذبح كلبه، وباع لحمه جاز، وكذا إذا ذبح حماره وباع لحمه جاز، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بناء على اختلاف في طهارة هذا اللحم بعد الذبح، واختيار الصدر الشهيد على طهارته.
ولو ذبح الخنزير، وباع لحمه لا يجوز؛ لأن لحم الكلب المذبوح والحمار منتفع به؛ لأنه يجوز أن يطعم به لسؤره؛ لأنه طاهر، ولا كذلك لحم الخنزير؛ لأنه ليس له أن يطعم به لسوره؛ لأنه نجس، وفرق بين الكلب والحمار بين ما إذا كانا مذبوحين، وبينما إذا كانا ميتين، فلم يجز بيع لحمهما إذا كانا ميتين؛ لأن لحم الميت ليس بمنتفع إذ ليس له أن يطعم به سؤرة، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء».
وأما لحوم السباع فقد ذكر القدوري: أنه لا يجوز بيعها من غير فصل، وروي عن أبي حنيفة: أنه يجوز بيعها إذا ذبحت.
وفي (الفتاوى): إذا كان السبع ميتًا لا يجوز بيع لحمه بلا خلاف، وإن كان مذبوحًا، ففيه اختلاف المشايخ، قال بعضهم: لا يجوز وبه أخذ الفقيه أبو جعفر والفقيه أبو الليث؛ لأن على قولهما: هذا اللحم نجس وقال بعضهم: يجوز؛ لأن هذا اللحم طاهر، وهو اختيار الصدر الشهيد، وروى إسماعيل بن حماد وابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه لا يجوز بيعها وإن كانت مذبوحة.
وأما جلود السباع والحمير والبغال، فما كانت مذبوحة أو مدبوغة جاز بيعها، وما كان بخلافه لم يجز، وهذا بناء على أن الجلود كلها تطهر بالذكاة أو بالدباغ إلا جلد الإنسان والخنزير، وإذا طهرت بالدباغ أو بالذكاة جاز الانتفاع به، فيكون محلًا للبيع، وحكي عن شمس الأئمة الحلواني: أن هذه الجلود إنما تطهر بالذكاة إذا كانت الذكاة مع التسمية، أما بدون التسمية لا يطهر، ولا يجوز بيع شعر الخنزير؛ لأن الخنزير عينه نجس بجميع أجزائه منع الشرع عن الانتفاع به إهانة لعينه واستقباحًا لذاته، وفي البيع إعزاز له إلا أن رخص للخراز الانتفاع به من حيث الخرز؛ لأجل الضرورة مستثناة عن قواعد الشرع، وعن أبي يوسف أنه كره الانتفاع به للخرازين؛ لأنه نجس ولا ضرورة في الانتفاع به؛ لأن الخرز يحصل بغيره، وعن بعض السلف أنه لا يلبس مكعبًا ولا خفًا أخرز من شعر الخنزير.
وشعر الميتة وعظمها وصوفها وقرنها لا بأس بالانتفاع بها، وبيع ذلك كله جائز؛ لأنه لا حياة في هذه الأشياء، فلا يحلها الموت فلا يتنجس.
وأما العصب ففيه روايتان: من رواية جاز الانتفاع به وبيعه؛ لأنه طاهر، فقد صح أن رسول الله عليه السلام استعمله في اصطلاح القوس، وشعر الأدمي طاهر، ولا يجوز الانتفاع به.
ويجوز بيع السرقين والبعر والانتفاع بها، وأما العذرة فلا يجوز الانتفاع بها ما لم يخلط بالتراب ويكون التراب غالبا، وهذا لأن محلية البيع بالمالية، والمالية بالانتفاع، والناس اعتادوا الانتفاع بالبعر والسرقين من حيث الإلقاء في الأرض لكثرة الريع، أما ما اعتادوا الانتفاع بالعذرة ما لم يكن مخلوطًا بالتراب، ويكون التراب هو الغالب.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: كل شيء أفسده الحرام والغالب عليه الحلال، فلا بأس بأن يبيعه وتبين ذلك، ولا بأس بالانتفاع به كالفأرة تقع في السمن والعجين، وما كان الغالب عليه الحرام لم يجز بيعه ولا هبته.
وكذلك الزيت إذا وقع فيه ودك الميت، فإن كان الزيت غالبًا جاز بيعه، وإن كان الودك غالبًا لم يجز، والمراد من الانتفاع حال عليه الحلال الانتفاع في غير الأبدان، وأما في الأبدان فلا يجوز الانتفاع به، ويجوز بيع البربط والطبل والمزمار والنرد، وأشباه ذلك في قول أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز بيع هذه الأشياء.
وجه قولهما: إن هذه الأشياء أعدت للمعصية حتى صارت بحال لا يستعمل إلا في المعصية، فسقطت ماليتها والتحقت بالعدم، ومن شرط جواز البيع المالية.
ولأبي حنيفة: إن هذه الآلات ليست بمحرمة العين، وكونها آلة المعصية إنما يوجب سقوط التقوم والمالية إذا كانت متعينة للمعصية، وهذه الأشياء لم تتعين آلة للمعصية؛ لأن الانتفاع بهذه الأشياء ممكن بوجه حلال بأن يجعل النرد صنجات الموازين، والبربط والطبل والدف ظروف الأشياء، وإذا لم تكن متعينة للمعصية تقومها كالمعيبة فإنه لما تصور الانتفاع يعينها بطريق حلال لا يسقط تقومها وماليتها حتى جاز بيعها كذا هاهنا.
وذكر أبو الحسن في (الجامع الصغير) المنسوب إليه: ذبيحة المجوسي، وكل شيء يعملونه وهو عندهم ذكاة كالخنق والضرب حتى يموت فإنه يجوز البيع بينهم عند أبي يوسف، ولو استهلكها مسلم ضمن القيمة، وليس كالميت حتف أنفه.
وقال محمد: هو في الميت حتف أنفه سواء؛ لأن الذكاة فعل شرعي، فإذا لم يكن الفاعل من أهله صار الذبح في حقه والموت حتف أنفه سواء، ولأبي يوسف: أنهم يتمولونه كما يتمولون الخمور، ونحن أمرنا ببناء الأحكام على اعتقادهم، وان نتركهم وما يدينون، فظهر حكم ديانتهم في حقهم بخلاف الميت حتف أنفه، لأنه ليس بمال في حق أحد.
وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الأشربة المحرمة كلها إلا الخمر، وعلى مستهلكها الضمان.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز بيعها ولا يجب الضمان على مستهلكها؛ لأنه حرم شربها وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى إذا حرم شربه حرم بيعه وأكل ثمنه»، أوجب تحريم البيع عند تحريم الشرب، وفيه إشارة إلى سقوط التقويم، وذلك شرط وجوب الضمان.
ولأبي حنيفة: أن حرمة هذه الأشربة ما يثبت على طريق النص، بل بالاجتهاد الذي يوجب العمل دون العلم، فلا يوجب سقوط التقوم اللذان كانا من قبل، والحديث منصرف إلى ما يثبت فيه الحرمة مطلقا وهو الخمر.
وروى الحسن عن أبي حنيفة في العصير: إذا ذهب ثلثه، واشتد أنه يجوز بيعه بخلاف المنصف، ولا يجوز بيع المكاتب والمدبر وأم الولد ومعتق البعض.
أما المكاتب؛ فلأنه استحق يدًا على نفسه ومكاتبه، وبالبيع يبطل ذلك، فيجب صيانته برد البيع إذا باع المكاتب بغير رضاه، وإن باعه برضاه، ذكر المشايخ في كتبهم: أنه يجوز البيع وتنفسخ الكتابة، وحكي عن الكرخي رحمه الله: أنه كان يقول: لا رواية فيه عن أصحابنا رحمهم الله نصًا، وإنما هذا شيء يقوله مشايخنا المتأخرون وقد أشار إليه محمد في (الجامع): إلى أنه لا يجوز ولا ينفسخ الكتابة.
فقد قال في (الجامع): إذا أمر الرجل مكاتبه أن يتزوج على رقبته حرة جاز، وكان على المكاتب أن يسعى في قيمته، ولم تنفسخ الكتابة مقتضى جعل الرقبة مهرًا إذ لو انفسخت الكتابة لتعلق النكاح برقبتها، ويفسد النكاح؛ لأنها تملك رقبة زوجها، ولا يفسد النكاح حتى وجبت عليه السعاية في قيمته علم أن الكتابة لم تنفسخ، وقد رضي المولى والمكاتب بانفساخ الكتابة؛ لأنهما رضيا بضرورة رقبت مهر المولي بالأمر بالتزوج على رقبة والمكاتب بالأقدام على التزوج على رقبته، ولن تصير رقبته مهرًا إلا بفسخ الكتابة، وهذا لم يفسخ الكتابة، ولم تصر رقبته مهرًا، فقياس هذه المسألة أن لا يجوز بيع المكاتب برضاه، ولا تنفسخ الكتابة هاهنا مقتضى جعل رقبته مهرًا هذا جملة ما نقل عن الكرخي.
ومن مشايخنا من فرق بين المسألتين فقال: الكتابة لو انفسخت في هاتين الصورتين إنما تنفسخ تصحيحًا للنكاح للبيع في مسألتنا، وليس في فسخ الكتابة تصحيح النكاح ثمة، فإن الكتابة إذا انفسخت يصير رقبته مهرًا، وتملك المرأة رقبة زوجها مقارنًا للنكاح، فلم يكن في فسخ الكتابة فائدة.
وأما معتق البعض؛ فلأنه بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة، وعندهما بمنزلة آخر عليه دين.
وأما أم الولد فلقوله عليه السلام في حقها: «لا تباع ولا توهب» وهو حر من جميع المال.
وأما المدبر فهو نوعان: مقيد ومطلق، فجواز بيعه مجمع عليه، وإن كان مطلقًا فعدم جواز بيعه مذهبنا، والمسألة معروفة، وأولاد الإماء من ذلك بمنزلة الأصول؛ لأن الأصل إن ما يثبت في الأصل يتعدى إلى الفروع لهذا كان ولد الحرة حرًا، وولد الأمة رقيقًا، وكذلك الولد المشترى في حالة الكتابة والولدان، وأما من سواهم من ذوي الأرحام، فلا يدخلون في الكتابة، ويجوز بيعهم في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز بناء على أن الكل يدخلون في الكتابة عندهما، فيمتنع بيعهم كما يتبع بيع الأولاد والولدان، والمسألة معروفة في كتاب المكاتب.

.نوع آخر في بيع الجنس بالجنس:

قال أبو حنيفة رحمه الله: ويجوز بيع التمر بالرطب متساويًا كيلًا، ولا يجوز متفاضلًا، وعندهما بالآخر متساويًا كيلًا ومتفاضلًا، فالأصل أن كل مكيل أو موزون قوبل بجنسه إن كانت المجانسة بينهما ثابته من كل وجه يكتفي بالمماثلة الخالية بجواز البيع، عرف ذلك بالحديث المعروف، وهو قوله عليه السلام: «الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل كيلًا بكيل، والذهب بالذهب مثلًا بمثل وزنًا بوزن» قيد الجواز بالمماثلة إذا كانت المجانسة قائمة للحال من كل وجه.
بعد هذا قال أبو يوسف ومحمد: التمر جنس الرطب من وجه دون وجه، فإن بعض معانيه فائت بالجفاف، والبعض باقي، فلا يكتفي بالمماثلة الخالية بجواز البيع، وأبو حنيفة رحمه الله قال: المجانسة بين الرطب وبين التمر قائمة من كل وجه؛ لأنها كانت ثابتة من كل وجه قبل الجفاف، ولاتحاد الاسم ولاتحاد المنفعة، وبعد الجفاف الاسم متحد؛ لأن الرطب يسمى تمرًا وبالجفاف لا يزول جنس المنفعة بأصلها، فإنه يجيء من التمر جميع ما يجيء من الرطب إنما يتمكن من نقصان، والمجانسة إذا كانت ثابتة من كل وجه إذا فات جنس منفعة بأصلها كما في الحنطة مع الدقيق، فإنه بالطحن يزول جنس منفعة أصلًا، وهي منفعة الزراعة، واتخاذ الهريسة وكما في المقلية مع غير المقلية، فإن بالقلي يفوت جنس منفعة بأصلها وهي منفعة الزراعة وهاهنا لم يفت جنس منفعة بأصلها، فكانت المجانسة ثابتة من كل وجه، فيكتفي بها جواز البيع.
وأما بيع الرطب بالرطب يجوز إذا تساويا كيلًا عند علمائنا رحمهم الله، وكذلك بيع ما يلي الرطب أما بيع البسر بالتمر، فلا ذكر له في الكتب.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح بيوعه: أنه يجوز بالإجماع إذا تساويا كيلًا يدًا بيد، وأما بيع العنب بالزبيب، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز إذا تساويا كيلًا هكذا ذكر في (نوادر هشام).
وذكر في موضع آخر أن على قول أبي يوسف إنما يجوز هذا البيع على سبيل الاعتبار، وتفسيره: أن يكون الزبيب أكثر حتى يكون الزبيب بالزبيب من العنب، والباقي بإزاء الماء العالمة للحال، وعلى قول محمد: لا يجوز، وذكر شمس الأئمة السرخي في (شرحه): أن بيع العنب بالزبيب نظير بيع التمر بالرطب على قول أبي حنيفة يجوز إذا تساويا كيلًا، أو على قولهما: لا يجوز، فعلى ما ذكره شمس الأئمة السرخي لا يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف بين بيع العنب بالزبيب، وبين بيع الرطب بالتمر، وعلى ما ذكره هشام يحتاج الى الفرق.
والفرق: أن الرطوبة التي في الرطب من أجزاء التمر، ولهذا ينطلق عليه اسم التمر، ولو كانت الرطوبة شيئًا آخر وأجزاء التمر شيئًا آخر لكان لا ينطلق على الرطب اسم التمر كما لا ينطلق على العنب اسم الزبيب، فإذا اعتبرت الرطوبة من أجزاء التمر كانا شيئًا واحدًا إلا أن المجانسة بينهما قائمة من وجه دون وجه، والمماثلة في الحال في مثل هذا لا يكتفي بجواز البيع، فأما الرطوبة التي في العنب ليست من أجزاء الزبيب ولهذا لا ينطلق على العنب اسم الزبيب، بل هما شيئان ماء وتفل فكانا كالسمسم مع الدهن.
وإذا باع الحنطة المبلولة بالحنطة اليابسة على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إذا تساويا كيلًا، وعلى قول محمد: لا يجوز هكذا ذكر في (الأصل) قال شمس الأئمة الحلواني في (شرحه): إن الرواية محفوظة عن محمد أن بيع الحنطة اليابسة بالمبلولة إنما لا يجوز إذا ابتل وانتفخ، أما إذا لم ينتفخ بعد ولكن بل من ساعته يجوز بيعه باليابسة إذا تساويا كيلًا.
قال محمد رحمه: وهذا نظير زبيب يابس بزبيب قد بل بالماء عند أبي حنيفة يجوز هذا البيع إذا لم ينتفخ، وإذا انتفخ لا يجوز، وأما بيع الحنطة الرطبة بالحنطة اليابسة، ذكر بعض مشايخنا أنه على الخلاف المذكور في بيع الحنطة المبلولة بالحنطة اليابسة.
على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إذا تساويا كيلًا، وعلى قول محمد: لا يجوز، وبعضهم ذكر قول أبي يوسف في هذه المسألة مع قول محمد، فعلى قول هذا القائل يحتاج أبو يوسف إلى الفرق بين بيع المبلولة باليابسة وبيع الرطبة باليابسة.
والفرق: أن المبلولة مع اليابسة جنس واحد من كل وجه؛ لأن بالبل لم يزل الاسم ولا جنس منفعة، فإن المبلولة تصلح للطحن والزراعة كاليابسة إلا أنه يمكن فيه نوع نقصان، فإذا بقيت المجانسة من كل وجه كان الشرط جواز البيع المماثلة في الحال وقد وجدت.
وأما الرطبة مع اليابسة جنسان من وجه، وفي مثل هذا المماثلة لا تكفي، وأما بيع الحنطة المبلولة، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إذا تساويا كيلًا، وكذا الزبيب المنقع بالزبيب المنقع والتمر المنقع، وفي بيع المقلية اختلاف المشايخ، والأصح إن تساويا كيلًا؛ لأن المجانسة بينهما فائته من وجه؛ لأن بالقلي يفوت جنس المنفعة بأصلها، وهي منفعة الزراعة والجنس والمماثلة الخالية في مثل هذا لا يكفي للجواز.
وأما بيع المقلية بالمقلية: فيجوز إذا تساويا كيلًا؛ لأن المجانسة بينهما قائمة من كل وجه، ويكتفي بجواز البيع بالمماثلة الخالية، ولا فرق في بين الحنطة بالدقيق متساويًا ومتفاضلًا؛ لأن المجانسة بين الحنطة والدقيق ثابتة من وجه دون وجه؛ لأن أثر الطحن في تفريق الأجزاء لا غير، والمجتمع لا يصير شيئًا آخر بالتفريق، ولهذا بقي حرمة ربا الفضل بين الحنطة والدقيق، وأما فائتة من وجه بدليل اختلاف الاسم والصورة والمعنى، والمماثلة الخالية في مثل هذا لا يكتفي للجواز.
وبيع الدقيق بالدقيق يجوز إذا تساويا كيلًا؛ لأن المجانسة بينهما قائمة من كل وجه، والاتفاق في القدر ثابت، فيجوز البيع عند التساوي كيلًا، كبيع الحنطة، وكبيع الدقيق بيان المجانسة ظاهر بيان الاتفاق في القدر أن الدقيق كيلي، فإنَّ الناس اعتادوا بيعه كيلًا، ولهذا جاز السلم فيه كيلًا، ويجوز بيعه في الذمة كيلًا، وكذا يجوز استقراضه كيلًا.
حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل: أن بيع الدقيق بالدقيق إذا تساويا كيلًا إنما يجوز إذا كانا مكبوسين، وإذا باع الحنطة بالحنطة وزنًا لا يجوز، والأصل: أن ما يثبت كيله بالنص لا يجوز بيعه بجنسه وزنًا، كالحنطة بالحنطة، وما ثبت وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه وكيلًا كالدراهم بالدراهم كيلًا، وكالدنانير بالدنانير كيلًا، وما لا نص فيه، ولكن عرف كونه كيلًا على عهد رسول الله عليه، فهو مكيل أبدًا، وإن اعتاد الناس بيعه وزنًا في زماننا، وما عرف كونه موزونًا في ذلك الوقت، فهو موزون أبدًا، وما لا يعرف حاله على عهد رسول الله عليه يعتبر فيه عرف الناس، فإن تعارفوا كيله فهو مكيل، وإن تعارفوا وزنه فهو وزني، وإن تعارفوا كيله ووزنه، فهو كيلي ووزني، وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد.
فأما على قول أبي يوسف: المعتبر في جميع الأشياء العرف سواء عرف كونه مكيلًا على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام أو موزونًا.
قال الشيخ الإمام: وأجمعوا على أن ما يثبت كيله بالنص إذا بيع وزنًا بالدراهم يجوز، وكذا ما يثبت وزنه بالنص إذا بيع كيلًا بالدراهم يجوز.
وعن محمد في (المنتقى) في باب صفة تسليم الثمن بالثمن إن شراء البر وزنًا لا يجوز، فإن أخذه رد مثله بكيل، فإن أكله قبل أن يكيله فالقول قوله أنه كذا كذا قفيرًا مع يمينه، قال: وأستحسن في الثمن أن يجوز بيعه وزنًا، أو كان الثمن بعينه، فيقول: أبيعك منه كذا رطلًا بدرهم.
وفي (المنتقى) أيضًا: في باب السلم الصحيح والفاسد رواية إبراهيم عن محمد لا تجوز الحنطة في السلم وزنًا، وفي آخر هذا الباب، وقال أبو يوسف: لا بأس بالسلم في الحنطة بالوزن، وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف: إذا أسلم في التمر وزنًا جاز استحسانًا، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة لا يجوز.
وفي (المنتقى) أيضًا: في باب القرض وصحته وبطلانه عن محمد: لا تجوز الحنطة أن تقرض وزنًا، فإن أخذه وأكله قبل أن يكيله، فالقول قول المستقرض أنه كذا كذا قفيزًا، وقال هشام: قلت لمحمد: إن التمر بالذي يباع وزنًا، فما نقول فيمن أقرضه وزنًا؟ قال: لا يصح ذلك؛ لأن أصله كيل.
وفي باب الربا من (المنتقى): إذا باع تمرًا بتمر كيلًا بكيل مثلًا بمثل، ويتفاوت الوزن يجوز، وإن كان وزنًا بوزن مثلًا بمثل والكيل يتفاوت، ذكر في موضع من هذا الباب أنه يجوز؛ لأن التمر يكال، وذكر في موضع آخر من هذا الباب أنه لا يجوز، وفي هذا الباب أيضًا: إذا بيع رطل من سمن الغنم كيلًا برطل من سمن الغنم وزنًا بالميزان، فالبيع باطل حتى يعلما قبل البيع أنهما سواء لا يختلفان لا كيلًا ولا وزنًا.
والعسل والسمن والزيت على الوزن بالميزان إذا اتفق جاز، وإن كان يختلف في كيل الرطل، وفي هذا الباب أيضًا: وكل ما يوزن وما يكال فلا بأس ببيعه بجنسه كيلًا ووزنًا وفي (الأصل): ولا خير في بيع الحنطة بالحنطة مجازفة، قالوا: وهذا إذا كانت الحنطة بحيث يكال، فأما إذا كانت قليلًا يجوز بيع البعض بالبعض مجازفة.
وكذلك الجواب في كل مكيل أو موزون، وإن بيعت الحنطة بالحنطة مجازفة، ثم كيلًا بعد ذلك فكانا متساويين لا يجوز، فالأصل: أن في كل موضع اعتبرت المماثلة بين البدلين في المعيار الشرعي شرطًا بجواز العقد بشرط العلم بالمماثلة في المعيار وقت مباشرة العقد، ويجوز بيع الفضة بالفضة الكفة بالكفة، وإن لم يعلم مقدار كل واحد منهما؛ لأنا تيقنا بالتساوي في الوزن، وإن لم يعلم مقدار ذلك.
وفي (الأصل): إذا باع قفيز حنطة بنصف قفيز هو أجود لا يجوز، وبهذه المسألة تبين أن أدنى ما يكون مال الربا من الحنطة نصف قفيز، وذكر شمس الأئمة السرخي في باب الصرف في شرح الأجارات: أن أدنى ما يجري فيه الربا من الأشياء المكيلة نحو الحنطة وأشباهها نصف صاع، وذلك مدّان، حتى لو باع مدّين من الحنطة بثلثه أيضًا من الحنطة فصاعدًا لا يجوز ذلك، لكن إذا باع منوين بمنون من الحنطة، ومنوين من الشعير بمنوين من الشعير يجوز.
وكذلك لو باع نصف مَنّ الحنطة بمنوين فصاعدًا يجوز.
وقد صح عن عبادة بن الصامت: أنه قال في خطبته بالشام: أيها الناس إنكم أحدثتم نوعًا لا يدري ما هي ألا وإن الحنطة بالحنطة مدين بمدين، وإن الشعير بالشعير مدين بمدين، وذكر في التمر والملح مثل ذلك، ثم قال: فمن زاد أو استزاد فقد أربى بهذا، تبين أن ماذكر محمد رحمه الله في (الأصل) أن أدنى مال الربا من الحنطة نصف قفيز أن المراد منه نصف صاع، أو يكون في المسألة روايتان، وإذا باع حنطة بحنطة، وفي كل واحد من الجانبين حبات شعير أنه لا يجوز إلا متماثلًا؛ لأن الشعير مغلوب فكان مستهلكًا.
في (الجامع): في باب الدراهم المخلوطة، وذكر شمس الأئمة السرخي رحمه الله في شرح (الزيادات): في باب الوصية بعد باب المهر قبل باب الحيض: إذا بيع شعير بالحنطة إن كان مثل ما يكون في الشعير يجوز، وإذا باع الدقيق بالدقيق وزنًا لا يجوز كما لا يجوز بيع الحنطة بالحنطة وزنًا، وبيع السويق بالسويق، وبيع النخالة بالسويق نظير بيع الدقيق بالدقيق.
وإذا باع دقيقًا منخولًا بدقيق غير منخول جازا تساويًا؛ لأنهما جنس واحد إلا أن أحدهما أجود، وبيع الحنطة بالسويق نظير بيع الحنطة بالدقيق، وبيع الدقيق بالخبز، وبيع الحنطة بالخبز يجوز متساويًا ومتفاضلًا بعد أن يكون يدًا بيد، وهذا لأن المجانسة بين الخبز والحنطة، وإن كانت قائمة من وجه؛ لأن الخبز أجزاء دقيق قد طبخت، فالإتفاق في القدر فائت من وجه؛ لأن أحدهما كيلي والآخر عددي.
وفي مثل هذا لا يجرى الربا فالأصل أن الربا النقد لا يحرم إلا بوصفين، وهو القدر والجنس، ونعني بالقدر الكيل في المكيلات، والوزن في الموزونات، فإذا انفق البدلان جنسًا وكيلًا، أو وزنًا يحرم الفضل، وما لا فلا، وبيع أحدهما بالآخر مسألة من مسائل السلم نذكره في فصل السلم إن شاء الله تعالى.
وبيع الدقيق بالنخالة لا يجوز إلا على طريق الاعتبار عند أبي يوسف.
وتفسير الاعتبار، أن يكون النخالة الخالصة أكثر من النخالة التي في الدقيق، وقال محمد: لا يجوز إلا إذا تساويا كيلًا، أو تفاضلا، وعندهما يجوز تساويًا بعد أن يكون يدًا بيد.
وإذا باع الزيت بالزيتون فهو على أربعة أوجه:
إما إن كان الدهن الخالص أكثر من الدهن الذي في الزيتون، وفي هذا الوجه البيع جائز، ويجعل الدهن الذي في الزيتون بمثله من الدهن الخالص، والباقي من الدهن الخالص بإزاء التفل، وإن كان الدهن الخالص مثل الدهن الذي في الزيتون لا يجوز البيع؛ لأن الدهن يصير بمثله، ويبقى التفل خاليًا عن العوض فيكون الربا.
قالوا: وهذا إذا كان التفل في الآخر شيئًا له قيمة، وإن لم يكن له قيمة جاز البيع في هذا الوجه إذ لا يؤدي إلى الربا، وإن كان الدهن الخالص أثقل من الدهن الذي في الزيتون لا يجوز البيع إذ يبقى بعض الدهن خاليًا عن العوض، وإن كان لا يدري لا يجوز لجواز أن الدهن الخالص مثل الدهن الذي في الزيتون أو أقل، والبيع، قال: الربا عند مقابلة الجنس بالجنس كما يبطل بفضل موهوم، ألا ترى أن بيع الحنطة بالحنطة مجازفة لا يجوز، وإنما لا يجوز بفضل موهوم.
وإذا باع دهن السمسم بالسمسم، أو العصير بالعنب، أو التمر الذي فيه نوى بالتمر الذي ليس فيه نوى، أو الرطب بالدبس، أو اللبن بالسمن، أو المحلوج بالقطن، أو لب الجوز بالجوز، فهو على ما ذكرنا في بيع الزيت بالزيتون، وهذا الذي ذكرنا قول علمائنا.
وقال مالك والشافعي: لا يجوز البيع، وإن كان المقدار أكثر في المسائل كلها، والصحيح مذهب علمائنا؛ لأن في الزيتون والسمسم شيئين حقيقة الدهن والتفل، فيمكننا تجويز هذا البيع متى كان الخالص أكثر بأن يجعل ما في الزيتون زيت، والسمسم بمثله من الخالص والباقي بإزاء التفل كما بعد التميز، وكان القياس فيما إذا باع الزيتون بالزيتون، أو السمن بالسمن، أو الحنطة بالحنطة، أو التمر بالتمر متفاصلًا أن يجوز، ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس؛ لأن في الزيتون تفل ودهن في الجانب الآخر كذلك، وفي التمر تمر ونوى وفي الحنطة دقيق ونخالة إلا أنا تركنا هذه الحقيقة بالنص، فإن النص لما أثبت الربا في هذه الأموال علمنا أنه أسقط اعتبار الحقيقة، وجعل الكل شيئًا واحدًا؛ لأن الربا لا يتصور مع اعتبار هذه الحقيقة، وإذا اعتبر الكل شيئًا واحدًا لا يجوز مع التفل بالزيادة من الخالص إلا باعتبار المماثلة؛ لأن التفل دهن حكمًا لما اعتبر التفل مع الزيت شيئًا واحدًا، ولم توجد المماثلة بين الزيادة، وبين الخالص، وبين التفل، فلا يجوز.
قلنا: والنص الوارد بإسقاط هذه الحقيقة في تلك الصورة لايكون واردًا فيما تنازعنا فيه؛ لأن فيما تنازعنا فيه تحقق الربا مع اعتبار هذه الحقيقة في جنس الأموال بأن يكون الدهن الخالص مثل الدهن الذي في السمسم أو أقل، وإذا كان الربا في المتنازع فيه تحقق في بعض الأموال مع اعتبار هذه الحقيقة لا ضرورة إلى إسقاط اعتبار هذه الحقيقة، فإذا لم يسقط اعتبار هذه الحقيقة حصل بيع الدهن الخالص بجنسه وبالتفل فالتقريب ما مر.
وفي (المنتقى): ولا خير في القطن المحلوج بالقطن الذي فيه حبّ إلا مثلًا بمثل، وكذلك التمر بالتمر المشقوق، وإذا كان اشترى تمرًا بنوى تمر لا يجوز إلا إذا كان في التمر من النوى أقل.
وكذا إذا اشترى قطنًا بحب قطن، وكذا إذا اشترى دقيقًا غير منخول بنخالة، وإذا باع السمن بالزبد، فعن أبي حنيفة أنه أفسده على كل حال؛ لأن الزبد إذا حمل إلى النار انتقص.
قيل: لم لا تعامل الفضل بتفل الزبد إذا كان السمن الصافي أكثر؟ قال: لأن له قيمة، وقد مر جنس هذا فيما تقدم، وذكر المعلى عن أبي يوسف أنه كان يكره التمرة بالتمرتين، وكان يقول: كل شيء حرم منه الكثير فالقليل منه حرام، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله في (المجرد) في مئة جوزة بمائتي جوزة يدًا بيد بأعيانهما يجوز.
وفي (الأصل): لو باع تمرة بتمرتين، أو جوزة بجوزتين، أو تفاحة بتفاحتين، فالبيع جائز عندنا من غير ذكر خلاف.
فإن قيل: الجوز والبيض جعلا مثالًا في ضمان المستهلكات، فينبغي أن لا يجوز بيع الواحد باثنين.
قلنا: لا مماثلة بينهما حقيقة للتفاوت صغرًا أو كبرًا إلا أن الناس اصطلحوا على إهدار التفاوت، فيعمل بذلك في حقهم، وهو ضمان العدوان دون الربا الذي هو حق الشرع عليهم.
وإذا باع شاة بلحم، فإن كانت الشاة مذبوحة مسلوخة جاز إذا تساويا وزنًا؛ لأن كل واحد منهما موزون، فقد باع موزونًا بجنسه متساويًا فيجوز، وأراد بالمسلوخة غير المفصولة عن السقط، وإن كانت مذبوحة غير مسلوخة لا يجوز إلا على سبيل الاعتبار بأن يكون اللحم المفصول أكثر؛ ليصير بعضه بإزاء السقط، وإن كانت حية فالقياس: أن لا يجوز إلا على سبيل الاعتبار، وهو قول محمد.
وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز من غير اعتبار؛ لأن الشاة مع اللحم المفصول جنسًا مختلفًا عرفنا ذلك بالنص فإن الله تعالى قال: {فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر} [المؤمنون: 14] أي: بعد نفخ الروح، فعلمنا أن الحي جنس آخر غير الجماد، فجعلنا الشاة الحية مع اللحم جنسان نصًا، فيجوز بيع أحدهما بالآخر كما لو كانا جنسين حقيقة بأن باع لحم البقر بالشاة وما أشبهه.
وإذا باع ثوبا منسوجًا بالذهب الخالص لابد لجوازه من الاعتبار، وهو أن يكون الذهب المنفصل أكثر، وكان ينبغي أن يجوز البيع من غير اعتبار؛ لأن الذهب الذي نسج في الثوب خرج من أن يكون وزنيًا، ولهذا لا يباع وزنًا، وربا الفضل يعتمد المجانسة والمعيار، والجواب وهو الأصل في جنس هذه المسائل أن الناس متى تركوا الوزن في شيء للتعذر لا يخرج ذلك الشيء من أن يكون موزونًا.
ألا ترى أنه لو باع لبّ الجوز بالجوز لا يجوز إلا على طريق الاعتبار، والجوز عددي، واللب موزون، فينبغي أن يجوز البيع من غير الاعتبار، ولكن مثل اللب الذي في الحب موزون، وإن ترك الناس وزنه؛ لأنهم إنما تركوا للتعذر بسبب اتصاله بالقشر، فلم يخرجه من أن يكون موزونًا، فقد باع الموزون بجنسه وبشيء آخر فيشترط الاعتبار، ومتى تركوا الوزن في شيء مع الإمكان، فإنه يخرج من أن يكون موزونًا، فإنه لو باع قمقمة من حديد أو صفر ونحاس بقمقمتين من جنسها، وتلك القمقمة لا يباع وزنًا، فإنه يجوز يدًا بيد؛ لأن الناس تركوا وزنها مع الإمكان، وتركوا الوزن مع الإمكان ينسخ الاصطلاح على الوزن في هذه الأشياء ثبت باصطلاحها بخلاف قمقمة من ذهب أو فضة بقمقمتين من ذلك لا يجوز، وإن تعارفوا بيعًا عددًا؛ لأن صفة الوزن في الذهب والفضة منصوص عليها، فلا يتغير ذلك بالعرف، ولا يخرج من أن يكون موزونًا بالعادة.
إذا ثبت هذا فنقول: الذهب المنسوج لا يوزن لمكان التعذر، فترك الوزن فيه لا يخرجه من أن يكون مال الربا، فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل.
وفي (البقالي): أن في الاعتبار الذهب في السقف روايتان، ولا يعتبر العلم في الثوب، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه يعتبر وإذا اشترى شاة حية على ظهرها صوف بصوف منفصل لا يجوز إلا على طريق الاعتبار، أطلق محمد رحمه الله الجواب في المسألتين في (الأصل).
قال الطحاوي رحمه الله: ما ذكر محمد من الجواب في المسألتين قوله، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز هذا البيع من غير صفة الاعتبار، وجعلت هذه المسألة فرع مسألة بيع اللحم بالشاة؛ لأن الصوف ما دام على ظهر الشاة، واللبن في ضرعها، فهو من أوصافها نظير اللحم الذي في الشاة، ومن المشايخ من قال: ما ذكر من الجواب في المسألتين قول الكل، وإطلاق محمد رحمه الله في (الكتاب) يدل عليه.
وفي (نوادر هشام): قال: أخبرني محمد أن أبا يوسف قال: لا خير في صوف الشاة على ظهرها بصوف إلا أن يكون الصوف المنفصل أكثر من الصوف الذي على ظهر الشاة، فأما في اللبن فهو جائز؛ وإن كان اللبن أقل مما في ضرعها؛ لأن اللبن مكنون ليس بظاهر.
ذكر المعلى عن أبي يوسف في اللبن أنه لا يجوز أيضًا، وقال هشام: سألت أبا يوسف عن دورق عصير بدورق خل قال: لا بأس به، وأما دورق عصير بدورق.... لايجوز؛ لأن العصير لاينتقص إذا صار خلًا وينتقص إذا صار.... وروى أبو سليمان عن أبي يوسف في بيع العصير على خلاف رواية هشام، وذكر أبو سليمان في كتاب الحج عن محمد لابأس بالخبز قرص بقرصين يدًا بيد، وإن كان بعض ذلك أكثر من بعض؛ لأن ذلك قد خرج من الكيل، وليس مما أصله الوزن.
ذكر أبو الحسن الكرخي أن ثمار النخيل كلها جنس واحد، قال عليه الصلاة والسلام: «التمر بالتمر»، وهذا عام؛ ولأن الأصل متحد، والمقصود كذلك، وأما بقية الثمار، فثمرة كل نوع من الشجر جنس واحد كالعنب كلها جنس واحد، وإن اختلفت أنواعها، وكذلك الكمثرى كلها جنس واحد، وإن اختلفت أنواعها، وكذلك التفاح كلها جنس واحد حتى لم يجز بيع نوع من العنب متفاضلًا، وعلى هذا التفاح والكمثرى، ويجوز بيع الكمثرى بالتفاح متفاضلًا، وكذا بيع التفاح بالعنب متفاضلًا.
واللحوم معتبر بأصولها، فالبقر والجواميس جنس واحد لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا، وكذلك الغنم جنس واحد ضأنها ومعزها.
وزاد في (المنتقى): والضأن والمعز جنس واحد في اللبن واللحم، ولو باع لحم الغنم بلحم البقر متفاضلًا يجوز عندنا اعتبارًا بالأصول، وكذلك لو باع لبن الغنم بلبن البقر متفاضلًا يجوز، ويعتبر في اللبن الأصول أيضًا كما في اللحم.
وفي (نوادر ابن سماعة): عن أبي يوسف في لبن المخيض مع لبن الحليب إذا كان المخيض اثنان والحليب واحدًا لا بأس به، وإن كان المخيض واحدًا، والحليب اثنان فلا خير فيه من قبل أن الحليب فيه زيادة زبد.
وقيل أيضًا: فيما إذا كان الحليب اثنان فلا خير فيه من قبل أن الحليب فيه زيادة زبد.
وقيل أيضًا: فيما إذا كان الحليب اثنان إن كان الحليب بحيث لو أخرج زبده نقص من رطل فهو جائز، وإن كان لا ينقص فلا خير فيه.
وفي (نوادر بشر): عن أبي يوسف: أن الزبيب جنس واحد، وإن اختلفت ألوانه وأجناسه، وفيه أيضًا: لحوم الطير وما لا يوزن من اللحمان فلا بأس به واحد باثنين؛ لأنه لا يوزن، فإن كان في جنس منه يوزن فلا خير فيما يوزن منه إلا مثلًا بمثل، قال: وكل يصير لا يوزن فيه بأس بأن يباع هناك طابق بطابقين إنما أنظر إلى حال بلده في ذلك.
والحديد والرصاص والصفر والشبه أجناس لاختلاف المقاصد والاسم والصورة والمروي مع المروي جنسان مختلفان لاختلاف المقصود والصورة.
وكذلك الثوب المتخذ من القطن مع الثوب المتخذ مع الكتان، إما لاختلاف الأصل أو لاختلاف الصنعة على وجه أوجب اختلاف الاسم والمقصود، وكذلك الزبد مع الوداري جنسان مختلفان، ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح بيوعه، والمعنى ما ذكرنا.
وفي (المنتقى): ولا يصلح غزل قطن ابن بغزل قطن حسن إلا مثلًا بمثل القطن سواء، وإنما نفرق بينهما بالنسج، ولا بأس بغزل قطن بغزل قطن كتان واحدًا باثنين يدًا بيد.
وكذلك غزل خز بغزل قطن، وكذلك شعر بغزل صوف لا بأس به واحدًا باثنين يدًا بيد، والإلية واللحم جنسان يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا، وكذلك الإلية وشحم البطن جنسان وشحم الجنب من جنس اللحم وهو مع الألية، وشحم البطن جنسان، ولا يجوز بيع غزل القطن بالقطن متساويًا؛ لأن القطن ينقص بالغزل.
فهو نظير الحنطة مع الدقيق، والخل مع الزيت جنسان لاختلاف أصلها، وإذا كان أصلهما واحدًا، واختلف المضاف إليه كانا جنسين كالبنفسج مع.... ويجوز بيع قفيز سمسم مربى بقفيزي سمسم غير مربى، والزيادة بإزاء الرائحة؛ لأن الرائحة بمنزلة الزيادة في عينها، وقال أبو يوسف: إنما يعتبر الرائحة إذا كانت تزيد في وزنه بحيث لو خلص نقص؛ لأنه إذا كان بحال ينقص لو خلص نقص؛ لأنه علم أن ذلك زيادة في عينه، أما إذا كان لا ينقص لو خلص لم يكن ذلك زيادة في عينه فلا يعتبر.
وفي (المنتقى): وإذا باع مكوك سمسم مربى ببنفسج بخمس مكاييل سمسم غير مربى يدًا بيد يجوز، وإن كان المربى مثله في الكيل لا يجوز وكذلك سويق ملتوت بسمن أو محلى بسكر بسويق غير ملتوت وغير محلى.
وفي (المنتقى) عن أبي يوسف: أن الصوف والمرعزي جنسان لا بأس به واحدًا باثنين يدًا بيد، والصوف مع الشعر جنسان أيضًا، والقز مع الابريسم كالدقيق مع الحنطة، وعن محمد جواز بيع غزل القطن بالقطن متساويًا، وعن أبي يوسف: أنه لا يجوز إلا إذا كان القطن أكثر، وعلى هذا بيع الصوف بغزله.
وفي (البقالي): عن أبي حنيفة جواز التفاضل في الماء، وعن محمد خلافه، وعن أبي يوسف لا خير في الجبن باللبن؛ لأن الجبن لم يخرج عن حد الوزن كما خرج الخبز من حد الكيل والفلوس من حد الوزن، ولا بأس بالسمن بالجبن.
وفي (الأصل): وإذا باع حنطة قد أدرك في سنبلها بحنطة منقاة خرصًا لا يجوز.
قال شيخ الاسلام في (شرحه): إذا كانت الحنطة المنقاة مثل الحنطة في سنبلها أكثر أو أقل، أو لا يدري، أما إذا كانت أكثر يجوز قال عليه الصلاة والسلام: «الناس شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار»؛ والمراد من الماء المذكور في الحديث الماء الذي في الآبار والأنهار؛ لأن هذا الماء وجد بإيجاد الله تعالى في مكانه، فبقي على الإباحة على أصل الخلقة حتى يؤخذ في الجرار، فإذا أخذه وجعله في جرة، أو ما أشبهها من الأوعية، فقد أحرزه فصار أحق به، فيجوز بيعه وتصرفه فيه كالصيد الذي يأخذه، فأما بيع ما جمعه الإنسان في حوضه من الماء ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في شرح كتاب الشرب: أن الحوض إذا كان مجصصًا، أو كان الحوض من نحاس أو صفر جاز البيع على كل حال، فكأنه جعل صاحب الحوض محرزًا الماء بجعله في حوضه، ولكن بشرط أن ينقطع الجري حتى يختلط المبيع بغير المبيع، وإن لم يكن الحوض من الصفر أو النحاس، ولم يكن مجصصًا، فقد اختلف فيه على حسب اختلافهم في الجمد في المجمدة في الصيف على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
قال رحمه الله: والمختار في هذه المسألة أنه إن سلم أولًا على سوم البيع، ثم باع بعد التسليم جاز، وإن باع أولًا ثم سلم لا يجوز؛ لأن الحوض ينصب شيئًا من الماء، فيهلك بعض المبيع، فإذا كان البيع أولًا كان الهلاك قبل القبض، فتسقط حصته من الثمن، وقدر الهلاك مما لا يعرف، فتكون حصة الباقي من الثمن مجهولة، وإنها توجب فساد العقد.
ورأيت في موضع آخر إن كان صاحب الحوض ملأ الحوض من ساحة نهر لا يجوز بيعه؛ لأنه لم يصر محرزًا له بحوضه فإنما باع ما لم يملك وإن كان ملأه ماء بجرة، أو بالقربة جاز البيع؛ لأنه ملكه بالإحراز بالجرة أو بالقربة، فقد باع ما ملكه فجاز.
وأما بيع الجمد في المجمدة إن كان البيع في الشتاء وكان الجمد بحيث لا يذوب في ذلك الوقت ولا ينتقص يجوز، وإن كان البيع في الصيف، فقد أنكره بعض مشايخ بلخ، وقال: لا يجوز على كل حال.
وقال الفقيه أبو بكر الإسكاف: إن يسلم أولًا على سوم البيع، ثم باع بعد التسليم يجوز البيع، وإن باع أولًا، ثم سلم لا يجوز؛ لأنه في زمان الصيف يذوب بعض الجمد، فيهلك بعض المبيع، فإذا كان البيع أولًا كان الهلاك قبل التسليم، ولا يدري قدر الهلاك حتى يسقط حصة من الثمن، فيكون ثمن الباقي مجهولًا، وإنها توجب فساد المبيع، وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا كان التسليم أولًا.
كان الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يفتي بالجواز على كل حال لتعامل الناس، وكان الفقيه أبو نصر محمد بن محمد سلام البلخي يقول: يجوز البيع بعد التسليم وقبل التسليم إذا لم يتخلل بين البيع والتسليم مدة طويلة بأن سلم بعد البيع بيوم أو يومين، أما لو سلم بعد ثلاثة أيام لا يجوز؛ لأن قدر ما يذوب في المدة القصيرة ساقط الاعتبار فيما بين الناس، فصار وجوده والعدم بمنزلة، وعلى هذا أكثر مشايخ ما وراء النهر.
ثم إذا جاز البيع يثبت للمشتري خيار الرؤية إذا رآها حين وقع التسليم، فإن رآها بعد ما وقع التسليم، فإن وقع التسليم لتمام ثلاثة أيام لم يكن له خيار الروية، وإن وقع التسليم بعد ذلك يبقى خيار الرؤية إلى تمام ثلاثة أيام من وقت العقد.
ذكر الصدر الشهد رحمه الله في الباب الأول من بيوع (واقعاته) وفي كتاب الشرب: إذا باع الشرب وحده لا يجوز، وإذا باع الشرب مع الأرض يجوز، إذا باع أرضًا مع شرب أرض آخر، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل، وحكي عن الفقيه أبي نصر محمد بن محمد بن سلام: أنه يجوز.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله في (الكتاب): ولو قال: بعت منك هذه الأرض بألف درهم، وبعت منك شربها هل يجوز بيع شرب؟ اختلف المشايخ فيه، في شرب شيخ الإسلام: وإذا اشترى كذا كذا قربة من الفرات جاز استحسانًا، فإذا كانت القربة نفسها لتعامل الناس قيل: إنما يجوز إذا تبين مكان رفع نحو ما فكاه كنش؛ لأن.... أو أشباه ذلك.
وذكر الحسن بن زياد في (المجرد) عن أبي حنيفة في رجل اشترى من سقّا كذا وكذا قربة بدرهم من ماء دجلة على أن يوفيها في منزله كان جائزًا، إذا كانت قربة بعينها، وكذلك إذا قال: بعني كل راويتين من ماء دجله بدرهم على أن يوفيها في منزلي، وروى ابن أبي مالك عن أبي حنيفة أن هذا البيع فاسد لوجهين:
أحدهما: أن الماء ليس عنده.
والثاني: أن القربة وعاء إذا ضاعت لا يعرف ما مقدارها، وإذا قال لغيره: اسق دوابي كذا شهرًا بدرهم لم يجز، ولو قال: كل شهر كذا قربة فهو جائز إذا أراه القربة، ولو قال لغيره: أسقيك ملاء قرابك ماء ففتح له من نهره وسقاه فلا شيء له، ولو قال: اسقِ دوابك من نهري، أو من حوض كذا فذلك جائز.

.نوع آخر في جهالة المبيع أو الثمن:

جهالة المبيع أو الثمن مانعة جواز البيع إذا كان يتعذر معها التسليم، وإن كان لا يتعذر لم يفسد العقد كجهالة كيل الصبرة بأن باع صبرة بعينه، ولم يعرف قدر كيلها، وكجهالة عدد الثياب المعينة بأن باع أثوابًا معينة، ولم يعرف عددها، وهذا لأن الجهالة ما كانت مانعة لعينها، بل للإفضاء إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسليم ينعدم عند ذلك ما هو فائدة العقد، فإذا لم يكن مانعة من التسليم والتسليم، فقد انعدم المعنى الذي لأجله صارت الجهالة مفسدة للعقد، فينعدم الفساد.
قال محمد في (الجامع الصغير): رجل اشترى من آخر ثوبًا كل ذراع بدرهم، ولم يعلم قدر جملة ذرعان الثوب، فاعلم بأن هاهنا أربع مسائل:
إحداها: في العدديات المتفاوتة كالأغنام والبناءات.
وصورة المسألة فيها: إذا أشار الرجل إلى قطيع من الغنم أو إلى جراب هروي قال: بعتك كل شاة منها بعشرة، أو قال: بعتك كل ثوب منها بعشرة، فهذا على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يبين جملة عدد الأغنام والثياب، ولم يبين جملة الثمن بأن قال: بعت منك هذا القطيع، وهي مئة شاة كل شاة منها بعشرة، أو قال: بعتك هذا الجراب، وهي مئة ثوب كل ثوب بعشرة، ولم يبين جملة الثمن بأن لم يقل: بألف، وفي هذا الوجه يجوز البيع بإجماع؛ لأن المبيع صار معلومًا بالإشارة والتسمية وجملة الثمن أيضًا معلوم حالة العقد؛ لأنها لما بينا عدد الأغنام مئة وبينّا لكل غنم عشرة فكأنهما قالا: بعتك هذه الأغنام، وهي مئة بألف درهم كل غنم بعشرة، فالبيع معلوم، والثمن معلوم فيجوز.
الوجه الثاني: أن يبين جملة الثمن، ولم يبين عدد الأغنام بأن قال: بعتك هذه الأغنام بألف درهم كل غنم منها بعشرة، أو قال: بعتك هذا الجراب بألف درهم كل ثوب منه بعشرة، وفي هذا الوجه يجوز البيع أيضًا؛ لأن جملة الثمن صارت معلومة بقوله: ألف، وكذلك ثمن كل شاة صار معلومًا بقوله: كل شاة بعشرة، والمبيع صار معلومًا بالإشارة حيث قال: بعتك هذه الأغنام، فالاشارة إلى المبيع، أو إلى مكان المبيع كافية للأعلام، وإن كان لا يعلم ما هو وما مقداره كما لو قال: بعتك جميع ما في هذا البيت، بعتك جميع ما في كفي، فإن هذه الصورة يجوز البيع، ويصير المبيع معلومًا بالإشارة.
الوجه الثالث: إذا لم يبين جملة الثمن، ولا جملة الأغنام أو الثياب، وإنما بين حصة كل ثوبٍ بأن قال: بعتك هذا القطيع كل شاة منها بعشرة، أو قال: بعتك هذا الجراب كل ثوب منها بعشرة، وفي هذا الوجه لا يجوز العقد أصلًا أن يعلم عدد الأغنام في المجلس، فينقلب العقد جائزًا، وكان للمشتري الخيار إن شاء أخذ بما ظهر له من الثمن، وإن شاء ترك، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: العقد جائز في الكل، ولا خيار للمشتري إن كان قد رآه.
المسألة الثانية: في المكيلات والموزونات: صورتها: إذا أشار إلى صبرة وقال: بعتك هذه الصبرة كل قفيز منها بعشرة، فهو على ثلاثة أوجه أيضًا: إن بين عدد القفزان وبين ثمن كل قفيز إلا أنه لم يبين جملة الثمن، أو بين جملة الثمن، وبين ثمن كل قفيز إلا أنه لم يبين عدد جملة القفزان بأن قال: بعت منك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم، فالعقد جائز بالإجماع.
وإن بين ثمن كل قفيز ولم يبين عدد جملة القفزان ولا جملة الثمن بأن قال: بعت منك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم، فالعقد جائز عند أبي حنيفة في قفيز واحد، ولا يجوز فيما زاد على ذلك إلا أن يعلم عدد القفزان في المجلس، فيجوز البيع في الكل، وكان للمشتري الخيار، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: البيع جائز في الكل.
المسألة الثالثة: في العدديات المتقاربة: والجواب فيها كالجواب في المكيلات والموزونات.
لأن العدديات المتقاربة ألحقت بالمكيلات والموزونات، وصورتها: إذا قال الرجل لغيره: بعت منك هذه الجوزات كل جوزة بفلس.
المسألة الرابعة: في الذرعيات صورتها: إذا قال لغيره: بعت منك كل ذراع من هذه الدار بدرهم، أو قال: من هذا الثوب بدرهم، والجواب فيها كالجواب في الأغنام؛ لأن الذرعان من الدار الواحدة مما يتفاوت في نفسها من حيث القيمة، وكذلك الذرعان من الثوب الواحد مما يتفاوت في نفسها من حيث القيمة، فإن الذراع من مقدم البيت والثوب يكون أكثر قيمة من الذارع من مؤخر البيت أو الثوب، فصار الجواب فيها كالجواب في الأغنام من هذا الوجه.
فوجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه لو لم يجز هذا البيع إنما لم يجز؛ لأن جملة الثمن ليست بمعلومة الحال إلا أن طريق تحصيل العلم قائم بالرجوع إلى عدد الأغنام من غير مشقة، فإنه إذا عد الأغنام يصير جملة الثمن معلومة، والجهالة إذا كانت مشتركة يمكن رفعها من غير مشقة لا يفسد العقد كما لو باع بوزن هذا الحجر ذهبًا.
ولأبي حنيفة: إن كلمة كل إذا دخلت على ما لا يعلم نهايته يتناول الواحد من تلك الجملة كما في قوله: أجرتك هذه الدار كل شهر، وكما في قوله لامرأة الغير: كفلت لك عن زوجك نفقة كل شهر، وإذا تناول واحدًا من الجملة صار بائعًا شاة واحدة من القطيع وثوبًا من الجراب وذرعًا واحدًا من الثوب أو الدار وقفيزًا واحدًا من الصبرة وجوزًا واحدًا من الجوزات الكبيرة، إلا أن بيع شاة واحدة من القطيع، وبيع ثوب واحد من الجراب، وبيع ذراع من الثوب أو من الدار لا يجوز بيع قفيز واحد من الصبرة يجوز فكذا هاهنا.
وعبارة بعض مشايخنا لأبي حنيفة في المسألة: أنه لا وجه إلى تجويز البيع في الكل في العدديات المتفاوتة، وما ألحق بها؛ لأن ثمن الكل مجهول في الحال، ولا وجه إلى تجويز في واحدة منها، وإن كان ثمن الواحدة منها مجهولة في نفسها لكونها متفاوتة.
ألا ترى أنه لو باع واحدة من القطيع أو واحدًا من الجراب لا بعينها لم يجز.
فأما في المكيلات والعدديات المتقاربة إن تعذر تجويز البيع في الكل؛ لأن ثمن الكل مجهول أمكن تجويز البيع في واحدة؛ لأن ثمنها معلوم بالقسمة والواحدة منها معلوم أيضًا؛ لأنه غير متفاوت في نفسه؛ لأنه من ذوات الأمثال.
ألا ترى لو باع قفيزًا من الصبرة في الابتداء بثمن معلوم جاز ذلك كان القياس أن يجوز البيع في الثاني والثالث من القفزان مما لا يتفاوت في نفسها لكن تركنا القياس فيما زاد على الواحدة؛ لأنا لو عملنا بالقياس، وجوزنًا البيع في الثاني والثالث لزمنا تجويزه في الكل إذ ليس الثاني والثالث بأولى من الرابع والخامس؛ لأن الثاني والثالث تبع للكل كالرابع والخامس، فيؤدي إلى تجويز البيع في الكل مع أن ثمن الكل مجهول.
أما تجويز البيع في الواحد لا يؤدي إلى تجويز البيع في الثاني والثالث؛ لأن الأول يتصور بدون الثاني والثالث فتجويز البيع في الواحد لا يؤدي تجويز البيع في الكل فلهذا افترقا، وليس كما لو كان الثمن دراهم مشار إليها؛ لأن المشار إليه معلوم من كل وجه بالإشارة كما في جانب البيع.
ألا ترى أنه يمكن للمشتري أخذ المشار إليه من غير رجوع إلى شيء، ولا يمكن للبائع أخذ جميع الثمن هاهنا إلا بعد الرجوع إلى عد الأغنام، وكذا إذا أشار الحجر لأن الحجر معيار للدراهم؛ لأنها يوزن به فصارت الإشارة إلى معيارها كالإشارة إليها، وهاهنا لم وجد الإشارة الى جملة الثمن، ولا الى معيار؛ لأن القطيع ليس معيارًا للثمن؛ لأنه لا يوزن به، ولم يوجد تسمية جملة الثمن، فبقي جملة الثمن مجهولة إلا أن هذه جهالة يتوهم زوالها بعد الأغنام، فقلنا بفساد العقد للحال و.... علم عدد الأغنام في المجلس فأثبتنا الخيار للمشتري؛ لأن الثمن كان مجهول القدر عنده، وإنما صار معلومًا بعد الأغنام، فيخير كما لوكان المبيع مجهول الوصف، وزالت الجهالة بالرؤية، ويسمى هذا خيار بكشف الحال لو رضي به المشتري، فليس للبائع أن يأبى، ثم شرط في (الكتاب) بجواز هذا العقد إن علم عدد الأغنام في المجلس؛ لأن ساعات المجلس لها حكم ساعة واحدة في حق العقد، فصار كأنها إنشاء العقد في الحال، فكان طريق تجويز العقد طريق رافع للفساد، فأما ساعات بعد الافتراق عن المجلس مع ساعات المجلس ليس لها حكم ساعة واحدة ليجعل كأنها إنشاء العقد، فكان طريق تجويز العقد طريق رفع الفساد، ورفع الفساد إنما يجوز في موضع كان الفساد بسبب شرط في العقد كأجل مجهول، أو خيار يزيد على الثلاث لا في موضع الفساد في صلب العقد، والفساد هاهنا في صلب العقد.
وبعض مشايخنا قالوا: إن عند أبي حنيفة إذا علم عدد الأغنام في المجلس، أو بعد الافتراق عن المجلس ينقلب العقد جائزًا على كل حال، وهذا القائل يقول: ذكر المجلس في الباب وقع اتفاقًا.
وقال شمس الأئمة الحلواني: الأصح عندي أن على قول أبي حنيفة، وإن علم عدد الأغنام في المجلس ينقلب العقد جائزًا، ولكن إن كان البائع دائمًا على رضاه ورضي به المشتري ينعقد بينهما عقد مبتدأ بالتراضي.
وسيأتي مثل هذا فيما إذا باع شيئًا برقمه هذا الذي ذكرنا إذا قال: كل شيء بعشرة، أو قال: كل ذراع، أو قال: كل قفيز، فأما إذا قال: كل شاتين بعشرة، ففي الأغنام، وما أشبهها من العدديات المتفاوتة لا يجوز البيع عندهم في الوجوه الثلاث بأن بين عدد الأغنام، أو لم يبين جملة عدد الأغنام ولا جملة الثمن، وإنما قال: كل شاتين بعشرة، وهذا لأن ثمن كل شاة هاهنا غير معلوم بنفسها بل يحتاج إلى ضم شاة أخرى إليها، ثم يقسم العشرة إلى قيمتها ولا يعرف كيفية الضم أنه ضم الجيد إلى الجيد أو الرديء إلى الجيد والوسط، فيبقى ثمن كل واحدة مجهولًا، وهذه جهالة مفضية إلى المنازعة، فإنه إذ وجد بشاة أو ثوب عيبًا بعد القبض يرد المعيب خاصة، ويتمكن المنازعة بينهما في ثمنه، وكذا إذا هلك أحدهما قبل القبض أو تقايلا البيع في واحدة، أو استحق واحد، فعرفنا أن هذه الجهالة تفضي إلى المنازعة، فيفسد العقد بينهما.
وفي المكيل والموزون وما ألحق بهما من العدديات المتقاربة إن بين جملة عدد القفزان، ولم يبين جملة الثمن أو بين جملة الثمن، ولم يبين جملة عدد القفزان، فالبيع جائز عندهم جميعًا؛ لأن أكثر ما فيه أن كل قفير مبيع لا يعرف ثمنه إلا بانضمام غيره إليه إلا أن القفيز الذي يضم إليه مما لا يتفاوت في نفسه بخلاف الشاة على ما بينا.
ألا ترى أنه لو باع قفيزين من صبرة بعشرة كان جائزًا، ولو باع شاتين من قطيع بعشرة لا يجوز، وإن لم يبين واحدًا منهما، ولكن قال: بعتك هذه الصبرة كل قفيزين منها بعشرة بحيث أن تكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة: يجوز البيع في قفيزين منها بعشرة، ولا يجوز فيما زاد على ذلك إلا أن يعلم عدد القفزان في المجلس، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يجوز في الكل كما لو قال: كل قفيز منها بدرهم، وعلى هذا إذا قال: كل ثلاثة بكذا.
ولو أشار إلى نوعين حنطة وشعير، وقال: أبيعك بهاتين الصبرتين كل قفيز منها بدرهم صح العقد على قفيز واحد منهما في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز في الصبرتين.
وفي (المنتقى): رجل قال لآخر: بعتك هذه السفين الآجر كل ألف بعشرة دراهم، فالبيع فاسد؛ لأن البيع وقع على جميعه ولا يدري إن أصاب ببعضها عيب ما حصته؛ لأن الآجر متفاوت، ولو قال: أبيعك منه ألفًا بعشرة، فإن عد له الألف ثم البيع فيها، ولكل واحد منهما أن يمنع من البيع ما لم يعد له.
وفي (نوادر ابن سماعة): قال: سألت محمدًا عن رجل دنى إلى وقر بطيخ وقال: بكم عشر بطيخات من هذه البطيخات بغير عينها، فقال: بكذا، فاشترى، ثم عزله البائع بعشر بطيخات وحملها المشتري ومضي على ذلك القول، والبطيخ متفاوت قال: هو جائز استحسانًا بمنزلة رجل قال للقصاب: بعني من هذا اللحم كذا، فباعه منه وقطع له منه واحدة على ذلك، فالبيع جائز.
وكذلك الرمان وهذا لأن البائع لما عزل كان ذلك منه بمنزلة ابتداء العقد فان قبل المشتري، ثم البائع إلا أن قال: ثمة ولو أتى إلى مائة شاة وقال لصاحبها: بكم عشرة منها قال: بكذا، فاشترى فالبيع باطل.
قالوا: وعلى قياس مسألة البطيخ والرمان يجب أن يقال: إذا عزل البائع عشرة منها وحملها المشتري ومضى على ذلك أنه يجوز، وعلى قياس مسألة الشهادة يجب أن يقال في البطيخ والرمان: إذا لم يعزل البائع أو عزل، ولكن لم يقبل المشتري أنه لا يجوز، فإذًا لا فرق بين هذه المسائل.
وفي (المنتقى): رجل معه درهم قال لغيره: اشتريت منك هذا الثوب مثلًا بهذا، وأشار إلى ما معه من الدرهم، فباعه فوجده زيوفًا، فالبيع فاسد، رجل قال لغيره: بعت منك هذه المئة الشاة بهذه المئة الشاة كل شاة منها بشاة فالبيع فاسد.
رجل قال لآخر: بعت منك هذه البقرة، وهي حية كل رطل بدرهم، فقبضها فضاعت منه ضمن قيمتها أشار الى فساد هذا البيع، وعند محمد فيمن قال لآخر: بعتك هذه الشاة كل ثلاثة أرطال بدرهم توزن حية، فالبيع باطل؛ لأنها تنقص وتزيد، وكذلك إذا قال: وزنها خمسون رطلًا، فاشترى منه كل ثلاثة أرطال بدرهم، وكذلك إذا قال: بعت منك هذه الرمانة؛ لأنها قد تنقص.
وفي (القدوري): إذا قال الرجل لغيره: بعت منك هذا اللحم كل رطل بكذا، فالبيع فاسد في الكل عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: البيع جائز في الجميع، ولا خيار له.
والخلاف في هذا نظير الخلاف فيما إذا قال: بعت منك هذا القطيع كل شاة منها بدرهم، وإنما لم يجز البيع في رطل واحد عند أبي حنيفة بخلاف مسألة الصبرة؛ لأن القفزان من الصبرة لا يختلف، فيمكن تجويز العقد في قفيز واحد؛ لأن ثمنه معلوم، أما موضع اللحم من الشاة مما يختلف، فلا يمكن تجويز العقد في رطل واحد، ولو باع شيئًا بربح ده يازده، فالبيع فاسد حتى يعلم المشتري فيختار أو يدع.
وهذه رواية ابن رستم عن محمد، وهذا لأن الثمن مجهول عند المشتري جهالة يمكن بإعلام فقيل بالفساد في الحال لمكان الجهالة وقيل: الجواز إذا زالت الجهالة عملًا بالأمرين.
وروى ابن سماعة عن محمد: أن البيع جائز وتأويله أنه موقوف يحكم بالجواز عند ارتفاع الجهالة بدليل ما فسر أنه لو هلك ذلك الشيء، أو باعه، فالبيع فاسد ويلزمه قيمته، فهذا الدليل على أن العقد محكوم بفساده الى أن تزول الجهالة.
وقال أبو يوسف: إن مات البائع قبل أن يرضى المشتري، وقد قبض أو لم يقبض انتقض العقد؛ لأن رضى المشتري هاهنا بمنزلة الإجازة في العقد الموقوف، ثم في الإجازة يشترط قيام المتعاقدين والمعقود عليه كذا هاهنا.
ولو قبض المشتري أو باعه قبل العلم، أو مات المشتري، فالعتق والبيع جائز وعليه القيمة، أما جواز العتق والبيع فلحصولهما في ملك المعتق والبائع، أما وجوب القيمة فلتقرر الفساد، وبإزالة العتق عن ملكه قبل العلم بالثمن، ولو أعتق بعدما علم برأس المال، فعليه الثمن؛ لأن الجهالة زالت، فزال الفساد إلا أن المشتري كان له الخيار، وقد يسقط خياره بالإعتاق فلزمه الثمن.
ولو كان عتق عليه بحكم القرابة، ولم يكن علم بالثمن حتى قبضه، فعليه القيمة؛ لأنه لا فرق بين الإعتاق والعتق عليه فيما يرجع إلى فوات المحل فيقرر الفساد.
وفي (الأصل): إذا قال: أخذت هذا منك بمثل ما يبيع الناس فهو فاسد، ولو قال بمثل ما أخذ به فلان من الثمن، فإن علما مقدار ذلك وقت العقد فالبيع جائز، وإن لم يعلما فالعقد فاسد، فإن علما بعد ذلك إن علما وهما في المجلس ينقلب العقد جائزًا، أو يتخير المشتري؛ لأن ما يلزم المشتري من الثمن إنما يظهر للحال وهذا خيار يكشف حاله.
وقد مر نظير هذا فيما تقدم، وإذا اشترى شيئًا برقمه، فالعقد فاسد، فإن علم بعد ذلك إن علم في المجلس جاز العقد، وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني يقول: وإن علم بالرقم في المجلس ينقلب ذلك العقد جائزًا، ولكن إن كان البائع على ذلك الرضا ورضي به المشتري ينعقد بينهما عقد ابتداء بالتراضي.
وفي (نوادر بشر): عن أبي يوسف: رجل له على رجل عشرة دراهم، فقال لمن عليه العشرة: بعني هذا الثوب ببعض العشرة وبعني هذا الآخر بما بقي، فقال: نعم قد بعتك، فهو جائز، وإن قال: هذا ببعض العشرة قال: لا يجوز.
وقيل: ينبغي أن لا يجوز في الوجهين؛ لأن ثمن كل واحد منهما مجهول، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة، فإنه إذا وجد بأحدهما عيبًا بعد القبض يرد المعيب خاصة ويتنازعان في ثمنه.
وفي (المنتقى): إذا باع عدل بز برقمه، ثم باعه البائع قبل أن يتبين الثمن الأول، فبيعه جائز من الثاني، ولو أخبره بالثمن، فلم يختر أخذه حتى باعه البائع من غيره لم يجز بيعه الثاني، وأشار إلى الفرق، فقال: لأن في الفصل الثاني أوجب البيع الأول، وهو فيه بالخيار يعني الأول، يريد بهذا أن البيع قد صح من الأول لما أخبر البائع الأول بالرقم إلا أنه له خيار يكشف الحال، وإذا صح البيع من الأول صار العدل ملكًا للأول، فالبيع الثاني صادف ملك الأول، فلم يصح قال: وفي الفصل الأول لم يتبين له الثمن، فكان له الخيار، يريد به أنه إذا لم يتبين الثمن الأول فاسدًا، فيكون للبائع خيار نقضه، والبيع الثاني نقض الأول مقتضاه سابقًا عليه، فكان البيع الثاني مصادفًا ملك البائع فيصح.
ثم قال عقيب هذه المسألة: ألا ترى لو استهلكه بعدما أخبره كان عليه الثمن، ولو استهلكه قبل أن يخبره بالثمن، فعليه القيمة، ثم قال: كل بيع يكون على المشتري فيه القيمة فللبائع أن ينقضه وأن يبيعه قبل أن يسلمه، وكل بيع يكون على المشتري فيه الثمن، ويكون له فيه الخيار، فليس للبائع أن ينقضه، وإذا كان البيع بالتولية أو برقمه، ولا يعلم رأس ماله فهو بمنزلة البيع الفاسد في حكم الضمان، وفي حكم النقض إلا أنه يخالف البيع الفاسد من وجه. وفي البيع الفاسد إذا قال البائع: لا أتم البيع لا يجبر عليه فهاهنا لو قال البائع: لا أخبرك بالثمن يجبر عليه.
وفي (الإملاء) عن أبي حنيفة: إذا قال لغيره: بعتك هذا الطعام كل كر بمئة درهم، فإنما وقع البيع في كر فإن كال المشتري أو البائع الطعام، وعرف المشتري كيله كله فله أن يرضاه ويأخذه كله كل كر بمئة درهم، وليس للبائع أن يمتنع منه، وهذا رواية محمد عن أبي حنيفة، وروى أبو يوسف عنه: أنه لا يجوز العقد فيما زاد على الكر الا بتراضيهما؛ لأن العقد لما وقع فاسدًا لجهالة الثمن أوجب ذلك خيار الفسخ لكل واحد منهما، فلا يلزم إلا بتراضيهما، وإن لم يرضَ به المشتري بعد ما علم بكيله باع البائع ما بقي من الطعام من رجل آخر، ثم قال المشتري الأول بعد ذلك: رضيت بالطعام كله لم يلتفت إلى رضاه، وكان له من الطعام كر والباقي للمشتري الآخر.
وإذا باع جرابًا من بر قال: بعتك هذا الجراب بخمسين درهمًا، فالبيع فاسد في الكل، فإن عد البائع الثياب، وعرف المشتري عددها فقال: رضيته بذلك، فليس للبائع أن يمتنع عنه، وجاز البيع للمشتري.
وفي (المنتقى): رجل اشترى من آخر مئة جوزة كبيرة بثمن معلوم، فلما عدها له البائع قال: لا أرضى، فليس له في ذلك، ولو اشترى من قصاب كذا رطلًا من لحم بدرهم، فقطع القصاب اللحم ووزنه، وهو ساكت حين قطعه ووزنه، ثم قال: لا أرضى فله ذلك حتى يقول بعد الوزن: رضيت، قال: ولا يشبه هذا الجوز وأشار إلى العلة فقال: لأن الجوز شيء واحد والله أعلم.
روى الحسن عن أبي حنيفة فيمن قال لغيره: بعتك نصيبي من هذا الطعام، ولم يبين كم هو فالبيع باطل، وإن بيّنه بعد ذلك، وهو قول زفر.
وفي (المنتقى) عن محمد: إذا قال الرجل لغيره: بعتك نصيبي من هذه الدار، ولم يبين النصيب، وقول أبي حنيفة: أنه فاسد، وقال أبو يوسف: هو جائز والمشتري بالخيار إذا علم إن شاء أخذ، وإن شاء لم يأخذ، قال الحاكم أبو الفضل: قول محمد هاهنا بخلاف ما ذكر في (الأصل)، وروى الحسن ابن أبي مالك قال: سمعت أبا يوسف يقول عن أبي حنيفة: إذا باع نصيبه من هذه الدار، ولم يبين النصف، فالبيع فاسد إلا أن يتصادقا أنهما كانا يعرفان كم هو فيجوز، قال ابن أبي مالك: وهو قول أبي يوسف قال: وكان أبو حنيفة أولًا يقول: بيع نصيبه جائز؛ لأنه معلوم في نفسه، وإن كان مجهولًا عندهما.
ألا ترى أنه إذا ولاه ما اشترى ولم يخبره فالبيع جائز، وإن كان مجهولًا عندهما لما كان معلومًا في نفسه، ثم رجع أبو حنيفة رحمه فقال: بيع النصف فاسد، وهو قول أبي يوسف، ثم رجع أبو يوسف عن هذا القول، وقال: هو جائز بمنزلة التولية.
ذكر الحسن ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا قال الرجل لغيره: أبيعك من هذا البيض عشرة بكذا أن القياس فيه أن البيع فاسد مثل الرمان وأشباهه، ولكن أستحسن تجويزه.
وروى ابن مالك عن أبي أبي يوسف أيضًا: أن من قال لغيره: بعتك كر طعام، وعنده كر طعام، فالبيع على الكر الذي عنده، وكذلك إذا قال: بعتك جارية، وعنده جارية، فإن كان عنده جارية فالبيع فاسد، وفي شرح كتاب العتق إذا قال لغيره: بعت منك عبدًا لي بكذا، وله عبد واحد، إن قال: عبدًا لي في مكان كذا جاز البيع، وإن لم يقل: في مكان كذا قال شمس الأئمة الحلواني: عامة المشايخ على أنه لا يجوز البيع، قال رحمه الله: وهو الصحيح، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب العتاق.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): وإذا اشترى الرجل من آخر عشرة أذرع من مئة ذراع من الحمام، أو من الدار، فالبيع فاسد عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: البيع جائز إذا كانت الدار مئة ذراع.
وإذا اشترى عشرة أسهم من مئة سهم من الدار جاز البيع عندهم جميعا، ذكر الخصاف في هذه المسألة أن فساد البيع عند أبي حنيفة بجهالة الذرعان، فأما إذا عرف مساحتها يجوز عنده، وجعل هذه المسألة على قياس ما لو باع كل شاة من القطيع بعشرة إن كان عدد جملة الشياه معلومة يجوز عنده، وإن لم يكن معلومًا لايجوز، وذكر أبو زيد الشروطي أن على قول أبي حنيفة البيع فاسد، وإن علما ذرعان الجملة، وهكذا ذكر شيخ الاسلام في شرح بيوع (الأصل) وهو جواب (الجامع الصغير)، وهذا أصح مما قاله الخصاف.
فوجه قولهما: أن عشرة أذرع من مئة ذراع عشر الدار وربع عشر الدار جائز بالاتفاق كما لو باع عشرة أسهم من مئة سهم من الدار، فاللفظ مختلف، أما المعنى لايختلف، ولأبي حنيفة رحمه الله أن المبيع مجهول؛ لأن الذراع حقيقة اسم لخشبة تذرع بها الممسوحات ولكن يستعار لما يحله مجازًا، وما يحله عين؛ لأن الخشبة محل العين، أما لا يحل الشائع فلم يصح أن يستعار هذا لاسم الشائع، فكان الداخل تحت العقد موضعًا معينًا، فإذا لم يبين ذلك الموضع أنه من مقدم الدار أو من مؤخره وجوانب الدار متفاوتة في القيمة كان المعقود عليه مجهولًا جهالة تفضي إلى المنازعة بخلاف السهم؛ لأنه اسم بجزء شائع، ألا ترى أن ذراعًا من مئة ذراع، وذراعًا من عشرة أذرع سواء، وسهم من عشرة أسهم لايساوي سهما من مئة سهم فيظهر الفرق.
وذكر في بيوع (الأصل): إذا قال: بعتك ذراعًا من عشرة أذرع من هذه الدار، وجعله على الخلاف الذي ذكرنا قال شيخ الإسلام: وأجمعوا على أنه لو باع سهمًا من عشرة أسهم من هذه الدار أنه يجوز، ولم يذكر ما إذا باع عشرة أذرع من هذه الدار، ولم يقل: من مئة أذرع كيف الجواب فيه؟
على قولهما من مشايخنا من قال: يجوز، ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأن المعقود عليه، وإن كان مجهولًا إلا أن هذه جهالة مستدركة يمكن رفعها بأن يذرع الدار بأسرها، فإن كانت مئة ذراع علم أن المبيع عشرها، وإن كان خمسين ذراعًا علم أن المبيع خمسها.
ولو قال: بعتك ذراعًا من هذه الدار إن عين موضعه بأن قال: من هذا الجانب إلا أنه يميزه بعد، فالعقد منعقد غير نافذ حتى لا يجبر البائع على التسليم؛ لأنه باع مالًا معلومًا إلا أنه لايقدر على التسليم إلا بضرر يلحقه في غير ماتناوله العقد، وإن لم يعين موضع الذراع، على قول أبي حنيفة: لايجوز أصلًا.
وعلى قولهما: يجوز ويذرع الدار، فإن كانت عشرة أذرع صار شريكًا بمقدار عشر الدار، هكذا ذكر شيخ الإسلام، وذكر شمس الأئمة الحلواني: أن على قولهما اختلف المشايخ، والأصح: أنه لايجوز، وإذا باع سهمًا من الدار، ولم يعين موضعه ذكر شمس الأئمة الحلواني: أنه لايجوز إجماعًا، فعلى هذا يحتاج أبو يوسف ومحمد إلى الفرق بين الذراع والسهم.
والفرق: أن المعقود عليه مجهول في الفصلين جميعًا إلا أن في الذراع رفع الجهالة ممكن بذرع جملة الدار، أما في السهم غير مستدركة، فلا يجوز إجماعًا، وإذا قال: بعتك ذراعًا من هذا الثوب ولم يبين موضعه، أو قال: من هذه الخشبة ولم يعين موضعه، ذكر بعض مشايخنا: أنه على الخلاف الذي في مسألة الدار، وذكر بعض المشايخ: أنه لايجوز بالإجماع، فعلى قول هذا القائل يحتاج أبو يوسف ومحمد إلى الفرق بين الدار وبين الثوب.
وأشار شيخ الإسلام إلى الفرق فقال: في مسألة الدار الذراع أضيف إلى غير محله من حيث العرف والعادة؛ لأن الدار لاباع ذراعًا عرفًا وعادة، فلا يمكن العمل بحقيقة اسم الذراع في الدار، فيجعل كناية عن السهم من حيث الذراع اسم مقدار كالسهم، فصار كما لو باع سهمًا من هذه الدار، فأما في مسألة الثوب الذراع أضيف الى محله عرفًا وعادة، فأمكن العمل بحقيقة اسم الذراع، فلا يجعل كناية عن غيره.
قلنا: والذراع اسم للخشبة حقيقة ولما يحله مجازًا وما يحله يميز، فإذا لم يعين موضعًا يبقى المعقود عليه مجهولًا على نحو ما قلنا لأبي حنيفة رحمه الله فلم يجز لهذا.
وفي (المنتقى): إذا باع ذراعًا من خشبة أو ثوب من جانب معلوم، فالبيع فاسد، فان قطعه وسلمه إلى المشتري له أن يمتنع من قبوله.
وفيه أيضًا: عن أبي يوسف أن البيع جائز، وللمشتري الخيار إذا قطعه البائع إن شاء أخذ، وإن شاء ترك.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): رجل اشترى دارًا على أنها ألف ذراع بألف درهم، فوجدها أكثر فهي له كلها، وإن كان قال: كل ذراع بكذا، فوجدها أكثر، فالمشتري بالخيار إن شاء ردها وإن شاء أخذها، وزاد في الثمن بحساب ذلك، وإن وجدها أنقص، فهو بالخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك.
أصل هذا أن الذراع فيما يذرع يشبه الأوصاف، فإن الاسم لا يتغير بزيادة الذرع ونقصانه، بل يتغير وصفه، فيصير أطول وأقصر، ولكنه غير منتفع به يزداد القيمة بزيادته، فمن هذا الوجه أصل، فيجب العمل بالشبهين في حالين، وإذا لم يقابل الثمن بالذرعان يراعي فيه شبه الأوصاف، فيستحق تبعًا لاستحقاق الأصل، وإن لم يتناوله العقد كفناء الدار يستحق من غير ذكر.
وكجمال الجارية يستحق من غير ذكر، وإذا اعتبر وصفًا، فإن زاد سلم المشتري من غير خيار، وإن انتقص تخير المشتري، ولكن لا يحط شيء من الثمن كمالو سقط أطراف المبيع، فإن هناك يتخير المشتري، ولا يسقط شيء من الثمن كذا هاهنا.
وإذا قابل الثمن بالذرعان بأن قال: كل ذراع بكذا يراعي فيها شبه الأصالة، ويصير كل ذراع بمنزلة مبيع على حدة، فإن ازداد يخير المشتري؛ لأنه يقع تسوية ضرر؛ لأنه إن ازداد المبيع يلزمه زيادة ثمن، فيتخير المشتري، وإن انتقص تخير المشتري أيضًا؛ لأنه يقع تسوية ضرر؛ لأنه إن انتقص المبيع.
وعلى هذا إذا اشترى من آخر ثوبًا على أنه عشرة أذرع بكذا، ولم يبين حصة كل ذراع، أو بين ووجده أزيد بأن وجده أحد عشر ذراعًا، أو وجده تسعة أذرع، فالعقد جائز على كل حال غير أنه إذا لم يبين حصة كل واحد من الذرعان ووجده زايدًا سلمت له الزيادة مجانًا، ولو وجده ناقصًا لايسقط شيء من الثمن، ولكن تخير المشتري، وإن تبين حصة كل ذراع، ووجده زائدًا فله الخيار، إن شاء أخذه ولزمه حصة الزيادة، وإن شاء نقض العقد، والجواب في الخشب والأرض نظير الجواب في الأرض والدار؛ لأنه مذروع كالثوب، والدار.
في (المأذون الكبير): في باب بيع الكيل والوزن إذا قال: أبيعك هذه الدار على أنها أقل من ألف ذراع فوجدها كما قال، أو أكثر، فالبيع جائز؛ لأن المذروع في هذه الحالة شبيه الأوصاف، فكأنه اشتراها على أنها ضيقة، ومن اشترى دارًا على أنها ضيقة فوجدها كذلك، أو وجدها واسعة كان البيع جائزًا كذا هاهنا.
ومن هذه الجنس مسائل:
مسألة الذرعيات: وهي هذه، ومسألة في الكيليات والوزنيات.
وصورتها: رجل باع من آخر صبرة على أنها خمسون قفيزًا مثلًا، أو اشترى زيتًا على أنه خمسون مَنًّا، فوجده أزيد بأن وجده إحدى وخمسين أو أنقص بأن وجده تسعة وأربعين، فالبيع جائز، بين حصة كل قفيز ومَنّ، أو لم يبين؛ لأنه متى وجده أحدًا وخمسين والداخل تحت العقد خمسون صار مشتريًا خمسين قفيزًا من أحد وخمسين قفيزًا، وذلك جائز سمي لكل قفيز ثمنًا أو لم يسم؛ لأن الحنطة من ذوات الأمثال حتى يضمن مستهلكًا المثل من جنسها والحادي والخمسون الذي لم يدخل تحت العقد مما لا يتفاوت في نفسها حتى يصير الباقي مجهولًا، ومتى وجده تسعة وأربعين ولذلك البيع جائز؛ لأنه لو لم يجز لجهالة ثمن الباقي، وثمن الباقي معلوم، أما إذا تبين لكل قفيز ثمنًا فظاهر، وأما إذا لم يبين؛ فلأن القفزان لا تتفاوت في أنفسها فيقسم الثمن باعتبار عدد القفزان، فيصير حصة الذاهب معلومًا بيقين، وإذا صار حصة الذاهب معلومًا كان حصة الباقي معلومًا، ولهذه المسألة تفريعات لم يذكرها محمد رحمه الله في (الجامع الصغير) ولا في بيوع (الأصل).
فمن جملتها إذا قال لغيره: أبيعك هذه الحنطة بكذا على أنها أقل من كر، فاشتراها على ذلك، فوجدها أقل من كر، فالبيع جائز إلا رواية عن أبي يوسف رواها المعلى؛ لأن المبيع معلوم بالإشارة، ووجده على شرطه الذي سماه، والثمن معلوم بالتسمية فيجوز، وإن وجدها كرًا، أو أكثر من ذلك فالبيع فاسد؛ لأن البيع يتناول بعض الموجود، وهو أقل من الكر كما سمي وذلك مجهول؛ لأنه لا يدري أن المشترى أقل من الكر بقفيز أو قفيزين، وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة.
وكذلك إذا قال: على أنها أكثر من كر، فوجدها أكثر من الكر بقليل أو كثير، فالبيع جائز إلا رواية عن أبي يوسف رواها المعلى؛ لأنه وجدها على شرطه، والبيع يتناول جميعها، وإن وجدها أقل من كر أو كرًا فالبيع فاسد؛ لأنه لابد من إسقاط حصة النقصان من الثمن، وذلك غير معلوم وتشتبه تقع المنازعة، ولو قال: على أنها كر أو أقل من كر، فوجدها كرًا أو أقل من كر فهو جائز، ولو وجدها أكثر من كر، فكذلك البيع جائزًا؛ لأنه يصير مشتريًا كرًا من صبرة وذلك جائزًا، ولزم المشتري كر بجميع الثمن، والزيادة على الكر للبائع؛ لأنه لم يدخل تحت البيع.
ولو قال: على أنها كر أو أكثر، فالبيع جائز وجدها أكثر منه، أو أقل غير أنه إن وجدها كرًا أو أكثر، فذلك سالم للمشتري بجميع الثمن ولا خيار له، وإن وجدها انقص فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن لو قسم الثمن على الركام، وإن شاء ترك.
والوجه في ذلك أن البائع أدخل كلمة، أو بين مقدارين، فكان المراد أحدهما، فإذا وجده أنقص من كر لم يوجد واحد من المقدارين حتى يتعين مرادًا لابد لنا من إثبات أحد المقدارين، إما الكر أو الأكثر، فنقول: إثبات الكر أولى من إثبات أكثر من الكر؛ لأن في إثبات الكر تجويز العقد.
فإن اشترى من أخر حنطة على أنها كر، فوجدها أقل من الكر يجوز وفي إثبات الأكثر إفساد العقد فإن من اشترى من آخر حنطة على أنها أكثر من الكر، فوجدها أقل من الكر يفسد العقد، والعقد متى احتمل الصحة والفساد يحمل على وجه الصحة، فأثبتنا المقدار الذي منه يجوز العقد وهو الكر، وصار كأنه اشتراها على أنها كر، فوجدها أقل، وهناك يقسم الثمن على الفائت والقائم فكذا هاهنا هذه الجملة في (المأذون الكبير) في باب بيع الكيل والوزن، ولم يذكر ما إذا اشتراها على أنها كر، وينبغي أن يجوز البيع سواء وجدها كرًا أو أقل من الكر أو أكثر غير أنه إذا وجدها كرًا لزم المشتري ذلك من غير خيار، وإذا وجدها أكثر من الكر لزم المشتري قدر الكر من غير خيار ويرد الزيادة، وإذا وجدها أنقص يتخير المشتري إن شاء أخذ الموجود بحصته، وإن شاء ترك.
وعلى قياس هذه المسائل يخرج ما إذا اشترى عينًا معينًا في كرم معين على أنه كذا منًا، فوجده كذلك، أو أقل أو أكثر، ومسألة في العدديات المتقاربة ألحقت بالمكيل والموزون في ضمان الاستهلاك حتى ضمن مستهلكًا المثل من جنسها كالأغنام والثياب.
وصورتها: رجل اشترى عدل زطي على أنه خمسون ثوبًا، أو اشترى قطيعًا من الغنم على أنه خمسون شاة بكذا، فوجدها زايدًا بأن وجدها واحدًا وخمسين، أو وجد ناقصًا بأن وجدها تسعة وأربعين، فإن وجدها زايدًا، فالبيع فاسد سمي لكل واحد ثمنًا على حده بأن قال: كل ثوب بكذا، أو لم يسم؛ لأن المبيع مجهول جهالة يوقعهما في المنازعة؛ لأن المبيع خمسون ثوبًا، فما زاد على ذلك يجب رده على البائع، ولا يدري أي ثوب يرد على البائع، ولذا كان المردود مجهولًا.
وإن وجدها أنقص من ذلك إن لم يسمِ لكل ثوب ثمنًا فالبيع فاسد؛ لأن الثمن مجهول، وإن حصة الذاهب يوجب جهالة حصة الباقي، وهذا لأنه إذا لم يسمِ لكل واحد ثمنًا، فالثمن ينقسم باعتبار القيمة، ولا يدري قيمة الذاهب بيقين؛ لأنه لا يدري إن كان جيدًا أو وسطًا أو رديئًا، فكان حصة الذاهب مجهولًا والتقريب ما ذكرنا، فإذا سمى لكل واحد ثمنًا بأن قال: كل ثوب مثلًا بعشرة كان البيع جائزًا في الثياب الموجودة، وهي تسعة وأربعون؛ لأن المبيع معلوم والثمن.
كذلك أكثر مشايخنا على ما ذكر في (الكتاب): أن البيع جائز في الثياب الموجودة قولهما أما على قول أبي حنيفة، فالعقد فاسد في الكل؛ لأن العقد فسد في البعض بمفسد مقارن، وهو العدم والأصل عند أبي حنيفة أن العقد متى فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد يفسد في الباقي، وكان أبو الحسن قاضي الحرمين يروي عن أبي حنيفة أن العقد فاسد في الكل في هذا الفصل وقد ذكر محمد رحمه الله في (الجامع) مسألة تدل على هذا.
وصورتها: رجل اشترى ثوبين على أنهما مرويان كل ثوب بعشرة، فإذا أحدهما هروي والآخر مروي، وذكر أن البيع فاسد في الهروي والمروي جميعًا عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز في الهروي، والفائت في مسألة (الجامع) الصفة لا أصل الثوب، فإذا كان فوات الصفة في أحد البدلين يوجب فساد العقد في الكل على مذهبه، ففوات أحدهما من الأصل لا يوجب فساد العقد في الكل عنده أولى، بعض مشايخنا قالوا: لا بل ما ذكر من الجواب قول الكل، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، قال شمس الأئمة الحلواني: الصحيح عندي أن على قول أبي حنيفة: يفسد العقد في الكل، قال محمد رحمه الله: وعلى هذا إذا اشترى حنطة على أنها كر، فوجدها ببعض قفيرًا يفسد العقد في الباقي عند أبي حنيفة هو الصحيح قال رحمه الله: وعلى هذا إذا اشترى مئة جوزة كل جوزة بفلس، فوجد بعض الجوز خاويًا، فإن العقد لا يجوز.
في (الحاوي): ويتعدى الفساد إلى الباقي عند أبي حنيفة، ثم إذا جاز البيع في الثياب الموجودة ذكر أن المشتري تخير إن شاء أخذ كل ثوب بما سمي، وإن شاء ترك، وذلك لأن الصفقة تفرقت على المشتري قبل التمام، وإنه يوجب الخيار.
وذكر في (النوادر) أن من اشترى من آخر ثوبًا على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم، فوجده عشرة ونصفًا، أو تسعة ونصفًا أخذه بأحد عشرة درهمًا إن شاء، وعلى قول أبي حنيفة إن شاء رده، وقال محمد: إن وجده عشرة ونصفًا أخذه بعشرة ونصف إن شاء، وإن وجده تسعة ونصفًا أخذه بتسعة ونصف، وما قال محمد رحمه الله ظاهر؛ لأن من ضرورة مقابلة كل درهم بكل ذراع مقابلة نصف درهم بنصف ذراع، وأبو يوسف يقول: لما صح الشرط صار كل ذراع في حكم المقابلة كثوب على حدة بيع على أنه ذراع، فإنه إذا وجده أنقص أسقط شيء من الثمن، ولكن يثبت الخيار كذا هاهنا، وما قاله أبو حنيفة أصح؛ لأن الذراع وما دونه في حكم الصفة على ما مر.
وإنما يعتبر أصلًا بقضية مقابلة الثمن، والمقابلة مقدرة بذراع، فإذا عدم الذراع لم يثبت جهة الأصالة، فبقيت العبرة لكونها صفة، فصار زيادة نصف ذراع بمنزلة زيادة صفة الجودة، فيسلم له من غير شيء، وصار نقصان نصف ذراع بمنزلة تسعة أذرع جيدة فيتخير.
ومن المتأخرين من قال: ما ذكر من الجواب في (الكتاب) في فصل الثوب في القميص والسراويل والعمائم والأفنية أما إذا اشترى كرباسًا لا يتفاوت جوانبها على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم، فإذا هو أحد عشر لا يسلم له الزيادة؛ لأن هذا الكرباس في معنى الموزون والمكيل، وإن كان متصلًا بعضها ببعض لكن ليس في الفصل ضرر، فيصير بمنزلة اعتبار خفيفة كالموزون لما كان لا يتمكن فيه العيب بتميز البعض عن البعض اعتبر كل قفيز أصلًا فكذا هاهنا، وعلى هذا إذا باع ذراعًا من هذا الكرباس، ولم يعين موضعه يجوز كما في الحنطة إذا باع قفيزًا منها.
قال محمد في (الجامع): إذا اشترى الرجل من غيره زق زيت بمائة درهم على أن له الزق وما فيه من الزيت على أن وزن ذلك كله مئة رطل، فوزن ذلك فوجد كله تسعين رطلًا الزق من ذلك عشرون رطلًا، والزيت سبعون، فإن النقصان من الزيت خاصة، فيقسم الثمن على قيمة الظرف، وعلى قيمة ثمانين رطلًا من زيت، فما أصاب الزيت يطرح ثمنه، ويجب الباقي، فكان للمشتري الخيار فيما بقي إن شاء أخذ بما قلنا، وإن شاء بما ترك، فقد جعل النقصان من الزيت خاصة.
وعلل في (الكتاب): مما يزيد وينقص، والزق مما لا يزيد ولا ينقص، ومعنى هذا الكلام أن الزيت لما كان يزيد وينقص لو صح صرفنا النقصان إلى الزيت احتمل كلامه الصدق بأن يجعل كأن الزيت وقت البيع كان ثمانين رطلًا، والزق عشرين، فجملته مائة، ثم انتقص من الزيت عشرة أرطال قبل القبض، أما لو صرفنا النقصان إلى الزق، وأنه لا يحتمل الزيادة والنقصان لا يمكن حمل كلامه على الصدق إذ لا يمكن ان يجعل كأن الزق ثمانون رطلًا، ثم صار عشرين فصرفنا النقصان إلى الزق حملًا لكلامهما على الصحة، قال أكثر: مشايخنا ينبغي أن يفسد العقد في الكل عند أبي حنيفة.
وقيل: لا يفسد عنده أيضًا، وقد مر ذلك من قبل، وإن وجد المشتري الزق ستين رطلًا، والزيت أربعين رطلًا، فإن الزق لا يبلغ ذلك القدر في مبايعات الناس كان للمشتري الخيار، إن شاء أخذ الكل بكل الثمن، وإن شاء ترك الزق إذا لم يبلغ ذلك المقدار في مبايعات الناس يتمكن الخلل في الرضى فيثبت له الخيار لتمكن الخلل في الرضا.
وإن وجد المشتري الزق مئة رطل، والزيت خمسين رطلًا كان البيع فاسدًا؛ لأنه باع الزق مع ما يكمل مئة رطل من الزيت، وذلك الزيت معدوم عند كون الزق مائة، وهذا الجواب لا يشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن عنده فساد العقد في البعض بمفسد مقارن يوجب فساد العقد فيما بقي، وإنما يشكل على قولهما.
والوجه لهما: أنه لما قابل الثمن بالزق وبما يكمل مئة رطل من الزيت لابد وأن يضم إلى الزق شيئًا من الزيت لا لإدخاله في العقد لكن ليقسم الثمن عليهما حتى يظهر حصة الزق، والقليل يصلح لذلك، والكثير يصلح أيضًا، وليس البعض أولى من البعض، فكان ثمن الزق مجهول الثمن يوجب فساد العقد.
ولو وجد وزن الزق عشرين رطلًا، ووزن الزيت مئة رطل لزم المشتري الزق، وثمانون رطلًا من الزيت بجميع الثمن، ويرد الباقي على البائع؛ لأنه اشترى الزق، وقدر ما يكمله مئة رطل من الزيت وذلك قدر ثمانون، والوزن في الزيت معتبر، فكانت الزيادة على مال البائع، فيرد عليه كما لو اشترى الزيت وحده على أنه ثمانون رطلًا فوجده مئة رطل.
وكذلك لو كان الزق على حدة، والزيت على حدة، فاشتراها جملة كان الجواب كما قلنا؛ لأنا صرفنا الزيادة والنقصان إلى الزيت للمعنى الذي ذكرنا، وذلك المعنى لا يتفاوت بينما إذا كان الظرف وعاء لما ضم إليه من الزيت أو لم يكن.
ولو اشترى زيتًا في ظرف، وسمنًا في ظرف آخر، فاشتراهما بغير ظرف على أن يكون ذلك كله مئة رطلًا، والزيت ستين، فإنه يرد من الزيت على البائع عشرة أرطال، ويطرح من ثمن السمن مقدار عشرة أرطال من السمن، وإنما كان هكذا؛ لأنه أضاف الوزن إليهما، وكل واحد منهما يحتمل الزيادة والنقصان، وانقسم عليهما نصفين، فإذا وجد أحدهما أزيد، والآخر أنقص، رد الفضل، وسقط حصة النقصان من الآخر بخلاف المسألة الأولى، فإن الوزن وإن أضيف إلى الزق والزيت إلا أن أحدهما قابل للزيادة والنقصان، وهو الزيت، والوزن فيه معتبر، فكان صرف النقصان إلى ما يحتمله، وهو موزون حكمًا أولى.
وكذلك إذا اشترى حنطة في جوالق، وشعيرًا في جوالق آخر بغير الجوالق على أن الكل مئة مَنّ فهو على هذا، وكذلك إذا أضاف المئة إلى ثلاثة أصناف المكيلات دخل تحت العقد من كل صنف ثلث المئة لما قلنا والله أعلم.

.نوع آخر في بيع الأشياء المتصلة بغيرها، وفي البيوع التي فيها استثناء:

قال محمد: ولا يجوز شراء ألبان الغنم في ضرعها كيلًا ولا مجازفة بدراهم، أو غير ذلك إن كان مجازفة فلوجهين:
أحدهما: أن فيه غرر، فإنه لا يدري ما في الضرع أنه لبن أو دم أو ريح.
والثاني: أن البيع يتناول اللبن الموجود حالة العقد لا ما يحدث، فإنه يحدث ساعة فساعة فما يحدث بعد البيع يختلط بالمبيع خلطًا يتعذر تمييزه، فيصير قدر المبيع مجهولًا جهالة تفضي إلى المنازعة مكايلة، فالمعنى الأول، وكذلك لا يجوز بيع الولد في البطن؛ لأن فيه غررًا، فإنه لا يدري أن ما في البطن ريح أو ولد، وكذلك لا يدري أنه حي أو ميت.
ولو باع الحنطة في سنبلها جاز بخلاف الولد في البطن واللبن في الضرع، ولا فرق بينهما من حيث الصورة؛ لأن وجود الحنطة في السنبل ثابت من حيث الظاهر، وإذا لم يكن بالسنبل آفة، وكذا وجود الولد في البطن، ووجود اللبن في الضرع ثابت من حيث الظاهر إذا لم يكن الانتفاخ لعلة.
وإنما جاز الفرق؛ لأن في الوصفين الموجود وإنما كان ثابتًا إلا أنه بعد ما يثبت الوجود من حيث الظاهر تمكن في الولد واللبن غررًا آخر، وهو العذر في كونه مالًا، فإنه لا يدري أن الذي في البطن حي أو ميت، ولا يدري أن في الضرع لبن أو دم، وفي السنبلة متى يثبت الوجود من حيث الظاهر لا يتمكن العذر في كونه مالًا أو غير مال؛ لأن الحنطة على أي صفة ما كانت كان مالًا.
هذا إذ باع حنطة في سنبلها، فأما إذا باع حنطة مكايلة، وله حنطة في سنبلها جاز البيع أيضًا؛ لأن الحنطة أيضًا موجودة في ملكه.
ولو اشترى تبن تلك الحنطة قبل الكدس لا يجوز، وكذا بيع الصوف على ظهر الغنم لا يجوز؛ لأن فيه غررًا؛ لأنه يحدث ساعة فساعة، وما يحدث ملك البائع، فيختلط المبيع بغير المبيع على وجه يتعذر التمييز ولا يدري قدر ما دخل تحت العقد، فيصير المعقود مجهولًا، وبعض مشايخنا قالوا: ما ذكر من الجواب قول محمد أما على قول أبي يوسف: ينبغي أن يجوز البيع على قياس مسألة ذكرها في كتاب الصلح.
صورتها: إذا ادعى الرجل في يد رجل غنمًا، فصالح من في يديه الأغنام على صوف على ظهرها جاز الصلح عند أبي يوسف خلافًا لمحمد، ومنهم من قال: ما ذكر من الجواب في البيع قول الكل، وهذا القائل يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف بين مسألة البيع وبين مسألة الصلح.
والفرق: أن طريق جواز الصلح في تلك المسالة استيفاء بعض الحق وترك البعض، فأمكن تجويز هذا الطريق؛ لأن الصلح يجوز بدون الحق، وإنما يتحقق التجوز بدون الحق باستيفاء البعض وترك البعض، فأما البيع فتمليك ابتداء، والصوف على ظهر الغنم لا يقبل التمليك ابتداء.
وقد ذكرنا قبل هذا أن بيع شاة على ظهرها صوف بصوف منفصل بطريق الاعتبار جائز بلا خلاف، وبدون الاعتبار على الخلاف عند بعض المشايخ، وإنما قوائم الخلاف، وسعف النخل، اختلف المشايخ فيه منهم: من لم يجوز بيعه، ومنهم: من جوز بيعه، وذكر أبو الحسن الكرخي في كتابه جوازه، وروي الحسن بن زياد عن أصحابنا جوازه، ومن لم يجوزه من المشايخ اختلفوا فيما بينهم في العلة، بعضهم قالوا: لأنه يزيد ساعة فساعة، فيختلط المبيع بغير المبيع على وجه يتعذر تمييزه، فكان نظير بيع الصوف على ظهر الغنم، وبعضهم قالوا: لأن موضع القطع مجهول، ومن جوز بيعه من المشايخ يجيب عن الأول ويقول: بأن القوائم تزيد من الأعلى.
ألا ترى أنا إذا جعلنا على موضع القطع علامة، فإذا مضى زمان فالعلامة لا تعلو بل يبقى في موضعه، فتكون الزيادة حاصلة من ملك المشتري بخلاف الصوف؛ لأن الصوف ينمو من أسفله، ألا ترى أنك إذا حصفت أسفله، ومضى زمان فالحصاف يعلو، فالزيادة إنما يحدث من ملك البائع، فيكون للبائع وقد اختلط بالمبيع، ولا يدري قدره، فيصير قدر المبيع مجهولًا، ويجيب عن الثاني، ويقول: إن كان موضع القطع مجهولًا، فهذه جهالة لا توقعهما في المنازعة، وإذا باع الصوف على ظهر الشاة، ثم إن البائع جز الأصواف، واختار المشتري أخذها بالبيع، روى بشر عن أبي يوسف أنه ليس ذلك له إلا أن يستقبل البيع عن تراض بينهما.
وروى هشام عن محمد هذه المسألة بعبارة أخرى فقال: إن ينفذه البائع دفعه إلى المشترى لم يجز، ولا يجوز بيع الؤلؤة في الصدف.
وروي عن أبي يوسف: أنه يجوز؛ لأن الصدف لا ينتفع به إلا بالشق، فأمكن تسليم المعقود عليه من غير ضرر، وجه ظاهر الرواية: أنه لا يمكن المعقود إلا بالشق، والشق شيء زائد لم يوجبه العقد، وإذا باع حب قطن في قطن بعينه، أو باع نوى تمر لا يجوز، وأشار أبو يوسف إلى الفرق بين هذا وبينما إذا باع الحنطة في سنبلها، فقال: لأن الغالب في السنبل الحنطة ألا ترى أنك تقول: هذه حنطة وهي في سنبلها، ولا يقول: هذا حب وهو في القطن؟ وإنما يقول: هذا قطن وكذلك في التمر.
وفي (نوادر هشام) عن محمد: إذا باع البذر الذي في البطيخ ممن يريد البذور، ورضي صاحب البطيخ أن يقطع له البطيخ، فالبيع باطل.
وكذلك إذا باع خد السمسم وزيت الزيتون لا يجوز، فإن سلم البائع ذلك لم يجز هكذا ذكر القدوري في (شرحه) قال: ولا يشبه هذا الجذع، يريد به أن من باع الجذع في السقف لا يجوز، ولو نزعه البائع وسلمه إلى المشتري جاز البيع.
والفرق: أن الجذع غير مال في نفسه، وإنما ثبت الاتصال بينه وبين غيره تعارض إلا أنه عد عاجزًا حكمًا لما فيه إفساد بناء غير مستحق بالعقد وفيه ضرر، فإذا قلع والتزم الضرر زال المانع، فأما خد السمسم وزيت الزيتون فهو معدوم، فلا يكون محلًا للبيع وبذر البطيخ والنوى في التمر، وإن كان موجودًا إلا أنه متصل به اتصال خلقة، فكان بائعًا له فكان العجز عن التسليم هناك معنى أصليًا؛ لأنه اعتبر عاجزًا حكمًا لما فيه من إفساد شيء غير مستحق بالعقد.
وفي (نوادر ابن سماعة) قال: سألت محمدًا عمن باع فصًا في خاتم أوجذعًا في سقف، وذلك لا ينتزع لا بضرر أيملك المشتري، أو هو موقوف لا يملكه المشتري ما دام للبائع فيه خيار إن شاء سلم، وإن شاء لم يسلم، أشار الى ما قبل القلع، فإذا صار بحال لا يقدر البائع فيه على الامتناع من دفعه ملكه المشتري، فإن لم يخاصم المشتري في ذلك حتى باع البائع الخاتم بأسره، أو باع البيت بأسره من إنسان آخر، ودفعه إليه، قال محمد رحمه الله: بيع البائع ثانيًا ينقض بيعه أولًا.
قلت: أرأيت إن باعني رجل فصًا في خاتم، أو مسمار في باب، أوجذعًا، ثم دفع إلي الخاتم بأسره، أو دفع الباب، أو البيت بأسر،ه فهلك في يدي، قال محمد: القياس: أن لا يكون قابضًا لما أشرت، ويهلك من مال البائع، ولا أعلمه إلا قول أبي يوسف: أنه لا يكون قابضًا حتى يدفعه إليه مفصولًا مخلصًا.
وذكر في (المنتقى): أصلًا من جنس هذه المسائل قال: كل شيء كنت أجبر البائع على دفعه الى المشتري فقبضه على ذلك، فضاع لزمه وكل ما لم أجبره على دفعه اليه لا يكون قابضًا، ولا ضمان عليه إذا هلك.
بيانه: مسألتنا هذه إذا كان الفص لا ينزع إلا بضرر لا يجبر البائع على دفعه، فإذا دفعه إليه مع الحلقة وضاع فلا ضمان، وإذا كان الفص ينزع من غير ضرر يجبر على دفعه إليه مع الحلقة، ثم ضاع من يده، فقد لزمه البيع، وعليه ثمنه، ولا ضمان عليه في الحلقة، وكذلك أجناسه.
قال ابن سماعة: قلت لمحمد: أرأيت إن اغتصبت جذعًا فسقفت به بيتًا أو اغتصبت آجرًا فبنيت به، أو اغتصبت مسمارًا فجعلته في باب، ثم أني بعت البيت، أو الباب، أو الدار، يجوز البيع في ذلك، وإذا علم المشتري بذلك أيكون له الخيار في رد الدار والبيت والباب؟ قال: البيع جائز، وليس للمشتري فيه خيار؛ لأن المغصوب منه لا يقدر على ذلك.
روى إبراهيم عن محمد في رجل إذا نظر إلى ألف مَنٍ قطن، فقال: قد اشتريت من حليج هذا القطن مئة مَنّ قال: هذا فاسد.
وعنه أيضًا: فيمن اشترى ذراعًا من خشبة، أو من ثوب من جانب معلوم أن البيع فاسد، فإن قطعه وسلمه إلى المشتري له أن يمتنع من قبوله، وله أن يفسخ البيع قبل أن يسلم إليه البائع، وعن أبي يوسف في هذه الصورة إن البيع جائز والمشتري بالخيار، إذا قطع البائع ذلك له إن شاء أخذه، وإن شاء ترك.
وعن محمد رواية ابن سماعة إذا اشترى الرجل من آخر نصف الثوب من أحد الطرفين، أو نصف الخشبة من هذا الرافض أنه فاسد، فإن قطعه البائع فهو جائز ويدفعه إلى المشتري، وله أن يمتنع.
قال هشام: قلت لمحمد: إن كان لرجل شاة مذبوحة، فاشترى رجل كروشها، أو مسلخوها فهو جائز، والسلخ وإخراجه على البائع وللمشتري الخيار إذا رآه، ولو كانت بطيخة مكسورة كانت بمنزلة الشاة المذبوحة يجوز بيع بذرها.
وفي (الأصل): إذا اشترى من آخر كذا قيمانًا بعينه.
من هذه الصبرة لا يعرف قدره بأن قال: اشتريت منك من هذه الصبرة بهذا الزنبيل، ولا يعرف كم يسع في الزنبيل، أو قال: بوزن هذا الحجر، ولا يعرف وزن الحجر جاز يدًا بيد شرط في (الأصل) أن يكون يدًا بيد.
وفي (القدوري) لم يشترط ذلك وجعل الجواب جواب المشهور من الرواية.
وفي (المنتقى): رجل اشترى من آخر طعامًا على أن يكيله بزنبيله، أو إناء يشبه الزنبيل ليس بمكيال، فقال: اشتريت منك ملأ هذا من هذه الصبرة بكذا أن ذلك لا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن هذا الإناء لا يعرف مملوءه كما يعرف المكيال، فليس هذا بمكايلة ولا مجازفة، معناه: ليس هذا بيع مكايلة ولا بيع مجازفة قال ثمة: وكذلك إذا اشترى شيئًا موزونًا، واشترط وزن صخرة أو حجر لا يعرف وزنه، فهو مثل هذا الإناء، ثم رجع أبو يوسف عن هذا، وقال: إذا كان الإناء لا يتسع إذا حشي فيه الشيء الذي يكال به أنه يجوز.
وروى إبراهيم عن محمد: إذا اشترى ملأ هذا الجراب بدرهم لم يجز؛ لأن الجراب مما يتسع ويضيق، وكذلك الزنبيل قال: إلا أن يكون الزنبيل معرًا يابسًا لا يتسع، فيجوز البيع به وقيل: ما ذكر في (الأصل)، وفي (القدوري) محمول على ما إذا كان الإناء من خزف، أو حديد، أو خشب، أو ما أشبه ذلك مما لا يحتمل الزيادة والنقصان، أما إذا كان مما يحتمل الزيادة والنقصان كالزنبيل والجراب والغرارة لا يجوز البيع.
مسائل الاستثناء: ذكر القدوري في (شرحه): إذا باع حمله واشتثنى منه شيئًا، فإن استثنى ما جاز إفراده بالعقد جاز الاستثناء نحو أن يستثني جزءًا مشاعًا، وما لا يجوز إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه كما لو استثنى عضوًا من الشاة، وهذا لأن الاستثناء استخراج ما تناوله الكلام في حق الحكم، فإنما يصح في محل يمكن إثبات حكم الكلام فيه مقصودًا.
ذكر ابن سماعة في (نوادره) عن محمد: إذا قال لغيره: أبيعك هذه الدار إلا طريقًا فيها من هذا الموضع إلى باب الدار وصف طوله وعرضه، وشرط ذلك لنفسه أو لغيره، فالبيع جائز، والثمن الذي سمى كله ثمن ما بقي من الدار سوى الطريق؛ لأنه هذا شيء استثناه من المبيع لا حصة له في الثمن.
قال ثمة: ألا ترى أن من قال لآخر: أبيعك هذا العبد على أن لي ربعه، فقبل المشتري البيع كان له ثلاثة أرباع العبد بثلاثة أرباع الثمن، ولو قال في بيع الدار: على أن للبائع فيها طريقًا، ووصف طوله وعرضه لا يجوز ذكر هذا الفصل في (العيون).
وفيه أيضًا: إذا قال لغيره: أبيعك هذه الدار بعشرة آلاف درهم على أن لي هذا البيت، فالبيع فاسد، ولو قال: إلا هذا البيت جاز البيع بجميع الثمن، وذكر شمس الأئمة في شرح كتاب القسمة أن بيع زفت الطريق على أن يكون للبائع حق المرور فيه جائز البيع بخلاف بيع حق المرور في رواية فإنه لا يجوز، وبيع السفل على أن يكون للبائع حق قرار العلو جائز.
وفي (الأمالي) عن محمد: إذا قال الرجل لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم إلا نصفه بخمسمائة درهم، فالبيع جائز في جميع العبد بألف وخمسمائة، وكذلك لو قال: إلا نصفه بمائة درهم، فالعبد كله للمشتري بألف درهم ومائة درهم.
الحسن بن زياد في كتاب الاختلاف عن أبي يوسف وزفر إذا قال لغيره: بعتك هذه الدار بألف درهم إلا مائة ذراع، فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف: البيع جائز، والمشتري بالخيار إذا علم ذراع الدار، فإن شاء كان البائع شريكًا معه في الدار بالمائة الذراع، وإن شاء ترك.
ولو قال: أبيعك هذا الطعام بألف إلا عشرة أقفزة منها فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: البيع جائز، والمشتري بالخيار إذا عزل منه العشرة الأقفزة، فإن شاء أخذ ما بقي بما سمي من الثمن، وإن شاء ترك.
وروى بشر عن أبي يوسف: إذا قال لغيره: أبيعك هذه المائة الشاة بمائة درهم على أن لي هذه الشاة لشاة بعينها فالبيع فاسد، وكذلك لو قال: ولي هذه الشاة، ولو قال: إلا هذه الشاة، كان ما بقي مائة درهم، ولو قال: هذه المائة لك بمائة درهم إلا نصفها، فإن النصف بمائة درهم، ولو قال: لي نصفها كان النصف بخمسين درهمًا.
وفي (الأمالي) عن محمد: إذا قال: له بعتك هذا العبد بألف درهم أن لي نصفه بثلثمائة درهم، أو أو بستمائة درهم، أو قال: بثلث الثمن، أو قال: بمائة دينار، فالبيع فاسد في هذا كله، وهذا بمنزلة رجل قال لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم على أن نصفه بيعًا منك بثلثمائة درهم، أو بمائة دينار، أو قال: بحصة من الثمن، فالبيع جائز في جميع العبد، ويكون نصفه بتسعمائة، ونصفه بثلثمائة.
وكذلك لو قال: بعتك هذين العبدين بألف درهم على أن هذا لك بثلاثمائة، أو قال: على أن هذا بثلاثمائة درهم، فالبيع جائز منهما بألف درهم، والعبد الذي عنيه بثلاثمائة هو بثلاثمائة، والعبد الآخر بباقي الألف.
ولو قال: بعتك هذا العبد بألف درهم على أن نصفه بمائة دينار، أو قال: على أن نصفه لك بيعًا بمائة دينار، وإنما هذا بمنزلة رجل قال لغيره: بعتك هذا العبد على أن نصفه مردود علي أني لابيع فيه، والنصف المردود بيع لك بمائة دينار.
ولو قال: بعتك هذين العبدين بألف درهم على أن هذا العبد بعينه منهما لك بمائة دينار، ففي قياس من قول أبي حنيفة البيع فيهما جميعًا باطل؛ لأن حصة الباقي من الألف مجهول، وقال محمد: يجوز البيع في الذي سمي بمائة دينار، ولا يجوز البيع في الآخر والله أعلم.

.نوع آخر:

في البيع على شيئين أحدها لا يجوز البيع فيه إذا جمع بين عبدين في البيع، ثم ظهر أن أحدهما حر، فإن لم يبين حصة كل واحد منهما من الثمن، فالعقد فاسد في الكل بالإجماع، وإن بين حصة كل واحد منهما من الثمن، فكذلك الجواب عند أبي حنيفة يفسد العقد في الكل، وعندهما يجوز العقد في الثمن.
وكذلك لو اشترى دنين من خل، ثم ظهر أن أحدهما خمر، إن لم يبين حصة كل دن من الثمن، فالعقد فاسد في الكل وإن بين، فكذلك عند أبي حنيفة يفسد العقد في الكل، وعندهما يجوز العقد في الخل، وكذلك إذا اشترى مسلوخين وثم ظهر أن أحد المسلوخين ميتة، فهو على التفصيل والخلاف الذي ذكرنا، فوجه قولهما أن الفساد موجب المفسد، فيتقدر بقدر المفسد، وأكد ذلك بمسائل منها:
أنه إذا باع عبده وعبد غيره بألف درهم كل عبد بخمسمائة، ولم يجز ذلك الغير البيع في عبده، فإن البيع يجوز في عبد البائع؛ لأن سبب الفساد وجد في البعض، وهو الاستحقاق، وإذا باع عبدين، وأحدهما مدبر، أو مكاتب، أو أم ولد، وسمى لكل واحد ثمنًا، فالبيع جائز في العبد، وإذا اشترى عبدين، وقبض أحدهما، ولم يقبض الآخر حتى باعهما جميعًا بألف على أن كل واحد بخمسمائة جاز البيع فيما قبض، ولم يجز فيما لم يقبض.
وكذلك إذا اشترى عبدًا بألف درهم، وقبض العبد، ولم ينقد الثمن حتى باعه مع عبدٍ آخر له من البائع ألف درهم كل واحد منهما بخمسمائة، فإنه يجوز البيع في عبده، ولا يجوز في العبد الذي اشتراه؛ لأن سبب الفساد وهو بيع ما اشترى بأقل مما اشترى قبل من نقد الثمن وجد في البعض، ولا يلزم على ما قلنا إذا لم يبين حصة كل واحد من العبدين حتى ظهر أن أحدهما حر، فإن العقد يفسد في الكل؛ لأن سبب الفساد هناك وجد في جميع العقد في حصة العبد والحر جميعًا، أما في حصة الحر فظاهر، وأما في حق العبد فجهالة الحصة ابتداء؛ لأن الحر بدله غير داخل تحت العقد أصلًا بدليل أنه لو قبض الحر لا يملكه ولا بدله، وإنما دخل في العقد العبد مع بدله لا غير، فيصير مشتريًا القن بما يخصه من الألف ابتداء لو قسم الألف عليه وعلى الحر، وجهالة الحصة ابتداءً يوجب فساد العقد.
ألا ترى أن من قال لغيره: بعت منك هذا العبد بما يخصه من الألف لو قسم الألف عليه وعلى هذ الحر، فإن البيع لا يجوز، وإنما لا يجوز لما قلنا، فأما إذا بين حصة كل واحد منهما، فسبب الفساد وجد في حق الحر لا غير؛ لأن سبب الفساد في حق القن حالة الإجهال جهالة حصته من الثمن، والجهالة ترتفع عند بيان حصة كل واحد منهما، ولا يلزم بيع الدرهم بالدرهمين؛ لأن هناك سبب الفساد وجد في حق الكل؛ لأن الدرهم الواحد قوبل بالدرهمين، فيجب قسمتها على الدرهمين.
وإذا قسمناه على الدرهمين يتمكن الربا في الدرهمين جميعًا؛ لأنه يصير كل واحد منهما بنصف درهم، ولا يلزم إذا اشترى عبدًا بألف درهم ورطل من خمر، فإنه يفسد العقد في جميع العبد، أما في حصة الخمر فظاهر، وأما في حصة الألف؛ فلأن ما يخص الألف من العبد مجهول جهالة مقارنة من وجه إن كانت طارئة من وجه؛ لأن الخمر لا يدخل تحت العقد حتى يملك بدله بالقبض، فباعتبار البدل تكون الجهالة طارئة، وباعتبار الغير تكون الجهالة مقارنة يوجب الفساد، والطارئة لا توجب، فرجحنا ما يوجب الفساد على ما يوجب الجواز احتياطًا، فقد وجد بسبب الفساد في جميع العقد، أما في حصة الحر فظاهر وأما في حصة القن، فهو اشتراط الربا.
بيانه: أن بدل الحر صار مشروطًا في حصة القن من حيث المعنى؛ لأن الصفقة الواحدة إذا أضيفت إلى شيئين موجودين، فقبول العقد في كل واحدة منهما يصير شرطًا لصحة القبول في الآخر حتى لو قبل المشتري العقد في أحدهما لا يجوز، وإذا صار قبول العقد في الحر شرطًا لقبول العقد في القن من حيث المعنى صار بدله مشروطًا في حصة القن، وبدل الحر ربا؛ لأنه مال متقوم شرط في العقد من غير عوض أصلًا، فيكون ربًا وقد صار مشروطًا في حصة القن غير مقابل بالقن فيصير ربًا كما لو قال: بعتك هذا العبد بخمسمائة على أن تسلم إلي خمسمائة أخرى بغير شيء، وأما إذا باع عبده وعبد غيره.
قلنا: هناك لم يوجد بسبب الفساد في حصة عبده، وهو اشترط الربا؛ لأن قبول المستحق مع بدله، وإن صار شرطًا في عبده إلا أن بدله في نفسه ليس بربا؛ لأنه مقابل بما يصلح عوضًا، وهو المستحق، والربا عبارة عن مال ملك بالبيع بغير عوض أصلًا، أو بعوض لا يصلح عوضًا عنه بوجه ما.
فإن قيل: إن لم يوجد سبب الفساد في حصة عبده من هذا الوجه وجد من وجه آخر، وهو جهالة الحصة.
قلنا: ليس كذلك؛ لأن المستحق مع بدله دخلا تحت العقد، فكان البدل في الابتداء جميع المسمى وهو ألف درهم، وإنه معلوم، وإنما يصير بالحصة بعد ذلك إذا لم يجزه المستحق، فتكون جهالة طارئة من كل وجه، وإذا جمع بين عبدين، وأحدهما مكاتب، أو مدبر، أو أم ولد.
قلنا: هناك لم يتمكن بسبب الفساد في حصة القن، وهو اشتراط الربا؛ لأن هؤلاء دخلوا في العقد مع القن لقيام المالية فيهن، وبدلهم ملك بمقابلة ما يصلح عوضًا عنه، فإنه مقابل المال، فلا يكون بدل الحر على ما مر.
وأما مسألة الجراب: فقد ذكرنا قبل هذا عن أبي حنيفة أن العقد فاسد في الثياب الموجودة عند أبي حنيفة على رواية قاضي الحرمين، وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، واستشهد بمسألة (الجامع)، ومن قال من المشايخ أن على قول أبي حنيفة يجوز البيع في الثياب الموجودة، ففرق لأبي حنيفة بين مسألة (الجامع) وبين مسألة الجراب.
ووجه الفرق: أن الإضافة إلى الثوبين في مسألة (الجامع) قد صحت لوجود الخصاف إليه من حيث الحقيقة، وصار قبول العقد في المروي شرطًا بقبول العقد في الهروي، وصار بدله مشروطًا في الهروي أيضًا وبدله ربًا؛ لأنه بدل معدوم، فإنه أشار وسمي، والمشار إليه من خلاف جنس المسمى، والمسمى معدوم، وبدل المعدوم ربًا كبدل الحر.
وأما في مسألة الجراب: فالإضافة إلى الثوب الخمسين لم يصح أصلًا؛ لأنه لابد من صحة الإضافة من مضاف إليه موجود، فإذا كان معدومًا لم تصح الإضافة أصلًا، ولم يصر قبول العقد في المعدوم شرطًا لقبول العقد في الموجود، ولم يصر بدل المعدوم الذي هو ربا مشروطًا في الموجود، فخلت حصة الموجود عن شرط الربا.
وإذا باع عبدين أحدهما مقبوض، والآخر غير مقبوض، ففي حق المقبوض لم يوجد اشتراط الربا؛ لأن بدل غير المقبوض من البيع لا يكون ربًا؛ لأن الربا عبارة عن فضل مال ملك بالبيع لا يقابله عوض وقد قابله عوض، وأما مسألة شراء ما باع بأقل مما باع قلنا: هناك لم يوجد سبب الفساد في العبد الذي لم يشتر، وهو اشتراط الربا لما ذكرنا أن الربا فضل مال خالي عن العوض، ولم يوجد هذا فيما اشترى.
وذكر أبو الحسن الكرخي عن أبي يوسف: فيمن باع جارية في عنقها طوق بألف درهم نساءً أن البيع باطل في الجميع في قول أبي يوسف الأخير، فجعل أبو الحسن رجوع أبي يوسف في هذه المسألة رجوعًا في جميع ما هو من هذا الجنس من المسائل.
وإذا اشترى ضيعة، وفيها قطعة من الوقف كان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: البيع فاسد في الوقف والملك كما لو جمع بين عبد وحر، وكان القاضي إمام الإسلام أبو الحسن علي السغدي يقول: البيع جائز في الملك كما لو جمع بين عبد ومدبر، ثم رجع شمس الأئمة إلى قول ركن الإسلام.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا باع كرمًا فيه مسجد قديم، وقد أطلق العقد هل يفسد البيع في الكرم؟ ينظر إن كان المسجد عامرًا يفسد؛ لأن المسجد لا يدخل تحت البيع بالإجماع فكان الفساد قويًا، فيظهر في حق الباقي كما لو جمع بين حر وبين عبد، وإن كان المسجد خرابًا لا يفسد العقد الباقي؛ لأن في دخول المسجد تحت البيع إذا خرب واستغنى عنه أهله خلاف.
فعند بعض العلماء المسجد إذا خرب واستغني عنه أهله يعود إلى ملك الواقف إن كان حيًا، وإلى ملك ورثته إن كان ميتًا، فلم يكن الفساد قويًا، فصار كما لو باع عبدًا ومدبرًا، والذي ذكرنا في الوقف، فكذلك في المقبرة.
وإذا كان الأرض مشتركًا بين رجلين باع أحدهما جميع الأرض من صاحبه كان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يقول بفساد البيع، وكذا كان يقول: فيما إذا صالح المدعى عليه مع المدعي عن دعواه على دار مشتركة بينهما، وكان يشير إلى المعني أن ملك المشتري ليس بمحل للبيع في حق المشتري، فكان بمنزلة ما لو جمع بين حر وعبد في البيع ولكن فيه نظر؛ لأن نصيب المشتري محل للبيع في الجملة، فيكون بمنزلة ما لو جمع بين مدبر وعبد.
والدليل عليه: أن رب المال إذا اشترى من المضارب شيئًا من مال المضاربة بعدما ظهر الربح يجوز، وإن كان المشتري ملك المشترى، وإذا كان الفساد بسب الافتراق لا لمعنى في نفس العقد، فإنه يبطل بقدره خاصة.
وذلك أن يسلم عشرة دراهم في شيء خمسه دين نقد، وكذلك في باب الصرف إذا قبض البعض دون البعض فسد بقدر ما لم يقبض خاصة، ولو اشترى عبدًا بخمسمائة نقد وخمسمائة له على فلان أو بخمسمائة إلى العطاء فسد البيع في الكل ذكره القدوري في (شرحه).
وفي (المنتقى): رجل اشترى دارًا أو طريقًا من طرق المسلمين محدودة معلومة يعني جمع بين الدار وبين طريق المسلمين في البيع، فاستحق بعدما قبضهما المشتري، فإن شاء المشتري رد الدار، وإن شاء أمسكها إذا كان الطريق مختلطًا بالدار، فإن كان مميزًا لذمته الدار بحصتها ولم يكن له الخيار، وإن كان الطريق ليس بمحدود لا يعرف قدره فسد البيع، ولو كان مكان الطريق مسجد خاص يجمع فيه، فالقول فيه مثل الطريق المعلوم، وإن كان مسجد جماعة فسد البيع كله؛ لأن بيع المسجد الجامع لا يجوز ولا يحل، وكذلك إذا كان مهدومًا أو أرضًا ساحة لا بناء فيها بعد أن يكون الأصل مسجد جامع.

.نوع آخر في شراء ما باع بأقل مما باع:

يجب أن يعلم أن شراء ما باع الرجل بنفسه أو بيع له بأن باع وكيله بأقل مما باع ممن باع أو ممن قام مقام البائع كالوارث قبل نقد الثمن لا يجوز إذا كانت السلعة على حالها لم ينتقض بعيب، وكذلك إن بقي عليه شيء من ثمنه وإن قل، أما إذا اشترى ما باع بنفسه، فللحديث المعروف، ولأجل شبهة الربا؛ لأن بين الثمن الثاني وبين الثمن الأول شبهة المقابلة من حيث إن العقد الثاني أوجب تأكيد الثمن الأول؛ لأن الثمن الأول كان بعرض السقوط بالرد وهذه العرضية تزول بالبيع الثاني.
فهو معني قولنا: إن البيع الثاني يوجب تأكيد الثمن الأول، وللمؤكد حكم الموجب حتى أن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا ضمنوا نصف الصداق؛ لأنه كان بعرض السقوط بالفرقة الجائية من قبلها، فهم بإضافة الفرقة إلى الزوج أزالوا تلك العرضية وأكدوه، فكانوا كالموجبين له كذا هاهنا، وإذا ثبت أن البيع الثاني مؤكد للثمن الأول، وللتأكيد حكم الإيجاب كان وجوب الثمن الأول مضافًا إلى العقد الثاني موجبًا الثمن الأول حكمًا، والثمن الثاني حقيقة، فكان بينهما شبهة المقابلة من حيث إن وجوبها مضاف إلى عقد واحد في حالة واحدة، ولو ثبت بينهما حقيقة المقابلة يثبت شبهة الربا بخلاف ما بعد قبض الثمن؛ لأن هناك العقد الثاني أوجب تأكيد الثمن الأول؛ لأن الثمن الأول صار موكدًا بالقبض، ولم يبق له عرضية السقوط قبل العقد الثاني، فلم يكن تأكيدًا له.
وأما إذا اشترى ما بيع له بأن باع وكيله لا يجوز أيضًا، فقد جعل الموكل بائعًا بيع الوكيل حتى لم يجز شراؤه ما باع وكيله بأمره بأقل مما باع قبل نقد الثمن، وأبو حنيفة رحمه الله لم يجعل الموكل مشتريًا بشراء الوكيل حتى قال: لو باع الرجل شيئًا بنفسه، ثم وكل رجلًا بأن يشتري له ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، فاشتراه الوكيل، فإنه يجوز عند أبي حنيفة خلافًا لهما.
والفرق لأبي حنيفة: أن شراء الموكل منعقد ونافذ بدون التوكيل، ولهذا اشترى بدون التوكيل نفذ عليه، وصار الملك له، فلم يكن التوكيل محتاجًا إليه لانعقاد شراء الوكيل ولا لنفاذه، فلم يكن شراء الوكيل مضافًا إلى الموكل لا انعقادًا ولا نفاذًا، فلم يصر الموكل مشتريًا بشراء الوكيل أصلًا؛ لأن بعد ما تم شراء الوكيل ونفذ عليه ينتقل الملك إلى الموكل بشراء حكمي ينعقد بينهما، فلأجل ذلك احتيج إلى التوكيل، فيصير الوكيل مشتريًا لنفسه، ثم بائعًا من الموكل حكمًا.
ولو اشتراه لنفسه حقيقة من غير توكيل، وباع حقيقة من البائع الأول جاز هاهنا كذلك، فأما بيع الوكيل لا ينفذ بدون التوكيل إن كان ينعقد بدون التوكيل، فكان التوكيل محتاجًا إليه لنفاذ بيعه، فصار بيعه مضافًا إلى الموكل فيما يرجع إلى النفاذ إن لم يصر مضافًا إليه فيما يرجع إلى الانعقاد، فصار الموكل بائعًا ببيع الوكيل فيما يرجع إلى النفاذ، فإذا اشترى بعد ذلك صار مشتريًا من وجه ما باع بأقل مما باع، فرجحنا جانب الفساد احتياطًا.
وكذلك الجواب فيما إذا اشترى من وارث من باع منه بأقل لا يجوز، فقد جعل الشراء من وارث من باع منه بمنزلة الشراء ممن باع منه، ولم يجعل محمد رحمه الله شراء البائع حتى قال: لو مات البائع فاشترى وارثه ما باع بأقل مما باع جاز، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز في الفصلين جميعًا؛ لأن وارث كل واحد منهما مقامه.
وجه الفرق لمحمد: أن وارث البائع ما قام مقام البائع في هذا الشراء بحكم الإرث صار شراؤه وأجنبي آخر سواء، فأما وارث من بيع منه وهو المشتري قام مقام المشتري في هذا البيع بحكم الإرث، فإنه كان لا يملك البيع حال حياته مورثه؛ لأنه ملك موروثه، ولما قام الوارث مقام المشتري في بيع هذا الغير بحكم الإرث صار بيع الوارث وبيع الموروث سواء، فكما لا يجوز بيع المشتري، فكذا لا يجوز بيع وارثه.
بعض مشايخنا قالوا: قول أبي حنيفة فيما إذا كان المشتري وارث البائع نظير قول أبي يوسف: إذا كان وارثًا تقبل شهادته له، أما إذا كان وارثًا لا تقبل شهادته له كالوالد ومن بمثابتهما لا يجوز شراؤه عند أبي حنيفة؛ لأن على قوله ولد البائع ووالده، وكل من لا تقبل شهادته له لو اشتراه في حال حياة البائع لنفسه لا يجوز خلافًا لهما؛ لأن منافع الأملاك بينهم متصلة، فصار شراء هؤلاء واقعًا للبائع، فكأن البائع اشترى بنفسه، فكذا بعد وفاته.
وبعضهم قالوا: على قول أبي حنيفة: يجوز شراء وارث البائع على كل حال سواء كان وارث البائع ممن نقبل شهادته له، أو ممن لا تقبل شهادته له كما هو قول محمد، وفرق هذا القائل على قول أبي حنيفة بين حال حياة البائع وبينما بعد موته.
والفرق: أن حال حياة البائع إنما لا يجوز شراء والده وولده وجميع من لا نقبل شهادته له باعتبار أن منافع الأملاك متصلة بينهم، فيصير شراء هؤلاء بمنزلة شراء البائع بنفسه، وهذا المعنى قد انقطع بالموت، وإنما شرطنا أن تكون السلعة قائمة على حالها لم تنتقص بعيب؛ لأن بعدما انتقص لا يتأتى شبهة الربا؛ لأن نقصان الثمن يجعل بمقابلة ما فات بالعيب، فيصير مشتريًا ما باع بمثل الثمن الأول معنى وذلك جائز، ولو رخص سعر السلعة من غير أن حدث بها عيب، فلا ينبغي أن يشتريها بأقل مما باع؛ لأن رخص السعر غير معتبر في حق الأحكام إذا بقي العين على حاله كما في حق الغاصب وأشباه ذلك، فيجعل وجوده كعدمه.
ولو باع المشتري المشترى من رجل، ثم إن البائع الأول اشتراه من المشتري الثاني بأقل مما باع جاز، فإن عاد المشتري إلى المشتري الأول إن عاد بسبب هو فسخ في حق الناس كافة لا يجوز للبائع الأول أن يشتريه بأقل مما باع، وعاد إليه بسبب هو فسخ في حقهما بيع جديد في حق الثالث كان للبائع أن يشتريه بأقل مما باع.
وكذلك لو أن المشتري وهب السلعة من إنسان، ثم أن البائع اشتراه من الموهوب له بأقل مما باع جاز، وكذلك لو وهبه الموهوب له من الواهب، وهو المشتري بعد ذلك، ثم إن المشتري باعه من البائع بأقل جاز.
وكذلك لو أن المشتري باع العبد من إنسان، ثم اشتراه، ثم باعه من البائع بأقل جاز، ولو أن المشتري وهبه من إنسان وسلمه، ثم رجع في الهبة، ثم باعه من البائع بأقل لا يجوز؛ لأن الرجوع في الهبة من كل وجه فسخ سواء كان بقضاء أو بغير قضاء، فيعود إلى المشتري قديم ملكه المستفاد من جهة البائع وصار كأنه لم يهب حتى باعه من بائعه بأقل لا يجوز فهاهنا كذلك.
ولو كان المشتري أوصى بهذا العبد لرجل وقبل الموصى له الوصية، ثم مات الموصي فباع الموصى له العبد من بائع الموصي بأقل جاز؛ هكذا ذكر في (الزيادات) وفرق بين الموصى له من وجهة المشتري وبين الوارث المشتري، فإن وراث المشتري لو باعه من بائع موروثه بأقل لا يجوز.
والفرق: وهو أن ملك الوارث غير ملك المورث، ولهذا كان للوارث أن يرد على بائع مورثه، ويصير الوارث مغرورًا من جهة بائع مورثه كما يصير الموروث مغرورًا، فكان بيع الوارث كبيع المورث، فأما ملك الموصى له غير ملك الموصي، ولهذا لا يرد على بائع الموصي بالعيب ولا يصير مغرورًا من جهة، فأشبه المشتري والموهوب له، ثم المشتري من المشتري وهو الموهوب له من جهة المشتري لو باع من البائع الأول بأقل يجوز فكذا الموصى له.
وقد كتبت في (السير) أن مسألة الوصي على خلاف ما ذكر في (الزيادات) وإذا وكلّ الرجل رجلًا ببيع عبد له بألف درهم فباع الوكيل، ثم أن الوكيل أراد أن يشتري العبد بأقل مما باع لنفسه أو لغيره بأمره قبل نقد الثمن لا يجوز إما شراؤه لنفسه؛ لأن الوكيل بالبيع بائع لنفسه في حق الحقوق، فكان هذا شراء البائع من وجه.
والثابت من وجه في باب الحرمات كالثابت من كل وجه، وأما لغيره بأمره، فلأن شراء المأمور واقع له من حيث الحقوق، فيكون هذا شراء ما باع لنفسه من وجه، وكما لا يجوز للبائع أن يشتري ما باع بأقل مما باع، فكذا لا يجوز لعبده أن يشتري ما باع بأقل سواء كان على العبد دين أو لم يكن، أما إذا لم يكن عليه دين، فلأن شراء العبد إذا لم يكن عليه دين يوجب الملك للمولى في المشترى على الحقيقة، فصار شراء العبد كشراء المولي بنفسه.
وأما إذا كان على العبد دين، أما على قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن دين العبد عندهما لا يمنع وقوع الملك للمولى في كسب العبد، فكان شراء عبده في هذه الحالة كشرائه بنفسه، وأما على قول أبي حنيفة؛ فلأن شراء العبد إذا كان عليه دين إن كان يمنع وقوع الملك للمولى في كسب العبد حقيقة لا يمنع ثبوت حق الملك له في كسبه، فكان شراء عبده في هذه الحالة بمنزلة شراء به من وجه، وكذا لا يجوز شراء مكاتبه؛ لأن للمولى في أكساب مكاتبه حق الملك، فيكون شراء مكاتبه كشرائه بنفسه من وجه.
ولو باع المدبر أو العبد أو المكاتب لم يكن للمولى أن يشتري ما باع بأقل، ولو اختلف جنس الثمن جاز الشراء، وإن كان الثمن الثاني أقل؛ لأن المانع في الجنس الواحد شبهة الربا، والربا لا يتحقق عند اختلاف الجنس، قال: إلا أن يكون أحدهما دراهم والآخر دنانير، والثاني أقل قيمة من الأول، فيكون البيع فاسدًا استحسانًا؛ لأن الدراهم والدنانير جنس واحد معنى لكونها ثمن الأشياء وقيمتها، فاكتفينا بالمجانسة المعنوية احتياطًا.
وفي (القدوري) ولا يجوز أن يبيع سلعة بثمن حال، ثم يشتريها بذلك الثمن إلى أجل؛ لأن هذا في معني شراء ما باع بأقل مما باع؛ لأن الأجل يمكن نقصانًا في المالية؛ لأن المؤجل أنقص من الحال.
ولو باعه بألف درهم نسيئة سنة، ثم اشتراه بألف درهم نسيئة سنتين لا يجوز؛ لأن هذا في معنى شراء ما باع بأقل مما باع؛ لأن الزيادة في الأجل يمكن نقصانًا في المالية، وإن زاد على الثمن درهمًا أو أكثر جاز، ويجعل الزيادة في الثمن الثاني بمقابلة النقصان المتمكن بزيادة الأجل، فينعدم النقصان معني.

.نوع آخر في صور البيوع الفاسدة والباطلة:

فمن جملة صورة الفاسدة أن يبيع بخمر أو خنزير، ومن جملة ذلك بيع الدين من غير من عليه الدين، ومن جملة ذلك صفقتان في صفقة نحو أن يقول: أبيعك هذا على أن تبيعني هذا، ومن جملة ذلك بيعان في بيع نحو أن يقول: بعتك بقفيز حنطة أو بقفيزي شعير.
ومن جملة ذلك شرطان في بيع نحو: إن أعطيتني الثمن حالًا فبكذا.
وإن كان مؤجلًا فبكذا، ومن جملة ذلك إذا باع وسكت عن الثمن؛ لأن البيع مبادلة المال بالمال، فيصير البدل مذكورًا بذكر البيع، ولكن يجعل المذكور هو القيمة؛ لأن الأصل في الأشياء هو القيمة، وإنما عدل عنها عند وجود التسمية وصحتها، ولم يوجد التسمية، وإذا صارت القيمة مذكورة صار كأنه قال: بعت بالقيمة، والبيع بالقيمة بيع فاسد، وأما إذا باع على أن لا ثمن له ففيه روايتان:
في رواية لا ينعقد أصلًا بخلاف ما إذا سكت عن ذكر الثمن أمكن أن يجعل تبعًا بذكرالعوض دلالة وعند بقاء الثمن لا يمكن أن يجعل تبعًا بذكر الثمن دلالة إذ لا قوام للدلالة عند وجود الصريح بخلافها.
وفي رواية قال: ينعقد؛ لأن النفي منه لم يصح؛ لأنه نفي حكم العقد فصار وجود هذا النفي والعدم سواء، فكأنه سكت عن ذكر الثمن، ولو باع بالميتة أو الدم أو الربح، فالبيع باطل، وروي عن محمد إذا قال: أبيعك بما ترعى إبلي في أرضك أو بما تشرب من ماء بئرك أنه بيع منعقد؛ لأنه سمى شيئًا متقومًا، فإنه لو قطع الحشيش أو استقى الماء في إناء وباعه يجوز، ولكون المسمى ماء قلنا بالانعقاد، ولكونه مجهولًا قلنا بالفساد، وبخلاف الفصل الأول؛ لأن المسمى هناك ليس بمال أصلًا.
وكذلك لو باع عبد الجارية من جواري المشتري، ولم يبينها فهو بيع منعقد، ولو قال: أبيعك بالكعبة فهو بيع باطل؛ لأن المسمى ليس بمال، وإذا باع شيئًا بمكاتب أو مدبر أو أم ولد فهو بيع منعقد؛ لأن المالية ثابتة في هذه المحال، وإنما حرم بيعها بحق محترم لا لانعدام المالية وإنه لا يمنع انعقاد العقد بوصف الفساد والله أعلم.

.الفصل السابع: في الشروط التي تفسد البيع والتي لا تفسد:

يجب أن يعلم بأن الشرط الذي يشترط في البيع لا يخلو إما إن كان شرطًا يقتضيه العقد، ومعناه أن يجب بالعقد من غير شرط وأنه لا يوجب فساد العقد كشرط تسليم المبيع على البائع، وشرط التسليم الثمن بالثمن على المشتري، وهذا لأن اشتراط ما يجب بالعقد من غير شرط له؛ ولأنه لا يفيد شيئًا، فصار وجوده كعدمه، فكأنه لم يشترط شيئًا فيجوز البيع، وإن كان شرطًا لا يقتضيه العقد على التفسير الذي قلنا؛ إلا أنه يلائم العقد، ونعني به أنه يؤكد موجب العقد إذ تأكيد موجب الشيء يلائم ذلك الشيء، وذلك كالبيع بشرط أن يعطي المشتري كفيلًا بالثمن، والكفيل معلوم بالإشارة أو التسمية حاضر مجلس العقد، فقبل الكفالة، أو كان غائبًا عن مجلس العقد، فحضر قبل أن يتفرقا وقبل الكفالة جاز البيع استحسانًا، والكفالة إن لم تكن من مقتضيات البيع إلا أنها تؤكد موجب العقد، فما يؤكدها يكون ملائمًا للعقد، فلا يؤثر في فساد العقد.
وكذلك البيع بشرط أن يعطي المشتري بالثمن رهنًا والرهن معلوم بالإشارة أو التسمية جاز البيع استحسانًا، وإن لم يكن الرهن من مقتضيات العقد؛ لأن الرهن يؤكد موجب العقد؛ لأن الرهن شرع وعقد وهو مؤكد لجانب الاستفاء، ولهذا اختص جوازه بالأموال القابلة للاستيفاء الثمن موجب العقد فما يؤكده يلائم موجب العقد.
قال الشيخ الإمام شيخ الاسلام المعروف بخواهر زاده في (شرحه): فرّق محمد بين الكفيل وبين الرهن، فشرط حضرة الكفيل مجلس البيع، وقبول الكفالة بجواز البيع، ولم يشترط حضرة الرهن بجواز البيع وإنما شرط العلم به.
وفي (القدوري) شرط أن يكون الرهن معينًا، وهكذا شرط في (المنتقى): وإن لم يكن الرهن معينًا، ولكن كان مسمى إن كان عرضًا لم يجز البيع، وإن كان مكيلًا أو موزونًا موصوفًا فهو جائز، وإن لم يكن الرهن معينًا ولا مسمى، وإنما شرطا أن يرهنه بالثمن رهنًا فالبيع فاسد؛ لأن جهالة الرهن يوقعهما في منازعة مانعة من التسليم فالمشتري يعطيه رهنًا، والبائع يطالبه برهن آخر.
قال في (المنتقى): إلا إذا تراضيا على تعيين الرهن في المجلس، ودفعه المشتري إليه قبل أن يتفرقا، أو يعجل المشتري الثمن ويبطلان الأجل، فيجوز البيع استحسانًا، وكذلك إذا لم يكن الكفيل معينًا ولا مسمى، فالعقد فاسد؛ لأن جهالة الكفيل يوقعهما في منازعة مانعة من التسليم؛ لأن الناس يتفاوتون في قضاء الدين وملاء الذمة، وإن كان الكفيل حاضرًا في مجلس العقد وأبى أن يقبل الكفالة، أو لم يأتِ ولكن لم يقبل حتى افترقا، أو أخذا في عمل آخر، فالبيع فاسد استحسانًا قبل بعد ذلك، أو لم يقبل.
وشرط الحوالة في هذا الباب نظير شرط الكفالة، يريد به إذا وقع البيع بشرط أن يحيل المشتري البائع على غريم من غرمائه، أما لو وقع البيع بشرط أن يحيل البائع على المشتري غريمًا من غرمائه فالعقد فاسد قياسًا واستحسانًا.
وفي (المنتقى): رواية ابن سماعة: إذا كان الرهن معينًا في العقد بأن اشترى رجل من آخر دارًا بألف درهم على أن يعطيه بالثمن عبده هذا رهنًا، فلما قبض الدار امتنع عن تسليم الرهن لم يجز عليه، ولكن يقال للمشتري: ادفعه أو افسخ العقد، أو عجل الثمن قال: ثمة وهو قول محمد.
وفي (القدوري) يقول: ولكن يقال للمشتري: إما أن تدفع الرهن أو قيمته أو يفسخ العقد؛ وهذا لأن الرهن من جانب الراهن محض تبرع؛ لأن الحق يبقى عليه بعد الرهن كما كان قبل الرهن، ولا خيار على التبرعات ولكن يخّير المشتري على نحو ما ذكرنا؛ لأن البائع ما رضي بزوال ملكه عن المبيع إلا بثمن مستوثق، فإذا فاتت الوثيقة فات وصف مرغوب، فيثبت له حق النقض إلا إن يفي المشتري بالشرط أو يدفع القيمة على ما ذكره (القدوري)؛ لأن يد الاستيفاء للبائع إنما يثبت على المعنى وهو القيمة، فالاستيفاء في باب الرهن يقع عن معنى الرهن الا من عينه.
قال في (المنتقى): وإن كان المشتري باع الدار أمر به أن يدفع العبد أو يعجل الثمن؛ لأن بعد البيع تعذر فسخ البيع، فيخير بين دفع العبد أو تعجيل الثمن قال ثمة: وإن مات العبد أمر به أن يدفع إليه رهنًا يساوي قيمة العبد، أو تعجيل الثمن، وإن كان العبد لم يمت فقال المشتري أعطه رهنًا آخر سوى العبد، فللبائع أن يمتنع منه.
وإن أراد المشتري أن يعطيه قيمة العبد دراهم أو دنانير، فليس للبائع أن يمتنع منه، ولو اشترى عبدًا على أن يعطي البائع المشتري كفيلًا بما أدركه من أدرك، فهو على ما ذكرنا إن كان الكفيل مجهولًا، فالعقد فاسد، وإن كان معينًا ظاهرًا وقيل، أو كان غائبًا، فحضر قبل أن يفترق العاقدان وقيل، فالعقد جائز استحسانًا.
وإن كان الشرط شرطًا يلائم العقد إلا أن الشرع ورد بجوازه كالخيار والأجل، أو لم يرد الشرع بجوازه، ولكنه متعارف كما إذا اشترى نعلًا وشراكًا على أن يحدوه البائع جاز البيع، وإن كان القياس يأبى جوازه؛ لأن التعارف والتعامل حجة يترك به القياس، ويخص به الأثر.
وروى هشام عن محمد: أنه إذا اشترى من رجل نعلًا على أن يحدوه البائع أن البيع فاسد، وإن كان الشرط شرطًا لم يعرف ورود الشرع بجوازه في صورة، وهو ليس بمتعارف إن كان لأحد المتعاقدين فيه منفعة، أو كان للمعقود عليه من أهل أن يستحق حقًا على الغير فالعقد فاسد.
وتفسير المنفعة المعقود عليه ما قال في (الكتاب): إذا باع عبدًا بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه ولا يخرجه من ملكه بوجه من الوجوه، ففي هذا الشرط منفعة المعقود، فإن المملوك يسره أن لا تتداوله الأيدي، وإذا وافقهم في موضع لا يحبون البيع وبمثل قلبهم إلى ذلك الموضع، فالبيع بهذا الشرط لا يجوز عند علمائنا رحمهم الله.
وتفسير منفعة المتعاقدين: أن يقول للبائع: بعني هذا العبد على أن أهب لك كذا أو أقرضك كذا، فالمبيع بهذا الشرط فاسد، ثم إذا شرط منفعة المعقود عليه إنما يفسد العقد إذا كان المعقود عليه من أهل أن يستحق حقًا على الغير وذلك الرقيق، فأما سوى الرقيق من الحيوانات التي لايستحق على الغير حقًا، فاشتراط منفعة لا يفسد العقد حتى لو اشترى شيئًا من الحيوان سوى الرقيق بشرط أن لا يبيعه، أو لا يهبه، فالبيع جائز، وفي هذا الشرط منفعة للمعقود عليه.
فإن الناس يتفاوتون في الإحسان في حق دوابهم، فالمشتري وبما يكون أكثر تعاهدًا بالمشترى من غيره، وإنما جاء الفرق؛ لأن المعقود عليه إن كان من أهل الاستحقاق، فالشرط يفسد وجوب المشروط في حقه أوضح، والشرط متى أفاد وجوبًا يجب اعتباره، فالمشروط يطالب بحكم الشرط والمشروط عليه يمتنع بحكم الشرع، فإن الشرع نهى عن بيع وشرط مطلقًا إلا أن شرطًا يقتضيه العقد، أو يلائم موجب العقد، أو ورد الشرع بجوازه، وكان متعارفًا صار مخصوصًا عن قضية النهي، فبقي ما وراءه داخلًا تحت النهي فتقع المنازعة بينهما في إبقاء المشروط، وكل عقد يفضي إلى المنازعة يحكم بفساده، فأما إذا لم يكن المعقود عليه من أهل أن يستحق حقًا على الغير، فالشرط لا يغير وجوب المشروط، فيجعل وجوده والعدم بمنزلة، فكان البيع حاصلًا من غير شرط معنىً، وإن كان شرط المنفعة جرى بين أحد المتعاقدين وبين أجنبي بأن اشترى على أن يعوض البائع فلأن الأجنبي كذا وقبل المشتري ذلك.
ذكر الصدر الشهيد في (شرح الجامع): في باب الزيادة في البيع من غير المشتري أن العقد لا يفسد. وذكر القدوري: أن العقد يفسد، وصورة ما ذكر القدوري إذا قال المشتري للبائع: على أن تعوضني، أو على أن تعوض فلانًا، وذكر أن العقد فاسد.
وفي (المنتقى): قال محمد رحمه الله: كل شيء يشترط المشتري على البائع يفسد به البيع، فإذا شرط على أجنبي فهو باطل من ذلك إذا اشترى من غيره دابة على أن يهب له فلان الأجنبي عشرين درهمًا فهو باطل، كما لو شرط على البائع أن يهب له عشرين درهمًا، وكل شيء يشترط على البائع لا يفسد به البيع، فإذا شرط على أجنبي فهو جائز، وهو الخيار.
من جملة ذلك إذا اشترى من آخر عبدًا بمائة على أن يحط فلان الأجنبي عشرة دراهم عنه، فالبيع جائز وهو بالخيار إن شاء أخذها به، وإن شاء ترك.
وفي (نوادر ابن سماعة): عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر شيئًا على أن يهب البائع لابن المشتري أو لفلان الأجنبي من الثمن دينارًا فالبيع فاسد، وإن كان شرطًا لم يكن لأحد المتعاقدين ولا للمعقود عليه منفعة، بل فيه لأحد المتعاقدين مضرة بأن باع ثوبًا بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه.
ذكر في آخر المزارعة ما يدل على أن البيع جائز، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أن البيع فاسد، وهو قول أبي يوسف.
وجه الجواز لأبي حنيفة ومحمد: أن المشروط إن كان منفعة في حق أحد المتعاقدين إنما يوجب فساد العقد؛ لأن المشروط له يطالب بحكم الشرط، والآخر يمتنع بحكم الشرع، فيتنازعان ولا مطالبة في موضع الضرر، فصار وجود هذا الشرط والعدم بمنزلة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة: إذا اشترى من آخر دابة أن لا يبيع ولا يهب، أو جملًا على أن لا يعلفه، فالبيع جائز، وكذلك إذا قال: على أن ينحره، وإن قال: على أن يبيعه من فلان، أو على أن لا يبيعه منه فالبيع فاسد.
وإن اشترى على أن يبيعه أو يهبه، ولم يقل: من فلان، فالبيع جائز.
قال في (المنتقى): وهكذا روى ابن سماعة عن محمد، وإن اشترى على أن لا يبيع إلا بإذن فلان فالبيع فاسد أيضًا، وإن كان شرطًا ليس منه منفعة ولا مضرة نحو أن يبيع طعامًا بشرط أن يأكله، أو ثوبًا بشرط أن يلبسه فالبيع جائز.
وإذا باع جارية بشرط أن يطأها المشتري، أو بشرط أن لا يطأها قال أبو حنيفة: البيع فاسد في الموضعين، وقال محمد: البيع جائز في الموضعين، وقال أبو يوسف: إن باعها بشرط أن يطأها فالبيع جائز، وإن باع يشرط أن لا يطأها فالبيع فاسد.
وإذا اشترى جارية بشرط أن لا يستخدمها، فعن أبي يوسف أن البيع فاسد، وكذا عن أبي يوسف: فيما إذا اشترى طعامًا بشرط أن لا يأكله ولا يطعمه أن العقد فاسد.
المعلى عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر شيئًا على أن يعطي الثمن فلان، فالبيع جائز سواء كان حاضرًا أو غائبًا.
وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في (شرح كتاب المكاتب) في الباب الثاني منه أن من باع على أن يعطي ثمنه من مال فلان، فقد اختلف المشايخ في جواز هذا البيع.
وفي (المنتقى): إذا قال لغيره: أبيعك بألف درهم لك على فلان فصار مني لك عن فلان فالبيع جائز، وهو متطوع عن فلان.
وفي (نوادر ابن سماعة): عن محمد: إذا باع الرجل عبدًا له من رجل بالدين الذي للمشتري على فلان، وهو ألف، ورضي به فلان فهو جائز، والمال للبائع على الغريم الذي عليه الدين؛ لأنه لو قال لمولى العبد: بع عبدك فلانًا بماله علي من الدين فهذا جائز، ولمولى العبد ألف على الغريم كأنه دفع عبده إلى الغريم ليبيعه بما للطالب عليه من الدين.
وفي (المنتقى): إذا قال الرجل لغيره: أشتري منك هذا بالمائة التي على فلان فهو فاسد، وقال زفر: صحيح، وعليه خرجت تلك المائة أو لم تخرج، وإن قال: أبيعك ثوبًا لك على فلان على أن تبرئ فلان الغريم عما عليه لك فهو جائز، وإذا قال لغيره: أبيعك هذه الجارية على أن تشتريها لنفسك فالبيع فاسد، هكذا ذكر في (المنتقى).
وفي (البقالي): عن أبي يوسف جوازه بخلاف قوله: على أن لا يشتريه، وإذا اشترى عبدًا وشرط الخيار لنفسه شهرًا على أنه عرضه على بيع أو استخدمه فهو على خياره فالبيع فاسد، وإذا كان لرجل على رجل دينار، فاشترى منه ثوبًا على أن لا يقاضه فالبيع فاسد.
وإذا باع عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري فالبيع فاسد في ظاهر الرواية أصحابنا حتى لو أعتقه المشتري قبل القبض لا ينفذ عتقه، ولو قبضه، ثم أعتقه ينقلب البيع جائزًا حتى يلزمه القيمة، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قولهما.
وجه قولهما: أنهما شرطا شرطًا لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، ولم يرد الشرع بجوازه، وإنه غير متعارف فيما بين الناس، وللمعقود عليه فيه منفعة، فيفسد العقد كما لو باع بشرط أن يدبر المشتري أو يكاتبه، أو باع جارية بشرط أن يستولدها المشتري.
وإنما قلنا: لا يقتضيه العقد؛ لأن البيع لا يوجب العتق على المشتري في غير القريب ولا يلائمه؛ لأن في العتق إزالة ملك المشتري عن العبد، والبيع يوجب الملك فما يزيله لا يكون ملائمًا للبيع ولم يرد الشرع بجوازه، وإنه غير متعارف؛ لأن الشراء بهذا الشرط لا يكثر وجوده، والمتعارف ما يكثر وجوده فيما بين الناس كشراء النعل بشرط أن يحدوه البائع، وكان الاستصناع، وفيه منفعة للمعقود عليه، وإنه ظاهر أيضًا، والتقريب ما مر.
ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الشراء بهذا الشرط متعارف من وجه من حيث إن الناس يبيعون المملوك بهذا الشرط، وغير متعارف من وجه من حيث إنه لا يكثر وجوده، فلكونه غير متعارف من وجه أفسدناه في الابتداء، ولكونه متعارفًا من وجه جعلناه جائزًا بعد العتق، أو نقول: هذا الشرط إذا كان متعارفًا من وجه دون وجه كان المفسد موجودًا من وجه دون وجه، فحكمنا بالفساد على سبيل التوقف لا على سبيل الثبات، فإن استهلك بوجه آخر يتقرر الفساد لكونه غير متعارف ويلزمه القيمة، وإن أعتقه يتقرر الجواز لكونه متعارفًا، ويلزمه الثمن.
وجه آخر لأبي حنيفة: إن هذا الشرط يلائم البيع، ولا يلائمه من وجه، من حيث إن فيه إزالة الملك لا يلائم البيع، ومن حيث إنه ينهي الملك ولا يقطع، وفي الإنهاء تقرير وإتمام يلائمه.
ولهذا قلنا: إن المشتري إذا أعتق العبد، ثم اطلع على عيب به كان له الرجوع بنقصان العيب كما لو مات حتف أنفه، فمن حيث إنه لا يلائم العقد حكمنا بفساد العقد في الحال، ومن حيث إنه لائم العقد حكمنا بجوازه إذا أعتق، ويمكن أن يقال: إذا كان شرط العتق يلائم البيع من وجه، ولا يلائمه من وجه حكمنا بفساد العقد على سبيل التوقف آخر ما ذكرنا.
وروى أبو شجاع عن أبي حنيفة: أن المشتري إذا أعتقه قبل القبض جاز، وهذا دليل على أن الفساد غير متقرر؛ إذ لو كان متقررًا كان لا يثبت الملك للمشتري قبل القبض وبدون الملك لا يصح إعتاقه، وهذا بخلاف شرط التدبير والاستيلاد والكتابة، والتدبير والاستيلاد شرط لا يلائم العقد بوجه؛ لأن هذه التصرفات إنهاء الملك؛ لأن إنهاء الملك إنما يتحقق إذا وقع الأمن عن الزوال عن تملك المشتري إلى ملك غيره كما في العتق والموت، وبهذه التصرفات لا يقع الأمن عن زوال الملك بجواز أن يباع فيقضي القاضي بجواز البيع في المدبر وأم الولد، ويجيز المكاتب بيع نفسه، وإذا لم تكن هذه التصرفات إنهاء للملك لا محالة لم يكن ملائمًا للعقد بوجه ما.
وفي (الأمالي): عن أبي يوسف برواية بشر: رجل اشترى دارًا على أن يتخذها مسجدًا للمسلمين فالبيع فاسد، قال: لأن المسجد يخرج عن ملك متخذه، وكذلك لو باع منه طعامًا يتصدق به.
وفي (المنتقى): إذا اشترى جارية على أن يحسن إليها أو على أن يسيء إليها فالبيع جائز رواه عن الحسن.
وفي (البقالي): إذا باع عبدًا، وشرط أن يطعمه خبيصًا لم يجز.
وفي (المنتقى): أيضًا رواية الحسن عن أبي حنيفة: إذا اشترى جارية على أن يكسوها القز، أو على أن يضربها فالبيع فاسد.
إذا اشترى من أحد دارًا على أن يسلم البيع له وعلم أن لفلان فيها شيئًا، أو لم يعلم فالبيع فاسد. وقال الحسن: إن علم أن له فيها شيئًا فإن سلم المبيع جاز وإلا كان بالخيار في حصة البائع، فإن شاء أجازه، وإن شاء أبطله.
وفي (المنتقى): إذا كان قال للمشتري: اشترِ هذا الثوب بكذا وأنت بريء، فاشترى فهو بريء.
وفيه أيضًا: إذا اشترى من آخر عينًا بكذا على أن يحط من ثمنه كذا أو على أنه حطه من ثمنه كذا فالبيع جائز، والحط جائز ويكون البيع بما وراء المحطوط، قال ثمة: وقوله: على أن يحط، مثل قوله: حططت، ألا ترى أنه لو قال لمديونه: صالحتك مما لي عليك على كذا على أن أحط لكنه كذا، فهذا حطه جائز ولو قال: بعتك هذا العبد بكذا على أني قد وهبت لك من ذلك كذا وهو حط.
وفي (فتاوى أبي الليث): لو قال: علي أن أهب لك من ثمنه كذا لا يجوز وذكر في (المنتقى): أنه يجوز.
وفي (نوادر هشام): قال: سألت محمدًا عن رجل قال لغيره: بعتك هذا الغلام بألف درهم على أني قد بعتك هذا الآخر بمائة دينار، فقال المشتري: قبلت البيع في ذلك، فالبيع جائز على الغلامين جميعًا.
وعن محمد برواية هشام أيضًا: إذا قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم على أن أبيعك هذا الآخر بمائة دينار إن هذا باطل، وإذا قال: بعتك هذا العبد بألف درهم وعلى أن تقرضني عشرة جاز البيع، ولا يعتبر قوله: وعلى أن تقرضني شرطًا؛ لأنه ذكر بحرف الواو، فكان معطوفًا على الأول لا شرطًا.
ومثله لو قال: على أن تقرضني عشرة يعتبر ذلك شرطًا حتى يفسد البيع، وهو نظير ما لو كان لرجل أرض بيضاء فيها نخيل، فقال: دفعت إليك النخيل معاملة على أن يزرع الأرض البيضاء فسدت المعاملة، واعتبر قوله: أن يزرع شرطًا للمزارعة في المعاملة، ولو قال: وعلى أن يزرع الأرض البيضاء لا يفسد المزارعة ولم يعتبر هاهنا شرطًا، ويعرف عن هاتين المسألتين كثير من المسائل.
ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده هاتين المسألتين في صلح (المبسوط): في باب الصلح عن الدين، وإذا قال المشتري: زدتك في الثمن مائة على أن تبيعني بألف درهم، ففعل جاز البيع، وكان البيع بألف درهم ومائة، وكذلك إذا قال: أهب لك زيادة في الثمن.
رجل قال لغيره: بع عبدك هذا من فلان على أن أجعل لك مائة درهم جُعلًا على ذلك، فباعه من فلان بألف، ولم يكن في عقده البيع شرط فالبيع جائز، والجعل لا يلزم، وإن كان بعده فله أن يرجع فيه من قبل أن الجعل ليس في الثمن، ولو شرط ذلك في عقد البيع فالبيع فاسد، قال: وكذلك الهبة، كذا ذكر المسالة في (المنتقى) عن أبي يوسف.
وفي (المنتقى): إذا قال: جعلت لك مائة درهم على أن تبيعني عبدك هذا بألف درهم، ففعل بطل البيع للشرط الذي فيه؛ لأن الجعل ليس من الثمن، وكذلك إذا قال: أهب لك، والمسألة بحالها، وكذلك أرشوك مائة درهم على أن تبيع من فلان بألف درهم فقال: نعم، ثم باع هو فلان، ولم يكن فيه... يؤخذ الدين........ بالرشوة.
ولو باع من آخر ثوبًا بعشرة دراهم سحتًا، أو رشوة فالبيع جائز.
وفي (نوادر ابن سماعة): عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر شيئًا على أن يدفعه إلى المشتري الثمن فالبيع فاسد.
وفي (نوادر ابن سماعة): عن محمد: رجل قال لغيره: بعتك عبدي هذا بكذا على أن تعطيني عبدك هذا، أو قال: على أن تجعل لي عبدك هذا فالبيع فاسد؛ لأن هذا عبدي على الهبة، فقد شرط في الهبة بيعًا، فيوجب فساد البيع إلا أن يقول: على أن تعطيني عبدك هذا زيادة فيجوز، ويكون العبد زيادة في البيع، وإذا قال: أبيعك هذا العبد على أن تبيعه وتعطيني ثمنه فالبيع فاسد، وإذا قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم وعلى أن يخدمني سنة أو قال: على أن يخدمني سنة فهذا باطل، وكذلك لو قال: أبيعك عبدي بثلاثمائة درهم ويخدمنك سنة، أو قال: أبيعك عبدي لخدمتك سنة فهو كله باطل.

.نوع آخر:

إذا باع برذونًا على أنه هملاج فالبيع جائز، وإذا اشترى شاة على أنها حامل، أو اشترى ناقة على أنها حامل، فالبيع جائز ذكره الحسن في بيوعه؛ لأن المشروط صفة من أوصاف البيع؛ لأن الولد ما دام في البطن في حق التصرفات المضافة إلى الأم ألحق بسائر أوصافها من اليد والرجل، فصار اشتراط أنها حامل كاشتراط أنها ذات يد وذات رجل.
وفي ظاهر الرواية لا يجوز؛ لأن الحبل في البهائم زيادة، ولا يدري وجودها وقت البيع، فكان فيه غررًا، فيفسد به البيع كما لو باع معها، وكذا بخلاف ما لو باع برذونًا على أنه هملاج؛ لأن الوقوف على المشروط ممكن وقت البيع بالسر، أما هاهنا بخلافه.
ولو باع شاة على أنها حلوب فالبيع جائز كذا ذكره الحسن في (المجرد) وكذا ذكر الطحاوي في اللبون؛ لأن المشروط صفة من أوصاف المبيع، ويمكن الوقوف على وجوده وقت البيع، فصار كما لو باع برذونًا على أنه هملاج، وبه أخذ الفقيه أبو الليث، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله. وذكر الكرخي أن البيع فاسد، وهكذا روي ابن سماعة في (نوادره)، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله.
وإذا اشترى جارية على أنها ذات لبن، فهذا وما لو اشترى شاة على أنها لبون سواء.
ووجه ذلك: أن المشروط وإن كان من أوصاف المبيع إلا أن هذا وصف لا يدري وجوده وقت البيع، فكان في البيع غرر فيكون فاسدًا، ولو باع شاة على أنها تحلب كذا كذا، فالبيع فاسد باتفاق الروايات؛ لأن المشروط ليس بصفة بهذه الصورة، فإنه لم يقل: على أنها حلوب، وإنما قال: على أنها تحلب كذا كذا، فيكون اشتراط اللبن المحلوب، وإنه مجهول على خطر الوجود فاشتراطه يوجب غررًا في العقد، فيوجب الفساد.
وكذلك لو اشتراها على أنها تضع بعد شهر فالعقد فاسد، وكذلك لو اشترى سمسمًا وزيتونًا على أن فيه كذا من الدهن فالعقد فاسد.
وإذا اشترى دابة على أنها ذات أسنان لبن فالشراء جائز؛ لأن المشروط صفة من أوصاف، المبيع والموقوف عليه ممكن وقت البيع.
فهو بمنزلة ما لو اشترى فرسًا على أنه هملاج، ولو اشترى جارية على أنها حامل، فقد ذكر الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله: أن المشايخ اختلفوا في جواز العقد، بعضهم قالوا: لا يجوز كما لو اشترط الحمل في البهائم، وهذا القائل يستدل بما ذكر محمد رحمه الله في كتاب البيع: إذا باع جارية وتبرأ من الحمل يجوز، فإنما حكم بجواز البيع في الجارية إذا تبرأ من الحمل، فهذا دليل على أنه إذا اشترط الحمل يفسد، وهذا لأن المشروط مما لا يوقف عليه وقت البيع، وقال بعضهم: البيع جائز.
قال الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله: وهذا القول أصح عندي من قبل أن الحمل في ثبات أدم بعد نقصانًا لا زيادة، فإنه يوجب ضعفًا فيها واشتراط الحمل يكون تنبهيًا من العيب، ولا يكون اشتراطًا كقولك: بعتك هذه الجارية على أنها عوراء أو عرجاء، فالشراء عن العيب كما يثبت بلفظ البراءة يثبت بالشرط.
وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله: أن اشتراط الحمل إن كان من جهة البائع، فهو تبري عن العيب، ولا يفسد العقد، وإن كان من جهة المشتري، فهو شرط على الحقيقة، والمشروط خطر العدم فيفسد العقد، من المشايخ من قال: اشتراط الحمل في الجارية إن كان لأجل الزيادة، بأن كان يشتريها ليتخذها ظئرًا يفسد البيع، وإن كان لاتخاذها ظئرًا، فاشتراط الحمل على وجه التبري، فيكون البيع جائزًا، وقد ذكر هشام في (نوادره) عن محمد رحمهما الله ما هو قريب من هذا، فإنه روى أنه قال: البيع جائز إلا أن يظهر المشتري أن لا يشتريها للظؤورة لا يجوز البيع.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله: أن الجارية إن كانت نفيسة فالبيع جائز؛ لأن الحبل منها عيب، وإن كانت خسيسة بحيث يشتري ليتخذ ظئرًا فالعقد فاسد؛ لأن الحبل في مثلها يعد زيادة، وإذا اشترى جارية على أنها تحيض، فوجدها لا تحيض لسبب الإياس كان له الرد؛ لأنه اشتراها للحبل، والآيسة لا تحبل.
ولو اشترى جارية على أن البائع لم يكن يطأها، ثم ظهر أنه قد كان وطئها ليس له أن يردها، وإذا باع جارية على أنها مغنية، أو باع قمريًا أو غيره، وشرط أنه يضع، أو طيرًا بشرط أن يجيء من المواضع البعيدة، أو كبشًا نطاحًا، أو ديكًا مقاتلًا، فالبيع فاسد، في قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن محمد؛ لأن هذه الجهات محظورة لكونها جهات محظورة فإدخالها في البيع يوجب فساد البيع.
وإن صياح القمري وصياح الديك وأشباه ذلك عسى لا يوجد، والإجبار عليه غير مكن، فكان المشروط شيئًا لا يقدر على تسليمه، فيوجب فساد البيع.
وروي عن محمد: إنه إذا باع قمريًا على أنها تصوت فصوتت جاز؛ لأن هذه خلقة فيها، فيمكن تسليم المشروط، فلهذا قال على هذه الرواية في المحرم: إذا قتل القمرية المصوتة إنه يضمن قيمتها مصوتة بخلاف ما لو قتل صيدًا يجيء من المواضع البعيدة، فإن هناك لا يعتبر قيمة الصفة في الضمان؛ لأن ذلك ليس بخلقة هكذا ذكر القدروي.
وذكر في (المنتقى): عن محمد: إذا باع فاختة أو قمرية على أنها تصوت، ولم يكن يذكر فصوتت، وأجاب بأنه يجوز، وذكر في (المنتقى) عن محمد: فيما إذا اشترى حمامة يجيء من الصالحين أن شريحا ضمنه حمامة يجيء من الصالحين وأنا ضمنه مثل ذلك ولا أجوزه في البيع، وإذا باع بازيًا على أنه يصيد قال أبو يوسف: البيع جائز، وعن محمد روايتان، وإذا باع جارية على أنها مغنية على وجه التبري من العيب فهو جائز؛ لأنها كونها مغنية عيب فالتبري عن العيب في البيع لا يفسد البيع.
وفي (الأصل): إذا باع كلبًا على أنه عقور أو حمامة على أنها دوارة لا يجوز إلا أن يبين ذلك على وجه العيب، فعلى هذا في كبش النطاح والديك المقاتل إذا ذكر الصفة على وجه العيب.
وذكر في (المنتقى): عن محمد: وإذا باع جارية على أنها مغنية أن الشراء جائز، ولم يشترط ذكر ذلك على وجه العيب، قال ثمة: ولا أرد البيع إن كانت تغني أو لا تغني؛ لأن هذا عيب تبرأ منه.
قال محمد رحمه الله في (الزيادات): وإذا اشترى الرجل من آخر عبدًا على أنه كاتب أو خباز فالبيع جائز، فإن قبضه المشتري فوجده كاتبًا أو خبازًا على أدنى ما ينطلق عليه الاسم لا يكون له حق الرد بوجود المشروط، فإن المستحق بمطلق العقد أدنى ما ينطلق عليه الاسم لا النهاية في الجودة كذا هاهنا.
وقوله: أدنى ما ينطلق عليه اسم الكتابة والخبز، معناه أن يفعل من ذلك ما يسمى الفاعل به خبازًا وكاتبًا، وهذا لأن كل واحد في العادة لا يعجز من أن يكتب على وجه يبين حروفه وأن يخبز مقدار ما يدفع الهلاك عن نفسه، وبذلك لا يسمى كاتبًا وخبازًا بشرط الإتقان بأدنى ما ينطلق عليه اسم الكاتب والخباز باعتباره لهذا، قال: وإن وجد الحسن الكتابة والخبز، ومعناه أنه لا يعرف من ذلك مقدر ما يسمي الفاعل به كاتبًا وخبازًا كان للمشتري الرد، فإن امتنع الرد بسب من الأسباب رجع المشتري على البائع بحصته من الثمن، فيقوم العبد كاتبًا وخبازًا على أدنى ما ينطلق عليه الاسم إذ هو المستحق بالشرط، ويقوم غير كاتب وخباز.
فينظر إلى تفاوت ما بين ذلك، فإن كان مثلًا العشر يرجع على البائع بعشر الثمن كما في خيار العيب، وإن كان التفاوت مثلًا الخمس يرجع على البائع بخمس الثمن، وسيأتي الكلام فيه في مسائل العيب إن شاء الله تعال.
وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه ليس للمشتري أن يرجع على البائع هاهنا بشيء؛ لأن ثبوت الخيار للمشتري إنما كان بالشرط لا بالعقد، وتعذر الرد في خيار الشرط للمشتري لا يوجب الرجوع للمشتري على البائع بشيء، ولكن ما ذكر في ظاهر الرواية أصح؛ لأن ثبوت الخيار للمشتري هاهنا ما كان بحكم الشرط، وليس أثر الشرط في إثبات الخيار للمشتري، بل أثره في صيرورة المشروط مستحقًا بالعقد، ثم ثبوت خيار لعجز البائع عن تسليم صفة السلامة، فإن وقع الاختلاف بين المشتري وبين البائع في هذه الصورة بعد ما مضى حين من وقت البيع فقال المشتري: لم آخذه كاتبًا ولا خبازًا، وقال البائع: إني سلمته إليك كاتبًا وخبازًا، ولكنه نسي عندك، وقد ينسى في مثل تلك المدة، فالقول قول المشتري، هكذا ذكر المسألة في (بيوع الجامع): لأن الاختلاف وقع في وصف عارض؛ لأن الأصل عدم الكتابة والخبز، فيكون القول قول المنكر لهذا الوصف، وهو المشتري.
قال في (الجامع) أيضًا: وكذلك لو قال البائع: هو الساعة كما شرطت، وقال العبد: أنا كذلك إلا أني لا أفعل كان القول قول المشتري، ولا يعتبر قول العبد أما؛ لأنه لا شهادة له، ولأنه شهادة فرد، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف: أن المشتري إذا زعم أن العبد ليس بخباز، فإني أسأل العبد فإن قال: لست بخباز رددته.
وإن اشترى جارية بغير شرط طبخ ولا خبز وهي تحسن ذلك فنسيت في يد البائع ردها؛ لأن الجارية بالعقد صارت مستحقة على الصفة الموجودة وصار الاستحقاق بحكم الوجود كالاستحقاق بحكم الشرط في (القدوري).
وكذلك اشترى جارية على أنها بكر، فإذا هي غير بكر عرف ذلك بإقرار البائع كان للمشتري الخيار لما مر، فلو امتنع الرد بسبب من الأسباب رجع المشتري على البائع بحصة البكارة من الثمن، فتقوم وهي بكر أو تقوم وهي غير بكر، فيرجع بفضل ما بينهما، ولكن من الثمن، ولو شرط الثيابة فوجدها بكرًا، فهي له ولا خيار للبائع.
في (القدوري) وإن وقع الاختلاف بين البائع والمشتري، وكان الاختلاف بعد قبض المشتري الجارية، فقال المشتري: لم أجدها بكرًا، وقال البائع: كانت بكرًا لكن ذهبت البكارة عندك، كان القول قول البائع مع يمينه؛ لأن البكارة صفة أصلية في النساء، فكان المدعي لوجودها وقت التسليم، وهو البائع متمسكًا بالأصل لكن يحلف البائع إليه بالله لقد باعها وقبضها المشتري وإنها بكر.
وليس المراد من قول المشتري: لم أجدها بكرًا الامتحان بالوطء فإن الوطء مانع من الرد بالعيب، ولكن معناه إني علمت أنها ليست ببكر بخبرها أو تحيرها، وهذا إذا وقع الاختلاف بعد قبض الجارية.
فأما إذا وقع الاختلاف قبل قبض مشتري الجارية، فقال المشتري: هي ليست ببكر، وقال البائع: هي بكر، فالقاضي يريها النساء بخلاف الوجه الأول؛ لأنه هناك اتفقا على عدم البكارة وقت الخصومة، إنما اختلفا فيما مضي، ورؤية النساء للحال لا يفيد العلم فيما مضى، أما هنا اختلفا في قيام البكارة للحال، ورؤية النساء في الحال يفيد العلم في الحال.
فإن قلن: هي بكر، ذكر في (الجامع): أنه يلزم المشتري من غير يمين البائع؛ لأن شهادة النساء هاهنا تأيدت بمؤيد، فإن البكارة أصل في بنات أدم، وشهادة النساء هي تأيدت بمؤيد صارت كشهادة النساء مع الرجل، ولو قامت شهادة النساء مع الرجال على البكارة لزمت الجارية المشتري من غير يمين البائع كذا هاهنا.
ونظير هذا ما قال في كتاب (الاستحسان): إن امرأة العنين إذا ادعت أنها بكر بعد مضي المدة، وادعى الزوج الوصول إليها، فالقاضي يريها النساء فإن قلن: هي بكر يجبر من غير يمين الزوج، فقد أثبت الفرقة بشهادتهن من غير يمين الزوج لما تأيدت شهادتهن بمؤيد فهاهنا كذلك، وإن قلن: إنها ليست ببكر يلزم المشتري مع يمين البائع بالله إنها لبكر، ولا ينتقض البيع؛ لأنا جعلنا في الابتداء القول للبائع، فلو ردت الجارية عليه إنما ترد بشهادة النساء بانفرادهن، وشهادة النساء بانفرادهن إذا لم تتأيد بمؤيد غير معتبرة لبناء الأحكام عليها، وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله ظاهر؛ لأن عنده شهادة النساء حجة ضرورية الثيابة الرد بجواز أنها كانت بنتًا وقت البيع، وعلم المشتري بذلك، ورضي به، فلم تثبت الثيابة بشهادتهن في حق الرد.
فأما على قولهما: فشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال حجة مطلقة، فينبغي أن يثبت الثيابة بشهادتهن في حق الفسخ، وقد روي عن محمد في (النوادر) في هذا الفصل أنه تثبت الثيابة بشهادتهن في حق الفسخ على قياس قولهما، فعلى هذا يحمل ما ذكر هاهنا على أنه قول أبي حنيفة، وفائدة شهادة النساء هاهنا على قول أبي حنيفة بوجهين: بوجه اليمين على البائع، فإن قبل شهادتهن كان لا يتوجه اليمين على البائع والآن يتوجه.
والوجه في هذا: أن دعوى المشتري الثيابة على البائع لم يعتبر في حق توجيه اليمين على البائع عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه عارض دعوى المشتري ما يبطلها، وهو كون البكارة أصلًا في بنات آدم، وقد بطل اعتبار هذا الأصل بمعارضة شهادة النساء بقي دعوى المشتري معتبرًا في حق توجيه اليمين على البائع، فإن نكل البائع ردت الجارية عليه، وإن حلف انقطعت الخصومة، ولزم المشتري الجارية.
أما قبل شهادة النساء لم يبطل كون البكارة أصلًا، فبقيت المعارضة بينهما وبين دعوى المشتري، فلا يعتبر دعوى المشتري في حق توجه اليمين على البائع، فإن لم يكن بحضرة القاضي من النساء من يثق بقولها ألزمت الجارية المشتري من غير يمين البائع لما ذكرنا أن دعوى المشتري من غير شهادة النساء غير معتبر في حق توجيه اليمين على البائع.
ولو كان المشتري اشترى عبدًا على أنه كاتب أو خباز، فلم يقبضه المشتري حتى قال: ليس هذا كما شرطت لا يجبر على قبضه، ولو اشترى جارية على أنها بكر، فقال المشتري قبل القبض: ليس هذا كما شرطت لي يجبر على قبضه؛ لأن في الفصل الأول القول قول المشتري، فلا لعبد يجبر على القبض.
قال محمد رحمه الله في (الزيادات): وإذا اشترى قوصرة تمر على أنه فارسي، فإذا هو دقلًا ثبت له حق الرد لو امتنع الرد بسبب من الأسباب يقوم فارسيًا على أدنى ما ينطلق عليه الاسم، ويقوم دقلًا على هيئة، ويرجع بفضل ما بينهما، ولكن من الثمن.
وكذا إذا اشترى قوصرة تمر فارسي على أنه جيد، فإذا هو رديء، وقد امتنع العيب بسبب من الأسباب يقوم فارسيًا جيدًا على أدنى ما ينطلق عليه الاسم، ويقوم رديًا كما هو، فيرجع بفضل ما بينهما، وإذا اشترى أرضًا على أن خراجها على البائع أبدًا، فهذا على وجهين:
إما إن شرط جميع الخراج على البائع، وفي هذا الوجه البيع فاسد؛ لأنه شرط شرطًا لا يقتضيه العقد؛ لأنه شرط قضاء دين المشتري، والعقد لا يقتضيه ولا يلائمه، وإنه غير متعارف، وللمشتري فيه منفعة، فيوجب فساد العقد.
وإما إن شرط بعض الخراج على البائع وأنه على وجهين أيضًا: إن كان المشروط على البائع ما هو من أصل الخراج، فالعقد فاسد لما قلنا، وإن كان المشروط على البائع ما هو زائد على أصل الخراج فالبيع جائز؛ لأنه شرط في البيع أن لا يجب عمل الظلم على المشتري، وهذا ثابت بدون الشرط.
وفي (فتاوى أبي الليث): إذا اشترى ضيعة مع خراج درهم وخراجها ثلاثة دراهم، فإن كان المشتري عالمًا بأن خراجها ثلاثة دراهم فالعقد فاسد؛ لأن هذا بيع شرط أن يجب الخراج على البائع، وهذا شرط فاسد لما مر، وإن لم يعلم المشتري بذلك فالبيع صحيح، وللمشتري الخيار، إن شاء قبلها بخراجها، وإن شاء تركها.
وقد قيل: إذا كان المشتري يعلم أن خراجها في الأصل درهم، وزيد عليه بعد ذلك درهمان يجب أن لا يفسد العقد كما في المسألة الأولى؛ إذ المعنى لا يوجب الفصل.
وفي (فتاوى الفضل): إذا باع أرضًا خراجها درهم فإذا خراجها ثلاثة دراهم، فالعقد فاسد ذكر المسألة مطلقة من غير فصل بينهما، إذا علم المشتري أن خراجها ثلاثة دراهم، أو لم يعلم، ويجب أن تكون المسألة على التفصيل الذي ذكرنا في مسألة (فتاوى أبي الليث).
ولو اشترى أرضًا بغير خراج والأرض خراجية فالبيع فاسد، وهذا إذا كانت الأرض خراجية في الأصل، فأما إذا لم تكن خراجية في الأصل، ثم وضع عليها الخراج ظلمًا، فالبيع يكون جائزًا، وإذا كانت الأرض خراجية في الأصل، فإنما يفسد العقد إذا علم المشتري أنها خراجية على ما ذكرنا.
وسئل القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: عن أرض خراجها عشرة، فباعها مالكها مع خراج خمسة عشر زاد عليها من خراج أرض أخرى، قال: البيع فاسد، وكذا في جانب النقصان هكذا أجاب، والجواب في جانب النقصان يؤل وتأويله ما ذكرنا، فسئل: وإن لم يعلم بمقدار أصل الخراج على هذه الأرض، واختلف البائع والمشتري في المقدار، فادعى المشتري أقل، وادعى البائع أكثر هل ينظر إلى خراج مثل هذه الأرض في تلك القرية؟ وإن أراد المشتري أن يحلف البائع ما يعلم أن أصل الخراج كذا له ذلك، قال: الخصم في الخراج نائب السلطان.
فسئل وما قوله إذا كانت البلدة خراجية إلا أنه لا يعلم كيف وضع أصل الخراج غير أنهم يوزعون الخراج على الشرب بذلك جرى العرف بينهم في القديم، فباع رجل أرضًا بغير خراج، أو بخراج قليل هل يجوز؟ قال: هذا مخالف لحكم الشرع.
إذا اشترى أرضًا على أنها حرة عن النوائب، فاذا طالب المشتري بالنوائب، فله أن يردها على البائع إن كان حيًا وعلى ورثته إن كان ميتًا، وكذلك إذا اشتراها على أن قانونها نصف دانق، فإذا هو أكثر، فله أن يردها، ثم هذا البيع جائز.
بخلاف ما إذا اشترى الأرض على أنه لا خراج عليها، أو على أن خراجها درهم، فإذا هو أكثر فالعقد فاسد؛ لأن الخراج حق دين كسائر الديون، فقد شرط المشتري قضاء دين المشتري، فأما المؤنات والجنايات فالمشتري شرط في العقد أن لا يتحمل الظلم، وهذا ثابت بدون الشرط، فإذا باع أرضًا على أنها منظور عن القانون، أو على أنها مشفوع عن الخراج، وعلى أن لا يوجد منه الخراج فالعقد فاسد، كما إذا باع على لا يغصبه غاصب.
إذا باع من آخر حانوتًا على أن عليها عشرون، فإذا هي خمس عشر، فإن أراد بذلك أنها كانت تعمل فيما مضى كذا، فهذا شرط لا ينتفع به أحد، فلا يفسد به العقد، وإن أراد بذلك أنها يعمل في المستقبل عشرين، فالعقد فاسد؛ لأن هذا شرط بشيء هو منتفع، وفي وجوده غرر، وإن أطلق ولم يفسر، ولم يرد به شيئًا فالعقد فاسد، وهو محمول على المستقبل؛ لأن مراد الناس من هذا في عرفهم وعاداتهم المستقبل فيحمل عليه.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): اشترى من آخر سكنى له في حانوت مركبًا بمال معلوم، وقد أجبره بائع السكنى أن آجره هذا الحانوت بسنة، فإذا ظهر أن أجرته عشرة ليس له أن يرد على البائع، وإن لم يسلم له شرطه؛ لأنه إنما لم يسلم له شرطه في غير المشتري، قال: وللمالك أن يكلف المشتري رفع السكنى، وإن كان على المشتري ضرر؛ لأنه شغل ملكه.
قال محمد رحمه في (الأصل): إذا اشترى الرجل من آخر طعامًا بطعام أو بغيره مما يكال أو يوزن، واشترط عليه أن يؤمن إياه في منزله، أو شرط عليه أن يحمله إلى منزله فهذا على وجهين:
إما إن اشتراه في المصر أو خارج المصر، وقد اشتراه بمثله من جنسه، أو بخلاف جنسه، وفيما إذا شرط عليه الحمل إلى منزله، فإن البيع يفسد اشتراه في المصر أو خارج المصر اشتراه بجنسه وبخلاف جنسه؛ لأنه شرط في البيع ما لا يقتضيه البيع؛ لأن حمل البائع المبيع إلى منزل المشتري ليس من قضايا البيع.
ألا ترى أن بدون الشرط لا يوجب على البائع الحمل إلى منزل المشتري؟ وإنما يجب عليه التسليم في مكان العقد إذا كان المبيع فيه.
فهو معنى قولنا: إنه شرط ما لا يقتضيه العقد، وللمشتري فيه منفعة، ومثل هذا الشرط يوجب فساد البيع، وإن شرط الإيفاء في منزله أن اشتراه خارج المصر، ومنزله في المصر، فالعقد فاسد سواء اشتراه بجنسه أو بخلاف جنسه؛ لأنه شرط في البيع ما لا يقتضيه البيع؛ لأن البيع يقتضي التسليم في مكان المبيع إذا كان المبيع فيه، ومتى كان العقد خارج المصر لا يكون منزله في المصر مكان العقد في حق الإيفاء لا حقيقة، وهذا ظاهر، ولا حكمًا؛ لأن خارج المصر لم يجعل كمكان واحد في حق الإيفاء شرعًا.
ألا ترى أن في باب السلم لو شرط الإيفاء في المصر، فأراد المسلم إليه أن يسلم خارج المصر ليس له ذلك، ولا يجبر رب السلم على القبول، فأما إذا اشتراه في المصر، وشرط الإيفاء في منزله في المصر، إن اشتراه بجنسه بأن اشتراه بحنطة، فإن العقد فاسد لقوله: عليه الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل والفضل ربًا فقد جعل الفضل على المماثلة من حيث الكيل ربًا بلا فصل بين فضل وفضل، فهو على الكل وقد شرط المشتري فضلًا لنفسه وهو الإيفاء في منزله.
فأما إذا اشتراه في المصر بخلاف جنسه وشرط الإيفاء في منزله، ومنزله في المصر، القياس: أن يكون البيع فاسدًا، وبالقياس أخذ محمد رحمه الله.
وفي الاستحسان: أن البيع جائز وبه أخذ أبو حنيفة وأبو يوسف.
وجه القياس في ذلك: أنه شرط في العقد ما لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، فيفسد العقد كما لو اشتراه خارج المصر، أو اشتراه في المصر بجنسه، أو شرط الحمل إلى منزله بيان العقد يقتضي تسليم البيع في مكان البيع إذا كان المبيع فيه منزل المشتري ليس مكان العقد حقيقة، وهذا ظاهر، وكذلك حكمًا؛ لأن خارج المنزل مع المنزل لم يجعل في حكم مكان واحد في حق الإيفاء شرعًا.
ألا ترى أن باب السلم لو شرط الإيفاء في منزل رب السلم، فأراد المسلم إليه أن يسلم خارج المنزل ليس له ذلك، فكان اشتراط الإيفاء في منزله اشتراط الإيفاء في غير مكان العقد والعقد لا يقتضيه ذلك.
وجه الاستحسان: أن شرط في البيع ما يقتضيه البيع؛ لأن شرط الإيفاء في مكان البيع والمصر مع اختلاف أماكنها جعل كمكان واحد في حق الإيفاء، أصله مسألة السلم، فإن في باب السلم إذا شرط الإيفاء في المصر جاز، وإن لم يبين محله من المصر، وهذا تبين لك أن المصر كله جعل كمكان واحد في حق الإيفاء، واذا صار هكذا صار منزله مكان العقد حكمًا في حق الإيفاء، واشتراط الإيفاء في مكان العقد مما يقتضيه العقد، وأما إذا شرط الحمل إلى منزله، فهناك شرط ما لا يقتضيه العقد؛ لأن العقد لا يوجب الحمل إلى منزل المشتري.
وأما إذا اشترى خارج المصر هناك شرط ما لا يقتضيه العقد؛ لأنه الإيفاء في غير مكان العقد على ما مر، وأما إذا اشتراه بجنسه قلنا: هناك شرط ما لا يقتضيه العقد؛ لأن منزله ليس مكان العقد في حق الإيفاء متى حصل الشراء بجنسه، وهذا لأن منزله مكان العقد في حق الإيفاء حكمًا لا حقيقة؛ لأن العقد لم يوجد في منزله حقيقة فاعتبرنا مكان العقد في حق الإيفاء متى حصل الشراء بخلاف الجنس عملًا بالحكم، ولا يعتبر مكان العقد في حق الإيفاء متى حصل الشراء بالجنس عملًا بالحقيقة، وإنا فعلنا هكذا؛ لأنا لو عملنا بالحقيقة متى حصل الشراء بالجنس وبينا الربا يلزمنا العمل بالحقيقة متى حصل الشراء بخلاف الجنس؛ لأن اختلاف الجنس أنفى للربا من اتفاق الجنس، فحينئذ يتعطل العمل بالشبهين فعملنا على الوجه الذي قلنا ليمكننا العمل بالشبهين.
وفي (الزيادات): إذا اشترى وقر حطب في المصر، فعلى البائع أن يأتي به إلى منزله للمشتري، ولو هلك في الطريق يهلك من مال البائع، وإنما يجب على البائع ذلك؛ لأن الإتيان به إلى منزل المشتري مشروط عرفًا، ولكن يجعل المشتري شارطًا الإيفاء في منزله لا شارطًا الحمل؛ لأن شرط الحمل يفسد العقد، وشرط الإيفاء لا يفسد العقد عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وفي (فتاوى أبي الليث): رحمه الله أن التفاوت بين لفظة الحمل والإيفاء في العربية، فأما في الفارسية فلا تفاوت ففي كل موضع جاز شرط الإيفاء بالعربية يجوز شرطهما بالفارسية، ولو اشترى حطبًا في قرية من رجل شراءً صحيحًا، وقال: موصولًا بالشراء من غير شرطه في الشراء: احمله إلى منزلي لا يفسد العقد؛ لأن هذا ليس بشرط في البيع بل هو كلام ابتداءً بعد تمام البيع، فلا يوجب فساد البيع.
في (فتاوى أهل سمرقند): إذا اشترى حصانه حرف على أن يحرزه البائع جاز؛ لأنه عمل الناس، وكذا اشترى من خلقائي ثوب، وبه خرق على أن يخيطه، ويجعل عليه الرقعة لما ذكرنا، وإذا اشترى من كرباسي كرباسًا على أن يقطعه قميصًا، أو يخيطه لا يجوز؛ لأنه لا يعامل في هذا، وإذا اشترى دارًا، وشرط مع الدار الفناء ذكر في (الواقعات) أن البيع فاسدٌ؛ لأن الفناء لا يصير مملوكًا للمشتري، فكان هذا شرطًا فاسدًا في بيع الدار.
وفي (بيوع المنتقى): إذا باع الرجل دارًا وكتب بحقوقها وقفًا بها قال أبو حنيفة: العقد فاسد، قال ابن سماعة: إن البيع جائز، قال: وليس هذا عندنا على معنى التمليك منه للفناء، وقد علم الناس لا يبيعه الرجل من داره.

.نوع آخر في شرط الأجل:

إذا شرط الأجل في المبيع.... المواضع أجمع لكونه مغيرًا لمقتضى العقد، وإنما جوزناه تيسيرًا للأمر على الناس، وتخفيفًا عليهم ليكتب من له الأجل في مدة الأجل، فيؤدي عند محل الأجل، وهذا المعنى يتحقق في الديون لا الأعيان، فبقي الأجل في الأعيان على أصل القياس، وإنما كان الأجل المجهول في الدين مفسدًا للعقد؛ لأن الجهالة في الأجل يفضي إلى منازعة مانعة من التسليم والتسلم، ومثل هذه الجهالة تفسد العقد، والأجل المجهول أن يبيع إلى الحصاد والدياس؛ لأن وقت الحصاد والدياس يتقدم في البلدان، ويتأخر في البعض، فالبائع يطالب المشتري بالثمن محتجًا عليه بدخول وقت الحصاد في بعض المواضع، والمشتري يمتنع عن الأداء محتجًا بعدم دخول وقت الحصاد في بعض المواضع فيتنازعان، وكذا إذا باعه إلى وقت قدوم الحاج؛ لأن قدوم الحاج قد يتقدم وقد يتأخر؛ لأن ذلك فعلهم.
وكذلك إذا باعه إلى وقت خروج العطاء؛ لأن خروج العطاء قد يتقدم وقد يتأخر، وما روت عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تخير إلى خروج العطاء، فتأويله عندنا أن الخلفاء في زمانها كانوا لا يخلفون الميعاد، فكان لا يتقدم خروج العطاء ولا يتأخر حتى أن في زماننا لو لم يتقدم ولم يتأخر نقول بالجواز أيضًا.
وكذلك إذا باع إلى صوم النصارى؛ لأن صومهم قد يتقدم وقد يتأخر، فإن كانوا دخلوا في الصوم، فباع إلى فطرهم جاز؛ لأنه لما عرف ابتداء وقت الصوم ومدته معلوم صار الأجل معلومًا، وهذا كله إذا حصل البيع إلى هذه الآجال، أما إذا باشر البيع مطلقًا، ثم أن البائع أجل المشتري في الثمن إلى هذه الآجال صح التأجيل رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله، فصار نصًا، وهذا لأن الأجل إذا لم يكن مشروطًا في البيع لا يكون من نفس البيع، وكان تأثير الأجل في تأخير المطالبة إلى هذه الآجال، وتأخير المطالبة إلى هذه الآجال صحيحة في الكفالة، وإن أجله إلى شهر الريح فهو باطل، وإن قال في رجب: أجلتك إلى رجب القابل، وإن قال: إلى انسلاخه قال: انسلاخ هذا الرجب.
ثم في باب البيع من له الأجل إذا أسقط الأجل قبل دخول وقت الحصاد والدياس انقلب العقد جائزًا استحسانًا عند علمائنا الثلاثة خلافًا لزفر والشافعي، وعلى هذا الاختلاف إذا باع بشرط الخيار إلى الأبد حتى فسد العقد بلا خلاف، ثم إن من له الخيار أسقط الخيار قبل مضي الثلاث ينقلب العقد جائزًا عند أبي حنيفة، وعندهما في أي وقت أسقط الخيار ينقلب العقد جائزًا، وعلى هذا إذا باع بشرط الخيار أربعة أيام حتى فسد العقد عند أبي حنيفة، ثم إن من له الخيار أسقط الخيار قبل مضي الثلاث ينقلب العقد جائزًا، واختلفت عبارة المشايخ في جنس هذه المسائل.
فعبارة أهل العراق أن العقد فاسد، ويرتفع الفساد بحذف الشرط، ويرفع المفسد، وعبارة أهل خراسان أن العقد موقوف، فإذا مضى جزء من اليوم الرابع في مسألة الخيار، أو دخل وقت الحصاد في بعض البلدان يفسد، وذكر أبو الحسن الكرخي نصًا عن أبي حنيفة في مسألة الخيار أن البيع موقوف على إجازة المشتري في المدة، وأثبت للبائع حق الفسخ قبل الإجازة، ومعنى هذا أن الخيار للمشتري، فيكون ولاية الإلزام له، ولكن لما كان العقد موقوفًا يتمكن البائع من الفسخ؛ لأن كل واحد من المتبايعين يتمكن في فسخ العقد الموقوف.
وأجمعوا ما إذا باع بألف ورطل من خمر، أو باع إلى أن يهب الريح، أو إلى أن تمطر السماء، ثم إن من له الخمر، ومن له الأجل إلى سقط الخمر والأجل لا ينقلب العقد جائزًا، هذا هو المذكور في عامة النسخ، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في (شرحه) في باب البيوع: إذا كان فيها شرط أنه إذا باع بألف ورطل من خمر، ثم اتفقا على إسقاط الخمر أن العقد ينقلب جائزًا، ولكن لا ينفرد أحدهما بالإسقاط بل يشترط اتفاقهما على الإسقاط وفي البيع إلى أجل مجهول ينفرد من له الأجل بالإسقاط.
ومن جملة الآجال المجهول أن يبيع إلى النيروز والمهرجان، وقد ذكر محمد رحمه الله مسألة النيروز والمهرجان في (الجامع الصغير): وأجاب بالفساد مطلقًا.
وذكر في (الأصل): وقال: إن كان لا يعرف بأن كان يتقدم ويتأخر لا يجوز كما في الحصاد والدياس، وإن كان معروفًا بالأيام بحيث لا يتقدم ولا يتأخر يجوز، وقد ذكر الكرخي في كتابه قريبًا مما ذكر في (الأصل): فإنه قيد الجواب بالفساد بما إذا كان المتعاقدان لا يعرفان، وفيه وله أحدهما، والصحيح من الجواب في هذه المسألة: أنهما إذا لم يبينا نيروز المجوس أو نيروز السلطان، فالعقد فاسد، وإذا بينا أحدهما وكانا يعرفان وفيه لا يفسد العقد، والبيع إلى الميلاد، فالبيع فاسد، هكذا ذكر محمد رحمه الله في (الكتاب): فإن كان المراد ميلاد البهائم، فالجواب على ما أطلق في الكتاب؛ لأنه مما يتقدم ويتأخر، وإن كان المراد ميلاد عيسى عليه السلام، فما ذكر من الجواب محمول على ما إذا لم يعرفا.
وفيه: إذا باع من آخر شيئًا بألف درهم، وهما ببخارى على أن يوفيه الثمن بسمرقند مثلًا لا يجوز، ولو باعه بألف درهم إلى شهر على أن يوفيه الثمن بسمرقند يجوز سواء كان الثمن شيئًا له حمل ومؤونة أو كان شيئًا لا حمل له ولا مؤونة.
ولو استقرض من آخر ألف درهم ببخارى على أن يوفيه مثلها بسمرقند، أو استقرض من آخر ألف درهم ببخارى إلى شهر على أن يوفيه مثلها بسمرقند لا يجوز، فقد فرق بين الاستقراض وبين البيع فيما إذا شرط مع بيان مكان الإيفاء أجلًا معلومًا.
والفرق: أن الأجل في القرض لا صحة له، معلومًا كان الأجل أو مجهولًا، فصار ذكر الأجل وعدمه بمنزلة، ولو لم يشترط الأجل في القرض، وشرط أن يوفيه بسمرقند لا يجوز؛ لأنه قرض جر منفعة، وفي باب البيع الأجل المعلوم صحيح، وبيان مكان الإيفاء مع الأجل لا يفسد العقد.
والفقه: أنه إذا ذكر أجلًا معلومًا مع بيان مكان الإيفاء لا يكون شرط الإيفاء في ذلك المكان على وجه التأجيل، وإنما يكون تخصيص القبض بذلك المكان، فلا يفسد العقد، وأما إذا لم يذكر مع بيان مكان الإيفاء أجلًا معلومًا كان ذكر بيان الإيفاء على وجه التأجيل، وإنه يفسد العقد؛ لأنه أجل مجهول؛ لأنه لا يدري في أي قدر من المدة يأتي سمرقند، فيكون أجلًا مجهولًا، ثم إذا صح العقد مع الأجل المعلوم، وحل الأجل، فإن كان الثمن شيئًا له حمل ومؤونة لا يطالبه إلا في مكان الإيفاء باتفاق الروايات.
وإن كان الثمن شيئًا له حمل ومؤونة، فعلى ما أشار إليه في بيوع (الأصل) وهو رواية الطحاوي عن أصحابنا لا يطالبه إلا في مكان الإيفاء، وعلى رواية كتاب الأجارات وكتاب الصرف يطالبه في أي مكان شاء، ويلغو شرط الإيفاء في ذلك المكان؛ لأنه إنما يراعي من الشرائط ما لا يفسد، ولا يفيد وتعيين مكان الإيفاء إذا لم يكن له حمل ومؤونة.
فإن قيل: على رواية كتاب الأجارات وكتاب الصرف إذا لغى هذا الشرط إذا لم يكن للثمن حمل ومؤونة ينبغي أن يصح البيع إذا لم يشترط مع بيان مكان الإيفاء أجلًا معلومًا.
قلنا: يجب بهذا الشرط شيئان تأخير المطالبة إلى أن يأتي سمرقند، وتعيين سمرقند مكان الإيفاء لا يفيد فيما ليس له حمل ومؤونة، فأما في أن يتأخر المطالبة إلى أن يأتي سمرقند مفيد، فإن من عليه ينتفع به، فيعتبر هذا الشرط في حق تأخير المطالبة إن لم يعتبر في حق تعيين مكان الإيفاء.
وفي (القدوري): إذا لم يذكر في الثمن أجلًا فسد العقد، وفي قول محمد رحمه الله، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أن القياس أن يجوز العقد؛ لأن هذا الكلام عادة يذكر لتخصص القبض بمكان لا للتأجيل، فإذا أمكن الحمل على وجه الصحة لا يحمل على وجه الفساد، ولكنه استحسن فيما له حمل ومؤونة أن يفسد العقد؛ لأن الثمن لا يجب في غير ذلك المكان، فيعتبر في معنى التأجيل، فأما فيما ليس له حمل ومؤونة لا يفسد العقد؛ لأن فيما لا حمل له ولا مؤونة يطالبه حيث شاء، فلا يصير شرط التسليم في مكان معين في معنى التأجيل بل يلغو ذكر الشرط، ويصير كأنه أطلق العقد.
وفي (نوادر بشر): عن أبي يوسف: أن اشتراط إيفاء الدراهم في حق عقد البيع في بلد آخر لا حكم له إن كان له حمل ومؤونة، أو لم يكن، وله أن يأخذه بها إذا حل أجلها حيث تعين وللمطلوب أن يقتضيه حيث تعين، وإن كره ذلك الطالب، وإن لم يكن للمال أجل فهو سواء في القياس غير أني أستحسن إذا فسد البيع إذا كان له حمل ومؤونة للشرط الذي فيه من الحمل والمؤونة.
وفي (مجموع النوازل): رجل باع من آخر ثوبًا بعينه ببغداد على أن يوفي المشتري الثمن أخ البائع بسمرقند، فالبيع فاسد؛ لأنه توهم اشتراط الثمن لغير البائع، وهو الأخ، واشتراط الثمن لغير البائع، أو على غير المشتري يوجب فساد البيع، وإن صورنا المسألة فيما إذا كان الثمن للبائع، والأخ وكيله بالقبض فالبيع فاسد أيضًا؛ لأن فيه أجلًا مجهولًا على نحو ما بينا.
وفيه أيضًا: رجل باع عبدًا بألف درهم على أن ينقده خمسمئة عند مضي شهر، فقال البائع: أنا أطلب منك جميع الثمن قال: البيع فاسد لجهالة الأجل؛ لأنه لا يدري ماذا يمكنه تسليم عند كل أسبوع؟ وفيه نظر؛ لأن هذا بمنزلة ما لو باع على أن نصف الثمن مؤجل إلى شهر، والنصف بعد ذلك جائز فهاهنا كذلك.
وفي (المنتقى): إذا باع عبدًا على أن يؤدي ثمنه يوم القيامة، فقال المشتري: أودي الثمن في الحال جاز البيع.

.نوع آخر:

إذا باع من آخر شخصًا على أنها جارية، وأشار إليه، فإذا هو غلام فلا بيع بينهما، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله.
والقياس: أن ينعقد البيع، ويكون للمشتري الخيار، الأصل في هذه المسالة وما يجانسها أن الإشارة مع التسمية وإذا اجتمعتا في العقد فوجد المشار إليه على خلاف المسمى إن كان الخلاف من حيث الجنس، فالبيع باطل حتى إن من باع من آخر فصًا على أنه ياقوت، فإذا هو زجاج كان البيع باطلًا؛ لأن المشار إليه من خلاف جنس المسمى؛ لأن الزجاج من خلاف جنس الياقوت، وإنما كان البيع باطلًا في هذه الصورة؛ لأن المشار إليه إذا كان من خلاف جنس المسمى، فالعقد يتعلق بالمسمى وتلغو الإشارة، فإذا كان المسمى معدومًا كان المبيع معدومًا، والبيع على المعدوم باطل، وإنما كانت العبرة بالتسمية في هذه الصورة إذ لا يتمكن العمل بالإشارة والتسمية معًا في هذه الصورة؛ لأن الإشارة توجب تعلق العقد بالمشار إليه، وهو الزجاج، والتسمية توجب تعلق العقد بالمسمى وهو الياقوت، والعقد الواحد لا يجوز أن يتعلق بالياقوت والزجاج بكل واحد منهما على الإنفراد في وقت واحد، فلابد من العمل بأحدهما، وإلغاء الأخرى، فنقول: العمل بالتسمية وإلغاء الإشارة أولى من العمل على العكس؛ لأن الإشارة مع التسمية إن استويا من حيث إن التسمية كما يقطع الشركة بين المسمى وغيره من خلاف الجنس، ومن حيث إن التسمية إن كانت تعرف الماهية، والإشارة لا تعرفها، فالإشارة تقطع الشركة بين المشار إليه وغيره من جنسه، والتسمية لا تقطع الشركة بين المسمى وبين غيره من جنسه، فاستويا من هذا الوجه؛ إلا أن ما في التسمية من تعريف الماهية فوق ما في الاشارة من التعريف بقطع الشركة بين المشار إليه، وبين غيره من جنسه؛ لأن الماهية مقصودة لعينها.
وقطع الشركة بين المشار إليه وبين غيره من جنسه مقصود لا مكان التسليم لا لعينه، ولا شك أن المقصود لعينه فوق المقصود لغيره، فترجحت التسمية على الإشارة من هذا الوجه، فوجب العمل بها دون الإشارة عند تعذر العمل بهما والتقريب ما ذكرنا.
وإن كان المشار إليه من جنس المسمى إلا أنه يخالفه في الصفة، فالعقد جائز، وللمشتري الخيار إذا رآه كما لو اشترى فصًا على أنه ياقوت أحمر، فإذا هو ياقوت أصفر، فالبيع جاز، وللمشتري الخيار، إذا رآه؛ لأن المشار إليه إذا كان من جنس المسمى، فالعبرة للإشارة؛ لأن المسمى وجد في المشار إليه، وهو المقصود من التسمية وهو تعريف الماهية قد حصل؛ لأن المشار إليه ياقوت كالمسمى، فصار حق التسمية بعضًا بقيت الإشارة لتعيين الذات؛ لأن المسمى شائع في الجنس، والإشارة تعينه، فكان في الإشارة زيادة تعريف في هذه الصورة، فكانت العبرة للإشارة حال اتفاق الجنس، وتلغو التسمية، فكأنه أشار في البيع، ولم يسم، وهناك ينعقد على المشار إليه فهاهنا كذلك إلا أنه يثبت للمشتري الخيار؛ لأنه شرط له زيادة وصف في المشار إليه حيث قال: على أنه أحمر كأنه قال من الابتداء: بعتك هذا على أنه أحمر، فإذا وجده أصفر، فقد فات الوصف المذكور في المشار إليه، فلهذا كان له الخيار، وصار كما لو قال: بعتك هذا على أنه كاتب أو خباز، ولم يسم العبد فوجده غير كاتب، وغير خباز، وهناك يجوز العقد، ويكون للمشتري الخيار، وكذا هاهنا إذا ثبت هذا، جئنا إلى بيان مسألتنا، وأنها على القياس والاستحسان.
وبيان وجه الاستحسان: أن الذكر مع الأنثى من بني آدم جنسان مختلفان؛ لأن اختلاف المجانسة بين الشيئين باختلاف الصورة، والمقصود في بني آدم مختلفة، وهذا ظاهر كذلك المقصود مختلف، فإن ما ينبغي من الذكر من الزراعة والجهاد لا ينبغي من الأنثى من الغزل والطبخ والاستفراش لا ينبغي من الذكر، وصار كالمروي مع الهروي، وكان كالزندنجي مع الوداري اعتبرا جنسين مختلفين لاختلاف الصورة والمقصود، وكذا هاهنا، وإذا ثبت أن الذكر مع الأنثى من بني آدم جنسان مختلفان يتعلق العقد بالمسمى، والمسمى معدوم فكان البيع باطلًا.
ولو اشترى شاة على أنها نعجة، فإذا هي ضأن فالبيع جائز؛ لأن الذكر مع الأنثى في البهائم جنس واحد؛ لأن الصورة، وإن كانت مختلفة فالمعنى واحد؛ لأن ما ينبغي من الذكر من العمل والأكل ينبغي من الأنثى، وفي منفعة الولاد يشتركان والمقصود راجح على الصورة، فترجح ما يوجب اتحاد الجنس، فجعلنا الجنس واحدًا، وقد ذكرنا أن في الجنس الواحد العبرة للإشارة كأنه أشار ولم يسم، وهناك ينعقد العقد كذا هاهنا، ثم ما ذكرنا أن المشار إليه إذا كان من خلاف جنس المسمى، فالعقد يتعلق بالمسمى فذلك إذا لم يعلم المشتري والبائع أن المشار إليه من خلاف جنس المسمى، فأما إذا علما بذلك، فالعقد يتعلق بالمشار إليه.
ألا ترى أن من قال لغيره: بعتك بعت منك هذا الحمار، وأشار إلى عبد قائم بينهما ينعقد العقد على العبد؟ وكذلك إذا قال لغيره: اشترِ لي بهذه الألف درهم جارية، وأشار إلى الدنانير وفي (الزيادات) ذكر مسألة الوكالة، وشرط لتعليق الوكالة بالمشار إليه، فعلم الوكيل والموكل بالمشار إليه، وعلم كل واحد منهما بعلم صاحبه بحال المشار إليه.
ومن هذا الجنس:
لو باع دارًا على أن بناءها آجر، فإذا هو لبن فالبيع باطل، الأغراض والمقاصد تتفاوت تفاوتًا فاحشًا فيلتحق بالجنس المختلف، فيتعلق العقد بالمسمى، والمسمى معدوم، ولو باع دارًا على أن فيها بناء، فإذ لا بناء فيها فالبيع جائز، والمشتري بالخيار، ويأخذها بجميع الثمن إن شاء، وفي المسألة نوع إشكال، فإن انعدام الوصف أقوى من اختلاف الوصف، ثم اختلاف الوصف في المسألة الأولى منع انعقاد البيع، وعدم الوصف في المسألة الثانية لم يمنع.
والوجه في ذلك: أن في المسألة الأولى بين الموجود والمذكور تفاوت فاحش في الأغراض، وباعتبار فحش التفاوت التحقا بالجنسين المختلفين، فلا يدخل الموجود تحت المذكور، فلو أوجبنا العقد في الموجود، فقد أوجبناه في غير ما تناوله الذكر، وإنه لا يجوز، فأما اسم الدار فيتناول العرصة بانفرادها أيضًا، فإذا انعدم البناء لو أوجبنا العقد في العرصة، فقد أوجبناه فيما تناوله الذكر، فلهذا افترقا، فهذا غاية ما قيل في الفرق بين المسألتين ولم يتضح لنا وجه.
وذكر الخصاف: إذا اشترى دارًا على أنها مبنية بالجص أو منتفعة بالساج، فكان بخلافه، أو كان معدومًا، فالبيع جائز، وكذا النخل على أنه دقل بخلاف الزرع على أنه حنطة، فإذا هو شعير، ولو باع جبة على أن ظهارتها كذا، وبطانتها كذا، أو حشوها كذا، فوجد الظهارة على ما شرط والبطانة والحشو على خلافه فالبيع جائز، ويتخير المشتري، وهذا لأن الجبة ينسب إلى ظهارتها ويعرف بها فهي الأصل، والبطانة والحشو تبع، فإذا وجد الظهارة على خلاف ما سمي جنسًا كان المسمى معدومًا، فيقع العقد باطلًا، وإذا كانت الظهارة على وفاق ما سمي جنسًا لم يكن المسمى منعدمًا، فجاز أن ينعقد العقد.
وروي أن الظهارة إذا كانت أقل قيمة مثل أن يكون البطانة وبرًا أو سمورًا، والظهارة من كرباس، أو ما أشبهه، أن العقد لا يبطل، وإذا باع قباء على أن بطانته هروي، فإذا هي مروي، فالبيع جائز، ويتخير المشتري؛ لأن البطانة تبع، فالاختلاف يوجب الخيار، ولا يمنع الانعقاد، وكذا إذا قال: على أن حشوه قز، فإذا هو قطن، ولو باع ثوبًا على أنه مصبوغ بعصفر، فإذا هو مصبوغ بزعفران فالبيع باطل؛ لأن الأغراض تتفاوت بتفاوت اللون تفاوتًا فاحشًا، فاختلفتا كالجنس المختلف.
ذكر القدوري المسألة على هذا الوجه، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد، وأشار محمد إلى العلة فقال: لأنه باع مافي الثوب من الصبغ كما باع الثوب وشرط ذلك الصبغ عصفر، وتبين أنه غيره وهو شيء قائم في الثوب.
وفي (المنتقى): إذا باع ثوبًا على أنه مصبوغ بعصفر، فإذا هو أبيض فالبيع جائز، ويتخير المشتري إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
في (البقالي): وهذا بخلاف بيعه أبيض، فإذا هو مصبوغ حيث لايجوز.
قال في (البقالي): وكذلك شراء الدار على أن لا بناء فيها، فإذا فيها بناء يريد أن هذا وبيع الثوب على أنه أبيض، فإذا هو مصبوغ سواء حتى لايجوز، وإذا باع أرضًا على أن فيها نخيلًا وأشجارًا، فإذا ليس فيها نخيل وأشجار فالبيع جائز، ويتخير المشتري كما لو باع دارًا على فيها بناء، فإذ لا بناء فيها، وإذا باع أرضًا بنخيلها وأشجارها فهذا وما لو باعها على أن فيها نخيلًا وأشجارًا سواء، وكذا إذا باع دارًا بسفلها وعلوها، فإذ لا علو لها كان للمشتري الخيار؛ لأنه قال: بسفلها وعلوها، فكأنه قال: على أن لها علوًا، وهناك للمشتري الخيار كذا هاهنا.
وإذا قال: بعتك هذه الدار بأخداعها وأبوابها وخشبها، فإذا ليس فيها أخداع ولا أبواب ولا خشب فهو بالخيار، وإن كان فيها بابان أو خدعان، فلا خيار له؛ لأن اسم الجمع يتناول اثنين فصاعدًا، فقد وجد أدنى ما ينطلق عليه الاسم أنه كاف لإسقاط الخيار، ولو كان فيه باب واحد وخدع واحد فله الخيار؛ لأن اسم الجمع لا ينطلق على الواحد.
ولو قال: بعتكها بما فيها من الأخداع والأبواب والخشب والنخل، فلم يجد شيئًا من ذلك فلا خيار له؛ لأن في هذه الصورة لم يشترط هذه الأشياء في البيع، ولا جعلها صفة للبيع بل أخبر على وجودها فيه، وانعدام ما ليس بمشروط في البيع ولا صفة للمبيع لايوجب الخيار، أما في قوله: بأخداعها وأبوابها جعل هذه الأشياء صفة للدار، فالبيع يتناول الموصوف بصفة، فإذا لم يجده بتلك الصفة يثبت الخيار ضرورة هذه الجملة من (المنتقى).
وفيه أيضًا: إذا اشترى أرضًا على أن فيها كذا نخيلًا، أو اشترى دارًا على أن فيها كذا بيتًا، أو اشترى سيفًا على أنه محلى بمئة درهم فضة، أو اشترى نعلًا على أنها مشركة بشراك، أو خاتمًا على أن له فصًا من ياقوت، أو فصًا على أنه مركب في حلقة، فإذا لا نخيل ولا شراك ولا بيوت إلخ أفكانت هذه الأشياء كما شرطت، فاحترق النخيل، وانهدمت البيوت، وتلف الشراك وأشباه ذلك قبل القبض، فالمشتري بالخيار في هذه الصورة إن شاء أخذ الباقي بجميع الثمن، وإن شاء ترك إلا في خصلة، وهو ما إذا اشترى فصًا على أنه مركب في حلقة ذهب، فلم توجد الحلقة، فإن هذه الصورة للبيع فاسد؛ لأن للحلقة حصة من الثمن، ولا يعرف الحصة أما فيما عدا ذلك، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
والجملة في ذلك أن كل شيء يباع، ويدخل غيره في البيع تبعًا من غير ذكر ذلك الغير، فإذا بيع ذلك الشيء وشرط ذلك الغير معه في البيع، ووجد ذلك الشيء، ولم يوجد ذلك الغير، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ ذلك الشيء بجميع الثمن، وإن شاء ترك، بيانه في النخيل مع الأرض، فإن النخيل يدخل في البيع في بيع الأرض من غير ذكر تبعًا للأرض، فإذا شرط النخيل مع الأرض، ولم يوجد النخيل، فالمشتري يأخذ الأرض بجميع الثمن إن شاء، وكل شيء يباع ولا يدخل غيره في بيعه تبعًا له من غير ذكر، فإذا بيع ذلك الشيء، وشرط غيره معه في البيع، ولم يوجد ذلك الغير، فالمشتري يأخذ ذلك الشيء بحصته.
وذلك نحو أن يشتري أرضًا فيها نخيل، وشرط الثمن مع النخيل، فإذا لا تمر في النخيل، أو كان فيها تمر إلا أنه هلك قبل القبض، فالمشتري يأخذ الأرض والنخيل بحصتها من الثمن وعن هذا قلنا: إذا اشترى أرضًا فيها زرع، وشرط الزرع، فاحترق الزرع قبل القبض، فالمشتري يأخذ الأرض بحصتها من الثمن.
وإذا قال: بعتك هذا الثوب القز أو الخز فكان مختلطًا، فإن كان السدى ناشر مما شرط واللحمة من غيره، فالبيع باطل، وإن كانت اللحمة مما شرط فالبيع جائز، وتخير المشتري في فصل القز، وهذا لأن الثوب إنما يصير ثوبًا بتركيب اللحمة بالسدى واللحمة آخرهما، فيضاف الثوب إلى اللحمة على خلاف المشروط كان المسمى معدومًا، فلا يصح العقد، فأما إذا كانت اللحمة من جنس المسمى كان المسمى موجودًا، ولكن اختلفت الصفة فانعقد البيع لوجود المسمى وثبت الخيار لفوات الصفة، وفي الخز لا خيار للمشتري إذا كانت اللحمة خزًا، والسدى من غيره؛ لأن الخز لا يوجد إلا بهذه الصفة.
قال بشر: سألت أبا يوسف: عن رجل اشترى من آخر ثوبًا على أنه كتان، فإذا ثلثه قطن فله أن يرده، وإن قطعه لم يرجع بشيء، ولو كان أكثره قطنًا فالبيع فاسد، وإذا اشترى عبدًا على أنه فحل، فإذا هو خصي، فللمشتري أن يرده، وإذا اشتراه على أنه خصي، فإذا هو فحل روى الحسن ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا خيار له قال: وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: الخصى في العبد عيب، فإذا شرط فإنما يبرأ عن العيب، وقال أبو يوسف الخصى في ثمنه أفضل من الفحل لرغبة الناس فيهم؛ لأنهم لا يمتنعون عن دخولهم كما يمتنعون عن دخول الفحل، قال: وهو في القيمة زيادة.
ولو اشتري على أنه فحل، فإذا هو خصي، وقد مات عند المشتري، أو حدث به عيب عنده، وقد اشتراه بعشرة آلاف درهم، وقيمته خصيًا ثلاثة آلاف درهم، وقيمته فحلًا ألف درهم، قال محمد رحمه الله: في قياس أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يلزمه شيء؛ لأن الخصي هاهنا أفضل قيمة من الفحل، وقال محمد: إن شاء البائع أعطاه قيمته خصيًا ثلاثة آلاف درهم، وأخذ منه عشرة آلاف درهم الثمن، معناه إن رضي البائع أن يأخذ من المشتري قيمته خصيًا ثلاثة آلاف درهم أعطاه المشتري ثلاثة آلاف درهم، وهذا لأن العبد لو كان قائمًا كان للمشتري أن يرده على البائع، ويسترد منه الثمن، فإذا كان هالكًا رد قيمته ليكون رد للعبد معنىً غير أنه يشترط رضى البائع؛ لأن البيع ورد على صورة العبد بمعناه وتعذر رد الصورة.
وفي (نوادر بشر عن أبي يوسف): إذا اشترى سفينة على أنها من ساج، فإذا فيها غير الساج، قال: إن كان شيئًا لابد من أن يكون، فلا خيار له وهو بجميع الثمن، يريد بهذا: أنه إذا استعمل فيها شيء من غير الساج لا يصلح ذلك الشيء إلا من غير الساج، ولو كان كل السفينة غير الساج فلا بيع بينهما.
وروى بشر عن أبي يوسف أيضًا: في رجل قال لغيره: بكم هذا الثوب الهروي والثوب مصبوغ صبغ الهروي؟ فقال: بكذا فبايعه، قال أبو حنيفة: هو مثل الشرط أنه هروي، وهو قول أبي يوسف، يريد بهذا أنه لو تبين أنه مروي كان البيع باطلًا قال أبو يوسف: ألا ترى أنه لو قال لغيره: بكم هذا الغلام، وهو مشكل فبايعه، فإذا هو جارية أنه لا يقع بينهما بيع، وعن شريح أنه لم يجعله شرطًا.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل اشترى من آخر سمكة على أنها عشرة أرطال وزنها على المشتري، فوجد في بطنها حجرًا وزنه ثلاثة أرطال ونحو ذلك، والسمكة على حالها، فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذها بجميع الثمن، وإن شاء ترك، وإن كان قد شواها قبل أن يعلم بذلك، فإني أقوم السمكة على أنها عشرة أرطال وأقومها وهي سبعة أرطال، فيجمع بحصته ما بينهما من الثمن، فقد اعتبر محمد نقصان الوزن في السمكة بالعيب حتى قال: يقوم السمكة عشرة أرطال، ويقوم سبعة أرطال وهذا هو ذات العيب، ولم يعتبر نقصان العيب بنفسه إذ لو اعتبر ذلك لقال: يرجع بثلاثة أعشار الثمن، وعن أبي يوسف أنه قال في هذه الصورة: المشتري لا يرجع على البائع بشيء وإن وجد في بطنها طيبًا أو ما أشبهه ذلك مما يأكل السمك، فإن ذلك مما يأكل السمك لزمه البيع، ولا خيار.
وقال محمد فيمن اشترى طشتًا على أنه عشرة أمناء فقبضه، فإذا هو خمسة أمناء فهو بالخيار، وإن شاء أمسكه بجميع الثمن، وإن شاء ترك، قال: وهذا بمنزلة العيب، وإن كان حدث بها عيب عند المشتري، وأبى البائع قبوله لأجل العيب، فإنه ينظر إلى الطشت، فإن كان قيمة الطشت على عشرة أمناء عشرون، والعيب ينقصه على قيمة خمسة أمناء درهم، فإنه يرجع على البائع بنصف الثمن لنقصان الوزن، ويرجع أيضًا بعشر الثمن لأجل العيب، وذلك درهم؛ لأن العيب قد ينقصه درهمًا.
وإذا قال لغيره: أبيعك هذا الزق وهذا الزيت الذي فيه على أن الزق خمسون رطلًا، وعلى أن الزيت خمسون رطلًا كل رطل منها درهم، فوجد الزق ستين رطلًا، والزيت أربعين رطلًا، فإن الثمن ينقسم على قيمة الزيت، وعلى قيمة الزق، ثم يزاد على الثمن حصة العشرة الآرطال التي وجدها ناقصة عن الزيت، ثم يقال له: إن شئت فخذ وإن شئت فدع؛ لأن الزق قد وقع البيع على جميعه.
قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى مسكًا وزنًا، فوجد فيها رصاصًا، فهو بالخيار إن شاء رد الرصاص وحط عن الثمن بقدر وزن الرصاص، وإن شاء ترك، وإذا اشترى سمنًا وزنًا، فوجد فيه زبأ، قال محمد: إذا كان زبأ يوجد مثله في السمن، ولا يعد عيبًا لزمه بجميع الثمن، وإن كان يعد عيبًا، فإن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك، وإن كان زبأ لا يكون مثله في السمن، فإن شاء أخذ بحصته، وإن شاء ترك.
وهو نظير ما قال محمد رحمه الله في الثمار التي في السلال، وفي أسفلها الحشيش: إن الحشيش إذا كان قدر ما يوضع في مثله أنه لاخيار له، وقال أبو حنيفة رحمه الله: في الزيت يبيعه الرجل، فيجد فيه المشتري الطين، أو المسك يبيعه الرجل، فيجد فيه المشتري رصاصًا إن المشتري بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء رده، وقال ابن أبي ليلى: يرد الرصاص والطين وما أشبه ذلك بحسابه، وكذلك قال أبو يوسف في الرصاص والطين؛ لأن الرصاص ليس من المسك، والطين ليس من الزيت، فيردهما وأمثالهما بالحساب، وأما السمن يبيعه الرجل فيجد فيه زبأ يكون ذلك عيبًا فيه، فهو بالخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك؛ لأن هذا منه، وكذلك العود يشتريه الرجل على أنه هندي، فإذا هو غير هندي، قال: ولا أنظر في هذا إلى اليسير منه، وإنما أضع هذا على الكثير، فإذا كان في الكثير لايجب عليه أن يرده لم أمض عليه ذلك في اليسير.
وفي (الإملاء) عن محمد: إذا باع الفص دون الفضة وقلعه يضر بالفص دون الفضة أو يضر بهما، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ الفص بحصته من الثمن على قيمته غير ناقص وعلى قيمته ناقصًا لم يبطل عن المشتري حصة النقصان من الثمن، ويكون المشتري بالخيار إن شاء أخذ الفص بما بقي من الثمن، وإن شاء ترك، قال: ولا يشبه هذا شراء الفص والفضة جميعًا إذا صار قلع أحدهما يضر بالآخر، أو يضر بهما؛ لأن ذلك صرف إذا بطل بعضه بطل كله، والأول ليس بصرف إنما باعه الفص وحده، وإنما بطل البيع فيه بالضرورة، فإذا اندفعت الضرورة، أو رضي صاحبها جاز البيع.
قال: ألا ترى أن رجلًا لو اشترى من رجل خشبة في حائط يضر قلعها بالبائع إن يقلعها، وإن يبطل البيع، فإن لم يبطله حتى قلع البائع الخشبة سلمت الخشبة للمشتري إلا أن يكون القلع ينقصها ويضر بها، فيكون المشتري بالخيار على ما وصفت لك بالقبض في الفص.
إذا اشترى كفرى فصار تمرًا قبل أن يقتضيه، أو اشترى بيضًا فخرج هاهنا فرخ قبل القبض، فهو بالخيار.
قال رحمه الله: إذا قال للقصاب: زن لي من هذا اللحم ثلاثة أرطال بكذا، فقطعه ووزنه فللمشتري الخيار؛ لأن هذا ليس بشيء معلوم ومعناه أن موضع اللحم يتفاوت، فكان أن لايرضى بهذا، وإن قال: زن لي من هذا الجنب، أو من هذه الرجل ثلاثة أرطال بكذا، فوزن له منه، فلا خيار له؛ لأن اللحم من موضع معين من الشاة قلما يتفاوت، فهو بمنزلة ما لو اشترى قفيزًا من صبرة.
ولو قال: زن لي ما عندك من هذا اللحم على حساب ثلاثة آرطال بدرهم، فهو جائز، ولا خيار له قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: ذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في هذه المسالة مثل ما قال محمد.
وفي (نوادر هشام): عن محمد: رجل اشترى من آخر جراب ثياب هروي أو غيرها، أو اشترى قوصرة تمر فلم يقبضها حتى عمد البائع، وأخرج الثياب من الجراب، وأخرج التمر من القوصرة، ثم باع الجراب أو القوصرة، وترك التمر أو الثياب، أو لم يبع الجراب والقوصرة، ولكنه انتفع بها قال: المتاع والتمر لازم للمشتري وليس له أن يمتنع عن الثياب والتمر لمكان الجراب والقوصرة.
اشترى جارية بكرًا ولم يسم البائع أنها بكر، فزالت بكارتها في يد البائع، فللمشتري الخيار، وقد ذكرنا وجه ذلك في فصل الخبازة.
وإذا اشترى من آخر رمان على أنها حامضة، فقال بعد الشراء من غير أن يكسرها: إنها حلوة وقال البائع: إنها حامضة، فالقول قول البائع؛ لأن الرمانة قد يكون حلوة وقد يكون حامضة، وروي في الحلو بخلاف هذا، فقد روي أن من اشترى من أخر رمانة على أنها حلوة، ثم اختلفا فيه، فالقول قول المشتري، وعلى البائع أن يوفيه شرطه، والمسألتان في بيوع (المنتقى).
إبراهيم عن محمد: إذا اشترى من آخر من بر، فإذا فيه وكان عظيم أو باع بئرًا من بر وقال: إنه كذا كذا ذراعًا، فإذا هو أقل من ذلك، وقد أكل بعض البر، فنقول: حكم المسألة قبل أكل شيء من البر أن المشتري بالخيار، وإن شاء أخذ بجميع الثمن وإن شاء ترك، وبعد أكل شيء من البر للمشتري أن يرد الباقي ومثل ما أكل، ويرجع بجميع الثمن، وروي هشام عن أبي يوسف مثل ماروي إبراهيم عن محمد.
قال: ولو كان طعامًا في قفيز أو في حب، فباعه بعشرة دراهم، فإذا نصفه بين قال: يأخذه بالثمن وأشار إلى الفرق، فقال: لأن القفيز والحب وما يكال بهما، ألا ترى لو قال: بعت منك ملاء هذا القفيز أو ملاء هذا الحب يجوز والبيت والبئر ما يكال بهما ولا يشتري بهما.
وإذا باع دارًا على أنها ألف ذراع فكانت تسعمائة، فباعها المشتري قال: إن لم يرجع على الأول فالأول لا يرجع على صاحبها، وإن رجع الآخر عليه رجع هو أيضًا.
قيل: يجب أن يكون تأويل المسألة: أن المشتري باعها قبل أن يعلم أنها تسعمائة، أما لو علم أنها تسعمائة وباعها كذلك، فلا رجوع له على صاحبه، وإن رجع المشتري الآخر عليه.
وعلى هذا إذا اشترى طشتًا أو ملئها، اشترى حبة لؤلؤة وشرط لها وزنًا وتقابضا، ثم وجدها ناقصة وقد استهلكها، قال: لا يرجع عليها بشيء في قياس قول أبي حنيفة، ولكنه استقبح ذلك قياسه فيه؛ لأن نقصان اللؤلؤة يحط من الثمن شيئًا كثيرًا، وجعل له أن يرجع بالنقصان.
إذا اشترى بستانًا فيه نخل وشجر وشرط له أنه عشرة أجربة وقبضه بغير مساحة، وأكل ثمره سنين، ثم وجد تسعة أجربة لم يرد، ولم يرجع الباقى في قياس قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يقوم هذا الجرب الناقص أرضًا بيضاء مثل بقية أرض البستان، ويقوم النخل والتمر والشجر، ثم يقسم الثمن على ذلك، فما أصاب الجريب الناقص من الثمن رجع به هكذا ذكر في (المنتقى)، وذكر بعد هذا عن أبي يوسف ما يدل على أن الجريب الناقص من الثمن رجع به هكذا ذكر في (المنتقى)، وذكر بعد هذا عن أبي يوسف ما يدل على أن الجريب الناقص يقوم مراحًا ولا يغير النخل والشجر في التقويم، روي عن أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة أيضًا: أنه لا يرجع بشيء، وذكر بعد هذا محمد فيمن اشترى أرضًا فيها نخل وكرم على أنها عشرة أجربة، وأكل ثمرها سنين، ثم تبين أنها خمسة أجربة قال: يقوم هذه الأرض وهي خمسة أجربة بكم تساوي، ولو كانت عشرة أجربة في مثل حالها بكم تساوي، فيرجع بفضل ما بينهما.
وإذا اشترى أرضًا بزرعها، فحصد المشتري الزرع، ثم وجد الأرض انقص جرابًا مما اشترى أنه يرد الأرض بحصتها.
رجل معه قفيزان من حنطة في زنبيل، فباع قفيزًا من رجل بدرهم، ولم يبقض حتى باع من آخر قفيزًا منه بدرهم، ثم هلك أحد القفيزين، فالمشتريان بالخيار إن شاء أخذ كل واحد منهما نصف القفيز الباقي بنصف الثمن، وإن شاء ترك أحدهما حصته، فإن أراد الآخر أن يأخذ القفيز كله بدرهم، فليس له ذلك إلا إن شاء البائع من قبل أنه كان وجب للثاني قيمة نصفه، فإن قبض المشتري الآخر قفيزًا، أو لم يقبض الأول شيئًا، يريد به إذا لم يهلك أحد القفيزين، ثم إن المشتري الآخر رد ذلك القفيز على البائع بعيب بقضاء قاضي، فليس للمشتري الأول في القفيز المردود شيء إنما له أن يأخذ القفيز الثاني، أو يترك، فإن خلط البائع أحد القفيزين بالآخر انتقض بيع الأول من قبل أن البيع صار له في الباقي، وقد صار البائع له مستهلكًا حين خلطه بغيره، وإن لم يخلطه البائع، وقد كان قد رد عليه بعيب بقضاء قاضي، وليس بالقفيز الباقي عيب، فأراد المشتري الأول أن يأخذ القفيز الباقي دون المردود، فأبى البائع إلا أن يأخذ نصف كل واحد منهما، فذلك للبائع من قبل أن القاضي يقضي البيع فيه.
فصار بمنزلة ما لم يبع، فلو هلك القفيز الباقي عنده، وبقي المردود الذي به عيب، فأراد المشتري الأول تركه، فذلك له من قبل أن الهالك لم يكن به عيب، وإن أراد أخذه كله فله ذلك، وإن شاء أن يأخذ نصفه فعل، ولو كان القفيز الهالك هو المردود الذي به عيب، والقفيز الباقي هو الأول الذي لم يكن به عيب، فللمشتري أن يأخذ نصفه، وليس له أن يأخذ كله، وإن سلم البائع كله فللمشتري أن يمتنع.
رجل عنده كر حنطة، فباع نصفه من رجل، ثم باع النصف الباقي من رجل، ثم قبض الأول منه مختومًا، ثم هلك نصفه وبقي نصفه، فالمختوم الذي قبض الأول له إن شاء، ويأخذ مما بقي بحصة ذلك، والآخر بحصة ما بقي يضرب فيه الأول بنصف كر المختوم ويضرب الآخر بنصف كر، ولا بيع شركة للثاني في المختوم الذي قبضه الأول.
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل اشترى من آخر جارية على أنها عذراء، وقبضها وماتت في يده، ثم علم أنها لم تكن عذراء لا يرجع على البائع بشيء سواء كان ذلك ينقصها أو لا ينقصها، وذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه يرجع بقدر نقصانها.
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أيضًا: رجل اشترى من آخر دارًا على ألف ذراع بألف درهم، فوجدها تنقص قال: له أن يردها، فإن كانت قد انهدمت في يده، أو باعها، ثم علم أنها تنقص لم يرجع بشيء من النقصان، وذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه يرجع بالنقصان، فيقوم الدار على ما فيها من البناء، ويقوم الذراع الناقص على قيمة مراحًا.
اشترى أرضًا بحقوقها أو بشربها وللبائع أراضي مثلها، فإنه يقسم الشرب بينهم بالحصص، وإن لم تكف هذه الأرض ما يصيبها، فللمشتري الخيار إن شاء أخذ هكذا ذكر في (المنتقى).
وفيه أيضًا: إذا اشترى من آخر حنطة واكتال بعضه، فرأى في البقية اختلاط وليس بعيب إلا أنه ينقص ذلك من الثمن قال أبو يوسف: هو بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، فإن استهلك منها شيء لم يكن له أن يرد.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: إذا اشترى خمسمئة قفيز حنطة، فوجد فيها ترابًا، فإن كان التراب مثل ما يكون في الحنطة ولا يعده الناس عيبًا ليس له أن يرد ولا يرجع بنقصان العيب، وإن كان التراب مثل ما لا يكون في الحنطة، ويعده الناس عيبًا كان له أن يرد كل الحنطة مع التراب، فإن ميز التراب عن الحنطة فإن أمكنه أن يرد كلها على البائع بذلك الكيل لو خلط البعض بالبعض فله الرد، وإن كان لا يمكنه ذلك انتقص بالتنقية ليس له الرد، وكذا الجواب فيما كان نظير الحنطة.
وقال أبو يوسف رحمه الله: في رجل اشترى من آخر ثوبًا، ثم جاء يرده وقال: اشتريت على أنه هروي وليس بهروي وقال البائع: لم أشترط شيئًا، فالقول قول البائع؛ لأن المشتري قد أقر بالبيع، فلا يصدق على ما يرد به البيع.
وكذلك لو اشترى دهنًا في إناءٍ بعينه، ثم جاء يرده، وقال: اشتريته على أنه جري وهو ينفسخ، وقال البائع: لم أشترط شيئًا، فالقول قول البائع، ولو قال: اشتريت على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم، وقال البائع: لم أشترط شيئًا، وإنما بعتك كما هو، فإنهما يتحالفان.
رجل اشترى طعامًا على أنه كر فمات المشتري قبل أن يكتاله فاكتاله الوارث فنقص قال: الورثة بالخيار إن شاءوا أخذوه، وإن شاءوا تركوه، قال أبو العباس: وروي عن محمد: أن الوارث بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
رجل اشترى أرضًا بشربها، فإذ لا شرب لها، فأراد المشتري أن يأخذ الأرض بحصتها، ويرجع على البائع بحصة الشرب من الثمن، فإن له ذلك، وإذا باع شجرة بأصلها وفي قلعها ضرر على البائع، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ ما فوق الأرض منها بقيمته، وإن شاء ترك. وعن محمد أنه قال: للبائع أن لا يسلمها، فإن قلعها المشتري ضمنها له.
الحسن بن زياد في الاختلاف: مسلم اشترى من مسلم شاة فماتت في يد البائع، فسلخها البائع ودبغ جلدها، قال أبو يوسف رحمه الله: المشتري بالخيار إن شاء أخذ الجلد بحصته من الثمن، وإن شاء ترك، وقال: يقسم الثمن على قيمة اللحم لو كان ذكيًا، وعلى قيمة الجلد ذكيًا غير مدبوغ، ولا ينظر إلى ما زاد الدباغ في قيمته.

.نوع آخر إذا حصل البيع بشرط الكيل أو الوزن أو الذرع:

قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى الرجل طعامًا مكايلة، وقبضه، فإنه لا يأكله، ولا يبيعه، ولا ينتفع به حتى يكيله، وكذلك إذا كان البائع ابتاعه واكتاله من بائعه بحضرة المشتري لم يجز له أن يقتصر على ذلك الكيل ولا يبيع ولا يأكل حتى يكتاله ثانيًا، هذا هو لفظ القدوري، يريد بهذا أن من اشترى طعامًا مكايلة، وباعه من آخر مكايلة، واكتال البائع الثاني من بائعه بحضرة المشتري الثاني لا يجوز للمشتري الثاني أن يقتصر على ذلك الكيل، ولا يبيع ولا يأكل حتى يكتاله ثانيًا.
والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان صاع البائع وصاع المشتري» والمعنى فيه: أن الكيل جعل من تمام القبض شرعًا فيما بيع مكايلة؛ لأن القدر في المعين مقصود عليه فيما بيع مكايلة.
ألا ترى أنه لو وجده أزيد مما سمى من القدر لا يسلم له الزيادة إذا كانت الزيادة بحيث لا يدخل بين الكيلين؛ لأن الزيادة لم تدخل تحت العقد، ولو وجده انقص ينقص عنه حصته من الثمن، وإذا ثبت أن القدر معقود عليه فيما يرجع بيع بشرط القدر، فنقول: القدر غير متعين قبل الكيل يجوز أن يكون مثل الكيل المشروط وأزيد منه وأنقص منه، وإنما يتعين بالكيل فكان للكيل حكم القبض؛ لأن الكيل تعين ما ملك غير متعين بالعقد إنما يكون بالقبض، وإذا كان الكيل يعمل هذا العمل كان للكيل حكم القبض، فكان الكيل من تمام القبض من هذا الوجه، ثم في هذه المسائل يحتاج إلى قبضين قبض البائع وقبض المشتري، فكذا يحتاج إلى كيلين.
فإن قيل: إنما أعطي الكيل حكم القبض؛ لأنه تعين ما ملك بالعقد غير متعين وهذا التعين حاصل بكيل البائع لنفسه بحضرة المشتري الثاني، فكان يجب أن لا يحتاج المشتري الثاني إلى كيل آخر كما لو استفاد من أرضه وباعها من آخر مكايلة وكان بحضرة المشتري لا يحتاج إلى كيل آخر.
والجواب عنه أن يقال: بأن الكيل أعطي له حكم القبض فيما بيع مكايلة، وإذا أعطي له حكم القبض يعتبر بالقبض الحقيقي، ففي كل موضع يحتاج إلى قبضين ولا ينوب أحد القبضين عن الآخر لا ينوب أحد الكيلين عن الآخر، وفي كل موضع يكتفى بقبض واحد يكتفى بواحد، وفيما يحتاج إذا استفاده من أرضه لا يحتاج فيه إلى أصل القبض بجواز التصرف، فلا يحتاج فيه إلى الكيل أيضًا.
وإذا اشترى من آخر حنطة مجازفة وباعه بعد ما قبضها من غيره مكايلة، فإنه يكتفى فيه بكيل واحد، وكذا إذا استقرض من رجل كر حنطة على أنه يكتفي بكيل المشتري، وأما كيل البائع المستقرض بحضرة المشتري، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا اشتراها مجازفة وباعها من غيره مكايلة؛ لأن الكيل غير محتاج إليه في حق البائع الثاني لصحة تصرفه؛ لأن الكيل ليس بشرط لتمام القبض، فأما إذا اشترياه مجازفة؛ لأن المعقود عليه غير مشار إليه لا المقر له وإنه متعين قبل الكيل، وإنما يشكل فيما إذا استقرض من آخر حنطة على أنها كر، ثم باعها من غيره بشرط الكيل ويجب أن يحتاج فيه إلى كيلين؛ لأن الاستقراض يملك بعوض، فكان بمنزلة الشراء فيصير القدر معقودًا عليه متى استقرض بشرط الكيل كما لو اشتراه مكايلة.
والجواب: أن الغرض إن كان مبادلة صورة فهو عارية من حيث الحكم والاعتبار؛ لأن ما يرد المستقرض غير المقبوض حكمًا لا بدله، إذ لو لم يجعل كذلك كان هذا مبادلة الشيء بجنسه لشبه وإنه حرام، وإن كان رد البدل قائمًا مقام رد العين المقبوض من حيث الحكم كان الفرض تمليكًا بغير بدل من حيث الحقيقية كالهبة والوصية لم يحتج فيه إلى الكيل فكذا هاهنا، بخلاف الشراء؛ لأنه تمليك بعوض حقيقة وحكمًا.
والشرع جعل الكيل من تمام القبض فيما ملك تبعًا بشرط المكايلة، فلهذا احتيج في الشراء إلى الكيل، ولم يحتج إلى الكيل في الاستقراض.
ولو اشترى حنطة مجازفة وباعها من غيره بعدما قبضها مجازفة أو..... حنطة من أرضه أو بالهبة وباعها مجازفة أو ملك حنطة ثمنًا على أنه كر وقبضها وباعها مجازفة قبل الكيل فهو جائز، كذا رواه ابن سماعة عن محمد، أما إذا اشتراها مجازفة فلا إشكال فيها؛ لأن الكيل في هذه الصورة لم يجعل من تمام القبض؛ لأن المعقود عليه عين مشار إليه لا المعيار بخلاف ما إذا اشتراه مكايلة؛ لأن الكيل هناك جعل من تمام القبض، وأما إذا استفاد من أرضه أو بالهبة ولأنه ملك بغير عوض والشرع إنما اعتبر الكيل لاباحة التصرف بخلاف القياس، فيرد التبرع إلى ما يقتضيه القياس فأما إذا ملكه ثمنًا، فلأن الكيل شرع لتمام القبض لإباحة التصرف فيما يحتاج فيه إلى أصل القبض لإباحة التصرف، وفي الثمن أصل القبض ليس بشرط لإباحة التصرف، فلا يكون الكيل الذي جعل من تمام القبض شرطًا لإباحة التصرف، وأما إذا اشترى مكايلة وباعه من غيره مجازفة لا قبل أن يكيله هل يجوز ظاهر ما أطلق محمد رحمه الله في (الأصل) يدل على أنه لا يجوز.
وذكر ابن رستم في (نوادره): أنه إذا باعه مجازفة قبل أن يكيله جاز، ولو باعه مكايلة قبل أن يكيله لا يجوز، فصار في المسألة روايتان.
وجه رواية ابن رستم: أن القدر كما هو معقود عليه فالعين المشار إليه أيضًا معقود عليه، فمتى باعه مجازفة فقد باع العين دون القدر، والعين مقبوض فصار بائعًا ما تم قبضه فيه فيجوز، ومتى باعه مكايلة فقد باع القدر مع العين والقدر غير مقبوض قبل الكيل.
وجه ما ذكر في (الأصل): أن القدر معقود عليه والعين معقود عليه وأحدهما مما يختار عن الآخر؛ لأن القدر صفة للعين لا يوجد بدونه، فإذا باعه مجازفة فقد باع مقبوضًا وغير مقبوض؛ لأن العين الذي اشتراه مقبوض والقدر ليس بمقبوض فقد باع مقبوضًا وغير مقبوض صفقة واحدة فلا يجوز البيع في الكل. وذكر بعض المشايخ في شرح (الجامع الصغير) خلافًا في هذا الفصل بين أبي يوسف ومحمد فقال على قول أبي يوسف لا يبيعه حتى مكايلة لنفسه.
وعلى قول محمد: يبيعه من غير (أن) يكتاله لنفسه. وقد اختلف المشايخ في فصل، وهو ما إذا اشترى طعامًا مكايلة وكاله البائع بحضرة المشتري وسلمه إليه، فمنهم من قال: ليس للمشتري أن يكتفي بذلك الكيل ويكيل مرة أخرى، قال شمس الأئمة السرخسي: الأصح أنه يكتفي بذلك الكيل وكل جواب عرفته في المكيلات فهو الجواب في الموزنات؛ لأن الوزن في الوزنيات متى بيع بشرط الوزن يصير معقودًا عليه، كالكيل في المكيلات، فكل جواب عرفته في المكيلات في الترتيب الذي ذكرنا، فهو الجواب في الوزنيات.
وأما الكلام في الذرعيات: إذا اشترى من آخر ثوبًا على أنه عشرة أذرع كان له أن يبيعه، وأن يتصرف فيه قبل الذرع في الذرعيات متى لم يجعل بإزائه لمن سلك به مسلك الأوصاف حتى لا يقسم الثمن على عدد الذرعان حتى لو وجد أحد عشر في مسألتنا فالزيادة تسلم له، ولو وجده أنقص من عشرة لا يسقط شيء من الثمن لكن يجز المشتري، كما لو اشترى ثوبًا على أنه صفيق فوجده رقيقًا، وإذا سلك به مسلك الصفة لم يصر الذرع معقودًا عليه، وكان المعقود عليه الثوب المشار إليه، وأنه متغير من غير ذرع.
وكان بمنزلة ما لو اشترى حنطة مجازفة على أنها جيد وقبضها قبل أن يعلم بأنها جياد بأن كانت في الجوالق ويصرف فيها وهناك التصرف منه جائزًا هاهنا.
وأما الكلام في العدديات: إذا اشترى من أخر عدديًا بشرط العقد فهل يجب إعادة العد، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في الكتب الظاهرة، قالوا: وقد ذكر الكرخي: أن على قول أبي حنيفة: يشترط إعادة العد لإباحة التصرفات إلحاقًا للعدديات بالكيليات والوزنيات، وعلى قولهما لا يشترط إلحاقًا بالذرعيات.
وفي (شرح القدوري): وأما المعدودات فيجب إعادة العد فيها في رواية لا يجب، وصحح القدوري هذه الرواية؛ لأن العد في العدديات بمنزلة الذرع في المذروعات، ألا ترى أن الربا لا تجري بين العدديات كما لا يجب بين المذروعات، ثم في المذروعات لا يجب إعادة الذرع، فكذا في المعدودات لا يجب إعادة العد.
وفي (القدوري): في باب بيع المبيع قبل القبض: إذا اشترى طعامًا مكايلة أو موازنة شراء فاسدًا وقبض بغير كيل، ثم باعه وقبضه المشتري فالبيع الثاني جائز، وإنما يعتبر إعادة الكيل في البيعين الصحيحين؛ لأن المستحق القدر المذكور، ويتصور التفاوت بين المذكور والموجود فيعتبر إعادة الكيل لإزالة ذلك الوهم احتياطًا، وهذا المعنى لا يوجد في البيع الفاسد، فإن الملك في البيع الفاسد، إنما يثبت بالقبض فصار المملوك قدر المقبوض لا قدر المذكور في البيع، فلا يتصور التفاوت بين المستحق.
ولو اشترى طعامًا مكايلة بإناء بعينه، فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقد مر هذا، فإن كاله بذلك الإناء ورضي به المشتري بعد الكيل جاز، وقد مر هذا أيضًا من قبل، فإن باعه المشتري بعد ذلك قبل أن يعيد الكيل جاز؛ لأن هذا في معنى البيع مجازفة لا يحتاج إلى إعادة الكيل؛ لأن المستحق هو المشار إليه فلا يتصور فيه التفاوت.
وفي (المنتقى): قال أبو يوسف: إذا كان الثمن شيئًا مما يكال أو يوزن بغير عينه فأخذه البائع بغير كيل وصدق المشتري في كيله ووزنه، فله أن ينتفع به قبل أن يكيله.
إذا كان الثمن ثيابًا موصوفة مؤجلة، فليس له أن يبيعها منه قبل أن يقبضها، وقال في الصرف: ليس له أن يشتري بأخذ اليد شيئًا حتى يتوازنا، وإن تفرقا قبل الوزن في الصرف، وكل واحد منهما مصدق لصاحبه في الوزن فالبيع فاسد، وذكر في موضع آخر من هذا الكتاب: إذا كان كل واحد منهما مصدقًا لصاحبه في الوزن إن البيع جائز.

.الفصل الثامن: في بيان أحكام الشراء الفاسد والتصرف في المملوك بالعقد الفاسد:

البيع الفاسد منعقد عندنا والملك موقوف على وجود القبض، ويشترط أن يكون القبض بإذن البائع نص عليه القدوري في (كتابه)، ولفظ القدوري وما قبضه بغير إذن البائع في البيع الفاسد فهو كما لم يقبض، قال ثمة: وهذه الرواية هي المشهور.
وفي (الزيادات): إذا قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد من غير إذن البائع ويهبه، فإن قبض في المجلس يصح القبض استحسانًا ويثبت الملك فيه للمشتري، وإن قبض بعد الافتراق عن المجلس لا يصح قبضه قياسًا واستحسانًا ولا يثبت الملك للمشتري، وإذا أذن له بالقبض فقبض في المجلس أو بعد الافتراق عن المجلس صح قبضه ويثبت الملك قياسًا واستحسانًا.
وفي (البقالي): لو كان وديعة عنده وهي حاضرة ملكها، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: يجب أن يجوز القبض بعد الافتراق عن المجلس بغير إذنه إذا كان أدى الثمن، والتخلية في البيع الفاسد ليست بقبض يثبته في شرح (الزيادات).
وذكر في (الجامع) مسألة تدل على أنها قبض.
وصورة ما ذكر في (الجامع): إذا اشترى الرجل شراءً فاسدًا والعبد وديعة عند المشتري إلا أنه ليس بحاضر عند الشراء فأعتقه المشتري كان عتقه باطلًا؛ لأن الملك في الشراء الفاسد لا يثبت بدون القبض وما وجد من القبض لا ينوب عن قبض الشراء؛ لأنه قبض الوديعة لا ينوب عن قبض الشراء، وبدون الملك لا يثبت العتق فأرجع المشتري إلى العبد وقبضه حقيقة، أو يخلي به بحيث يكون قابضًا له، ثم أعتقه صح الإعتاق؛ لأنه يصير قابضًا بإذن البائع حتى لا يكون للبائع ولاية الاسترداد فهاهنا كذلك، وإذا صار قابضًا بإذن البائع صار المبيع ملكًا له بالعقد السابق، والإعتاق صادف ملك نفسه.
ألا ترى أن محمدًا رحمه الله: أثبت الملك للمشتري في هذه الصورة إذا تخلى بالعبد حتى جوّز إعتاقه، والملك في البيع الفاسد لا يثبت بدون القبض، ثم إن الملك وإن كان يثبت في البيع الفاسد عند اتصال القبض به عندنا إلا أن هذا الملك يستحق النقض إعدامًا للفساد، ولأن إعدام الفساد واجب حقًا للشرع.
ولأجل ذلك قلنا: أنه يكره للمشتري أن يتصرف فيما اشترى شراءً فاسدًا بتمليك أو انتفاع؛ لأن الفسخ مستحق إعدامًا للفساد، وفي التصرف تقرر الفساد، مع هذا لو تصرف فيه تصرفًا نفذ تصرفه لمصادفته ملكه، ولا ينقض تصرفه ويبطل به حق البائع في الاسترداد سواء كان تصرفًا يحتمل البعض بعد ثبوته كالبيع والإجارة والرهن، أو لا يحتمل البعض بعد ثبوته كالإعتاق والتدبير وأشباه ذلك إلا الإجارة والنكاح فإن هذه التصرفات لا تبطل حق البائع في الاسترداد على ما يتبين بعد هذا إن شاء الله، فلم يحمل البائع بيعًا فاسدًا حتى تنقض تصرفات المشتري فيما ينوي الإجارة والنكاح مع أن البائع حقًا في المشترى شراءً فاسدًا، وهو حق الأخذ وجعل للشفيع حق نقض جميع التصرفات المشتري لما أن له في الدار المشفوعة حقًا.
واختلفت عبارة المشايخ في بيان الفرق بعضهم قالوا: الحق في المشتري شراء فاسدًا للبائع وهذه التصرفات من المشتري حصل عند تسليط البائع؛ لأن البائع، أوجب له الملك المطلق لهذه التصرفات فتكون هذه التصرفات حاصلًا عن تسليط فيكون راضيًا به فيظهر نفاذها في حقه فلا يكون له إبطالها بعد ذلك.
فأما الحق في الدار المشفوعة للشفيع وهذه التصرفات لم تصدر بتسليط الحق في الدار المدفوعة للشفيع من جهة الشفيع حتى يكون راضيًا بذلك؛ لأن التسليط إنما يثبت بالأذن نصًا أو بإثبات الملك المطلق للتصرف، ولم يوجد واحد منهما من الشفيع فكان له حق النقض.
ولأجل هذا المعنى وقع الفرق في الشراء الفاسد بين البيع والهبة والرهن وبين الإجارة؛ لأن الإجارة تصرف في المنافع مقصودًا؛ لأنها موضوعة لتمليك المنافع والتسليط من البائع في حق المنفعة ما ثبت مقصودًا؛ لأن البيع لإيجاب ملك الرقبة مقصودًا، ولا يجاب ملك المنفعة تبعًا، والتصرف من المشتري في المنفعة حصل مقصودًا فلم يكن حاصلًا بتسليط البائع فكان له حق النقض، كما كان للشفيع أن ينقص جميع تصرفات المشتري لما لم يكن حاصلًا بتسليط.
فإما الرهن والبيع والهبة فهذه تصرفات.... حصلت في العين مقصودًا، والتسليط من البائع في حق تصرف يرد على العين ثابت مقصودًا؛ لأن التسليط بإيجاب الملك والملك ثبت له في الرقبة مقصودًا.
وهذا معنى ما يقول في (الكتاب): وهذا عذر في الإجارة يريد بالعذر هذا، وهو أن الإجارة لم تحصل بتسليط البائع فكان للبائع نقضه.
وبعضهم قالوا: فسخ البيع بحق الله تعالى إعلامًا للفساد، وهذه التصرفات يتعلق حق العبد بالمحل وحق العبد مع حق الله تعالى إذا اجتمعا، ترجح حق العبد على (حق) الله تعالى لحاجة العبد وغنى الله تعالى، إلا أن الإجارة عقد ضعيف يفسخ بالأعذار، وفساد الشراء عذر في فسخها فينفسخ ويسترد المشتري إعدامًا للفساد، ولم يذكر محمد رحمه الله في (الأصل) من يفسخ الإجارة.
وذكر في (النوازل): أن القاضي هو الذي يفسخ، وكأنه مال إلى أن فسخ الإجارة بالعذر مختلف فيه، فيعتبر فسخ القاضي لتصير المسألة متفقًا عليها والتزويج يشبه الإجارة ولوروده على المنفعة والبيع يرد على ملك الرقبة، والفسخ يرد على ملك الرقبة أيضًا فيتعلق حق الزوج بالمنفعة لا يمنع الفسخ على الرقبة، والنكاح على حاله.
ولو أوصى بالعبد، ثم مات بطل حق الفسخ ولا يشبه هذا الوارث.
والفرق: وهو أن ملك موصى له ملك متحدد لثبوته بسبب متشابه ولهذا لا يرد بالعيب ولا يرد عليه فأشبه ملك المشتري وما أشبهه فانقطع به حق الفسخ، فأما ملك الوارث في حكم عين ما كان للمورث ولهذا يرد بالعيب ويرد عليه بطل حق الفسخ؛ لأن هذه المعاني لو وجدت من الغاصب انقطع به حق المالك مع أن حق العبد إبطاء سقوطًا؛ فلأن يسقطه بهذه المعاني حق الله تعالى، وإنه أسرع سقوطًا أولى، ولو صبغ الثوب فقد روي عن محمد رحمه اللّه: أن البائع بالخيار أخذه وأعطاه ما زاد لصبغ فيه إن شاء ضمنه قيمته كما في الغضب، وأطلق أبو الحسن الجواب في الصبغ، إنه ينقطع به حق البائع في الفسخ، وهو محمول على التفصيل الذي ذكرنا، ولو كان الجواب كما أطلق.
فوجهه: أن حق الفسخ هاهنا أسرع سقوطًا من حق الاسترداد في الغصب، ولهذا يسقط بالبيع والهبة ونحو ذلك فجاز أن يسقط بهذا بخلاف الغصب.
ولو كان للمشتري دارًا فبنى المشتري فيها بناء بطل حق الفسخ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأخير، وفي قوله الأول وهو قول محمد لا يبطل اعتبارًا بالغاصب إذا بنى في المغصوب بناءً حيث لا ينقطع به حق المغصوب منه، ولهما أن النقض في البيع الفاسد ما كان لحق البائع، وإنما كان حقًا للشرع لينعدم به الفساد، وقد ذكرنا أنه إذا تعلق به حق آخر يمنع، إلا إذا بنى المشتري في الدار بناء، والعقد لم يتناول البناء صار ثبوت حقه في البناء بمنزلة حق ثابت في البيع الثاني بل أولى؛ لأن الضرر الذي يلحق المشتري بنقض البناء فوق الضرر الذي يلحق الثالث بنقص شرائه، فإذا لم ينقص لحق ثالث في البيع الثاني؛ فلأن لا ينقض لحق المشتري في البناء كان أولى.
بخلاف ما لو صبغ المشتري الثوب المشترى شراء فاسدًا؛ لأن حق المشتري لا يبطل بالنقض بل ينتقل إلى القيمة، وهاهنا يبطل حق المشتري في البناء إذا نقض البناء، وبخلاف الغصب؛ لأن حق النقص كان لحق المغصوب منه وحق المغصوب منه في العرصة قائم من كل وجه فرجحنا جانب المغصوب منه، إما؛ لأن العرصة أصل والبناء تبع؛ أو لأن الغاصب متعدي والمغصوب منه مظلوم.
بخلاف ما إذا غصب ساحة وأدخلها في البناء حيث ينقطع حق المغصوب منه ثمة صار هالكًا من وجه وحق الغاصب قائم من كل وجه وحق المغصوب منه يفوت إلى بدل وحق الغاصب يفوت إلى بدل فرجحنا حق الغاصب لهذا، بخلاف ما تقدم.
وفي كل موضع تعذر ردّ المشترى شراء فاسدًا على البائع فعلى المشترى المثل فيما هو من ذوات الأمثال.
والقيمة فيما ليس من ذوات الأمثال، والأصل: أن المقبوض بحكم العقد الفاسد مضمون بالقيمة فيما لا مثل له وبالمثل له وبالمثل فيما له مثل؛ لأن المقبوض في العقد الفاسد مضمون بجهة القبض فصار كالمغصوب؛ وهذا لأن الأصل في الضمانات القيمة؛ لأنها هي العدل، وإنما يصار إلى المسمى في موضع صحت التسمية تحرزًا عن المنازعة والتسمية، هنا لم تصح فبقي الضمان الأصلي وهو القيمة.
ثم في كل موضع تعذر على البائع فسخ البيع واسترداد المبيع لمانع، ثم زال ذلك المانع بأن فك المشتري الرهن ورجع في الهبة أو عجز المكاتب عن أداء بدل الكتابة أو رد المشترى على المشتري بالعيب في المبيع بعد القبض نقصًا كان للبائع حق الاسترداد إذا لم يكن القاضي قضى على المشتري بالقيمة؛ لأن المانع زال بسبب هو فسخ من كل وجه في حقهما وفي حق الثالث فصار، كأن هذه العقود لم توجد حتى لو زال المانع بسبب هو عقد جديد في حق الثالث بأن كان الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي لا يكون للبائع حق الاسترداد، ويجعل في حقه كأن المشتري اشترى ثانيًا.
وهذا كله إذا لم يقض القاضي على المشتري بالقيمة، فإن كان قد قضى عليه بالقيمة لا يكون للبائع حق الاسترداد في الوجوه كلها؛ لأن القاضي أبطل حق البائع عن العين ونقله إلى القيمة بسبب أطلق له ذلك فلا يعود حقه إلى العين بعد ذلك، وإن ارتفع السبب كما لو قضى القاضي على الغاصب بقيمة المغصوب بسبب الإباق، ثم عاد العبد من الإباق لا يعود حق المالك إلى العبد كذا هاهنا.
ولو زاد المشترى في يد المشتري لا يمتنع الفسخ في الأحوال كلها إلا إذا كانت بزيادة من جهة المشتري بأن كان المشترى ثوبًا فصبغه المشتري بصبغ يريد به قيمة فيه، أو كان سويقًا فلته بسمن أو عسل فحينئذٍ يمتنع الفسخ بحق المشتري حتى لو رضي المشتري بالفسخ واسترداد المشترى مع الزيادة كان للبائع حق الاسترداد وإذا لم ينقص المشترى في يد المشتري بفعل نفسه أو بآفة سماوية أو يفعل المشتري والبائع مع أرش النقصان وليس له أن يترك المبيع على المشتري ويضمنه تمام القيمة إزالة للفساد، وإن كان النقصان بفعل أجنبي، فللبائع أن يأخذ الأرش من المشتري إن شاء أخذه من الجاني؛ لأنه وجده في حق كل واحد منهما بسبب ضمان النقصان في حق المشتري القبض؛ لأن المقبوض بحكم العقد الفاسد مضمون بالقبض، والأوصاف تضمن بالقبض، وفي حق الجاني الخيانة فكان للبائع الخيار وصار كما لو انتقص المغصوب في يد الغاصب بفعل أجنبي كان للمالك في أخذ الأرش الخيار لما ذكرنا كذلك هاهنا.
ولو قتل أجنبي المبيع في يد المشتري، فللبائع أن يضمن المشتري وليس له أن يضمن القاتل، فرق بين ضمان القتل وبين ضمان النقصان.
والفرق: إن ما وجب على القاتل بالقتل بدل ملك المشتري؛ لأن الجارية قتلت على ملك المشتري فلا يكون للبائع عليه سبيل إلا بعد فسخ البيع في المبيع، وتعذر فسخ العقد في المبيع بسبب الهلاك بخلاف ضمان النقصان؛ لأن هناك العقد انفسخ فيما بقي من المبيع بالاسترداد فيصير الفسخ في حق الجزء الفائت حكمًا لانفساخ البيع في الأصل، وإذا اعتبر البيع منفسخًا في حق الجزء الفائت بدلًا عن ملك البائع، فكان للبائع حق الأخذ من الجاني فلهذا افترقا.
وبما ذكر من المعنى ظهرت التفرقة بين المشتري شراءً فاسدًا وبين المغصوب، فإن المغصوب إذا قتل في يد الغاصب كان للمالك أن يضمن القاتل إن شاء؛ لأن ما وجب على القاتل بقتل المغصوب بدل ملك المالك؛ لأن المغصوب باقي على حكم ملك المالك فكان للمالك أن يأخذ ذلك من القاتل، ولا كذلك المشتري شراءً فاسدًا على ما بينا قد ذكرنا أن البيع الفاسد يستحق النقض والفسخ إعدامًا للفساد وإزالة للحرام.
قال القدوري في (كتابه) وأيهما فسخ البيع قبل القبض ففسخه جائز على صاحبه، إذا كان بمحضر من صاحبه أي بعلم صاحبه؛ لأن الفسخ يستحق بحق الشرع، فانتقى اللزوم عن العقد فكان بمنزلة البيع الذي فيه الخيار للمتعاقدين فيكون كل واحد منهما تسييل من فسخه بغير رضى الآخر لكنه توقف على علم الآخر؛ لأنه إلزام موجب للفسخ فلا يلزمه إلا بعمله.
وإذا قبض المبيع فكل بيع لا يصح حذف المفسد عنه مثل البيع بالخمر والخنزير فهو على ما ذكرنا قبل القبض؛ لأن وجوب الفسخ بحق الشرع، وإنه متحتم فكان كل واحد منهما تسييل منه، وإن كان الفساد بسبب شرط يقبل الحذف فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لكل واحد من المتعاقدين الفسخ، وقال محمد: إن وجد الفسخ ممن له منفعة في الشرط صح، وإن فسخ الآخر لم ينفسخ وذلك مثل الشراء بأجل مجهول إلى العطاء وما أشبه ذلك.
وكذلك الخيار الفاسد وجه قول محمد: أن منفعة الشرط إذا كانت عائدة إليه كان قادرًا على تصحيح العقد بإسقاط الأجل، فإذا فسخ الأجر فقد أبطل حقًا ثابتًا لغيره فلا يجوز وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان: بأن الفسخ مستحق حقًا للشرع فانتقى اللزوم عن العقد إذا كان غير لازم، فكل واحد من المتعاقدين يتمكن من فسخه. أكثر ما في الباب أن من له الخيار قادر على التصحيح بالحذف، ولكن الكلام قبل الحذف وهو بمنزلة الإيجاب إذا وجد من البائع كان المشتري تسييل من القبول، ثم البائع لو رجع قبل قبول المشتري صح ولا يقال: بأن رجوعه يتضمن إبطال حق القبول على المشتري كذلك هاهنا.
وإذا كان المشترى جارية فاستولدها المشتري حتى وجبت القيمة هل يغرم العقر؟ ذكر في كتاب البيوع: أنه لا يغرم، وذكر في كتاب الشرب: أنه يغرم.
قال شمس الأئمة السرخسي في (شرحه): ما ذكر في كتاب الشرب تأويله أن المشتري وطئها ولم يعلقها، وما ذكر في كتاب البيوع تأويله إذا أعلقها قال شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده في (شرحه): إذا لم يعلقها يجب العقر باتفاق الروايات، وإذا أعلقها ففيه روايتان.
وهكذا ذكر الطحاوي في (كتابه) وهو الصحيح: يجب أن يعلم بأن من اشترى جارية شراءً فاسدًا لا يكون له أن يطأها، إما لأن الثابت له بالشراء الفاسد ملك حرام والملك الحرام لا يبيح الوطء كما لا يبيح الأكل والشرب واللبس، أو لأن الملك غير ثابت في حق الوطء لكون السبب فاسدًا فأوطأها ولم يعلقها كان للبائع أن يستردها؛ لأن الجارية قائمة بعينها كما قبل الوطء، وإذا استردها ضمن المشتري عقرها للبائع، فرق بين هذا وبين الموهوب له إذا وطء الجارية، ثم رجع الواهب، فإنه لا يضمن للواهب عقرًا، وهاهنا قال: يضمن.
ووجه الفرق بينهما: وهو أن الموهوب له حين وطء ملك نفسه ملكًا حلالًا، فإن الملك ثابت للموهوب له بوصف الحل لكون السبب صحيحًا، ولهذا حل له الوطء وبالرجوع لم يظهر أن الملك لم يكن له وقت الوطء؛ لأن الرجوع لا يسند إلى وقت العقد بل يقتصر على حال وجوده؛ لأنه فسخ العقد، وإذا اقتصر على حال وجوده صار واطئها ملك نفسه فلم يكن عليه عقرها، فأما هاهنا فالملك في حق الوطء غير ثابت لكون السبب فاسدًا.
ولهذا لم يحل له الوطء وإذا لم يثبت الملك في حق الوطء كانت الجارية في حق الوطء كالمغصوبة، فإذا لم يجد الشبهة وجب العقر هنا كما في الغصب، هذا الذي ذكرنا إذا لم يعلقها فأما إذا أعلقها يضمن قيمتها؛ لأنه بالإعلاق صارت أم ولد له فعجز عن ردها فكان عليه رد قيمتها، كما لو أعتق، إذا وجب القيمة هل يجب عليه العقر، فعلى قول شمس الأئمة السرخسي: لا عقر رواية واحدة وعليه يحمل رواية كتاب البيوع، وعلى ما ذكره في المسألة روايتان على رواية كتاب البيوع لا عقر عليه، وعلى رواية كتاب الشرب عليه العقر.
وجه ما ذكر في كتاب الشرب: أن الجارية وإن كانت ملكًا للمشتري وقت الوطء إلا أن للبائع حق الاسترداد جميع الجارية، وبالوطء أبطل على البائع حق الاسترداد فيما استوفى بالوطء فيضمن قيمة ما استوفى كما لو أن المستوفي ملك البائع؛ لأن الحق معتبر بالحقيقة.
وجه ما ذكر في كتاب البيوع إن حق البائع في المستوفي لا يكون أكثر حالًا من حقيقة الملك للغير، وإذا تقرر عليه الضمان لم يضمن العقر كما في الغصب فهاهنا أولى.
وفي (نوادر ابن سماعة): عن محمد: اشترى من آخر جارية شراءً فاسدًا وقبضها وولدت في يده أولادًا وماتت، ثم إن البائع ضمن قيمة الجارية يوم قبضها، فإن البائع يأخذ من المشتري أولادها ولا يجعل المشتري مالكًا للجارية يوم قبضها يعني مالكًا صحيحًا مما يحكم به في أولادها، قال الحاكم أبو الفضل: خالف بين المشتري شراء فاسدًا وبين المشتري من الغاصب، فإن الجارية إذا ولدت في يد المشتري من الغاصب، ثم تم البيع فيما يتضمن البائع، فإن هناك يتم البيع من جميع الجهات.
وفي (المنتقى): في باب حكم الشراء الفاسد في أوله: رجل اشترى من آخر جارية شراء فاسدًا، ثم إن المشتري وطئها وولدت منه أولادًا، ثم استحقها رجل يأخذها وولدها وعقرها وولدها، ولا يرجع المشتري على البائع إلا بالثمن؛ لأنه ليس بمغرور، ألا ترى أنها لو ولدت من غير المشتري كان له أن ينقض البيع ويأخذها من المشتري.
وذكر في هذا الباب عن أبي يوسف: أن المشتري يرجع بقيمة... البائع، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد في باب الاستحقاق من (المنتقى).
وفي باب حكم الشراء الفاسد عن محمد في (المنتقى): اشترى من آخر شراء فاسدًا وزوجها من رجل بمهر مسمى فوطئها الزوج وقد كانت بكرًا، ثم إن البائع خاصم فيها وأخذها فالنكاح جائز والمهر للبائع، فإن كان فيه وقائمًا نقصها من ذهاب العذرة فلا شيء على المشتري، وإن كان النقصان أكثر من المهر رجع به على المشتري.
وفي (نوادر بشر): عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر أمة شراء فاسدًا وزوجها من رجل بمهر مسمى فوطئها الزوج، ثم إن البائع خاصم فيها وأخذها فعلى المشتري الأكثر من مهر مثلها ومما نقصها التزويج وللمشتري على الزوج مهرها الذي سمى الزوج، وإن كان فيه فضل تصدق به فالنكاح على حاله.
وكذلك إن طلقها طلاق الرجعة، وإن طلقها واحدة بائنة فعليه مهر مثلها ولا نقصان عليه، وذكر هذه المسألة في (المنتقى) مرة أخرى وذكر أن على المشتري مهر مثلها وما نقصها التزويج.
وفي (نوادر هشام): قال: سألت محمدًا عن رجل اشترى من آخر غلامًا شراء فاسدًا وقبضه، ثم باعه واستهلكه، قال: أخبرني أن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله قال: عليه قيمته يوم قبض، وقال محمد فيما أظن: قيمته يوم استهلكه، هذا إذا كانت الزيادة من حيث السعر، وإن كانت من حيث العين فعليه في قول محمد أيضًا قيمتها يوم قبض.
وفي بيوع (الجامع): رجل اشترى من آخر عبدًا شراءً فاسدًا وقبض المشتري بإذن البائع ونقده الثمن، ثم أراد البائع أن يأخذ عبده كان للمشتري أن يحبس العبد منه إلى أن يستوفي الثمن؛ لأن الفاسد من العقود يلحق بالجائز في حق الأحكام.
وفي البيع الجائز إذا تفاسخا العقد بعد القبض كان للمشتري حق حبس المشتري إلى أن يستوفي الثمن من البائع، وهذا لأن المشتري إنما قبل العقد مقابلًا بما نقده فصار كالرهن به عند ارتفاع السبب بالفسخ فكان له حق الحبس به كما في الرهن، فإن مات البائع ولا مال له غير العبد كان المشتري أحق بالعبد من غرماء البائع؛ لأنه كان أحق به من البائع في حال حياة البائع فيكون الحق به من غرمائه بعد وفاته فيباع العبد بحقه، فإن كان الثمن الثاني في مثل الثمن الأول أخذه المشتري فضل الثمن الثاني على الثمن الأول فالفضل لغرماء البائع، فإن كان الثمن أقل كان هو لسائر غرماء البائع يضرب هو منهم ببقية حقه فيما يظهر من التركة، فإن مات العبد في يد المشتري كان عليه قيمته لما ذكرنا فيتقاصان ويترادان الفصل إن كان ثمة فضل.
ولو كان المشتري اشترى العبد بألف درهم دين كان للمشتري على البائع قبل الشراء اشتراه بذلك شراء فاسدًا وقبضه بإذن البائع، ثم إن البائع أراد استرداد العبد بحكم فساد البيع وأراد المشتري حبسه بما كان عليه من الدين لم يكن له ذلك.
فرق بين هذا بينما لو كان البيع جائزًا في هذه الصورة فإن هناك للمشتري أن يحبس العبد إلى أن يستوفي ما على البائع من الدين ولم يذكر محمد رحمه الله هذا الحكم في البيع الجائز، وإنما ذكر مسألة الإجارة بدين سابق للمستأجر على الآخر.
وفرق فيها بين الإجارة الجائزة والإجارة الفاسدة في حق حكم الحبس بالدين السابق، فقال: في الإجارة الجائزة للمستأجر حق حبس المستأجر بما كان له على الآخر، وقال: في الإجارة الفاسدة ليس له حق الحبس بذلك.
قال مشايخنا: ولا فرق بين الإجارة من الدين وبين البيع الجائز فالرواية في الإجارة يكون رواية في البيع.
والفرق بين البيع الفاسد: أن العقد في البيع الجائز لا يتعين بغير ذلك الدين بل بمثله دينًا في ذمة المشتري، ثم يلتقيان قصاصًا لا يستوفيهما قدرًا ووصفًا، فيصير البائع مستوفيًا الثمن بحكم المقاصة فيعتبر بما لو استوفاه حقيقة، وهناك للمشتري حق حبس المبيع بعد الإقالة إلى أن يستوفي الثمن، فكذا إذا صار مستوفيًا الثمن بحكم المقاصة، فإما في البيع الفاسد إن كان لا يتعلق العقد بغير ذلك الدين أيضًا، ولكن لا يجب مثل ذلك دينًا في ذمة المشتري، وإنما يجب قيمة المبيع عند القبض والقيمة غير متقررة قبل الهلاك فإنها تحتمل السقوط في كل ساعة وزمان بالفسخ، فأما دين المشتري على البائع متقرر فلم يتفقا وصفًا، وإذا لم تقع المقاصة لم يصر البائع مستوفيًا الثمن بالمقاصة لتعيين ذلك بالاستيفاء حقيقة.
فإن مات البائع وعليه ديون كثيرة والعبد عند المشتري ففيما إذا وقع الشراء فاسدًا لا يكون المشتري أحق بالعبد حال حياة البائع حتى لم يكن له حق حبس العبد فلا يكون أحق به بعد وفاة البائع، فيباع العبد ويقسم الثمن بين غرماء البائع المشتري من جملتهم.
وفيما إذا وقع الشراء جائزًا يجب أن يكون المشتري أحق بالعبد؛ لأنه كان أحق بالعبد حال حياة البائع حتى كان له حق حبسه من البائع فيكون أحق به بعد وفاته أيضًا.
وفي (الجامع الصغير): أيضًا: رجل اشترى من آخر عبدًا شراء فاسدًا على أن البائع فيه بالخيار وقبض المشتري العبد في مدة الخيار بإذن البائع فأعتقه في مدة الخيار لا ينفذ إعتاقه؛ لأن الفاسد من العقود ملحق بالخيارين في حق الأحكام، وخيار البائع في العقد الجائز يمنع ثبوت الملك للمشتري فكذا في العقد الفاسد، وإنما صح الخيار في البيع الفاسد غير لازم؛ لأن فيه فائدة حتى يمنع انعقاده في حق الحكم وهو الملك، فإن البيع فاسد العاري عن شرط الخيار ينعقد في حق الحكم، ولهذا يفيد الملك عند إيصال القبض به، ومع شرط الخيار لا يفيد الملك عند إيصال القبض به فكان شرط الخيار في البيع الفاسد مفيدًا.
ولو أعتقه المشتري بعدما سقط الخيار بإسقاطهما أو بمضي المدة صح إعتاقهما؛ لأن عند زوال الخيار يثبت الملك للمشتري بالسبب السابق ولا يحتاج فيه إلى تجديد القبض؛ لأن قبضه الأول موجب ضمان القيمة فكان مضمونًا بضمان نفسه، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء الصحيح فينوب عن قبض الشراء الفاسد.
قال في (المنتقى): رجل اشترى من آخر شراء فاسدًا بألف درهم وتقابضا، ثم إن البائع استرد العبد بحكم فساد العقد كان للمشتري أن يأخذ ألفه إن وجدها بعينها، ولا يكون للبائع أن يمنعه منها.
قال ثمة: ألا ترى أن البائع لو مات كان المشتري أحق بألفه فهذا إشارة إلى أن الدراهم والدنانير تتعينان في البيوع الفاسدة، وهكذا ذكر في كتاب الصرف.
ووجه ذلك: المقبوض بحكم العقد الفاسد يشبه المغصوب؛ لأن أول القبض يلاقي ملك، ثم يصير مملوكًا للبائع عند تمام القبض كما في جانب المبيع، فإن أول القبض في المبيع يلاقي ملك البائع، ثم يصير ملكًا للبائع عند تمام القبض كما في جانب المبيع فإن أول القبض في المبيع يلاقي ملك البائع، ثم يصير مملوكًا للبائع عند تمام القبض، كما في جانب المبيع، فإن أول القبض في المبيع يلاقي ملك البائع، ثم يصير مملوكًا للمشتري عند تمام القبض والدراهم والدنانير تتعينان في الغصب، فكذا في العقد الفاسد.
قال هشام: سألت محمدًا: عن رجل اشترى من رجل غلامًا شراءً فاسدًا بألف درهم وقبضه المشتري، ثم اشتراه منه البائع بمائة درهم شراء صحيحًا، قال: إن قبضه البائع فهو فسخ للبيع الأول، وإن لم يقبضه فليس بفسخ له.
بشر عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبدًا شراء فاسدًا وقبضه، ثم باعه من غيره، ثم تقايلا البيع ورد المشتري الثاني في العبد على المشتري الأول، ثم جاء البائع الأول وخاصم المشتري الأول في البيع الفاسد فلا سبيل له عليه؛ لأن الإقالة بيع مستقبل في حق الثالث فصار نظير بالعيب بعد القبض بغير قضاء وقد صح فيه.
ولو باعه من آخر بيعًا فاسدًا وسلمه إليه، فإن خاصم البائع الأول المشتري الأول ضمنه القاضي قيمتها، وإن لم يخاصمه حتى خاصم المشتري الأول المشتري الآخر في البيع وفسخه القاضي، ثم خاصمه الأول، فإنه يرد عليه.
الحسن بن زياد عن أبي يوسف: في رجل اشترى من رجل جارية شراء فاسدًا وقبضها وولدت في يد المشتري ولدًا من غير المشتري، فإن كان في ولدها وفاء بنقصان الولادة لم يغرم نقصانها، وإن لم يكن بالولد وفاء بالنقصان أخذ البائع تمام النقصان، فإن زاد الولد بعد ذلك زيادة وفاء بالنقصان، فإن المشتري يرجع على البائع بما ضمن من نقصان الولد، فإن نقص الولد بعد ذلك لا يلزمه شيء، والحكم فيما بين الغاصب والمغصوب منه إذا ولدت الجارية عند الغاصب وليس بالولد وفاء بنقصان الولادة نظير الحكم فيما بين البائع والمشتري في الشراء الفاسد، وهذا شيء يجب أن يحفظ.
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل اشترى من آخر عبدًا شراء فاسدًا فلم يقبضه حتى قال للبائع: أعتقه فأعتقه عنه كان العتق عن البائع، ولا يكون للمشتري.
ولو اشترى حنطة شراءً فاسدًا فأمر البائع أن يطحنها فالدقيق للبائع، وكذلك لو كانت شاة فأمر بذبحها.
ولو اشترى قفيز حنطة شراء فاسدًا وأمر المشتري البائع حتى خلطه بطعام المشتري، مثله رجل اشترى مسلًا أو قضبان كرم أو قضبان شجر شراء فاسدًا وقبضه وغرسه فأطعم، أو كان غاصبًا قال أبو حنيفة رحمه الله: هما سواء، وعلى المشتري والغاصب قيمة ذلك؛ لأنه قد تغير الشجر الصغير.
ولو كان غصب نخلًا قد أطعم فغرسه ست وأطعم عنده، أو كان ذلك شراء فاسدًا قلع في الغصب ورد على صاحبه؛ لأنه عين ماله، وأما في الشراء الفاسد فعلى المشتري قيمته ولا يقلع في قول أبي حنيفة مثل قوله: في الأرض إذا بناها، وقال أبو يوسف: إن كان قلعه ينقص الأرض لم أقلعه في الشراء الفاسد مثل قوله في الثوب إذا قطعه وخاطه وحشاه، وإن كان قلعه لا ينقص الأرض قلعه مثل قوله في البناء أنه يهدم؛ لأن هدمه لا ينقص الأرض، وفي الغصب أقلعه وإن نقص الأرض.
ابن سماعة عن أبي يوسف: رجل اشترى عبدًا شراء فاسدًا وقبضه وزوجه امرأة حرة على مهر مسمى فدخل بها ولم ينقد المهر، ثم خاصم البائع المشتري في فساد البيع، فإن القاضي ينظر فيما لزمه من النفقة لما مضى والمهر، فإن بلغ ذلك قيمة العبد فالبائع بالخيار إن شاء أخذ القيمة وسلم العبد للمشتري، وإن شاء أخذ عبده ولم يرجع بشيء، وإن لم يبلغ ذلك قيمته أخذ العبد وأخذ ما نقصه يقوّم على هذه الحالة ويقوم وليس عليه دين والنكاح جائز على كل حال والمهر الذي في رقبته العبد فالمشتري ضامن للمرأة على كل حال؛ لأنه عاد لها، فإن لزم العبد دين عبد البائع بعد ما نقص البيع من نفقة امرأته لم يرجع بذلك على المشتري.
ولو عمي العبد عند المشتري، فإنه ينقض البيع ويرد المبيع على البائع، وللبائع أن يضمنه ما نقصه العمي، وإن شاء ترك العبد على البيع وضمنه القيمة، وهذا كله قول أبي يوسف ومحمد، وعلى قياس قول أبي حنيفة إذا أخذ البائع العبد فلا شيء له.
وفي (نوادر ابن سماعة): عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبدًا شراء فاسدًا، ثم إن المشتري أذن له في التجارة فلحقه دين، ثم إن البائع خاصم المشتري في استرداد القيمة، فإنه يرد العبد عليه ولا سبيل للغرماء عليه ويضمن المشتري الأقل من قيمة العبد ومن الدين يعني للغرماء.
وعنه أيضًا: فيمن اشترى جارية شراء فاسدًا وقبضها المشتري وزوجها من رجل، ثم فسخ البيع بينهما يحكم بالفساد وأخذها البائع مع ما نقصها التزويج، ثم إن الزوج طلقها قبل الدخول بها كان على البائع أن يرد على المشتري ما أخذ من النقصان، قال: ألا ترى أنه لو لم يكن تزويج ولكن ابيضت إحدى عينيها في يدي المشتري، ثم إن المشتري ردها ورد معها نصف القيمة، ثم ذهب البياض وعادت إلى الحالة الأولى، فإن البائع يرد على المشتري ما أخذ من نصف القيمة وطريقه ما قلنا.
وفي (نوادر ابن سماعة): رجل قال لغيره: اشتريت منك عبدك هذا بهذا السمن في هذا الزق فباعه إياه بذلك الزق بحضرتهما ففتحه، فإذا لا شيء فيه وقد قبض المشتري العبد وأعتقه فالعقد جائز كأنه اشتراه بالسمن ولم يسم ما هو، وكذلك لو قال: اشتريته منك بهذا الثوب وأشار إلي يريد أن ثوبه وهما يعلمان أنه ليس في ذلك الموضع ثوب.
قال محمد في (الجامع): رجل اشترى من أخر جارية شراء فاسدًا وقبضها بإذن البائع فأراد البائع أن يستردها بحكم فساد البيع فأقام المشتري بينة أنه باعها من فلان بكذا، فإن صدقه البائع فيما قال ضمنه قيمتها؛ لأنهما تصادقا على أنه تعذر ردها لخروجها عن ملك المشتري، وإن كذبه البائع فيما قال: كان للبائع حق استرداد الجارية؛ لأن حق البائع قد ثبت في الاسترداد بحكم فساد البيع.
فلو امتنع الاسترداد إنما يمتنع بحكم هذه البينة وتعذر القضاء بهذه البينة لما فيها من القضاء على الغاصب من غير أن يكون عنه خصم حاضر، فإن استرد البائع الجارية، ثم حضر الغائب وصدق المشتري فيما قال كان للذي حضر أن يسترد الجارية من البائع الأول؛ لأن التصديق يستند إلى وقت الإقرار؛ لأن ذلك الإقرار وقع صحيحًا؛ لأنه حصل المعلوم.
وإذا استند التصديق إلى وقت ذلك الإقرار ظهر أن استرداد البائع الأول وقع باطلًا، فكان للذي حضر أن يأخذ الجارية البائع الأول، فإن كان البائع الأول صدق المشتري فيما قال وأخذ القيمة، ثم حضر الغائب لم يكن للبائع الأول استرداد الجارية سواء صدق الذي حضر المشتري أو كذبه، أما إذا صدقه فظاهر، وأما إذا كذبه؛ فلأن البائع الأول أقر ببطلان حقه في الاسترداد وإقرار كل إنسان حجة في حقه فلا يعود حقه في الاسترداد وبتكذيب البائع.
ولو قال المشتري بعتها من رجل ولم يسمه وكذبه البائع كان للبائع أن يستردها؛ لأنه لو أقر لمعلوم وكذبه البائع كان للبائع أن يستردها، فإذا أقر لمجهول أولى، فإن استرد البائع، ثم جاء رجل فقال للمشتري: إنما عنيت هذا فإن كذب ذلك الرجل المشتري فلا استرداد ما من وإن صدقه فكذلك؛ لأن الإقرار حال وجوده وقع باطلًا لحصوله لمجهول إلا أن بعد الاسترداد هو مصر على إقراره فيلتحق التصديق بهذا الإقرار، وصار كأنهما تصادقًا بعد استرداد البائع وبه لا يبطل بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك الإقرار وقع صحيحًا لوقوعه لمعلوم واستند التصديق إليه ومن ضرورته بطلان الاسترداد.
قال في (الكتاب): وهو نظير ما لو قال المشتري إنها ليست لي لا يبطل به حق البائع في الاسترداد، ولو قال: إنها لفلان، فإن صدقه البائع في ذلك بطل حق البائع في الاسترداد، وإن كذبه البائع في ذلك استردا العبد، فإن حضر المقر له وصدق المشتري أخذ الجارية وبطل استرداد البائع، وإن كذبه فالاسترداد ماضٍ والله أعلم.

.الفصل التاسع: في حكم شراء الفضولي وبيعه:

وبيع أحد الشريكين في شيء كله أو بعضه، وما يكون إجازة في ذلك وما لا يكون، وفي اجتماع الفضوليين على التصرف في محل واحد ويدخل فيه بعض مسائل الغاصب، وإذا اشترى الرجل شيئًا لرجل بغير أمره كان ما اشترى لنفسه، وإن أجاز الذي اشتراه له.
وصورته: إذا قال البائع للمشتري: بعت منك هذه العين بكذا، فقال المشتري: اشتريت ونوى بقلبه الشراء لفلان، وهذا بناء على أن أصل أن شراء الفضولي إنما يتوقف على الإجازة إذا لم (يوجد) على المشتري كما لو كان المشتري عبدًا محجورًا عليه أو صبيًا محجورًا عليه، أما إذا وجد نفاذًا على المشتري ينفذ ولا يتوقف وقد وجد نفاذًا على المشتري هاهنا فينفذ عليه ولم يتوقف، فلا تعمل إجازة المشتري له فيه، وهذا إذا أضاف العقد إلى نفسه فأما إذا أضيف العقد إلى المشترى له فهو على وجوه.
أحدها: أن يقول البائع بعت هذا العبد من فلان، وقال الفضولي: اشتريت لفلان قبلت لفلان، أو قال: اشتريت قبلت ولم يقل لفلان، وفي هذا الوجه يتوقف ويعمل إجازة المشترى له فيه.
الثاني: أن يقول الفضولي لصاحب العبد: بع هذا من فلان بكذا، فقال البائع: بعت وقال المشتري: قبلت لفلان، أو قال: اشتريت لفلان، وفي هذا الوجه يتوقف ولا ينفذ على المشتري.
والثالث: أن يقول صاحب العبد للفضولي: قبلت أو اشتريت أو يقول الفضولي لصاحب العبد: اشتريت هذا العبد لأجل فلان فيقول صاحب العبد: بعت، وفي هذا الوجه ينفذ العقد على المشتري ولا يتوقف، هذه الجملة من بيوع (شرح الطحاوي)، ورأيت في موضع آخر لو قال صاحب العبد للفضولي: بعت منك هذا العبد بكذا، وقال الفضولي: قبلت اشتريت لفلان بدأ الفضولي فقال: اشتريت منك هذا العبد لفلان وقال صاحب العبد: بعت منك، وذكر أن الصحيح أن العقد يتوقف ولا ينفذ على الفضولي.
وفي (شرح الطحاوي) أيضًا: الفضولي إذا باع مال الغير فهو على وجهين: إن باعه بثمن لا يتعين بالتعيين فإنما تلحقه الإجازة بقيام الأربعة البائع والمشتري والمالك والمبيع، ولا يشترط لصحة الإجازة قيام الثمن في يد البائع، فإن أجاز المالك البيع في حال قيام الأربعة جاز البيع ويكون البائع كالوكيل للمجيز، والثمن للمشتري إن كان قائمًا، وإن هلك في يد البائع هلك أمانة، وإن باعه بثمن يتعين بالتعين يشترط ذلك قيام الثمن لصحة الإجازة، ثم إذا صحت الإجازة في هذا الوجه، وهو ما إذا كان الثمن شيئًا يتعين بالتعين وكان الثمن قائمًا فالثمن يكون للبائع دون المجيز؛ لأن البائع صار مشتريًا للثمن إذا كان الثمن شيئًا يتعين بالتعيين والشراء ينفذ على المشتري ولا يتوقف، ويرجع المجيز على البائع بقيمة ماله إن كان من ذوات القيم وبمثله إن كان من ذوات الأمثال.
وفي (فتاوى أبي الليث): إذا باعه متاع غيره بغير إذنه، ثم مات فأجاز صاحب المتاع البيع لا يجوز، وإنه موافق لما ذكره الطحاوي فرق بين هذا وبين النكاح.
والفرق: أن البيع إذا جاز يصير البائع وكيلًا لما عرف أن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء فترجع إليه الحقوق، والميت لا يصلح وكيلًا ولا كذلك النكاح، فإن هناك لا ترجع الحقوق إلى الوكيل.
وفي (نوادر ابن سماعة) قلت لمحمد: رأيت رجلًا غصب من آخر حيوانًا وباعه من آخر فأجاز المغصوب منه البيع ولا يعلم ما حال المغصوب، قال محمد رحمه الله: البيع جائز حتى يعلم أنه تلف، قال: وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع ببغداد وقال: البيع فاسد حتى يعلم حياته، فإن قال المشتري: المبيع كان هالكًا وقت الإجازة وقال البائع: إنما مات بعد الإجازة فالقول قول البائع.
وفي (فتاوى أبي الليث): رجل باع ثوب غيره بغير أمره فقبضه المشتري وصبغه، ثم أجاز رب الثوب البيع لم يجز؛ لأن المبيع قد هلك من وجه وصار شيئًا آخر، ألا ترى أن الغاصب إذا فعل ذلك مَلَكه.
وفي (نوادر ابن سماعة): إذا باع أحد الشريكين نصف الدار مشاعًا ينصرف إلى نصيبه، ولو باع فضولي نصف الدار المشترك بين رجلين ينصرف البيع إلى نصيبهما، فإن أجاز أحدهما صح البيع في النصف الذي هو نصيب المجيز، وهذا قول أبي يوسف، وقال محمد وزفر: البيع جائز في ربعها، ولو وهب نصيبه من الدين المشترك للمديون جازت الهبة في نصيبه، ولو وهب نصف الدين مطلقًا تنفذ الهبة كما لو قال: وهب نصف العبد المشترك.
هشام عن محمد في غلام بين رجلين ليسا بشريكين في الأشياء قال: أحدهما لصاحبه وقد وكلتك ببيع نصيبي من هذا الغلام، فباع المأمور نصف هذا الغلام بعد هذا القول ولم يبين أي النصفين هو، ثم مات العبد بعد تسليم المبيع منه، فقال البائع بعد موته: قد بعت نصيبي فالقول قوله.
قال في (الجامع الكبير): رجل باع عبد غيره بغير أمر صاحب العبد بألف درهم ومثله المشتري، وباعه أخر من رجل بألف درهم بغير أمر صاحب العبد فقبله المشتري الثاني توقف العقدان؛ لأنه لا مزاحمة في التوقف، وإذا بلغ المولى ذلك فأجازهما بنصف العقدان؛ لأن البيعين تعارضا في الحكم، وليس أحدهما بأولى من الآخر والمحل قابل للتنصيف فينصف، فكان لكل واحد من المشترين الخيار؛ لأن كل واحد منهما إنما أقدم على السواء عنه في الكل، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا النصف.
وكذلك لو وكل المولى رجلين كل واحد منهما ببيع العبد فباعه كل واحد منهما من رجل على حدة ووقع البيعان جميعًا معًا يحكم بالتنصيف؛ لأنا نعتبر الإذن في الابتداء بالإجازة في الانتهاء بالبيعين بنصف البيعان، فكذا إذا وجد الإذن في البيعين في الابتداء ويخير المشتريان لما قلنا.
وكذلك لو كان الذي ولي البيع فضوليًا واحدًا والمشتري أهان بأن باع العبد من رجل بألف بغير أمر المولى وباع من آخر كذلك، فبلغ المولى فأجازهما ينصف العقدان، وكان أبو الحسن الكرخي يقول: تأويل المسألة فيما إذا أخرج البيعان معًا بأن قال الذي ولي البيع: بعت من كل واحد منكما جميع هذا العبد من هذا بألف ومن هذا بألف فقبلا جميعًا، ثم أجاز المولى البيعين، فأما إذا حصل ذلك على وجه التعاقب، فالثاني ببعض الأول؛ لأن الفضولي ملتزم العهدة والناس يتعاونون في الوفاء بموجب المعاملة فصار إقدامه على البيع الثاني فسخًا للعقد الأول، والفضولي يملك فسخ العقد الموقوف قبل إجازة المالك، ولهذا لو فسخه صريحًا ينفسخ فيتضمن إقدامه على البيع الثاني فسخًا للبيع الأول، وصار كما لو كان المباشر للبيع الثاني هو المالك، وصار كما لو كان المشتري واحدًا، وأكثر مشايخنا على أن ما ذكر في (الكتاب): أصح.
ووجهه: أنه لم يوجد من الفضولي فسخ العقد الأول لا نصًا ولا دلالة، أما نصًا فلا شك وكذلك دلالة لما قلنا: أنه لا مزاحمة في التوقف بخلاف ما إذا كان المباشر للعقد الثاني هو المالك أوجب حكم العقد وبين الحكمين تنافي فانتقض الأول ضرورة، وبخلاف ما إذا كان المشتري واحدًا؛ لأن الشراء الثاني لازم في حق المشتري وإنما امتنع النفاذ من الجانب الآخر لحق المولى، فصار إقدام المشتري على الشراء الثاني فسخًا للأول، وهو يملك فسخ البيع الأول، فأما هاهنا إن وجد من المشتري الثاني دلالة الفسخ إلا أنه لا يملك فسخ العقد الأول، والفضولي وإن ملك الفسخ لم يوجد منه دلالة الفسخ فلهذا لا ينفسخ العقد الأول.
ولو باع فضولي أمة رجل بألف درهم وزوجها آخر من رجل بمائة دينار فبلغ المولى فأجازهما جاز البيع وبطل النكاح؛ لأن البيع أقوى إذ يستفاد بملك النكاح وهو ملك المتعة وملك النكاح ولا يستفاد به شيئًا يترتب عليه ما يستفاد بالبيع وهو ملك الرقبة.
ولهذا لو طرأ البيع على النكاح الموقوف لا يبطله ولو استويا كان ترجيح البيع أولى؛ لأنه يقبل التنصيف، والنكاح ولا يقبل التنصيف ولو أعتقها رجل بغير أمره أو كاتبها وباعها الأخر فأجازهما المولى معًا جاز العتق؛ لأن البيع يقبل البطلان والعتق والكتابة لا يقبلان الثبوت في أحد النصفين مع قيام البيع في النصف الآخر فوجب ترجيح العتق والكتابة لهذين الوجهين، ولهذا قلنا لو وكل رجل غيره بإعتاق عبده أو بكتابة عبده، ووكل آخر ببيع هذا العبد أيضًا ففعلا معًا فالعتق والكتابة أولى فهاهنا كذلك.
ولو أن رجلًا وهب عبد رجل لرجل بغير أمره وسلمه المولى الموهوب له وباعه آخر من رجل فبلغ المولى، فأجازهما جميعًا جاز كل واحد منهما في النصف؛ لأن الهبة مع القبض تساوي البيع في حق إفادة الملك، وكل واحد منهما قابل للتنصيف، فإن هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة صحيحة تامة، ويخير المشتري ولا يخير الموهوب له، فإن اختار المشتري الإنصاف فالأمر ماضي، وإن اختار الرد لا يرد ذلك النصف على الموهوب له؛ لأن القاضي لما قضى بينهما نصفان فقد صار الموهوب له مقضيًا عليه في ذلك النصف، والإنسان متى صار مقضيًا عليه في شيء لا يصير مقضيًا عليه في ذلك النصف إلا بسبب جديد.
وقد قال في كتاب الدعوى: في رجلين تنازعا في عين ادعى أحدهما الملك بالشراء والأخر بالهبة والقبض بإذن المالك وأقاما البينة على ذلك أن الشراء أولى، فقد رجح الشراء في مسألة الدعوى دون مسألتنا.
والوجه في ذلك: أن في مسألة الدعوى ثبت العقدان بالبينة وجهل التاريخ، والأصل في العقد إذا تساويا، وجهل التاريخ أن يجعلا كالمقترنين.
ولو اقترنا كان البيع يوجب الملك بنفسه والهبة لا توجب الملك ما لم يوجد القبض فيثبت ملك المشتري أولًا، وظهر أن الموهوب له قبض ملك المشتري إذ القبض وجد بعد العقدين فلم يثبت الملك للموهوب له، فأما هاهنا القضاء يقع بالعقدين جميعًا عند الإجازة وحالة الإجازة الهبة مقبوضة للموهوب، والهبة مع القبض تساوي البيع إفادة الملك وقبول التنصيف، فلهذا يقضي بالعقد بينهما نصفين.
ولو كان مكان العبد في مسألة (الكتاب): دارًا والباقي بحاله جاز البيع دون الهبة؛ لأن البيع قابل للتنصيف والهبة هاهنا غير قابلة للتنصيف؛ لأن هبة المشاع فيما يحتمل القسمة غير صحيحة، فرجحنا البيع على الهبة.
ومن هذا الجنس:
رجل وهب دار رجل لرجل وسلم، ووهبها رجل آخر لرجل آخر وسلم أيضًا فأجاز صاحب الدار العقدين معًا بطلا عند أبي حنيفة، وجاز عندهما؛ لأنه لما أجاز العقدين صار كأنه وهبها من رجلين نصفين إذ قضية الاستواء التنصيف، وهبة الدار من رجلين نصفين باطلة عند أبي حنيفة جائزة عندهما فهاهنا كذلك، وكذلك الهبة والصدقة لاستوائهما في المعنى.
ولو باعها رجل من رجل ورهنها أخر من رجل بدين له فأجاز صاحبها ذلك كله جاز البيع وبطل الرهن؛ لأن البيع أقوى؛ لأنه يوجب ملك الرقبة والرهن لا يوجب ملك الرقبة؛ ولأن البيع قابل للتنصيف والرهن لا يقبل التنصيف؛ لأن رهن المشاع لا يصح سواء كان مشاعًا يحتمل القسمة أو لا يحتمل القسمة، فلهذا رجحنا البيع، ولو كان أحدهما صدقة أو هبة والأخر رهنًا، فإن كان في العبد والهبة والصدقة أولى لما قلنا في البيع مع الرهن، وإن كان في الدار بطل إذ لا يمكن تصحيح كل واحد منهما في نصف الدار شائعًا.
فإن قيل: ينبغي أن تترجح الهبة والصدقة؛ لأنه أقوى منهما، فإن كل واحد منهما يفيد ملك الرقبة والرهن لا يفيد ملك الرقبة.
قلنا: الهبة إن كانت أقوى من هذا الوجه فالرهن أقوى من وجه آخر، فإن الرهن عقد ضمانٍ، والهبة عقد تبرع فوقعت المعارضة بين قوة الرهن من هذا الوجه وبين قوة الهبة من الوجه الذي قلتم، فثبتت المساواة بينهما فكان الحكم هو التنصيف وواحد من ذلك لا يقبل التنصيف.
ولو كانا رهنين في دار أو عبد فذلك كله باطل لتعذر الترجيح وتعذر التنصيف؛ لأن رهن المشاع لا يصح على كل حال ولم يجعل هذا بمنزلة الرهن من رجلين؛ لأن هناك لا يتحقق الشيوع، فإن العقد واحد والكل يصير رهنًا عندهما، ولا يصير عند كل واحد منهما نصفه رهنًا فلم يتمكن من الشيوع، أما هنا العقدان توقفا ليعيد كل واحد منهما في الكل عند زوال المزاحمة وفي النصف عند بقائها وقد بقيت المزاحمة فيعيد كل عقد في النصف دون النصف فيتمكن الشيوع.
وإذا اجتمع البيع والإجارة في العبد أو الدار فالبيع أولى؛ لأن البيع أقوى، فإنه يفيد ملك الرقبة وملك المنفعة بناء عليه، أما الإجارة لا تفيد ملك الرقبة؛ ولأن البيع يحتمل التنصيف والإجارة لا تحتمل التنصيف فترجح البيع عند أبي حنيفة بعلتين، وعندهما بالعلة الأخرى.
وإذا اجتمعت الهبة والإجارة فالهبة أولى؛ لأنها أقوى؛ لأنها تفيد ملك الرقبة وملك المنفعة بناء وتبعًا والإجارة لا تفيد ملك الرقبة والهبة قابلة للتنصيف والإجارة لا تحتمل التنصيف عند أبي حنيفة، وهذا إذا كان الدعوى في العبد، فإن كان في الدار فالهبة أولى أيضًا عند أبي حنيفة لكن للعلة الأولى دون الثانية، وعندهما الترجيح في الدار والعبد للعلة الأولى دون الثانية لما مر.
وإذا اجتمع الرهن مع الإجارة فالإجارة أولى في الدار والعبد جميعًا.
قيل: هذا على قولهما؛ لأن الإجارة تقبل التنصيف عندهما والرهن لا يقبل، فأما عند أبي حنيفة فهما سواء فينبغي أن يبطل.
وقيل: لا بل هذا قول الكل؛ لأن الشيوع في الرهن أشد تأثيرًا منه في الإجارة؛ لأن رهن المشاع باطل لا حكم له، وإجارة المشاع فاسدة لها حكم وهو أجر المثل عند استيفاء المنافع، ورهن المشاع من الشريك لا يجوز إجارة المشاع من الشريك جائزة في المشهور من الرواية فكان الشيوع أشد تأثيرًا في إبطال الرهن فلهذا صارت الإجارة أولى، ولأن الإجارة أقوى من الرهن؛ لأن الإجارة توجب ما يوجبه الرهن وهو الجنس ويوجب ملك المنفعة أيضًا وهو عقد معاملة، والرهن لا يوجب ملك المنفعة وليس بمعاوضة فلهذا كان الترجيح للإجارة.
وفي (نوادر ابن سماعة): عن محمد: رجل باع ثوبًا لرجل من ابن نفسه بغير أمر صاحبه والابن صغير مأذون أو باعه من عند نفسه والعبد مأذون له في التجارة وعليه دين أو لا دين عليه، ثم إن البائع أعلم رب الثوب أنه قد باع ثوبه ولم يعلمه ممن باعه لا يجوز ذلك إلا في عبده الذي عليه الدين من قبل أنه لو أمره ببيعه مبتدئًا من أحد من هؤلاء إلا من عبده الذي عليه الدين.
قال: امرأة جاءت بألف درهم إلى رجل وقالت: اشتر والد ذلك فالدار للمشتري والإجارة باطلة.
رجل قال لأخر: قد اشتريت عبدك هذا من نفسي بألف درهم والمولى حاضر وقت هذه المقالة فقال: قد أجزت وسلمت قال: أجعله بيعًا الساعة منه بألف درهم، ولو قال: هذا في شيء ماض كان باطلًا.
ولو قال: اشتريت عبدك هذا من نفسي، ومن فلان بألف درهم يعني أمس فقال المولى: قد رضيت لم يجز في شيء؛ لأنه لا بيع واحد بثمن واحد، ولو قال: اشتريت عبدك هذا أمس اشتريت نصفه من نفسي بخمسمائة ونصفه من فلان بخمسمائة درهم فهو جائز في النصف الذي اشتراه من فلان يعني إذا قال المولى: قد أجزت.
إذا اشترى عبدًا وقبضه فادعاه رجل أنه عبده وأقام البينة وقد علم بالبيع فقضى له القاضي وقبضه، ثم أمضى العقد فإمضاؤه جائز، وكذلك إذا قضاه قبل أن يقضي له القاضي بالعبد جاز إمضاؤه.
وفي (نوادر هشام) قال: سألت أبا يوسف: عن رجل غصب من رجل عبدًا وباعه، ثم جاء المغصوب منه وأجاز البيع، قال: إن كان يقدر المغصوب منه على أخذ العبد فإمضاؤه جائز وإلا فإمضاؤه باطل، وهذا قول أبي يوسف الأخر، وقد مرت هذه المسألة قبل هذا.
وإبراهيم عن محمد: رجلان بينهما صبرة من طعام باع أحدهما قفيزًا منه، ثم كاله لصاحبه فأجازه الآخر أو لم يجزه فالبيع جائز والثمن كله للبائع، وإن ضاع ما بقي من الطعام فللشريك على البائع نصف قفيز ولا سبيل له على المشتري، ولو عزل قفيرًا من الصبرة أولًا، ثم باعه فأجازه الشريك فالثمن بينهما نصفان ولم يجزه وأخذ نصفه فأراد المشتري أن يرجع عليه من تمام القفيز فليس له ذلك، وهو بالخيار وإن شاء أخذه بنصف الثمن وإن شاء شارك.
إذا قال لغيره: بعتك من هذه الحنطة وهو مكيلها بمائة درهم فإن هاهنا يقع البيع، وكذلك السمن والزيت وما يكون له نموذج، فأما الثياب فليس لها نموذج.
وإذا باع من آخر جرابًا على أنه أربعون، فإذا هو واحد وأربعون، ثم باعه المشتري على أنه واحد وأربعون فأجاز البائع الأول ذلك فله من هذا الثمن جزؤه من واحد وأربعين، ويقسم الثمن على عدد الثياب.
وفي (نوادر ابن سماعة): عن محمد: رجل غصب من آخر عبدًا وباعه الغاصب من رجل وسلمه المشتري، ثم إن الغاصب صالح مولاه منه على شيء، قال: إن صالحه على القيمة دراهم أو دنانير جاز بيع الغاصب وهذا بمنزلة ضمان القيمة، وإن صالحه على عرض من العروض فهذا بمنزلة بيع المستقبل، والبيع الأول باطل.
وفي (المنتقى): رجل باع عبد رجل بغير أمره، ثم إن البائع اشتراه أقام بينة أنه اشتراه من مولاه بعد البيع قبل ذلك هكذا قاله محمد رحمه الله.
وفيه أيضًا: رجل باع عبد رجل بغير أمره، فقال له صاحب العبد: أحسنت وأصبت ووفقت فهذا لا يكون إجازة للبيع، وله أن يرده؛ لأنه قد يكون هذا على التعجب والاستهزاء، ولكن إن قبض الثمن فهو إجازة للبيع.
وكذلك إذا قال: قد كفيتني مؤنة البيع وأحسنت فجزاك الله خيرًا لم يكن ذلك إجازة؛ لأنه قد يجيء هذا على وجه الاستهزاء.
وفي (نوادر هشام): عن محمد رحمه الله: في رجل باع جارية رجل بغير أمره فلقيه رب الجارية فقال: أحسنت أو وفقت فالبيع جائز استحسانًا، فصار في المسألة روايتان.
وفي (المنتقى): أن قوله بئس ما صنعت إجازة، وكذلك قبض الثمن إجازة.
بشر عن أبي يوسف: رجل باع عبد رجل بغير أمره فبلغه الخبر فقال للبائع: قد وهبت لك الثمن أو قال: تصدقت به عليك فهذا إجازة للبيع إن كان قائمًا.
وعنه أيضًا: اشترى رجل أمة رجل من غيره ووقع عليها وعلقت منه وولدت فأجاز المولى جاز، وليس في الولد قيمة ولا عقر على المشتري.
ابن سماعة عن محمد: رجل باع بغير إذنه فجاء المشتري إلى مولاه وأخبره أن فلانًا باع عبده منه، قال: إن باعك بمائة درهم فقد أجزت، فقال: إن كان باعه بمائة أو أكثر من الدراهم جاز، وإن كان بأقل من مائة لا يجوز وإن باعه بألف دينار لا يجوز، وإنما ينظر في هذا إلى النوع الذي وصفه.
وكذلك إن كان قال: إن باعك بمائة دينار فهو جائز فهو على (ما) وصفت لك، وإن قال: إن كان باعك بمائة أجرت ذلك فهذا عبده وإذا غصب عبدًا وباعه من غيره، ثم أبق العبد من يد المشتري، ثم أجاز المالك البيع جاز عند أبي حنيفة خلافًا لزفر.

.الفصل العاشر: في الاختلاف الواقع بين البائع والمشتري:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.نوع منها في الاختلاف في صحة العقد وفساده:

هذا النوع ينبني على عبارتين.
أحديهما: أن المتعاقدين إذا ادعى صحة العقد وادعى الآخر فساده، فإن كان مدعي الفساد يدعي الفساد ولا يدفع إستحقاق مال عن نفسه لا يصدق في دعوى الفساد، وهذا لأن مدعي الفساد إذا كان لا يدفع عن نفسه استحقاق مال بقي من جانبه مجرد دعوى الفساد لا يقبل؛ لأن الظاهر شاهد لمدعي الجواز وهو ظاهر عقله ودينه؛ لأن عقل الإنسان ودينه يمنعانه عن مباشرة العقد الفاسد وعن دعوى الجواز كاذبًا، وظاهر عقل مدعي الفساد ودينه إن كان يمنعانه عن دعوى الفساد كاذبًا يمنعانه عن مباشرة العقد الفساد فظاهر عقل مدعي الفاسد ظاهر له من وجه وعليه من وجه وظاهر عقل مدعي الجواز شاهد له من كل وجه.
والقول قول من يشهد له الظاهر، فمن كانت شهادة الظاهر له أكثر كان قوله أولى بالقبول، أما إذا كان مدعي الفساد بدعوى الفساد يدفع استحقاق مال عن نفسه لو جعلنا القول قول مدعي الجواز بشهادة الظاهر له فقد جعلناه مستحقًا مالًا على صاحبه بشهادة الظاهر والظاهر لا يصلح حجة الاستحقاق، ومتى جعلنا القول قول من يدعي الجواز بشهادة الظاهر لدفع صفة المعصية عن فعلهما والمعاصي أبدًا تدفع عن المسلمين بشهادة الظاهر.
إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسائل: فنقول في بيع العين: إذا ادعى أحد المتعاقدين الفساد بأن ادعى شرطًا فاسدًا فالقول قول من يدعي الصحة؛ لأن بيع العين عقد معادلة من الجانبين؛ لأنه بيع بالمثل من الجانبين، فإن مبنى البيع على المساواة والمعادلة من الجانبين فمدعي الفساد لا يدفع عن نفسه استحقاق شيء من حيث المعنى؛ لأنه يحصل له مثل ما استحق عليه متى جاز العقد الاستحقاق فكأنه لم يستحق عليه فبقي مجرد دعوى الفساد من غير دفع الاستحقاق فيكون القول قول الجواز على ما مر.
وفي باب النكاح إذا ادعى أحد الزوجين الصحة والآخر الفساد، بأن ادعى أحدهما أن النكاح كان بغير شهود وادعى الآخر أنه كان بشهود، أو ادعى أحدهما أن النكاح كان في عقد الغير وادعى الآخر أنه كان بعد انقضاء العدة فالقول قول من يدعي الصحة؛ لأن عقد النكاح معادلة من الجانبين؛ لأن من الجانب الزوج المهر وأنه عين ومن جانب المرأة منافع البضع ومنافع البضع في حكم الأعيان، فصار كبيع العين.
وللمضارب إذا ادعى فساد العقد بأن قال لرب المال: شرط لي نصف الربح إلا عشرة ورب المال يدعي جواز المضاربة بأن قال: شرطت لك نصف الربح فالقول قول رب المال؛ لأن المضارب بدعوى الفساد لا يدفع الاستحقاق عن نفسه وإن كان مستحق على المضارب بعد عقد المضاربة شيء؛ لأن المستحق له جوّز من الربح إنه عين مال والمال خير من المنفعة والاستحقاق بعوض هو خير كلا الاستحقاق فلم يكن المضارب بدعوى الفساد دافعًا عن نفسه الاستحقاق فلا يقبل قول رب المال إذا ادعى فساد المضاربة بأن قال رب المال للمضارب: شرطت لك نصف الربح إلا عشرة والمضارب ادعى جواز المضاربة فالقول قول رب المال؛ لأن رب المال بدعوى الفساد يدفع عن نفسه استحقاق مال؛ لأن ما يستحق لرب المال منفعة المضارب وما يستحق على رب المال عين مال وهو جزء من الربح والعين خير من المنفعة، وإذا كان ما يستحق على رب المال خير أكان المال بدعوى الفساد دافعًا عن نفسه استحقاق زيادة قال: فكان القول قوله.
وإذا ادعى رب المال السلم لأجل والمسلم إليه لواحد منهما فالقول قول رب السلم استحسانًا؛ لأن المسلم فيه على تقدير ثبوت الأجل وجواز العقد لا يصير مستحقًا للحال فلا يكون المسلم إليه بدعوى الفساد عن نفسه استحقاقًا فلا يقبل قول، ويكون القول قول من يدعي الجواز وهو رب المسلم بشهادة الظاهر له.
العبارة الثانية: أن العاقدين إذا اتفقا على وجود عقد واحد واختلفا في صحته وفساده فالقول قول من يدعي الصحة.
كما في بيع العين إذا ادعى أحدهما فساد العقد بأن ادعى اشتراط فاسد والآخر يدعي الجواز فالقول قول من يدعي الجواز؛ لأنهما اتفقا على عقد واحد؛ لأن البيع باشتراط شرط فاسد لا يصير عقدًا آخر بل يكون بيعًا فاسدًا، فقد اتفقا على عقد واحد واختلفا في صحته وفساده.
وكذلك في باب النكاح: إذا ادعى أحدهما فساد العقد بأن ادعى أن النكاح كان بغير شهود أو ما أشبه ذلك، وادعى الآخر أن النكاح كان بشهود فالقول قول من يدعي الجواز؛ لأنهما اتفقا على وجود عقد واحد؛ ولأن النكاح بسبب الفساد لا يصير عقدًا آخر أنما اختلفا في صحته وفساده.
وكذلك في باب السلم إذا ادعى رب السلم الأجل وأنكر المسلم إليه الأجل فالقول قول رب السلم استحسانًا؛ لأن السلم بسبب الفساد لا يصير عقدًا آخر فقد اتفقا على وجوده عقد واحد واختلفا في صحته وفساده، فكان القول قول من يدعي الجواز.
وفي باب المضاربة: إذا قال رب المال: شرطت لك نصف الربح إلا عشرة، وقال المضارب: شرطت لي نصف الربح فالقول قول رب المال؛ لأن هناك ما اتفقا في وجود عقد واحد بل اختلفا فيه؛ لأن رب المال يدعي الإجازة؛ لأن المضاربة إذا فسدت تصير إجازة فاسدة، فإذا جازت كانت شركة فقد اختلفا في العقد الذي باشر المضاربة.
ادعى الشركة وأنكرها رب المال وأقرّ له بالإجازة فيكون القول قول رب المال، كما لو أنكر المضاربة ولم يقر بالإجازة.
فإن قيل: هذا القدر الذي قلتم في فصل المضاربة يشكل ما إذا قال رب المال للمضارب: شرطت لك ثلث الربح وزيادة عشرة، وقال المضارب: شرطت لي الثلث فالقول قول المضارب، وقد اختلفا في نوع العقد.
قلنا: هناك اتفقا على عقد واحد ابتداء وهو الشركة، فإن المضارب ادعى ذلك ورب المال أقر له بذلك ابتداء المال شرطت لك نصف الربح؛ لأن قوله: وزيادة عشرة مقطوعة عن أول الكلام فلا يتوقف أول الكلام عليه، فكان هذا من رب المال دعوى عقد آخر بعد الإقرار بوجود عقد واحد فلا يصدق في دعواه، بخلاف قوله إلا عشرة؛ لأن هذا استثناء أول الكلام يتوقف على الاستثناء.
فأما إذا اختلف الزوجان في النكاح باشراه بأنفسهما أنه كان في حالة الصغر أو بعد البلوغ فيه، كان القول قول من يدعي النكاح في حالة الصغر؛ لأن هناك ما اتفقا على وجود العقد بل اختلفا في وجوده؛ لأن عبارة الصغير فيما يضره أو يتردد بين الضرر والنفع ملحق بالعدم.
كعبارة المجنون، فكان المدعي للنكاح في حالة الصغر منكرًا وجود النكاح فكان القول قوله. وإن كان بمنزلة ما لو قالت: تزوجتني قبل أن أحلق، أو قال الرجل: تزوجتك قبل أن أحلق، وقال الآخر: لا بل بعد الحلق، أما هاهنا اتفقا على وجود النكاح، فإنهما اتفقا أنهما كانا من أهل العقد حال ما باشرا العقد، وإنما اختلفا في صحته وفساده.
ذكر في (المنتقى) بشر عن أبي يوسف في (الإملاء): رجل ادعى عبدًا في يدي رجل لي اشتريته من صاحب اليد بألف درهم، وقال صاحب اليد: بعته منه بألف درهم وشرطت عليه أن لا يبيعه أو ما أشبه ذلك من الشروط التي تفسد البيع فالقول قول المشتري، وإن كان مدعي الشرط هو المشتري فالقول قول البائع؛ لأنهما اتفقا على وجود العقد واختلفا في صحته وفساده ومدعي الفساد لا يدفع عن نفسه استحقاق مال على العبارة الأولى، وعلى العبارة الثانية اتفقا على وجود عقد واحد واختلفا في صحته وفساده فيكون القول قول من يدعي الصحة.
فإن قال مدعي الشراء: اشتريت عبدك هذا بعبدي هذا وقال البائع: بعته منك بألف درهم ورطل من خمر، أو قال: بألف درهم وخنزير فأقاما البينة فالبينة بينة البائع، وإذا ادعى للبائع أن الثمن كله خمر أو خنزير فأقاما البينة فالبينة بينة المشتري.
والحاصل: أنه إذا اتفقت بينة البائع والمشتري على ذكر ما يصلح ثمنًا وأثبت أحديهما شرطًا زائدًا يفسد به البيع، كما إذا اتفقا أن البيع كان بألف درهم وزادت أحديهما خنزيرًا أو رطلًا من خمر فالبينة بينة الفساد، وإذا اختلفا في ذكر ما يصلح ثمنًا فأثبت أحديهما ما يصلح ثمنًا بأن قال: كان البيع بألف درهم أو بهذا العبد، وأثبتت الأخرى ما لا يصلح ثمنًا بأن قالت: الثمن كله خمر أو خنزير فالبينة بينة الصحة.
وذكر المعلى عن أبي يوسف: رجل باع من آخر دارًا، ثم قال: بعتها بيعًا صحيحًا فاسدًا، وقال المشتري: اشتريتها شراء صحيحًا فإني أقول للبائع: كيف بعته فإني أقول للمشتري: كيف اشتريته، فإن قال: اشتريته بألف درهم ونقدت الثمن حلفت البائع على ذلك فإن حلف قلت للبائع: كيف بعته؟ فإن قال: بعته على أن مسمى طعامًا اربح فيه، حلفت المشتري ما اشتراه بهذا الشرط، فإن حلف كان البيع صحيحًا، وإن قال البائع: بعتها بخنزير فالقول قوله.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل قال لآخر: بعتك هذا العبد بألف درهم ورطل خمر وقال المشتري: اشتريته بألف درهم لا غير، قال: كان أبو حنيفة رحمه الله يقول في مثل هذا: أن القول قول من يدعي الصحة، وأما أنا فأرى أن يجعل القول قول البائع.
ولو قال: بعتك بألف درهم حالة وقال المشتري: بألف درهم إلى العطاء فالقول قول البائع: وإن أقاما البينة (فالبينة) بينة المشتري.
وعن أبي يوسف: في رجل باع آخر متاعًا وسلمه إلى المشتري، ثم اختلفا فقال المشتري: اشتريته بألف درهم، وقال البائع: بعته بألف درهم، أو قال: بمائة دينار وزاد في دعواه أمرًا يفسد به البيع إما شرطًا أو لمن حرم يفسد به البيع، فإن البائع يحلف على دعوى المشتري وينتقض البيع إن حلف، وليس على المشتري يمين بدعوى البائع؛ لأن دعوى البائع لو أقر أنه جميعًا لم يلزم بها البيع.
قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: وقد قال في مجلس آخر بعد هذا في رجل باع عبدًا من آخر وقد أقرا جميعًا أنه كان آبقًا، فقال البائع: بعتك في أيامه وقال المشتري: لعينيه بعدما أخذته فالقول قول الذي يدعي صحة البيع أنهما كانا، وكذلك في نظائره، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الذي يدعي الصحة.
رجل باع من آخر بيعًا فاسدًا وسلمه إلى المشتري، ثم إن البائع باعه من غيره بيعًا صحيحًا وقبضه المشتري الثاني، فقال البائع للمشتري الثاني: بعتكه قبل أن أقبضه من المشتري الأول وقبل أن ينفسخ البيع بيني وبينه، وقال المشتري الثاني: لا بل بعته بعد ما قبضه وفسخت البيع الأول فالقول قول المشتري الثاني، ولا يصدق البائع على إبطال البيع الثاني وقد انفسخ البيع الأول بقبض المشتري الثاني.
إبراهيم عن محمد: في رجل اشترى ألف مَنّ من القطن، ثم اختصم البائع والمشتري بعد ذلك وفي يد البائع والمشتري بعد ذلك، وفي يد البائع ألف مَنّ من القطن يوم الخصومة، فقال البائع: لم يكن في ملكي يوم البيع قطن أصلًا أو قال: قد كان وقد بعت ذلك القطن ولم يكن هذا القطن في ملكي يوم البيع، وإنما أحدث بعد ذلك فالقول قول البائع أنه لم يبع هذا القطن.
رجل قال لأخر: بعتك هذا العبد بألف درهم وقال ذلك الرجل: لم اشتره منك فسكت البائع حتى قال: المشتري في ذلك المجلس أو بعده هي تلي قد اشتريته منك بألف درهم فهو جائز. قال: وكذلك في النكاح وفي كل شيء يكون لهما جميعًا فيه حق إذا رجع المنكر إلى التصديق قبل أن يصدقه الأخر على إنكاره فهو جائز، وكل شيء يكون الحق فيه لواحد مثل الهبة والصدقة والإقرار فلا ينفعه إقراره له بعد إنكاره، هذه المسألة من (المنتقى).
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: رجل باع عبد غيره بغير أمره وسلمه إلى المشتري ومات في يد المشتري فجاء المولى بعد ذلك بطلت يمينه وقال: قد كنت أجزت البيع لا يقبل قوله إلا ببينة، ولو قال: كان باعه بأمري قبل قوله.

.نوع آخر في الاختلاف الواقع بينهما في الثمن:

يجب أن يعلم أن البائع مع المشتري إذا اختلفا في جنس الثمن أنه دراهم أو دنانير، أو في قدره أنه ألف أو ألفان، أو في صفته أنه صحاح أو جياد أو زيوف كسرة والسلعة قائمة بعينها أنهما يتحالفان.
اختلفا قبل قبض المشتري المبيع أو بعده؛ لأن ظاهر قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا» لا يجب الفضل، غير أن هذا الاختلاف إذا كان قبل (قبض) المبيع فالتحالف موافقه القياس؛ لأن المشتري يدعي على البائع وجوب تسليم المبيع بالثمن الذي ادعاه، والبائع ينكر ويدعي على المشتري زيادة ألف في الثمن والمشتري ينكر، فكان كل واحد منهما مدعيًا ومنكرًا واليمين حجة المنكر في الشرع فكان التحالف قبل القبض على موافقة القياس.
وإن كان هذا الاختلاف بعد قبض (المبيع) فالتحالف على مخالفة القياس.
والقياس: أن لا يحلف البائع وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن المشتري لا يدعي على البائع شيئًا ينكره البائع؛ لأن حق المشتري في المبيع رقبة وتصرفًا وذلك سالم للمشتري، الرقبة بحكم إقرار البائع والتصرف بالقبض فكان ينبغي أن لا يحلف البائع لكن حلفناه بالنص، ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف: أن هذا الاختلاف لو وقع بين ورثتهما بعد القبض لا يتحالف بعد القبض على مخالفة القياس بالنص، والنص تناول المتبايعين وهذا الاسم لا يتناول الورثة.
وأما على قول محمد: فالتحالف بعد القبض على موافقة القياس وبه أخذ بشر بن غياث والكرخي؛ لأن كل واحد منهما يدعي على صاحبه عقدًا ينكره صاحبه، البائع يدعي على المشتري العقد بألفين والمشتري ينكر، والمشتري يدعي على البائع العقد بألف والبائع ينكر، والعقد بألف غير العقد بألفين.
فكان كل واحد منهما منكرًا من هذا الوجه فكان التحالف بعد القبض على موافقة القياس، ولهذا قال محمد رحمه الله: بأن هذا الاختلاف لو وقع بين ورثتهما قبل القبض أو بعد القبض يتحالف فيما بين المتعاقدين على موافقة القياس لكونهما منكرين فيمكن قياس ورثتهما عليهما.
وإذا وقع الاختلاف في المبيع فالتحالف قبل نقد الثمن على موافقة القياس وبعد نقد الثمن على مخالفة القياس عند أبي حنيفة وأبي يوسف بدلالة النص الذي رويناه، والأقضية القياس أن لا يحلف المشتري؛ لأنه مدعي لكن أوجبنا عليه اليمين بدلالة النص الذي روينا؛ لأنه أوجب اليمين على المدعي، متى اختلفا في أحد بدلي العقد وهو الثمن، فكذا إذا اختلفا في البدل الآخر، ثم أوجب التحالف كيف يتحالفان.
ذكر في (الأصل): أن كل واحد منهما يحلف على دعوى صاحبه، يحلف البائع بالله ما بعته بألف كما يدعيه المشتري، ويحلف المشتري بالله ما اشتريته بألفين كما يدعيه البائع، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه.
وذكر محمد في (الزيادات): في باب السلسلة أن كل واحد منهما يحلف على دعوى نفسه وعلى دعوى صاحبه يحلف البائع بالله: ما بعته بألف كما ادعاه المشتري ولقد بعته بألفين كما ادعيت أنت، ويحلف المشتري بالله: ما اشتريته بألفين كما ادعى البائع ولقد اشتريته بألف كما ادعيت أنت.
وكان أبو يوسف أولًا يقول يبدأ بيمين المشتري وهو قول زفر ومحمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمهما الله؛ لأن المشتري أشدهما إنكارًا؛ لأنه منكر صورة ومعني والبائع عندهما غير منكر أصلًا.
وعند محمد منكر صورة؛ لأن المشتري وإن كان يدعي على البائع البيع بألف فإنما يدعيه صورة لا معنى؛ لأن المقصود من العقد الذي يدعيه المشتري ملك الرقبة والتصرف وكل ذلك سالم له فكان مدعيًا صورة فكان البائع منكرًا صورة فهو معنى قولنا: المشتري أشدهما إنكارًا فلهذا كانت البداية بيمينه أولى، ثم إذا تخالفا ذكر في كتاب الدعوى أن القياس أن يقضي بالبيع بأقل الثمنين كما يدعيه المشتري؛ لأن البيع بأقل الثمنين ثابت باتفاقهما، وفي الاستحسان يترادان العقد لظاهر قوله عليه السلام: «تحالفا وترادا» فهذا أمر عرف بالنص بخلاف القياس، ويحتاج إلى فسخ القاضي أو إلى فسخهما لينفسخ العقد إما بدون ذلك لا ينفسخ العقد بينهما.
وفي مسائل السلم يقول: فيما إذا اختلفا في المسلم فيه أو في مقدار رأس مال السلم وحلفا فالقاضي يقول لهما ماذا تريدان، فإن قالا: نفسخ العقد أو قال أحدهما ذلك فالقاضي يفسخ العقد بينهما، وإن قالا: لا نفسخ العقد تركهما القاضي رجاء أن يعود أحدهما إلى تصديق صاحبه سيمضيان في البيع.
وفي كتاب البيوع للحسن بن زياد إذا حلف كل واحد منهما على دعوى الآخر فقبل أن يفسخ القاضي العقد بينهما فللبائع أن يقول أنا ألزمه المشتري بألف درهم وللمشتري أن يقول أنا آخذه بألفي درهم وبعد ما فسخ القاضي بينهما فليس لأحدهما كلام وأنهما ما نكل عن اليمين لزمه ما ادعاه صاحبه لصيرورته مقرًا بما يدعيه صاحبه عند نكوله، وأيهما أقام بينة قبلت بينته.
وإن أقاما بينة فالبينة بينة البائع؛ لأن فيها زيادة إثبات هذا وقع الاختلاف بين المتبايعين، فإن وقع الاختلاف بين ورثتهما أو بين ورثة أحدهما وبين الحي، فإن كانا قبل قبض السلعة يتحالفان بالإجماع، وإن كانا بعد القبض فكذلك عند محمد، وعلى قول أبي يوسف وأبي حنيفة لا يتحالفان، وقد ذكرنا هذا إذا اختلفا في الثمن مقصودًا، وأما إذا اختلفا في الثمن مقتضى اختلافهما في شيء آخر.
وصورته: رجل اشترى من آخر سمنًا في زق ووزنه مائة رطل، ثم جاء بالزق ليرده ووزنه عشرون، فقال البائع: ليس هذا زقي، وقال المشتري: هو زقك فالقول قول المشتري، سمي لكل رطل ثمنًا بأن قال: كل رطل بدرهم أو لم يسم وجعل هذا اختلافًا في مقدار المقبوض والقول قول المشتري في أصل القبض فكذا في مقدار المقبوض.
ثم هذا اختلاف في الثمن؛ لأن بزيادة وزن الزق ينتقص الثمن، وبنقصان وزن الزق يزداد الثمن، فالبائع يدعي زيادة في الثمن والمشتري ينكر، ولم يعتبر هذا الاختلاف في إيجاب التحالف؛ لأن الاختلاف في الثمن إنما وقع مقتصى اختلافهما في الوزن، فصار الأصل أن الاختلاف في الثمن إنما يوجب التحالف إذا كان الاختلاف واقعًا فيه مقصودًا، وهاهنا شيئًا آخر وكلمات كثيرة تأتي في آخر هذا النوع إن شاء الله تعالى، هذا إذا كانت السلعة قائمة بعينها لم يتغير عن حالها، فأما إذا كانت قد تغيرت عن حالها فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون التغير من حيث الزيادة وإنه على وجهين أيضًا: فإن كانت الزيادة من حيث السعر وقد اختلفا في مقدار الثمن قبل القبض أو بعض القبض فإنهما يتحالفان، وإن كانت الزيادة من حيث العين، فإن حدث قبل القبض فإنهما يتحالفان وإن كانت الزيادة من حيث العين، فإن حدث قبل القبض فإنهما يتحالفان أي: زيادة ما كانت متصلة أو منفصلة متولدة من العين كالولد أو بدل العين كالأرش أو بدل المنفعة كالكسب والغلة، وهذا لا يوجب التحالف الفسخ والزيادة من حيث السعر لا يمنع الفسخ بسائر أسباب الفسخ على كل حال فكذا بالتخالف، وكذا الزيادة من حيث العين الحادثة قبل القبض لا يمنع الفسخ بسائر أسباب الفسخ فكذا بالتحالف إلا أن الزيادة المنفصلة إذا كانت متولدة من عينها كالولد أو بدل العين كالأرش، والعقر وقد تحالفا وفسخ القاضي العقد بينهما، فإن الزيادة تصير للبائع عندهم جميعًا، كما لو حصل الفسخ بالإقالة أو بالرد بالعيب.
وإن كانت الزيادة المنفصلة كالكسب والغلة إذا تحالفا وفسخ القاضي العقد بينهما أو تفاسخا، فإن الكسب والغلة تكون للمشتري عند أبي حنيفة، وعلى قولهما يكون للبائع، كما لو حصل الفسخ بالإقالة قبل القبض أو بالرد بالعيب أو بالهلاك، فإن هناك الزيادة تكون للمشتري عند أبي حنيفة.
وعندهما: تكون للبائع فالأصل عند أبي حنيفة أن الكسب الحادث قبل القبض إنما يكون لمن كان الأصل له يوم الكسب، وعلى قولهما لمن صار له ملك الأصل هذا إذا حدثت الزيادة قبل القبض.
فأما إذا حدثت بعد القبض، إن كانت الزيادة كالثمن والحال فعلى قولهما: لا يتحالفان إلا أن يرضى المشتري أن يرد العين مع الزيادة المتصلة الحادثة بعد القبض عندهما يمنع الفسخ إلا برضى من له الحق في الزيادة، ولهذا قالا: بأن الصداق إذا أراد زيادة متصلة بعد القبض، ثم ورد الطلاق قبل الدخول، فإن الصداق لا يتنصف إلا برضاء المرأة، والصداق قبل الدخول إنما يتنصف بحكم الفسخ على ما يعرف في كتاب الطلاق، ثم امتنع التنصيف لما كانت الزيادة المتصلة عندهما إلا برضاء المرأة فكذا يمنع الفسخ هاهنا إلا برضاء المشتري، وعلى قول محمد يتحالفان؛ لأن الزيادة المنفصلة بعد القبض كالولد لا يمنع التحالف على مذهبه، فالمتصلة أولى وإذا وجب التحالف على مذهبه وتخالفا، فإذا ترادان لم يذكر هذا في (الكتاب).
وقد اختلف فيه المشايخ قال بعضهم: بأنهما يترادا العين رضي المشتري بذلك أم سخط، وقاسوا هذه المسألة على الصداق، فإن الصداق يتنصف عند محمد رحمه الله رضيت المرأة بذلك أم سخطت فكذلك هاهنا المشتري يرد العين على البائع مع الزيادة..... ومنهم من يقول بأيهما يترادان القيمة إلا أن يشأ المشتري أن يرد العين مع الزيادة.
فهذا القائل يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الصداق على مذهب محمد رحمه الله.
وجه الفرق له في ذلك: وهو أن تنصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ثابت على موافقة القياس أن الطلاق قبل الدخول فسخ للنكاح معنى من حيث إن جميع المعقود عليه عاد إلى المرأة كما خرج عن ملكها من غير سبب جديد وهذا معنى الفسخ، وهو قطع للملك الثابت بالنكاح من حيث الحقيقة، فإن الطلاق موضوع للقطع لا للفسخ، ولهذا صح بعد الدخول وإن كانت لا تثبت معنى الفسخ بعد، تبدأ الدخول فكان فسخًا معنى قطعًا حقيقية..... الشرع على الشبهين خطهما بقدر الإمكان فجعل للزوج النصف عملًا بالمعنى وبقي النصف للمرأة بالحقيقة، وإذا كان كذلك كان ثبوت حق الزوج في النصف بالطلاق قبل الدخول على موافقة القياس لولا الزيادة فلم يجز أن يبطل حقه بالزيادة المتصلة؛ لأن الزيادة المتصلة تبع للأصل ولا يجوز إبطال الأصل بالتبع.
وأما الفسخ بعد التحالف ثابت على مخالفة القياس مراعاة لحق البائع لما ذكرنا أن القياس أن يقضي بالبيع بأقل الثمنين؛ لأنه متفق عليه إلا إن اثبتنا حق الفسخ بخلاف القياس مراعاة لحق البائع حتى يعود إلى رأس ماله إذا لم يصل إليه ما ادعى من البدل، وإذا كان الفسخ ثابتًا له على مخالفة القياس مراعاة لحق البائع لا يكون له الفسخ على وجه يكون فيه إبطال حق على المشتري وفي الفسخ على العين إبطال حق على المشتري وهو الزيادة المتصلة.
فلهذا قلنا بأنهما يترادان القيمة هاهنا إلا أن يرضى المشتري برد العين مع الزيادة هذا إذا كانت الزيادة متصلة، فأما إذا كانت منفصلة متولدة عن عيبها كالولد أو بدل العين كالأرش والعقر بعد القبض فإنهما يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف ويكون القول قول المشتري مع يمينه رضي المشتري برد الزيادة أو لم يرض؛ لأن هذه الزوائد تمنع الفسخ بسائر أسباب الفسخ فكذا يمنع الفسخ بالتحالف ومتى امتنع الفسخ على مذهبهما لا يجب التحالف كما بعد هلاك السلعة على مذهبه على القيمة.
وإن كان الفسخ على العين متعذر فكذلك لا يمنع الفسخ بالتحالف على القيمة ألا ترى أنه بعد هلاك العين يتحالفان هذا وإن كانت الزيادة بدل المنفعة فإنهما يتحالفان بالإجماع؛ لأن هذه الزيادة لا تمنع فسخ البيع بسائر أسباب الفسخ فكذا بالتحالف كان الكسب للمشتري عندهم جميعًا كما لو حصل الفسخ بالرد بالعيب بعد القبض وبالإقالة بعد القبض، فإنه يبقى الكسب للمشتري عندهم جميعًا وبعيبه ورد النص فكذلك هذا، هذا إذا تغيرت من حيث الزيادة.
أما إذا تغيرت من حيث النقصان كان النقصان من حيث السعر، فإنه لا يمنع التحالف عندهم جميعًا حصل قبل القبض أو بعده؛ لأن النقصان من حيث السعر لا يمنع فسخ العقد بسائر الأسباب حصل قبل القبض أو بعده فكذا لا يمنع الفسخ بالتحالف أيضًا.
فأما إذا كان النقصان من حيث العين إن كان لفوات وصف إن كان قبل القبض، فإنه لا يمنع التحالف عندهم جميعًا؛ لأن النقصان من حيث الصفة قبل القبض لا يمنع الفسخ بالعيب ويختار الرؤية والشرط، وإن كذَّبه البائع فكذا لا يمنع الفسخ بالتحالف عندهم جميعًا؛ لأن النقصان من حيث الوصف بعد القبض لا يمنع الفسخ بحكم العيب ويختار الرؤية والشرط وإن كره البائع ذلك فكذا لا يمنع الفسخ بالتحالف عندهم جميعًا.
وإن حصل بعد القبض فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن يأخذه ناقصًا؛ لأن النقصان من حيث الوصف بعد القبض يمنع الفسخ بحكم العين ويختار بالشروط والرؤية لا برضاء البائع بالإجماع، وإذا امتنع الفسخ امتنع التحالف عندهما.
وفي قول محمد: يتحالفان؛ لأن امتناع الفسخ لفوات الصفة لا يكون أكثرها لا من امتناع الفسخ بسبب الهلاك وذلك لا يمنع التحالف على مذهبه على القيمة فكذا هاهنا يتحالفان، ويتردان القيمة على مذهبه إلا إن رضي البائع أن يأخذ العين ناقصًا كما في الصداق، فأما إذا كان النقصان بفوات بعض المبيع إن كان قبل القبض، فإنهما يتحالفان على القائم عندهم جميعًا، وإن كان بعد القبض فالقول قول المشتري مع اليمين عند أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ معه شيئًا على رواية (الجامع الصغير) وعلى رواية (الأصل) إلا أن يشاء البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ من ثمن الميت شيئًا.
وقال أبو يوسف رحمه الله: يتحالفان في القائم ويترادان القائم والقول قول المشتري في حصة الهلاك من الثمن، وقال محمد رحمه الله: يتحالفان عينهما، ثم يترادان البيع في الحي على العين، وفي الهالك على القيمة.
وصورتها: رجل اشترى عبدين صفقة واحدة وقبضهما، ثم مات أحدهما واختلفا في الثمن فقال المشتري: اشتريتهما بألف درهم، وقال البائع: اشتريتهما بألفي درهم فهو على الاختلاف الذي ذكرنا يجب أن يعرف أولًا حكم المسألة فيما إذا كان المشتري عبدًا واحدًا وقبضه المشتري ومات واختلفا في الثمن.
وفي تلك المسألة قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يتحالفان ويكون القول قول المشتري مع يمينه، وقال محمد: يتحالفان ولقب المسألة أن هلاك السلعة هل يمنع التحالف عندهما خلافًا لمحمد رحمه الله قوله عليه السلام: «إذا اختلفا المتبايعان تحالفا وترادا» من غير فصل بينهما إذا كانت السلعة قائمة أو كانت هالكة؛ ولأن كل واحد منهما يدعي على صاحبه عقدًا ينكره صاحبه فيتحالفان كما في حال قيام السلعة، ولهما قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا» شرط قيام السلعة لإيجاب التحالف، وقد ذكرنا أن إيجاب التحالف بعد القبض على مخالفة القياس بالنص، والنص شرط لذلك قيام السلعة يبقي على أصل القياس؛ ولأن حكم التحالف الفسخ بعد صحة البيع والهلاك لا يقبل الفسخ بسائر أسباب الفسخ فكذا بالتحالف، وهذا إذا هلكت السلعة بعد القبض.
فأما إذا هلكت بعد القبض فقد انفسخ العقد حين هلكت السلعة فلا معنى لاختلافهما إذا لم يكن الثمن مقبوضًا، وإذا عرفت حكم التحالف في العبد..... إلى العبدين وفيه اختلاف على ما ذكرنا فأبو حنيفة مرَّ على أصله فيقول التحالف بعد القبض عرف بخلاف القياس بالنص، والنص أوجب التحالف شرط قيام السلعة من كل وجه، فإن النبي عليه السلام قال: و«السلعة قائمة» ذكر السلعة مطلقًا ومطلق الاسم ينصرف إلى الكامل، فما بعد هلاك بعض السلعة يبقى على أصل القيام فلا يشرع التحالف بعد هلاك بعض السلعة ويكون القول فيه قول المشتري مع يمينه؛ لأنه منكر زيادة الثمن.
وقول أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع يأخذ القائم ولا يأخذ معه شيئًا على رواية (الجامع الصغير)، أو لا يأخذ من ثمن الميت شيئًا على رواية (الأصل) تكلم المشايخ فيه أن هذا الاستثناء ينصرف إلى مادي وأن البائع بأي طريق يأخذ القائم قال مشايخ بلخ: هذا الاستثناء ينصرف إلى يمين المشتري والبائع يأخذ القائم بطريق الصلح عما ادعى قبل المشتري، وهذا لأن حق البائع قبل المشتري في الثمن لا في العبد القائم بعينه، فإذا أخذ منه هذا العبد ولم يأخذ من ثمن الميت شيئًا، أو لم يأخذ معه شيئًا أصلًا، فكأنه صالحه من الثمن على العبد القائم.
وصار نقدًا تقدير ما قال: في (الكتاب) على قول هؤلاء لا يتحالفان عند أبي حنيفة ويكون القول قول المشتري مع يمينه إلا أن يأخذ البائع العبد القائم ولا يأخذ شيئًا آخر فلا يحلف المشتري؛ وهذا لأن المشتري إنما يحلف إذا أنكر شيئًا يدعيه البائع، وإذا أخذ البائع العبد القائم صلحًا عن جميع ما ادعاه على المشتري سقط دعوى المشتري البائع فلا حاجة إلى تحليف المشتري.
وغيرهم من المشايخ قالوا: هذا الاستثناء منصرف إلى التحالف والبائع يأخذ القائم على جهة التحالف ويصير تقدير ما قال في (الكتاب): على قول هؤلاء لا يتحالفان عند أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع أن يأخذ العبد القائم، ولا يأخذ من ثمن الميت فيتحالفان، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه واختلفوا فيما بينهم في المعنى بعضهم قالوا: إنما لا يجب التحالف عند أبي حنيفة رحمه الله نظرًا للبائع؛ لأنه خرج عن ملكه عند إذٍ والأن يعود إليه عند واحد والعرف جرى بين الناس أنهم يضمون الرديء إلى الجيد لترويج الرديء إلى الجيد وعسى كان الهالك هو الجيد، فلو قلنا: إنهما يتحالفان تضرر به البائع غير أنه إذا رضي أن يأخذ الحي فقد رضي بلحوق الضرر بنفسه فيترك وذاك هذا الرجل اشترى عبدًا وقبضه فاطلع على عيب كان عند البائع فقبل أن يرده حدث عنده عيب آخر، فأراد أن يرده ليس له ذلك، فإن البائع إن قبل له ذلك، كذلك هاهنا.
وبعضهم قالوا: شرط التحالف عند أبي حنيفة قيام جميع المعقود عليه، وما بقي العقد على الهلاك فيكون القائم بعض المعقود عليه، فلا يجب التحالف لفوات شرطه ومالم يرض البائع بأن لا يأخذ من ثمن الميت شيئًا لا يمكننا فسخ العقد في الهلاك فيكون القائم بعض المعقود عليه، فلا يجب التحالف، فأما إذا رضي أن يأخذ ولا يأخذ من ثمن الميت شيئًا أمكننا فسخ العقد في الهالك فيعتبر العقد في الهالك ففسخنا حكمًا قبل التحالف من حيث الإعتبار؛ لأنه شرط صحته فيكون القائم جميع المعقود عليه فيتحالفان، ويجوز أن يعتبر العقد منفسخًا في الهالك متى رضي البائع أن لا يأخذ من ثمن الميت شيئًا.
وإن كان الهالك ما لا يقبل الفسخ؛ لأنه ينفسخ حكمًا لا مكان التحالف في القائم، وقد يجوز أن يثبت الفسخ في الهالك تبعًا لغيره وإن كان لا يثبت مقصودًا، ثم شرط لصحة الفسخ في الهالك ومن البائع بأن لا يأخذ من ثمن الميت شيئًا أو لم يعتبر رضى المشتري وذلك؛ لأنَّا لو أوجبنا التحالف من غير رضى البائع وفسخنا العقد في الميت قبل التحالف من حيث الإعتبار بطل حق البائع في الهالك أصلًا من غير رضاه؛ لأنه يسقط حقه في الثمن الهالك من غير أن يعود إليه ما يصلح عوضًا عنه لإمكان التحالف في القائم ومن حكم التحالف فسخ العقد على وجه لا يبطل حق كل واحد منهما بغير عوض، فشرط رضى البائع أن لا يأخذ من ثمن الهالك شيئًا، حتى إذا اعتبر العقد منفسخًا في الهالك يكون فوات حقه في ثمن الهالك من غير عوض يحصل له برضاه، ولم يشترط رضى المشتري، وإن كان متى تحالفا ينفسخ العقد في القائم والهالك جميعًا بغير رضاه؛ لأن حقه إنما يزول عنها بعوض فإن الحي إن زال عنه سلم له ثمنه والميت كذلك، والفسخ بالتحالف على هذا الوجه صحيح من غير رضاء المشتري، كما لو كانا قائمين فتحالفا، وطلب البائع الفسخ، فإنه يفسخ العقد فيهما وإن أبى المشتري ذلك فكذلك هذا.
وقال بعضهم: المانع من التحالف عند أبي حنيفة رحمه الله هلاك أحد العبدين بعد القبض، فإنه لو كان هلك أحدهما قبل القبض وقبض المشتري الآخر، ثم اختلفا كانا يتحالفان؛ لأن المانع من التحالف عند أبي حنيفة إذا هلك أحدهما بعد القبض تعذر الفسخ في الحي بالتحالف؛ لأن الفسخ بالتحالف نظير الفسخ بخيار الرؤية وبخيار الشرط، ولا يملك المشتري الفسخ في القائم بعد هلاك أحد العبدين في يده بخيار الشرط وبخيار الرؤية، لما فيه من تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، فكذا بالتحالف، فأما متى كان أحدهما مالكًا في يدي البائع قبل القبض أمكن المشتري رد ما قبض بخيار الرؤية وبخيار الشرط، فأمكنه الفسخ بالتحالف.
وإذا ثبت هذا فنقول: متى رضي البائع أن يأخذ الحي ولا يأخذ من ثمن الميت شيئًا فقد جعل ما هلك في يد المشتري كالهالك قبل القبض؛ لأن من حكم هلاك المبيع قبل القبض أن لا يكون على المشتري ثمنه ويأخذ الحي لا غير، فصار للهالك في يد المشتري بهذه الصفة كالهالك قبل القبض من حيث الحكم.
ولو هلك أحدهما قبل القبض حقيقة يتحالفان في الحي، فكذلك إذا جعل هالكًا قبل القبض حكمًا لما رضي البائع أن يأخذ الحي، ولا يأخذ من ثمن الميت شيئًا.
وأبو يوسف رحمه الله مر على أصله أيضًا، فإن من أصله أن هلاك المعقود عليه يمنع التحالف وقد هلك بعض المعقود عليه وبقي البعض فيمتنع التحالف في الهالك ويكون القول قول المشتري في حصة الهالك لا في القائم هذا كما قلنا في الإجارة، وإذا اختلفا في مقدار الأجر بعد استيفاء بعض المنفعة دون البعض يتحالفان فيما لم يستوف من المنفعة وفيما استوفى وهلك جعل القول قول المستأجر مع يمينه فكذلك هذا؛ وهذا لأن المقصود من التحالف الفسخ ليعود كل واحد منهما إلى رأس ماله وانفسخ، إن تعذر في الهالك لم يتعذر في القائم.
ألا ترى أنه لو وجد بالقائم عيبًا رده، ولو وجد بالهالك عيبًا لا يرده فكذا هذا.
ثم ذكر في (الكتاب): أن على قول أبي يوسف رحمه الله القول قول المشتري في حصة الميت، ويتحالفان ويترادان في العبد القائم، ولم يذكر لغيبة التحالف على مذهبه فمن مشايخنا من قال: يقسم الثمن أولًا على قيمة العبدين فيخص الحي ألف درهم على زعم البائع، وعلى زعم المشتري خمسمائة، وإذا كان قيمتهما سواء فيحلف المشتري بالله ما اشتريته بألف درهم كما يدعيه البائع، فإن نكل ثبت ما ادعاه البائع وإن حلف لم يثبت، ثم يحلف البائع بالله ما بعته بخمسمائة كما يدعيه المشتري، فيتحالفان في القائم على حصته ولا يتحالفان في جملة الثمن، فإذا تحالفا فسخ العقد على الحي إن طلبا أو طلب أحدهما ذلك، ورد المشتري الحي على البائع، وسقط عن المشتري حصته.
ثم يحلف المشتري على حصة الهالك بالله ما اشتريته بألف درهم، فإن نكل لزمه ما ادعاه البائع من حصة الهالك وذلك ألف درهم، وإن حلف لزمه ما أقرّ به وذلك خمسمائة درهم، ومن المشايخ من قال: لا بل يتحالفان في جملة الثمن فيحلف البائع بالله ما بعتهما بألف درهم كما يدعيه المشتري ويحلف المشتري، بالله ما اشتريتها بألفي درهم كما يدعيه البائع، قالوا: وهكذا ذكر في (الجامع الكبير): وهذا لأن المقصود من التحالف النكول، وإنما يحصل هذا المقصود إذا حنث الحالف في يمينه، ومتى حلف كل واحد منهما في حق الحي على حصته لا غير لا يحنث واحد منهما؛ لأن المشتري يحلف بالله ما اشتريته بألف فيحلف ولا يحنث في يمينه وإن اشتراهما بألفين؛ لأنه لم يشتر الحي على الإنفراد بألف وإنما اشترى عبدين بألف.
وكذلك البائع إذا حلف بالله ما بعت الحي بخمسمائة يحلف في يمينه، وإن كان باعهما بألف كما يدعيه المشتري؛ لأنه لم يبع الحي على الانفراد وبخمسمائة إنما باع العبدين بألف درهم يبقى هذا القدر أن التحالف في الميت غير مشروع، والجواب أن التحالف عنده في الميت غير مشروع لأجل الفسخ؛ لأن الفسخ في الهالك مقصودًا متعذر والتحالف في الهالك هاهنا عند أبي يوسف ما كان للفسخ فيه، وإنما كان لإمكان التحالف في القائم.
وإذا تحالفا في جملة الثمن يترادان العقد في القائم على العين، وفي الميت لا يفسخ العقد ويكون القول قول المشتري في مقدار ثمنه ويجب أن يكون كيفية التحالف على قول أبي حنيفة على هذا الوجه متى رضي البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ من ثمن الميت.
فعند بعض المشايخ يتحالفان في حصة الحي من الوجه الذي ذكرنا، وعند بعضهم يتحالفان في جملة الثمن، ثم إذا تحالفا يفسخ العقد في الحي فيرد الحي على البائع ولا يأخذ البائع من ثمن الميت شيئًا هذا إذا تصادقا أن قيمتها يوم العقد ويوم القبض على السواء.
فأما إذا اختلفا في قيمتهما يوم العقد ففي حق الحي ينظر إلى قيمته للحال، ويجعل الحال حكمًا ويكون القول من يوافق قيمته للحال، وأما في الهالك إذا اختلفا في قيمته فقال المشتري: كانت قيمته يوم القبض خمسمائة وقيمة القائم ألف درهم، وقال البائع على عكس ذلك لم يذكر محمد هذه المسألة في شيء من الكتب نصًا.
وروى أصحاب (الأمالي): عن أبي يوسف: أن القول قول البائع وإليه أشار محمد رحمه الله في بيوع (الأصل): في مسألة يأتي ذكرها بعد هذا إن شاء الله؛ وهذا لأن المشتري لزمة ضمان الثمن كله بالقبض فهو بما يدعي يريد براءة نفسه عن بعض الثمن فلا يصدق إلا ببينة، ومحمد رحمه الله مر على أصله أيضًا: فإن هلاك جميع السلعة عنده لا يمنع التحالف فهلاك البعض أولى فيتحالفان ويرد القائم ويفسخ العقد في الهالك على قيمته.
وكيفية التحالف على محمد ظاهر يحلف المشتري أولًا بالله ما اشتريتهما بألفين كما يدعيه البائع، فإن نكل لزمه ألفان وإن حلف يحلف البائع بالله ما بعتهما بألف كما يدعيه المشتري، فإن نكل ثبت ما ادعاه المشتري. وإن حلف البائع أيضًا لم يثبت ما ادعاه كل واحد منهما من الثمنين، فإن اتفقا وطلب أحدهما أو كلاهما الفسخ فسخ القاضي العقد بينهما ويأمر المشتري برد القائم وقيمة الهالك، وإن اختلفا في قيمة الهالك فالقول قول المشتري مع يمينه لإنكاره الزيادة.
وقد ذكر محمد رحمه الله في إقرار (الأصل): في باب الإقرار بالبيع إذا خرج بعض المبيع عن ملك المشتري بأن باع مثلًا نصف العبد أو ما أشبهه، ثم اختلفا في الثمن فإنهما لا يتحالفان لا فيما باع ولا فيما بقي على قول أبي يوسف القول قول المشتري مع يمينه ولا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن يأخذ ما بقي منه، فإذا رضي بذلك فحينئذٍ يتحالفان على ما بقي في ملك المشتري بحصة ما خرج عن ملكه على قول المشتري، وقال محمد: يتحالفان على قيمة العبد إلا أن يشاء البائع أن يأخذ ما بقي من العبد وقيمة ما استهلكه المشتري منه فحينئذٍ يتحالفان في القائم على العين وفيما باع على القيمة.
فكلهم فرقوا بين مسألة كتاب الإقرار وبين مسألة كتاب البيوع، فإن في مسألة البيوع أبي حنيفة التحالف إلا بشرط أن يأخذ البائع الحي ولا يأخذ من ثمن الميت شيئًا، وفي مسألة كتاب الإقرار أن التحالف مطلقًا غير معلق بشرط، فإنه لم يقل لا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن لا يأخذ من ثمن ما خرج عن ملكه شيئًا، وفي المسألتين جميعًا اختلفا في الثمن بعد ما خرج بعض المعقود عليه.
وأبو يوسف رحمه الله في مسألة البيوع قال: يتحالفان في القائم رضي البائع أو كره، وفي مسألة الإقرار قال: لا يتحالفان فيما بقي إلا أن يشاء البائع أن يأخذ النصف الباقي، ومحمد رحمه الله في مسألة البيوع قال: يتحالفان على القائم على العين وعلى الهالك على القيمة رضي البائع أو كره، وهاهنا شرط الإيجاب التحالف في النصف الباقي رضي البائع بأخذ النصف الباقي. والفرق مكتوب في....
وفي (المنتقى): إذا اشترى جراب مروي واستهلك منه ثوبًا أو هلك، ثم اختلفا في الثمن قال أبو حنيفة: ليس للبائع أن يأخذه ناقصًا ولكن يأخذ الثمن الذي أقر به المشتري، وقال أبو يوسف: في المستهلك قول المشتري بالحصة وفي البقية يرده إلا أن يرضى المشتري أن يأخذها بما ادعاه البائع وعلى كل واحد منهما اليمين على دعوى صاحبه.
قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هلاك الثوب من الجراب من غير فعل أحد وبين موت أحد العبدين، فقال: في موت أحد العبد للبائع أن يأخذ الحي معه شيئًا، وقال هاهنا: ليس للبائع أن يأخذه ناقصًا قال: وكذلك الثياب كلها والبقر والغنم والرقيق والدواب والكيل والوزن أيضًا.
واختلف قول أبي يوسف فيما إذا اختلفا في قيمة الثوب الهالك فقال في موضع القول فيها قول البائع، وكذلك قال: في موت أحد العبدين القول قول البائع في الهالك.
وفي (الأصل): إذا اشترى عبدين وقبض أحدهما ومات في يده ومات الآخر في يد البائع، ثم اختلفا في ذلك، فقال المشتري للبائع: قبضت عبدًا يساوي ألف درهم ومات عبدك عبد يساوي ألفي درهم، وقال البائع: لا بل قبضت عبدًا يساوي ألفي درهم والذي مات عندي يساوي خمسمائة ذكر أن القول قول المشتري مع يمينه.
وإنما وضع المسألة فيما إذا مات العبدان جميعًا المقبوض وغير المقبوض وذلك؛ لأن أحدهما متى كان قائمًا لا يلتفت إلى اختلافهما في مقدار قيمة ما هلك عند البائع؛ لأنهما تصادقا على أن قيمة أحدهما أكثر وقيمة الآخر أقل، فمتى كان أحدهما حيًا وقوم وظهر قيمته نظير قيمة الميت أنه كان أقل أو أكثر فلا يلتفت إلى اختلافهما.
فوضع المسألة فيما إذا ماتا جميعًا حتى لا يعرف قيمة واحد منهما من حيث العيان والمشاهدة، ثم إنما جعل القول قول المشتري؛ لأن حاصل اختلافهما في مقدار ما ورد عليه قبض المشتري أو في مقدار ما تأكد على المشتري من الثمن؛ لأن البائع بما يدعي يقول: قبضت أنها المشتري أربعة أخماس المبيع وتأكد عليك أربعة أخماس الثمن، والمشتري يقول: لا بل قبضت ثلث المبيع وتأكد على الثلث الثمن وأربعة أخماس خمسة أكبر من الثلاثة فالبائع يدعي زيادة فيما قبضه المشتري ويدعي زيادة تأكد في الثمن ينكر تلك الزيادة، ولو أنكر القبض أصلًا.... وقال: ما قبضت شيئًا منك كان القول قوله فكذا إذا أقر بقبض البعض وأنكر قبض البعض ولا يتحالفان.
وإن اختلفا في صفة الثمن وهو التأكد والثمن دين وذلك؛ لأن الاختلاف في صفة الدين إنما يوجب التحالف إذا تصور صيرورة الدين سنين إذا عين الدين على الوصفين اللذين اختلفا فيه كما لو اختلفا في الجودة والرداءة، فإذا عين ألف جيد وألف رديء كانا غيرين، كان الاختلاف في صفة الثمن اختلفا في أصل الثمن وصفة التأكد ليست بصفة ليختلف الدين باعتباره متى عين؛ لأنه ليس بموصوف صنف قائم في الدراهم حتى يختلف الدين بسببه فكان بمنزلة اختلافهما في صفة العين، وذلك لا يوجب التحالف ما لم يختلف العين بسبب اختلاف الصفة فكذا هذا.
ولو كان المشتري قبض العبدين، ثم مات أحدهما وجاء المشتري بالآخر يرده بعيب فاختلفا في قيمة الميت، فقال: البائع كان قيمته ألفًا، وقال المشتري كان قيمته خمسمائة كان القول قول البائع مع يمينه.
فرق بين هذا وبين المسألة الأولى وهو ما إذا لم يقبض أحد العبدين حتى هلك غير المقبوض في يد البائع وهلك الذي قبضه المشتري، ثم اختلفا في قيمة غير المقبوض، ذكر أن القول قول المشتري مع يمينه، وإنما كان كذلك؛ لأن المنكر في المسألة الأولى هو المشتري والمدعي هو البائع اعتبرنا حال المعقود عليه أوحال الثمن؛ لأن البائع يدعي على المشتري قبض زيادة من المعقود عليه وهو ينكر ويدعي على المشتري تأكد زيادة في الثمن وهو ينكر فأي الأمرين ما اعتبرنا كان البائع مدعيًا من كل وجه والمشتري منكرًا من كل وجه، فجعلنا القول قول المشتري.
فأما في المسألة الثانية فالمشتري مدعي من كل وجه اعتبرنا حال المعقود عليه أم حال الثمن؛ لأنه يدعي على البائع ردّ زيادة من المعقود عليه والبائع ينكر ويدعي سقوط زيادة من الثمن والبائع ينكر فجعلنا القول قول البائع مع يمينه في قيمة الميت، ولا يتحالفان (في) الاختلاف في قيمة الميت اختلافًا في مقدار ثمن الحي وذلك؛ لأنهما لم يختلفا في أصل الثمن وإنما اختلفا في كيفية انقسام الثمن، فالبائع يدعي الانقسام مثلًا نصفان والمشتري يدعي أثلاثًا.
وقد ذكرنا أن التحالف حال اختلافهما في مقدار الثمن بعد القبض ثابت نصًا بخلاف القياس فلا يقاس عليه الاختلاف في الانقسام، والنص الوارد بإيجاب التحالف إذا اختلفا في مقدار الثمن لا يكون واردًا دلالة إذا اختلفا في الانقسام؛ لأن الاختلاف في الانقسام دون الاختلاف في أصل الثمن.
فإذا جعلنا القول قول البائع مع يمينه في قيمة الميت إذا حلف البائع، فإنه يقوّم الحي قيمة عدل غير معيب، فإن كان قيمة الحي غير معيب ألف درهم وقيمة الميت ألف كما يقول البائع ظهر أن الثمن انقسم نصفان فيرد الحي بنصف الثمن ويبقى عليه النصف، وإنما اعتبرنا قيمة الحي غير معيب وذلك؛ لأن الثمن إنما ينقسم على المستحق بالعقد، والمستحق بالعقد للمشتري عبد سليم عن العيب حتى لو وجد به عيبًا كان له الرد بالعيب، وإذا كان المستحق للمشتري بالعيب عبد سليم وجب قسمة الثمن عليهما باعتبار السلامة.
وإذا اختلفا في الثمن وقد خرجت السلعة عن ملك المشتري لا يتحالفان في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، والقول قول المشتري مع يمينه، وعلى قول محمد: يتحالفان ويتردان القيمة كما في فصل الهالك، فإن عادت السلعة إلى ملك المشتري، ثم اختلفا في الثمن، فإن عادت بسبب هو فسخ من كل وجه نحو الرد بخيار الرؤية أو خيار الشرط أو العيب قبل القبض أو بعده بقضاء تحالفا، وإن عادت بسبب جديد من كل وجه نحو الإرث أو الصداقة أو الشرب لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وكذلك إذا عادت بسبب جديد في حق الثالث وبالفسخ في حق المتعاقدين كالرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء والإقالة لا يتحالفان عندهما.
وقال محمد رحمه الله في (الجامع): رجل اشترى من آخر غلامًا وجارية بمائة دينار قيمة الغلام ألف درهم وقبضهما ولم ينقد الثمن حتى اختلفا فقال المشتري: اشتريتهما صفقة واحدة بمائة دينار فالعبد بثلثي المائة الدينار والجارية بثلثها، وقال البائع: بعتكهما بمائة دينار على أن كل واحد منهما بخمسين دينارًا فالقاضي لا يلتفت إلى هذا الاختلاف؛ لأنه لا فائدة في هذا الاختلاف في الحال، فإن طعن المشتري بعيب في العبد وأقام بينة على أن العيب كان عند البائع حتى يثبت له حق الرد فكذلك الاختلاف إلا بعبد فيعتبر ويرد المشتري العبد بالعيب ويأخذ من البائع خمسين دينارًا في الحال أقر له بهذا القدر وكان ينبغي أن يرد العبد بثلثي المائة؛ لأن القول قول المشتري اشتراهما صفقة واحدة؛ لأن البائع يدعي زيادة شرط وتسمية في هذه الصفقة والمشتري ينكر ذلك فيكون القول قول المشتري.
والجواب إنما لم يجعل القول قول المشتري في الحال؛ لأن الاختلاف في ثمن المردود وهو العبد اختلاف في ثمن القائم وهي الجارية، والاختلاف متى وقع في ثمن القائم يوجب التحالف؛ لأنا لو جعلنا القول قول المشتري في الحال وأخذ بمقابلة العبد بثلثي المائة، فإذا حلفناهما على الجارية فعلى تقدير أن يحلف البائع وينكل المشتري يثبت كون ثمن العبد خمسين دينارًا ويجب على المشتري رد الزيادة على الخمسين على البائع فلاحتمال ردّ الزيادة على الخمسين على تقدير نكول المشتري.
قلنا: أن يأخذ في الحال قدر ما اتفقا عليه بمقابلة العبد وذلك خمسون دينارًا حتى لا يلزمنا نقض قضاء القاضي في الزيادة على الخمسين؛ لأن صيانة قضاء القاضي عن النواقض واجبة ما أمكن، ثم اختلافهما على الجارية، فإن حلفا ترادا ويرجع المشتري على البائع ونكل المشتري ثبت كون ثمن العبد خمسين دينارًا فبعد ذلك ينظر إن كان المشتري حين ردّ العبد أخذ العبد من البائع خمسين دينارًا لا سبيل له على البائع ولا للبائع عليه، وإن كان أخذ زيادة على الخمسين رد الزيادة على البائع وإن حلف المشتري ونكل البائع ثبت أن ثمن العبد ثلثا المائة فيرجع المشتري على البائع إلى تمام ثلثي المائة، ثم إن محمدًا رحمه الله أوجب التحالف في الجارية من غير ذكر خلاف، وإنه مشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن العقد هاهنا انعقد على الجارية وعلى العبد وقد زال العبد عن ملك المشتري.
ومن مذهب أبي حنيفة: أن العقد إذا انعقد على شيئين وزال أحدهما عن ملك المشتري بالبيع أو الهلاك واختلفا في مقدار الثمن لا يتحالفان في الباقي، والجواب عن هذا أن يقال: خروج بعض المبيع عن ملك المشتري إنما يمنع التحالف في الباقي عنده إذا كان الخروج لا إلى ملك البائع؛ لأن الفسخ بالتحالف مانع تمام الصفقة والرؤية ثبتت لجهالة أوصاف المبيع فكان في فسخ العقد في أحدهما بالتحالف تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، وإنه لا يجوز، وهذا المعنى لا يتأتى في مسألتنا؛ لأنهما عادا جميعًا إلى ملك البائع.
قال في (الكتاب): ألا ترى أن على قول أبي حنيفة: لو هلك أحد العبدين في يد البائع قبل القبض، ثم اختلفا في مقدار الثمن يتحالفان في الباقي؛ لأن الأول هلك على ملك البائع فلو ورد الأمر عليه بسبب الفسخ بالتحالف لا يؤدي إلى تفريق الصفقة فهاهنا كذلك، ولو ماتت الجارية في يد المشتري قبل أن يتحالفا يحلف المشتري ما ادعى البائع من ثمن الجارية فقد جعل القول قول المشتري ولم يوجب التحالف، وهذا على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن عندهما هلاك السلعة يمنع التحالف.
فأما عند محمد فالتخالف يجري عند هلاكهما فعند هلاك أحدهما أولى، ثم إذا حلف المشتري عندهما إن حلف ثبت أن ثمنها ثلث المائة وثمن العبد ثلثا المائة، ولو نكل المشتري عن اليمين ثبت أن ثمن الجارية خمسون دينارًا وثمن العبد كذلك وقد سلمت الجارية للمشتري فلزمه ثمنها ويرد العبد على البائع بحصته من الثمن وذلك خمسون دينارًا.
وعند محمد يتحالفان في الكل، فإن نكل المشتري رجع بخمسين دينارًا، وإن نكل البائع رجع المشتري بثلثي المائة وإن حلفا فسخ القاضي العقد بينهما في الجارية على القيمة فيرد المشتري قيمة الجارية ورجع على البائع بجميع المائة؛ لأن العقد انفسخ في الكل في الجارية بالتحالف وفي العبد بالرد، وكذلك لو لم يجد بالعبد عيبًا لكن استحق العبد كان الجواب في استحقاق العبد ما هو الجواب في الرد بالعيب.
قال محمد رحمه الله في (الجامع) أيضًا: رجل اشترى عبدين أحدهما بألف حالة والآخر بألف إلى سنة في صفقة أو صفقتين فوجد بأحدهما (عيبًا) فرده، ثم اختلفا فقال البائع: رددت علي الذي كان ثمنه مؤجلًا وبقي عبدك الذي كان ثمنه حالًا فعليك أداء ثمنه، وقال المشتري: رددت عليك الذي كان ثمنه حالًا فالقول قول البائع سواء كان الباقي قائمًا في يد المشتري أو مستهلكًا؛ لأن الأجل يستفاد من جهة البائع وما يستفاد من جهة إنسان كان القول قوله في بيانه؛ ولأن اختلافهما في المردود غير معتبر في ثمن المردود؛ لأن ثمن المردود سقط بالرد أي شيء كان، وإنما اعتبر في ثمن ما بقي في يد المشتري فالمشتري يدعي أنه اشتراه بألف مؤجلًا والبائع يدعي أنه اشتراه بألف حالة.
والأصل: أن المتبايعين متى اختلفا في الأجل في الثمن وحلوله كان القول قول من يدعي الحلول؛ لأن من يدعي الحلول يتمسك بالأصل؛ لأن الحلول في الديون أصل؛ لأنه ثبت من غير شرط والأجل عارض والقول قول من يدعي الأصل، ولا يتحالفان؛ لأن الاختلاف وقع فيما ليس من نفس العقد وهو الأجل وجريان التحالف عرف بالنص فيما إذا كان الاختلاف واقعًا في نفس العقد ولم يوجد.
وكذلك لو كان أحدهما حبشيًا والآخر سنديًا وقد اشترى الحبشي بألف درهم مؤجلة واشترى الهندي بألف درهم حالة، ثم رد أحدهما، ماتا جميعًا وقد اختلفا على ما قلنا في المسألة الأولى كان القول قول البائع لما مر، وشرط في هذه المسألة موت العبد ولم يشترط في المسالة الأولى؛ لأن في هذه المسألة لو كان أحدهما أمكن للقاضي معرفة صدق أحدهما وكذب الآخر بأن ينظر في لون الباقي فيعرف أنه حبشي أو سندي، وإذا عرف الباقي يعرف الآخر ضرورة، وهذا المعنى لا يتأتي في المسألة الأولى فلهذا لم يشترط موتهما في المسألة الأولى.
ولو كان الثمنان مختلفين بأن كان ثمن أحدهما بعينه ألف درهم وثمن الآخر بعينه مائة دينار فرد أحدهما بالعيب، ثم اختلفا فقال المشتري: رددت عليك الذي ثمنه ألف درهم، فإن هلك أو هلك غير المردود وقد قبض البائع الثمنين جميعًا فالقول قول المشتري مع يمينه، إن ادعى المشتري على البائع استرداد الدينار لما كان الثمن مقبوضًا ينكر مع هذا جعل القول قول المشتري؛ لأن ثمن المردود أي شيء كان سقط بالرد بقي الاختلاف بينهما في جنس ثمن غير المردود وهو هالك في يد المشتري، والاختلاف متى وقع في جنس الثمن والسلعة هالكة في يد المشتري لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولكن يكون القول قول المشتري مع يمينه، ولم يذكر محمد رحمه الله هنا حتى ظن بعض مشايخنا: أن الاختلاف في المسالة المعروفة فيما إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن دون ما اختلفا في جنس الثمن والصحيح أن الكل على الخلاف.
ولو كان العبدين قائمين بأعيانهما تحالفا وترادّا بالإجماع واسترد المشتري الثمنين من البائع جميعًا؛ لأن العقد قد انفسخ في أحدهما بسبب الرد وفي الآخر بسبب التحالف، ولو كان اشتراهما جميعًا بمائة دينار صفقة واحدة فمات أحدهما عند المشتري الباقي بالعيب، واختلفا في قيمة الهالك فقال البائع كانت ألفي درهم وقيمة المردود ألف درهم فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن البائع استحق جميع الثمن بالبيع، وتم ذلك الاستحقاق بتسليم العبدين إلى المشتري بعد ذلك تنازعا فيما بطل استحقاقه برد المعيب فالمدعي زيادة فيه والبائع ينكر فيكون القول قول البائع، وإن أقام البينة (فالبينة) بينة البائع أيضًا؛ لأنها تثبت زيادة في قيمة ما هلك في يد المشتري.
فإن قيل: ببينة المشتري تثبت الزيادة أيضًا: في ثمن المردود بالعيب فوقع التعارض.
قلنا: المنازعة بينهما إنما هو وقع بسبب البيع فإنما يعتبر اختلافهما في قيمة ما بقي فيه العقد والذي بقي فيه العقد غير المردود، فيعتبر اختلافهما في قيمة غير المردود وبينة البائع تثبت زيادة في ذلك؛ ولأن بينة البائع تثبت الزيادة فيما بقي فيه العقد وتثبت الزيادة فيما بقي مستحقًا له من الثمن فكانت أولى بالقبول، ولو قال البائع كان ثمنها واحدًا وكان ألفي درهم وقال المشتري كان الثمن الهالك خمسمائة وثمن المردود ألف وخمسمائة فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه لا منازعة بينهما في ثمن المردود بالعيب؛ لأن ذلك قد سقط بالرد وإنما المنازعة في ثمن الهالك في يد المشتري والمنازعة فيه وإنما وقع من وجهين:
أحدهما: في كون ثمنه مسمى والآخر في مقدار ثمنه والاختلاف متى وقع في مقدار الثمن بعد هلاك السلعة لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ويكون القول قول المشتري مع يمينه وعند محمد يتحالفان بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك تصادقا أن ثمن الهالك لم يكن مسمى على حدة فكان الاختلاف في قيمة الهالك والاختلاف في مقدار القيمة لا يوجب التحالف بالاتفاق، ويكون القول قول من ينكر الزيادة في السقوط وهو البائع.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل اشترى من رجل جارية بمحضر من الحاكم بثمن من الورق، ثم مات ونسي الحاكم كم كان الثمن فخاصم البائع الورثة إلى الحاكم وأنكروا ذلك وأراد البائع أخذ الجارية، قال محمد رحمه الله: القاضي يقول للبائع كم كان الثمن، فإذا ادعى شيئًا عنه الورثة إن كانوا كبارًا، فإن كذبوه في ذلك حلفهم على دعواه بالله ما تعلمون أباكم اشترى الجارية بذلك، ويقول للورثة ادعوا أنتم الثمن، فإذا ادعوا شيئًا حلف القاضي البائع إليه، فإن حلف ردّوا البيع، وإن كانت الورثة صغارًا نظر القاضي لهم فإن ادعى البائع ثمنًا ورأى القاضي أخذ الجارية بذلك الثمن خيرًا لهم أخذ الجارية بذلك وأعطاه الثمن من جميع المال، وإن لم يرد ذلك خيرًا لهم، استحلف البائع ما كان الثمن أقل من هذا على مقدار الجارية بذلك المقدار خيرًا لهم فإن حلف رد الجارية عليه، وإن كان فيهم كبير وأقر بما قال البائع وأبى أن يحلف على علمه لزمه لحصته زيادة الثمن فيما بين ما ادعى إلى ما كان خيرًا للصغير، وإن كان فيهم كبار غيب انتظرت بهم اليمين أو كتبت إلى القاضي الذي هم بحضرته يستحلفهم على دعواه إن طلب ذلك البائع وكذلك إن لم يكن البيع بحضرة القاضي وادعى الفريقان البيع واختلفا في الثمن، وإن ادعى الورثة وأقاموا البينة على البائع بالبيع بلا تسمية الثمن، فإن شهادتهم باطلة ويستحلف البائع ويرد عليه الجارية وإن كان البائع هو المدعي والورثة يجحدون الشراء استحلفوا على علمهم، فإن حلفوا بطل البيع وردت الجارية على البائع.
رجل في يديه عبد ادعى رجل عليه أنه باع هذا العبد من الذي في يديه، ومن رجل آخر بعينة بمائة دينار وأقام الذي في يديه العبد بينة أنه اشترى كله منه بألف درهم فالعبد للذي في يديه بخمسمائة درهم وخمسين دينارًا، إذا أقام البائع على إقرار المشتري أنه اشترى العبد منه بألفين وأقام المشتري بينة على إقرار البائع أنه باعه بألف أخذ المشتري بألفين، وإن أقام المشتري بينة على إقرار البائع أنه باعه منه بألف درهم، وأقام البائع بينة أنه باعه بألفين فليس على المشتري إلا ألف وهذه براءة من الألف الآخر.
قال هشام عن محمد: إذا أقر المشتري بثمن يسير والسلعة مستهلكة وهي ثمن دراهم كسرة فإن أبا يوسف كان يقول: القول قول المشتري، ثم فحشنا عليه فرجع وقال: إذا كان من ذلك شيء بيعًا من الناس في مثله قبلت قوله.
قال محمد رحمه الله: وأما أنا فأرى أن ألزمه قيمة ذلك، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف في غير هذه الصورة أنه إذا أقر المشتري بما لا يتعاين الناس في مثله إلا أقبل ذلك منه وأقضي عليه بقيمة المبيع، قال: فإن كنت إنما أردت أن أقضي عليه بالقيمة يرجع وأقر بشيء يتغابن الناس فيه قبلت ذلك، وإن كنت قد قضيت عليه بالقيمة لم أقبل رجوعه بعد القضاء.
قال هشام: وسألت عنه محمدًا عن رجل اشترى ثوبًا فقال المشتري: اشتريته بعشرين وقال البائع: بعته بثلاثين صحاح بالثوب وهو في أيديهما فتخرق وانقطع وصار بعضه في يد البائع وبعضه في يد المشتري، ولم يكن المشتري نقد الثمن قال: يتحالفان، فإذا حلفا فالبائع بالخيار إن شاء سلم الثوب للمشتري بالعشرين ويحط من المشتري نصف ما نقص الثوب من العشرين؛ لأن كل واحد منهما قد مد فصار حانثًا قلت لو كان أمسكه أحدهما ولم يجد به وجد به الأخر أكان الضمان كله على الحادث قال: نعم، قال: وهذا الجواب على قياس قول أبي حنيفة وهو الجواب على قول أبي يوسف.
ولو اشترى ثوبين وقبضهما واستهلك أحدهما والأخر قائمه في يده فقال البائع: بعتك الثوبين بثلاثين درهمًا وقال المشتري: بعشرين درهمًا، قال محمد: قال أبو حنيفة: يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فإن حلفا فالبائع بالخيار إن شاء أمضى البيع وأخذ العشرين وإن شاء أخذ الثوب القائم ولا شيء له من ثمن الثوب المستهلك.
سأل هشام محمدًا رحمه الله: عن قياس قول أبي حنيفة فيمن اشترى ثوبًا وشقه بنصفين وصبغ نصفه والنصف الأخر في يده أبيض، ثم اختلفا في الثمن قال: إن شاء البائع أخذ هذا النصف الأبيض ولا شيء له غيره ولا سبيل له على المصبوغ، وإن شاء تركه وأخذ ما أقر به المشتري من الثمن.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): إذا اشترى من آخر جارية وقبضها وماتت في يده واختلفا في ثمنها فقال المشتري اشتريتها منك بألف درهم وبهذا الوصف وقال البائع: بعتها بألفي درهم ففي قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يقسم الجارية على ألف درهم وعلى قيمة الوصف خمسمائة كان القول قول المشتري في ثلثي الجارية بألف ولا يتحالفان، وفي ثلث الجارية وهي حصة الوصف يتحالفان.
الأصل في هذا: إن المتبايعين متى اختلفا في مقدار الثمن أوجبه بعد ما هلكت السلعة في يد المشتري وكان الثمن دراهم أو دنانير فالقول قول المشتري مع يمينه، ولا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد يتحالفان ويفسخ العقد على قيمة قد مر هذا فيما تقدم.
وإن كان الثمن عرضًا والمسألة بحالها فإنهما يتحالفان عندهم جميعًا ويفسخ العقد على القائم مقصودًا وعلى الهالك حكمًا وتبعًا للقائم باعتبار القيمة؛ لأن فسخ البيع بسائر أسباب الفسخ جائز باعتبار القائم فكذا بالتحالف. فأما إذا ادعى أحدهما أن يبدل السلعة كان ثمنًا، وادعى الأخر أنه كان عرضًا إن كان مدعي العرض المشتري، فإنهما يتحالفان عندهم جميعًا ويغرم المشتري قيمة السلعة يوم قبضها لصاحبه، وإن كان مدعي العرض البائع، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: القول قول المشتري مع يمينه ولا يتحالفان، ويغرم المشتري الثمن الذي أقر به للبائع؛ لأن البيع قابل للفسخ في زعم أحدهما غير قابل في زعم الأخر فيجب التحالف من وجه دون وجه فعلمنا بهما من الوجه الذي بينا، إلا أنا عملنا بما يوجب التحالف متى كان المشتري مدعيًا للعرض؛ لأنَّا لو عملنا بما يوجب التحالف متى كان البائع مدعيًا للعرض لا يمكننا تحليف البائع؛ لأن البائع إنما يحلف بدعوى المشتري والمشتري لا يدعي عليه يمينًا ومتى كان للعرض المشتري أمكننا تحليف البائع بدعوى المشتري؛ لأن المشتري يدعي يمينه في هذه الحال، فإنه يزعم أن البيع قابل للفسخ، وإن الثمن واجب على البائع فأمكن تحليف البائع بدعوى المشتري بدعوى البائع فيجعل العمل بما يوجب التحالف وبما يمنع.
فأما إذا إدعى أحدهما أن بدل السلعة كان ثمنًا وعرضًا، وادعى الأخر أنه كان ثمنًا كله، إن كان المدعي للعرض المشتري، فإنه يقسم السلعة على الثمن الذي أقر به المشتري وعليه قيمة العرض فيما يخص السلعة من الثمن، فالقول قول المشتري فيه مع يمينه عندهما ولا يتحالفان عندهما، ثم يغرم قيمة حصة العرض من السلعة للبائع.
وإن كان المدعي للعرض البائع فالقول قول المشتري في الكل ولا يتحالفان عندهما اعتبارًا للبعض بالكل، وعند محمد في جميع ذلك يتحالفان؛ لأن تعذر الفسخ عند هلاك السلعة لا يمنع التحالف إذا ثبت هذا.
جئنا إلى تخريج المسألة التي ذكرها محمد فبقوله: المشتري ادعى أن بدل الجارية بعضه ثمن وبعضه عرض، فيكون لكل بعض حكم نفسه فإن تخالفا على ثلث الجارية وفسخ القاضي العقد على ثلث الجارية كان على المشتري أن يرد ثلث الجارية، على البائع وقد عجز عن ردها بسبب الهلاك فكان عليه رد ثلث قيمة الجارية وعلى قول محمد: يتحالفان في الكل ويغرم جميع قيمة الجارية للبائع وعلى هذا يقاس جنس هذه المسائل.
قال هشام: سألت محمدًا عمن اشترى من آخر حنطة بعينها فقال المشتري اشتريتها منك على أنها مائة قفيز بعشرة دراهم، وقال البائع: بعتكها حرامًا، أو أقام البينة والحنطة قائمة قال البينة بينة البائع؛ لأنهما ثمنان وإن أقام المشتري بينة أنه اشتراه منه بأربعة دنانير وعشرة دراهم وأمام البائع بينة أنه باعه منه بخمسة دنانير فالبينة بينة البائع، وإن أقام المشتري بينة أنه اشتراه بخمسة دنانير وعشرة دراهم على أنه مائة قفيز فوجده خمسين قفيزًا وأقام البائع بينة أنه باعه منه بخمسمائة جزافًا فالبينة بينة المشتري وله الخيار، إن شاء أخذه بحصته من الثمن وهو ديناران ونصف وخمسة دراهم؛ لأنه ثمن واحد؛ لأن المشتري وافق البائع على خمسة دنانير.
وقال أبو سليمان: سمعت أبا يوسف يقول في رجل باع طعامًا بعينه بعشرة دراهم فقال البائع: بعتكها جزافًا بعشرة وقال المشتري: اشتريت مكايلة بعشرة قال: يتحالفان ويتردان.
وكذلك كل ما يوزن ولو كان هذا في ثوب فقال البائع: بعتكه ولم أسم ذراعه وقال المشتري: اشتريت مذارعة فالقول قول البائع؛ لأن الثوب إن نقص لم انقص من الثمن.
وروى عمرو بن أبي العلاء عن محمد: رجل قال لآخر: اشتريت منك هذا العبد بألف درهم زيوفًا أو نبهرجة أو ستوقة أو رصاصًا قال ذلك موصولًا وقال المقر له بالجياد فالقول قول المقر له في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد في الزيوف والنبهرجة يتحالفا ويتردان البيع وأما في الستوقة والرصاص فالقول قول البائع عند أبي يوسف؛ لأن المشتري لا يصدق على فساد البيع وقال محمد: القول قول المشتري؛ لأنه لم يقر أو لا بيع فاسد.
رجل ادعى على رجل أنه باعه منه هذه الجارية بألف درهم إلى سنة وأقام بينة وأقام مولى الجارية بينة أنه باعه الجارية بألفي درهم، فعلى المشتري ألف حالة وألف إلى سنة؛ لأنه أخذت بينة البائع في الثمن وأخذت بينة المشتري في الأجل، وهذه ألف المؤخرة ليست من الألف التي أقر بها المشتري أنها هي الثمن ولكنها من الألفين جميعًا من ألف خمسمائة ولو قال بعينها بألف درهم إلى ثلاث سنين كل سنة ثلث ألف وقال البائع: بل بعتكها بألفي درهم إلى سنتين كل سنة ثلث ألف وهذا الثلث المؤخر إلى السنة الثالثة من الألفين فيؤدي في السنة الأولى أسداس ألف درهم، فإن مائة وثلاثة وثلاثون وثلث وفي السنة الثانية كذلك وفي السنة الثالثة يؤدي ثلث الألف، هذه المسألة من (المنتقى).
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد رحمهما الله: رجل ادعى على رجل أنه باعه هذا الثوب بمائة درهم إلى خمسة أشهر كل شهر عشرين درهمًا، وأقام على ذلك بينة وأقام المدعي عليه بينة أنه اشتراه بخمسين درهمًا إلى عشرة أشهر وكل شهر خمسة، قال: إن ربَّ الثوب قد أقام البينة على فصل خمسين درهمًا فأقبل بينته فيه وقد زعم أن له من المائة كل شهر عشرين وقد أقر المدعى عليه له بخمسة في كل شهر، فأدفع إلى المدعي في الشهر الأول خمسة أقر له بها المدعى عليه وخمسة عشر من دعوى المدعي من فصل الخمسين الذي بينه بالبينة وكذلك في الشهر الثاني والثالث فيأخذ في ثلاثه أشهر ستين درهمًا خمسة عشر بحكم الإقرار عليه وخمسة وأربعين بحكم دعواه المؤكد بالبينة، فإذا أخذ ذلك بقي له من الخمسين التي أقام عليها البينة خمسة يأخذ ذلك في الرابع بحكم البينة ويأخذ خمسة أخرى أيضًا في الشهر الرابع بإقرار المدعى عليه وما بقي بعد ذلك ويأخذ في كل شهر خمسة حتى يتم المائة على الأجل الذي أقام البينة المدعى عليه البينة.
وروري عن أبي يوسف بخلاف هذا، فإنه يقول الخمسين التي أقام عليها المشتري البينة من المائة التي زعم المدعي أنها له على المشتري فأجعل الخمسين على الأجل الذي أقام المشتري عليه البينة، بقيت خمسون بزعم المدعي فأقضي للمدعي بعشرة من هذه الخمسين في كل شهر؛ لأن المدعي ادعى العشرين من المائة كلها فيكون مدعيًا من هذه الخمسين عشرة وقد عزلت خمسين من المائة على دعوى المشتري على أجلها فيأخذ المدعي في الشهر الأول خمسة المدعى عليه مقر له بها، ويأخذ عشرة من الخمسين الفاضلة عشرة فيأخذ خمسة عشر في خمسة أشهر وذلك خمسة وسبعون بقي هناك خمسة وعشرين يأخذ منها في كل شهر خمسة فيحصل الاستيفاء في عشرة أشهر.
قال محمد رحمه الله: ما ذكر من الجواب فذلك في الثوب والعبد والدار يختلفان في ثمنه وأشباهها، فأما إذا قام رجل بينة على رجل بدين مائة درهم أن له عليه مائة درهم في خمسة أشهر في كل شهر عشرين وأقام الأخر عليه البينة أن له عليه خمسين في عشرة أشهر في كل شهر خمسة فهما مالان فأقضي عليه بدعوى المدعي بمائة درهم في خمسة أشهر.
وفيه أيضًا عن محمد: رجل أقام بينة على رجل أني بعت منك هذا الثوب بمائة درهم تؤديها إلي في عشرة أشهر كل شهر عشرة وأقام المدعى عليه بينة أنه اشتراه منه بستين درهمًا في عشرين شهرًا في كل شهر ثلاثة، فإني أقبل بينة البائع على فصل الثمن وأقبل بينة المشتري على الأجل فيأخذ منه البائع كل خمسة أشهر عشرة؛ لأن المشتري مقر له بثلاثة كل شهر، فيأخذ منه البائع في خمسة أشهر ثلاثة كل شهر بإقراره، ويأخذ سبعة من الأربعين الذي ادعاها البائع فضلًا على الستين، فإذا أخذ منه خمسة أشهر عشرة، فقد بقي للبائع من الأربعين الفاضلة خمسة فيأخذها منه في الشهر السادس، وثلاثة أخرى فقد أقر بها المشتري، ثم يأخذ منه بعد ذلك كل شهر ثلاثة حتى يستوفي المائة فيأخذ المائة في عشرين شهرًا على الأجل الذي أقام المشتري عليه البينة.
وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف في المسألة الأولى يقول هذه الستون الذي أقام عليه المشتري البينة من جميع المائة التي زعم المدعي أنها له على المشتري فأجعل الستين على الأجل الذي أقام عليه المشتري البينة، بقي هناك أربعون بزعم المدعي بأربعة من هذه الأربعين في كل شهر؛ لأنه ادعى العشرة في كل شهر من المائة كلها فيكون مدعيًا من هذه الأربعين أربعة في كل شهر فأقضي له بذلك ببينته وأقضي له من الستين الذي للمشتري يقر بها في كل شهر بثلاثة فيأخذ من جميع المائة في كل شهر سبعة فيأخذ هكذا سبعة، سبعة في عشرة أشهر يبقى هناك إلى تمام ثلاثون فيستوفيها في عشرة أشهر ثلاثة، ثلاثة فيحصل استيفاء المائة في عشرين شهرًا على الأجل الذي ادعاه المشتري.
قال محمد رحمه: لا أجعل الخمسين في المسألة الأولى من المائة كلها ولا الستين في المسألة الثانية من المائة كلها، ألا ترى أن البائع لو قال: بعته بألفين بألف حالة وبألف إلى شهر، وقال المشتري: اشتريته بألف إلى شهرين وأقام جميعًا البينة إلى أحد منه ألفًا الساعة وألفًا إلى شهرين. قال هشام: (قال) مشايخنا: وعلى قياس قول أبي يوسف تجعل الألف المؤخرة إلى شهرين من الألفين من النقد والتأخير فيحصل خمسمائة حالة وخمسمائة إلى شهر وألفًا إلى شهرين.
رجل أقام بينة على رجل أنه اشترى منه هذا الثوب بخمسة عشرة درهمًا إلى شهر وأقام الذي في يديه الثوب بينة أنه باعه نصف هذا الثوب بعشرة دراهم حالة مال يدفع إليه الثوب وله خمسة عشر درهمًا إلى شهر، ألا ترى أنه لو قال: بعتك هذا الثوب بألف حالة وأقام بينة وأقام الآخر بينة أنه اشترى هذا العبد مع هذا العبد الآخر بألف إلى سنة أنهما له بألف إلى سنة.

.نوع آخر في الاختلاف في الثمن، وفيه بعض مسائل الاختلاف في الثمن:

وإذا وقع الاختلاف في المبيع فقال المشتري: اشتريت منك هذا العبد بألف درهم وقال البائع لا بل بعت منك هذه الجارية بألف درهم فلا يخلو إما إن كانا في يد البائع أو في يد المشتري أو كان العبد في يد ثالث، فإن كانا في يد المشتري فلا يخلو إما إن قال البائع للمشتري: العبد ملكك لم أبعه منك وإنما بعتك الجارية بألف درهم ولي عليك ألف درهم ثمن الجارية، وفي هذا الوجه إلا ألف لازم على المشتري والعبد سالم له؛ لأنهما اتفقا على سلامة العبد له، وكذلك اتفقا على وجوب الألف عليه ولكن اختلفا في جهته والاختلاف في الجهة في مثل هذا لا يضر.
كمن قال لآخر: لك علي ألف درهم من ثمن متاع وقال الآخر: لا بل من قرض، وإن قال البائع للمشتري: العبد ملكي ما بعته منك وإنما بعتك الجارية بألف درهم ذكر هذه المسألة في كتاب الإقرار في موضعين فأجاب في أحدهما: أن القول في العبد قول البائع؛ لأن المشتري أقر له بملك العبد حيث ادعى الشراء منه إلا أنه ادعى التملك عليه وهو أنكر التملك عليه والقول قول المنكر في الشرع.
وإذا حلف البائع على العبد أخذ العبد ولا شيء على المشتري؛ لأن المشتري إنما أقر له بألف على نفسه عوضًا عن العبد ولم يسلم له العبد فكان له أن لايعطيه الألف، وأجاب في الموضع الآخر إنهما يتحالفان؛ لأن كل واحد منهما يدعي على صاحبه عقدًا غير العقد الذي ادعى صاحبه عليه؛ لأن العبد غير الجارية فكان العبد الذي يدعيه صاحبه فيتحالفان كما لو اختلفا في جنس الثمن.
وإن كانا في يد البائع فالجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا فيما إذا كانا في يد المشتري، وإن كان العبد في يد ثالث إن صدق صاحب العبد المشتري فيما قال، أمر بالتسليم إليه، ثم الحكم فيه ماذكرنا فيما إذا كان العبد في يد المشتري، وإن قال صاحب اليد: العبد ملكي فالقول قوله مع اليمين ولا شيء على المشتري؛ لأنه ما أقر بالألف على نفسه لا عوضًا عن العبد ولم يسلم له العبد.
وإن قال صاحب اليد: العبد للبائع كالأمر بالتسليم إليه والحكم فيه بعد ذلك ماذكرنا فيما إذا كانا في يد البائع، وإن قال المشتري: اشتريت منك هذا العبد مع هذه الجارية بألف درهم، وقال البائع: بعت منك هذه الجارية لاغير بألف درهم، فالجواب في هذه المسألة على التفاصيل التي مرت في المسألة المتقدمة.
وإذا اشترى من آخر جراب هروي وقبضه فوجد فيه أحد عشر ثوبًا فقال البائع: بعتك هذا الجراب على أن فيه عشرة أثواب بمائة درهم، وقال المشتري: اشتريته على أن فيه أحد عشر ثوبًا وأراد كل واحد منهما استحلاف صاحبه.
فالقاضي يحلف البائع على دعوى المشتري؛ لأن المشتري يدعي البيع في الثوب الحادي عشر والبائع ينكر والقول قول المنكر، فإن نكل ثبت ما ادعاه المشتري، وإن حلف رد المشتري الجراب ولم يحلف المشتري، إما رد المشتري؛ فلأن البائع لما حلف فسد العقد؛ لأنه لم يثبت البيع في الثوب الحادي عشر وإنه مجهول فصار المبيع مجهولًا وجهالة المبيع توجب فساد العقد، والعقد الفاسد واجب الرد، إما لايحلف المشتري؛ لأن فائدة التحليف النكول الذي هو إقرار، والمشتري لو أقر بما ادعاه البائع كان العقد فاسدًا لما مر، فلا يفيد تحليف.
فإن قيل: ينبغي أن يجعل القول قول المشتري في هذه المسألة؛ لأنه يدعي جواز العقد.
قلنا: بدعوى الجواز يدعي استحقاق الثوب الحادي عشر والبائع ينكر، وإن اختلفا في وصف من أوصاف المبيع فقال المشتري: اشتريت منك هذا العبد على أنه كاتب أو على أنه خباز وقال البائع: لم أشترط لك شيئًا فالقول قول البائع ولا يتحالفان، وفيما إذا اختلفا في صفة الثمن وهو دين يتحالفان؛ لأن الدين يختلف باختلاف الأوصاف فكان الاختلاف في الوصف اختلافًا في أصل الثمن فكان كل واحد مدعيًا على صاحبه عقدًا غير العقد الذي يدعيه صاحبه، أما المبيع عين والعين لايختلف باختلاف الصفة فلم يكن كل واحد منهما مدعيًا عقدًا غير العقد الذي يدعيه صاحبه عليه، وإذا قال: بعتك هذا العبد بألف درهم وقال المشتري: اشتريت منك هذه الجارية بخمسين دينارًا ولا بينة لهما يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فإن أقاما البينة يقضي بالعقدين عندهم جميعًا يقضي على البائع ببيع العبد والجارية ويقضي على المشتري بألف درهم وخمسين دينارًا.
أما على قول محمد؛ فلأن الأصل عنده القضاء بعقدين مع إمكان القضاء بعقد واحد فعندما تعذر القضاء بعقد واحد أولًا، وأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ فلأن الأصل عندهما القضاء بعقد واحد الا إذا تعذر فحينئذٍ يقضي بالعقدين وقد تعذر القضاء بعقد واحد منهما؛ لأن إمكان القضاء بعقد واحد إنما يثبت بأحد طريقين إما بإمكان رد إحدى البينتين أو بإمكان القضاء بكل واحد من البينتين بإثبات الزيادة في عقد واحد على ما يأتي بيانه في مسائل السلم، وهاهنا رد إحدى البينتين غير ممكن؛ لأن كل واحدة منهما قامت على إثبات ما هو محتاج إليه وتعذر القضاء بهما من حيث القضاء بإثبات الزيادة في كل واحد من البدلين؛ لأن العبد لايتصور زيادة في الجارية في العبد ولا الدراهم في الدنانير، وإذا فات إمكان القضاء بعقد واحد وجب القضاء بعقدين ضرورة.
ولو قال: بعتك هذه الجارية بمائة دينار، وقال المشتري: اشتريتها بخمسين دينارًا وأقام البينة (فالبينة) بينة البائع؛ لأنها أكثر أمانًا ويقضي بعقد واحد؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن المبيع عين والعين الواحدة متى صار مستحقًا للمشتري بالشراء لايتصور أن يصير مستحقًا له بالشراء مرة أخرى ما لم يعد إلى البائع بسبب من الأسباب، ثم يشتري منه ثانيًا والشهود لم يشهدوا بالعود إلى البائع فكان القضاء بالعقدين متعذر، ولو قال المشتري: بعتني مع هذه الجارية وصيفا بخمسين دينارًا، وقال البائع: بعتك الجارية وحدها بمائة دينار، وأقاما البينة فإنه يقبل بينة كل واحد منهما فيما ادعى من إثبات الزيادة لنفسه؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن الجارية باتفاقهما صارت مستحقة للمشتري من جهة البائع بالشراء، فلا يتصور استحقاقها بالشراء من جهة مع شيء آخر إلا بعد عود الجارية إلى البائع، والشهود لم يشهدوا بذلك، وإذا تعذر القضاء بالعقدين وليست إحدى البينتين بالقبول بأولى من الأخرى؛ لأن كل واحدة قامت على إثبات زيادة ادعاها صاحبها قبولهما في إثبات ماقامت عليه لكل واحد منهما، فيقبل بينة البائع في إثبات الزيادة في الثمن فيقضي على المشتري بمائة دينار، ويقبل بينة المشتري في إثبات الزيادة في المبيع فيقضي على البائع بالجارية والوصيف.
قال محمد رحمه في (الجامع): رجل اشترى من رجل عبدًا بألف درهم وقبضه ووهب البائع عبدًا آخر للمشتري وسلمه إليه فمات أحد العبدين فجاء المشتري يرد الباقي بالعبد فقال البائع: لم أبعك هذا العبد الذي فات وهذا العبد وهبته منك وقال المشتري: لا بل هذا الحي هو الذي اشتريته منك بألف درهم ولا بينة لواحد منهما كان القول قول البائع مع يمينه؛ لأن المشتري يدعي فسخ البيع في العبد الحي والبائع ينكر، ولأن المملك هو البائع فيكون القول قوله في بيان سبب الملك أني ملكت هذا العبد بالهبة ولو لم يجد المشتري بالعبد عينًا ولكن أراد البائع الرجوع في الهبة وقال: إن الحي هو الذي وهبته وأنكر المشتري فالقول قول البائع لما قلنا من المعنى الثاني، وإذا رجع فيه كان للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن الذي نقده لأنا إنما جعلنا القول قول البائع في كيفية تمليك العبد باعتبار أن تمليك العبد استفيد من جهته وتمليك الثمن وجد من جهة المشتري فوجب أن يقبل قوله كيفية تمليك الثمن أيضًا.
وفي زعم المشتري أنه إنما ملكه الثمن بإزاء العبد الحي ولم يسلم له العبد الحي فلا يسلم للبائع أيضًا الثمن بخلاف المسألة الأولى، حيث لايرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن هناك في زعم المشتري، أن العبد الذي بمقابلته الثمن سلم للمشتري لما امتنع الرد فجاز أن يسلم للبائع الثمن في زعم المشتري أما هاهنا فبخلافه على مامر.
وإذا رجع البائع على المشتري بقيمة العبد الذي مات في يده؛ لأن البائع يقول إنما ملكت ذلك الذي مات عوضًا عن هذا الثمن الذي استحقه وقول البائع في ذلك أيضًا مقبول فإذا لم يسلم الثمن للبائع وجب على المشتري رد المبيع وتعذر رده صورة بسبب الموت، فيجب رده معنى، وذلك برد القيمة ولكن هذا كله بعد أن يتحالفان، فيحلف البائع بالله ما بعت هذا القائم، فإذا حلف اعتبر القائم موهوم في حقه فيرجع فيه، فيحلف المشتري بالله مااشتريت من الذي مات.
وإذا حلف رجع على البائع بالثمن، ثم إنما وجب التحالف هاهنا؛ لأن البائع يدعي الرجوع في الهبة والمشتري ينكر، والمشتري يدعي الرجوع بالثمن والبائع ينكر فلهذا جرى التحالف، ثم أوجب التحالف في هذه المسألة ولم يوجب الحلف على المشتري في المسألة الأولى، البائع لايدعي على المشتري شيئًا؛ لأنه لايرجع في الهبة.
أما في المسألة الثانية: البائع مع المشتري كل واحد منهما يدعي صاحبه شيئًا على مامر فيجري التحالف، ثم أوجب التحالف في المسألة الثانية، وإن كان العبد هالكًا بخلاف ما إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن والسلعة هالكة على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن هناك اتفق العاقدان أن التمليك حصل بجهة واحدة وهو البيع، بقي الاختلاف في مقدار الثمن، فيكون القول قول من ينكر الزيادة وهو المشتري، أما هاهنا اختلفا في جهة التمليك فالبائع ادعى التمليك الهالك بالبيع والمشتري ينكر، والمشتري يدعي تمليك الهالك بالهبة والبائع ينكر فوجب التحالف لهذا.
ولو اشترى أحدهما بألف درهم والآخر بمائة دينار كل واحد منهما صفقة على حدة وتقابضا فمات أحدها عنده، ثم جاء بالباقي يرده بالعيب، واختلفا في ثمنه قال البائع ثمنه ألف درهم وقال المشتري: لا بل مائة دينار كان له أن يرد بالعيب؛ لأن حق الرد لايختلف باختلاف الثمن ولا يبطل بجهالته، وإذا رده بقي الاختلاف بينهما في ثمن المردود وتمليك الثمن استفيد من جهة المشتري فيكون القول قوله أنه ملكه بإزاء هذا العبد ولا يتحالفان؛ لأن المقصود من التحالف الفسخ وقد حصل ذلك بالرد بالعيب، وكذلك يكون القول قول المشتري في ثمن الهالك عند أبي حنيفة وأبي يوسف مع يمينه.
وعند محمد يتحالفان ويرد المشتري قيمة الميت وكان على البائع رد الثمنين جميعًا؛ لأن العقد انفسخ في العبدين في أحدهما بالرد بالعيب، وفي الآخر بالتحالف، ولو كانا عين والمسألة بحالها رد المشتري العبد المعيب بالثمن الذي ادعاه من غير تحالف لحصول ماهو المقصود من التحالف وهو الفسخ في المردود بسبب الرد تحالفا وترادا في الباقي؛ لأنهما اختلفا في الثمن الباقي ضرورة اختلافهما في ثمن المردود والسلعة قائمة فيتحالفان ويترادان ويرجع المشتري على البائع بالثمنين جميعًا لانفساخ العقد في العبدين على ما مر.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل باع من آخر ثوبًا مرويًا فقبضه أو لم يقبضه حتى اختلفا فقال البائع بعته على أنه ست في سبع، وقال المشتري: اشتريته على أنه سبع في ثمان، فالقول قول البائع مع يمينه.
وفي (نوادر هشام): إذا اشترى من آخر ثوبًا وقال: اشتريته منك بثمانية أذرع وهو سبع في سبع وقال البائع: بعتك بثمانية ولم اسم لك ذراعًا فالقول (قول) البائع، وفي قول أبي يوسف ومحمد: ولو كان المشتري قال: اشتريته على أنه ثمانٍ في ثمان كل ذراع بدرهم، وقال البائع: بعتك بثمانية ولم اسم ذراعًا فالقول قول المشتري ويتحالفان ويتردان على قولهما.
قال هشام: سألت محمدًا عن رجل له أجمة تساوي ألفًا وفيها قصب يساوي ألفًا فاشترى رجل منه الأجمة بعشرة آلاف درهم واختلفا فقال البائع: بعتك القصب، وقال المشتري: إنما وقع الشراء على الأصل قال أفسد البيع.
روى إبراهيم عن محمد: رجل اشترى بيتًا في موضعين بكذا درهم وقبض أحدهما وذهب الريح بالموضع الآخر في مقدار ما قبض وما ذهب، فإن كان ماقبض فإنما تخالفا وترادان كان مستهلكها، فالقول قول المشتري في قياس قول أبي حنيفة، وقال محمد: يتحالفان ويرد المشتري مثل ما أخذ بالشرط والقول فيه قوله.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر سرجًا، ثم اختلفا فقال البائع: بعتكه بغير زكاته، وقال المشتري: لا بل مع زكاته واشترى خاتمًا، ثم اختلفا في فصه، فقال البائع: بعته بغير فصه، وقال المشتري: لا بل مع فصه فإنهما يتحالفان ويترادان.
وفي (نوادر هشام) قال: سألت محمدًا عن رجل اشترى كباسة بمائة درهم، ثم اختلفا فقال المشتري: اشتريت منك ومن الأرض وقال البائع: إنما بعتك الكباسة التي عليها قال ينظر إلى الغالب من الثمن فإنهما كان الغالب جعلتها به، وكذلك هذا في شراء الأجمة والمبطخة والمنقلبة، وكذا في شراء النخلة مع الرطب ينظر إلى الغالب.
وفي (البقالي): إذا اختلفا في الثياب والجراب والراوية والماء ونحوها على أنهما وقع البيع اعتبر مقدار الثمن وإن استوى الأمران في العادة لم يجز.
قال أبو يوسف وقال أبو حنيفة: في رجل اشترى عبدًا بألف درهم وقبضه ونقده الثمن، ثم ادعى المشتري أنه كان مع العبد أمة يبيعها في البيع وجحد البائع ذلك فالقول قول البائع ولا يرد شيئًا من الثمن بعد أن يحلف بالله ما باعه هذه الأمة مع (العبد).
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: إذا قال الرجل لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم وأقام البينة وقال المدعى عليه: اشتريته منك وهذا العبد الآخر بألف درهم وأقام البينة فإني أجعلهما جميعًا بألف، ولو قال المشتري: اشتريتها منك هذا بخمسمائة وهذا بخمسمائة وقال البائع: بعت هذا وحده منك بألف درهم وأقام البينة، فإني أجعل عليه الألف للعبد الذي أقام عليه البائع بينة أنه باعه بالألف، وأجعل عليه خمسمائة للعبد الآخر، قال: وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا قال المشتري اشتريتهما منك بألف درهم، وأقام بينة فعليه ألف وخمسمائة، ثم رجع وقال: هما بألفٍ، وقال زفر: قوله الأول أحب إلي.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف: إذا قال الرجل لغيره: اشتريت منك هذه الجارية وابنتها بألف درهم وأقام على ذلك بينة وقيمتها سواء، وقال البائع: بعت الأم وحدها بألف درهم، فإن أبا حنيفة رحمه الله يقول: يأخذهما بألفٍ وخمسمائة، ثم رجع وقال: يأخذهما جميعًا بألف درهم وهذه المسألة المتقدمة ولكن في صورة أخرى.
وفي (المنتقى): رجل اشترى من آخر ثوبًا فقطعه، ثم قال المشتري بعد ذلك: اشتريته بدرهم وقال البائع: بعته بكر حنطة بعتها فالقول قول المشتري.
وفيه أيضًا: رجل اشترى من آخر جارية وقبضها ووطئها، ثم اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه إلا أن يرضى البائع أن يأخذ الجارية بغير مهر، ولو كان لها زوج يوم اشتراها لم يمنع وطئه من الرد بسبب الاختلاف في الثمن من قبل إن هذا بمنزلة عيب كان فسرى منه البائع.
وفيه أيضًا: رجل اشترى عبدًا وقبضه، ثم اختلفا في مقدار الثمن من الدراهم، قال أبو حنيفة: القول قول المشتري ولا سبيل للبائع على العبد وأرضى بأخذه كذلك، ولو قال البائع: بعتك بدارك هذه، وقال المشتري: اشتريته بأمتي هذه رد العبد على البائع وضمن المشتري نصف قيمته يوم قبض كيف كان ذهاب العين من جناية المشتري أو من جناية أجنبي أو من غير فعل أحد.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف في المبيع: إذا كان مستهلكًا كل شيء أقر المشتري أنه اشتراه به مما هو ثمن لا ينتقص البيع بهلاكه واستحقاقه أو رده بالعيب فالقول فيه قول المشتري، وكل شيء لبس بثمن وينتقض البيع بهلاكه أو استحقاقه أو رده بالعيب لم يصدق فيه المشتري؛ لأنه يريد أن يلزم البائع هذا العرض والمشتري فيه مانع وعلى المشتري قيمة ما قبض، وقال أبو يوسف لو قال البائع: بعتك بهذين العبدين وقال المشتري: اشتريته بهذا العبد وحده لأحدهما والمبيع مستهلك، قال: قد اتفقا على واحد فهو بيع به ولا يصدق البائع على الآخر.

.نوع آخر في دعوى البيع مع دعوى الاعتاق:

رجل ادعى على الآخر إني بعت منك هذا العبد الذي في يدي بألف درهم واعتقته أنت أيها المشتري وقال المشتري: ما اشتريته وما اعتقته، فإن أقام البائع بينته سمعت بينته على الشراء والعتق؛ لأنه خصم في إثبات الشراء والعتق؛ لأن بالشراء يثبت أصل الثمن وبالعتق يثبت تأكد الثمن وخروج المبيع عن ضمان البائع ودخوله في ضمان المشتري؛ لأن الإعتاق قبض معنوي على ما عرف، فإن لم يكن له بينة وطلب من القاضي أن يحلف المشتري حلفه أولًا على دعوى الشراء، فإن حلف على دعوى الشراء لا يحلفه على دعوى العتق بعد ذلك؛ لأنه فائدة فيه؛ لأنه لم يثبت ملك المشتري بما حلف ولكن يعتق العبد على البائع بحكم إقراره أنه مالكه قد أعتقه وكان ولا العبد موقوفًا؛ لأن كل واحد منهما بيعه عن نفسه، هذا إذا حلف على دعوى الشراء وإن نكل عن دعوى الشراء حتى صار مقرًا بالشراء إلا أن يحلف على دعوى العتق؛ لأن البائع يدعي عليه قبض المعقود عليه، وتأكد الثمن وهو ينكر فإن نكل ثبت العتق من جهة وكان ولاء العبد له، وإن حلف لم يثبت العتق وكان العبد مملوك للمشتري؛ لأنه لو ثبت العتق هاهنا يثبت بشهادة البائع؛ لأنه فرد هذا إذا كان العبد في يدي البائع، وإن كان في يدي المشتري والمسألة بحالها، فإن أقام البائع بينة على ذلك سمعت بينته على الشراء لما مر، ولا يسمع بينته على العتق عند أبي حنيفة بخلاف الفصل الأول؛ ولأن في الفصل الأول إنما قبلت بينة البائع على العتق لما فيه من إثبات القبض الذي هو حقه والقبض هاهنا ثابت بالمعاينة فلا حاجة إلى إثباته بالبينة فلم ينتصب البائع خصمًا في دعوى العتق، فالتحق دعواه بالعدم والبينة على عتق العبد لا تقبل من غير الدعوى.
وعندهما يقبل البينة على العتق؛ لأن عندهما الدعوى ليست بشرط لقبول البينة على العتق، وإن لم يكن للبائع بينة يحلف المشتري على دعوى الشراء، فإن حلف لا يحلف على دعوى العتق بالإجماع، وعتق العبد على البائع بحكم إقراره على ما مر، وكان ولاؤه موقوفًا وإن نكل عن دعوى الشراء يثبت الشراء بإقراره، ثم لا يحلف على العتق بعد ذلك عند أبي حنيفة؛ لأن دعوى العتق من البائع التحق بالعدم فلو حلف المشتري حلف عنه بدون الدعوى.
ومن مذهب أبي حنيفة أنه لا يحلف عنه على عتق العبد بدون الدعوى كما لا يقبل البينة على حبسه بدون الدعوى، وأما عندهما فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح (الزيادات): أن عندهما لا يحلف حبسه بدون الدعوى بخلاف قبول البينة.
وأشار محمد رحمه الله في (كتاب التحري): أنه يحلف على طلاق المرأة بدون الدعوى، وذكر شيخ الإسلام خواهرزاده وشمس الأئمة هذا في شرح (كتاب التحري) أنه يحلف على طلاق المرأة، وعتق الأمة عندهما حبسه بدون الدعوى وهما يلحقان عتق العبد بعتق الأمة وطلاق المرأة حتى قالا: تقبل البينة على عتق العبد بدون الدعوى كما تقبل على طلاق المرأة وعتق الأمة، فالصحيح عندهما أنه يحلف في عتق العبد حبسه بدون الدعوى، ثم إن عند أبي حنيفة إذا لم يحلف على دعوى العتق كالعبد مملوك للمشتري لا يحكم بعتقه؛ لأنه لو عتق، عتق بمجرد قول البائع، والعتق لا يثبت بقول الفرد وعندهما إذا حلف أنه نكل صار مقرًا بالعتق وكان ولاء العبد له، وإن حلف بقي العبد مملوكًا وإذا ادعى على غيره أني بعت منك هذا العبد بمائة دينار وأعتقته أيها المشتري، وقال المشتري: اشتريت منك بألف وما أعتقته فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يحلف المشتري على العتق أولًا، ولا يشتغل بتحليفها بسبب اختلافهما في جنس الثمن؛ لأنهما اتفقا على الشراء؛ لأن البائع ادعى البيع بمائة دينار والمشتري أقر بالشراء بألف درهم فدعوى البائع الاعتاق على المشتري.
في هذه الصورة دعوى هلاك المعقود عليه ودعوى هلاك المعقود عليه دعوى سقوط التحالف عندهما، فيحلف المشتري أولًا على دعوى العتق عندهما لهذا، فإن نكل ثبت العتق وسقط التحالف، وكان القول في الثمن: قول المشتري مع يمينه فيحلف المشتري بالله لقد اشتريته بألف درهم كما يدعي، فالأصل إن كل من جعل القول قوله، فإنما يحلف على مايقوله على مايدعي الخصم.
كالمودع إذا ادعى رد الوديعة أما متى وجب التحالف يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه ولا يحلف على ما يدعيه، وإن حلف على دعوى الإعتاق لم يثبت هلاك المعقود عليه، فيتحالفان لاختلافهما في جنس الثمن حال المعقود عليه ويبدأ بيمين المشتري، فإن نكل لزمه مائة دينار وكان العبد مملوكًا له، وإن حلف يحلف البائع بعد ذلك بالله: ما بعته بألف درهم كما ادعاه المشتري، فإن نكل فله الألف.
وإن حلف فسخ القاضي العقد بينهما بسبب التحالف إذا طلبا أو طلب أحدهما، ثم يصير العبد حرًا؛ لأن البائع أقر بحريته حال ما كان مملوكًا للمشتري، ومن أقر بحرية ملك غيره، ثم ملكه يومًا من الدهر يعتق على المقر ويكون ولاء العبد موقوفًا؛ لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه.
فإن عاد المشتري إلى التصديق كان الولاء له؛ لأن الولاء يحتمل النقض بعد ثبوته فلا يبطل بتكذيب المشتري، هذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وأما على قول محمد: يبدأ بالتحالف؛ لأن هلاك المعقود عليه عنده لايمنع التحالف واختلافهما في العقد سابق على اختلافهما في العتق، فهذا يبدأ بالتحالف ويحلف المشتري بالله بمائة دينار ويحلف البائع بالله مابعته بألف درهم، وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، فإن حلفا يحلف المشتري على دعوى العتق بعد ذلك؛ لأن البائع يدعي عليه حقًا لنفسه بهذا الدعوى، فإنه لو ثبت العتق كان الفسخ بالتحالف على قيمة الهلاك المعقود عليه، وإذا لم يثبت العتق كان الفسخ بالتحالف على عين العبد، فيحلف المشتري بالله ماأعتقته فإن نكل ثبت العتق ويفسخ القاضي العقد على القيمة، وإن حلف فسخ القاضي العقد على العبد وصار العبد حرًا لإقرار البائع وولاؤه موقوف، ويستوي في هذه المسألة إن كان اختلافهما قبل قبض المشتري العبد أو بعده.
وفي (الزيادات): رجل ادعى على رجل أني بعت منك هذا العبد الذي في يدي بمائة دينار واعتقته أنت وقال المشتري: ما اشتريت إلا نصفه بخمسمائة درهم وما أعتقته، فإن على قول أبي يوسف يحلف المشتري أولًا على العتق ولا يشتغل بتحليفهما بسبب اختلافهما في جنس الثمن؛ لأن البائع بدعوى العتق على المشتري يدعي هلاك المعقود عليه وسقوط التحالف ويحول ضمان المشتري، فيحلف المشتري على دعوى العتق أولًا، فإن نكل ثبت العتق من جهة المشتري، فيحلف بالله مااشتريت الكل بمائة دينار ولقد اشتريت النصف بخمسين درهما، فإن نكل صار مقرًا بشراء الكل بمائة دينار وقد ثبت العتق منه وكان الولاء له، وإن أنكر الولاء لنفسه لما أنكر الإعتاق إلا أن القاضي لما قضى عليه بالعتق بنكوله فقد كذبه في إنكاره فالتحق إنكاره بالعدم، وإن حلف فقد انتفى شراء الكل بمائة دينار وثبت شراء النصف بخمسين درهمًا وعاد النصف الذي انتفى الشراء عنه إلى ملك البائع وعتق نصف العبد على المشتري وعتق النصف الآخر على البائع عند أبي حنيفة لإقرار البائع بحريته حين نسب الإعتاق إلى من زعمه مالكًا وهو المشتري.
ومن أقر بحرية عبد وملكه يومًا من الدهر يعتق عليه بحكم إقراره، والإعتاق عند أبي حنيفة متجزئ فيعتق النصف على البائع والنصف على المشتري لهذا ويكون نصف الولاء للمشتري والنصف يكون موقوفًا للحال؛ لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه.
وعلى قول أبي يوسف: عتق كل العبد على المشتري والولاء؛ لأن الإعتاق عنده لايتجزئ هذا إذا نكل المشتري عن اليمين على العتق وإن حلف على العتق انتفى العتق من جهة فيشتغل الآن بتحليفهما بسبب اختلافهما في جنس الثمن ويبدأ بيمين المشتري، فيحلفه بالله ما اشتريته بمائة دينار ولقد اشتريت نصفه بخمسمائة، فإن نكل لزمه الشراء بمائة دينار وكان العبد رقيقا؛ لأن العتق هنا لو ثبت يثبت بمجرد قول البائع، وإنه شهادة فردها بحكم لما يقطع بشهادة الفرد، وإن يحلف يحلف البائع بالله مابعت نصفه بخمسمائة درهم، ولقد بعته كله بمائة دينار، فإن نكل انتفى العقد عن أحد النصفين وعتق ذلك النصف على البائع؛ لأنه أقر بحريته حين نسب الإعتاق إلى من زعمه مالكًا.
ثم الإعتاق عند أبي يوسف رحمه لايتجزئ، فإذا أعتق أحد النصفين على البائع عتق النصف الآخر عليه وعند أبي حنيفة الإعتاق يتجزئ فبقي النصف الذي ثبت فيه البيع مملوكًا للمشتري في النصف الذي ثبت فيه البيع بين إمضاء العقد وبين الفسخ؛ لأن المعقود عليه قد تغير من جهة البائع قبل القبض من العين إلى القيمة عند أبي يوسف؛ لأن عنده الإعتاق لايتجزئ.
وعند أبي حنيفة الإعتاق، وإن كان يتجزئ إلا أن يعتق النصف يثبت نوع فساد وتغير في النصف الباقي، وإنه يكفي لثبوت الخيار للمشتري، فإن اختار المشتري الفسخ عاد النصف الآخر إلى ملك البائع وعتق عليه بلا خلاف بحكم إقراره السابق ولا سعاية له على العبد أصلًا لا في النصف الذي انتفى البيع عنه، ولا في النصف الذي عاد إليه بحكم الفسخ؛ لأن البائع يبرأه من السعاية، فإنه يقول بعت كل العبد من المشتري وحقي في الثمن، والمشتري كاذب في يمينه فيكون مقرًا ببراءة العبد عن السعاية من هذا الوجه، وإن اختار المشتري ببراءة من السعاية، فإنه يقول: بعت كل العبد من المشتري، إمضاء العقد كان له أن يسعى العبد في نصف قيمته؛ لأنه مشهود عليه بالعتق والمشهود عليه يستوجب السعاية على العبد سواء كان الشاهد موسرًا أو معسرًا بلا خلاف، نصف السعاية بما أدعى المشترى من الثمن، فإن كان الجنس متحدًا وكان في السعاية فضل تصديق بالفضل؛ لأنه ربح حصل لا على ضمانه، وإن كان الجنس مختلفًا لا يتصدق بشيء؛ لأن الربح لايظهر في جنسين مختلفين؛ ولأن القبض له شبه بالعقد وابتداء العقد متفاضلًا في الجنسين المختلفين يجوز، فما له شبه بالعقد متفاضلًا في جنس واحد الاستحسان سار ما أشبه بالعقد يتمكن نوع.
حيث إنه يوجب التصديق هذا إذا حلف البائع ونكل عن اليمين، فأما إذا حلف فالقاضي يفسخ العقد بينهما في النصف الذي اتفقا في البيع إذا طلبا أو طلب أحدهما وعاد ذلك النصف إلى ملك البائع وعتق عليه مجانًا من غير سعاية لما قلنا، هذا كله قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وأما على قياس قول محمد بدأ بالتحالف في العقد؛ لأن دعوى الإعتاق من البائع.
وإن كان دعوى هلالك المعقود عليه لا يمنع التحالف عنده، والاختلاف في العقد سابق على الاختلاف في العتق فيبدأ بالتحالف في العقد، ويحلف المشتري أولًا، ثم يحلف البائع على نحو ما بينا، وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، وإن حلفا يحلف المشتري في دعوى العتق لما مر، هذا في كله إذا اختلفا قبل القبض.
وأما إذا اختلفا بعد قبض العبد والباقي بحال قال في (الكتاب): الجواب على ما وضعت لك قبل القبض إلا في خصلة واحدة أنه لا خيار للمشتري هنا بين الفسخ والإمضاء في النصف الذي ادعاه في الشراء فيه لتغير المعقود عليه بعد القبض ولكن يستسعى في نصف قيمته.
قال مشايخنا: وهنا خصلة أخرى إنه إذا قبض المشتري نصف من العبد لا يتصدق بشيء، وإن كانت القيمة من جنس الثمن وكان فيها فصل على الثمن بحصول الربح على ضمانه ولعدم ورود ماله شبه بالعتق، فالعقد وهو القبض عليه ولهذه المسألة مع أجناسها باب على حدة في (الزيادات) لقبه باب السلسلة.

.نوع آخر في الاختلاف في الثمن بعد ارتفاع العقد:

قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى الرجل من آخر جارية بألف درهم وتقابضا، ثم تقايلا البيع حال قيام الجارية حتى صحت الإقالة، ثم اختلفا في مقدار الثمن فقال المشتري: كان الثمن ألف درهم، وقال البائع: كان الثمن خمسمائة وعلى أن أزد عليك خمسمائة أيها المشتري ولا بينة لواحد منهما ذكر أنهما يتحالفان.
فرق بين هذا وبين ما إذا اختلفا في مقدار رأس المال بعد الإقالة في المسلم إليه كان رأس المال خمسة، وقال رب السلم كان رأس المال عشرة فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، ولا يتحالفان في الإقالة في بيع اليمين، قال: تخالفان فسخ ويفسخ الإقالة بينهما بعد التحالف ويعود الأمر إلى ما كان قبل الإقالة.
والفرق: أن الإقالة في باب السلم قبل قبض المسلم فيه فسخ من كل وجه وفي حق كل حكم إذ لا يمكن أن يعتبر بيعًا جديدًا لما فيه من الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض، فإنه بيع فيعتبر فسخًا في حق التحالف أيضًا كما في بيع العين إذا تقايلا قبل قبض المبيع المنقول والثمن مدفوع إلى البائع، واختلفا في مقدار الثمن بعد الإقالة، فإنهما لا يتحالفان ويكون القول في مقدار الثمن قول البائع مع يمينه؛ لأن الإقالة في هذه الصورة لا يمكن أن يعتبر بيعًا جديدًا فاعتبر فسخًا في حق جميع الأحكام من جملتها التحالف.
وكذا في السلم وإذا اعتبرت الإقالة فسخًا في حق التحالف لا يمكن شرع التحالف فيها؛ لأن التحالف شرع في المعقود بخلاف القياس فلا يشرع في حق المفسوخ، وأما الإقالة في بيع العين بعد القبض إن اعتبر فسخًا فيما بين المتعاقدين اعتبر بيعًا جديدًا في حق الثالث؛ لأن لاعتبار معنى البيع بعد القبض ممكن فيعتبر بيعًا جديدًا في حق التحالف وصار في حق التحالف كان البائع اشترى ثانيًا، ثم اختلفا في الثمن ولو كان كذلك كانا يتحالفان كذا هاهنا.
وفي باب السلم: لو جعلت الإقالة بعد قبض المسلم فيه وهو قائم حتى أمكن أن يعتبر بيعًا جديدًا في حق الثالث، يقول بأنهما يتحالفان أيضًا، هكذا قال الفقيه أبو بكر البلخي، ثم إن محمد رحمه الله يحتاج إلى الفرق بين الإقالة في فصل السلم، وبين ما إذا اختلفا في مقدار الثمن بعد هلاك السلعة، فإن في فصل الإقالة في السلم قال: لا يتحالفان؛ لأن الإقالة في باب السلم مما لا يحتمل الفسخ وفي البيع بعد هلاك السلعة قال بالتحالف، وإن كان بعد هلاك السلعة لا يحتمل الفسخ بسائر أسباب الفسخ.
والفرق: أن التحالف مشروع في العقد لا في الفسخ والإقالة في باب السلم قبل القبض فسخ من كل وجه، ولا يمكن شرع التحالف فيها فأما في البيع بعد هلاك السلعة التحالف إنما يجري في البيع لا في الفسخ إلا أنا نقيم القيمة في حق الفسخ مقام العين.

.الفصل الحادي عشر: في الزيادة في الثمن وازديادهما في الحط والإبراء عن الثمن وفي هبة الثمن من المشتري:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.نوع منه في الزيادة المتولدة من المبيع:

كل زيادة تولدت من نفس المبيع كالولد والثمر واللبن فهي مبيعة، فإن حدثت قبل القبض كان لها حصة من الثمن على اعتبار القبض، فإن ورد القبض على الأصل والزيادة قسم الثمن على الأصل يوم العقد وعلى الزيادة يوم القبض، وإن حدثت هذه الزيادة بعد القبض كانت مبيعة بيعًا ولا حصة لها من الثمن أصلًا، وإنما كانت هذه الزيادة مبيعة؛ لأنه يثبت فيها حكم البيع وهو الملك؛ لأن الملك في الأم إنما يثبت بالبيع، والملك في الزيادة إنما يثبت بملك الأم؛ لأن ملك الأصل علة ملك الزيادة بثبوت الملك في الزيادة بواسطة ثبوت الملك في الأصل مضافًا إلى البيع.
فهي معنى قولنا: أن الزيادة صارت مملوكة بالبيع فصارت مبيعة بيعًا بمنزلة أطراف المبيع فلا يكون لها حصة من الثمن؛ لأن الثمن تقابل الأصول وإنما يقابلها الثمن إذا صارت مقصودة بفعل محلها وهو القبض فعل مقصود وله شبه بالعقد من حيث أن العقد يثبت ملك الرقبة وباليد يثبت ملك التصرف، فإذا حل بالولد يصير للولد حصة من الثمن إما بدونه لا يكون للولد حصة من الثمن، حتى لو هلكت الزيادة في يد البائع هلكت بغير شيء؛ لأن القبض قد انعدم فيها فلم يصر بمقابلتها شيء من الثمن ولا خيار للمشتري بسبب هلاك الزيادة في يد البائع إلا في ولد الجارية خاصة؛ لأن الولادة عيب فيها فيثبت الخيار لنقصٍ في الأم دون هلاك الولد.
وإذا ورد القبض على الأصل والزيادة قسم الثمن على الأصل والزيادة ويعتبر في الانقسام قيمة الأصل يوم العقد وقيمة الزيادة يوم القبض؛ لأن الأصل صار مقصودًا بالعقد والزيادة صارت مقصودة بالقبض، والثمن إنما يقابل ما هو مقصود فاعتبرنا قيمة الأصل يوم القبض.
لهذا ولو أتلف البائع الزيادة المتولدة من المبيع قبل القبض سقطت حصته من الثمن يقسم الثمن على قيمة الأصل يوم العقد، وعلى قيمة التمام يوم الاستهلاك؛ لأن التمام مبيع وقد صار مقصودًا بالاستهلاك فيثبت له حصة من الثمن كما لو استهلك جزء من المبيع، وإنما اعتبر قيمة التمام يوم الاستهلاك؛ لأنه إنما صار مقصودًا بالاستهلاك.
ولو استهلك التمام أجنبي ضمن قيمته وكانت مع الأصل مبيعًا، لكون البدل قائمًا مقام الأصل ولا خيار للمشتري إلا في ولد الجارية لما مر، ولو استهلك البائع التمام بطلت حصته على ما بينا ولا خيار للمشتري في قول أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: له الخيار؛ لأن التمام بالاستهلاك صار مقصودًا ولهذا أخذ حصته من الثمن فصار كالموجود لدى العقد، وعلى هذا الاعتبار تتفرق الصفقة على المشتري بالاستهلاك قبل التمام وذلك يثبت الخيار.
ولأبي حنيفة إن هذه الزيادة لو هلكت بنفسها، للمشتري خيار، فإذا استهلكها أولى؛ لأن البائع بالاستهلاك حصل للمشتري يقع لم يحصل بالهلاك وهو سقوط الحصة وهذا؛ لأن الرغبة في الأصل يزداد باستهلاك الزيادة ولا يتقاصر؛ لأنه لما رغب في أن يسلم له الأصل بكل الثمن، فإذا سلم له الأصل ببعض الثمن كانت الرغبة أزيد بخلاف الزيادة الموجودة لدى العقد؛ لأن الرغبة هناك تحمل بفوات الزيادة؛ لأن الإنسان قد يرغب في التزام الثمن بمقابلة الشيء لرغبة له فيما ضم إليه، فإذا فات المضموم تحصل الرغبة، ولهذا استوى فيه الهلاك بخلاف ما نحن فيه.
ولو اشترى أرضًا ونخلًا فأثمرت النخلة في يد البائع، ثم استهلك البائع الثمرة، فإن عند أبي يوسف يأخذ الثمرة الحصة من النخل، وعند محمد: يأخذ الثمرة والنخلة الحصة من الأرض.
وبيانه: إذا كانت الأرض تساوي ألفًا والثمر يساوي ألفًا، فإن عند أبي يوسف يقسم الثمن نصفين على الأرض والنخل، ثم ما أصاب النخل يقسم نصفين فيسقط الربح، وعند محمد يقسم أثلاثًا فيسقط الثلث.

.نوع منه في الزيادة المشروطة:

اعلم أن الزيادة في الثمن والمثمن صحيحة ثمنًا ومثمنًا ويلحق بأصل العقد ويجعل كأن العقد على الابتداء.
ورد على الأصل والزيادة وهو مذهب علمائنا الثلاثة، وعند زفر لا يصح ثمنًا ومثمنًا إنما يصح هبة مبتدأة حتى لا يتم إلا بالتسلم والتسليم وقال الشافعي: لا يصح أصلًا.
والصحيح مذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله: أن الزيادة تصرف في العقد بتغييره من وصف مشروع وهو وصف كونه خاسرًا إلى وصف مشروع وهو وصف كونه عدلًا أو رائجًا؛ لأن العقد قد يقع خاسرًا من أحد الجانبين رائجًا من الجانب الآخر، وبأن كان أحد البدلين أكثر مالية، والزيادة على ما عليه الغالب، والظاهر إنما يشترط لمن وقع العقد خاسرًا من جانبه، والعقد يقبل هذا النوع من التغير إذ ليس فيه أكثر من أن يصير بعض الثمن بمقابلة الزيادة بعد أن كان كله بمقابلة الأصل ومن أن يصير بعض المبيع بمقابلة الزيادة بعد أن كان كله بمقابلة أصل الثمن، والعقد قابل لذلك.
ألا ترى أن في الزيادة المتولدة من المبيع قبل القبض إذا قبضها المشتري يأخذ قسطًا من الثمن ويصير بعض الثمن بمقابلة الزيادة بعد أن كان كله بمقابلة أصل المبيع.
وكذلك الزيادة المتولدة من الثمن إذا ثبت أن العقد قابل لهذا النوع من التغير وجب القبول بتصحيح الزيادة ثمنًا ومثمنًا دفعًا للخسران من جانب المشروط له الزيادة يبقي هذا القدر أن الثمن لابد له من مثمن هو ملك الغير.
وكذلك المثمن لابد له من ثمن هو ملك الغير، ولكن الجواب عنه أن أصل الثمن لا يستغني عن المقابلة، وكذلك أصل المثمن، فأما فضول الثمن والمثمن يستغني عن المقابلة ويكتفي بصورة المقابلة فيه.
ألا ترى لو باع عبدًا قيمته ألف درهم بألفي درهم يجوز وفي حق الألف الزائد لا مقابلة من حيث الحقيقة إنما الثابت المقابلة صورة.
وفي مسألتنا وجد صورة المقابلة فيكتفي بها لصحة الزيادة ثمنًا ومثمنًا وشرط صحة الزيادة من المشتري في الثمن في ظاهر الرواية بقاء المبيع وكونه محلًا للمقابلة في حق المشتري حقيقة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن أشياء من ذلك ليس بشرط حتى أن على رواية الحسن تصح الزيادة بعد هلاك المبيع في ظاهر الرواية لا تصح، وروي عن محمد أن شرط صحة الزيادة كون المبيع قابل للمقابلة في نفسه لا كونه قابلًا للمقابلة في حق المشتري حتى أن على الرواية هذه تصح الزيادة من المشتري في الثمن بعد ما باع المشتري المبيع أو وهب وسلم أو تصدق وسلم؛ لأن المبيع بقي محلًا للمقابلة في نفسه، وفي ظاهر الرواية لا تصح الزيادة؛ لأن المبيع لم يبق محلًا للمقابلة في حق المشتري.
والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن طريق تصحيح الزيادة في الثمن تغيير العقد والعقد بعد هلاك المعقود عليه لا يقبل التغيير؛ لأن التغير يرد على الموجود والعقد كلام كما وجد تلاشى وانعدم، وإنما جعل باقيًا ببقاء محله ومحله المبيع ذات محل العقد فلا يبقي العقد فلا يمكن القول بالتغيير.
والجواب عن رواية محمد على ظاهر الرواية: أن الزيادة من المشتري فيشترط محلية المقابلة في حقه.
يوضحه: أن التغيير المقابلة من وصف إلى وصف في معنى إن شاء المقابلة على ذلك الوصف، ثم يشترط الصحة إنشاء المقابلة حقيقة كون المحل قابلًا للمقابلة في حق المنسي لا كونه محلًا للمقابلة في نفسه، فكذا يشترط لصحة إنشاء المقابلة المعنوية كون المحل قابلًا للمقابلة في حق.
إذا اشترى عبدًا بأمة وتقابضا وهلك أحدهما، ثم زاد أحدهما للآخر في المبيع جاز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الإقالة تجوز في هذا الوجه.
والأصل عند أبي يوسف: إن ما جازت الإقالة جازت الزيادة فيه، ولو زاد في الثمن بعد ما رهن المبيع أو أجر تصح الزيادة؛ لأن المحل بقي قابلًا للمقابلة حقيقة في حق المشتري وقت شرط الزيادة.
فإن بيع المرهون والمستأجر من المرتهن والمستأجر صحيح نافذ، وإنما لا ينفذ بيعهما من الأجنبي لعجز البائع عن التسليم لحق المرتهن والمستأجر لا؛ لأنه ليس بمحل للمقابلة في حقه.
وكذلك لو زاد المشتري في الثمن بعد ما قطع يد المبيع وأخذ المشتري أرشه صحت الزيادة المنفصلة لا تبطل محلية المقابلة في حق المشتري فلا يمنع الزيادة إلا أنه لا يملك الرد بالعيب لمكان الزيادة المنفصلة؛ لأن بالرد بالعيب ينفسخ العقد فتبقي الزيادة مبيعًا مقصودًا بلا ثمن أما في إثبات الزيادة لا يحتاج إلى الفسخ فلا يؤدي إلى هذا المعنى وهذا تبين أن الطريق المعتبر في تصحيح الزيادة طريقة التغيير لا طريقة الفسخ.
ولو زاد المشتري في الثمن بعد ما كان المبيع لا تصح الزيادة فرق بين الكتابة والرهن حيث جوز الزيادة في المبيع بعد الرهن ولم يجوز بعد الكتابة وكما ثبت للمكاتب يد على نفسه ثبت للمرتهن يد على المرهون.
والفرق: وهو أن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء، وأنه يد الملك لا يد حرية للمملوك فبقي المرهون محلًا للمقابلة، فأما الكتابة تبطل يد المولى فيظهر للعبد يد حرية على نفسه ليتمكن من الضرب في أرض الله فيبتغي من فضل الله تعالى، فينال شرف الحرية، وبهذا تبطل محلية البيع.
ولهذا لو حلف أن لا يبيع فباع المرهون يحنث في يمينه ولو باع المكاتب لا يحنث هذه الجملة من بيوع (الجامع).
وفي (القدوري): وإذا صار المبيع لا يجوز العقد عليه نحو أن يعتقه المشتري أو يستولدها أو يدبر أو يكون عصيرًا فيتخمر أو يخرجه المشتري عن ملكه أو يملك، ثم زاده فالزيادة جائزة في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز.
وعلى هذا الخلاف إذا زاد الزوج في مهر المرأة بعد موتها وعلل لأبي حنيفة وقال: أن الزيادة تثبت للحال ربحًا وبيعًا لا أصلًا ومقصودًا، ثم بعد الالتحاق بأصل العقد يثبت المقابلة بين الزيادة والمبيع ويثبت لهذه الزيادة حصة من الثمن ولما كان هكذا يراعي قيام المبيع وكونه محلًا للمقابلة حالة العقد لا حالة الزيادة.
وفي (البقالي): تجوز الزيادة في المبيع بعد هلاك المبيع بخلاف الزيادة في الثمن في ظاهر الرواية، وهكذا روى ابن سماعة في (نوادره).
ولو زاد بعد ما صار الخمر خلًا صحت الزيادة بلا خلاف؛ لأن الزيادة تقابل المبيع للحال صورة، ثم إذا التحق بأصل العقد يقابل المبيع معنى، فإن نظرنا إلى حالة المقابلة صورة فالمحل صالح للمقابلة، وإن نظرنا إلى حالة المقابلة معنى فالمحل صالح أيضًا، أما فيما بين ذلك ليس حالة المقابلة صورة ولا حالة المقابلة معنى فيجعل التخمر فيه عفوًا.
وإذا اشترى شاة وذبحها ولم يسلخها، ثم زاد في الثمن صحت الزيادة؛ لأن المبيع قائم بعد الذبح والسلخ ولهذا لو كانت مغصوبة لا ينقطع حق المالك بهذه الأشياء هكذا ذكر في (الجامع).
وفي (المنتقى) رواية مجهولة أنه لا تجوز الزيادة.
وفي (الجامع) أيضًا: ولو اشترى غزلًا وقبضه ونسجه ثوبًا، ثم زاد في الثمن بطلت الزيادة؛ لأن بالنسخ صار شيئًا آخر وصار الأول هالكًا ولهذا ينقطع حق المغصوب منه.
ولو اشترى ثوبًا فقطعه وخاطه قميصًا، ثم زاده في الثمن صحت الزيادة؛ لأن المبيع هو الثوب والثوب باقي إلا أنه إنما وجب انقطاع حق المغصوب منه باعتبار تعارض الحقين حق الغاصب وحق المغصوب، وترجح حق الغاصب على حق المالك على ما عرف، فأما حق المشتري هنا فلا يعارضه بنفسه فلا يجب الترجيح.
وكذلك إذا اشترى حديدًا وضربه سيفًا، ثم زاد في ثمنه صح لما قلنا: أنه حديد كما كان، وإنما ينقطع حق المالك لترجح حق الغاصب على ما مر في مسألة الخياطة.
ولو اشترى حنطة فطحنها، ثم زاد في الثمن شيئًا بطلت الزيادة على ظاهر الرواية؛ لأن الحنطة هلكت، ألا ترى أنه قد زال الاسم والصورة قد تبدلت والمعنى قد هلكت وحدثت معنى آخر فبطلت الزيادة ضرورة، وإذا كانت الزيادة مفسدة للعقد التحقت بأصل العقد وفسد بها البيع في قول أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا تصح الزيادة، ثم في موضع تصح الزيادة من المشتري تصح من الأجنبي؛ لأن المشتري لا يملك بمقابلة الزيادة شيئًا لم يكن مملوكًا له فكان الأجنبي في هذا كالمشتري غير أن الزيادة من المشتري تصح بمطلق الإيجاب ومن الأجنبي إنما تصح إذا أضاف الإيجاب إلى ماله أو ذمته أو أضاف الضمان إلى نفسه، أما بدون أخذ هذه الأوصاف لا تصح، وإنما كان هكذا؛ لأن مطلق الزيادة ثمنًا إنما يكون على من وقع له الثمن والثمن وقع للمشتري وله ولاية على نفسه فيصح، فأما لا ولاية لأجنبي على المشتري فلا يقع إيجابًا على المشتري بل يقع إيجابًا على الأجنبي فلا يصح إلا على الوجه الذي قلنا:
وهو نظير ما قلنا في الخطاب بالطلاق على مال، أنه يصح من الأجنبي كما يصح من المرأة؛ لأن المرأة بالطلاق بمال لا تملك شيئًا؛ لأن حقها في مالكيتها وحريتها وذلك باقي لكن يبطل به حق كان للزوج، وقد بطل ذلك مع الأجنبي أيضًا لكن يصح من المرأة مطلقًا ومن الأجنبي، لا يصح ما لم يصف الإيجاب إلى مال نفسه أو ذمته.
ثم الزيادة من الأجنبي لا تخلو إما أن تكون مطلقًا أو مقيدة بالثمن، وإما أن تكون مشروطة في العقد أو ملحقة بها، وإما أن تكون الزيادة بأمر المشتري أو بغير أمره، فإن كانت الزيادة مشروطة في العقد فإن كانت بغير أمر المشتري وكانت مطلقة غير مقيدة بالثمن.
وصورتها: رجل ساوم رجلًا له بألف درهم وأبى المالك إلا أن يبيعه بألف وخمسمائة فقال أجنبي لصاحب العبد: بعه إياه بألف على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن سوى الألف فباعه إياه بألف ولم يشرطه شيئًا في البيع فالبيع جائز والخمسمائة التي ضمن الرجل للبائع باطل، وإن كانت مقيدة بالثمن.
وصورتها: إذا قال الأجنبي لصاحب العبد: بعه بألف درهم على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن سوى الألف فباعه إياه جاز ووجب الألف على المشتري والخمسمائة على الأجنبي، وفي مسألة (الجامع الصغير) وإنما جاء الفرق بين المسألتين؛ لأن في المسألة الأولى لا يمكن أن يجعل كلام الأجنبي زيادة في الثمن؛ لأنه قال: على أني ضامن لك خمسمائة سوى هذه الألف والألف هو الثمن فكأنه قال: سوى الثمن فلا يمكن أن يجعل هذا زيادة في الثمن بقي هذا شرطًا للزيادة مطلقًا وشرط الزيادة مطلقًا التزام المال بلا سبب، والتزام المال بلا سبب رشوة حرام.
أما في المسألة الثانية: جعل الخمسمائة من جملة الثمن والثمن اسم لما يستحق بالبيع فخرج به من أن يكون رشوة.
فوضح الفرق بينهما: أن في المسألة الأولى لو كان المشتري هو الذي قال ذلك للبائع لا يلزمه الخمسمائة، وفي المسألة الثانية لو كان المشتري هو الذي قال ذلك للبائع يلزمه الخمسمائة فظهر الفرق بينهما.
وفرق آخر وهو: أنه إذا قال من الثمن فقد أضاف الإلتزام إلى ما بعد الوجوب؛ لأن الثمن اسم للواجب بالبيع وإضافة الكفالة إلى ما بعد الوجوب بل التزم المال في الحال بشرط أن يبيعه منه بألف درهم وذلك غير صحيح، وفرق أجزائه إذا قال من الثمن فقد جعل المائة بمقابلة المبيع صورة لا معنى، ومثل هذا يصح من العاقد فيصح من الأجنبي، وإذا لم يقل من الثمن فقد جعل الزيادة مقابلًا بفعل البائع وهو البيع والبائع في البيع عامل لنفسه فلا يستوجب به عوضًا على غيره.

.فرع:

أما إذا قال الأجنبي من الثمن فقال: لو نقد المشتري الألف له أن يقبض المبيع وليس للبائع أن يمتنع عن التسليم لاستيفاء الخمسمائة؛ لأن الخمسمائة لم تثبت ثمنًا في حكم يرجع إلى المشتري؛ لأنه لم يلتزمها ولم يأمر الأجنبي بها وإنما يثبت ثمنًا في حق الأجنبي وفي حق حكم يرجع إلى الأجنبي، وهذا؛ لأن التزام الأجنبي فيما يتضرر به المشتري غير معتبر ولو وقفنا حق قبض المشتري على نقد الخمسمائة يتضرر به المشتري.
ولو كان المشتري أمر الأجنبي بالضمان والمسألة بحالها كان البيع جائزًا إذا لم يشرط ضمان الخمسمائة في البيع إنما ذكر هذه الزيادة تحرزًا عن البيع بشرط الكفالة، فإن هناك بين العلماء اختلافًا وفيه استحسان، وإذا جاز البيع هنا كان للبائع أن يأخذ الخمسمائة من الكفيل بحكم الضمان يريد به إذا كان الكفيل قال: على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن، وإن أراد البائع أن يطالب المشتري بالخمسمائة لم يكن له ذلك؛ لأن المشتري ما التزمها في ذمة نفسه إنما التزمها الكفيل بأمره فصار الكفيل هاهنا بالشراء وهناك ليس للبائع أن يطالب الموكل بالثمن بل يطالب الوكيل كذا هاهنا.
فإن نقد المشتري ألف درهم وأراد أن يأخذ المبيع ليس له ذلك حتى يأخذ البائع الخمسمائة من الكفيل بخلاف ما إذا لم يكن المشتري أمر الضامن؛ لأن هاهنا الخمسمائة ثمنًا في حق المشتري ولهذا الكفيل يرجع على المشتري بذلك وفيما إذا كانت الزيادة بغير أمر المشتري فالزيادة لم تثبت ثمنًا في حق المشتري ولهذا لا يرجع الضامن على المشتري بالزيادة.
وإن ادعى المشتري الألف والخمسمائة إلى البائع أُجبر البائع على القبول منه، وإن كان لا يجبر المشتري على إعطاء الخمسمائة إذا أبى ذلك بمنزلة الموكل إذا أدى الثمن يجبر على القبول منه، وإن كان لا يجبر هو على الدفع ابتداء، وليس للكفيل أن يرجع على المشتري يريد به إذا أدى المشتري الألف والخمسمائة إلى البائع كالموكل إذا نقد الثمن من مال نفسه لا يكون للوكيل حق الرجوع عليه بشيء؛ لأنه إنما يرجع بما أدى من الثمن لا بما لم يؤد.
وأشار محمد رحمه الله في (الأصل): إلى علة المسألة فقال: المشتري ليس بمتطوع فيما أدى عن الكفيل، وإنما أراد بهذا التفرقة بين هذا وبينما لو جاء إنسان وأدى الخمسمائة عن الكفيل حيث كان للكفيل أن يرجع على المشتري بالخمسمائة؛ لأن هناك الأجنبي في الأداء عن الكفيل متبرع فيصير كأنه ملك الخمسمائة من مال الكفيل، أما هاهنا المشتري ليس بمتبرع عن الكفيل؛ لأنه يؤدي ما كان عليه فلم يصير مملكًا من الكفيل بطريق التبرع بل يكون مؤديًا من مال نفسه فلهذا افترقا.
هذا إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد فأما إذا كانت الزيادة ملحقة به بأن اشترى رجل عبدًا بألف درهم وقبضه حتى زاد رجل أجنبي في ثمنه خمسمائة فإن فعلها بإذن المشتري فهو على المشتري دون الأجنبي لما ذكرنا أن مطلق الزيادة إنما تنصرف إلى من دفع له الثمن وقد ثبتت له الولاية على المشتري لما أمره المشتري بالزيادة ويصير الأجنبي في هذا بمنزلة المعير والسفير، ولهذا لا يستغني عن الإضافة إلى عقد الشراء، فإنه لابد أن يقول زدتك خمسمائة في ثمن المبيع الذي اشتراه فلان.
وحقوق العقد إنما ترجع على العاقد دون المعير والسفير، بخلاف ما إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد؛ لأن الأجنبي هناك بمنزلة الوكيل ولهذا يستغني عن إضافة الزيادة إلى عقد غيره فكانت الحقوق راجعة إليه أما هنا بخلافه.
وإن كان زاد بغير أمر المشتري فإن لم يضمن الزيادة ولا إضافة إلى مال نفسه، ولا إلى ذمته كانت الزيادة موقوفة على رضا المشتري لما مر أن يطلق الإيجاب ثمنًا يكون على من وقع له المثمن فيصير إيجابًا على المشتري ولا ولاية له على المشتري فيوقف على رضا المشتري لهذا، وإن كان حين زاده الخمسمائة قال: إنه ضامن لهما، وقال: على إنها علي فهي لازم للأجنبي؛ لأنه التزمها في ذمة نفسه أو ماله فبعد ذلك أن إجازة المشتري لم يعمل فيه الإجازة؛ لأنها قد لزمت عقدًا نفذ على غيره لا يعمل بخلاف ما إذا لم يضمنها الأجنبي ولا أضافها إلى ذمته على ما مر.
وفي (المنتقى): رجل باع رجلًا ثوبًا، ثم لقيه المشتري قال: إنك أغليت علي وبعتني بأكثر مما يساوي، وقال البائع: إني بعتك بعشرة وكان باعه بعشرين فهذا حطته للعشرة عن الثمن، ولو كان البائع قال للمشتري: قد أرخصت عليك وبعتك بنصف الثمن فقال المشتري: قد اشتريته بعشرين وقد كان اشتراه بعشرة فهذا من المشتري زيادة في الثمن.
ولو لم يكن الأمر على هذا الوجه ولكن البائع قال للمشتري: بعتكه ثانيًا بعشرين فتراضيا عليه وكان البيع الأول بعشرة ينفسخ البيع الأول بالثاني.
وكذلك لو كان المشتري قال للبائع: اشتريته منك ثانيًا بعشرة وتراضيا عليه وكان الشراء الأول بعشرين ينتقض الشراء الأول بالثاني. قال: ولا يشبه هذا الأول، ثم قال: إذا ذكرا غلاءً أو رخصًا فهو زيادة وحط وإذا لم يذكر فهو نقص الأول.
وفي (نوادر هشام) قال: سمعت أبا يوسف يقول في رجل اشترى من آخر ثوبًا بعشرة دراهم وأرجح له دانقًا قال لا تعمله حتى يقول في حل أو يقول هو لك، فإن فعل ذلك باعه المشتري على عشرة دراهم يعني مرابحة أو تولية، ولو وجد به عيبًا رده بعشرة.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبدًا على أن البائع بالخيار، ثم إن المشتري قال للبائع: أصالحك على مائة درهم أعطيكها على أن تسلم لي البيع ففعل جاز وهذه زيادة، ولو كان الخيار للمشتري فقال البائع: أصالحك على أن أحط منك مائة وأزيدك شيئًا على أن تقبل البيع فهذا جائز أيضًا، وسيأتي في فصل الخيار بخلاف هذا.
وفي (المنتقى): إذا مات البائع والمشتري والسلعة قائمة، ثم زاد وارث الآخر شيئًا فهو جائز في قولهم جميعًا.
وفي أول بيوع (الجامع): إذا اشترى إبريق فضة بمائة دينار وتقابضا وتفرقا، ثم التقيا فزاد المشتري البائع في الثمن عشرة دنانير وصحت الزيادة بشرط قبض الزيادة في مجلس الزيادة؛ لأن الزيادة إذا صحت التحقت بأصل العقد بطريق الإسناد فتصير الزيادة بدل الصرف غير أن الإستناد لا يدخل في فعل العباد، والقبض من أفعال العباد فاعتبر في حق وجوب القبض حال ثبوت الزيادة، ولا يشترط قبض الإبريق للحال؛ لأنها مقابلة للحال تسمية.
وصورة إذا صحت التحقت بأصل العقد وتثبت المقابلة من وقت وجوب العقد معنى والمقابلة معنى أقوى من مقابلة صورة وقبض الإبريق وجد وقت العقد حقيقة فوقعت عن اشتراط قبضها وقت وجود المقابلة صورة، أما في حق الزيادة لا يمكن اعتبار القبض وقت المقابلة معنى فاعتبرناه وجود المقابلة صورة.

.نوع آخر يرجع إلى قسمة الزيادة في بعض المعقود عليه:

يجب أن يعلم أن الزيادة المتولدة من المبيع لا يزاحم المبيع في الزيادة المشروطة مادام المبيع قائمًا حتى كانت الزيادة المشروطة زيادة في المبيع دون الولد؛ لأن الولد تبع والتبع لا يستتبع غيره مادام الأصل باقيًا، وإذا صارت الزيادة المشروطة زيادة على المبيع فالثمن أولًا ينقسم على المبيع وعلى الزيادة المشروطة، ثم ما أصاب المبيع ينقسم عليه وعلى الولد مبيعًا، فإن المتولد من المبيع مبيع، ويكون الانقسام باعتبار القيمة.
ويعتبر قيمة الأصل يوم العقد وقيمة الزيادة المشروطة يوم الزيادة وقيمة الولد يوم قبض الولد، وهذا لما ذكرنا قبل هذا أن الثمن إنما يقابل بما هو مقصود بالعقد والمبيع صار مقصودًا بإيراد العقد عليه، والزيادة بالشرط والولد بالقبض الذي هو ملحق بالعقد فاعتبرنا في الانقسام قيمة المبيع يوم العقد وقيمة الزيادة يوم الشرط وقيمة الولد يوم القبض.
لهذا قال محمد رحمه الله: رجل اشترى من آخر جارية قيمتها ألف درهم بألف درهم فولدت الجارية قبل القبض ولدًا بقيمة ألف درهم، ثم إن البائع زاد المشتري غلامًا يساوي ألف درهم ورضي به المشتري، ثم ازدادت قيمة الولد فصارت ألفي درهم وجاء المشتري وقبضهم ونقد الألف ووجد بالولد عيبًا رده بثلث الألف، وإنما كان هكذا؛ لأن الثمن أولًا ينقسم على الجارية وعلى الزيادة نصفان اعتبار القيمة الجارية يوم العقد والقيمة الزيادة المشروطة يوم الزيادة، وجعلت الزيادة المشروطة زيادة على الجارية، ثم ما أصاب الجارية وذلك نصف الألف انقسم عليها وعلى الولد أثلاثًا وثلثاه بمقابلة الولد اعتبار القيمة الأم يوم العقد وهي الألف، ولقيمة الولد يوم القبض وهي ألفان وثلثا نصف الألف ثلث الألف، فإذا وجد بالعبد عيبًا رده بثلث الألف، وإن وجد بالأم عيبًا ردها بسدس الألف؛ لأن بمقابلتها ثلثا نصف الألف وثلث نصف الألف سدس الألف، وإن وجد بالزيادة عيبًا ردها بنصف الألف؛ لأن بمقابلتها نصف.
وكذلك لو لم تلد الجارية لكن كانت عينها بيضاء وقت العقد فذهب البياض عن عينها، ثم إن عبدًا معًا عيبها عند البائع فدفعه مولاه بالجناية إلى البائع، ثم زاد البائع المشتري يساوي ألف فهذا والأول سواء إذا قبضهم المشتري ينقسم الثمن على قيمة الجارية وقت العقد وعلى قيمة المدفوع بالعين يوم يقبضه المشتري، فإذا وجد بأحدهم عيبًا ردها بالحصة؛ لأنه لما انجلى البياض عن العين كان ذلك بمنزلة زيادة متصلة فلما برأت عن عيبها دفع بها صارت تلك الزيادة متصلة بمنزلة ولد ولدته فيكون العبد المدفوع تبعًا للجارية إنم يصير مقصودًا بالقبض فيعتبر في الانقسام قيمة وقت القبض.
وهذا بخلاف إتلاف البائع؛ لأن البائع بالإتلاف يصير مفوتًا القبض المستحق بحكم العقد مقصودًا بالفسخ وأن يصير مقصودًا بالفسخ إلا وأن يصير مقصودًا بالعقد ضرورة فلهذا يعتبر قيمته في تلك الحالة أما هاهنا البائع يقبض العبد بهذا القبض المستحق للمشتري ولا يفوت فلا يصير مقصودًا بالفسخ ليصير مقصودًا بالعقد ضرورة، فلهذا اعتبر قيمته في الانقسام يوم قبض المشتري.
وهذا الذي ذكرنا إذا كانت الجارية بيضاء إحدى العينين عند البيع فانجلى البياض عنها عند البائع، ثم جاء عبد وضرب عينها حتى عاد البياض فدفع به، فأما إذا كانت عيناها صحيحتين عند البيع وقيمتها ألف درهم وجاء عبد وضرب عينها عند البائع حتى انتصب فدفع مولاه إلى البائع.
ثم زاد المشتري عبدًا يساوي ألف درهم، ثم جاء المشتري وقبضهم فهنا لا يجعل المدفوع بمنزلة الولد بل يقسم الثمن أولًا على قيمة الجارية يوم العقد وعلى قيمة الزيادة نصفان، ثم (ما) أصاب الجارية ينقسم عليها وعلى العبد المدفوع نصفان قلت قيمة العبد أو كثرت بخلاف الفصل الأول، فإن هناك ما أصاب الجارية ينقسم على قيمتها يوم العقد وعلى قيمة العبد المدفوع يوم القبض.
والفرق: أن العبد المدفوع هناك قائم مقام ما هو أصل وهو العين إذ العين في هذه الصورة كانت أصلًا ولم تكن زيادة؛ لأنه اشتراها وهي صحيحة العينين فكان حكمه حكم نصف الجارية على أي قيمة كان إذا العين من الأدمي نصفه فيأخذ نصف ما أصاب الجارية من غير اعتبار القيمة، فأما في الفصل الأول العين كانت زيادة؛ لأنه اشتراها وهي بيضاء أحد العينين، ثم انجلى البياض عنها والعبد المدفوع بها قام مقامًا فصارت الزيادة المتصلة منفصلة فكان بمنزلة الولد، وفي انفساخ الثمن يعتبر قيمة الولد يوم القبض فكذا قيمة العبد المدفوع.
قال: ولو ولدت الجارية المبيعة قبل القبض ولدًا أو جاء عبد وضرب عينها التي كانت بيضاء وقت العقد وانجلى البياض عنها حتى عاد البياض بسبب ضربه ودفع العبد به، ثم ماتت الجارية بسبب آخر غير العين، ثم زاد البائع المشتري في المبيع دابة تساوي ألف درهم ورضي به المشتري صحت الزيادة؛ لأنها حصلت حال بقاء العقد؛ لأن الولد يقوم مقام الجارية حال فوات الجارية والعبد المدفوع في مثل هذه الصورة بمنزلة الولد فيبقي العقد ببقاء كل واحد منهما فصحت الزيادة.
وإذا قبض المشتري يقسم الثمن على قيمة الجارية يوم العقد وعلى قيمة الولد أو العبد المدفوع يوم قبض المشتري فحصة الجارية تسقط بهلاكها قبل القبض وحصة الولد أو العبد المدفوع يقسم عليه وعلى الزيادة يعتبر قيمته الزيادة يوم الزيادة وقيمة الولد أو العبد المدفوع يقسم عليه وعلى الزيادة يوم قبض المشتري وتعتبر الزيادة في هذه المسالة تابعة للولد أو العبد المدفوع؛ لأن الأصل متى، فإن قام الولد مقامه وصار أصلًا فاعتبرت الزيادة تبعًا للولد أو العبد المدفوع لهذا، فإذا بأحدهما عيبًا رده بحصته من الثمن.
فإن لم يقبض المشتري شيئًا من ذلك حتى هلكت الزيادة هلكت بحصتها ويتخير المشتري إن شاء أخذ الولد أو العبد المدفوع بحصته من الثمن وإن شاء ترك؛ لأن بهلاك الزيادة تعتبر على المشتري شرط عقده فلابد من التخير طلبًا لرضاه، وهذا الخيار غير الخيار والذي ثبت له بهلاك الجارية قبل القبض؛ لأن ذلك الخيار سقط حين رضي المشتري بالزيادة يكون رضاءً يلزم العقد وبسقوط الخيار فبطل ذلك الخيار وإنما هذا خيار وآخر يثبت بسبب هلاك الزيادة.
وإن هلك الولد أو العبد المدفوع قبل القبض وبقيت الزيادة فللبائع أن يمسك الزيادة عن المشتري؛ لأن الولد أو العبد المدفوع إذا هلك قبل القبض صار كأن لم يكن؛ لأنه ظهر أنه لم يكن، بمقابلته شيء من الثمن وإن الأم حين هلكت بجميع الثمن فانفسخ العقد كله بهلاك الأم، وإن الزيادة حصلت بعد انفساخ العقد فلم تصح الزيادة فكان للبائع أن يمسك الزيادة لهذا.
وإنما قلنا: أن بهلاك الولد قبل القبض يظهر أنه لم يكن بمقابلته شيء من الثمن؛ لأن الولد وإن صار مبيعًا إلا أنه إنما يأخذ قسطًا من الثمن إذا صار مقصودًا وإنما يصير مقصودًا إذا ورد عليه القبض إلا أن الظاهر لما كان إلى وقت القبض كان الظاهر صيرورته مقصودًا والأحكام مبنية على الظاهر فجعلنا للولد حصة من الثمن للحال بحكم الظاهر وأبقينا العقد ببقائه وصححنا الزيادة تبعًا له ولكن بشرط بقائه إلى وقت القبض، فإذا هلك الولد قبل القبض فات الشرط وظهر بخلاف ذلك الظاهر، وظهر أنه لم يكن بمقابلته شيء من الثمن.
وإذا اشترى عبدين قيمة أحدهما ألف درهم وقيمة الآخر خمسمائة درهم بألف درهم، فصارت قيمة التي كانت خمسمائة ألف درهم أيضًا، ثم زاد المشتري في الثمن شيئًا تصح الزيادة وتنقسم الزيادة عليهما أثلاثًا اعتبارًا لقيمتهما يوم البيع على ما مر، ومعنى آخر أن الزيادة للحال بل المبيع صورة لا معنى، ثم إذا صحت الزيادة والتحقت بأصل العقد تتحقق المقابلة بين الزيادة وبين المبيع معنى والانقسام حكم المعاني لا حكم الصور فيجب اعتبار حالة المقابلة المعنوية وهي حالة العقد، وفي تلك الحالة قيمة أحدهما ضعف قيمة الآخر فلا يتغير الانقسام بعد ذلك بتغير القيمة، فإن وجد المشتري بأحد العبدين عيبًا رده بحصته من المثمن الأصل والزيادة، وإن مات أحدهما، ثم زاد المشتري في الثمن صحت الزيادة في حق القائم دون الهالك، حتى لو كان القائم هو الذي قيمته ألف صح ثلثاها، وإن كان القائم هو الآخر صح ثلثها.
وكان ينبغي أن لا تصح الزيادة أصلًا؛ لأنه جمع بين الحي وبين الميت في حق الزيادة، ولو جمع بين الحي وبين الميت في حق ابتداء العقد لا يصح العقد أيضًا فكذا في حق الزيادة.
وللوجه في هذا أن يقال: إن الجمع بينهما إنما يمنع ابتداء العقد بجهالة الثمن إن لم يكن الثمن مفصلًا عند الكل، والشرط الفاسد عند أبي حنيفة إن كان الثمن منفصلًا؛ لأنه جعل قبول العقد في الهالك شرطًا للعقد في القائم على ما عرف في موضعه، وكلا المعنيين لا يوجدان هاهنا.
أما الجهالة؛ لأن الجهالة إنما تقع من قبل الانقسام من حكم المقابلة معنى لا صورة، والمقابلة من حيث المعنى إنما تثبت عند العقد فعند ذلك يثبت الانقسام، وفي الحالة لا جهالة فيصير بمنزلة موت أحدهما بعد الزيادة.
وأما المعنى الآخر؛ لأن الزيادة إنما تثبت بطريق الاستثناء، وكل مستند ظاهر من وجه مقتصر من وجه ولافساد باعتبار الظهور إنما الفساد باعتبار الاقتصار فكان الفساد في حصة الهالك ثابتًا من وجه دون وجه فلا تثبت حصة الهالك ولكن لا يتعدى ذلك إلى حصة القائم، ولا يصير شرطًا فاسدًا في حق حصة القائم وكان ينبغي أن يصرف كل الزيادة إلى القائم عند أبي حنيفة.
كما إذا تزوج امرأتين إحداهما لا تحل له على ألف درهم يصرف الألف كله إلى التي تحل له عند أبي حنيفة. والجواب: أن الانقسام حكم صحة الإيجاب وهناك الإيجاب لم يصح في حق الحرمة أصلًا، أما هاهنا الهالك داخل باعتبار شبه الظهور والتقسيم حكم شبه الظهور فصار كما لو مات أحدهما بعد الزيادة، وكذلك لو أعتق أو دبر أو كانت أمة فاستولدها أو باع أحدهما فهذا وما لو مات أحدهما سواء.
وفي (المنتقى): رجل اشترى عبدين صفقة واحدة بألف درهم وتقابضا أو لم يتقابضا حتى زاد المشتري مائة في ثمن أحد العبدين بعينه، أو قال: في ثمن أحدهما ولم يعين قال: لا تجوز الزيادة.
ثم قال: وإن كان لكل واحد منهما ثمن على حدة وزاد في ثمن أحدهما لا بعينه جاز، وجعل القول قول المشتري في إضافة الزيادة إلى أحد الثمنين.
وذكر في موضع آخر من هذا الكتاب: إذا اشترى عبدين صفقة واحدة بألف درهم، ثم زاد المشتري مائة في ثمن أحد العبدين بعينه.
وقال القياس: أن تجوز الزيادة ويقسم الثمن على العبدين، ثم تدخل الزيادة في حصة العبد الذي زيدت فيه، وكذلك إذا زاد جارية في ثمن أحدهما بغير عيبه جاز وكان للمشتري أن يضيفها إلى أيهما شاء وكذلك إذا زاد عرضها.

.نوع آخر في الحط والإبراء عن الثمن وفي هبة الثمن من المشتري:

حط الثمن صحيح ويلتحق بأصل العقد عندنا كالزيادة، غير أن بين الحط والزيادة فرق من وجهين:
أحدهما: أن الحط صحيح سواء بقي المبيع محلًا للمقابلة أو لم يبق، بخلاف الزيادة على الرواية؛ لأن الحط إخراج ما تناوله وله الحط من أن يكون ثمنًا للحال وتستند إلى حال كمال العدم يشترط له قيام الثمن لا قيام البيع، فأما الزيادة فإثبات صورة المقابلة للحال وتستند إلى حال كمال الثبوت فيشترط لها قيام المبيع بشرط أن يكون محلًا للمقابلة.
الثاني: إن من اشترى عبدين صفقة واحدة بألف درهم، فحط عنه المشتري مائة كان الحط نصفين، ولو زاد المشتري في هذه الصورة مائة يقسم الزيادة على قدر قيمتها.
والفرق: أن الحط يكون من الثمن ولا تعلق له بالمبيع، فإذا قال: حططت عن ثمنها مائة، فقد أدخلهما في الحط على السواء، فانقسم الحط عليهما نصفان بخلاف الزيادة في الثمن؛ لأنهما تقابل المبيعين، وقد قابلهما بهما، والمقابلة تقتضي الانقسام على المبيعين باعتبار القيمة، وإذا وهب بعض الثمن من المشتري قبل القبض أو أبرأه عن بعض الثمن قبل القبض فهو حط أيضًا.
وإن كان البائع قد قبض الثمن، ثم حط البعض أو وهب البعض بأن قال: وهبت منك بعض الثمن صح ووجب على البائع رد مثل ذلك على المشتري.
ولو قال: أبرأتك عن بعض الثمن بعد القبض لا يصح الإبراء، وكان يجب أن لا تصح الهبة والحط بعد القبض أيضًا كالإبراء؛ لأن المشتري قد برئ عن الثمن بالإبقاء، فالحط أو الهبة لم تصادف دينًا قائمًا في ذمة المشتري، فينبغي أن لا يصح كالإبراء.
والجواب: أن الدين باق في ذمة المشتري بعد القضاء؛ لأنه لم يقض عين الواجب حتى لا يبقى في الذمة إنما قضى مثله فيبقى ما في ذمته على حاله، إلا أن المشتري لا يطالب به؛ لأن له مثل ذلك على البائع بالقضاء، فلو طالب البائع المشتري بالثمن كان للمشتري أن يطالب البائع أيضًا، فلا يفيد مطالبة كل واحد منهما صاحبه.
فعلم أن الثمن باق في ذمة المشتري بعد القضاء بالهبة والحط كل واحد منهما صادف دينًا قائمًا في ذمة المشتري كان ينبغي أن يصح الإبراء أيضًا، إلا أنه لم يصح؛ لأن الإبراء نوعان:
إبراء بالإستيفاء وإبراء بإسقاط الواجب، ولهذا يقال: أبرأه براءة قبض واستيفاء كما يقال: أبرأه براءة اسقاط، فإذا أطلق البراءة إطلاقًا انصرفت إلى البراءة من حيث القبض؛ لأنه أقل، وإذا انصرف إليه صار كأنه قال: أبرأتك براءة قبض واستيفاء ولو نص على هذا لا يسقط الواجب عن ذمة المشتري، ولا يجب على البائع رد ما قبض كذا هاهنا.
فأما الهبة والحط لا يتنوع إلى نوعين: هبة إسقاط وهبة قبض، حط إسقاط وحط قبض، وإنما هو نوع واحد وهو هبة إسقاط، وإذا كان نوعًا واحدًا وهو الإسقاط صار كأنه نص عليه، وقال: حططت عنك حط إسقاط، وهبت منك هبة إسقاط، ولو نص على ذلك يسقط الواجب عن ذمة المشتري ويبرأ المشتري مما عليه كذا هاهنا، وإذا برئ المشتري مما عليه في هذه الصورة كان له أن يطالب البائع بما وجب له على البائع بالقضاء؛ لأن المطالبة الآن تفيد، فهذا هو الفرق بين الهبة والحط وبين الإبراء.
زان مسألة الحط والهبة أن لو قال البائع للمشتري بعد قبض الثمن: أبرأتك براءة إسقاط، وهناك يصح الإبراء أيضًا، ويجب على البائع رد ما قبض من المشتري. وأما إذا حط كل الثمن أو وهب كل الثمن أو أبرأه عن كل الثمن، فإن كان ذلك قبل قبض الثمن صح الكل، ولكن لا يلتحق بأصل العقد، وإن كان بعد قبض الثمن صح الحط والثمن، ولم يصح الإبراء لما ذكرنا.
هذا جملة ما أورده شيخ الإسلام في شرح كتاب الشفعة وفي شرح كتاب الرهن، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه في الباب الثاني من شرح كتاب الرهن: أن الإبراء المضاف إلى الثمن بعد الاستيفاء صحيح حتى يجب على البائع رد ماقبض من المشتري، وسوى بين الابراء وبين الهبة والحط فيتأمل عند الفتوى.

.الفصل الثاني عشر: في البيع بشرط الخيار:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.نوع منه في بيان ما يصح منه وما لايصح:

يجب أن يعلم بأن الخيار المشروط في العقد لايخلو إما أن يكون مؤبدًا بأن يقول المشروط له الخيار على أني بالخيار أبدًا، وفي هذا الوجه العقد فاسد؛ لأن الأبد ينصرف إلى العمر ويصير تقدير المسألة كأنه قال: إني بالخيار مدة عمري، ولو صرح بذلك يفسد العقد بجهالة المدة كذا هاهنا.
وكذلك إذا قال: على أني بالخيار، ولم يوقت لذلك وقتًا كان العقد فاسدًا؛ لأن المطلق فيما يحتمل التأبيد ينصرف إلى الأبد، فكأنه قال: على أني بالخيار أبدًا، وكذلك إذا قال: على أني بالخيار أيامًا ولم يبين مقدار ذلك فالعقد فاسد.
وإن ذكر لذلك وقتًا معلومًا قال: ثلاثة أيام أو دون ذلك، فالعقد جائز بالاتفاق، وإن قال: أربعة أيام أو ما أشبه ذلك، فعلى قول أبي حنيفة العقد فاسد، وهو قول زفر، وقال أبو يوسف ومحمد: العقد جائز.
والصحيح ما قاله أبو حنيفة؛ لأن القياس يأبى جواز البيع مع شرط الخيار؛ لأنه شرط لايقتضيه العقد، ولأحد العاقدين فيه منفعة لكن عرفنا جوازه بالنص، وهو قوله عليه السلام لحبان بن منقذ: «إذا بايعت»، وفي رواية: «إذا ابتعت شيئًا فقل لا خلابة، ولي الخيار ثلاثة أيام» فبقي مازاد على الأيام الثلاثة على أصل القياس، والنص الوارد في ثلاثة أيام لايكون واردًا فيما زاد عليهما؛ لأن منع حكم العقد فيما زاد على ثلاثة أيام أكثر، والشيء يدل على مثله ولا يدل على مافوقه، والاستدلال بالأجل لا يجوز؛ لأن الأجل أخف في منع حكم العقد من خيار الشرط؛ لأن الأجل يمنع المطالبة ولا يمنع وقوع الملك في البدلين، وخيار الشرط يمنع وقوع الملك والمطالبة، فإن سقط الخيار قبل دخول اليوم.
.. الرابع ارتفع الفساد.
وهو نظير البيع إلى الحصاد والدياس إذا سقط الأجل قبل دخول وقت الحصاد والدياس، وإذا لم يكن الخيار مؤقتًا بوقت فلصاحب الخيار أن يختار في الثلاث، فإن مضت الثلاث قبل أن يختار البيع، فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز اختياره بعد الثلاث، وينقلب العقد جائزًا، هكذا ذكر في (الأصل).
قال شمس الأئمة الحلواني: إنما ينقلب جائزًا عندهما، وفي (القدوري): إذا سقط الخيار في أي وقت أسقطا، فالبيع جائز على قولهما.
وروي عن أبي يوسف: أن هذا البيع جائز؛ لأن الخيار ملائم بالعقد، فصح شرطه من غير توقيت كخيار الرؤية، وخيار العيب، إلا أنه يقول على هذه الرواية يخير من له الخيار على أن يمضي البيع أو يفسخ، وروي عنه رواية أخرى أنه قال: إذا اجتمعا فإن أجاز البيع وإلا فسخت، وعنه رواية أخرى: أنه إذا لم يكن للخيار مدة، فلكل واحد منهما إبطال العقد.
وقال محمد: إذا كان الخيار للمشتري غير مؤقت، فليس للبائع فسخ العقد وإنما ذلك إلى المشتري.
وفي (القدوري): ولو كان الخيار إلى قدوم فلان أو موته أو إلى أن يهب الريح، فأبطلا الخيار لم يجز البيع في قول أبي يوسف.
وفي (نوادر ابن سماعة): عن محمد باع من آخر عبدًا أو ثوبًا أو ما أشبه ذلك على أن المشتري فيه بالخيار ثلاثة أيام بعد ما مضى شهر رمضان، قال: هذا جائز وله الخيار في رمضان كله وثلاثة أيام بعده، وكذلك لو شرط الخيار للبائع ولو كان البائع قال للمشتري: لا خيار لك في شهر رمضان، ولكن الخيار بعد ذلك ثلاثة أيام، أو قال المشتري للبائع: لا خيار لك في شهر رمضان ولكن الخيار بعده ثلاثة أيام فالبيع فاسد.
وفي (الفتاوى): إذا شرط للمشتري خيار يومين بعد شهر رمضان والشراء في آخر رمضان، فالشراء جائز وله الخيار ثلاثة أيام، اليوم الآخر من شهر رمضان ويومين بعده؛ لأنه سكت عن الخيار وقت العقد، فيمكن تصحيح هذا العقد باشتراط الخيار وقت العقد ويومين بعد رمضان، ولو قال: لاخيار له في رمضان فالبيع فاسد؛ لأنه تعذر تصحيح هذا العقد.
وعن أبي يوسف: أنه إذا باع بيعًا وشرط الخيار لنفسه يومًا بعد سنة، فالبيع جائز ولا خيار له في السنة، فإذا مضت السنة فله الخيار يومًا.
وإذا باع من آخر ثوبًا بعشرة دراهم ثم إن البائع قال للمشتري: لي عليك الثوب أو عشرة دراهم، قال محمد رحمه الله: هذا عندنا خيار، وإذا باع على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما، فالبيع جائز والشرط جائز، هكذا ذكر محمد رحمه المسألة في (الأصل)، واعلم بأن هذه المسألة على وجوه:
إما إن لم يبين الوقت أصلًا بأن قال: على أنك لم تنقد الثمن فلا تبيع بيننا أو بين وقتًا مجهولًا بأن قال: على أنك إن لم تنقد الثمن أيامًا في هذين الوجهين العقد فاسد، وإن بين وقتًا معلومًا إن كان ذلك الوقت مقدرًا بثلاثة أيام أو دون ذلك، فالعقد جائز عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، والقياس يأبى جواز العقد مع هذا الشرط، وبه أخذ زفر؛ لأنه شرط لايقتضيه البيع، فإنه شرط الفسخ متى لم ينقد الثمن ثلاثة أيام وفيه منفعة للبائع، فإن المبيع يعود إلى ملكه متى لم ينقد المشتري الثمن ثلاثة أيام.
لكن ترك القياس فيما إذا كان الوقت مقدرًا بثلاثة أيام بحديث عبد الله بن عمر، فإنه روي أنه لو باع بأمة له من رجل على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، والمروي عن الصحابة فيما لايعرف قياسًا كالمروي عن النبي عليه السلام، ولأن هذا شرط متعامل فيما بين الناس يشترطون ذلك فيما بينهم لدفع العين عن أنفسهم متى لم ينقد المشتري الثمن، والقياس يترك بالتعامل.
وإن ترك المدة أكثر من ثلاثة أيام قال أبو حنيفة: البيع فاسد، وقال محمد: البيع جائز. قال شيخ الإسلام: سوى أبو حنيفة بين هذا وبين خيار الشرط، فلم يجوّز أكثر (من) ثلاثة أيام فيهما، ومحمد سوى بينهما أيضًا، فجوز فيهما أكثر من ثلاثة أيام، ولم يذكر محمد قول أبي يوسف.
يقول في رجل قال لآخر: بعتك عبدي هذا بألف درهم فإن لم تأتي بالثمن إلى سنة، فلا شيء بيني وبينك، قال: هذا فاسد وليس هذا بمنزلة الخيار، قال: على هذه الرواية لو نقد المشتري الثمن في الثلاث، وقال للبائع: خذه فلا أريد تأخيره، فإني أجبره، فهذه الرواية دليل أن أبا يوسف في هذه الصورة جوز البيع بهذا الشرط.
والفرق له على هذه الرواية بين هذا الشرط وبين شرط الخيار أن القياس يأبى الجواز مع هذا الشرط ومع شرط الخيار، وإنما تركنا القياس في الوضعين بالنص، والنص مقيد بثلاثة أيام، وفي شرط الخيار ورد النص بالزيادة على ثلاثة أيام.
وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه رجع عن قوله بفساد البيع مع هذا الشرط أكثر من ثلاثة أيام.
والحاصل أن هذا البيع بمنزلة البيع بشرط الخيار للمشتري، فإذا بين المدة أكثر من ثلاثة أيام. فالعقد فاسد عند أبي حنيفة ويرتفع الفساد بالنقد قبل مضي اليوم الثالث على ما ذهب إليه أهل العراق، وعلى ما ذهب إليه أهل خراسان: العقد موقوف، فإذا مضى اليوم الثالث ولم ينقد الثمن الآن يفسد العقد.
وإذا باع عبدًا ونقد الثمن على أن البائع إن رد الثمن فلا بيع بينهما فهو جائز، وهو بمنزلة البيع بشرط الخيار للبائع، ويجوز شرط الخيار بعد البيع كما يجوز شرطه وقت البيع حتى إن المشتري إذا قال للبائع أو البائع قال للمشتري بعد تمام البيع: جعلتك بالخيار ثلاثة أيام أوما أشبه ذلك صح، وكان بالخيار كما شرط له وإن (كان) الخيار فاسدًا فسد العقد به عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لايفسد، وهو نظير ما إذا ألحق شيء من الشروط الفاسدة بالعقد الصحيح.
ومن باع من آخر شيئًا وقبض المشتري المبيع ومضى أيام، فقال البائع للمشتري: أنت بالخيار فله الخيار مادام في المجلس؛ لأن هذا بمنزلة قوله: لك الإقالة، ولو قال: أنت بالخيار ثلاثة أيام فله الخيار ثلاثة أيام كما بينا في (الفتاوى).
وإذا اشترى الرجل شيئًا على أنه بالخيار إلى الغد أو إلى الظهر دخلت في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد لايدخل حتى كان له الخيار في الغد والليل، وفي وقت الظهر عند أبي حنيفة خلافًا لهما هكذا ذكر المسألة في (الأصل).
وذكر الحسن بن زياد في (المجرد) عن أبي حنيفة بخلاف ماذكر في (الأصل) فقال: إذا باع على أنه بالخيار إلى الليل، فله الخيار مابينه وبين أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس بطل خياره عند أبي حنيفة.
إذا قال للمشتري: خذه وانظر إليه اليوم فإن رضيته أخذته بعشرة فهو خيار، إذا قال: هو بيع لك إن شئت اليوم.
وفي (الفتاوى): باع عبدًا على أنه بالخيار على أن له نقله ويستخدمه جاز وهو على خياره بخلاف ما لو باع كرمًا على أن يأكل من تمره حيث لايجوز؛ لأن المنفعة لا حصة لها من الثمن وللتمر حصة من الثمن.

.نوع آخر في بيان عمل الخيار وحكمه:

إذا كان الخيار مشروطًا للبائع، فالمبيع لايخرج عن ملكه بالاتفاق؛ لأن الخيار استثناء لحكم العقد؛ لأنه دخل على العقد فأوجب تعليقه ونفس العقد لايقبل التعليق وحكمه وهو الملك يقبل، فتخير في هذا الحكم بين أن يثبت وبين أن لايثبت كما تخير في الابتداء بين أن يباشر العقد وبين أن لا يباشر، فكان هذا هو الخبر الأصلية، والثمن يخرج عن ملك المشتري باتفاق؛ لأن المانع من عمل العقد شرط الخيار، ولا شرط في جانب المشتري وعمل العقد في جانبه في إزالة الثمن عن ملكه، فلهذا قلنا: إن الثمن يزول عن ملك المشتري.
وهل يدخل في ملك البائع؟ على قول أبي حنيفة: لا يدخل، وعلى قولهما: يدخل إذا كان الخيار للمشتري، فالثمن لايزول عن ملكه. والمبيع يخرج عن ملك البائع بالاتفاق على نحو ما ذكرنا في خيار البائع.
وهل يدخل المبيع في ملك المشتري؟ على قول أبي حنيفة: لا يدخل، على قولهما: يدخل.
وجه قولهما: أن المانع من عمل العقد شرط الخيار ولا شرط في جانب البائع، فيعمل في جانبه وعمل العقد في جانبه في إزالة المبيع عن ملكه إلى ملك المشتري، ولأبي حنيفة أن الشراء كما هو علة زوال الثمن عن ملك المشتري، فهو شرط دخول المبيع في ملكه، ولهذا توقف دخول المبيع في ملك المخاطب على قبوله، والخيار دخل على الشراء مطلقًا، فكان يمنع عمله من حيث إنه علة يمتنع ومن حيث إنه شرط.
ويبنى على هذا الأصل المختلف مسائل منها:
إن من اشترى زوجته على أنه بالخيار ثلاثة أيام لم يفسد النكاح عند أبي حنيفة، وعندهما يفسد، فإذا وطئها فله أن يردها بحكم الخيار عند أبي حنيفة، وعندهما ليس له ذلك.
ووجه البيان: أن خيار المشتري لما منع دخول المبيع في ملكه عنده، فالمشتري لم يملك زوجته عنده، فلا يفسد النكاح ويكون الوطء حاصلًا بحكم ملك النكاح لا بملك اليمين، فيضاف إلى البائع فلا يمنع الرد، عندهما: خيار المشتري لما لم يمنع دخول المبيع في ملك المشتري ملك المشتري امرأته فيفسد النكاح، وكان الوطء حاصلًا بحكم ملك اليمين فيمنع الرد.
منها: أن المشترى بشرط الخيار إذا كان ذو رحم محرم منه لم يعتق عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه لم يملكه وخياره على حاله، وعندهما: يعتق وبطل خياره.
ومنها: أن المشترى إذا كانت جارية وقبضها المشتري فحاضت في يد المشتري في مدة الخيار بعض الحيض، وأجاز المشتري العقد لا تجزئ تلك الحيضة عند أبي حنيفة؛ لأن بعضها حصلت خارج ملك المشتري.
وعندهما: تجزئ تلك الحيضة، وإذا فسخ المشتري العقد ورد الجارية على البائع لايجب على البائع الاستبراء عند أبي حنيفة سواء جعل الفسخ والرد قبل القبض أو بعده، وعندهما: إن كان الفسخ والرد قبل القبض لا يجب على البائع الاستبراء استحسانًا.
والقياس: أن يجب، وإن كان الفسخ والرد بعد القبض يجب على البائع الاستبراء قياسًا واستحسانًا بمنزلة العقد البات.
ومنها: أن المشتري إذا كان قبض المبيع بإذن البائع، ثم أودعه عند البائع في مدة الخيار أو بعدها هلك على البائع وبطل البيع عند أبي حنيفة؛ لأن عنده المشتري لم يملكه وقد ارتفع قبضه بالرد على البائع، فكان الهلاك على ملك البائع.
وعندهما: يهلك على المشتري، ويلزمه الثمن؛ لأن عندهما ملكه المشتري، فصار مودعًا ملك نفسه، ويد المودع يد المودع فصار هلاكه في (يد) البائع كهلاكه في يد المشتري.
ومنها: عبد مأذون له في التجارة اشترى من آخر سلعة على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ثم إن البائع أبرأه عن الثمن صح الإبراء استحسانًا وخياره على حاله عند أبي حنيفة إن شاء أجاز وتكون السلعة له بغير ثمن، وإن شاء فسخ وأعاد السلعة إلى البائع بغير ثمن.
عندهما: بطل خياره؛ لأن عند أبي حنيفة رحمه الله: العبد لم يملك السلعة، فيكون الرد والفسخ امتناعًا من التملك، والعبد يملك ذلك كما إذا أوهب له هبة، فامتنع عن القبول، وعندهما يملك السلعة، فالرد والفسخ من العبد يكون تمليكًا من البائع بغير بدل وانه اصطناع بالمعروف، والعبد لايملك ذلك.
ومنها: إذا باع عبد الجارية وشرط الخيار لبائع العبد فأعتق مشتري العبد الجارية أو العبد لاينفذ عتقه، أما في الجارية؛ لأنها خرجت عن ملكه، وأما في العبد؛ لأنه لم يملكه، ولو أعتق بائع العبد نفذ عتقه؛ لأنه بقي على ملكه أو ينقض البيع، ولو أعتق الجارية نفذ العتق ولزم البيع؛ لأنه لم يملك الجارية عند أبي حنيفة فهو.... من إثبات الملك لنفسه فيها بإسقاط الخيار، فيضمن الإعتاق إسقاطًا للخيار.
ولو أعتقهما معًا يعني بائع العبد نفذ عتقه فيهما وانتقض البيع وعليه قيمة الجارية في قول أبي حنيفة؛ لأن العبد بقي على ملكه، فينفذ عتقه فيه وحال ما أعتق العبد كان... من اعتاق الجارية بإلزام العقد فنفذ العتق فيهما لكن بدل الجارية قد هلك قبل التسليم، فأوجب ذلك فسخًا للعقد في الجارية فوجب ردها وقد عجز عن ذلك بسبب العتق فيضمن قيمتها.
قال بشر: سمعت أبا يوسف يقول: رجل اشترى عبدًا على أنه بالخيار لم أجبر البائع على دفع العبد إلى المشتري ولا أجبر المشتري على دفع الثمن إليه، ولو دفع المشتري الثمن أجبرت البائع على دفع العبد إليه.
ولو دفع العبد إلى المشتري أجبرت المشتري على دفع الثمن وله الخيار للبائع ونقد المشتري الثمن وأراد أن يقبض العبد فمنعه البائع، فله ذلك غير أن يجبر البائع على رد الثمن.
قال أصحابنا: خيار الشرط يمنع تمام الصفقة؛ لأنه يمنع ثبوت الحكم وهو الملك ويمنع اللزوم، فكان مانعًا تمام الصفقة؛ لأن تمامها بثبوت جميع أحكامها، فإذا كان الخيار للمشتري والمبيع شيء واحد أو أشياء لم يكن له أن يجيز العقد في البعض دون البعض مقبوضًا أو لم يكن؛ لأنه تفريق الصفقة قبل التمام وإنه لا يجوز بخلاف ما بعد التمام حيث يجوز التفريق.
والفرق: أن في الحالين يوجد ضرران؛ ضرر البائع وضرر المشتري، فيجب دفع الأقوى يتحمل الأدنى عند تعذر دفعهما، وقبل التمام إما يلحق البائع من الضرر بتفريق الصفقة أقوى مما يلحق المشتري بعدم التفريق؛ لأنه ضرر مالي؛ لأن ضم الرديء إلى الجيد لترويج الكل بالثمن الجيد معتاد فيما بين الناس، فلو جاز التفريق فالمشتري يأخذ الجيد ويرد الرديء، ويتعذر على البائع ترويج الرديء بعد ذلك بثمن الجيد، فيلحق البائع ضرر مالي من هذا الوجه.
أما ما يلحق المشتري من الضرر بعدم صحة التفريق قبل التمام ليس بضرر مالي بل فيه ضرر بطلان قوله حيث لايصح قبوله العقد في البعض، أو لا يصح رده البعض وإنه مجرد قوله، فإبطال مجرد القول في ضرر دون إبطال المال، فأما بعد تمام الصفقة.
أما يلحق المشتري من الضرر برد الكل أكثر مما يلحق البائع برد البعض؛ لأن برد الكل يبطل حق المشتري عن التسليم من غير رضاه، وإنه ضرر مالي، وإن كان بعوض. وما يلحق البائع برد البعض موهوم، فإنه عسى يتهيأ له بيع المعيب بثمن السليم، فكان ضرر المشتري أكثر في هذه الصورة، فهذا هو الفرق بين الصورتين.
ولو كان الخيار للبائع والمبيع مقبوض فهلك بعضه فللبائع أن يجيز البيع في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: إذا كان المبيع مما يتفاوت فهلك واحد منه أو تبعض البيع وليس للبائع أن يجيز الباقي وإن كان مكيلًا أو موزونًا أو معدودًا غير متفاوت، فهلك بعضه للبائع أن يلزمه البيع فيما بقي.
وجه قول محمد: أن خيار البائع لما منع زوال ملك البائع كانت الإجازة بمعنى ابتداء التمليك، ولما كان هكذا يتعذر إثباتها في الهالك لعدم المحل كان إجازة المالك بيع الفضولي بعد هلاك المبيع وتعذر إثباتها في القائم إذا كان شيئًا متفاوتًا؛ لأنه حينئذٍ يكون تمليكًا للقائم بحصة من الثمن، وإنه مجهول بخلاف ما إذا كان شيئًا يتفاوت؛ لأن حصته من الثمن معلوم، فأمكن اعتبار الإجازة في الباقي.
ولهما: أن علة الملك وهي التمليك وهو المالك إلا أن حكم العلة صار مستثنى بالخيار، فإذا سقطت الخيار بالإجازة التحق الحكم من الابتداء من كل وجه ولما كان المتفاوت وغير المتفاوت سواء وما قال بأن الإجازة بمعنى ابتداء التمليك فاسد؛ لأن الحكم لايتوقف على وجود الإجازة، فإنه يثبت بدونها بمضي المدة.
وكذلك بموت من له الخيار. ولو كان لها حكم ابتداء التمليك لما ثبت بدونها بخلاف الإجازة في الفضولي؛ لأنها بمعنى ابتداء التمليك، ولهذا توقف ثبوت الحكم وجوبًا؛ وهذا لأن الإجازة في بيع الفضولي معملة للعلة وهي التمليك لصدورها من غير المالك والعمل للعلة يعطي له حكم العلة فاعتبرنا قيام المحل.
أما هاهنا الإجازة ليس لها حكم الإعمال للعلة لما ذكرنا أن العلة صدرت من المالك إلا أن حكمها صار مستثنى بالخيار فإذا سقط الخيار ثبت الحكم من الابتداء من كل وجه فلم تكن الإجازة في معنى ابتداء التمليك أصلًا، فلا يعتبر قيام المحل عند الإجازة.
ولو استهلك مستهلك المبيع في يد المشتري فللبائع أن يلزمه ويأخذ الثمن في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال أبو يوسف بعد ذلك: ليس للبائع أن يلزمه إلا برضى المشتري؛ لأن المبيع قد تغير قبل ثبوت الحكم، فيثبت الخيار للمشتري كما في البيع البات قبل القبض بل أولى؛ لأن هناك يثبت ملك الرقبة إن لم يثبت ملك التصرف لم يثبت الملك أصلًا.
وأبو حنيفة رحمه الله مر على الأصل الذي قلنا: إن الحكم عند الإجازة لما كان يثبت من وقت العقد من كل وجه كما لو كان باتًا من الأصل واستهلك.... المشتري في يد المشتري وهناك لايثبت الخيار للمشتري فهاهنا كذلك، ولو هلك أحد العبدين في يد البائع لم يكن له أن يلزم المشتري العبد الباقي إلا برضاه؛ لأن فيه تفريق الصفقة على المشتري قبل التمام وصار كما لو كان العقد باتًا من الأصل.

.نوع آخر في بيان ما ينفذ به هذا البيع، وفي بيان ما ينفسخ به هذا البيع:

فنقول: شرط الخيار إذا كان البائع منفوذ العقد بمعانى:
أحدها: أن يجيز البيع صريحًا سواء كان المشتري حاضرًا أو غائبًا.
الثاني: أن يموت البائع في مدة الخيار؛ لأنه يعجز عن التصرف بحكم الخيار في آخر جزء من أجزاء حياته فيسقط خياره ضرورة.
والثالث: أن تمضي مدة الخيار من غير فسخ من جهته؛ لأن بمضي مدة الخيار يسقط الخيار وهو المانع من نفوذ العقد.
وكذلك إذا أغمي عليه أو جن حتى مضت الأيام الثلاثة.
ولو أنه أفاق في مدة الخيار حكي عن الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي (أنه) على خياره، وذكر شمس الأئمة الحلواني: أنه على خياره. قال رحمه الله: وهو منصوص وهو الأصح.
وإن سكر من الخمر لم يبطل خياره؛ لأنه عد غافلًا كما في الطلاق، وإن سكر من البيع يبطل خياره حتى لو زال السكر من البنج في المدة ليس له أن يتصرف بحكم الخيار هكذا حكى عن الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي، والصحيح أنه لايبطل.
وإن ارتد وعاد إلى الإسلام في المدة فهو على خياره إجماعًا، وإن مات أو قتل على الردة بطل خياره إجماعًا، وإن تصرف بحكم الخيار بعدها توقف تصرفه عند أبي حنيفة ونفذ عندهما، وفسخه بأحد أمرين، أما بالقول أو بالفعل، أما بالقول فسخت فبعد ذلك ينظر إن كان المشتري حاضرًا يصح الفسخ ولا يحتاج فيه إلى قضاء أو رضا، وإن كان غائبًا لا يصح الفسخ، ويكون موقوفًا عند أبي حنيفة ومحمد خلافًا لأبي يوسف.
والمراد من الحضرة المذكورة في هذه المسألة العلم بالفسخ في مدة الخيار حتى إن المشتري لو علم بالفسخ صح الفسخ وإن لم يكن حاضرًا، وإن علم بعد مضي المدة تم البيع؛ لأن تمام المدة دلالة لزوم البيع، فإذا اعترض في حال توقف الفسخ.
فوجه قول أبي يوسف: أن صاحب الخيار تصرف برضا صاحبه فلا يشترط علم صاحبه كالوكيل بالبيع، فإنه لا يشترط علم الموكل لصحة البيع لما قلنا كذا هنا.
بيانه: أن ولاية النقض بحكم شرط الخيار، وصاحبه شاركه في شرط الخيار، وعن أبي يوسف رواية أخرى في (النوادر) مثل قولهما: إن صاحب الخيار بالفسخ يلزم حكمًا مبتدأً على صاحبه، ولصاحبه فيه ضرر إذا لم يعلم به، ونعني بهذا الفسخ فسخ العقد، فإن العقد ثابت في حق الحكم ففسخه ورفعه يكون حكمًا مبتدأً.
وإنما قلنا لصاحبه فيه ضرر إذا لم يعلم به؛ لأنه تبنى على هذا أحكام يلزمه أداؤها، فإذا كان لا يشعر بها يمضي على موجب العقد ولا يؤدي تلك الأحكام، فيؤاخذ بسبب تركها، وهذا الضرر إنما جاء من ناحية الفسخ بلا علم، فيكون هذا إضرارًا منه لصاحبه، فوجب أن لا يرد من غير علم صاحبه دفعًا للضرر عن صاحبه، ألا ترى أن من له خيار العيب إذا أراد الرد... العبد إلى ملك البائع ويبني على الملك أحكام يجب آداؤها، فإذا كان لايعلم به لايؤدي فيؤاخذ بترك الأداء، فلم يصح من غير علمه دفعًا للضرر عنه، ولا يلزم على ماقلنا الإجازة؛ لأنه لا ضرر على صاحبه في الإجازة من غير علمه، فلا يتوقف صحتها على علمه، ولأنه لازم في حقه قبل الإجازة.
وأما الفسخ بالفعل أن يتصرف البائع في مدة الخيار في المبيع تصرف الملاك كما إذا اعتق أو دبر أو كاتب؛ لأن هذه التصرفات مختصة بالملك ولا يحتاج إليها للاختيار للملك دلالة، واختيار الملك يوجب نقض البيع، ولأن بعد هذه التصرفات يتعذر عليه الإجازة؛ لأن الحر ليس بمحل الابتداء، فلا يكون محلًا لإجازة البيع فيه، والأصل في العقد الموقوف إذا حدث فيه ما يتعذر بالإجازة أن ينفسخ، العقد مشروع للإجازة لا.
... وكذلك إذا باع من غيره؛ لأن البيع من التصرفات المختصة بالملك ولأن البيع قد نفذ؛ لأنه لاقى ملك البائع، والعقد.
النافد إذا طرأ على العقد الموقوف أوجب انفساخه، وكذلك لو وهب وسلم ينفسخ البيع، ولو وهب ولم يسلم لاينفسخ البيع. اذا رهن وسلم ينفسخ البيع، وإذا رهن وسلم ينفسخ البيع، وإذا آجر ذكر هذه المسألة في بعض المواضع، وقال: لا يكون فسخًا ما لم يسلمه إلى المستأجر، وذكر في بعضها أنه يكون فسخًا وإن لم يسلمه إلى المستأجر، وبه أخذ عامة المشايخ، ثم تصح هذه التصرفات بغير محضر من المشتري بلا خلاف، وإن كانت هذه التصرفات توجب فسخ البيع، والمشروط له الخيار لا يملك فسخ البيع حال غيبة صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الفسخ بهذه التصرفات يثبت حكمًا لا قصدًا، وقد يثبت الشيء حكمًا لغيره وإن كان لا يثبت قصدًا، وقد روي عن محمد ما يدل على اشتراط حضرة صاحبه، وستأتي تلك الرواية بعد هذا إن شاء الله.
وفي (المنتقى): إذا باع عبدًا على أن البائع فيه بالخيار، ثم إن البائع أخذ الثمن من المشتري، فذلك ليس بإمضاء للبيع، ولو أخذ بالألف من المشتري مائة دينار كان هذا إجازة للبيع، قال: لأنه عمد إلى الثمن بعينه فباعه، ولو قبض منه الألف، ثم باعها منه أو من غيره لم يكن ذلك إجازة منه للبيع؛ لأن هذه الألف التي باعها قضاء من الألف التي على المشتري.
والحاصل في هذه المسائل: أن الثمن إذا كان شيئًا يتعين بالتعين، فإذا قبض البائع الثمن وتصرف فيه من بيع أو هبة، فذلك إمضاء للبيع؛ لأن تصرفه صادف عين المستحق بالعقد، فكان تقريرًا للملك فيه فيكون دليلًا للإجازة، وإن كان الثمن شيئًا لا يتعين بالتعيين كالدراهم، فتصرف فيه بعد ما قبض مع المشتري أو مع غيره، فذلك ليس بإمضاء للبيع، وإن تصرف فيه قبل القبض مع المشتري فاشترى منه بالثمن ثوبًا أو صارفه الألف على مائة دينار، فذلك إجازة للبيع.
والفرق: أن التصرف قبل القبض أضيف إلى غير ما هو مستحق بالعقد؛ لأنه لا حق للبائع في ذمة المشتري إلا ما هو ثمن فكان التصرفة تقريرًا للملك فيه فيكون دليل الإجازة، أما بعد القبض التصرف ما أضيف إلى ما هو مستحق بعينه؛ لأن ما يدخل تحت القبض غير مستحق بالعقد أيضًا.
رجل باع جارية بعبد رجل وشرط بائع الجارية الخيار لنفسه في الجارية، ثم إنه وهب العبد الذي اشتراه بالجارية أو عرضه على بيع فهو إمضاء للبيع، ولو كان باع الجارية بألف درهم على أنه بالخيار في الجارية وقبض الألف، ثم وهبه أو أنفقه فهو على خياره؛ لأن له أن يدفع غيره. ولو لم يكن قبض الثمن من المشتري حتى اشترى منه بالألف شيئًا أو صارفه على مائة فهذا نقض لخياره وإمضاء لبيعه.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل باع عبدين من رجل على أن البائع فيهما بالخيار، ثم إن البائع نقض البيع في أحدهما وبغير عينه فنقضه باطل، وكأنه لم يتكلم بشيء ولا يكون نقضه بعض البيع نقضه بجميعه ولا شيء منه، وله أن يجيز البيع كله بعد ذلك.
وكذلك لو باع عبدًا واحدًا على أنه بالخيار فيه، ثم قال نقضت البيع في نصفه كان ذلك باطلًا وكأنه لم يتكلم بشيء، وله أن يجيز البيع في الكل بعد ذلك.
وفي (المنتقى): باع من آخر بيضة على أن البائع فيها بالخيار، فخرج منها فرخ بغير صنع المشتري فليس للبائع أن يجيز ذلك على المشتري علل، فقال من قبل أنه قد تحول عن حاله، وكذلك إذا باع كفرى على أنه بالخيار فيه فصار تمرًا بعد القبض، وهذا إشارة إلى أن هذا العقد لا يبطل.
وهكذا ذكر في (الزيادات). وذكر الصدر الشهيد في (واقعاته) أنه يبطل؛ لأنه لو بقي يبقى مع الخيار فيقدر البائع على الإجازة وإن أبى المشتري، وهذا لا يجوز؛ لأن المبيع صار شيئًا آخر ولو لم يكن في البيع خيار البيع، فالبيع باق والمشتري بالخيار، إن شاء أخذ وإن شاء ترك؛ لأنه لو بقي البيع لا يلزم المشتري إلا إذا شاء، وهذا جائز بعد تغيير المبيع.
وفي (نوادر عيسى بن أبان) عن محمد: رجل باع من رجل أرضًا بعبد على أن البائع بالخيار وتقابضا، ثم تناقضا العقد، فالأرض في يد المشتري مضمونة بالقيمة لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، ويكون لمشتري الأرض أن يحبس الأرض من البائع إلى أن يرد العبد عليه، وإن أذن بائع الأرض للمشتري في زراعتها خرجت الأرض من الضمان وصارت عارية للبائع في يد المشتري، وللبائع إن يأخذها متى شاء، وإن كان المشتري زرع الأرض كان للمشتري أن يمسكها بأجر المثل ويمنع البائع عنها إلى أن يستحصد الزرع.
وإن أراد المشتري بعد زرعها أن يمنع الأرض من البائع حتى يسترد العبد ليس له ذلك؛ لأنه حين زرعها بإذنه فكأنه سلمها إليه.
وإن أبى المشتري أن تكون الأرض في يده بأجر المثل إلى وقت إدراك الزرع وكره قلع الزرع أيضًا وأراد تضمين رب الأرض الزرع كان له ذلك إذا كان قد أذن له في زراعتها إلى أن يدرك الزرع إلا أن يرضي البائع أن يترك الزرع فيها حتى يستحصد بغير شيء.
وإن كان الخيار للبائع في عبد باعه فقال البائع للعبد: أنت حر إن دخلت الدار، وقال: إن دخلت الدار فأنت حر لم يكن هذا نقضًا للبيع، وكذلك إذا قال للعبد: أنت حر أو هذا العبد الآخر ذكر المسألة في (المنتقى).
وروى بشر عن أبي يوسف: إذا باع عبدًا على أن البائع فيه بالخيار ثلاثة أيام، ثم قال له: أنت حر أو هذا العبد لم يكن هذا نقضًا للعقد، فإذا مضى أجل الخيار (لم يكن له) أن ينقض البيع (و) وجب البيع وعتق العبد الآخر.
وفي (المنتقى) أيضًا: إذا باع فعرض المبيع على البيع ذكر شمس الأئمة الحلواني أنه (إن) كان بغير محضر من صاحبه لا ينفسخ البيع، وبعض مشايخنا قالوا: العرض على البيع من البائع ليس بفسخ على كل حال وإليه مال الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي، وذكر شيخ الإسلام في (شرحه) أن فيه روايتين.
وفي (المنتقى) عن محمد: البائع إذا عرض المبيع على البيع لا يبطل خياره وعلل فقال: لأن نقضه لا يجوز بغير محضر من المشتري، فهذا التعليل يشير إلى أن العرض على البيع لو كان بمحضر من المشتري أنه يكون نقضًا للبيع.
وإذا هلك المبيع في يد البائع انفسخ البيع سواء كان الخيار للبائع أو المشتري، وإن هلك في يد المشتري والخيار للبائع إن هلك في الأيام الثلاثة فعلى المشتري قيمته، وإن هلك بعد مضي الأيام الثلاثة فعلى المشتري الثمن؛ لأن بمضي المدة تم العقد ولزم الثمن فلا ينفسخ بالهلاك في يد المشتري بعد ذلك، فيبقى الثمن لازمًا، فأما (إذا) هلك في الأيام الثلاثة فقد انفسخ العقد بهلاك المبيع؛ لأن الخيار قائم، وهذا؛ لأن المبيع بالهلاك والموت (يعاب) وإن تعيب في آخر جزء من أجزاء حياته؛ لأن الموت لا يخلو عن سابقة عيب إلا أن العيب الحادث في يد المشتري لا يعجز البائع عن الفسخ.
والإجازة بحكم الخيار فلا ينافي بقاء الخيار؛ لأن بقاء الخيار حينئذٍ يكون مقيدًا، وإذا كان الخيار قائمًا عند الهلاك كان العبد مملوكًا للبائع، فيهلك على ملكه وينفسخ العقد ضرورة، ولا يضمن المشتري الثمن ولكن يضمن القيمة، لأنه في معنى المقبوض على سوم الشراء إنما قبضه ليتملكه بعوض عيني كما في المقبوض على سوم الشراء، فيضمن القيمة عند العجز عن الرد كما في تلك المسألة.
وفي (المنتقى): رجل باع من آخر جارية على (أن) البائع فيها بالخيار ودفعها إلى المشتري، فأعتقها المشتري أو زوجها في مدة الخيار، ثم إن البائع أجاز البيع فيها لا يجوز عتق المشتري ولا تزويجه وقد نقض البائع التزويج بإجازته البيع وإحلاله فرجها للمشتري.
ولو كان الزوج وطئها وهي بكر، ثم نقض البائع البيع فيها وقد نقصها الوطء مائة درهم، وعقرها مائتا درهم، فالبائع بالخيار إن شاء اتبع الزوج بالعقر تامًا ولم يرجع به الزوج على أحد، وإن شاء اتبع المشتري بنقصان الوطء ورجع المشتري على الزوج الواطء بالمائة التي ضمن ولم يكن البائع دفع الأمة إلى المشتري، وزوجها المشتري رجلًا وهي في يد البائع فوطئها الزوج، ثم أجاز البائع البيع ولم ينقصها الوطء؛ لأنها ثيب فالنكاح فاسد إذا فسخه المشتري، ولا يبطل ما لم يفسخه؛ لأن فرجها لم يحل للمشتري بإجازة البائع البيع وللمشتري على الوطء مهر مثلها إذا فسد النكاح، ولا خيار للمشتري في رد الأمة بالوطء الذي كان عند البائع من قبل أن الوطء لم ينقصها، وإن كان الوطء زنًا كان هذا عيبًا رد فيه.
قال هشام: سألت محمدًا: عن رجل باع دارًا على أنه بالخيار ثلاثة أيام فتوارى المشتري في بيته أراد أن يمضي الثلاث، فيجب له البيع مثل يوجد في هذا بالأعذار، قال: نعم أبعث إليه من يعذره فإن ظهر وإلا أبطلت خياره إلا أن يجيء في الثلاث، قلت: فإن لم يأت الخصم في الأيام أتاك في وقت لا تستطيع أن تبعث إليه من قبلك الأعذار، فسألك أن تبطل الخيار عليه، قال: لا أفعل ذلك، قلت: فإن قال الخصم: إني قد أعذرت إليه وأشهدت فاختفى مني، فاشهد لي بذلك، قال: أقول اشهدوا أن هذا قد زعم أنه قد أعذر إلى صاحبه في الأيام الثلاثة كان يأتيه عند كل يوم، فتعذر إليه فيختفي منه، فإن كان الأمر كما قال فقد أبطلت عليه الخيار، فإذا ظهر بعد ذلك وأنكر سألت المدعي البينة على الخيار وعلى أعذاره كما كان ادعى.
وإن كان الخيار للبائع فأبرأ البائع المشتري من الثمن صح إبراؤه، وكان ذلك إمضاء للبيع؛ لأن التصدق إنما يكون من المالك، ومالكية الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله موقوفة على إجازة العقد، فيضمن الإقدام على ذلك إجازة للعقد، وستأتي مسألة الإبراء عن أبي يوسف بعد هذا بخلاف ما ذكر هنا.
وكذلك لو اشترى بالثمن منه شيئًا أو ساومه به صح ويكون ذلك إمضاء للبيع.
ولو اشترى بالثمن شيئًا من غيره لم يصح الشراء، ولو حدث بالمبيع عيب في يد البائع والخيار له فهو على خياره، ولو كان العيب حادثًا بفعل البائع انتقض البيع؛ وهذا لأن ما يحدث بفعل البائع قبل القبض يكون مضمونًا عليه حتى تسقط حصته من الثمن، فلو بقي البائع على خياره تفرقت الصفقة على المشتري قبل التمام، وإنه لا يجوز.
أما ما انتقض لا بفعل البائع لا يكون مضمونًا عليه، ولهذا لو سقط أطراف المبيع قبل القبض لا يسقط بحصته من الثمن شيء. فلو نفينا الخيار لا يكون فيه تفريق الصفقة على المشتري قبل التمام إلا أنه لا يجبر المشتري إذا ألزم البائع العقد؛ لأنه إنما رضي بمبيع سليم.
فإذا تعيب قبل القبض انعدم الرضا فكان الخيار كما لو سقط أطرافه قبل القبض.
وروى أبو سليمان عن أبي يوسف في (الإملاء) فيمن اشترى من آخر جارية بألف درهم على أن البائع بالخيار، ثم إن البائع وهب الثمن بعدما قبضه، فإبراء المشتري منه لم يكن ذلك فسخًا ولا إمضاء للبيع، فإن أجاز البيع بعد ذلك، فالبيع جائز والهبة جائزة، ولو كان المشتري نقد الثمن للبائع، ثم وهبه للبائع وقبل ذلك البائع، ثم أجاز البيع ليس للبائع أن يأخذه المشتري بثمن آخر، والثمن الموهوب هو الثمن وهبته باطلة؛ لأنه وهب للبائع ما ملكه البائع؛ لأن البائع مالك لهذا الثمن لا المشتري، وهذا بناء على ما قلنا إن الخيار إذا كان للبائع فالثمن يزول (عن) ملك المشتري ويدخل في ملك البائع عندهما.
بشر عن أبي يوسف: مسلم باع من مسلم عصيرًا على أن البائع بالخيار وقبضها المشتري، فصارت في يده خمرًا فقد انتقض البيع، ذكر المسألة في (المنتقى) قال: وضمن العصير، وهكذا روي عن محمد. قال الحاكم أبو الفضل: وقد قال في موضع آخر البائع على خياره، فإن سكت حتى مضت الثلاث لزم البيع المشتري، ثم على ما ذكر بشر أن البيع ينتقض لو لم يختصما حتى صار خلًا، فاختار البائع فله ذلك ولا يعتبر رضا المشتري في المشهور من الرواية، وفي بعض الروايات يعتبر رضا المشتري.
وإذا تبايع الذميان خمرًا بشرط الخيار للبائع، فأسلم البائع بعد القبض بطل البيع، هكذا ذكر القدوري في كتابه، وهكذا ذكر في موضع آخر من (المنتقى) بناء على أن خيار البائع زوال ملك البائع فبقيت الخمر على ملكه في مدة الخيار، فلو لم يبطل العقد انتقل الملك عنه في الخمر بعد سلامه وإنه لا يجوز.
وذكر في موضع آخر من (المنتقى): لو أسلم البائع بعد القبض جاز المبيع بمنزلة موته، ولو أسلم المشتري لم يبطل البيع، هكذا ذكر في (القدوري)، وفي (المنتقى) في موضع؛ لأن المسلم لا يحتاج إلى صنع فيه لإتمام العقد على الخمر إذا لم يكن الخيار مشروطًا له، فصار إسلامه في هذا البيع وإسلامه في البيع البات إذا كان المبيع مقبوضًا على السواء، وهناك لا يفسد العقد فهاهنا كذلك.
وفي موضع آخر في (المنتقى): أن البيع ينتقض بإهدام المشتري في هذه الصورة بناء على ما قلنا إن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه، فلو بقي العقد ينتقل الملك في الخمر إلى المسلم، ولو أسلم أحدهما قبل قبض الخمر بطل البيع.
وإذا باع طيبًا على أن البائع فيه بالخيار فقبضه المشتري وأحرم المشتري لم ينفسخ البيع، ولو أحرم البائع وقد دفعه إلى المشتري أو لم يدفعه ينفسخ البيع، وروى ابن سماعة في إحرام المشتري بخلاف ما ذكرنا.
وإذا باع عبدًا على أن البائع بالخيار وقبضه المشتري قتيلًا ومات العبد وضمن المشتري قيمته للبائع أخذ أولياء الجناية القيمة من البائع، (وللبائع) أن يرجع على المشتري بمثلها، وهو بمنزلة الغصب.
رجل باع عبدًا على أن البائع فيه بالخيار والعبد في يد البائع، فقال في الثلاث: قد فسخت البيع ونقضته، ثم قال بعد ذلك: قد أجزت البيع وقبل المشتري فهذا جائز، وإنه استحسان، ولو جنى البائع على المبيع في هذه الصورة جناية ونقضه فقال المشتري: أنا آخذه فليس له ذلك إلا أن يسلم البائع له؛ لأن جناية البائع عليه في الثلاث نقض للبيع، ولو كان الخيار للبائع والجارية عنده فوطئت بشبهة انتقض البيع من قبل المهر الذي وجب بالوطء.
وإذا كان الخيار للبائع وحلف بعتق المبيع أن لا يكلم فلانًا فلان يرده بالخيار ما لم يعتق بالحلف.
وروى أبو سليمان عن أبي يوسف في (الأمالي): إذا جنى المبيع في يد البائع جناية والخيار له، فإن نقض البيع دفعه البائع أو فداه، فإن أمضى البيع أو سكت حتى مضت المدة وقتله المشتري ورضي بعيب أو فداه.
إذا اشترى ابنه على أن البائع بالخيار، ثم مات المشتري، فأجاز البائع البيع لا يرث الابن أباه.
اشترى عبدًا على (أن) البائع بالخيار، فأذن له في التجارة لا يكون هذا فسخًا إلا أن يلحقه دين إلا في قول من يقول: فسخه بغير محضر من المشتري فسخ، ولو أمضاه بعد ما لحقه دين لم يجز؛ لأن الغريم أحق به من المشتري.
وإذا كان الخيار للبائع فقال المشتري للبائع: أعطيتك مائة درهم على أن تنقض البيع ففعل، فالمناقضة جائزة وليس عليه شيء.
وإذا باع عبدًا بألف درهم على أن البائع فيه بالخيار ثلاثة أيام فأعطاه المشتري بها مائة دينار، ثم إن البائع نقض البيع فالصرف باطل، وكان عليه أن يرد الدينار.
وإذا باع جارية على أن البائع فيها بالخيار وتقابضا أو لم يتقابضا، فوجد المشتري بالمبيع عيبًا فقال: رضيت به أو باعه أو وهبه أو عرضه على بيع أو ما أشبه ذلك من المعاني التي تكون رضًا في البيع خيار فليس للمشتري أن يردها بذلك العيب، هذا هو الكلام (في) البائع.
وأما الكلام في جانب المشتري، فنقول: إذا كان الخيار للمشتري فيعود هذا البيع بما ذكرنا من المعاني الثلاث، وبمعنى آخر سواها، وهو أن يتصرف المشتري في المبيع تصرف الملك.
والأصل فيه: أن كل فعل باشر المشتري في المشترى بشرط الخيار له فعلًا يحتاج إليه للامتحان ويحل في غير الملك بحال فالاشتغال به أول مرة لا يكون دليل الاختيار حتى لا يسقط خياره، وكل فعل لا يحتاج إليه للامتحان أو يحتاج إليه إلا أنه لا يحل في غير الملك بحال فإنه يكون دليل الاختيار، وهذا لا يحتاج إليه للامتحان ويحل في غير الملك بحال متى جعل دليل الاختيار، ويسقط خياره به أول مرة لا يفيد الخيار فائدة؛ لأن فائدة شرط الخيار إمكان الرد متى لم يوافقه بعد الامتحان، فمتى لزمه البيع بفعل الامتحان أول مرة لا يمكنه الرد متى لم يوافقه فتفوت فائدة شرط الخيار حينئذٍ، ومتى فعل فعلًا لا يحتاج إليه للامتحان لو جعل دليل الاختيار إلى أن تفوت فائدة الخيار فيسقط به الخيار.
ولهذا إذا ثبت هذا فنقول: إذا اشترى جارية على أنه بالخيار فاستخدمها مرة، لا يبطل خياره؛ لأن الاستخدام يحتاج إليه للامتحان؛ لأن الجارية تشترى للخدمة والخدمة لا تصير معلومة للمشتري من غير امتحان فكان الاستخدام محتاجًا إليه للامتحان، وإنه يحل بدون الملك فلم يكن الاشتغال به مرة دليل الاختيار فبقي على خياره.
بخلاف ما لو وطئها حيث يبطل خياره وإن كان الوطء محتاجًا إليه للامتحان لأنها تشترى للوطء ولا يعلم كونها صالحة للوطء بالنظر لأنها إنما كانت كذلك؛ لأن الوطء تصرف لا يحل بدون الملك بحال فكان الإقدام عليه اختيارًا للملك، حتى لا يقع وطؤه في غير الملك، ولا كذلك الاستخدام؛ لأنه يحل في الملك، هذا إذا كان الاستخدام يسيرًا.
فإن كان كثيرًا يخرج عن حد الامتحان والاختيار يكون اختيارًا للملك، وإن استخدمها مرة أخرى فإن كان في النوع الذي استخدمها في المرة الأولى كان اختيارًا للملك؛ لأن المرة الأخرى في ذلك النوع غير محتاج إليه؛ (لأن) الامتحان حصل بالمرة الأولى، وإن كان في نوع آخر لا يكون اختيارًا للملك؛ لأن للخدمة أنواعًا أخر محتاجًا إليه للامتحان أيضًا، والإكراه على الاستخدام في المرة الأولى اختيار للملك.
فسر محمد الاستخدام في كتاب الإجارات فقال: يأمرها بحمل المتاع على السطح أو بإنزاله من السطح أو بتقديم النعل بين يديه أو بأن تغمز رجله بعد أن لا يكون عن شهوة، أو بأن تطبخ أوتخبز بعد أن يكون ذلك يسيرًا، وإن أمرها بالطبخ أو الخبز فوق العادة فذلك رضا.
ولو اشترى دابة على أنه بالخيار فركبها لينظر إلى سيرها لا يسقط خياره ولو ركبها مرة أخرى؛ لأن الركوب مرة أخرى غير محتاج إليه للامتحان بخلاف الركوب في المرة الأولى، ولو سافر عليها يسقط خياره؛ لأن السفر عليها غير محتاج إليه للامتحان، وكذلك إذا ركبها بحاجة سقط خياره.
وكذلك لو حمل عليها شيئًا وكذلك لو حمل عليها علفًا لها هكذا روي عن أبي يوسف وعن محمد: أنه إذا حمل علفًا لها عليها لا يسقط له خياره، ولو كان له دواب فحمل علف جميع الدواب عليها فذلك رضا ولو ركبها ليردها أو ليسقيها أو ليعلفها لا يكون رضا به ولا يسقط خياره استحسانًا، كذا ذكر في (الأصل)، بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا لم يمكنه الرد والسقي والإعلاف إلا بالركوب.
ويدل على هذا التأويل ما ذكر في (السير الكبير) في فصل العيب إن جوالق العلف إذا كان واحدًا فركبها مع الجوالق لا يكون رضًا بالعيب؛ لأنه (لا) يمكنه حمل الجوالق الواحد إلا بالركوب، ولو كان جوالقين فركب يكون رضًا، لأنه يمكن حملها بدون الركوب.
ومن مشايخنا من قال: الركوب إذا كان لأجل الرد لا يسقط الخيار وإن أمكنه الرد بدون الركوب، بخلاف الركوب للسقي والإعلاف.
والقاضي ركن الاسلام علي السغدي والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي على أن الركوب للسقي والإعلاف رضا لما ذكرنا في (الأصل)؛ لأن الركوب للسقي وحمل العلف من أمر الرد لأنه لو لم يسقها ولم يعلفها تهلك أو نتقض فلا يمكنه الرد، وربما تكون الدابة جموحًا لا يمكن ضبطها إلا بالركوب فكان الركوب من أسباب الرد فلا يمنع الرد.
ولو قص حوافر الدابة أو أخذ من عرقها فليس برضا؛ لأنه نقض وإتلاف جزء منها فيعتبر بإتلاف سائر الأجزاء، ولو كانت شاة فجز صوفها ذكر في (المنتقى) أنه يسقط، ولو كانت شاة فحلبها أو شرب لبنها فهو رضا هكذا ذكر في القدوري؛ لأن اللبن زيادة عنها والزيادة منفصلة عنها، والزيادة المنفصلة تمنع الرد بالعيب عندنا فكذا بخيار الشرط.
وفي صلح (الفتاوى): رواية عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا اشترى شاة أو بقرة على أنه بالخيار فاحتلب لبنها فقد انقطع خياره، وذكر (البقالي) قول محمد في هذا كقول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: هو خياره حتى يشرب لبنها أو يستهلكها.
ولو حجم الغلام أو سقى دواء أو حلق رأسه فهو رضا، وعن أبي يوسف في الدابة وحجامة الغلام أنه لا يسقط خيار المشتري. وفي المنتقى والأخذ من الشعر ليس برضا، وعن محمد رحمه الله: إذا أمر الغلام بجز رأسه يعني رأس الغلام فهو ليس برضا، إلا أن يريد به الدواء، وكذا الطلى وكذا غسل الرأس واللحية.
وفي (المنتقى): إذا احتجم الخادم بأمر المشتري فهو رضا، وفي موضع آخر إذا رأى المشتري الغلام يحجم الناس بأجر فسكت فهو رضا، وإن كان يحجم بغير أجر فهذا ليس برضا، هذا بمنزلة الخدمة، ألا ترى أن المشتري لو قال له: أحجمني لا يكون رضا، ولو كان الخيار للبائع فاحتجم الغلام بإذن المشتري فهذا ليس ينقص إذا كان نفسه المشتري. قال في (المنتقى): أيضًا: وأمر الخادم ليحمل شيئًا ليس برضا هذا من الخدمة. ولو أمر الجارية بمشط أو دهن أو لبس فهو ليس برضا أيضًا، وكذا إذا علق عنقها بشرط لا يسقط خياره ما لم تعتق بحكم اليمين.
ولو اشترى أرضًا فيها حرث اشترى الأرض مع الحرث أو حصده أو فصل منه شيئًا سقط خياره؛ لأن السقي للإستنماء وإنه دلالة الاختيار وبالقطع ينقبض المعقود عليه، وذلك مانع من الرد فيسقط خياره ضرورة، ولو سقى من نهرها دوابه أو شرب بنفسه لا يسقط خياره؛ لأنه مباح بدون الملك فلا يكون فعله دليلًا على تقدير الملك، ولو سقى من نهرها أرضًا أخرى فهو رضا بخلاف ما إذا سقى أجنبي بغير علمه وإن هناك لا يسقط خياره، ولو رعت ماشية المشتري الكلأ يسقط خياره بخلاف ماشية الناس، وكري النهر وكنس البئر يسقط الخيار.
ولو انهدم البئر فبناها لم يعد خياره، ولو وقع فيها فأرة أو نجاسة سقط خياره، وروي في الفأرة إذا نزح عشرون دلوًا أنه على خياره، وإذا سقى من البئر زرعه أو دوابه فهو على ما ذكرنا في النهر.
وإذا باع المشتري على أنه بالخيار، ذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي في (شرحه) في باب من الخيار قيل: لا يبطل خياره، وذكر شيخ الإسلام في (شرحه): أنه يبطل وهو الصحيح؛ لأن البيع (باتًا) كان، أو بشرط الخيار من التصرفات المختصة بالملك وإنه غير محتاج إليه للاختيار فيصير به مختارًا للملك، ولو عرض المشتري التقوم لا يبطل خياره، ولو عرضه ليباع يبطل خياره؛ لأن العرض على جهة البيع من التصرفات المختصة بالملك، فإنه لا يعرض على البيع إلا المالك أو نائبه وإنه غير محتاج إليه للاختيار فيصير به مختارًا كما في البيع.
ولو اشترى ثوبًا ولبسه لينظر إلى مقداره لا يسقط خياره، فإن لبسها ثانيًا يسقط خياره؛ لأن اللبس ثانيًا غير محتاج إليه للاختيار بخلاف اللبس أول مرة، فإن طال اللبس الأول سقط خياره أيضًا، وإن لبسه ليستدفئ به بطل خياره.
ولو اشترى رحًا فطحن به المشتري ليعرف مقدار طحنها لا يبطل خياره؛ لأن الطحن محتاج إليه للامتحان والاختبار، ولم يذكر محمد رحمه الله في شيء من الكتب مقدار ذلك.
وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني: أنه إذا طحن بها زيادة على يوم وليلة يبطل خياره وإن كان دون ذلك لا يبطل خياره. وفي (البقالي): الطحن بالرحى لا يسقط خيار المشتري إلا أن يطول أو ينقصها، وذكر الخصاف: أن الطحن يومًا ونحوه لا يسقط حتى يجزئه، ثم يريد بعد ما بان له طحنها على قلة الماء وكثرته.
وإذا كان المشتري بشرط الخيار للمشتري دار فسكنها المشتري سقط خياره هكذا ذكر المسألة في كتاب البيوع.
وفي (القدوري): إذا سكن المشتري الدار وأسكنها رجلًا بأجر أو رمم فيها شيئًا أو أحدث فيها بناءً أو جصصها أو طيبها أو هدم فيها شيئًا فهو إمضاء للبيع.
وذكر في كتاب القسمة: أن خيار الشرط في القسمة لا يبطل بالسكنى بعد القسمة، إلا أن في كتاب القسمة وضع المسألة فيما إذا دام على السكنى، وفي كتاب البيوع ذكر السكنى مطلقًا، فمن مشايخنا من قال: ما ذكر في كتاب البيوع ابتداء السكنى، بأن كان المشتري ساكنًا في الدار قبل الشراء بإجارة أو إعارة لا يسقط خياره كما في القسمة.
ومنهم من قال: خيار الشرط في البيع يسقط بالسكنى في الحالين، كما أطلق محمد رحمه الله في كتاب البيوع، وفي القسمة لا يسقط خيار الشرط وفي الحالين.
غير أن محمدًا وضع المسألة وفي القسمة في الدوام على السكنى اتفاقًا، وإن كان في الدار ساكنًا بأجر فباعها البائع برضاه وشرط الخيار للمشتري فترك المشتري وأساء العلة فقد سقط خياره؛ لأنه أخذ عوض المنافع وإنما يجب عوض المنافع لمن كان ملك المنافع إنما يملك الأصل فكان أخذ العوض على تقدير ملك الأصل.
وسئل أبو بكر عمن اشترى كتابًا على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ثم إنه انتسخ منه لنفسه لا يبطل خياره، كالنساج إذا نظر في نقش الديباج لا يبطل خياره، ألا ترى أن من انتسخ من كتاب المبسوط ولم يرفعه لا يصير غاصبًا، وإن قلب أوراقه قيل له: لو درس منه ولم يكتب قال: يبطل خياره؛ لأن شراء الكتاب للدراسة يكون لا للانتساخ، وكذلك لو انتسخ لغيره لا يبطل أيضًا قال الفقيه: ولو قيل يبطل الخيار بالانتساخ دون الدراسة كان له وجهًا؛ لأن في الدراسة امتحان لينظر إلى صحته، فصار كاستخدام العبد وفي الكتابة استعمال، قال الفقيه: وبه نأخذ.
وإذا بيعت الدار بجنب الدار المشتراة بشرط الخيار للمشتري، فأخذها المشتري بالشفعة فقد سقط خياره، وإذا كان الخيار للمشتري فأبرأه البائع عن الثمن لم يصح الإبراء في قول أبي يوسف، وروي عن محمد: أنه إذا أجاز البيع نفذ الإبراء.
فوجه قول أبي يوسف: أن هذا إبراء عن دين غير واجب فلا يصح كما قبل العقد، وجه قول محمد: أن المشتري لما أجاز البيع، استند وجوب الثمن إلى أصل العقد فكان إبراء عن دين واجب، وإذا كان الخيار للمشتري فقال المشتري للبائع: إن أردها إليك اليوم فقد رضيتها فهذا القول باطل، وله أن يردها بخيار الشرط.
وكذلك إذا قال: إن لم أفعل كذا فقد أبطلت خياري، ولو لم يقل هكذا ولكن قال: أبطلت خياري غدًا، وقال: إذا جاء غدًا فقد أبطلت خياري فهذا جائز قال: لأن هذا وقت كائن لا محالة.
ولو قال بعد ما اشترى وشرط الخيار لنفسه شهرًا: إن لم آتك بالثمن فيما بيني وبين ثلاث فلا يمتنع بيني وبينك فهو على ما قال كان ذلك، قال في أصل العقد وكذلك إذا قال: إن لم آتك بالثمن إلى سنة فقد نقضت البيع فيه.
وفي (نوادر هشام) قلت لمحمد: رجل اشترى قرية وفيها قناة غزيرة اشتراها وماءها على أنه بالخيار كيف يصنع بماء القناة؟ قال: يدعه يذهب، قلت: إن لم يصرف الماء يفسد، قال: يوكل البائع رجلًا لصرفه.
وإذا كان الخيار للمشتري فولدت الجارية في يده، أو أثمرت النخلة، أو باضت الدجاجة، فقد سقط خياره؛ لأن فائدة الخيار الرد وقد تعذر الرد؛ لأنه وجه إلى رد الأصل بدون الزيادة يبقى مبيعًا في يده بلا ثمن ولا وجه إلى رد الأصل مع الزيادة؛ لأن العقد لم يرد عليها فكيف يرد الفسخ عليها.
وفي (البقالي): ولا يسقط الخيار بالولد الميت والبيضة الفاسدة.
وفي (المنتقى): إذا ولدت في يدي المشتري ولدًا ميتًا أو لم تنقصها الولادة فهو على خياره، وإن كانت الزيادة ذات المبيع كالسمن وما أشبهه سقط الخيار في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وفي قول محمد: لا يسقط.
ولو كان المشتري بشرط الخيار جارية فلمسها المشتري، أو قبلها بشهوة سقط خياره، بخلاف ما إذا لمسها بغير شهوة؛ لأن اللمس بشهوة تصرف يختص بالملك جماع حكمًا حتى يثبت به حرمة المصاهرة فيعتبر بالجماع حقيقة، وبالجماع حقيقة يثبت الخيار فكذا بالجماع حكمًا.
فأما اللمس بغير شهوة ليس بجماع حكمًا، وإنه فعل يحتاج إليه للامتحان فلا يسقط الخيار، والنظر إلى فرجها بشهوة نظر المسن بشهوة جماع حكمًا حتى يثبت به حرمة المصاهرة، بخلاف النظر إلى ما هو سوى الفرج من أعضائها بشهوة؛ لأنه ليس بجماع أصلًا.
وإذا دعاها إلى فراشه لا يبطل خياره هكذا ذكر في (فتاوى أبي الليث): لأنه لعل إنما دعاها للاختبار ليعلم أنها تجيبه أو لا تجيبه، وإذا كانت الجارية قد نظرت إلى فرج المشتري بشهوة أو لمسته بشهوة أو قبلته بشهوة وأقر المشتري أنها فعلت بشهوة أجمعوا على أنه إذا كان يتمكن المشتري بأن علم المشتري بذلك منها فتركه حتى فعلت أنه يسقط خياره؛ لأن فعل الجارية بتمكين المشتري بمنزلة فعل المشتري بنفسه.
ولو أن المشتري فعل ذلك يسقط خياره فكذا هذا، وبهذا الطريق قلنا: بأن المرأة إذا فعلت مثل هذا بالزوج بتمكين الزوج يصير راجعًا كذا هنا، فأما إذا فعلت ذلك لا بتمكين من المشتري، على قول أبي يوسف: يسقط خياره.
وعلى قول محمد: لا يسقط وإن وجدت المشتري نائمًا فأدخلت فرجه فرجها، يسقط خياره بالإجماع، ولو نظرت المعتدة طلاقًا رجعيًا إلى فرج زوجها بشهوة أو لمسته بشهوة يثبت في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا يثبت في قول محمد، إلا أن تحصل المجامعة بفعلها بأن أدخلت فرجه فرجها، ذكر المسألة على هذا الوجه بشر بن الوليد في (نوادره)، وروى ابن سماعة في (نوادره) في مسألة الرجعة روايتين عن محمد رحمه الله.
وفي سقوط الخيار بنظر الأمة إلى فرج المشتري بشهوة رواية واحدة عن محمد أنه لا يسقط.
وجه قول محمد: أن الخيار حق المشتري فلا يسقط إلا بإسقاطه إما نصًا أو دلالة، ولم يوجد منه الإسقاط نصًا وهذا ظاهر ولا دلالة؛ لأن دليل الإسقاط وجود صنع من جهته، إما من حيث الحقيقة أو من حيث الاعتبار، ولم يوجد من المشتري صنع لا من حيث الحقيقة، وإنه ظاهر ولا من حيث الاعتبار؛ لأن فعل المس يضاف إلى الماس لا إلى الممسوس؛ لأن الممسوس محل فعل المس والفعل يضاف إلى الفاعل لا إلى المحل.
ثم إن محمدًا يحتاج إلى الفرق بين مسألة الرجعة وبين مسألة الخيار على إحدى روايتي ابن سماعة.
والفرق من وجهين: أحدهما: أن الرجعة يشترك فيه الزوجان لكل واحد منهما فيها حق، فجاز أن يجعل فعل أحد الشريكين كفعل صاحبه، والدليل على أن للمرأة في الرجعة حقًا كما للرجل قال الله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة: 228] فلولا أن للمرأة حقًا في ذلك، وإلا لم يكن لقوله: أحق معنى وفائدة؛ لأن الفعل إنما يستعمل بين شخصين في شيء يشتركان فيه كما يقال: فلان أحسن من فلان وأفقه من فلان وأجمل من فلان وكقوله عليه السلام: «الأيِّم أحق بنفسها من وليها» اقتضى أن يكون للولي حق في نفسها إلا أن حق المرأة أكثر فكذلك هذا.
وإذا ثبت أن لها حقًا في الرجعة أمكن أن يجعل فعلها في إثبات المراجعة كفعل الزوج، فأما لا حق للأمة في خيار المشتري ولا يمكن أن يجعل فعلها كفعل المشتري في حق إسقاط خياره.
والفرق الثاني: أن المرأة في باب النكاح عاقدة من وجه ومعقود عليها من وجه، فوفرنا على الشبهين حظهما.
قلنا: لكونها عاقدة من وجه تثبت الرجعة من جهتها من حيث الحكم، ولكونها معقودًا عليها من وجه لا يثبت الرجعة من جهتها قصدًا توفرًا على الشبهين حظهما، فأما الأمة في باب الشراء معقود عليها من كل وجه وليست بعاقد، فلم يسقط خيار المشتري من جهتها لا من حيث الحكم بالنظر (إلى) فرج المشتري بشهوة ولا من حيث العقد بصريح الاختيار.
وأما أبو حنيفة وأبو يوسف ذهبا في ذلك إلى أنه وجد منها ما هو جماع حكمًا، فيعتبر بما لو وجد منها ما هو جماع حقيقة، دليله جانب الزوج، فإن في جانب الزوج اعتبر الجماع الحكمي بالحقيقي فكذا في جانبها.
ولو وجد منها ما هو جماع حقيقة سقط خيار المشتري فكذا في جانبها ما هو جماع حكمًا وإنما قلنا وجد منها ما هو جماع حكمًا؛ لأن هذا الفعل من جانبها أوجب حرمة المصاهرة كما لو وجد منها الجماع حقيقة.
وأما قول محمد رحمه الله: لم يوجد ممن له الخيار صنع، قلنا: وجد الصنع من حيث الاعتبار لما ذكرنا أنه وجد منها جماع حكمًا، والفعل في الجماع الحقيقي مضاف إلى الزوج من حيث الحقيقة، فكذا فيما هو جماع حكمًا يكون الفعل مضاف إليه حكمًا، فقد وجد منه فعل حكمًا.
وفي (نوادر هشام) عن محمد: رجل اشترى من آخر جارية على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فمرض العبد في الثلاث، فنقض المشتري العقد ورد العبد إلى البائع أن سلمه فأمضى الثلاث، والعبد مريض على حاله لزم المشتري، وإن صح قبل مضي الثلاث قبل أن يرد، فله أن يرد بالرد الذي كان منه في الثلاث.
وإذا كان الخيار للمشتري والسلعة مقبوضة فحدث بها عيب لا يرتفع لزم العقد وبطل الخيار، سواء كان بفعل البائع أو بغير فعله، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يلزم بجناية البائع؛ لأن فيه تسليط البائع على إلزام العقد وبه تفوت فائدة الخيار للمشتري، إلا أن يتمكن المشتري من الفسخ شاء البائع أو رضي أم سخط.
ولهما: أن العقد قد لزم في القدر الذي تلف بالتعييب في ضمان المشتري وتقرر عليه حصته من الثمن، فلو جاز رد الباقي كان ذلك تفريقًا للصفقة على البائع قبل التمام في حق الرد، وذلك لا يجوز، وإذا تعذر الرد لهذا المعنى لزم العقد في فعل الأجنبي، إلا أن يكون الأجنبي مسلطًا على إلزام العقد، وإذا لزم العقد عندهما رجع المشتري على البائع بالأرش؛ لأن البيع قد تم بأول جزء من النقص فصار البائع جانيًا على ملك المشتري فيضمن الأرش.
وفي (نوادر هشام) قال: قلت لمحمد رجل اشترى من رجل شيئًا على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فجاء إلى باب البائع في الثلاث ليرده، فاختفى منه البائع فأشهد المشتري ناسًا أنه قد رد البيع بخياره، ثم ظهر البائع بعد الثلاث فأخبرني أن أبا حنيفة رحمه الله قال: رده باطل إلا أن يجتمعا جميعًا، قال هشام: وهو قول محمد وهي المسألة المعروفة أن المشروط له الخيار في البيع لا يملك الفسخ إلا بحضرة صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد ومعناه ألا يعلمه.
وتأويل ما ذكر هشام: إن لم يعلم البائع بفسخ المشتري قال هشام: قلت لمحمد كيف يصنع المشتري؟ قال: إن أراد أن يستوثق ينبغي أن يقول للبائع: تقيم له كفيلًا المشتري وبرضاه إن رد البيع ونقضه بخياره فرده يكون عليه جائزًا.
ولو اشتراه على أن البائع إن غاب عيبة ففسخه عليه جائز فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن هذا شرط فاسد عندهما لأنهما لا يريان الفسخ عند غيبة الآخر.
في (المنتقى): إذا اشترى عبدًا على أنه إن لم ينفذ الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما، ثم إن المشتري قطع يد العبد في الثلاث أو قطعها أجنبي في الثلاث قال: إذا قطعها المشتري في الثلاث، فالبائع بالخيار إن شاء أخذ العبد مقطوع اليد ولا شيء له غير ذلك، وإن قطعها أجنبي في الثلاث فقد وجب البيع للمشتري لأنه وجب له أرش.
رجل اشترى من آخر سمكًا طريًا أو عصيرًا على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فقبضه فوهب للعبد مال أو اكتسبه، ثم استهلكها العبد بعلم المشتري بغير إذنه أو بغير علمه، لم يبطل خيار المشتري ولو وهب للعبد ابن المشتري وقبض العبد الابن العبد عتق الابن، ولا يبطل خيار المشتري في العبد، ولو وهب للعبد أم ولد المشتري وقبضها العبد بطل خياره في العبد، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد هذه المسألة: الأفضل استهلاك العبد الموهوب فإنه لم يروه عن محمد.
وعن أبي يوسف: اشترى عبدًا على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ثم قال المشتري: شئت أخذه أو قال: رضيت بأخذه أو أحببت أو أردت أو أعجبني ذلك أو قال: وافقني لم يلزمه.
وفي (نوادر بشر بن الوليد): عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبدًا على أنه بالخيار ثلاثة أيام فقال البائع للمشتري: أعطيك مائة على أن تبطل البيع ففعل، قال: قد انفسخ البيع وليس على البائع شيء.
وإذا اشترى من آخر عبدًا بألف درهم على أن المشتري بالخيار، فأعطاه بها مائة دينار، ثم أن المشتري رد البيع فالصرف جائز عند أبي يوسف ويرد الدراهم، وعلى قول أبي حنيفة: الصرف باطل.
رجل اشترى من آخر جارية على أن المشتري بالخيار ثلاثة أيام، ثم إن المشتري قبلها أو لمسها أو نظر إلى فرجها، ثم أراد أن يردها وقال: لم يكن ذلك بشهوة فالقول قوله مع يمينه.
هكذا روي عن محمد في (المنتقى): ثم قال: ألا ترى أن رجلًا لو قبل امرأة أو لمسها أو نظر إلى فرجها، ثم قال لم يكن عن شهوة، كان القول قوله كذا هنا، ولو كان مباشرة، ثم قال: كان ذلك مني بغير شهوة لم يقبل قوله، وكان الصدر الشهيد يقول في القبلة: يفتي بحرمة المصاهرة ما لم يبين أنه فعل بشهوة، قياس ما قاله الصدر الشهيد ثمة: يجب أن يقال في مسألة الشراء إذا قبلها، ثم قال: لم يكن عن شهوة، أن لا يقبل قوله ويسقط خياره.
وقال أبو يوسف: في رجل اشترى بئرًا على أنه بالخيار ثلاثة أيام فغار ماؤها أو دفع فيها فأرة ميتة قال: إن اختصما على تلك الحالة لم يكن له ردها، وإن لم يختصما حتى عاد الماء كما كان على خياره.

.نوع منه:

في اشتراط الخيار لهما وفي بيان أحكامه إذا كان الخيار لهما فمات أحدهما لزم البيع من جهته والآخر على خياره، فخيار الشرط لا يورث هنا عندنا خلافًا للشافعي.
وفي (المنتقى): رجل باع عبدًا بأمة على أن كل واحد منهما بالخيار فأجاز بائع العبد البيع وقد تقابضا فمات العبد في يد المشتري فقد لزمه وتم البيع فيه.
رجل اشترى عبد الجارية وشرط كل واحد الخيار لنفسه فيما باع، ثم إنهما أعتقا معًا جاز عتق كل واحد منهما في السلعة التي كان يملكها.
رجل اشترى من آخر عبدًا بألف درهم وهما جميعًا بالخيار فقال البائع: قد أجزت البيع بحضرة من المشتري، وقال المشتري بعد ذلك: قد فسخت البيع بحضرة البائع فالبيع ينفسخ، فإن هلك العبد في يدي المشتري قبل أن يرده في الأيام الثلاثة أو بعدها فعلى المشتري الثمن من قبل أن البائع قد ألزم البيع وصار المشتري بالخيار دون البائع.
ولو أصابه عيب قبل هذه المقالة أو بعدها فهو على سواء وعليه الثمن ولا يستطيع رده بعد العيب الذي أصابه، وإن بدأ المشتري ففسخ العقد، ثم إن البائع أجاز البيع، ثم هلك العبد فعلى المشتري قيمته.
وكذلك لو أصابه عيب نقصه بعد هذه المقالة فالبيع منتقض يرد المبيع ويرد نقصان العيب، ولو أصابه العيب قبل أن يفسخ المشتري البيع، ثم فسخه المشتري، ثم أجازه البائع فالبيع لازم للمشتري وعليه الثمن من قبل أن العيب الذي حدث به عند المشتري بمنزلة إجازة البيع، فإذا أجازه البائع بعد ذلك فقد تم البيع فلزم الثمن وإذا كان الخيار للبائع أو للمشتري فتناقضا العقد، ثم هلك المبيع في يدي المشتري قبل الرد على البائع يبطل حكم ذلك الفسخ ويعود حكم البيع ويجعل كأن الهلاك كان قبل فسخ البيع.

.نوع آخر في الاختلاف في عقد البيع على الخيار:

هشام قال: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة رحمه الله: رجل ادعى أنه باع هذا العبد من هذا أمس بألف درهم على أني بالخيار وجحد المشتري الخيار فالقول قول البائع وهو المدعي للخيار وقال أبو يوسف: القول قول المشتري وكذلك إن كان المشتري هو الذي ادعى الشراء بشرط الخيار وجحد البائع الخيار فالقول قول المشتري وهو المدعي للخيار.
وفي (البقالي): عن أبي حنيفة: أن القول قول من سعى بالخيار، وفيه أيضًا: القول قول من يدعي الخيار عند محمد.
قال في (البقالي): وأطلق الأصل أن القول قول من يبقيه وكذا في المجرد، وقال أبو يوسف: إذا ادعى أحدهما الخيار لبيع قد مضى، ثم أصدقه إلا يبقيه وإن ادعى أحدهما الخيار لبيع باعه من ساعته ووصل دعواه بالخيار، فإني أقبل ذلك من أيهما ادعاه، وعن أبي يوسف فيمن قال لامراته: طلقتك أمس إن شئت وقالت المرأة: طلقتني لغدٍ فالقول قول الزوج، ولو قال: بعتك أمس إن شئت، وقال المشتري: اشتريته إليه فالقول قول المشتري، وإنما افترقا؛ لأن في قوله: بعتك أمس أنك قبلته وليس ذلك في الطلاق.
وفي (المجرد): إذا اختلفا في مقدار الخيار فالقول قول من يدعي الأقل، وإذا اتفقا على مقدار واختلفا في المضي فالقول قول من أنكر المضي.

.نوع آخر في الاختلاف في الخيار في البيع في موت العبد ومضي الخيار وبعده:

قال محمد في (الجامع الكبير): رجل باع عبدًا من رجل بألف درهم على أن البائع فيه بالخيار وقبضه المشتري فمضت المدة فقال أحدهما أيهما كان، إن العبد مات في الثلاث وانتقض البيع ووجبت القيمة.
وقال الآخر: لا بل هو حي آبق فالقول قول من يدعي أنه حي آبق؛ لأن الظاهر شاهد له من وجوه من حيث إنه عرف حياة العبد، والأصل في الثابت بقاؤه ومن حيث إن العقد قد انعقد فكان الأصل بقاؤه ومن حيث إن مدة الخيار انقضت فكان الأصل لزوم العقد فكان الظاهر شاهدًا له من هذه الوجوه الثلاثة، ومدعي الموت يشهد له الظاهر من وجه واحد من حيث إن الغير في مدة الخيار كان مضمونًا على المشتري بالقيمة، والأصل بقاؤه.
قلنا: من يشهد له الظاهر من وجه واحد لا يعارض من خبره خبر من يشهد له الظاهر من وجوه، فإن أقاما البينة كانت البينة بينة من يدعي أنه حي آبق أيضًا.
وطعن عيسى ابن أبان في هذا فقال: يجب أن تكون البينة بينة من يدعي الموت في مدة الخيار؛ لأنه يدعي أمرًا على خلاف الظاهر على ما مر، والبينات شرعت لإثبات ما خفي من الأمور دون إثبات ما ظهر منها، ألا ترى أنا رجحنا بينة الخارج على بينة ذي اليد في دعوى الملك المطلق خفي من الأمر كذا هاهنا، الجواب أن بينة من يشهد له الظاهر إنما تبطل إذا بقي الظاهر مع بينة خصمه كما في الخارج مع ذي اليد؛ لأن هناك شهادة الظاهر إنما تثبت بحكم اليد واليد لا تبطل بينة الخارج إما إذا بطل الظاهر ببينة خصمه لا يبطل كونها حجة لحق وهو أن الظاهر إذا لم يبطل ببينة خصمه مما يثبت له بالظاهر لا يثبت لبينة وبينة الخصم تثبت من كل وجه فكانت بينة خصمه أكثر إثباتًا فترجحت باعتبار هذا، أما إذا أبطل الظاهر بينة خصمه وبينته مبينًا من كل وجه أيضًا، فلا يترجح بينة خصمه، بل يطلب الترجيح في نفس البينة فكانت أكثر أمانًا فهو أولى إذا ثبت هذا.
فنقول لما قامت البينة على الموت في الثلاث بطل الظاهر الذي كان يشهد لمن يدعي الحياة بعد الثلاث من كل وجه وهو ظاهر الحياة وظاهر العقد وانقضاء المدة، فإن انقضاء المدة لا يؤثر في اللزوم مع الموت في المدة، فإذا بطل الظاهر كله يعتبر معنى الإثبات وبينة من يدعي الحياة بعد مضي المدة أكثر إثباتًا لأنها تثبت لزوم العقد وإنتقال المبيع من ملك البائع إلى ملك المشتري، والانتقال من ضمان القيمة إلى ضمان الثمن أيضًا.
وبينة صاحبه تبقي ذلك كله فكانت بينة من يدعي الحياة أولى، وإن تصادقا بعد الثلاث أن العبد مات واختلفا في وفاته، فقال أحدهما: مات في الثلاث وقال الآخر: مات بعد الثلاث فالقول قول من يدعي الموت في الثلاث؛ لأن مدعي الموت في الثلاث مدعي نقض البيع وموت العبد سبب لنقض البيع في البيع بشرط الخيار للبائع إذا علم موته بعد الثلاث ولم يثبت فكان الظاهر شاهد المدعي الموت في الثلاث من هذا الوجه، ولأن مدعي الموت في الثلاث يدعي ضمان القيمة وقد عرف ثبوته، ويدعي هلاك العبد على ملك البائع وعرف كونه ملك البائع أيضًا فكان الظاهر شاهدًا له من هذه الوجوه.
فأكثر ما في الباب أن الظاهر شاهد يدعي المدعي الموت بعد الثلاث من حيث إنه يدعي بقاؤه حيًا إلى بعد الثلاث وقد عرف كونه حيًا ويدعي حدوث الموت لأقرب الأوقات ومدعي بقاء العقد إلى ما بعد الثلاث وقد عرف قيامه فتعارضت الظواهر، لكن الظاهر يصلح للدفع دون الاستحقاق ومدعي النقض يدعي حدوث ملك المشتري وحدوث ضمان الثمن. ومدعي الجواز يدعي حدوث ملك المشتري وضمان الثمن.
فلهذا كان القول قول من يدعي الموت في الثلاث، فإن أقاما البينة (فالبينة) بينة من يدعي الموت بعد الثلاث؛ لأنه يثبت ببينته لزوم العقد وحدوث الملك للمشتري والنقل من ضمان القيمة إلى ضمان الثمن وكل ذلك غير ثابت قبل البينة، وبينة من يدعي بعد الموت بعد الثلاث أولىّ.
ولو تصادقا أن العبد مات بعد الثلاث في يد المشتري فأقام أحدهما البينة أن البائع نقض البيع في الثلاث بمحضر من المشتري وأقام الآخر البينة أن البائع أجاز البيع في الثلاث فالبينة بينة من يدعي النقص؛ لأن حياة العبد بعد مضي المدة تدل على لزوم العقد فالانتقال من ضمان القيمة إلى ضمان الثمن بالذي على نص النقض يثبت خلاف الظاهر والأخر يثبت ما هو ظاهر فكانت بينة من يدعي أكثر إثباتًا.
ولو تصادقا أن العبد مات في الثلاث وأقام أحدهما البينة على النقض والأخر على الإجازة قبل الموت فالبينة بينة من يدعي الإجازة؛ لأن الموت في الثلاث موجب النقض فالبينة على الإجازة هي التي تثبت ما ليس بظاهر فكانت حق بالقبول.
ولو ادعى أحدهما أن الثلاث مضت والعبد حي، ثم مات وأن البائع نقض البائع قبل موته بمحضر من المشتري ولا بينة لهما فالقول قول من يدعي الموت في الثلاث؛ لأن كل واحد منهما يدعي شيئين.
أحدهما: الموت في الثلاث، والنقض قبل ذلك وادعى الأخر بقاؤه في الثلاث والإجازة ودعوى كل واحد منهما أولًا متضمن دعواه آخر؛ لأن الذي ادعى بقاء العبد بعد الثلاث ادعى لزوم العقد، وقوله: إن البائع جاز البيع دعوى لما تضمنه الكلام الأول والذي ادعى الموت في الثلاث ادعى انتقاص البيع، وقوله: إن البائع نقض البيع دعوى لما تضمنه الكلام الأول فلغى عن دعوى كل واحد منهما لدعوى الثاني في بقيت العبرة لدعوى أحدهما الموت في الثلاث ودعوى الأخر: الموت بعد الثلاث، وقد ذكرنا أن في هذا القول قول من يدعي الموت في الثلاث والبينة بينة صاحبه كذا هاهنا.
وإن ادعى أحدهما أن العبد مات بعد الثلاث وإن البائع نقض البيع في الثلاث بمحضر من المشتري وادعى الأخر أن العبد مات في الثلاث وأن البائع جاز البيع قبل موت العبد فنقول كل واحد منهما ضم إلى دعواه لا بجانبه؛ لأن موت العبد في الثلاث يدل على النقض فلا يصح معه دعوى جواز البيع فلا يصح معه دعوى النقض فاعتبر من دعوى كل واحد منهما السابق، وهو دعوى الموت في الثلاث، أو بعد الثلاث وقد بينا هناك أن القول قول من يدعي الموت في الثلاث والبينة بينة صاحبه.
ولو كان البائع والمشتري جميعًا بالخيار ثلاثة أيام وقد قبض المشتري العبد فادعى أحدهما أن الثلاث مضت والعبد حي، ثم مات بعد ذلك، وأيهما جميعًا أجاز البيع قبل موته فالقول قول من يدعي النقض والبينة بينة صاحبه؛ لأن كل واحد منهما ضم إلى دعواه السابق ما لا يجانسه على أمر، فاعتبر السابق من دعوى كل واحد منهما وهو دعوى الموت في الثلاث ودعوى الموت بعد الثلاث، وقد بينا في هذا أن القول قول من يدعي الموت في الثلاث والبينة بينة صاحبه.
قال أبو يوسف ومحمد: لو أن رجلًا باع من رجل عبدًا على (أن) البائع أو المشتري بالخيار ثلاثه أيام وقبض المشتري العبد فمضت الثلاث والعبد حي قائم فأقام أحدهما البينة على النقض في الثلاث وأقام الآخر البينة على الإجازة في الثلاث كانت بينة النقض أولى؛ لأن العبد لما بقي حيًا بعد الثلاث فذلك دليل الجواز.
ولهذا لو لم يكن لهما بينة جعل القول قول من يدعي الجواز فصارت بينة النقض هي البينة لأمر غير ظاهر فكانت أولى، وإن أقام البينة على ما ذكرنا في الثلاث فالبينة بينة من لا خيار له؛ لأن من له الخيار يثبت ببينته أمرًا يملك الشاة فلا حاجة له إلى إثباته بالبينة، والذي لا خيار له يحتاج إلى إثبات ما يدعيه بالبينة فكانت بينته أولى، بخلاف ما إذا مضت المدة؛ لأن هناك كل واحد منهما يدعي أمرًا لا يملك استئنافه وبينة النقض على المنفعة على أمر فكانت هي أولى، ولو كان الخيار لهما فأقام أحدهما البينة على النقض منهما جميعًا، وأقام الأخر البينة على الإجازة منهما جميعًا وكان الاختلاف بينهما بعد مضي الأيام الثلاثة فالبينة بينة من يدعي النقض؛ لأن لزوم البيع ثابت بمضي المدة ظاهرًا فكانت بينة النقض على المنفعة فيكون أولى.
ولو اختلفا على هذا الوجه في الأيام الثلاثة ولم يكن لهما بينة، فالقول قول من يدعي النقض، ولو أقام البينة فالبينة بينة مدعي الإجازة؛ لأنه ادعى أمرًا لا يتفرد به فاحتاج إلى إثباته بالبينة، والأخر ادعى أمرًا يتفرد به فلم يحتج إلى إثباته بالبينة، فإن عرف تقدم أحدهما فذلك أولى؛ لأن أحد الأمرين إذا ثبت تقدمه بطل الآخر بعده؛ لأنهما ضدان.
قال محمد رحمه الله في (الجامع) أيضًا: رجل باع عبدًا على أن البائع بالخيار ثلاثة أيام فقبضه المشتري وقيمته ألف درهم فزادت قيمته في الأيام الثلاثة فصارت ألفي درهم، ثم مضت الأيام الثلاثة، فأقام البائع بينة أن المشتري قتله خطأ في الأيام الثلاثة، وبعدما صارت قيمته ألفي درهم، وأنكره المشتري فأقام المشتري بينة أن البائع قتله خطأً بعد مضي الأيام الثلاثة فالبينة بينة البائع.
فرق بين القتل وبين الموت على هذا الوجه بأن أقام أحدهما البينة بعد مضي الأيام الثلاثة، أنه مات في يد المشتري في الثلاث، وأقام الآخر البينة أنه مات بعد الأيام الثلاثة حيث كانت البينة بنية من يدعي الموت بعد الثلاث.
والفرق: وهو أن القتل نفسه مقصود بالإثبات بالنية لما يتعلق بالقتل من الضمان على العاقلة، فإنه لا يتوصل الى هذا الحكم إلا بعد إثبات القتل فصار نفس القتل مقصودًا بالإثبات.
ولما كان هكذا فبينة البائع أثبت القتل من المشتري في وقت لا مزاحم لها ضرورته انتفاء القتل من البائع بعد ذلك، إذ القتل لا يتكرر فأما الموت فغير مقصود بالإثبات إذ لا يتعلق به حكم مقصود، فلا تعتبر البينة على نفس الموت، وإنما المعتبر ما يترتب على الموت من الحكم وبينة من يدعي الموت بعد الثلاث أكثر إثباتًا فيما يترتب عليه من الحكم على (ما) مر.
ونظير هذا ما قال في الشهادات في رجل أقام البينة إن أباه مات في رمضان وهو وارثه لا وارث له غيره، وأقامت امرأة البينة إن أباه تزوجها في شوال من تلك السنة فالبينة بينة المرأة؛ لأن الموت غير مقصود بالإثبات في رمضان إذ لا يتعلق به حكم المقصود بالموت في رمضان، وإنما يثبت الابن الإرث لنفسه، والمرأة مقرة بذلك.
أما المرأة يثبت بها النكاح في شوال وهو مقصود لما يتعلق به من الأحكام، فكان بينتها أولى، وبمثله لو أقام الابن البينة أن فلانًا قتل أباه في رمضان وباقي المسألة بحاله كانت بينته أولى؛ لأن النفس القتل هاهنا مقصود بالإثبات لما يتعلق به وجوب الدية على العاقلة ببينته بالقتل في رمضان، ثم لا يتصور للنكاح منه بعد ذلك في شوال، فكذلك في مسألتنا.
وإذا قضينا بموجب ضمان القتل للبائع هنا كان للبائع أن يضمن عاقلة المشتري، ولو أراد أن يضمن المشتري قيمة العبد يوم قبضه لما أنه قبضه على ضمان القيمة لم يكن له ذلك؛ لأنا لو أثبتنا له ذلك ابتداء أبطلناه انتهاءً، وهو أن البائع متى اختار تضمين المشتري قيمة العبد بسبب القبض تبين أن القتل لم يكن مقصودًا بالإثبات إذ لا يبقي للقتل حكمًا في هذه الحالة لصيرورة البائع معرضًا عن دعوى ضمان الجناية على القتل فبقي مدعيًا بمجرد الموت، ولو وقعت الدعوى في مجرد الموت على هذا الوجه كانت بينة المشتري أولى فيظهر أنه لم يكن للبائع تضمين المشتري القيمة بسبب القبض، فصح أن في تضمينه في الابتداء إبطاله في الانتهاء.
وكذلك لو أقام البائع البينة أن فلانًا قتله في الأيام الثلاث خطأ، وأقام المشتري بينته على ذلك الرجل أو غيره أنه قتله خطأً بعد مضي الأيام الثلاثة كانت بينة البائع أولى، ويقضي البائع على العاقلة القاتل بقيمته يوم القتل، وإن اختار تضمين المشتري القيمة لم يكن له ذلك لما مر.
ولو كان المشتري أقام البينة على البائع قتله في الأيام الثلاثة وأقام البائع بينته أن المشتري قتله بعد الأيام الثلاث فالبينة بينة البائع؛ لأن القتل هنا غير مقصود بالإثبات؛ لأن كل واحد منهما لهذا القتل لا يدعي لنفسه حقًا على صاحبه؛ لأن قتل المشتري بعد الثلاث يقع على ملكه فلا يوجب شيئًا للبائع.
وكذلك قتل البائع في الثلاث يقع على ملكه فلا يوجب شيئًا للمشتري، فلم يكن القتل مقصودًا بالإثبات إنما يتعلق به من أحكام، وذلك في بينة البائع أكثر، وهو جواز البيع ولزومه والانتقال إلى ضمان الثمن فكانت بينة البائع أولى، ولو أقام البائع بينة على أن هذا الأجنبي قتله بعد الأيام الثلاثة، وأقام المشتري بينة على أن هذا الأجنبي أو غيره قتله في الأيام الثلاثة فالبينة بينة البائع؛ لأن كل واحد ببينته يثبت حكم القتل لغيره، وذلك الغير ممكن فلم يكن ليقتل مقصودًا فاعتبر كأن البينتان قامتا على الموت على هذا الوجه.
وهناك كانت بينة البائع أولى فكذلك هنا، وإن أراد المشتري في هذا الوجه إثبات القتل على الذي أقام عليه البائع البينة أنه قتله بعد الثلاث، وأراد تضمنه لم يكن له ذلك؛ لأنه قد ادعى القتل على غيره فيصير يدعي القتل عليه فتناقضًا.
قال محمد في (الجامع) أيضًا: رجل باع عبدًا من رجل بألف درهم أن البائع بالخيار فيه ثلاثة أيام فقبضه المشتري فصارت قيمته ألفي درهم فأقام البائع بينة على أن هذا الأجنبي غصب هذا العبد من المشتري بعد ما صارت قيمته ألفي درهم فمات في الأيام الثلاث عنده، وأقام المشتري البينة أن هذا الرجل أو غيره غصب هذا العبد في الأيام الثلاثة وقيمته ألف درهم فمات عنده بعد مضي الأيام الثلاثة، فإن بينة المشتري أولى بخلاف مسألة القتل.
والفرق بينهما: وهو أن دعوى الغصب على الأجنبي إنما يعتبر بحكمه وكل واحد منهما يدعي الحكم لنفسه، ولا يعتبر بالموت في دعوى الغصب، فإن في دعوى الغصب بحكم نفسه صحيح بدون دعوى الموت.
وإنما المعتبر في ذلك جواز العقد وانتقاضه إن أجاز العقد فحكم الغصب للمشتري، وإن انتقض فحكمه يكون للبائع فصار المحتاج إليه في دعوى الغصب إثبات النقض للبائع، وإثبات الجواز للمشتري فالجواز هو العارض، وذلك في بينة المشتري فصار الحكم به أولى، ثم تبعه ضمان الغصب بخلاف ضمان القتل.
ولو أقام البائع بينة على الموت بعد الثلاث عند الغاصب وأقام المشتري بينته على البائع؛ لأن كل واحد منهما يثبت حكم الغصب لغيره، فلم يعتبر البينة على حكم الغصب، واعتبر نفس الموت، فيكون القضاء ببينة البائع أولى لما مر، وإذا قضينا على هذا الوجه كان للمشتري أن يضمن الغاصب قيمته بخلاف ما سبق من مسألة القتل في نظير هذا، فإن هناك إذا قضينا ببينة البائع ليس للمشتري أن يضمن القاتل شيئًا.
والفرق بينهما: أن في مسألة القتل كل واحد منهما يثبت حكم القتل لغيره فبطل ذلك، واعتبرت البينة على الموت وعقد ذلك يقضي بالموت بعد الثلاث فالقضاء بالموت بعد الثلاث ينافي القضاء بالقتل في الثلاث، أما هاهنا الغصب ثبت من هذا الغاصب في الثلاث بينهما والقضاء بالموت بعد الثلاث لا ينافي الغصب في الثلاث فبقي الغصب محكومًا به، فكان للمشتري أن يأخذه بضمان الغصب، وكذلك إذا كان الغصب من اثنين كان للمشتري أن يأخذ الذي ثبت الغصب عليه بضمان؛ لأن الغصب ثبت على الذي أثبته المشتري ببينته لا أن المشتري زعم أن حكمه للبائع، وإذا قضينا ببينة البائع صار المشتري مكذبًا في زعمه أن ضمان الغصب للبائع فالتحق زعمه بالعدم، فلهذا كان الجواب كذلك، وإن لم يقم البينة على ما وصفنا من القتل والموت فالقول قول من يدعي القتل، والموت في الثلاث؛ لأن الظاهر يشهد له على الوجه الذي قلنا.

.نوع آخر في شرط الخيار في بعض المبيع:

قال محمد في (الجامع الصغير): وإذا اشترى الرجل شيئين بأن اشترى عبدين أو ثوبين على أنه بالخيار في أحدهما يأخذ أيهما شاء بعشرة مثلًا ويرد الآخر فهو جائز في الثوبين والثلاثة استحسانًا، والقياس أن لا يجوز ولا يجوز فيما زاد على ذلك قياسًا واستحسانًا.
وقد اختلف ألفاظ الفسخ في هذه المسألة: وقع في بعضها اشترى شيئين، ووقع في بعضها اشترى أحد الشيئين وهو الصواب؛ لأن المشتري أحدهما وإنما جاز هذا العقد استحسانًا مع كون المبيع مجهولًا؛ لأنه بمعنى ما جاءت به السُنة وهوشرط الخيار ثلاثة أيام لمساس الحاجة، وكون الجهالة غير مفضية إلى المنازعة، أما الحاجة؛ فلأن الإنسان قد يشتري الشيء لعياله ولا يعجبه أن يحمل معه عياله إلى السوق ولا يرضى البائع بالتسليم إليه عينتيّ ليحمله إلى عياله من غير عقد فيحتاج إلى مباشرة العقد بهذه الصفة لاختيار الأرفق بمحضر من عياله.
والجهالة هنا غير مفضية إلى المنازعة؛ لأن التعيين إلى من له الخيار بخلاف ما إذا لم يشترط الخيار لنفسه؛ لأن الجهالة ثمة تفضي إلى المنازعة، وبخلاف ما إذا لم يسم لكل ثوب ثمنًا، فإن هناك ثمن ما يتناوله العقد مجهول وإنما اقتصر الجواز على الأبواب الثلاثة؛ لأن فيما زاد على الثلاث إن انعدمت المنازعة لم توجد الحاجة لاندفاعها بالثلاث لاقتصار صفات الأبواب على الجودة والوساطة والرداءة وهذه الرخصة كانت قائمة بوضعين فلم يقم بأحدهما، ويجوز هذا العقد إذا كان فيه شرط الخيار مع خيار التعيين.
وهل يجوز بدون شرط الخيار؟ فيه كلام على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، ثم هذا البيع يجوز مع هذا الخيار ثلاثة أيام بلا خلاف، وهل يجوز مع هذا الخيار أربعة أيام لا شك أن على قولهما يجوز كما في العين الواحد، وأما على قول أبي حنيفة فقد اختلف المشايخ فيه، كان الكرخي يقول لا يجوز؛ لأن هذا الخيار على قول الكرخي ملحق بخيار الشرط ولهذا قال: لا يجوز البيع إذا لم يكن الخيار مؤقتًا، وخيار الشرط إذا كان مؤقتًا أربعة أيام يوجب فساد البيع عند أبي حنيفة، فكذلك هذا الخيار، وكان ابن شجاع يقول: يجوز؛ لأن هذا الخيار على قول ابن شجاع غير ملحق بخيار الشرط، ولهذا قال: أن البيع جائز مع هذا الخيار، وإن لم يكن مؤقتًا، فأما إذا ذكر الخيار مطلقًا ولم يؤقته كان الكرخي يقول: لا يجوز البيع وإليه أشار في (الجامع الصغير) وفي (المأذون)، فإنه وضع المسألة في الخيار المؤقت.
وفائدة ذكر التوقيت: أنه لا يجوز بدونه وإليه مال شمس الأئمة السرخسي، وفخر الإسلام علي البزدوي، وكان ابن شجاع يقول: يجوز وإليه أشار في (الجامع الكبير) وفي بيوع (الأصل) وإليه مال بعض المشايخ، وبعضهم قالوا في المسألة روايتان.
وجه ما ذكره الكرخي: أن هذا اختيار لا يثبت إلا بالشرط فلا يجوز إلا مؤقتًا قياسًا على خيار الشرط في عين واحد ولهذا ذكره مؤقتًا في بعض الكتب، وما ذكره مطلقًا في بعض الكتب فهو مجهول على المؤقت.
وجه ما ذهب إليه ابن شجاع: أن هذا الخيار ليس بخيار شرط بل هو خيار تمييز ملك من له الخيار عن ملك غيره ابتداء وإنتهاء؛ لأنه فسر قوله على أني بالخيار بقوله أحديهما شئت وأراد الآخر، وإبداء الحكم للتفسير لا لأول الكلام وخيار تيميز الملك لا يتوقت كما لو ثبت هذا الخيار بسبب الاختلاط، ولهذا ذكر محمد رحمه الله هذا الخيار في بعض الكتب مطلقًا، وإنما ذُكر في بعض الكتب مؤقتًا لتبيين أن العقد جائز مع التوقيت في الخيار، كما هو جائز مع التأبيد لا لبيان أن التوقيت شرط للخيار، وأما قول الكرخي أنه لا يثبت إلا بشرط.
قلنا: إنما تعلق بثبوته بالشرط قطعًا للمنازعة؛ لأنه متى لم يشترط الخيار لأحدهما يثبت خيار التعيين لهما جميعًا بحكم الملك، فلا يتعد تعيين أحدهما على صاحبه قبل اشتراط الخيار له فكان الشرط محتاجًا إليه لهذا لا؛ لأنه خيار شرط، ثم إذا جاز البيع على وجه الذي قلنا فقبضهما المشتري فأحدهما معقود عليه مضمون على المشتري بالثمن والأخر ملك البائع أمانة في يد المشتري؛ لأن الداخل تحت العقد أحدهما لا كلاهما والذي لم يدخل تحت العقد حصل قبضه بإذن المالك لا على سوم الشراء ولا على وجه الوثيقة فيكون أمانة في يده كالوديعة، فإذا هلك أحدهما أو تعيب أحدهما وقد عجز عن رد الخيار لفوات الشرط وهو الرد على الوجه الذي قبض يتعين هو مبيعًا حين تعيب أو أشرف على الهلاك ويتعين الآخر.
بخلاف ما لو اشترى كل واحد منهما بعشرة على أنه بالخيار ثلاثة أيام فهلك أحدهما عنده، فإنه لا يرد الباقي؛ لأن العقد تناولهما ولهذا ملك إتمام العقد فيهما، فلو رد الباقي منهما بعد هلاك أحدهما كان فيه تفريق الصفقة قبل التمام، وذلك لا يجوز، أما هاهنا العقد يتناول أحدهما، ولا لهذا لا يملك إتمام العقد فيهما فبعد ما هلك أحدهما لو رد الأخر لا يكون فيه تفريق الصفقة قبل التمام، وكذلك إذا تصرف في أحدهما تصرفًا يبطل الخيار ولزمه ثمنه ويتعين هو مبيعًا؛ لأنه دليل الاختيار بالدلالة كالاختيار بالصريح.
ولو تصرف المشتري أو حدث العيب بهما وهما حيَّان فهو على خياره؛ لأن المبيع أحدهما وأحدهما لم يتعين البيع فيه بأولى من الأخر فكان على خياره فيرد الذي لم يخير وليس له أن يردهما بخلاف ما قبلهما قبل التعييب.
والفرق وهو: أن العقد هاهنا قد لزمه في المبيع منهما وسقط خيار الشرط فيه فلا يتمكن من ردهما بخلاف ما قبل التعييب؛ لأن العقد هناك لم يلزمه في المبيع منهما وبقي خيار الشرط فكان له أن يردهما، أما هاهنا بخلافه، وإذا ردَّ الذي لم يخير في مسألتنا لا يلزمه أن يغير النقصان استحسانًا، والقياس أن يرد معه نصف أرش النقصان، ولو ماتا معًا لزمه نصف ثمن كل واحد منهما.
ووجه القياس: أن بحدوث العيب فيهما هلك جزء منهما والجزء معتبر بالكل ولو هلكا معًا شاع الأمانة والضمان فيهما، فكذلك إذا هلك جزء منهما.
وجه الاستحسان: وهو أن خيار التعيين لم يسقط بحدوث العيب بهما؛ لأن المبيع محل لابتداء البيع فيكون محلًا للبيان، وإذا بقي خيار التعيين صح تعينه، فتعين عينه للبيع فيه، ومن ضرورة تعينه للبيع تعين الأخر للأمانة وتعيب الأمانة في يد الأمين لا يوجب عليه ضمانًا بخلاف ما إذا ماتا؛ لأنه سقط خيار التعيين بموتهما؛ لأن الهلاك محلًا لابتداء البيع فيه، فلا يكون محلًا للتعيين، وإذا سقط خيار التعينين استحكمت الجهالة فكان طريق رفعها التوزيع والشيوع فلهذا لزمه نصف ثمن كل واحد منهما بخلاف ما نحن فيه، ثم هل يشترط أن يكون في هذا العقد خيار الشرط مع خيار التعيين اختلف المشايخ فيه. منهم من قال: يشترط وهو المذكور في (الجامع الصغير).
فقد ذكر فيه اشترى ثوبين على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء وهو بالخيار وثلاثة أيام منهم من قال: لا يشترط وهو المذكور في (الأصل) و(الجامع)، فإنه ذكر هذه المسألة في (الأصل) ولم يذكر خيار الشرط وهذا القائل يقول: إذا لم يذكر خيار الشرط يلزم العقد في أحدهما ولا يردهما، وإذا ذكر لا يلزم العقد في أحدهما وله أن يردهما، وذكر الكرخي هذه المسألة في كتابه ولم يذكر فيها خيار الشرط، وذكر أن له أن يردهما؛ لأن هذا الخيار عنده في معنى خيار الشرط ولهذا يشترط التأقيت فيه هذا إذا حصل البيع بشرط الخيار للمشتري، فإن حصل البيع بشرط الخيار للبائع، فإن قال البائع: بعتك أحد هذين الثوبين على أني بالخيار عيَّن البيع في أحدهما دون الآخر، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة هاهنا ولا في بيوع (الأصل).
وذكر الكرخي في (مختصره): أنه يجوز استحسانًا قالوا، وإليه أشار في (المأذون)؛ لأن هذا بيع يجوز مع خيار الشرط، فيجوز مع خيار البائع قياسًا على خيار الشرط.
وذكر في (المجرد): أنه لا يجوز هذا العقد مع خيار المشتري إنما يجوز بخلاف القياس باعتبار الحاجة إلى اختيار ما هو الأرفق بحضرة من يقع الشراء له، وهذا المعنى لا يتأتى في جانب البائع؛ لأنه لا حاجة له إلى الخيار لاختيار الأرفق؛ لأن المبيع كان معه قبل البيع فيرد جانب البائع إلى ما يقتضيه القياس هذا إذا باع أحدهما وشرط الخيار للمشتري ليأخذ أيهما شاء.
ولو لم يشترط الخيار للمشتري إنما باعه أحد الثوبين أو أحد العبدين بعشرة مثلًا، فإنه لا يجوز هذا العقد؛ لأن المبيع مجهول جهالة تفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم، فإذا دفعها البائع إلى المشتري فماتا عند المشتري ضمن نصف قيمة كل واحد منهما؛ لأن أحدهما يبيع ملكه المشتري بالقبض بحكم الفاسد وصار مضمونًا عليه بالقيمة، والأخر أمانة في يده وليس أحدهما بأن يجعل أمانة على التعيين بأولى من الآخر، وبيع الأمانة والضمان فيهما، ولو مات أحدهما قبل صاحبه يتعين الأول للعقد، كما في البيع الصحيح لو مات أحدهما قبل صاحبه يتعين الأول.
وإن اعتقهما المشتري معًا عتق عليه أحدهما ملكه وكان على المشتري قيمته؛ لأنه ملكه بحكم عقد فاسد، وكان البيان إلى المشتري؛ لأن الذي نفذ عتقه فيه مضمون عليه، والقول في تعيين المضمون قول من عتق عليه.
ولو اعتق المشتري أحدهما قبل الآخر جاز عتقه في الأول وتعين هو معقودًا عليه تصحيحًا لإعتاقه، ولو قال المشتري: أحدكما حر كان باطلًا؛ لأنه جَمْعٌ، بينما يملك وبينما لا يملك، وأعتق أحدهما وفي مثل هذا لا يصح الإعتاق أصلًا.
وكذلك لو أعتق البائع أحدهما بغير عينه كان باطلًا؛ لأنه جمع بينما يملك وبين لا يملك؛ لأن أحدهما زال عن ملكه، وكذلك إذا قالا: جميعًا أحدكما حر كان ذلك باطلًا حتى لا يعتق واحد منهما، وإن قالا: جميعًا وأحدهما قبل الأخر هما حران عتقا؛ لأن كل واحد أعتق ما يملك وما لا يملك فيصح إعتاقه فيما يملك ولا يصح فيما لا يملك وتقرر على المشتري قيمة الذي نفذ عتقه فيه ويكون الخيار إليه لما قلنا.
وإن مات المشتري قبل التعيين كان الخيار لورثته؛ لأن الخيار إنما يثبت للمشتري باعتبار أنه وجب عليه القيمة والقول في تعيين القيمة إليه، وبعدما مات المشتري فالقيمة تجب على الورثة في تركة الميت فيكون البيان إليهم أيضًا، ولو أن البائع أعتق أحدهما بعينه بعدما قبضهما المشتري لم ينفذ عتقه.
وإن رفع الأمر الى القاضي حتى ردهما القاضي على البائع بحكم فساد البيع نفذ إعتاق البائع؛ لأن إعتاق البائع صادف محلًا مملوكًا للبائع؛ لأن زوال ملك البائع بالبيع إنما كان ضرورة الثبوت للمشتري، وملك المشتري إنما ثبت في المنكر فيزول ملك البائع عن المنكر أيضًا، والإعتاق صادف المعين فكان مصادفًا ملك البائع إلا أنه لم ينفذ في الحال؛ لأن للمشتري خيار التعيين، ولو نفذ الإعتاق يبطل خيار المشتري وقد زال هذا المعنى هاهنا، فوجب القول بنفاذ العتق بين هذا وبينما إذا أعتق البائع العبد المبيع بشرط الخيار للمشتري البيع حيث لاينفذ العتق.
والفرق وهو: أن شرط الخيار للمشتري لا يمنع زوال المبيع عن ملك البائع وإنما يعود بعد ذلك إلى ملك البائع بسبب الفسخ، والفسخ لم يوجد بعد، فلم يكن السبب قائمًا حتى يتوقف العتق باعتبار النظر الى سبب الملك، أما هاهنا بخلافه.
وفرق بين هذا وبين الموصى له يأخذ العبيد الثلاثة إذا أعتق أحدهم بعينه بعد موت الموصي، ثم عين الوارث الوصية فيه حيث لاينفذ عتقه.
والفرق وهو: أن الموصى له إنما يملك الموصي به بالوصية ابتداءً والوصية صادفت المنكر والسبب المصادف المنكر في حق المعين كالمعلق بخطر البيان، والسبب القاهر لايكفي لتوقف العتق، أما هاهنا بخلافه على ما مر، ولو أن القاضي لم ينقض البيع حتى أعتق المشتري العبد الذي أعتقه البائع نفذ ذلك منه وبطل إعتاق البائع؛ لأن إعتاق البائع موقوفًا فيه، وكان للمشتري خيار التعيين فإذا أقدم على إعتاق هذا العبد صار ذلك منه تعيينًا للبيع فيه فتعين وطرأ الإعتاق النافذ على الإعتاق الموقوف فأبطله.
وكذلك لو مات هذا العبد من غير أن يعتقه المشتري بطل إعتاق البائع، لأنه لما مات تعين هو مبيعًا فلو أن البائع أعتق العبدين جميعًا بعد قبض المشتري، ثم نقض القاضي البيع فيهما عتق على البائع أحدهما، والخيار إليه؛ لأن أحدهما باقي على ملك البائع وقت الإعتاق، والآخر لا يدخل ملكه بحكم البيع الفاسد، والزائد عن ملك البائع بسبب البيع الفاسد لايتوقف فيه إعتاق البائع، ما الذي بقي على ملكه ينفذ الإعتاق فيه ويكون التعيين الى البائع.
وكذلك لو أعتق البائع أحد العبدين بعينه، ثم إن المشتري أعتق العبد الآخر أو دبر أو مات الآخر في يد المشتري نفذ عتق البائع فيه، وكذلك إذا اختار المشتري البيع في الآخر نصًا، وكذلك لو أعتق البائع العبدين، ثم إن المشتري أعتق أحدهما بعينه نفذ عتق البائع في الآخر فيتوقف عتق البائع في هذه المسائل، وإنما توقف؛ لأنه نفذ فيهما يبطل خيار المشتري، ولو نفذ في أحدهما يتعين الآخر للبيع من غير اختيار المشتري نصًا أو دلالة ولا وجه إليه وتعذر القول بالبطلان؛ لأنه إنما يبطل من حيث إنه صادف ملك المشتري ومثل اختيار المشتري ملك المشتري، ليس بثابت قطعًا بل الحال يتردد بين أن يكون ملك المشتري وبين أن يكون باقيًا على ملك البائع فقلنا: بالتوقف لهذا، وكل جواب عرفته في البيع الفاسد بعد القبض، فكذلك الجواب في البيع الصحيح قبل القبض؛ لأن البيع الصحيح يزيل الملك بنفسه فصار نظير البيع الفاسد بعد القبض، ولو أن البائع أعتقهما قبل قتل المشتري بحكم العقد الفاسد عتقا؛ لأن أحدهما ليس بمبيع والآخر كان مبيعًا، إلا أنه باقي على ملكه لعدم التسليم، وكان المشتري قبض أحدهما في البيع الفاسد فأعتقه البائع، ثم إن المشتري قبض الآخر وأعتق أحدهما إن أعتق الذي أعتقه البائع نفذ إعتاق المشتري وتعين مبيعًا، ويبطل إعتاق البائع وغرم المشتري قيمته ورد الآخر، وإن أعتق المقبوض آخرًا تعين هو مبيعًا ورد المقبوض أولًا ونفذ فيه إعتاق البائع، ولو قبض المشتري أحدهما فمات في يديه تعين هو مبيعًا؛ لأنه لو قبضهما ومات أحدهما تعين الميت مبيعًا مع أن الحي يزاحم الميت في الملك؛ فلأن يتعين الميت هنا مبيعًا والحي لا يزاحم الميت في الملك لانعدام القبض في الحي كان أولى، ولو لم يمت المقبوض حتى أعتق المشتري الذي لم يقبضه بطل الإعتاق؛ لأن الذي لم يقبضه إن كان أمانة فإعتاقه باطل وإن كان مبيعًا فهو مبيع بيع فاسد لم يملك لعدم القبض فصادف الإعتاق محلًا ليس بمملوك له فكان باطلًا.
ولو قبض أحدهما ثم قبض الآخر ثم أعتق المقبوض آخرًا جاز عتقه ويتعين هو مبيعًا، وكذا إذا مات يتعين الميت مبيعًا فقد جعل موت أحدهما أو أعتق أحدهما تعيينًا للعقد في المعتق والميت، ولم يجعل قبض أحدهما تعيينًا للعقد في المقبوض، وكذا الجواب في العقد الجائز.
والمعنى الجامع بينهما وهو: أن جواز هذا العقد إنما كان باعتبار الحاجة إلى اختيار ماهو الأرفق، وذلك إنما يكون بعد قبضهما، وعسى (أن) لا يتهيأ له قبضهما معًا، ولو جعل قبض أحدهما تعيينًا للعقد في المقبوض يفوت له هذا العوض فيعود إلى موضوعه بالبعض، وإنه لا يجوز بخلاف الإعتاق والموت.
إما في الإعتاق؛ فلأن هناك لما أنه أقدم على الإعتاق فقد قصد صحته ولا صحة للإعتاق إلا، وأن يتعين معقودًا عليه ضرورة بخلاف القبض؛ لأن القبض كما يصح في الملك يصح في غير الملك؛ فلأن يكون قبض أحدهما تعيينًا للعقد فيه وفي الموت إنما يتعين الميت للعقد ضرورة أنه لا يمكن نقض العقد في الباقي بالشك، وهذه الضرورة لا توجد في قبض أحدهما بدون الموت والإعتاق.
وشرط في (الكتاب): أن يكون القبض بإذن البائع؛ لأن قبض المشتري في البيع الفاسد بغير الافتراق عن المجلس إنما نعيد الملك إذا كان بإذن البائع، وكذلك الجواب في الهيئة الفاسدة، فأطلق الجواب في اشتراط الإذن إطلاقًا تحرزًا عن القبض بعد الافتراق عن المجلس بغير إذن البائع.
قال محمد في (الجامع الصغير): رجل باع من آخر عبدين بألف درهم على أنه بالخيار في أحدهما فالبيع باطل، فهذه المسألة في الحاصل على أربعة أوجه:
إما أن لا يعين الذي فيه الخيار ولا يفصل الثمن، وفي هذا الوجه البيع فاسد؛ لأن المبيع مجهول؛ لأن الخيار يمنع حكم العقد في مدة الخيار فالذي فيه الخيار هو غير داخل في الحكم، وإنه مجهول لم يعين، وإذا لم يكن غير الداخل في الحكم معلومًا لم يكن الداخل في الحكم معلومًا، فهو معنى قولنا: أن المبيع مجهول.
وإما أن لا يعين الذي فيه الخيار ويفصل الثمن، وفي هذا الوجه العقد فاسد أيضًا لجهالة المبيع على ما بينا.
وإما أن يعين الذي فيه الخيار ويفصل الثمن، وفي هذا الوجه فاسد فيه الخيار ويفصل الثمن بأن قال كل واحد منهما بخمسمائة، وفي هذا الوجه العقد جائز؛ لأن المبيع معلوم والثمن كذلك.
فرق بين الوجه الثالث وبينما إذا اشترى عبدين أحدهما مدبر أو مكاتب أو اشترى جاريتين فإما أحدهما أم ولد، فإن العقد ينعقد في حق القن بوصف الصحة، وإن كان انعقاد العقد في حق القن في هذه المسائل بالحصة؛ لأن العقد لا ينعقد في حق المكاتب والمدبر وأم الولد، فمن مشايخنا من لم يشتغل بالفرق فقال: على قياس هذه المسألة لاينعقد العقد في حق القن في تلك المسائل ويصير ماذكر هنا رواية في تلك المسائل.
ومنهم من اشتغل بالفرق وهو الصحيح.
والفرق ماذكرنا: أن شرط الخيار يمنع انعقاد البيع في حق الحكم ويجعل العقد في حق الحكم كالمعدوم فيما شرط فيه الخيار وإذا لم ينعقد في حق الحكم في حق المشروط فيه الخيار، لو انعقد في حق الآخر ينعقد ابتداءً بالحصة، والعقد لاينعقد ابتداء بالحصة إما في المدبر والمكاتب، وأم الولد العقد منعقد في حق الحكم إذ لم يوجد في حقهم ما يمنع انعقاد البيع، ولهذا لو قضى القاضي يجوز بيع هؤلاء لكن لم يثبت الحكم بحق محترم واجب الصيانة يحصل بمجرد منع الحكم، فلا ضرورة إلى أن يجعل العقد غير مباشرة في حق الحكم كما انعقد في حق القن، ثم وجب قسمة الثمن بعد ذلك عند فسخ العقد على هؤلاء، والانقسام ابتداءً يكون بالحصة ولا يوجب خلالًا في العقد.
ولو كان المبيع شيئًا واحدًا عبدًا أو مكيلًا أو موزونًا وقد اشتراه بألف درهم وشرط الخيار في نصفه للبائع أو للمشتري جاز بخلاف ما اشترى عبدين بألف درهم وشرط الخيار في نصفه للبائع أو المشتري جاز بخلاف ما اشترى عبدين بألف درهم وشرط الخيار في أحدهما بعينه.
والفرق وهو: أن النصف من الشيء الواحد لايتفاوت وثمنه أيضًا لا يتفاوت، وإذا كان ثمن الكل معلومًا كان ثمن النصف معلومًا أيضًا.
فأما العبد الواحد من العبدين يتفاوت وثمنه أيضًا يتفاوت فكان حصة المبيع من الثمن مجهولًا، وإذا جاز البيع مع شرط الخيار في النصف، فإن كان الخيار للمشتري كان له أن يؤد النصف الذي شرط له الخيار فيه إن شاء، وإن شاء أجاز العقد فيه فإن أجاز العقد لزمه الكل، وإن رد انتقص العقد في النصف، وإن كان في رد النصف تفريق الصفقة على البائع وتنقيص المعقود عليه إلا أن البائع رضي بهذا التفريق؛ لأنه أثبت الخيار للمشتري في النصف والخيار مشروط للفسخ فيكون راضيًا بفسخ العقد في النصف بتفريق الصفقة عليه.
قال في (الزيادات): وإذا اشترى الرجل من آخر عبدين كل منهما بألف درهم وشرط الخيار في أحدهما بعينه، البائع حتى جاز العقد على ما مر قبل هذا، فقال المشتري: أنا آخذ الذي لاخيار فيه وأنقد ثمنه لم يكن له ذلك؛ لأن البائع مسلط على إجازة البيع في الذي فيه الخيار، وعلى اعتبار الإجازة يجعل كأن البيع وقع بابا من الأصل.
فيتبين أن المشتري فرق الصفقة على البائع في القبض والمشتري كما لا يملك تفريق الصفقة للبائع في العقد حتى لو أراد أن يقبل العقد في البعض دون البعض ليس له ذلك، لا يملك تفريق الصفقة في حق القبض ولكن يتوقف الأمر إن فسخ البائع البيع في الذي فيه الخيار، فقد تفرقت الصفقة وكان للمشتري أن يأخذ الأجر بثمنه، فإن أجاز العقد فيه أو سقط الخيار فيه بمضي المدة أخذ الكل بجميع الثمن وأبى المشتري لايجبر عليه.
ولو أراد البائع أن يسلم الذي لا خيار فيه الى المشتري وتوقف العقد الأخر وقال المشتري: لا أقبل ولا أعطيك شيئًا من الثمن حتى عبر البيع في الآخر وأحدهما أو بفسخ العقد فيه يأخذ العبد الذي تم البيع فيه بحصته فذلك إلى المشتري؛ لأن على اعتبار إجارة البيع في الآخر تبين أنه فرق الصفقة على المشتري في القبض وليس له ذلك الولاية، ولو أراد البائع أن يدفع العبدين إلى المشتري ويأخذ ثمنها لم يجبر المشتري على ذلك؛ لأن الذي فيه الخيار لم يملكه المشتري، والإنسان لايجبر على قبض ما لم يملكه.
وإن قال المشتري: أنا آخذ العبدين وأنقد ثمنهما ليس له ذلك إلا برضاء البائع؛ لأن الذي فيه الخيار بقي على ملك البائع والإنسان لا يجبر على تسليم ملكه إلى غيره ولكن الأمر موقوف حتى يظهر الفسخ من البائع أو الإجازة، فإن أجاز البائع البيع قبضهما المشتري جميعًا، وإن فسخ قبض الذي وجب البيع بثمنه ولا يجبر المشتري بسبب تفريق الصفقة عليه لرضاه بذلك.
ولو كان الخيار في هذه الصورة فأراد المشتري أن يأخذ العبد الذي وجب البيع فيه ويأخذ ثمنه إلى البائع لا يجبر البائع عليه لما مر، أن فيه تفريق الصفقة على البائع على اعتبار إجازة المشتري البيع في الآخر، وكذلك لو أراد البائع أن يسلم إلى المشتري العبد الذي وجب البيع فيه ويأخذ ثمنه وأبى المشتري ذلك فذلك إلى المشتري.
ولو قال المشتري: أنا آخذ العبدين وأنقد ثمنهما وأكون على خياري؛ فأبى البائع ذلك، لا يجبر البائع عليه، ولو قال البائع للمشتري: أعطيك العبدين وآخذ الثمنين وأنت على خيارك لايجبر عليه؛ لأن هذا جبر على تسليم مالم يلزم المشتري وهو ثمن المشروط فيه الخيار، وقد مر شيء من هذا الجنس في آخر النوع الثاني من هذا الفصل.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل أخذ من رجل واحد بعشرين وآخر بثلاثين وآخر بعشرة على أن يأخذ منها أيها شاء فضاعت عنده معًا لزمه ثلث ثمن كل واحد منهما، ولو ضاع واحد لزمه ثمن الأول وهو في الآخرين معًا ثمن.
ولو احترق ثوبان ونصف منها معًا فإنه يرد النصف الباقي ولزمه نصف ثمن كل واحد منهما، ألا ترى أنهما لو كانا ثوبين فاحترق أنصافهما معًا كان له أن يردهما معًا ويلزمه الآخر بثمنه، ولو احترق أحدهما ونصف الآخر معًا، فإنه يرد النصف الباقي ولزمه الآخر بثمنه، وليس له أن يمسك هذا النصف بجميع ثمنه ويجعل الأمانة في الهالك.
ابن سماعة عن محمد رحمه (الله): رجل اشترى إحدى أمتين على أنه بالخيار فيهما جميعًا يأخذ أيتهما شاء إن شاء هذه بألف وإن شاء هذه بخمسمائة، فوطء المشتري الأمتين وحملتا منه، ثم اختلف البائع والمشتري فقال المشتري وطئت هذه أولًا، وقال البائع: بل وطئت هذه الأخرى أولًا، فالقول قول المشتري في التي وطئها أولًا ويلزمه ويثبت ولدها منه وتكون أم ولد، وأما التي زعم البائع أن المشتري وطئها أولًا فلا سبيل للبائع ولا للمشتري عليها، أما للمشتري فظاهر فلأن البائع حين زعم أنه وطئها أولًا فقد زعم أنها ولد للمشتري، وأنه لا سبيل له عليها وزعمه معتبر في حقه وتكون موقوفة إلى أن يموت المشتري فيعتق عند موته بإقرار البائع، ولا يلزم المشتري ثمن هذه الجارية؛ لأن زعم البائع حجة في حق المشتري.
قال ابن سماعة: وينبغي أن يلزم المشتري عقر الجارية التي زعم البائع أنه وطئها أولًا، ويكون العقر له من الثمن الذي لا يغير واحد منهما على النفقة عليها ولكن تكتسب فتأكل من ذلك.
ابن سماعة في (نوادره) عن أبي يوسف: رجل أخذ من رجل ثوبين على أن يأخذ أيهما شاء أخذ هذا بعشرة وإن شاء أخذ هذا بعشرين، وإن شاء أخذهما جميعًا فصبغ أحدهما واختاره، والأخر فقال البائع: أخترت الذي ثمنه عشرون، وقال المشتري: بل أخترت الذي ثمنه عشرة فالقول في الثمن قول المشتري.
وهو بمنزلة رجل اشترى ثوبًا وصبغه، ثم اختلفا في قيمته ولا سبيل للبائع على الثوب؛ لأن الصبع زيادة فيه وليس هذا كالغضب، ولو أن المشتري قطع الثوب قميصًا ولم يخطه، ثم اختلفا في الثمن، فإن شاء البائع أخذ ما أقر به المشتري له من الثمن، وإن شاء أخذ الثوب مقطوعًا، وإن كان القطع قد زاد فيه مثل الصبغ فلا سبيل للبائع عليه، وله ما أقر به المشتري.
المعلى عن أبي يوسف: رجل أخذ من رجل ثوبين على أن يأخذ أحدهما بثمن مسمى فضاع أحدهما، وقطع الآخر فقال المشتري: أجزت الذي قطعت، ثم ضاع الآخر وأنا أمين فيه، وقال البائع أجزت الذي ضاع، ثم قطعت الآخر فعليك قيمة الذي قطعت مع ثمن الذي ضاع، فإن المشتري ضامن نصف ثمن الذي ضاع ونصف قيمة الذي قطع ونصف ثمنه.

.نوع آخر في شرط الخيار لغير العاقد:

يجب أن يعلم أن من اشترى شيئًا أو باع شيئًا اشترط الخيار لثالث، فالقياس: أن لايجوز العقد، وبالقياس أخذ زفر رحمه (الله)، وفي الاستحسان: يجوز العقد ويثبت الخيار للعاقد، ثم يصير المشروط له بالخيار وكيلًا من جهة في الفسخ والإجازة، وإنما كان كذلك، وذلك لأن تقدير هذا الشرط عندنا كأن العاقد شرط الخيار لنفسه، ثم وكل المشروط له الخيار بالتصرف بحكم الخيار.
ولو صرح بهذا كان العقد جائزًا؛ فإنه لو قال: بعت على أني بالخيار، ثم وكلت فلانًا بالتصرف بحكم الخيار، إن شاء أجاز وإن شاء فسخ صح، وصار فلان وكيلًا من جهته إذا علم بذلك، فكذلك إذا كان تقديره هذا وإنما جعلنا تقديره هذا؛ لأن اشتراط مايجب بالعقد لغير العاقد لايجوز بحكم الوكالة والنيابة فيصح من هذا الوجه حملًا لكلامه على الجواز.
هذا كما قال علماؤنا رحمهم الله: فيمين قال لآخر: أعتق عبدك عني بألف فأعتق فإنه يصير الأمر مستويًا منه أولًا ثم موكلًا إياه بالعتق تصحيحًا للأمر، حتى لا يلغو فكذلك هذا، وأيهما أجاز أو نقض صح ذلك؛ لأن تصرفه صدر عن ولائه، أما المشتري فظاهر، وأما المشروط له الخيار؛ فلأنه وكيل من جهة المشتري بالفسخ والإجازة، وإن أجاز أحدهما ونقض الآخر فإن عرف السابق منهما أولى؛ لأن تصرفه صدر عن ولائه فعقد حال وجوده أفاد حكمه ولا يعمل الآخر بعد ذلك، وإن خرج الكلامان معًا، ذكر في (المأذون الكبير) أن الفسخ أولى، وذكر في بيوع (الأصل) أن تصرف المشتري أولى نقضًا كان أو إجازة.
وجه ماذكر في بيوع (الأصل): أن العمل بالأمرين جميعًا متعذر؛ لأن العقد الواحد لا يجوز أن يكون مفسوخًا كله وغير مفسوخ فلابد من إثبات أحدهما وإلغاء الآخر، فنقول: إثبات تصرف المشتري وإلغاء تصرف الوكيل أولى؛ لأن تصرف المشتري أصل؛ لأنه يتصرف بحكم الملك، وتصرف الوكيل بناء عليه فيكون كالبيع له، ولا شك أن إلغاء المبيع واعتبار الأصل أولى وجه ما ذكر في (المأذون): أن العمل بهما لما تعذر ووجب العمل بأحدهما كان العمل بالفسخ أولى لوجهين:
أحدهما: وهو أن الاحتياط فيه، فإن الفسخ يوجب الحرمة على المشتري، والإجازة توجب الإباحة، فإذا اجتمعا رجحنا المحرم على المبيح.
فإن قيل: هذا اعتبار جانب المشتري وإنه يوجب أن يكون الفسخ أولى فاعتبار جانب البائع يوجب أن تكون الإجازة أولى؛ لأن الإجازة تثبت حرمة في حقه، والفسخ يثبت إباحة في حقه، فيجب أن تكون الإجازة أولى باعتبار جانب البائع فلم يصر المشتري بهذا الاحتياط أولى من البائع والجواب عنه أن مراعاة الاحتياط من كلا الجانبين متعذر، فلابد من مراعاة أحد الجانبين فكان مراعاة جانب المشتري أولى، لأنا نحتاج في جانبه الى إثبات الحل ابتداء؛ لأنه لم يكن ثابتًا له، وفي جانب البائع نحتاج إلى إبقاء الحل؛ لأن الحل كان ثابتًا له وبالفسخ يعود إليه قديم ملكه ويحل له قديم ملكه فيكون إبقاءً باعتبار قديم الملك لا إثباتًا مبتدأ، وأي جانب راعيناه فقد راعيناه مع الشك، إذا لم يعرف السابق، فنقول مراعاة جانب المشتري بالاحتياط أولى؛ لأن البقاء مع الشك أخف من الإثبات ابتداءً بالشك؛ لأن الشيء يبقى مع الشك ولا يثبت ابتداء مع الشك، فلهذا كان مراعاة الاحتياط في جانب المشتري أولى من مراعاة الاحتياط في جانب البائع.
والثاني: أن الإجازة لا ترد على الفسخ، فإن المفسوخ لا يجاز لفسخ يرد على الإجازة لا المجاز بفسخ، فإذا اجتمعا معًا كان الفسخ أولى.
كنكاح الحرة مع نكاح الأمة إذا اجتمعا كان نكاح الحرة أولى بالجواز؛ لأنه يرد على نكاح الأمة، ونكاح الأمة لا يرد على نكاح الحرة فعند الاجتماع كان نكاح الحرة أولى، وكما قلنا في العتق والبيع إذا توقفا فأجاز المالك كلاهما كان العتق أولى؛ لأن العتق يرد على البيع والبيع لايرد على العتق، فعند الاجتماع كان العتق أولى فكذلك هذا.
قيل: ما ذكر في البيوع قول محمد، وما ذكر في (المأذون) قول أبي يوسف؛ لأن محمد رحمه الله يقدم ولاية الملك على ولايته، وأبو يوسف يسوي بينهما أصله: في الوكيل بالسلم أو بشراء شيء بغير عينه إذا عقد ولم تحضره البينة، فعلى قول محمد يقع للوكيل، وعند أبي يوسف بحكم النقد.
وقيل: ما ذكر في البيوع و(المأذون) من ترجيح أحد التصرفين على الآخر قول أبي حنيفة، فأما على قول محمد: ينبغي أن تصح الإجازة في النصف والفسخ في النصف، ثم يكون للمشتري الخيار، إن كان الخيار مشروطًا للبائع وللأجنبي لتفرق الصفقة على المشتري، وإن كان الخيار مشروطًا للمشتري وللأجنبي فللبائع الخيار لما يلحقه من الضرر بسبب عيب الشركة ويفرق الصفقة، وإنما قالوا هذا قياسًا على مسألة أخرى اختلف فيها أبو حنيفة ومحمد، وهو أن الوكيل بالبيع إذا باع الموكل وخرج الكلامان معًا وباع كل منهما من رجل.
قال أبو حنيفة رحمه الله: بأن بيع الموكل أولى، وقال محمد: يجوز بيع كل واحد منهما في نصف العبد وتكون العهدة عليهما يخير كل واحد من المشتريين إن شاء رضي كل واحد منهما بنصف العبد وإن شاء رد، فأبو حنيفة رحمه الله لم يعمل بالتصرفين متى كان التصرف تبعًا، بل طلب الترجيح لأحدهما وعمل بالراجح وأبطل الآخر فكذلك في الفسخ والإجازة لا يعمل بهما بل يطلب الترجيح لأحدهما بالراجح على رواية كتاب البيوع تصرف الموكل بسبب الأصالة، ورجح في (المأذون) الفسخ على الإجازة من أيهما وجد، للوجهين اللذين ذكرنا فأما محمد رحمه الله لم يشتغل بالترجيح في بيع الوكيل والموكل بل عمل بقدر الإمكان، وأثبت تصرف كل واحد منهما في النصف متى أجاز أحدهما وفسخ الآخر تثبت الإجازة في النصف والفسخ في النصف.

.نوع آخر في البيع والشراء لغيره مع شرط الخيار:

هذا النوع يشتمل على قسمين في البيع، وقسم في الشراء.
فأما قسم البيع: قال محمد رحمه الله: رجل أمر رجلًا أن يبيع عبده وأمره أن يشترط الخيار للآمر ثلاثة أيام فباعه ولم يشترط الخيار لم يجز البيع؛ لأنه خالف أمر آمره إلى سر؛ لأنه أمره ببيع يلزمه ولا يزيل ملكه إلا برضاه، وقد أتى ببيع يلزمه ملكه من غير رضاه، فرق أبو حنيفة وأبو يوسف بين هذا وبين المأمور بالبيع الفاسد إذا باع بيعًا جائزًا، فإنه ينفذ على الآمر.
والفرق: وهو أن البيع الفاسد نوعان: نوع يزيل الملك بنفسه، وهو ما إذا كانت السلعة مقبوضة، ونوع لايزيل الملك بنفسه وهو إذا لم تكن السلعة مقبوضة، وكلا النوعين داخل تحت عقد الوكالة فلا يتحقق الخلاف من هذا الوجه، لو تحقق إنما يتحقق من حيث اسقاط الخيار، وذلك خلاف إلى ما ينفعه؛ لأن الخيار الثابت بحكم فساد العقد مستحق على العاقد، فإنه يفترض عليه الفسخ إزالة للفساد ودفعًا للحرام، فإذا باع الوكيل بيعًا صحيحًا فقد أسقط عنه حقًا مستحقًا عليه فكان خلافًا إلى خير فلا يعد خلافًا، فأما خيار الشرط يثبت حقًا له؛ لأنه ينتفع به فكان تركه وإسقاطه خلافًا إلى سر فيعتبر خلافًا، فإن باعه وشرط الخيار للآمر كما أمره به نفذ تصرفه عليه؛ لأنه وافق أمره ويثبت الخيار له ولآمره؛ لأن القياس يأبى شرط الخيار لغير العاقد إلا أنا جوزنا ذلك بطريق، وهو أن العاقد لما شرط الخيار لغيره فقد قصد تصحيحه، وأمكن تصحيحه بجعله شارطًا الخيار لنفسه بطريق الاقتضاء أولًا، ثم عاجلًا ذلك الغير نائبًا ووكيلًا عن نفسه في الفسخ والإجازة ولهذا إلى زفر، شرط الخيار لغير العاقد؛ لأن شرط الخيار لغير العاقد إنما كان بطريق شرط الخيار للعاقد بطريق الاقتضاء، وزفر لا يقول بالمقتضيات، فإن فسخ الوكيل العقد صح فسخه كما لو شرط الخيار لنفسه لا غير، وإن أجاز بطل خياره وخيار الآمر؛ لأن ذلك ثابت بطريق النيابة، ولكن العقد لايلزم على الآمر بإجازة الوكيل؛ لأن الآمر لم يرض بلزوم العقد عند رضاء الوكيل واختياره يكون له خيار الإجازة لا خيار الشرط.
ولهذا لا يتوقت هذا الخيار بعد إجازة الوكيل بمدة الخيار، وقالوا: كأن الآمر أمره بالبيع مطلقًا فباع وشرط الخيار للآمر أو للأجنبي صح عملًا بإطلاق اللفظ، فإن مطلق اسم البيع كما يتناول البيع الثابت يتناول البيع بشرط الخيار، وأيهما يصرف فسخًا أو إجازة يريد به العاقد والمشروط له الخيار صح تصرفه، لما ذكرنا أن شرط الخيار لغير العاقد شرط للعاقد وتوكيل للمشروط له الخيار بالفسخ والإجازة بحكم الخيار.
فيصح فسخ العاقد، وإجازته بحكم اشتراط الخيار، ويصح فسخ المشروط له الخيار وإجازته بطريق النيابة والوكالة عن العاقد، ويلزم هذا العقد بإجازة الوكيل؛ لأن الآمر لما أمره بالبيع مطلقًا يتناول البيع، مع أن اسم البيع مطلقًا يتناول البيع الباب والبيع بشرط الخيار فقد رضي بلزوم العقد عند رضاء الوكيل فلم يصر بإسقاط الخيار بالإجازة بمنزلة الفضولي، فلا يتوقف على إجازة الآمر بخلاف ما تقدم.
وإن فسخ أحدهما وأجاز الآخر وخرج الكلامان منهما معًا ففي رواية (كتاب المأذون) الفسخ أولى؛ لأنه ألزم، وفي رواية كتاب البيوع تصرف المالك أولى؛ لأنه أقوى، وإن أمره بالبيع بشرط الخيار لنفسه أي للمأمور فباع بشرط الخيار لنفسه أو للآمر أو للأجنبي فإنه يجوز، أما اذا شرط الخيار لنفسه فظاهر، وأما إذا شرط الخيار للآمر أو للأجنبي فلما ذكرنا، أن اشتراط الخيار لغير العاقد اشتراط للعاقد، وتوكيل للمشروط له الخيار بالفسخ والإجازة فصار شارطًا الخيار لنفسه كما أمره به فيجوز.
وأما قسم الشراء قال محمد رحمه الله: وإذا أمر الرجل رجلًا بأن يشتري له عبدًا بعينه أو بغير عينه، وسمى له ثمنًا أو جنسًا حتى صح الأمر، وأمره أن يشترط الخيار للآمر أو للأجنبي فلما ذكرنا، أن شرط الخيار لغير العاقد شرط للعاقد، ولو أمره أن يشترط الخيار للآمر فاشتراه بغير خيار، أو شرط الخيار لنفسه لاينفذ على الآمر؛ لأنه خالفه عما ينفعه إلى ما يضره فإن أمره شراء لايلزمه إلا برضاه، وقد أتى بشراء يلزمه من غير رضاه فلا ينفذ على الآمر، ولكن يلزم المأمور بخلاف المبيع، فإنه إذا أمر بالبيع بشرط الخيار، أو باع بشرط الخيار لنفسه حيث لاينفذ أصلا لا على الآمر ولا على المأمور.
وكذلك لو أمره بأن يشترطه الخيار لنفسه يعني للوكيل فاشتراه بغير خيار لنفسه فقد أمره شراء يلزمه برضاء المأمور، فإذا اشترى ولم يشترط الخيار فقد رضي المأمور بلزوم هذا الشراء للآمر هذا الشراء للآمر فهذا شراء دخل تحت الأمر فينفذ على الآمر، والجواب عنه: أن الآمر لما أمره بشرط الخيار لنفسه، فإنما رضي بشراء لا يلزمه بنفسه، وإنما يلزمه بإجازة توجد بعد العقد، فإذا اشترى ولم يشترط الخيار فقد أراد أن يلزمه هذا الشراء بنفسه فصار مخالفًا الأمر، فلا يلزم الآمر ويصير المأمور مشتريًا لنفسه على ماذكرنا، ولو أمره أن يشترط الخيار لنفسه أي للآمر، فاشترى وشرط الخيار للآمر كما أمره به حتى نفذ على الآمر، ثم أجاز المأمور البيع بطل خياره، والآمر على خياره، وإنما كان كذلك لما ذكرنا، أن خيار الشرط لغير العاقد يقتضي بثبوته للعاقد، وإذا ثبت الخيار للعاقد بطل بإبطاله، إلا أنه لايلزم الآمر لما ذكرنا، أن الآمر ما رضي بلزوم هذا العقد من غير اختياره فيتوقف على إجازته واختياره.
واختلف المشايخ في أن الباقي للآمر بعد إجازة الوكيل خيار شرط أم خيار آخر، بعضهم قالوا: شرط؛ لأنه ذو حظ من هذا العقد، فإن المبيع يدخل في ملكه ويجب الثمن في ذمته، فصح اشتراط الخيار له على طريق الخصوص، فلا يبطل إلا بإبطاله، وقال بعضهم: لا يبقى له خيار شرط لما ذكرنا، أن ثبوت شرط الخيار لغير العاقد بطريق النيابة من العاقد، فإذا أبطل العاقد خياره بطل خيار الأصل فيبطل خيار الثابت ضرورة، ولكن يبقى له خيار آخر، وهو أنه مارضي بالتزام حكم العقد وعدم التزامه كما في مسألة البيع، وهذا أقيس، وإن كان شراء الفضولي لايتوقف على الإجازة، إلا أنه إنما لا يتوقف إذا وجد نفاذًا على المشتري، كما إذا اشترى شيئًا لغيره بغير أمره، فإذا اشترى ولم يشترط الخيار للآمر حتى صار مخالفا وجد نفاذًا على المشتري فنفذ عليه، فأما إذا شرط الخيار للآمر كما أمر به لم يجد نفاذًا على المشتري، وإن أجاز لتعلق حق البائع والآمر به، فيتوقف على إجازة الآمر كما في البيع، وصار الشراء الذي لا يجد نفاذًا على المشتري في حق التوقف على إجازة الآمر العقد بعد ذلك كان العبد له؛ لأنه التزم حكم العقد، فإن رد كان العبد للوكيل، حتى لو هلك العبد بعد ذلك في يد الوكيل هلك من مال الوكيل؛ لأن الإجازة من الوكيل قد صحت، إلا أنها لم تعمل في حق الآمر بحصته، فإذا زال حقه بالنقض عملت الإجازة السابقة عملها في حق الوكيل، فدخل العبد في ملك الوكيل وضمانه، فإذا هلك يهلك من ماله.
ونظير هذا الوكيل بالبيع إذا رد عليه بالعيب من غير قضاء القاضي، فإنه يتوقف على قبول الموكل، فإن قبل لزمه وإن رد الوكيل، والمعنى ماذكرنا كذا هنا، ولو أن الوكيل لم يرض به ولم يجز البيع من الابتداء حتى قال الآمر للوكيل: رد العبد فلا حاجة لي فيه، فهلك بعد هذا القول في يد الوكيل هلك من مال الآمر؛ لأن العبد دخل في ضمان الآمر بقبض الوكيل؛ لأن يد الوكيل يد الآمر، وبقول الآمر: رد العبد، لم ينفسخ العقد؛ لأن هذا ليس بفسخ للعقد بل هو أمر بالفسخ، لا يكون فسخًا فبقي العين في ضمان الآمر، فإذا هلك يهلك من مال الآمر، وقول محمد رحمه الله في (الكتاب) على وجه التعليل هذا ليس بنقض حتى ينقض بمحضر من البائع، ليس المراد منه إنه نقض في نفسه لكنه لم يعمل لعند البائع كما ظنه بعض أصحابنا، وإنما المراد أنه ليس بنقض في نفسه حتى يبتدئ النقض بحضرة البائع.
قال مشايخنا: وإنما يشترط حضرة البائع لابتداء النقض على قول أبي حنيفة ومحمد، وأما على قول أبي يوسف: يصح ابتداء النقض، وإن لم يكن بحضرة البائع والمسألة معروفة، فإن قال الوكيل بعد ما قال الآمر رد هذا العبد: رضيت بهذا العقد، ثم هلك العبد في يد الوكيل هلك من مال الآمر لما ذكرنا، أن بقول الآمر رد هذا العبد لم ينفسخ العقد، وقول الوكيل رضيت بهذا العقد لا يعمل في حق الآمر، فبقي العبد على ملك الآمر، وضمانه، فإذا هلك يهلك من مال الآمر قال: ولو أن الآمر حين قال للمأمور: رد هذا العبد على البائع فلا حاجة لي فيه، باعه المأمور من رجل، فإنه يتوقف هذا البيع على إجازة الآمر؛ لأن العبد بعد قول الآمر رده، باقي على ملك الآمر وقد باعه بغير أمره، فيتوقف على إجازته كما توقف الأول على إجازته، من مشايخنا من قال: هذا الجواب يستقيم على قول أبي يوسف ومحمد، أما على قول أبي حنيفة لا يستقيم؛ لأن المشترى بشرط الخيار للمشتري لا يدخل في ملك المشتري عند أبي حنيفة، خلافًا لهما، وإذا لم يصر العبد مملوكًا للآمر عنده كيف يتوقف بيع العبد بعد ذلك على إجازته، والتوقف إنما يكون على إجازة المالك لا على إجارة غير المالك، ومنهم من قال: لا بل هذا قول الكل.
ووجهه أن على قول أبي حنيفة إن لم يصر العبد مملوكًا للآمر، فسبب الملك في حقه هو الشراء وقد وجد، والحكم مستحق بقضية السبب فصار العبد كالمملوك له، نظرًا إلى السبب فجاز أن يتوقف عند المأمور بعد ذلك على إجازته، أو يقول إن لم يكن العبد مملوكًا للآمر فهو أقرب الناس إلى إجازة هذا العقد فجاز أن يعطى له حكم المالك في حق إجازة هذا العبد، إذ يجوز أن يعطى للإنسان حكم المالك في حق بعض الأشياء، وإن لم يكن له حقيقة الملك لما أنه أقرب الناس إليها.
ألا ترى أن السبع إذا افترس الميت وبقي الكفن يرد إلى الورثة؟ لا لأنهم ملكوه ولكن؛ لأنهم أقرب الناس إليه فأعطي لهم حكم المالك كذا هنا، ثم إذا توقف البيع الثاني على إجازة الآمر لو أجاز الآمر البيع الثاني ينفذ البيع الثاني والبيع الأول؛ لأنه لما أجاز البيع الثاني فقد قصد تصحيح البيع الثاني ولا صحة للبيع الثاني إلا بعد نفاذ البيع الأول، ولا نفاذ للبيع الأول إلا بإجازته الأول فصار بإجازة الثاني في حكم (مجيز) البيع الأول فنفذ البيع الأول من وقت وجوده، ويثبت الملك له من ذلك الوقت، فحصل البيع على ملكه وقد لحقته الإجازة فنفذ، ويطيب له الربح إن كان في الثمن ربحًا؛ لأن البيع الثاني حصل على ملكه وضمانه، وإن نقض الآمر البيع الثاني صار الحال بعد نقض البيع الثاني كالحال قبل وجود البيع الثاني؛ لأنه لما نقض الآمر البيع الثاني وله ولاية نقضه صار وجوده والعدم بمنزلة، فصار الحال بعد نقض البيع الثاني، والحال قبل البيع الثاني سواء من هذا الوجه، وإن نقض الآمر البيع الأول بعد البيع الثاني لزم العبد المأمور؛ لأن إقدام المأمور على البيع الثاني إبطال للخيار وإمضاء للشراء بينه وبين البائع، كقوله: رضيت إلا أنه لم يعمل هذا الإبطال في حق الآمر بحقه، فإذا اختار بعض الشراء فقد أبطل حقه، فعمل ذلك الإبطال في حق الآمر عمله فصار العبد ملكًا للمأمور لهذا، ولكن لا ينفذ عليه بيعه الذي كان قبل ذلك؛ لأنه كان قبل ملكه، إذ ملكه حدث الآن، والبيع لا يتوقف على ملك سيحدث.
ألا ترى أن من باع شيئًا، ثم ملكه بسبب من الأسباب لا ينفذ ذلك البيع عليه، وإنما لم ينفذ عليه لما قلنا، فإن حدد المأمور بيعًا بعد ذلك وطاب الربح إن كان في الثمن الربح؛ لأن العبد صار ملكًا له من وقت البعض وإنه في يده وضمانه فحصل البيع على ملكه وضمانه فينفذ مع ظنه لهذا وإذا اشترى الرجل شيئًا لغيره بأمره وشرط الخيار للآمر كما أمره به حتى يثبت الخيار للآمر وللوكيل، ثم اختلف البائع والوكيل بعد ذلك فقال: إن الآمر قد رضي والآمر غائب، وأنكر الوكيل ذلك فالقول قول الوكيل؛ لأن البائع يدعي على الوكيل سقوط خياره بعد ما كان ثابتًا ووجب الثمن على الوكيل بعد ما لم يكن واجبًا عليه، والوكيل ينكر ذلك فيكون القول قوله.
ألا ترى أنه لو ادعي الرضا على الوكيل في مدة الخيار وأنكر الوكيل ذلك، كان القول قوله؟ فكذا هذا، ثم يكون القول قول الوكيل بلا يمين، بخلاف ما لو ادعي الرضاء على الوكيل في مدة الخيار وأنكر الوكيل كان القول قول الوكيل مع اليمين.
والفرق: أن الدعوى في مسألتنا توجه على الآمر مقصودًا، فإنه يدعي رضاء الآمر لا رضاء المشتري بيعًا ونقضًا؛ لأن رضاء الآمر متى ثبت سقط خيار المشتري ولزمه الثمن وحكم الأصل، وهذه الدعوى لم تصح في حق (هذا) الجانب، اليمين على من توجه عليه الدعوى مقصودًا وهو الآمر، فإن الآمر لو كان حاضرًا وأنكر الرضاء لا يستحلف الآمر بهذه الدعوى فكيف يصح في حقٍ توجيه اليمين على من توجه عليه الدعوى تبعًا وهو المشتري، بخلاف ما لو ادعي الرضاء على المشتري؛ لأن الدعوى هناك توجه على المشتري مقصودًا وهو أصل فيما ادعي عليه؛ لأن العقد في حق الحقوق للعاقد، كأنه اشترى لنفسه، وإنما لم تجب اليمين على الآمر متى كان حاضرًا وادعى عليه الرضا، وذلك؛ لأن الأمر في حق حقوق العقد ثابت عن المشتري لما مر، والدعوى على الثابت لا تصح في حق الجانب اليمين عليه، وإن كان يصح في حق سماع البينة كالوكيل بالخصومة والأب والوصي وصحت الدعوى في مال اليتيم على هؤلاء في حق سماع البينة، ولم تصح في حق إيجاب اليمين فكذلك هنا.
وذكر شمس الأئمة الحلواني: أن في استحلاف الوكيل في هذه المسألة روايتين، على أصح الروايتين: يستحلف الوكيل هنا إذا أنكر المشتري ما ادعاه البائع، ولم يقم البائع (بينة) على ما ادعى، فأما إذا أقام البائع البينة أن الآمر قد رضي، فإن البيع لازم للآمر، وإن كان الآمر غائبًا؛ لأن المشتري انتصب خصمًا عن الآمر حكمًا؛ لأن البائع ادعى على المشتري حقًا بسبب ادعاه على الغاصب فيه، وبين المشتري والغائب إيصال سبب وهو الأمر ولا يثبت ما ادعى على المشتري إلا بإثبات ما ادعي على الغائب، فينتصب المشتري خصمًا عن الغائب، وإن لم يقم له بينة على ذلك؛ لأن المشتري صدقه فيما ادعى من رضا الآمر، ثم حضر الآمر في مدة الثلاث وأنكر الرضا وادعى أنه نقض البيع بمحضر من البائع، ذكر أن الشراء يلزم المشتري ولا يلزم الآمر، حتى لا يكون للوكيل أن يرجع على الآمر بالثمن مدفوعًا إليه؛ لأن المشتري بإقراره أن الآمر رضي أقر على نفسه بسقوط حقه في الخيار ووجوب الثمن، وعلى الآمر بالرجوع بالثمن، فإذا أنكر الآمر الرضا صح إقرار الوكيل في حقه، ولم يصح إقراره في حق الآمر وصار وجود هذا الإقرار في حق الآمر وعدمه بمنزلة، ولو عدم فقال الآمر في مدة الخيار: كنت فسخت والبائع حاضر كان القول قوله؛ لأنه حكي أمرًا يملك استئنافه للحال، ومن حكى أمرًا يملك استئنافه للحال، فإنه يصدق فيما حكى، هذا إذا قال الآمر مدة المقالة في مدة الخيار، فأما إذا قال هذه المقالة بعد مدة الخيار فإن البيع يلزمه، ولا يكون مصدقًا فيما حكى؛ لأنه حكى مالا يملك استئنافه للحال فلزمه البيع بمضي المدة، لا بإقرار المشتري.
ومما يتصل بهذا النوع: إذا باع الوصي أو الأب شيئًا من مال الصغير وشرط الخيار لنفسه فهو جائز، فإن بلغ الصبي في مدة الخيار تم البيع وبطل الخيار في قول أبي يوسف، وقال محمد في ظاهر الرواية: ينتقل الخيار إلى الصبي، فإن أجاز البيع في مدة الخيار، وإن رد بطل، وجه قول أبي يوسف أن الخيار إنما يثبت حقًا للعاقد، لكونه من حقوق العقد وقد تعذر استيفاؤه بعد البلوغ لانقطاع الولاية فيسقط، ولا ينتقل إلى غير العاقد كما لا ينتقل إلى غير الوارث بعد موت المورث.
وجه قول محمد: أن الخيار من حقوق العقد والعقد وقع للصغير فكذا الخيار، إلا أنه كان يستوفيه بنفسه لعجزه، فإذا قدر على الاستيفاء بالبلوغ يستوفيه، نظيره الملك، فإن الملك فيما يشتريه الأب والوصي للصغير يقع للصغير، إلا أنه كان يَتَصرف في ملكه بنفسه لعجزه، فإذا قدر على التصرف بالبلوغ فلا كذا هاهنا.
إذا ثبت أن الخيار للصبي بعد البلوغ على قول محمد يقول ليس للوصي أن يجيز وله أن يفسخ؛ لأن ولاية الإجازة بحكم الخيار ولم يبق له الخيار بعد البلوغ لانقطاع الولاية، أما يَملك الفسخ؛ لأنه لما شرط الخيار فقد بين أنه لم يرض بالتزام العهدة إلا عند وجود الإجازة منه، فإذا انعدمت الإجازة منه كان له أن يفسخ دفعًا للعهدة عن نفسه، ويجوز أن يثبت حق الفسخ للإنسان، وإن لم يكن له ولاية الإجازة كالفضولي إذا باع مال الغير كان له الفسخ قبل إجازة المالك، ولا يكون له أن يجيز كذا هنا.
وفي (النوادر) عن محمد ثلاث روايات، قال في رواية مثل ما قال أبو يوسف، وقال في رواية: ينتقض العقد؛ لأنه تعذر القول ببقائه مع الخيار وبدون الخيار، وقال في رواية: ينتقل الخيار إلى الصبي، واختلفت الروايات عن محمد في مضي المدة، قال في رواية: يلزم العقد لاستحالة بقاء الخيار بعد المدة، وفي رواية لا يلزم إلا بإجازته؛ لأن عنده الإجازة في معنى إنشاء العقد، فيجعل البلوغ الطارئ على العقد قبل الإجازة بمنزلة المقارن للعقد، ولو كان مقارنًا للعقد بأن باع فضولي مال الغير وشرط الخيار لنفسه لا يلزم العقد من غير إجازة المالك، وإن مضت مدة الخيار فهنا كذلك.
ولو باع المكاتب وشرط الخيار لنفسه فعجز في الثلاث تم البيع في قولهم؛ لأن المكاتب عاقد لنفسه فكان الخيار ثابتًا له أصلًا والعجز أوجب بطلان ولايته فصار كموت من له الخيار وكذلك المأذون إذا حجر عليه المولى في الثلاث بطل خياره لما مر.
ولو اشترى الأب أو الوصي شيئًا بدين في الذمة وشرط الخيار، ثم بلغ الصبي فأجاز الأب أو الوصي جاز العقد عليهما، والصبي بالخيار إن شاء أجاز وإن شاء فسخ؛ لأن ولاية الأب والوصي تنقطع عن الصغير بالبلوغ فلم يبق لهما ولاية الإجازة والفسخ في حق الصغير، أما بقي لهما ولاية الإجازة في حق أنفسهما، فإن أجاز الصبي تم البيع في حقه، وإن فسخ زال حق الصغير فيصح الشراء في حق الأب والوصي لوجود الإجازة منه، ونظير هذا الوكيل بالشراء بشرط الخيار للموكل، إذا اشترى وشرط الخيار للموكل، ثم أجاز العقد تعمل الإجازة في حقه دون الموكل، حتى أن الموكل لو رضي بالشراء لزمه البيع، وإن فسخ العقد ورد المبيع لزم الوكيل فهنا كذلك، وإن لم يجز الصبي شيئًا حتى مات الوصي بعد ما رضي بالبيع أو قبل ذلك فاليتيم على خياره، وإن لم يمت الوصي ومات العبد في يد الوصي في وقت الخيار أو بعد مضيه، أو مات اليتيم في وقت الخيار قبل رضى الوصي بالمشترى أو بعده فالشراء لازم للمشتري وسيأتي بعض هذه المسائل يعد هذا في فصل الأب والوصي.

.نوع آخر في الاختلاف في تعيين المشتري بشرط الخيار عند الرد:

وإذا اشترى الرجل من آخر شيئًا على أنه بالخيار ثلاثة أيام وقبضه، ثم جاء ليرده على البائع بحكم الخيار فقال البائع: ليس هذا هو الذي بعتك، وقال المشتري: هو ذلك فالقول قول المشتري مع يمنيه؛ لأن في خيار الشرط، المشتري ينفرد بالفسخ فيفسخ العقد بمجرد قوله، وبقي ما قبض في مدة مال البائع، فالمشتري يقول للبائع: مالك الذي قبضت منك هذا، والبائع يقول: غيره، فيكون القول قول المشتري في تعيين المقبوض اعتبر أمانةً كالمودع أو ضمانًا كالغاصب، ولو كانت السلعة غير مقبوضة في هذه الصورة فأراد المشتري إجازة العقد في غير يد البائع فقال البائع: ما بعتك هذا، وقال المشتري: لا بل بعتني هذا، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب، قالوا: وينبغي أن يكون القول قول البائع، كما ادعى عليه مع هذا العين، وأنكر البائع البيع أصلًا، وقال: ما بعتك شيئًا، ولا يتحقق الخلاف في الفسخ هنا؛ لأن المشتري ينفرد بالفسخ، والمبيع في يد البائع، وإنما يتحقق الخلاف حالة الإجازة، كما إذا ادعى كانت السلعة مقبوضة لا يتحقق الخلاف حالة الإجازة؛ لأنه أجاز والمبيع في يده، إنما يتحقق الخلاف حالة الفسخ هذا الذي ذكرنا إذا كان الخيار للمشتري.
فأما إذا كان الخيار للبائع إن كانت السلعة مقبوضة، فجاء المشتري بسلعة ليردها على البائع في مدة الخيار، فقال البائع: ليس هذا الذي بعتك وقبضت مني، وقال المشتري: الذي بعتني وقبضتني هذا فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الحال لا يخلو إما أن يدعي البائع هلاك ما باع منه أو ادعى القيام في يده، فإن ادعى ضمان القيمة على المشتري وإن لم يكن واجبًا والمشتري ينكر، وإن ادعى القيام فقد تصادقا على أن للمشتري حق الرد؛ لأن للمشتري حق الرد في مدة الخيار حتى يخرج عن ضمان القيمة، إلا أنهما اختلفا في تعيين المقبوض فيكون القول قول المشتري مع يمينه، وإن كانت السلعة غير مقبوضة، فأراد البائع إلزام البيع في عين فقال المشتري: ما اشتريت هذا، ذكر أن القول قول المشتري مع يمينه؛ لأن البائع يدعي عليه ولاية إتمام الشراء في هذا العين، والمشتري ينكر فيكون القول قوله كما أنكر المشتري الشراء أصلًا.

.نوع آخر في جناية المبيع في البيع بشرط الخيار:

قال محمد رحمه الله في (الجامع):رجل باع عبدًا على أن البائع بالخيار ثلاثة أيام فقتل العبد قتيلًا خطأً في مدة الخيار، فعلم المولى ذلك، فأجاز البيع وهو عالم بالجناية لم يصر مختارًا للفداء أو صحت الإجازة، لأن الإجازة لا تكون أقوى من ابتداء البيع.
ولو باع المولى العبد الجاني ابتداء يجوز، فالإجازة أولى ولم يصر مختارًا للفداء؛ لأنه بالإجازة حصل مزيل له عن ملكه فيصير مختارًا للفداء كما لو باعه أو أعتقه، والجواب ثمة إنما صار مختارًا للفداء؛ لأن بالبيع والإعتاق يبطل حق أولياء الجناية، أما بالإعتاق فلا شك وكذلك بالبيع؛ لأن المشتري لا يُخَيَّر بين الدفع والفداء إذ الجناية لم تكن في ملكه، وهو لا يملك إبطال حق ولي الجناية عن عين العبد إلا بالفداء، فيصير مختارًا للفداء، أما هنا بالإجازة لا يبطل حق ولي الجناية عن عين العبد؛ لأن المشتري تخير بين الدفع والفداء؛ لأن عند الإجازة يثبت الملك له من وقت البيع، ولهذا إذ حصل الولد من المبيعة بشرط الخيار للبائع في مدة الخيار، ثم سقط الخيار بالإجازة فالولد يسلم له، إذا ثبت أن عند الإجازة يثبت الملك للمشتري من وقت البيع، ظهر أن العبد حتى ملكه فيخير، وإذا كان كذلك لم يبطل حق أُولي الجناية عن العبد، فلم يصر البائع مختارًا الفداء.
وذكر في كتاب البيوع: إذا باع جارية على أن البائع فيها بالخيار، فملك البائع ولدها في مدة الخيار، يكره للبائع أن يخير البيع في الأم، لما فيه من التفريق بين الوالدة وولدها فجعل الإجازة بمنزلة ابتداء العقد، والفرق: أن الإجازة تشبه ابتداء العقد من وجه، من حيث إن الملك موقوف على الإجازة ويشبه الإمضاء من وجه، من حيث إن الإجازة بعمله للبيع السابق وعند الإجازة يستند الملك إلى وقت العقد حكمًا، فكان الملك قبل الإجازة ثابتًا من وجه دون وجه، والملك الثابت من وجه يكفي للخطاب بالدفع والفداء، أصله ملك المكاتب، فإن عبد المكاتب إذا جنى جناية يخاطب المكاتب بالدفع أو الفداء، وإذا ثبت أن الملك من وجه كافي للخطاب بالدفع أو الفداء، وأنه ثابت للمشتري يوجه الخطاب على المشتري بالدفع أو الفداء، فلم يصير البائع مبطلًا حق أولياء الجناية، وهكذا يقول في مثله، مسألة التفريق أن الإجازة تعتبر بإبتداء العقد من وجه لكن الباب باب الجزئيات، والثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه في حق الحرمات.
فإن قيل: البائع منها يتمكن من فسخ العقد، فإذا لم يفسخ مع التمكن جعل كالمنسي للبيع.
كمن وكل رجلًا بطلاق امراءته في صحته ولم يعزل الوكيل حتى طلق امرأته في مرض موته فصار وجعل امتناعه عن العزل بمنزلة إنشاء الوكالة، والجواب عنه وهو الفرق بين المسألتين أن الإمتناع من الفسخ بمنزلة البيع المبتدأ أما ليس ببيع المبتدأ حقيقة، والامتناع عن العزل أيضًا ليس بتوكيل مبتدأ حقيقة، بل هو بمنزلة التوكيل المبتدأ، إلا أن حق المرأة متعلق بماله، فباعتبار الحقيقة لم يصر فارًا، وباعتبار الحكم يصير فارًا، فلا يبطل حقها بالشكل، أما حق أولياء الجناية لم يكن متعلقًا بالفداء فباعتبار الحقيقة لم يثبت حق ولي الجناية، إن كان يثبت باعتبار الحكم، فلا يثبت بالشك والاحتمال، إذا ثبت أن البائع لم يصر مختارًا للفداء كان للمشتري الخيار؛ لأن العبد قد تعيب بعيب في ضمان البائع.
فإن رقبته صارت مستحقة بالجناية، فإن اختار المشتري أخذه تخير بين الدفع والفداء لأنه تبين أن العبد جنى على ملكه وأي الأمرين اختار لا يرجع به على بائعه، وإن وجد العيب في ضمان البائع، لأن المشتري رضي بكونه معيبًا، وإن اختار المشتري نقض البيع تخير البائع بين الدفع والفداء، لأن الرد بالعيب قبل القبض فسخ العقد من الأصل، فصار كأن البيع لم يكن، ثم ذكر في بعض الروايات: فأي ذلك فعل المشتري تخير البائع، وذكر في بعضها فإن فعل ذلك والمراد فإن رد وهو الصحيح، لأن البائع إنما تخير عند رد المشتري المبيع عليه لا عند الإمضاء، هذا إذا كانت الجناية في يد البائع. وإن كانت الجناية في يد المشتري والباقي بحاله، فالبائع على خياره، لأن الجناية في يد البائع لما لم يبطل خياره، فالخيار في يد المشتري، لأن لا يبطل كان أولى، فإن أجاز البيع جاز ولا يكون للمشتري خيار العيب، لأن عند الإجازة يثبت الملك للمشتري من وقت العقد، فظهر أن العيب حدث على ملكه في ضمانه لا يكون له الخيار، بخلاف الفصل الأول، ثم تخير المشتري بين الدفع والفداء لأن الجناية لو كانت حاصلة في ملكه لا ضمانه، تخير عند استقرار الملك له، فلا تخير هنا والجناية حصلت في ملكه في ضمانه كان أولي، هذا الذي ذكرنا إذا كان الخيار للبائع فجنى العبد جناية أو في يد المشتري، فإن كان الخيار للمشتري وجني العبد جناية في يد البائع كان للمشتري خيار العيب، ليعيب المشترى في يد البائع، ويبقى خيار الشرط أيضًا، لأن في إبقائه فائدة، فإن ولي الجناية ربما يبرئ العبد من الجناية فيتمكن المشتري من الرد بخيار الشرط، فإن اختار الأخذ تخير بين الدفع والفداء، وإن اختار البعض تخير البائع، وقد مر هذا من قبل، ولو كان الخيار للمشتري فجنى العبد في يد المشتري في مدة الخيار، لم يكن له أن يرده على البائع لأن العبد تعيب في مدة الخيار، ولا يكون له ولاية الرد إلا أن يفدي العبد في مدة الخيار له أن يرده بخيار الشرط لزوال العيب، وهو بمنزلة ما لو اشترى عبدًا فَحُمَّ في مدة الخيار لا يكون له ولاية الرد، فلو زال الحمَّى يرده بخيار الشرط كذا هنا، ولو لم يفد واختار الدفع سقط خيار الشرط وتقرر العبد على ملكه عند الإقدام على الدفع فيجب عليه الثمن.
ومما يتصل بهذا النوع رجل اشترى دارًا بشرط الخيار للبائع أو للمشتري أو كان البيع فوجد في الدار قتيل، فعلى قول أبي حنيفة: الدية على عاقلة صاحب اليد على كل حال، وعلى قول أبي يوسف ومحمد على عاقلة المشتري إن كان البيع باتًا وعلى عاقلة من يصير الدار له بالفسخ والإجارة إن كان فيه الخيار، فوجه قولهما: أن هذا مؤنة الملك فيدور مع الملك ويتوقف حاله توقف الملك كصدقة الفطر، وإنما قلنا ذلك لأن الدية إنما يجب على عاقلة صاحب الدار لصيرورة صاحب الدار حانثًا بترك الحفظ، والحفظ إنما يجب على المالك، وجه قول أبي حنيفة أن الحفظ أمر حسي فإنما يتأتى بآلة حسية وذلك اليد، وإنما تعتبر تلك الرقبة لتصير اليد محقة وقد تيقنا أن يد صاحب اليد هاهنا محقة فلا معتبر بالملك، ثم عندهما إذ كان البيع باتًا والدار في يد البائع حتى وجبت الدية على عاقلة المشتري، لم يذكر في (الكتاب) أن المشتري هل يتخير ويجب أن يتخير، لأن وجود القتيل في الدار ليس يعيب حل بالدار لا حقيقة ولا اعتبارًا، فإن الدار لا تصير مستحقة بضمان الجناية، ولا كذلك ما إذا جنى العبد في يد البائع والله أعلم.

.الفصل الثالث عشر: في خيار الرؤية:

هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في بيان صفته وحكمه وفي وضع ثبوته.
يجب أن يعلم أن شراء ما لم يره المشتري جائز عندنا، وصورة المسألة: أن يقول الرجل لغيره: بعت منك الثوب الذي في كمي هذا، والصفة كذا، أو الدرة التي في كفي وصفته كذا، أو لم يذكر الصفة، أو يقول: بعت منك هذه الجارية المتبقية، وأما إذا قال بعت منك مافي كمي هذا، أو مافي كفي هذا من شيء، فهل يجوز هذا البيع؟ لم يذكره في (المبسوط). قال عامة مشايخنا: اطلاق الجواب يدل على جوازه عندنا، ومنهم من قال: لا يجوز هاهنا وللمشتري لما لم يره له خيار إذا رآه، الاصل في جواز هذا العقد قوله صلى الله عليه وسلّم «من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه» ولأن المبيع وإن كان مجهول الوصف إلا أن الجهالة انما تفسد العقد باعتبار الإفضاء الى المنازعة، ألا ترى أن من باع فقيزًا من صبرة، يجوز وإن كان مجهولًا لأنه (الجهل) يفضي إلى المنازعة ولا منازعة هنا، لأن المشتري بالخيار، فإن وافقه أخذه وإلا رده وهذا الخيار غير مؤقت، بخلاف خيار الشرط، لأن ثبوت هذا الخيار عرف بالحديث الذي روينا وإنه مطلق، فإنه عليه السلام قال: «فهو بالخيار إذا رآه» لايورث، بمنزلة خيار الشرط لأن الثابت ليس إلا ولاية الفسخ والإجازة وأنه لا يبقى بعد موت العاقد، والإرث إنما يجري فيما يبقى بعد الموت وهذا خيار لايسقط بالاسقاط مقصودًا، حتى لو قال: أسقطت خيار الرؤية لايسقط بخلاف خيار الشرط، ولو باع شيئًا يره بأن ورث شيئًا ولم يره حتى باعه جاز البيع، ولا خيار له في قول أبي حنيفة الآخر، وكان يقول أولًا: له الخيار، فعلى قوله الأول قاس جانب البائع بجانب المشتري، وعلى قوله الآخر: فرق بينهما، وكأنه اعتمد على ماروي أن عثمان باع أرضًا كانت له بالبصرة من طلحة فقيل لطلحة: إنك قد عيبت، فقال: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره، وقال عثمان: لي الخيار لأني بعت ما لم أره، فحكما جبير بن مطعم فقضى لطلحة بالخيار، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد.
وفي (صرف القدوري) وليس في الدراهم والدنانير خيار الرؤية، وكذلك سائر الديون، لأنه لافائدة في الرد فإن العقد لاينفسخ بردها، لأن العقد لم يرد على عيبها، وإذا رد وقبض ثانيا لابد وأن يثبت خيار الرؤية أيضًا، كما في المقبوض الأول فيؤدي إلى مالا يتناهى، ولو كان إناءً أو تبرًا أو حليًا مصوغًا فله فيه خيار الرؤية، لأن الرد مفيد هاهنا لأنه يتعين وينفسخ العقد فيه بالرد. ولو اشترى عينا بدين فالخيار للمشتري ولا خيار للبائع، ولو تبايعا عينا بعين، فلكل واحد منهما الخيار، لأن الرد من كل جانب مفيد لأن العقد ينفسخ برد كل واحد منهما ويعود إلى الرادعين ماكان له، وإذا اشترى شيئا قد كان رآه ولا يعرفه، بأن رأى ثوبا في يد إنسان ثم إن صاحب الثوب لفه في منديل وباعه منه، أو رأى جارية في يد إنسان ثم رآها قصة عنده فاشتراها منه ولم يعلم بأنه ذلك الثوب، وتلك الجارية، فله الخيار إذا رآه بعد ذلك لأنه جاهل بأوصاف المعقود عليه وقت العقد وهو العلة الموجبة للخيار.
وفي (المنتقى): إذا عرض على رجل جراب هروي فنظر الى كل ثوب ثم ان صاحب الثوب لف ثوبًا من الجراب في منديل فاشتراه الذي اعترض الجراب، فله الخيار إذا رآه، وإن كان بين له صاحب الجراب أنه من ذلك حتى بينه إلى شيء يعرفه لأنه جاهل بأوصاف المعقود عليه حالة الشراء فإنه لايدري أن الثوب الذي اشتراه جيدًا.
وروي في (الأصل): فلو أراه ثوبين وعرضهما عليه ثم لف أحدهما في منديل ثم اشتراه منه ولم يره ولم يعلم أيهما هو، فهو بالخيار إذا رآه لما ذكرنا أنه جاهل بأوصاف المعقود عليه حالة الشراء فإنه لا يدري أنه جيد أو رديء ولو رآه بالثوبين جميعا قد لف كل واحد منهما في منديل، وقال: هذين الثوبين اللذين عرضت عليك أمس، فقال: أخذت هذا الثوب نفسه بكذا وهذا الثوب بعينه بكذا، ولم يرهما حالة الشراء فهذا على وجهين أما إن اشتراهما بثمن واحد بأن قال هذا بعشره وهذا بعشرة وفي هذا الوجه لاخيار له لأنه عالم بأوصاف المعقود عليه حالة الشراء حيث سوى بينهما في الثمن لأن ذلك دليل على أنهما كانا مستويين في الوصف وإذا كانا مستويين في الوصف كان عالما بأوصاف المعقود عليه حالة الشراء، وأما ان اشتراهما بثمن مجهول مختلف بأن قال: هذا بعشرة، وفي هذا الوجه له الخيار لأن التفصيل في الثمن دليل على أن أحدهما أجود من الآخر ولم يعلم وقت الشراء أن الذي قاتله العشرين جيد أو رديء ولو قال: أخذت أحدهما بعشرين ولم يُسَلَّم أيهما هو، فإن هذا فاسد لأن المبيع مجهول جهالة يوقعهما في المنازعة، ولو اشترى شيئا قد رآه وعلم وقت الشراء أنه ذلك الشيء، فلا خيار له إلا أن يكون قد تغير عن الحال الذي رآه عليه، وإن ادعى المشتري، التعيين فالقول قول البائع مع يمينه لأن المشتري يدعي عرضًا والبايع ينكر، قالوا: وهذا إذا كانت المدة قريبة يعلم أنه لايتغير في تلك المدة، فأما إذا كانت المدة بعيدة فالقول قول المشتري، لأن الظاهر يشهد له وإليه مال شمس الأئمة السرخسي، قال: أرأيت لو كانت جارية رآها فاشتراها بعد ذلك بعشرين سنة، زعم البائع أنها لم تتغير أكان يصدق على ذلك؟ لاشك أنه لايصدق، وبه كان يفتي الصدر الشهيد حسام الدين والشيخ الإمام ظهير الدين المرغيتاني.
وخيار الرؤية يمنع تمام الصفقة حتى أن من اشتري من آخر عدل زطي ولم يره فقبضه وحدث ثبوت عيب فليس له أن يرد منه شيئًا بختار الرؤية، لأنه عجز عن ردها بعيب في يده فلو رد شيئا من الباقي تفرقت الصفقة على البائع قبل التمام وأنه لا يجوز، وكذلك لو لم يتعيب شيء منه وأراد أن يرد بعض الأثواب دون البعض ليس له ذلك، لأن فيه تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، ثم إنما منع خيار الرؤية تمام الصفقة لأنه إنما يثبت بسبب جهالة وصف المعقود عليه، وبجهالة أصل المبيع ووصفه أثر في منع الجواز ولزومه، بأن اشترى ثوبا من جملة الثياب لابعينه فجهالة الوصف مع العلم بالأصل في منع اللزوم دون الجواز، عملًا بالدليلين بقدر الإمكان، واذا امتنع اللزوم لم تكن الصفقة تامة، لأن اللزوم من أحكام الصفقة وليس للمشتري أن يخير قبل الرؤية حتى أنه لو أجازه ثم رآه فله أن يرده، ويجوز له أن يفسخ وإن لم يره عند عامة المشايخ، وهكذا روى بشر ابن الوليد عن أبي يوسف في (الأمالي) وهكذا ذكر في (شرح الطحاوي) وفي (القدوري) وهو الصحيح.
والفرق وهو أن صحة الفسخ تعتمد عدم لزوم العقد، والعقد هاهنا غير لازم ليمكن الخلل في الرضا، أما ولاية الإلزام تعتمد تمام الرضا، وإنما يتم الرضا بعد العلم بأوصاف المعقود عليه وإنه يتحقق قبل الرؤية، والرد بخيار الرؤية فسخ قبل القبض وبعده، حتى لايحتاج فيه إلى قضاء القاضي ولا إلى رضا البائع، لكن لايصح هذا الرد إلا بمحضر من البائع عند أبي حنيفة ومحمد، أما الرضا به يصح بعد الرؤية بمحضر من البائع وبغير محضر منه بالاتفاق، والرضا به على ضربين: رضا بالصريح ورضا بالدلالة، فالرضا بالصريح: أن يقول بعد الرؤية رضيت أو يقول أجزت، والرضا بالدلالة، أن يراه ثم يشتريه أو يراه بعد البيان فيقبضه، أو يتصرف فيه تصرف الملاك على مايعرف في خيار الشرط، فإذا فعل شيئًا من ذلك سقط خياره وهو النوع الثاني من هذا الفصل، إذا تصرف المشتري في المبيع قبل الرؤية تصرف الملاك فهو على وجهين: إن كان تصرفًا لايمكن فسخه بعد وقوعه ونفاذه نحو الإعتاق والتدبير لزم البيع وبطل خياره، لأنه ملك المشتري قبل الرؤية فتنفذ هذه التصرفات وبعد نفاذ هذه التصرفات يتعذر الفسخ فبطل الخيار ضرورة. وكذلك لو علق بالمبيع حقًا للغير، بأن أجر أو رهن أو باع بشرط الخيار للمشتري، لأن هذه الحقوق مانعة من الفسخ فيبطل الخيار ضرورة، حتى لو انفك المرهون أو مضت مدة الإجازة أو رُدَّ المشترى عليه بشرط الخيار ثم رآه لايكون له الرد، وإن كان تصرفا لم يتعلق به حق الغير، بأن باع بشرط الخيار أو وهب ولم يسلم أو عرض على البيع لايبطل خياره، وإن كانت هذه التصرفات منه بعد الرؤية يبطل خياره، ذكر القدوري هذه الجملة في كتابه، والفرق بين ماقبل الرؤية في حق التصرفات التي لم يتعلق بها حق الغير، أن خيار الرؤية لم يبطل بهذه التصرفات إنما يبطل من حيث إنها دليل الرضا بالامساك لاباعتبار تعلق حق الغير، إلا أن خيار الرؤية لايسقط بصريح الرضا أولى أما بعد الرؤية فبدليل الرؤية أولى، أما بعد الرؤية يسقط هذا الخيار بصريح الرضا فكذا يسقط بدليله أيضا، وروي الحسن عن أبي حنيفة أن المشتري إذا باعه بشرط الخيار لنفسه يسقط خياره. وقيل: تلك الرؤية أصح.
وذكر شيخ الاسلام وشمس الأئمة السرخسي في شرحهما أن هذا الخيار يبطل بالعرض على البيع، وذكر القاضي الإمام فخر الإسلام علي السغدي أنه لايبطل كما ذكره القدوري، ورأيت في نسخة أن على قول أبي يوسف لايبطل هذا الخيار بالعرض على البيع، وعلى قول محمد: يبطل، وروي أن هذا الخيار يبطل بنقد الثمن، وقد مر أن خيار الشرط لايبطل بنقد الثمن.
وفي (المنتقى): اشترى شيئا لم يره فقال للبائع: بعه لنفسك فهذا رد البياعة، باعه البائع أو لم يبعه، وقد انتقض البيع، ولو قال ذلك بعد ما رآه لم يذكر هذا الفصل في هذه المسألة، إنما ذكره بعد هذا في مسألة الشاة فقال: إذا اشترى شاة ولم يقبضها قال للبائع بعها أو بعها لنفسك فهو سواء، فإن كان لم يرها فهو البياعة نقض للبيع ورد بخيار الرؤية، وإن كان قد رآها لم يكن نقضًا، حتى يقول: قد قبلت ذلك وأنا أبيع، وفيه أيضًا اشترى شاة ولم يقبضها ولم يرها حتى قال للبائع: احلب لبنها وتصدق به، أو قال: فأطعمه عيالك، أو قال صبه في الأرض، ففعل البائع ذلك فإن المشتري قابض لذلك اللبن وقد بطل خيار الرؤية في الشاة. ذكر مسألة الشاة بعد هذا وقال: إذا لم يرها وقال البائع: كل لبنها أو قال: أطعمه عيالك ففعل فهو نقض في اللبن خاصة، ولو قال: احلبها وأطعمته أو قال فاطعمه عيالي فهذا لايبطل خيار الرؤية البياعة، فإن حلبها فأطعمه المشتري والمشتري يعلم أنه لبنها أو لايعلم، أو كان المشتري لم يأمره بذلك وفعله البائع من قبل نفسه فإن خيار الرؤية في هذا يبطل، ولو كان اللبن محلوبا فقال: بع لبنها أو قال: أطعمه عيالي أو قال: تصدق به ففعل فهو نقص في اللبن خاصة بمنزلة ما لو اشترى عبدين كل واحد منهما بخمسمائة، ولم يرهما ثم قال للبائع: بع فلانا يعني أحدهما بعينه فإن ذلك مناقضة فيه خاصة كذا هنا.
واذا اشترى خفافًا لبسه البائع وهو نائم فقام فمشى فيه وذلك ينقضه فقد بطل خيار الرؤية، وإن لم ينقضه لايبطل خيار الرؤية. إذا اشترى دارا ولم يرها فبيعت دار بحيها فأخذها بالشفعة فله أن يرد الدار المشتري بخيار الرؤية، رواه ابراهيم عن محمد.
وفي (الأصل): إذا اشترى عدل زطي لم يره ثم باع ثوبا منه، ثم نظر إلى مابقي ولم يرض به فليس له أن يرد بخيار الرؤية، فإن عاد ما باع الى ملكه بسبب هو فسخ من كل وجه، فله أن يرد الكل بخيار الرؤية، إلا على رواية علي بن الجعد عن أبي يوسف فانه روي عنه أن خيار الرؤية إذا سقط لايعود اليه قديم ملكه بخيار الشرط.
وفي (الأصل): إذا جرح العبد عبد المشتري جرحًا له أرش أو كانت أمة فوطئها غير المشتري بشبهة، فليس له أن يردها بخيار الرؤية، وإن كان وطئها غير المشتري بطريق الزنا أو وطئها المشتري أو كان الجرح من المشتري فليس له الرد إلا أن يرضي البائع في مسائل الثلاث، واذا ولدت ولدا فإن بقي الولد فليس له الرد على كل حال، وإن مات الولد إن أوجبت الولادة نقصانًا ظاهرًا فليس له الرد إلا برضى البائع، وإن لم يوجب نقصانا ظاهرا فكذلك على رواية كتاب المضاربة، لأن على رواية كتاب المضاربة الولادة في بني آدم عيب لازم أبدًا. وإن كانت شاة فولدت في يد المشتري إن بقي الولد فليس للمشتري أن يردها على كل حال، وكذلك ان قبل الولد وإن مات كان له الرد لأنه لما مات من غير صنع أحد جعل كأن لم يكن فالولادة لا تكون عيبًا فيها لأنها لا توجب نقصانًا في البهائم. ولو أن البائع جرح العبد، عبد المشتري ذكر في (الأصل) أنه وجب البيع على المشتري، وعلى البائع القيمة في القتل والأرش في الجراحة، وذكر فصل الجراحة في كتاب الشرب وقال: على قول أبي حنيفة ومحمد يسقط خيار المشتري ويلزمه البيع، وعلى قول أبي يوسف لايسقط خياره، وقال في موضع آخر: على قول أبي يوسف الأول يسقط خياره، وعلى قوله الآخر لايسقط.
وفي (نوادر ابن سماعة) أن الخيار لايسقط وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وفي بعض (النوادر) خيار المشتري يسقط بجراحة البائع عند أبي حنيفة، وعندهما لا يسقط.
قالوا: وهو الصحيح. ولو أجاز المشتري العقد في بعض المبيع دون البعض بأن اشترى ثوبين أو عبدين أو ما أشبه ذلك ورآهما بعد ماقبضهما ورضي بأحدهما فقال: رضيته بهذا، لم يجز لما فيه من تفريق الصفقة قبل التمام، والخيار على حاله لأن إلزام بقية المبيع ولم يوجد الرضا به متعذر ورد الباقي وحده متعذر لما فيه من تفريق الصفقة فتعين رد الكل وصار وجود الإجازة في البعض والعدم بمنزلة.
ذكر المسألة على هذا الوجه. ابن سماعة في (نوادره) عن محمد قال ثمة: ولو لم يقل رضيت بهذا، ولكن عرض أحدهما على البيع لم يكن له أن يردهما لأن خيار الرؤية قد سقط حكما للعرض على البيع، وما ثبت حكمًا لا يرد، فيلزمه العقد في الآخر ضرورة، قال ثمة: وكذلك لو كانا في يد البائع فرآهما وقبض أحدهما فهو دليل الرضا بهما، وليس له أن يردهما. وفي (المنتقى) عن أبي يوسف أنه سوى بين الرضا بأحدهما وبين عرض أحدهما على البيع وقال: لايبطل خياره حتى يرضا بهما أو بعرضهما على البيع، فهذا إشارة إلى أنه لو عرضهما على البيع انه يبطل خياره، وقد ذكرنا قبل هذا عن أبي يوسف ان المشتري لو عرض المبيع على البيع لايبطل خياره.
وفي (القدوري) عن أبي يوسف لو عرض المشتري بعض المبيع على البيع أنه لايبطل خياره، وفي (المنتقى) أيضًا عن أبي حنيفة فيمن اشترى جاريتين ورآهما ورضي بأحديهما فهو رضا بهما، ولو رأى أحديهما ورضي بهما لم يكن رضا بهما.
رجلان اشتريا شيئا لم يرياه وقبضاه ثم نظرا إليه فرضي به أحدهما وأراد الآخر الرد فليس له الرد إلا أن يجمعا على الرد وهذا قول أبي حنيفة. وكذلك إذا كان البائع اثنين والمشتري واحدا والخيار للبائعين فنقض أحدهما وأجاز الآخر لايجوز ما لم يجمعا على الإجازة. رجلين اشتريا جارية قد رآها أحدهما فنظر إليها الذي لم يرها وأجمعا على ردها هو وصاحبه فلهما ذلك، ولو أن الذي رآها قال: قد رضيت وأنفذت البيع قبل أن يرد الذي لم يره كان للذي لم يره أن يرد جميع البيع ورضا شريكه بمنزلة رؤيته.
عن أبي يوسف في (الأمالي) اشترى ثوبًا لم يره فإذا هو قصير، لايغطيه فأراد أن يرده فقال له البائع: إن الخياط فإن قطعك فأمسكه وإلا فرده فأراه الخياط فإذا لا يغطيه فله أن يرده، وليس هذا كعرضه على البيع، هذا بمنزلة مالو قال: اذهب به فإن رضيته وإلا فرده، وكذلك الخف والقلنسوة وكل شيء بمنزلة صغره أو نقصانه. ولو كان عبدًا فوجده أعمى فقال: أريد أن أعتقه عن كفارة يميني فإن أجري وإلا رددته فله أن يرده هذا بمنزلة الصغر. وفي الفتاوي سئل أبو بكر عمن اشترى أرضًا ولها أكار فزرعها الأكار برضا المشتري بأن تركها عليه، على الحالة المتقدمة ثم رآها فليس له أن يردها، لأن فعل الاكار بمنزلة فعل المشتري، وعن محمد فيمن اشترى تمرًا بالري وهو في أوعية فحمله الى الكوفة ولم يكن رآه هل له أن يرده بالكوفة، قال: لا ولكن يحمله إلى الري ويرده ثمنه.
وفي (الفتاوى): إذا اشترى لبنا على أن يحمله البائع إلى منزل المشتري وكان ذلك بالفارسية حتى صح البيع فحمله البائع إلى دار المشتري ولم يكن رآه المشتري، فأراد أن يرده بخيار الرؤية ليس له ذلك، لأنه لو رده يحتاج البائع إلى الحمل فيصير بمنزلة عيب حادث عند المشتري.
وفي (المنتقى): رجل باع جارية بألف درهم وعبد ودفع الجارية وقبض العبد والألف فرآي ولم يكن رآه قبل ذلك، فرده بخيار رؤية جاز رده ولا ينتقض البيع في جميع الجارية، وإنما ينتقض بحصته العبد فيها ويرجع حصة العبد من الجارية إلى بائعها، وأما حصة الألف من الجارية فلا ينتقض البيع فيها ولا يعود إلى بائعها. بشر عن أبي يوسف في رجل اشترى كري حنطة ولم يرهما قبل القبض أو بعده فله خيار الرؤية فيما بقي.

.نوع آخر فيما يكون رؤية بعضه كرؤية كله في إبطال الخيار:

وإذا رأى بعض المبيع ورضي له ولم ير الباقي هل يكون على خياره، فلأصل فيه أن غير المرئي إذا كان تبعًا للمرئي فليس له رد غير المرئي، وإن كان برؤية المرئي لا يعرف حال غير المرئي إن البيع حكمه حكم البيوع فيعتبر مرآها تبعًا للمرئي وإذا سقط الخيار في الأصل سقط في البيع. بيانه إذا اشترى جارية أو عبدًا ورأى وجهه ورضي به لا يكون له الخيار بعد ذلك، ولو رأى ظهرها وبطنها ولم ير وجهها فله خيار الرؤية لأن سائر الأعضاء في العبيد والجواري تبع للوجه، ألا ترى أنه تتفاوت القيمة بتفاوت الوجه مع التساوي في سائر الأعضاء، وفي الدواب بشرط النظر إلى مقدمها ومؤخرها هكذا ذكر القدوري قال: لأنه في العادة عند شراء هذه الأشياء ينظر إلى مقدمها ومؤخرها ولا يلتفت إلى شيء آخر فصار ذلك أصلًا وغيره تبعًا، وذكر في موضع آخر عند أبي يوسف يعتبر النظر إلى مقدمها ومؤخرها، وعند محمد يعتبر النظر إلى مؤخرها لا غير.
وفي (المنتقى): قال أبو يوسف في الدواب: يسأل النحاسون فإن قالوا يحتاج مع النظر إلى الوجه والكفل النظر إلى مؤخرها لنقصان كان في مؤخرها من غير عيب فله الخيار ما لم ينظر إلى مقدمها ومؤخرها، وإن كان مؤخرها لا يكون فيه نقصان من غير عيب، لم يكن له خيار إذا نظر إلى مؤخرها. وعند محمد رحمه الله في الداوب: أنه يحتاج إلى النظر إلى وجهها وجسدها، والنظر إلى قوائمها لا يكفي، وعن أبي حنيفة في البرذون والحمار والبغل يكفي أن يرى شيئًا منه إلا الحافر والذنب والناصية، وفي الشاة الفتية لابد من النظر إلى فرعها وسائر جسدها، وفي شاة اللحم لابد من الجس حتى يتعين به الهزال والسمن. وفي المنقول إن كان شيئًا مقصودًا منه كالوجه في المعافر وموضع العلم في بعض الثياب فلابد من النظر إلى ذلك الموضع لسقوط الخيار، كذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، وإن لم يكن شيء منه مقصودًا كالكرباس فإذا نظر إلى ظاهره مطويًا فلا خيار له بعد ذلك، لأن التفاوت بين المرئي وغير المرئي في الكرباس وأشباهه يسير، فإن وجد الباقي مثل ما رآه فلا خيار له وإن وجده دونه فله الخيار. وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا اشترى جراب هروي فأراه من كل ثوب قطعة فلا خيار له وإلا له الخيار، قال هشام قلت لمحمد: إذا كان المشترى طنفسة فرأى أسفلها ولم يرى وجهها وموضع الوشي منها، قال: لا خيار له قال هذا شيء واحد وقد ذكرنا قبل هذا بخلافه. وروي عن أبي حنيفة فيمن اشترى بساطًا أن له الخيار حتى يرى جميعه، وما كان له وجهان من ثوبين مختلفين فإنه شرط رؤية كل الوجهين. وعن محمد فيمن اشترى جبة مبطنة ورأى بطانتها ورضي بها لا يبطل خياره حتى يرى الظهارة يريد به إذا كان بطانتها دون ظهارتها كذلك الحكم في كل شيء مبطن بطانته دون ظهارته، وأما السمور وكل شيء بطانته أرفع وأكثر ثمنًا من ظهارته فرأى البطانة ورضي بها بطل خياره إلا أن يكون البطانة فائقة يشترط رؤيتها.
وفي (فتاوى النسفي): إذا اشترى مكاعب وقد جعل الوجوه المكاعب بعضها إلى بعض فنظر المشتري إلى ظهورها لا يبطل خيار الرؤية، لأن الوجه أصل والصرم تبع. وإذا اشترى رحا بأداتها شيء تباين لم يره فله الخيار إذا رآه ويرد الكل، وكذلك إذا اشترى سرجابا دابة ورأى ولم يرى اللبد فله الخيار إذا رأه ويرد الكل، وإن كان المشترى دارًا إذا رأى حيطانها ولم يرد أجلها ورضي به خيار له بعد ذلك قالوا وهذا إذا لم يكن جوف الدار أبنية، أو كان إلا أنه لا يختلف أبنية ذلك الموضع بل يكون على تقطيع واحدًا.
أما إذا كان داخل الدار أبنية وتختلف أبنية دور ذلك الموضع فله الخيار، وما ذكر من الجواب في (الكتاب) فذلك بناء على عادة أهل الكوفة وبغداد فإن أبنية دورهم لا تختلف، وقال زفر: لا يبطل الخيار حتى يرى شيئًا من أرض دهليز أو شيئًا من أرض الدار، وقال الحسن: لا يبطل الخيار حتى يدخلها ويتأمل جوانبها وشخصها وبعض مشايخنا من أهل زماننا قالوا في البيت الصغير وهو الذي يسمي عله جابه إذا رآى خارج البيت ورضي به بطل خياره كما هو جواب (الكتاب).
وفي الدور يعتبر رؤية داخلها كما هو جواب المشايخ، وقالوا أيضًا في الدور أيضًا يعتبر رؤية ما هو المقصود حتى أنه إذا كان في الدار بيتان شتويان وبيتان صيفيان وبيتًا طابق يشترط رؤية الكل كما يشترط رؤية صحن الدار، ولا يشترط رؤية المطبخ والمزبلة والعلو إلا في بلد يكون العلو مقصودًا كما في سمرقند، وبعضهم شرطوا رؤية الكل وهو الأظهر والأشبه. وإن كان المشترى بستانًا يشترط رؤية رؤوس الأشجار ويكتفي بها لأن رؤية رؤوس الأشجار يعرف حال الباقي.
وفي كتاب القسمة لم يشترط رؤية رؤوس الأشجار أيضًا، وصورة ما ذكر ثمة إذا اقتسما بستانًا وكرمًا فأصاب أحدهما البستان وأصاب الآخر الكرم ولم يرى واحد منها الذي أصابه ولا رأى جوفه ولا نخله ولا شجره ولكنه رأى الحائط من ظاهره فلا خيار لواحد منهما فقد اكتفي برؤية ظاهر الحائط ولم يشترط رؤية رؤوس الأشجار، ويجب أن يكون الجواب المذكور في البستان بناء على عادة بلادهم أما في بلادنا لا يكتفي برؤية ظاهر حائط البستان ولا برؤية رؤوس الأشجار ويشترط رؤية داخل الكرم، لأن داخل الكرم في بلادنا يتفاوت تفاوتًا فاحشًا. وإن كان المبيع شيئًا ففي العدديات المتفاوتة نحو الثياب التي اشتراها في جراب، والبطيخ الذي يكون في السريحة وغير ذلك لابد من رؤية كل واحد، وإذا رآى البعض فهو بالخيار في الباقي لأن كل واحد مقصود رؤية المرئي لا يعرف حال الباقي، ولكن إذا أراد الرد يرد الكل تحرزًا عن تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، وفي العدديات المتقاربة نحو الجوز والبيض رؤية البعض يكفي إذا وجد الباقي مثل المرئي أو فوقه رؤية البعض يعرف حال الباقي والمكيل والموزون نظير العدديات المتقاربة يكتفي فيه برؤية البعض إذا كان في وعاء واحد بلا خلاف، وإذا كان في وعائين فرأى ما في أحد الوعائين اختلف المشايخ فيه قال مشايخ عراق: إذا رضي بما رأى يبطل خياره في الكل إذا وجد في الوعاء الآخر مثل ما رأى أو فوقه، أما إذا وجد دونه فهو على خياره ولكن إذا أراد يرد الكل وهو الصحيح.
وفي (المنتقى): رجل اشتري من آخر حنطة في بيتين متفرقين فرآى في أحد البيتين ورضي به ثم رآى ما في البيت الآخر فلم يرض به، فإن كان طعامًا واحدًا لزمه البيع فيهما، وإن كان الذي رآه أخيرًا ليس من الطعام الذي رآه أولًا فله أن يرده عليه، قال: وكذلك الكيل كله والوزن كله.
وفيه أيضًا إذا اشترى زقين من السمن أو الزيت أو العسل أو حملين من القطن أو الحب أو الشعير أو شيء من الحبوب ورأى أحدهما ورضي به فليس له أن يرد إلا أن يكون (الأخير) مخالفًا للأول يأخذهما أو يردهما، وهذه المسائل تؤكد قول مشايخ العراق، وإن قال المشتري في هذه الفصول لم أجد الباقي على الصفة التي رأيت المرئي بل هو دونه، وقال البائع: لا بل وجدته على تلك الصفة فالقول قول البائع مع يمينه، وعلى المشتري البينة.
وإن كان المعقود عليه شيئًا معينًا في الأرض كالثوم والبصل والشلجم والجزر والفجل فإن كان شيئًا يكال أو يوزن بعد القلع كالجزر والبصل، فإذا قلع المشتري شيئًا منه بإذن البائع أو قلع ورضي المشتري سقط خياره فيما بقي، وإن قلع المشتري ذلك بغير إذن البائع سقط خياره حتى لم يكن له أن يرد رضي بالمقلوع أو لم يرض وجد في ناحية أخرى من الأرض أقل منها أو لم يجد فيها شيئًا إذا كان المقلوع شيئًا له ثمن، وإن كان المقلوع شيئًا لا ثمن له لا يسقط خياره لأنه بالقلع صار معينًا، لأنه كان حيًا ينمو أو بعد القلع صار من الموات لا ينمو أو العيب الحاصل في يد المشتري يمنع الرد بخيار الرؤية فيمتنع الرد إلا إذا كان المقلوع شيئًا لا ثمن له وجوده وعدمه بمنزلة فكأنه لم يقلع شيئًا. وإن كان ذلك شيئًا يباع عددًا كالفجل فرؤية البعض لا يبطل خياره فيما بقي إذا حصل القلع من البائع أو من المشتري بإذن البائع، وإن كان قلع المشتري بغير اذن البائع وكان المقلوع شيئًا له ثمن يسقط خياره لأجل العيب هكذا ذكر في (الأصل).
وفي (القدوري) إذا اشترى معينًا في الأرض كالجزر والبصل فله الخيار إذا رآى جميعه، وإن رآى بعضه ورضي به فهو على خياره في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: إذا قلع شيئًا يستدل به على الباقي في عظمه ورضي به المشتري فهو لازم.
وفي (نوادر هشام) قال: سألت محمدًا عن رجل اشترى عشرة أجربة جزر في الأرض فقبض الأرض وبعث الغلام وأمره بقلع الجزر فقلع كله، ثم جاء المشتري هل له خيار الرؤية قال: نعم، قلت: قد نقصه القلع ثلث القيمة، قال: وإن نقصه لأنه لم ينقصه من عيب إنما نقصه من شعر، وإن كان المشتري هو الذي قلع فإذا قلع منه شيئًا قدر الكفين، أو قال ما يدخل في الكيل قدر ما يستدل به على الباقي فإنه إذا ما أقلع الباقي لزمه ذلك كله بمنزلة متاع اشتراه، فإذا قبضه بعد الرؤية أو قبض بعضه لزمه وانقطع خيار الرؤية.
وإذا اشترى دهنًا في قارورة فنظر إلى القارورة ولم يصب على راحته يعني كفه أو على أصبعه منه شيئًا فهذا ليس برؤية عند أبي حنيفة، وعن محمد فيه روايتان.
وفي (المنتقى) عن محمد: إذا رآى عنب كرم فله الخيار حتى يرى من كل نوع منها شيئًا، وفي النخل إذا رآى بعضه ورضي به بطل خيار الرؤية وجعل رؤية نوع من أنواع النخل جائزًا على كله.
وإذا اشترى رمانًا حلوًا وحامضًا ورآى أحدهما فله الخيار إذا رآى الآخر، وفيه أيضًا إذا اشترى حمل نخل فرأى بعضه ورضي به لم يلزمه البيع حتى يرى كله ويرضى به، وكذلك الثمار الظاهره كلها ما يدخل منها في الكيل والوزن وما يدخل في العد بعد أن يكون في رأس النخل والشجر وليس هذا كالذي قد جمع وخلط وجعل في موضع واحد.
وفي (البقالي): وإذا اشترى وزنًا من تراب المعدن بعينه فله الخيار إذا خرج ما فيه، أيضًا رؤية أحد المصراعين أو أحد الخفيين أو النعليين لا يكفي. وفي (فتاوى) إذا اشترى نافجة مسك وأخرج المسك منها فليس له أن يردها برؤية أو عيب لأن الاخراج يدخل فيه عيبًا حتى لو لم يدخل كان له أن يرده بها والله أعلم.

.نوع آخر في شراء الأعمى:

شراء الأعمى وبيعه جائز وهو بمنزلة البصير الذي لم ير بلمسه وحشة بمنزلة النظر من الصحيح، وفي المشمومات يعتبر الشم وفي المذوق يعتبر الذوق لأن هذه الأشياء مما يعرف بعض أوصاف المبيع فيقام مقام النظر حالة العجز، كما تقام الإشارة من الأخرس مقام النظر للعجز، وأما الثوب فلابد من صفة وبيان طوله ورفعته لأنه أقصى ما يستدل به على أوصافه وسقوط اعتبار النظر كان لضرورة العجز ولا ضرورة في الأقصى، فيعتبر إذا اشترى التمر على رؤوس النخيل يعتبر الصفة لأنه هو الممكن، وكذلك العقار وقيل: يلمس الحائط والبيتان، وروي عن أبي يوسف أنه يوقف في مكان يصير حصل له العلم، وفي الحقيقة لا اختلاف بين الروايات والمنظور في الروايات كلها أقصى ما يتصور.
وعن أبي حنيفة رحمه أنه يوكل بصيرًا حتى يقبضه الوكيل وهو ينظر إليه، وهذا أصله مستقيم فإن عنده الوكيل بالقبض يملك إسقاط خيار الرؤية على ما نبين هذا إن شاء الله تعالى. ولو وصف له ثم أبصر فلا خيار له لأن العقد قد تم حين وصف له وسقط الخيار فلا يعود بعد ذلك، ولو اشترى البصير ثم عمي انتقل الخيار إلى الصفة لأن المعنى أن قل للخيار من النظر إلى الصفة العجز وفي هذا كونه أعمى وقت العقد وصيرورته أعمى بعد العقد قبل الرؤية سواء.

.نوع آخر في الاختلاف في الرؤية:

إذا اختلف البائع والمشتري في رؤية ما اشترى فالقول قول المشتري مع يمينه، لأن البائع يدعي عليه أمرًا حادثًا وهو لزوم العقد بسبب حادث وهو الرؤية والمشتري ينكر فالقول قول المنكر، ولو أراد المشتري أن يرده فقال البائع: ليس هذا هو الذي بعتك وقال المشتري: هو ذلك فالقول قول المشتري، لأن في خيار الرؤية المشتري ينفرد بالفسخ فينفسخ العقد بقول المشتري، ويبقى الاختلاف في المقبوض فيكون القول فيه قول القابض كما في باب الغصب والوديعة وما أشبه ذلك. وإن كان المشترى محدودًا وأقر المشتري بقبض المحدود المشترى ثم قال بعد ذلك: لم أر جميع المحدود لا يقبل قوله لأن القبض في المحدود لا يتصور بدون الرؤية فالإقرار بقبض المحدود المشترى ينقض دعواه عدم الرؤية في بعضه.

.نوع آخر في الوكيل والرسول:

قال محمد رحمه الله في الجامع الصغير: عن أبي حنيفة إذا اشترى طعامًا لم يره ووكل وكيلًا بقبضه فقبضه الوكيل بعد ما رآه ونظر إليه فللمشتري أن يرده، وقال أبو يوسف ومحمد: الوكيل والرسول سواء، للمشتري أن يرده إذا رأه إن شاء وإن شاء أخذه.
أصل المسألة أن الوكيل بالقبض يملك إبطال خيار الرؤية عند أبي حنيفة وعندهما لا يملك إبطاله، عند أبي حنيفة بأن يقبضه وهو ينظر إليه فأما إذا قبضه مستورًا ثم أراد بعدما نظر إليه ابطال الخيار قصدًا فليس له ذلك، فوجه قولهما أن التوكيل تناول القبض وإبطال خيار الرؤية ليس من القبض في شيء، ولهذا لا يملك إبطاله مقصودًا، ولهذا لا يملك إبطال خيار الشرط ولا إبطال خيار العيب. ولأبي حنيفة أن التوكيل بالشيء توكيل بما هو تمامه ألا ترى أن التوكيل بالخصومة توكيل بالقبض الذي هو من تمام الخصومة، وإتمام القبض بإبطال خيار الرؤية لأن تمام القبض بتمام الصفقة، والصفقة لا تكون تامة مع خيار الرؤية فيضمن التوكيل بالقبض توكيلًا بالرؤية المسقط للخيار ومقتضي تتميم القبض لا مقصودًا فيملك إسقاط الخيار مقتضي تتميم القبض ولم يملك إسقاطه مقصودًا لهذا. وأما خيار الشرط فقد ذكر في (القدوري) أن من اشترى شيئًا على أنه خيار فوكل وكيلًا بقبضه فقبضه بعد ما رآه فهذا على هذا الخلاف أيضًا، وإن سلمنا فلأن خيار الشرط لا يحتمل البطلان مقتضي تتميم القبض، ولهذا لا يبطل خيار الشرط لو قبضه المشتري بنفسه. وأما خيار العيب فقد ذكر الفقيه أبو جعفر أنه يبطل بقبض الوكيل بالقبض والصحيح أنه لا يبطل، وإليه أشار في (الأصل): لأنه لا يمنع تمام القبض فلا يتضمن الوكيل بالقبض توكيلًا بإبطال خيار العيب.
وأما الرسول فقلنا: الرسول ليس إليه إلا تبلغ الرسالة أما تتميم ما أرسل لا إلى الرسول هذا هو الكلام في الوكيل بالقبض.
أما الوكيل بالشراء فرؤيته كرؤية الموكل بالإتفاق بخلاف الرسول بالشراء فإن رؤيته لا تكون كرؤية المرسل. وإذا وكل إنسانًا أو أرسله قبل الشراء حتى رآه ثم اشتراه الموكل والمرسل بنفسه يثبت له خيار الرؤية، وإذا اشترى شيئًا لم يره قال لغيره أني اشتريت سلعة فاذهب وانظر إليه، فإن كان يصلح فارض بها وخذه أو قال: فإن رضيت بها فخذه فذهب ورضي. ذكر شيخ الإسلام في باب الخيار بغير شرط أن هذا لا يجوز، ورأيت في موضع آخر أن هذا لا يجوز عند أبي يوسف ومحمد، وأما علي قول أبي حنيفة إن قيل يجوز فله وجه، وإن قيل لايجوز فله وجه. الوكيل بالشراء إذا اشترى شيئًا لم يره وقد كان رآه الموكل ولم يعلم به الوكيل يثبت للوكيل خيار الرؤية ذكره شيخ الإسلام في (شرح كتاب المضاربة).

.الفصل الرابع عشر: في العيوب:

هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضًا:

.نوع منه في بيان معرفة العيب:

قال القدوري في (كتابه): كل ما يوجب نقصانًا في الثمن في عادات التجار فهو عيب لأن المالية مقصودة في البيع وما ينقص الثمن ينقص المالية فكان عيبًا، وذكر شيخ الإسلام خواهرزاده أن ما يوجب نقصانًا في العين من حيث المشاهدة والعيان فهو عيب وذلك كالسلل في أطراف الجواري والهشم في الأواني، وما لا يوجب نقصانًا في العين من حيث المشاهدة والعيان ولكن يوجب نقصانًا في منافع العين فهو عيب لأن الأعينان يقصد بها المنافع، ومالا يوجب نقصانًا في العين ولا منافع العين إلا أن يعتبر فيه عرف الناس أن عدوه عيبًا كان عيبًا ومالا فلا، إذا ثبت هذا العمى والعور والحول والإصبع الزائدة والناقصة عيب لما قلنا، والولادة القديمة ليست بعيب، على رواية (كتاب المضاربة) عيب، حتى إن من اشترى جارية قد ولدت عند البائع لا من البائع أو عند بائع البائع ولم يعلم المشتري بذلك وقت العقد فعلى رواية كتاب البيوع ليس له أن يردها بخيار العيب إذا لم يتمكن بسب الولادة نقصانًا ظاهرًا.
وعلى رواية (كتاب المضاربة) يرد وإن لم يتمكن بسبب الولادة نقصانًا ظاهرًا، وفي البهائم لا يرد ما لم يمكن بسبب الولادة نقصانًا ظاهرًا باتفاق الروايات، والحبل في الجارية عيب يزول بالولادة على رواية (كتاب البيوع) لأن على رواية (كتاب البيوع) نفس الولادة ليس بعيب، فإذا قبضها ووجدها حاملًا فولدت فلا رد ولا رجوع إلا أن يتمكن بسبب الولادة نقصان ظاهر، وفي البهايم الخبل ليس بعيب وترك الختان في الجارية والغلام ليس بعيب إذا كانا محلوبين سواء كانا صغيرين أو كبيرين لأن الكبار لا يختنون، وإن كانا صغيرين فكذلك، وإن كانا كبيرين فهو عيب فيوجب نقصانًا في الداب والمراد من الكبير البالغ، والزنا في الجارية عيب وليس بعيب في الغلام إلا أن يكون مديمًا على ذلك، وهذا لأن الاستفراش مقصود من الجواري والزنا يخل به لأن الزانية لا تستفرش عادة، والمقصود من العبيد الأعمال خارج البيت والزنا لا يخل به إلا إذا اعتاد ذلك يكون عيبًا لأن ذلك يضعفه ويعجزه عن الأعمال. وفي الإجازة إذا اشترى جارية كانت زنت في يد البائع فله أن يردها وإن لم تزن عند المشتري، وإذا كانت الجارية ولد لزنا فهو عيب وليس عيب في الغلام.
وفي (البقالي) لو كان أبوها أو جدها لغير رشد فهو عيب: وفي (نوادر ابن رشيد) عن محمد إذا كان أبوها لغير رشد فهو عيب عندي في الجواري اللاتي يتخذن أمهات الأولاد، وأما غير ذلك فليس بعيب إلا أن يكون عيبًا عند النخاسين.
وفي (المنتقى): شرب النبيذ مما لا يحل ليس بعيب في الجارية والغلام ولكنه عيب في دينه، وفيه أيضًا والشجر فيهما عيب ويحتمل أن يكون المروي والشجر بالجيم وفتح الشين وفارسيته سوختكي براندام. والبخر والدفر في الجواري عيب وفي العبيد ليس بعيب لأن الاستفراش مقصود من الجارية وأنه لا يحصل بهما والمقصود من العبير العمل، وعن هذا قيل أن كثرة الأكل عيب في الجواري دون العبيد لأنها تورث التخمة فتخل به الاستفراش، وفي بيوع (الأصل) الدفر في العبيد ليس بعيب إلا أن يكون من داءه، موضع آخر من (المنتقى) الدفر ليس بعيب لا في الجارية ولا في الغلام بخلاف البخر في الجواري، وفي موضع آخر منه الدفر ليس بعيب إلا أن يكون من داء فيكون عيبًا في الجارية دون الغلام. وفي (البقالي) البخر والدفر ليس بعيب في الغلام إلا أن يكون فاحشًا، وفي (النوادر) الدفر ليس بعيب إلا أن يوجب نقصانًا فاحشًا بأن يؤخذ رائحة ذلك يؤخذ منه، وذكر شمس الأئمة السرخسي إلا يكون ذلك فاحشًا لا يكون في الناس مثله فذلك يكون الداء في الباطن. والنكاح عيب في الجارية والغلام وكذلك الدين عيب في الجارية والغلام وانقطاع الحيض في البالغة عيب، لأن انقطاع الحيض في أوانها يكون لداء في باطنها إلا أن دعوى المشتري لا تسمع ما لم يدع انقطاع الحيض بالحبل أو الداء، وسيأتي ذلك في موضعه. والاستحاضة عيب أيضًا (لأنها) علامة المرض ولا يقبل قول الأمة في الفصلين جميعًا إلا رواية عن محمد. والكفر عيب في الجواري والعبيد لأن المسلم لا باء ثمنه على نفسه ولا على مصالح الدينية من اتخاذ ماء الطهارة وحمل المصحف وكذلك في المعاملات، لأنه ربما يوكله من الحرام. والبخر عيب وهو الانتفاخ تحت السرة، الأدر عيب وهو عظم الخصيتين، وسيلان الماء من المنخر عيب، والعسر وهو أن يعمل بيساره ولا يعمل بيمنه عيب، والسن السوداء والخضراء عيب وفي الصفراء اختلاف الروايات، والغناء في الجارية التي تتخذ أم ولد عيب، والعدة عن الطلاق الرجعي في الجارية عيب وعن الطلاق البائن ليس بعيب، لأن المشتري يتمكن من إزالته من غير مؤنة تلحقه وهذا هو الأصل أن كل عيب يتمكن المشتري من إزالته من غير مؤنة تلحقه وكان المبيع بحال إذا أزيل العيب عنه لا ينتقص فهو ليس بعيب يوجبه الرد كما في مسألة الإحرام، وكما إذا اشترى ثوبًا بخسًا ولم يعلم به، ثم علم وكان الثوب بحال إذا غسل الثوب لا ينتقص الثوب لا يكون له حق الرد على ما هو المختار للفتوي في تلك المسألة. والعنة والخصاء عيب.
ذكر في (العيون): والسن الساقط عيب ضرب كان أو غيره هو الصحيح، والظفر الأسود عيب إذا كان ينتقص الثمن، والثؤلول والخال كذلك عيب إذا كان ينتقص الثمن، والصهوبة في الشعر وفارسيته موري خرما كون عيب، والتخنث في الغلام عيب حتى لو وجده خنثًا رده بالعيب، لأن هذا مما يعده التجار عيبًا قالوا: وهذا إذا كان التخنث من حيث العمل القبيح يأتي بالأفعال القبيحة، أما إذا كان التخنث من حيث المشية والقول لا يرد لأنه لا يعد عيبًا، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يحكي عن استاذه هذا إذا كان تخنثًا في الرد من أفعاله حتى كان يخالطه النساء ويفسدهن أما إذا كان به نوع رعونة ونوع تخنث للابن في صورته ويكسر في مشيته، فإن كان ذلك يسيرًا لا يكون عيبًا وإن كان فاحشًا يكون عيبًا. والغشاء عيب وتفسيره عند بعضهم ضعف في البصر وعند بعضهم أن لا يبصر عند أدنى الظلمة، والعفل عيب وهو أن يكون المال منها شبه الكيس، والعتق عيب، قيل: معناه أن يصير المسلك واحدًا، وقيل: معناه ريح في المثائة ربما يهيج بالإنسان فيقبله، والسلعة عيب وهو القروح التي في العتق يسمى بالفارسية (حول والكي) عيب إلا أن يكون سمه كما يكون في بعض الدواب والفحج عيب وهو في الأدمي يقارب صدور قدميه وتباعد عقبيه، والفدع عيب والمصدر أفدع وهو المعوج الرسمي، والحنف عيب وهو إقبال كل واحد من الإبهامين على صاحبه، والصدق عيب وهو يوسع مفرط في الغنم، والشتر عيب وهو انقلاب في الأجفان وبه كان يسمى (اليسر ناخنة وبادسيل سوي درجشم أبي درجشم) كل ذلك عيب، والجرب في العين في غير العين والسرقة والبول في الفراش، والأباق في حالة الصغر قبل أن يأكل واحده وقبل أن يشرب وحده ليس بعيب هذا هو لفظه (القدوري) وبعد لك هو عيب ما دام صغيرًا فإذا بلغ فهو عيب أخر سوي الذي كان حتى لو أبق أو سرق في يد البائع قبل البلوغ ثم فعل عند المشتري بعد البلوغ لم يكن له أن يرده.
وفي (المنتقى): إذا اشترى عبدًا يفعل البيع والشراء والأباق والسرقة والبول في الفراش فتقيد المسألة بالذي يعقل البيع والشراء دليل على أنه إذا كان لا يعقل البيع والشراء فهذه الأشياء منه لا تكون عيبًا، وذكر في موضع آخر من (المنتقى) ما ذكر في (القدوري).
ومن مشايخنا من قال: إنما تكون هذه الأشياء عيب إذا كان الصغير بحيث يميز أما إذا كان صغيرًا جدًا لا يكون عيبًا، وبعض مشايخنا قالوا: البول في حالة الصغر إنما يكون عيبًا إذا كان ابن خمس فما فوقه أما إذا كان ابن سنة أو سنتين فليس ذلك بعيب. فأما الجنون فهو عيب واحد في حالة الصغر والكبر حتى لو جن في يد البائع قبل البلوغ ثم جن عند المشتري بعد البلوغ فله الرد، وتكلم المشايخ في مقدار ما يكون عيبًا من الجنون.
قال بعضهم: إن كان أكثر من يوم وليلة فهو عيب فما دونه فليس بعيب، وقال بعضهم: المطبق عيب وغير المطبق ليس بعيب. والسرقة وإن كانت أقل من عشرة دراهم عيب لأن السرقة أنما كانت عيبًا، لأن الإنسان لا يأخذ ثمن السارق على مال نفسه، وفي حق هذا المعنى العشرة وما دونه سواء، وقيل: ما دون الدرهم نحو فلس أو فلسين أو ما اشبه ذلك ليس بعيب، والعيب في السرقة لا يختلف بين أن يكون من المولى أو غيره إلا في المأكولات فإن سرقه من المولي لأجل الأكل لا يعد عيبًا ومن غير المولي يعد عيبًا، وسرقة ما يؤكل لا لأجل الأكل بل لأجل البيع عيب من المولى وغيره، وإذا وهب البت ولم يختلس فهو عيب.
والإباق ما دون السفر عيب بلا خلاف بين المشايخ وتكلموا في أنه يشترط الخروج من البلدة، وهذا لأن الإباق إنما كان عيبًا لأنه يوجب فوات المنافع عن المولى وفي حق هذا المعنى السفر، وما دون السفر سواء.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف: في رجل اشترى أمة وأبقت عنده ثم وجدها واستحقها مستحق ببينة فذلك الإباق لزم لها أبدًا، وكذلك لو أبقت من الغاصب إلى أن مولاها فهذا ليس بإباق وإن أبقت فلم يرجع إلى الغاصب ولا إلى المولى وهو يعرف منزل مولاها ويقوى على الرجوع إليه فليس بعيب، وإن أبقت في دار الحرب من المغنم قبل أن يقسم ثم ردت إلى المغنم فهذا ليس باباق، وإن بقيت في المغنم أو قسمت فوقعت في سهم رجل فأبقت في دار الحرب تريد الرجوع إلى أهلها أو لا تريد فهو إباق وهو عيب.
ثم اختلف المشايخ في فصل الجنون أن معاودة الجنون في يد المشتري هل هو شرط للرد، بعضهم قالوا: أنها ليست بشرط بل إذا ثبت وجوده عند البائع يرد به، وإليه مال شمس الآئمة الحلواني وشيخ الإسلام خواهرزاده، وهو رواية (المنتقى) فقد نص في (المنتقى) أنه إذا جن في صغره أو كبره مرة واحدة فذلك عيب فيه أبدًا ولم يعادوه وفي الجامع الصغير يقول: الجنون عيب أبدًا، وهذا لأن الجنون آفة تحل بالدماغ وهي إذا تمكنت لا تزول هكذا قاله أهل الطب، وإذا بقت في نفسه كان للمشتري حق الرد ان لم يجن في يده، وبعض مشايخنا قالوا: المعاودة في يد المشتري شرط وهو المذكور في (الأصل) وفي (الجامع الكبير) إذا ليس من ضرورة وجود هذه الآفة بقاؤها والله تعالى قادر على أن يزيل تلك الآفة بكمالها، وإن سلمنا أن تلك الآفة لا تزول بالكلية إلا أن مايبقى منها بعد زوال الجنون الظاهر إلا بعد عيبا لأنه يفوت بها شيء من المنافع وفيها عد الجنون من السرقة والإباق والبول على الفراش ذكرها شمس الأئمة الحلواني في شرحه ظاهر أن لايشترط المعاودة في يد المشتري.
ومن المشايخ من قال: يشترط قال رحمه وهو الصحيح، وبعضهم ذكر في شروحهم إن معاودة هذه الأشياء في يد المشتري شرط بلا خلاف بين المشايخ هكذا ذكر في عامة الروايات.
وذكر في بعض روايات (كتاب الاستخلاف) أن المعاودة في يد المشتري ليس بشرط. وإذا اشترى جارية فوجدها ذميمة أو سوداء ليس له حق الرد بالعيب إذا كانت تام الخلقة.
وإذا اشترى غلامًا أمرد فوجده محلوق اللحية فهو عيب في فتاوي أبي الليث، وسيأتي فرع هذه المسألة بعد هذا ان شاء الله تعالى.
وإذا اشترى جارية تركية لا تعرف التركية أو لا تحسن والمشتري عالم بذلك إلا أنه لا يعلم أنه عيب عند التجار فقبضها ثم علم أنه عيب فإن كان هذا عيبا بينا لايخفى على الناس كالعور ونحوه لم يكن له أن يردها، لأنه لم يرمز به، وإذا اشترى جارية هندية لا تعرف الهندية، ينظر إن عده أهل المصر عيبا فله الرد وإن لم يعدوه عيبًا فليس له الرد بخلاف المسألة الأولى، لأن ذلك عيب عند أهل البصر لامحالة ولا كذلك المسألة الثانية قيل: إذا كان لايعرف الترك والهندي فإن كان جلبًا فالجواب ما ذكرنا، وإن كان مولدًا فهو ليس بعيب. وإذا اشترى جارية فوجد بها وجع الضرس يأتي مرة أخرى فإن كان حديثًا فليس له الرد وإن كان قديما فله الرد لأنه علم أنه كان في يد البائع. في فتاوي أهل سمرقند وإذا كان بها حمى غبت في يد البائع فزال ثم عاد في يد المشتري إن عاد في يد المشتري غبًا فله الرد لا تحاد السبب فإن اتحاد السبب يوجب اتحاد الحكم، وإن عاد في يد المشتري وبها فليس له أن يرد لاختلاف السبب، فإن إختلاف السبب يوجب اختلاف الحكم.
وفي (فتاوى الفضلي): اشترى عبدا فأصابه في يد المشتري حمى وقد أصابه في يد البائع فإن أصابه في يد المشتري لوقته فله الرد لأنه إذا أصابه لوقته علم أنه يولد بالسبب الذي كان يتولد عند البائع وأنه ذلك الحمى بعينه حكمًا، وإن أصابه لغير وقته لايرد لأنه يولد من سبب آخر فكان حمى آخر فلا يكون له الرد به. وإذا اشترى جارية ثيبًا على أن البائع لم يطأها ثم ظهر أنه قد كان يطؤها قبل البيع فليس له الرد في (الزيادات) في باب الكسب والعلة في الشرح. وفي الزيادات إذا اشترى جارية فوجدها مخترمة الوجه بحيث لايستبين لها صح ولا جمال كان له حق الرد لفوات صفة السلامة، فإن امتنع الرد بسبب من الأسباب فوهب مخرمة الوجه كما هي وقومت صحيحة غير محترمة الوجه، ولكن على الصح لاعلى الجمال فيرجع بفضل مابينهما، وإنما قومت على الصح لاعلى الجمال لأن المستحق بالعقد السلامة عن العيوب دون الجمال، ألا ترى لو اشترى جارية فوجدها مستحة وهي سليمة عن العيوب لايكون له حق الرد بسبب العيب، وهذه المسألة نص أن الفتح في الجواري ليس بعيب.
رجل اشترى من آخر غلامًا بركبته ورم فقال البائع: إنه ورم حديث أصابه ضرب فأورمه فليس بقديم فاشتراه المشتري على ذلك ثم ظهر أنه قديم فليس له أن يرده لأنه رأى العيب ورضي به، وكل عيب قديم حديث في أوله. وكذلك إذا قال البائع: إن كان قديمًا فجوابه علي ثم تبين أنه قديم فليس له الرد، وكذلك إذا اشترى على أنه حديث فإذا هو قديم ليس له الرد ذكر المسألة في (فتاوى الفضلي) قيل: المسألة مشكلة فإنه إذا اشترى غلامًا به حمى فقال البائع: إنه غب واشتراه على ذلك فإذا هو ربع أو عكس فإنه يرده وهذا الإشكال ليس بشيء لأن هناك عاين الغب ورضي به وقد ظهر الربع والربع غير الغب لاختلاف مادتهما، ألا ترى أنه تختلف النوبة، والذي ظهر لم يعاينه ولم يرض به، فأما الورم بهذه الصفة قد يكون قديمًا وقد يكون جديدًا، وقد وقعت في زماننا واقعة من جنس مسألة ورم فقد باع واحد من الفقهاء فرسًا وقد ظهر بإحدى رجليه فرجة هي أثر الحسام، فافتى ظهير الدين المرغيناني للمشتري ليس له الرد وقاسه على مسألة الورم.
وفي (صلح الفتاوى): اشترى جارية وبها قرحه ولم يعلم المشتري أنها عيب فله الرد، وهذه تخالف مسألة الورم لأنه إذا لم يعلم أن هذه القرحة عيب لايكون راضيا بالعيب والصحيح من الجواب في مسألة القرحة أنه إن كان عيبًا بينًا لايخفى على الناس لايكون له الرد لأنه قد رضي بالعيب وإن لم يكن هذا عيبًا بينًا فله الرد.
وفي (صرف القدوري): إذا قال: أبيعك هذه الدراهم وأراها إياه ثم وجدها زيوفًا قال: يستبدلها إلا أن يقول هي زيوف أو يبرأ عن عيبها.
ومن جنس مسألة الورم مسائل ذكرها في (فتاوى أبي الليث).
صورتها: إذا اشترى من آخر سويقًا على أن البائع لته بمن من السمن والمشتري ينظر اليه وقت الشراء ثم ظهر أنه لته بنصف من من السمن فلاخيار لأن هذا شيء يعرف بالعيان وهو معاين مرئي، وهو نظير مالو اشترى صابونًا على أنه يتخذ من كذا حرة من الدهن فتبين أنه متخذ بأقل من ذلك والمشتري ينظر إليه وقت الشراء أو اشترى من آخر قميصًا على أنه اتخذ من عشرة أذرع من كرباس فتبين أنه اتخذ من أقل من ذلك والمشتري ينظر إليه وقت الشراء فإنه لاخيار للمشتري والمعنى ماذكرنا.

.نوع آخر في معرفة عيوب الدواب:

سئل شمس الأيمة الأوزجندي عمن اشترى بقرة فوجدها قليلة الأكل يقال بالفارسية (ناخوران) قال: له الرد، ولو وجدها بطيئة الذهاب يقال بالفارسية (كاهل) فليس له الرد، إلا إذا اشتراها بشرط أنها عجول. وفي (الفتاوى): اشترى بقرة فوجدها لاتحلب إن كان مثلها يشترى للحلب فله الرد، لأن المعروف كالمشروط وإن كان يشترى للحم لايرد. وفي (المنتقى) إن كانت الدابة تعثر كثيرًا دائمًا فهو عيب، وإن كان في الاجالن فليس بعيب، ذكر في (الأصل) السم عيب وهو يبس في اليد أو في الرجل أو في المرفق، والجيف عيب وهو تداني القدمين وتباعد الفخذين، وقيل: هو خلاف العينين وهو أن يكون إحدايهما زرقاء والأخر غير زرقاء والعزل عيب وهو ميلان في الذنب، والمشيش عيب وهو شيء يخرج في ساق الدابة يكون له حجم وليس له صلابة، والجرد بالدال عيب وهو كل ماحدث في غير قوته من مربد أو انتفاخ عصب والفرموت نوسس وخلع الرأس عيب وهو أن يكون له حيلة بخلع رأسه وهو العدار أن سد عليه وبل المحلاة عيب إن كان ينقص الثمن، والمفهوع عيب فسره في (الأصل) فقال مأخوذ من الهممة وهي الدائرة التي في صدره من الجانب الأيسر ويكون ذلك انتصاب بشأم به، وفسر في (المنتقى) المفهوع: الذي إذا سار سمع مابين خاصرته ومرحه صوت والانتشاء عيب وهو انتفاخ العصب عند الإيعاب، وقيل: هو اتساع سواد العين حتى كاد يأخذ البياض كله، وإذا كانت الدابة تأكل الذباب فقد ذكر في موضع من (المنتقى) أنها إذا كانت تأكل الكسر فهو عيب، وإن كانت تأكل في الأحانين فليس بعيب، وذكر في موضع آخر منه أن محمدًا رحمه الله سئل عن الشاة تأكل الذباب فلم يره عيبًا ترد به. إذا اشترى خفين فوجدهما ضيقين لا تدخل رجله فيهما ذكر شيخ الإسلام في شرح بيوعه أنه إن كان لايدخل لا لعلة في رجله يرد، وذكر في (فتاوى الفضلي): أنه إذا اشتراهما ليلبسهما لا يرد، وكان القاضي الإمام علي السعدي يفتي بالرد اشتراهما للبس أو لغير اللبس، فإن وجد أحدهما أضيق من الآخر فإن كان خارجًا عما عليه خفاف الناس في العادة يرد ومالا فلا.
في (فتاوى الفضلي): اشترى خشبة ووجد فيها فأرة ميتة فهو عيب، وإذا اشترى ثوبًا فوجد فيه دمًا إن كان ينقصه الغسل فهو عيب وإن كان لا ينقصه فليس بعيب، وقد مر شيء من هذا في النوع الأول ذكر المسألة في العيوب.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا اشترى من آخر ثوبًا نجسًا ولم يبين البائع جاز، وإذا علم المشتري فله الرد لأن النجاسة عيب لأنها تمنع أداء الصلاة، وعلى قياس المسألة الأولى تأويلها إذا كان الثوب بحال ينقصه الغسل. وإذا اشترى كرمًا وظهر أنه شربة على تأوق يوضع على ظهر نهر أو على موضع آخر فله حق الرد لأنه عيب فاحش فيما بين الناس في هذا الموضع. أيضًا وإذا اشترى حنطة مشار اليها فوجدها رديئة فليس له حق الرد بالعيب وكذا إذا اشترى إناء فضة بعيبها فوجدها رديئة من غير شيء عشر ولا كسر فليس له حق الرد بالعيب، فلم يعتبر الرداءة في المكيل والموزون عيبًا في (شرح الكافي): في كتاب الصرف في باب العيوب.
وفي (نوادر المعلى) عن أبي يوسف: إذا اشترى نقرة فضة لعينها بدينار ثم اختلفا فقال المشتري: اشتريتها على أنها بيضاء فإذا هي سوداء وقال البائع: لم اشترط شيئًا، فقال: السواد عيب في الفضة وللمشتري أن يردها.
اشترى حزمة بقل فأصاب في جوفها حشيشًا فإن كان ذلك يعد عيبًا فله الرد فإن شاء رد وإن شاء أخذ بجميع الثمن وإن كان لا يعد عيبًا ليس له الرد. في (واقعات الناطفي) إذا وجد في الأرض طريقًا يمر فيه الناس فهو عيب، في بيوع (فتاوى الفضلي) وجد في الكرم على كر فهو عيب في هذا الموضع أيضًا.
وفي (المنتقى): اشتري مصحفًا فوجد في حروفه سقطًا، أو اشتراه على أنه منقوط بالنحو فوجد في نقطه سقطًا قال هذا عيب يرد منه، وفيه أيضًا وإذا اشترى مصحفًا على أنه جامع فإذا فيه أيتان ساقطتان أو آية، قال: هذا عيب يرد منه، ووجدت في موضع آخر: رجل اشترى مصحفًا لولده، قال المعلم أن فيه خطاءً كثيرًا، قال: إن كان فيه خطأ الكتابة يرد ويرجع بالثمن.
وفي (فتاوى الفضلي): لو اشترى أرضًا فنزت عند المشتري وقد كانت لك عند البائع فله أن يرد لأن سبب النز واحد وليس لها أسباب مختلفة، فيكون كالحمي إلا إذا رفع المشتري وجه الأرض فيعلم أنها نزت لرفع التراب، أو جاء الماء الغالب من موضع لأنه يعلم أن هذا غير النز الذي كان في يد البائع. وفي (فتاوى الصغرى) قال: ينظر إن كان النز بسبب آخر بأن كان في يد البائع بسبب نز نهر وفي يد المشتري بسبب نزنهر آخر لا يرد، وإن كان بغير ذلك السبب يرد ولا ينظر أن يكون النز صار في يدالمشتري أكثر مما كان في يد البائع، أو كان ذلك القدر إذا كان بغير ذلك السبب يملك الرد كيف ما كان. وكذلك إذا اشترى كرمًا وقد ظهر في يد المشتري هماري يملك تخريجها بالتأمل.
وفي (فتاوى الفضلي): أيضًا رجل اشترى جارية في إحدى عينيها بياض فانجلى البياض ثم عاد فقبض المشتري وهو لا يعلم بذلك، ثم علم، فله أن يرد، ولو قبض وفي إحدى عينيها بياض وهو لا يعلم ثم انجلى البياض ثم عاد لا يرده. والفرق وهو أن الثاني غير الأول حقيقة ففي الوجه الأول حدث في يد البائع فيوجب الرد، وفي الوجه الثاني حدث في يد المشتري فلا يوجب الرد.
وفي (فتاوى أبي الليث): اشترى خمسمائة قفيز حنطة فوجد فيها ترابًا إن كان ذلك التراب مثل ما يكون في مثل تلك الحنطة لايعده الناس عيبًا ليس له أن يرجع بنقصان العيب فإن ذلك ليس بعيب، وإن كان مثل ذلك التراب لا يكون في مثل تلك الحنطة ويعده الناس عيبًا، فإن أراد أن يرد الحنطة كلها فله ذلك لعدم المانع من الرد، وإن أراد أن يميز التراب فيرده على البائع بحصته من الثمن ويحبس الحنطة ليس له ذلك، لوجود المانع على ما تبين، هذا إذا لم يميز فوجد ترابًا كثيرًا يعده الناس عيبًا فإن أمكنه أن يردها كلها على البائع بذلك الكيل لو خلط البعض بالبعض فله أن يرد، لكنه أمكنه الرد كما قبض، وإن لم يمكنه الرد بذلك الكيل لو خلطهما بأن انتقص بالسقية ليس له الرد لأنه لايمكنه الرد كما قبض لكن يرجع بنقصان العيب، وهو نقصان الحنطة إلا أن يرضى البائع أن يأخذها ناقصة فيكون له ذلك لأن النقصان إنما يمنع الرد لحق البائع وقد رضي ببطلان حقه هذا إذا اشترى الحنطة، وكذا إذا اشترى السمسم وسائر ماكان نظير الحنطة فوجد فيه ترابًا فهو على التفصيل الذي ذكرنا.
فرق بين هذا وبينما إذا اشترى مسكا فوجد فيها رصاصا حيث يميز الرصاص، ويرده على البائع بحصته من الثمن قل أو كثر، والفرق أن في الحنطة يسامح في القليل من التراب ولا يميز الكثير، لأن في ذلك ضرر بالبائع لما أنه لايظهر المسامحة في القليل وفي المسك لايسامح في القليل فلم يكن في التمييز ضرر بالبائع ولهذا يستوي فيه القليل والكثير في الحنطة لا فيه، أيضا لو اشترى نقرة من نحاس (فإذا بها) فخرج منها حجر مثل ما يخرج من النحاس، فله أن يمسك من الثمن بحسابه إلا أن يشاء البائع أن يأخذها كذلك ويرد الثمن كله لأن القليل من الحجر لا يسامح في النحاس كالرصاص في المسك. وإذا اشترى شحمًا قديدًا ووجد فيه ملحًا كثيرًا فهو على ماذكرنا في الحنطة يجد فيها التراب.

.نوع آخر في بيان ما يمنع الرد بالعيب وما لا يمنع:

الأصل في هذا النوع أن المشتري متى تصرف في المشترى بعد العلم بالعيب تصرف الملاك بطل حقه في الرد، لأنه دليل الإمساك ودليل الرضا بالعيب، بيان هذا الأصل إذا اشترى دابة فوجد بها جرحًا فداواها أو ركبها لحاجة نفسه فليس له أن يردها لأن المداواة دليل الرضا والإمساك، وكذلك الركوب لحاجة نفسه، ولو داواها من عيب قد برئت إليه فله أن يردها بعيب آخر لم تبرأ إليه لأنه لم يرض بذلك العيب والاستخدام بعد العلم بالغيب مرة لايكون دليل الرضا، بعض مشايخنا قالوا: لا يجوز أن يكون للامتحان والاختيار ليعلم أنه مع العيب هل يصلح له أم لا، ولكن هذا ليس بصحيح بدليل مسألة الركوب واللبس التي بعد هذا، ولكن الصحيح أن يقال: بأن الاستخدام مرة لايختص بالملك والاستخدام في المرة الثانية دليل الرضا، وكذلك الإكراه في المرة الأولى دليل الرضا. فسر الاستخدام في كتاب الإجازة فقال: بأن يأمرها بحمل المتاع على السطح أو بإنزاله عن السطح، أو بأن يأمرها بأن تغمز رجله بعد أن لايكون عن شهوة، أو يأمرها بأن تطبخ أو تخبز بعد أن يكون يسيرا، فإن أمرها بالخبز والطبخ فوق العادة فذلك يكون رضا. ولو ركب الدابة ينظر إلى سيرها أو لبس الثوب ينظر إلى قدره فهذا منه رضا، وقد ذكرنا في خيار الشرط أن ذلك ليس برضا.
والفرق أن خيار الشرط مشروع للاختيار، والركوب واللبس مرة محتاج إليه للاختيار فلو بطل خيار الشرط بالركوب واللبس مرة لفاتت فائدة خيار الشرط، فأما خيار العيب ماشرع للاختيار إنما شرع للرد ليصل إلى رأس ماله عند عجزه عن الوصول إلى الجزء الفائت فلم يكن هذا التصرف في خيار العيب محتاجًا إليه للاختيار وإنه لايحل بدون الملك فيجعل دليل الرضا. والركوب ليردها أو ليسقيها أو ليعلفها لا يكون دليل الرضا استحسانًا قال مشايخنا: هذا إذا لم يمكنه الرد والسقي والإعلاف إلا بالركوب، بأن كان لايمكنه ضبطها إلا بالركوب، فأما إذا أمكنه ذلك بدون الركوب كان الركوب رضا.
والدليل على صحة هذا ماذكر محمد رحمه في (السير الكبير) أن جوالق العلف إذا كان واحدًا فركب فهذا لا يكون رضا، لأن الجوالق إذا كان واحدًا لا يمكن حمله إلا بالركوب، وإذا كان الجوالق اثنين فركب يكون رضا لأن حمل الجوالق بدون الركوب ممكن. ومن المشايخ من قال: الركوب للرد لايكون رضا وإن أمكنه الرد بدون الركوب، لأنه يفضي إلى الرد وتفرق ولا كذلك الركوب للسقي والعلف، ولو حمل عليها علفها وركبها مع العلف فهذا ليس برضا، وإنه مؤول عند بعض المشايخ على ما ذكرنا، ولو حمل عليها علف دابة أخرى وركبها أو لم يركبها فهذا يكون رضا. والسكنى في الدار هل يكون رضا فهو على ماذكرنا في خيار الشرط. وعن أبي يوسف: فيمن اشترى جارية لها لبن فأرضعت صبيا لها أو للمشتري ثم وجد المشتري بها عيبًا فله أن يردها، ولو أنه حلب لبنها واستهلك لبنها أو شربه ثم وجد بها عيبًا لم يردها، وعلى هذا قالوا: إذا اشترى شاة فرضعها ولدها ثم أطلع على عيب بها بعد ذلك فله أن يردها، فأما إذا حلبها فاتلفه لم يكن له أن يردها بالعيب إذا اطلع عليه بعد ذلك. وفي (المنتقى) إذا اشترى شاة وشرب من لبنها قال أبو يوسف: له أن يردها بالعيب، وفيه عن محمد اشترى شاة وحلبها ثم وجد بها عيبًا يلزمه ويرجع بنقصان العيب، وإن جز صوفها ثم وجد بها عيبًا، فإن لم يكن الجز نقصانًا فله أن يردها قال محمد رحمه: والجز عندي ليس بنقصان.
وفي موضع آخر من (المنتقى): إذا جز صوفها بعد العلم بالعيب فهو رضا، ولو أخذ من صوفها فليس برضا. وفي (النوادر) عن أبي يوسف إذا اشترى شاة وحلبها ثم وجد بها عيبًا فإني أقسم الثمن على قيمتها وقيمة اللبن فيردها بحصتها من الثمن. وفي (المنتقى) إذا أطلاه بعدما رأى به العيب أو حجمه أو أخر رأسه فليس برضا، وفيه عن أبي يوسف إذا اشترى جارية فوجد بها عيبًا، فداواها فإن كان ذلك دواءً من ذلك العيب فهو رضا، وإن لم يكن دواءً منه فليس برضا إلا أن يكون ذلك نقصها فهو رضا، ولو أصابها عنده فسق عنها إن كان ذلك ينقصها فهو رضا، وإن لم ينقصها فليس برضا. ولو حجم العبد بعد النظر إلى العيب فإن كانت الحجامة دواء ذلك العيب فهو رضا، وإن لم تكن دواء ذلك العيب فليس برضا، قال الحاكم أبو الفضل: جعل الحجامة والتوديج في موضع آخر رضًا من غير اشتراط هذا الشرط.
وفي (المنتقى): أيضا اشترى جارية فوجد بها عيبًا فداواها من عيب قد كان برئ إليه البائع فهذا لايكون رضا بالعيب الذي وجده، وفي بيوع (فتاوى أبي الليث): اشترى أمة ترضع وأمرها أن ترضع صبيًا له فهذا لا يكون له رضًا لأن الأمر بالإرضاع استخدام ولو حلب لبنها وأكل أو باع فهذا رضا لأن اللبن جزء منها واستيفاء جزء منها دليل الرضا، ولو حلب لبنها ولم يبع ولم يأكل فكذلك الجواب. وفي صلح الفتاوى أن الحلب بدون البيع أو الأكل لا يكون رضا.
وفي (المنتقى): اشترى مملوكًا ووجد به عيبًا ورضي به فإن أثر به الضرب لم يرده، وإن لم يكن له أثر فله أن يرده، وفي موضع آخر منه قال: فضربه ضربًا لم يؤثر بأن لطمه أو ضربه سوطين أو ثلاثة فله أن يرد. وإذا وطيء الجارية المشتراة ثم أطلع على عيب بها لم يردها ويرجع بنقصان العيب سواء كانت بكرا أو ثيبا إلا أن يقول البائع: أنا أقبلها كذلك، وكذلك إذا قبلها بشهوة وكذلك الجارية إذا جعلت أجرة فوطئها الآخر ثم أطلع على عيب بها فليس له أن يردها ولكن يرجع بنقصان العيب إلا أن يقول المستأجر: أنا أقبلها كذلك، وإن وطئها المشتري أو قبلها بشهوة أو لمسها بشهوة بعدما علم بالعيب فهو رضا بالعيب وليس له أن يردها، إلا أن يرجع بنقصان العيب، وإذا وطئها غير المشتري في يد البائع بزنا فليس له أن يردها بكرًا كانت أو ثيبًا ويرجع بنقصان العيب إلا أن يرضى البائع أن يأخذها كذلك، لأنها تعيبت عنده بعيب زائد وهو عيب النقصان أن أوجب النقصان الوطء نقصانًا أو عيب الزنا إن لم يوجب الوطء نقصانًا فيها، وإن كان الوطء بشبهة حتى وجب العقر على الواطء فليس له أن يرد وإن رضي به البائع، لمكان الزيادة، على مايأتي بيانه بعد هذا ان شاء الله تعإلى.
ولو زوجها المشتري لم يكن له أن يردها وطئ الزوج أو لم يطأها رضي البائع أو لم يرض، لأن النكاح يوجب الصداق والصداق زيادة منفصلة وإنها تمنع الرد على مايأتي بيانه. ولو كان لها زوج عند البائع فوطئها عند المشتري فإن كانت الجارية بكرًا فليس للمشتري أن يردها بالعيب إلا برضا البائع لأنه فات جزء منها في ضمان المشتري بقسم من العباد، وإن كانت الجارية ثيبًا إن نقصها الوطء فكذلك الجواب لايملك المشتري ردها إلا برضا البائع، وإن لم ينقصها الوطيء كان للمشتري أن يردها على البائع، هذا الذي ذكرنا في السبب إذا وطئها الزوج في يد البائع مرة، ثم وطئها عند المشتري، وأما إذا لم يطأها عند البائع مرة إنما وطئها عند المشتري لم يذكر محمد رحمه هذا الفصل في (الأصل)، وقد اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه يرد.
ذكر في (المنتقى) إذا اشترى جارية وقبضها ولها زوج كان عند البائع فوطئها الزوج في يد المشتري لم يمنع وطئه المشتري عن الرد بالعيب، وإن كان الوطء عيبًا قد برئ البائع إلى المشتري منه، وإذا عرضه على البيع بعدما علم بالعيب أو أجره أو رهنه فذلك رضا بالعيب وليس له أن يرد ولا ان يرجع بنقصان العيب. وإذا اشترى برذونًا وأخصاه ثم اطلع على عيب به كان له الرد إذ لم ينقصه الخصي ذكره في (فتاوى أهل سمرقند): وكان الشيخ الإمام الأجل ظهير الدين المرعيناني يفتي بخلافه.
قال محمد رحمه في (الجامع الصغير): إذا اشترى من آخر ثوبًا فقطعه ولم يخطه حتى اطلع على عيب به لم يرده ولكن يرجع بنقصان العيب، فإن قال البائع: أنا أقبله كذلك فله ذلك، وإن كان المشتري صبغه أحمر ثم وجد به عيبًا لايرده ولكن يرجع بنقصان العيب، فإن قال البائع: أنا أقبله كذلك، فليس له ذلك، هذه المسألة تبتني على أصل أن المبيع إذا انتقص في يد المشتري بآفة سماوية أو بفعل أجنبي ثم اطلع المشتري على عيب كان عند البائع لايرده بالعيب، لأن حق الرد إنما يثبت للمشتري دفعًا للضرر عنه ولا يجوز للإنسان أن يدفع الضرر عن نفسه بالأضرار للغير. وفي (المنتقى) الرد بعدما انتقص في يد المشتري إضرار بالبائع فلا يملك المشتري رده ولكن يرجع بنقصان العيب دفعًا للضرر عن نفسه، غير أن النقصان إذا كان بآفة سماوية أو بفعل المشتري فامتنع الرد لدفع الضرر عن البائع لاغير، فإذا قال: أنا أقبله كذلك فقد رضي بالضرر وله ذلك فكان للمشتري أن يرده، وإذا كان النقصان بفعل أجنبي من قطع أو ماأشبهه حتى وجب الأرش فامتناع الرد لحق البائع دفعا للضرر عنه وبحق الشرع أيضًا، لأن العقد لم يرد على الأرش فلا يرد عليه الفسخ فتعذر رد الارش ورد المبيع بدون رد الأرش متعذر لمكان الربا لأن الأرش يبقى في يد المشتري مبيعًا مقصودًا بلا عوض وأنه ربى، والربا حرام حقًا للشرع، وإذا قال البائع: أنا أقبله كذلك، فقد أراد بطلان حق الشرع وليس للعبد هذه الولاية، هذا هو الكلام في النقصان الحادث في يد المشتري.
جئنا إلى الزيادة الحادثة في يد المشتري فنقول: الزيادة نوعان متصلة ومنفصلة فالمتصلة نوعان غير متولدة عن المبيع كالصبغ وما أشبهه وأنها تمنع الرد بالعيب بالاتفاق سواء قال البائع أنا أقبله كذلك أو لم يقل، لأنها تمنع الفسخ في ملك الأصل لأن الملك لو فسخ في الأصل لأدى أن يفسخ في الأصل والزوائد، وفي الأصل لاغير لاوجه إلى الأول لأنه لو فسخ الملك في الزوائد أما أن يفسخ مقصودا ولا وجه إليه، لأنه لم يرد عليها عقد ولا ما له شبهه بالعقد مقصودًا، أو يفسخ الملك في الزوائد تبعًا لفسخ الملك في الأصل ولا وجه إليه أيضًا، لأن هذه الزوائد إن كانت تبعًا للأصل بحكم الاتصال فلها حكم الأصل، لأنها كانت أصلا قبل الاتصال ولا وجه إلى أن يفسخ الملك في الأصل بدون الزوائد لأنه يؤدي إلى أمر غير مشروع، لأنه يؤدي إلى أن يصير الأصل ملكًا للبائع، ويبقى الأصل الصبغ للمشتري، والشركة على هذا الوجه وفي حق هذا المعنى لافرق بين أن يقول البائع: أنا أقبل كذلك، وبين أن يقول: ومتولدة من المبيع كالسمن والجمال وإنها لا تمنع الرد بالعيب في ظاهر الرواية لأن فسخ العقد على الزيادة ممكن تبعًا للأصل إذا رضي من له حق في الزيادة لأن السمن والجمال وأنها تبع للأصل من كل وجه لايتصور أصلا بحال، لأنه متصل بالأصل فيكون تبعًا له بحكم الاتصال فإذا انفسخ العقد على الأصل ينفسخ فيهما، فإن أبى المشتري الرد وأراد الرجوع بنقصان العيب، وقال البائع لا أعطيك نقصان العيب ولكن رد علي المبيع حتى أرد عليك جميع الثمن هل للبائع ذلك، على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ليس له ذلك، وعلى قول محمد له ذلك، وهذا لأن الزيادة المتصلة بعد القبض تمنع فسخ العقد على الأصل إذا لم يوجد الرضا بمن له الحق في الزيادة عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد لايمنع فسخ العقد في الأصل وجد الرضا في من له الحق في الزيادة أولم يوجد، كما في المسألة المهر إذا ازداد زيادة متصلة بعد القبض ثم طلقها الزوج قبل الدخول بها هذا هو الكلام في الزيادة المتصلة.
وأما الزيادة المنفصلة فنوعان أيضًا:
متولدة عن المبيع: كالولد والتمر وماهو في معناهما كالأرش والعقر وأنها تمنع الرد بالعيب والفسخ بسائر أسباب الفسخ عندنا، لأنه لايمكن فسخ العقد على الزيادة لامقصودا لما ذكرنا ولا تبعًا للأصل، لأن الولد بعد الانفصال ليس تبع الأصل لاحقيقة وهذا ظاهر ولاحكمًا، فإن شيئًا من أحكام البيع لايثبت في الولد الحادث بعد القبض، ولا يجوز أن يفسخ العقد في الأصل دون الولد لأن الولد مبيع من وجه لأنه متولد من المبيع والمتولد من الشيء يحدث على صفة الأصل كالمتولد من المدبر والمكاتب، وما يكون مبيعًا من كل وجه لايسلم للمشتري بعد فسخ العقد مجازًا بغير عوض، لأنه يكون ربى فكذا ما يكون مبيعًا من وجه وهنا بعدما فسخ العقد في الأصل يبقى الولد سالما للمشتري مجانًا بغير عوض.
وغير متولدة من المبيع: كالكسب والغلة وأيهما لايمنعان الرد بالعيب والفسخ بسائر أسباب الفسخ، وطريقه أن يفسخ العقد في الأصل دون الزيادة ويسلم الزيادة للمشتري مجانًا بغير عوض وأمكن القول به، لأن هذه الزيادة ليست بمبيعة بوجه ما لأنه لم يرد عليها العقد وماله شبه العقد، وما تولد من عين المبيع حتى يكون مبيعه بحكم التوليد بل تولدت من المبيع والمنافع غير الأعيان. ولهذا كانت منافع الحر مالا مع أن الحر ليس بمال وكسب المكاتب والمدبر لايكون مكاتبًا ومدبرًا، وسلامة ماليس بمبيع بوجه ما، للمشتري لايمنع فسخ العقد على الأصل، لأنه لا يؤدي إلى الربا.
إذا ثبت هذا الأصل جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: إذا اشترى ثوبًا وقطعه ولم يخطه فامتناع الرد لنقصان حصل بفعل المشتري، فيرتفع برضا البائع لما قلنا، وإن صبغ الثوب بعصفر فامتناع الرد بسب الزيادة المتصلة وأنها لا ترتفع برضا البائع لما ذكرنا، فعلى هذا إذا قطع الثوب وخاطه ثم وجد به عيبًا فقال البائع: انا أقبله كذلك، ليس له ذلك، لأن امتناع الرد هاهنا بسبب الزيادة المتصلة وهي الخياطة ولا يرتفع برضا البائع. وفي (المنتقى): إذا اشترى عبدًا كاتبًا أو خبازًا وقبضه فنسي ذلك في يده ثم اطلع على عيب به فله أن يرده.
وفي (المنتقى): اشترى من آخر تمرًا بالري وحمله إلى الكوفة ثم اطلع على عيب هناك فإن أراد أن يرده قال محمد رحمه: ليس له ذلك حتى يرده إلى ذلك الموضع علل فقال: لأن لحمله مؤنة ولو كان مكان التمر جارية فقد أشار محمد رحمه إلى أنها ليست نظير التمر، حيث قال: أرى سعر هذه ثمة وهاهنا قريبًا ولا أرى لحملها تلك المؤنة.
وفي (القدوري): اشترى شيئًا وأجره من غيره ثم اطلع على عيب به فله أن ينقض الإجارة ويرد المستأجر بالعيب بخلاف مالو رهنه من غيره، والفرق أن الإجازة تنقض بالاعذار والرهن لا.
قال محمد رحمه في (الزيادات): وإذا اشترى الرجل من آخر جارية بيضاء إحدى العينين وهو يعلم بذلك فلا خيار له في ردها، لأن العيب إنما يثبت حق الرد للمشتري إذا عجز البائع عن تسليم بالتزام، ولم يعجز لأنه التزم تسليمها معيبة لما علم المشتري بعيبها وقت البيع، فإن لم يقبضها المشتري حتى انجلى البياض ثم عاد البياض فهي لازمة للمشتري ولا خيار له في ردها، وعن أبي يوسف: أن له الخيار، والصحيح ماذكر في ظاهر الرواية، لأن البياض الثاني وإن كان غير الأول حقيقة فهو غير الأول حكمًا من حيث أن البائع بسببه لم يعجز عن تسليم ما التزم بالعقد كما التزم بيانه، وهو أن المشتري لما اشتراه مع علمه بالبياض الأول فالبائع لم يلتزم تسليمها سليمة عن عيب البياض بهذه العين، وإنما التزم تسليمها معيبة بهذا العيب والبياض الأول وقت العقد كان بياضًا ظاهرًا مع احتمال أن لا يكون والثاني بهذه الصفة فكان الثاني غير الأول حكمًا من حيث أن البائع لم يعجز عن تسليم ما التزم بالعقد كما التزم. قال في (الكتاب): ألا ترى أن رجلًا لو اشترى جارية وبنتها ساقطة أو سوداء والمشتري علم بذلك فلم يقبضها حتى ثبت بنيتها الساقطة أو ذهب السواد عن بنيتها ثم سقطت تلك البنية أو عاد السواد فالجارية لازمة للمشتري وإنما كانت لازمة لأن البائع لم يعجز عن تسليم ما التزم بالعقد كما التزم على ماذكرنا، ولم ير عن أبي يوسف في مسألة السن بخلاف ما ذكره في (الكتاب). واختلف المشايخ في ذلك منهم من قال: هذا قول الكل، ومنهم من قال: لا بل مسألة السن على الاختلاف أيضا. ولو قبضها وهي بيضاء إحدى العينين أو بينتها ساقطة وهو يعلم بذلك ثم انجلى البياض وثبتت البينة ثم عاد البياض وسقطت البينة، ثم وجد بها عيبًا آخر كان عند البائع ردها بذلك العيب، لأن الواجب على المشتري أن يردها على الوجه الذي قبضها، وقد قبضها معيبة بهذا العيب.
قال في (الكتاب): ألا ترى أنه لو اشترى شاة حاملًا وولدت في يد المشتري ولدًا ثم هلك الولد ثم وجد بها عيبًا كان له أن يردها على البائع، لأن الولادة لا تمكن نقصانًا في الشاة ليمتنع الرد بسبب ذلك، لكن امتناع الرد بالولادة باعتبار أن بالولادة حدث زيادة منفصلة، فإذا هلكت فقد ذهبت الزيادة وجعلت كأن لم تكن فكان المشتري قادرًا على رد ماقبض كما قبض كذا هنا. ولو لم يعد البياض في العين التي ذهب عنها البياض لكن ابيضت العين الأخرى لم يكن له أن يرد الجارية بعيب أبدًا، لأنه عجز عن ردها كما قبضها لأنه قبضها وهي صحيحة هذه العين، والآن يردها وهي مبيضة هذه العين، ولم تبيض العين الأخرى ولكن عاد البياض في العين التي ذهب عنها البياض بفعل المشتري بأن ضرب المشتري عينها فابيضت ثم وجد بها عيبًا آخر كان عند البائع لم يكن له أن يردها، بخلاف ما إذا عاد البياض، والفرق أنه لما انجلى البياض فقد حصلت زيادة متصلة فإذا ضربها المشتري صار جالبًا تلك الزيادة وإنه مانع من الرد، بخلاف ما إذا عاد البياض بضرب الأجنبي في يد المشتري حيث لا يكون للمشتري أن يردها بالعيب، وإن رضي به البائع. والفرق أن في الفصل الأول المانع من الرد حق البائع فإذا أسقط حقه (سقط)، والمانع في الفصل الثاني حق الشرع (وهو) لا يسقط بإسقاط العبد.
هذا الذي ذكرنا كله إذا اشتراها مع علمه ببياض إحدى العينين، فأما إذا اشتراها ولم يعلم لكونها بيضاء إحدى العينين وقبضها ثم علم كان له أن يرد فإذا لم يرد حتى انجلى البياض لم يكن له أن يردها بعد ذلك، وإن استحقها سليمة لما لم يعلم بالعيب وقت العقد لأنه لما انجلى البياض فقد استوفى عين حقه لايكون له الخيار فإن عاد البياض لايكون له أن يردها أيضًا لما ذكرنا أنه لما انجلى البياض صار المشتري مستوفيًا عين حقه حكمًا وبعود البياض لاينتقض الاستيفاء، لأن قبض المبيع لايحتمل الانتقاض كما لو قبض السلامة ثم فاتت. ولو وجد بها عيبا آخر كان له أن يردها به لأنه لما انجلى البياض صار المشتري مستوفيًا عين حقه حكمًا فوقعت البراءة للبائع عن العيب، لأن البراءة كما تقع بالإبراء تقع بالاستيفاء فصار كأنه أبرأه نصًا عن هذا العيب. ولو أبرأه المشتري عن عيب ثم وجد بالمبيع عيبًا آخر كان له أن يرده بذلك العيب فهاهنا كذلك فقد جعل البياض العائد كأنه غير الأول في حق الرد به، وجعل كأنه عين الأول في حق الرد بعيب آخر. وكذلك إذا اشترى جارية وهي ساقطة البينة أو مسودة البينة وهو لا يعلم بذلك فقبضها، ثم علم بذلك، ثم زال السواد وثبت البينة لم يكن له أن يردها ولو وجد بها عيبا آخر كان له أن يردها.
ثم في كل موضع ثبت للمشتري حق الرد إذا قال في وجه البائع: قد أبطلت البيع إن كان قبل القبض انتقض البيع، قبل البائع أو لم يقبل، وإن كان بعد القبض، فإن قبل البائع فكذلك ينتقض البيع، وإن لم يقبل لاينتقض البيع.
وإن كان بغير محضر من البائع لاينتقض البيع وإن كان قبل القبض، أصل المسألة في العيوب وفصل الحضرة في وكالة السامي. وفي (المنتقى): إذا اشترى عبدًا محمومًا كأن تأخذه الحمى كل يومين أو ثلاثة فأطبق عليه عنده فله أن يرده وأنه يخالف ماذكر في (فتاوى أبي الليث)، فقد ذكر ثمة إذا اشترى عبدًا وبه مرض في يد المشتري، فليس له أن يرده ويرجع بالأرش، وكذلك إذا كانت قرحة فانفجرت عنده أو جدري فانفجر فله أن يرده، ولو كان به جرح فذهبت يده به، أو كانت موضحة فصارت آمة فليس له أن يرده. وفيه أيضًا إذا اشترى عبدًا فاستقاله فأبى أن يقيله، قال هذا ليس بعرض على البيع وله أن يرده، إذا وهب المبيع بعدما اطلع على عيب به ولم يسلم فليس له أن يرده على بائعه لأن هذا دلالة الرضا بالعيب، ألا ترى أن العرض على البيع يمنع الرد وإنما منع لأنه دلالة الرضا، ولو فعل شيئًا من ذلك قبل العلم بالعيب، يعني العرض والهبة بدون التسليم فهذا لايكون رضا، ولايمنع الرد لو علم بالعيب بعد ذلك، مسألة الهبة في (فتاوى أبي الليث) اشترى شيئًا أو خاصم البائع في عيب به، وترك الخصومة أيامًا ثم عاد إلى الخصومة قال: لأنظر وأسأل أهذا عيب فله أن يخاصمه في العيب ويرده، لأن هذا ليس دلالة الرضا وكذا إذا أراد الرد ولم يجد البائع فأطعمه وأمسكه أيامًا ولم يتصرف فيه تصرفًا يدل على الرضا ثم وجد البائع فله أن يرد، قال محمد رحمه الله: على هذا أدركت مشايخ زماني.
وفي (المنتقى): رجل اشترى من رجل عبدًا ثم ان المشتري أمر رجلًا ببيعه ثم علم الآمر بعد ذلك أن به عيبًا، قال: إن باعه الوكيل بمحضر من الموكل ولم يقل الموكل شيئًا فهذا منه رضا بالعيب، حتى لو لم ينقض البيع ليس للمشتري أن يرد العبد على بائعه بذلك، قال: وكذلك إن أعلمه الوكيل أنه ذهب من فوره ليبيعه فلم ينهه أو أخبره أن الوكيل ساوم به وهويعرضه ليبيعه فلم ينهه فهذا منه رضا. اشترى أبريسمًا فإذا هو (دار وكرده امله) لايرده ويرجع بالنقصان، لأن الباب في الابريسم عيب اشترى كرمًا فأكل الثمار ثم اطلع على عيب فليس له الرد وإن رضي البائع، وكذا إذا اشترى بقرة فأكل من لبنها.
اشترى قدومًا وأدخله في النار ثم اطلع على عيب به لم يرده، ولو اشترى ذهبًا وأدخله في النار ثم اطلع على عيب به يرده، لأن الذهب لاينتقص بالإدخال في النار والحديد ينتقص، سئل شمس الأئمة الأوزجندي عمن اشترى منشارًا وحدده ثم اطلع على عيب به قال: لم يرده إلا برضا البائع، لأنه ينتقص منه شيء بسبب التحديد. قال محمد رحمه: رجل اشترى من آخر عبدًا قد سرق عند البائع ولم يعلم، فقطع عند المشتري فللمشترى أن يرده على البائع، ويرجع بجميع الثمن، وقال أبو يوسف ومحمد: لايرده ولكن يرجع نقصان العيب فيقوم سارقًا وغير سارق فيرجع بفضل ما بينهما، وحاصل هذا أن أبا حنيفة يجعل هذا بمنزلة الاستحقاق فيكون عيبًا في الباقي مضافًا إلى ضمان البائع، وهذا إذا اشترى عبدًا فوجده حلال الدم بقصاص، أورده وقبل ذلك المشتري يرجع على البائع بجميع الثمن بمنزلة مالو استحق العبد، وعندهما يقوم مباح الدم ويقوم معصوم الدم فيرجع بفضل ما بينهما.
وفي (نوادر هشام): قال: قلت لمحمد: ففي قياس قول أبي حنيفة إذا اشترى عبدًا قد سرق عند البائع ولا يعلم به المشتري وسرق عند المشتري أيضًا فقطعت يده بالسرقتين جميعًا، قال: يرجع عليه بالنصف وجه قولهما: أن فوات المبيع مضاف إلى أمر حادث في ضمان المشتري، لا إلى أمر كان في ضمان البائع فلا يجري مجرى الاستحقاق لمن اشترى جارية حاملًا وولدت وهلكت في نفاسها، لايضاف الهلاك إلى أمر كان في ضمان البائع، ولا يجري مجرى الاستحقاق وإنما كان كذلك، لأن السبب الموجود في يد البائع حل بالدم والحياة وأثر في إتلافهما دون المالية، وإنما ذهبت المالية ضرورة أنها لا تبقى بدون الحياة وهذا أمر غير مضاف إلى الجناية، ولأبي حنيفة وجهان أحدهما: أن التلف حصل بفعل كان في ضمان البائع فينتقص به قبض المشتري، ويجعل كأنه تلف في يد البائع، وقاسه على مالو غصب عبدًا فقتل العبد رجلًا في يد الغاصب ثم رده فقتل قصاصًا يرجع المالك على الغاصب بجميع القيمة، لأن الرد انتقص بسبب كان عند الغاصب فصار كأنه قتل في يد الغاصب، من المشايخ من ربط هذا الوجه بمسائل منها: أن البائع لو قطع يده ثم باعه فمات العبد في يد المشتري من القطع، لا يرجع المشتري على البائع بجميع الثمن، وإن زال القبض بسبب كان في يد البائع. وكذلك إذا اشترى أمة حبلى فولدت عند المشتري فماتت لا يرجع بجميع الثمن وإن ماتت بسبب كان في يد البائع. وكذلك إذا اشترى عبدًا محمومًا ولم يعلم به ثم قبضه ثم مات من الحمى يرجع بالنقصان لابجميع الثمن، وإن مات بسبب كان في يد البائع، إلا أن هذا ليس بشيء والمسائل غير لازمة، أما مسألة قطع اليد فلأن قطع اليد لايوجب الهلاك لامحالة وهو التحريج لمسالة الحمى، وأما في فصل الولادة فمن مشايخنا من قال مسألة الولادة على هذا الخلاف أيضا، وما ذكر في (الكتاب): أنه لايرجع بجميع الثمن قولهما، وأما على قول أبي حنيفة يرجع بجميع الثمن الذي الدليل عليه أن محمدًا رحمه ذكر في (الكتاب) إذا غصب من آخر جارية فحبلت عند الغاصب فردها على المالك فولدت وماتت في نفاسها قال: يرجع بجميع القيمة على الغاصب عند أبي حنيفة، وجعل كأنها ماتت في يد الغاصب كذا هنا وإن سلمنا فوجه التخريج أن الولادة ليست بسبب الهلاك لامحالة والتقريب مامر وجه آخر لأبي حنيفة أن العبد الذي هو مستحق القتل لا قيمة له إذا القيمة عبارة عن الغرة وغرة الأشياء باعتبار مولها وإدخارها لإقامة المصالح، ومتى كان مستحق القتل، كان حرام الاستيفاء فلم يكن متقومًا، والبيع لاينعقد على غير المتقوم كالميتة والدم والخمر فإن كان المشتري علم بذلك العيب، فعندهما لزمه العبد ولا يرجع بنقصان العيب، لأنه عيب رضي به. وأما عند أبي حنيفة فمن مشايخنا من قال: أنه عند أبي حنيفة كذلك وهو غير صحيح، إنما الصحيح أن عند أبي حنيفة رحمه الله العلم والجهل سواء، لأن هذا بمنزلة الاستحقاق عنده والعلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع وأن يداوله البيوع ثم قتل عند المشتري الآخر يراجعون عند أبي حنيفة بمنزلة الاستحقاق وعندهما بمنزلة العيوب. وإن كان المشتري أعتق العبد ثم قتل، فعندهما يرجع بنقصان العيب، وأما عند أبي حنيفة فعلى قول ماذكرنا في الوجه الأول له أن بالقتل يموت يد المشتري مضافًا إلى سبب كان في يد البائع ينبغي أن لا يرجع بفيء، لأن بالإعتاق فات ملك المشتري قبل القتل والقطع لايتصور انتقاصه بالقطع والقتل، وعلى قول ماذكرنا من الوجه الثاني أن البيع غير منعقد لعدم تقوم العبد يرجع بجميع الثمن.
ذكر الحسن بن زياد في كتاب (الاختلاف): إذا اشترى بدراهم وتقابضا ثم باعه المشتري من بائعه ثم وجد به عيبًا قديمًا، قال أبو يوسف: له أن يرده على المشتري الأول إذا لم يعلم به وقال: هو قول أبي حنيفة.
وفي (شرح الجامع): من تعليقي في كتاب الوكالة في باب القتل نقل الوكالة في الطلاق، رجل اشترى من آخر عبدًا وباعه من غيره ثم اشتراه من ذلك الغير ثم اطلع على عيب كان عند البائع الأول لم يرده على الذي اشتراه منه لأنه غير مفيد، لأنه لو رده عليه كان للمردود عليه ثانيًا لأنه اشتراه منه فلا يفيد الرد لايرده على البائع الأول لأن هناك الملك غير مستفاد من جهة فيسمي البائع الأول صالحًا والمشتري الأول جعفر أو المشتري الثاني زيدًا وصور مسألتنا بعد تسمية هؤلاء اشترى جعفر عبدًا من صالح ثم إن جعفرًا باعه من زيد ثم إن جعفر اشتراه من زيد ثانيًا ثم أطلع على عيب قديم كان بالعبد، فعلى ما ذكر في (الجامع): ليس لجعفر أن يرده على زيد، لأنه لو رده على زيد كان له أن يرده على جعفر لأنه قد اشتراه منه فلا يفيد الرد، وعلى ما ذكر الحسن بن زياد في كتاب (الاختلاف) كان لجعفر أن يرده على زيد ثم يرد زيد على جعفر وأنه مقيد حتى يرده جعفر على صالح، لأن بدون ذلك لا يعود إلى جعفر قديم ملك إلا المستفاد من جهة صالح ثم على ما ذكره في كتاب الاختلاف إذا رد جعفر العبد على زيد رده زيد على جعفر إنما كان لجعفر حق الرد على صالح إذا كان الرد على جعفر نقصان لأن الرد بالقضاء فسخ من كل وجه في حق الناس كافة فيعود إلى جعفر قديم ملكه الذي استفاده من جهته صالح في حقه صالح فكان له الرد على صالح فأما إذا كان الرد على جعفر بغير قضاء والرد بغير قضاء بيع جديد في حق الثالث لا يعود إلى جعفر قديم ملكه الذي استفاده من جهة صالح فلا يكون له الرد على صالح، وتبين بما ذكر في كتاب (الاختلاف) المذكور في (شرح الجامع) قول محمد.
وفي (المنتقى): إذا اشترى من آخر دينارًا بدرهم أن مشتري الدينار باع الدينار من رجل آخر ثم وجد المشتري الآخر بالدينار عيبًا ورده على المشتري الأول بغير قضاء كان للمشتري الأول أن يردها على بائعه بذلك العيب، ولا يشبه الصرف هاهنا العروض قال: لأن البيع لا يقع على الدينار ببيعها، وعلى هذا إذا قبض رجل دراهم له على رجل وقضاها آخر فوجد فيها زيوفًا وردها عليه بغير قضاء قاضي فله أن يردها على الأول. وفي (المنتقى): اشترى عبدًا فوجده أعمى فقال المشتري للبائع: أريد أن أعتقه عن كفارة يميني فإن جاز عني وإلا رددته فله أن يرده، وهو نظير مسألة الثوب التي بعدها. وفي (العيون): اشتري من آخر ثوبًا فإذا هو صغير فأراد رده فقال له البائع: أره الخياط فإن قطعه وإلا رده عليَّ فأراه الخياط فإذا هو صغير فله أن يرده، وكذا الخف والقلنسوة، وكذا إذا قضاه دراهم زائفة، وقال للقابض: أنفقها فإن جازت عليك وإلا يردها علي، فقبلها على ذلك فلم تنفق عليه فله أن يردها استحسانًا ذكره في كتاب (الصلح من النوازل). وفي (المنتقى) اشترى شيئًا بألف درهم وقبض الألف فوجدها نبهرجة ثم عرضها على البائع فهو رضا منه بها وليس له أن يردها، وعن أبي يوسف أنه لا يكون رضا وله أن يردها.
وفي (المنتقى) عن محمد المشتري في خيار العيب إذا قال للبائع أن لم أردها إليك اليوم فقد رضيتها بالعيب فهذا القول باطل وله الرد، وفيه أيضًا رجل اشترى من رجل دارًا فادعى رجل فيها مسيل ماء وأقام على ذلك بينة فهو بمنزلة العيب فإن شاء المشتري أمسكها بجميع الثمن وإن شاء ردها، وإن كان قد بني فيها بناء فله أن ينقض بناءه وليس له أن يرجع بقيمة بنائه لأن هذا عيب وليس باستحقاق شيء منها، وفيه أيضًا رجل اشتري من آخر عبدًا بكر موصوف بغير تعينه، وتقابضا ثم وجد بائع العبد بالكر عيبًا ووجد به عنده عيب آخر فإنه لا يرجع بشيء، وإن كان الكر بعينه عند الشراء رجع في العبد بمثل نقصان العيب في الكر إلا أن يرضى البائع وهو مشتري العبد أن يأخذ الكر بعينه ويرد العبد، وفيه أيضًا رجل استقرض من رجل (كرّ) حنطة وقبضه ثم اشتراه منه بمائة درهم يعني المستقرض اشترى الكر المستقرض من المقرض ثم وجد بالكر عيبًا، قال أبو يوسف: له أن يرده بالعيب ولا يرده في قياس قول أبي حنيفة، وكذلك إن كان القرض دراهم فاشترى المقرض بها دنانير وقبض الدنانير ثم وجد المستقرض الدراهم القرض زيفًا فله أن يستبدلها في قول أبي يوسف.

.نوع آخر:

منه إذا اشترى شيئين ووجد بأحدهما عيبًا، وكان ذلك قبل أن يقبضها أو قبض أحدهما فأراد أن يرد المعيب خاصة ليس له ذلك، لما فيه من تفريق الصفقة على البائع قبل التمام ولو قبضهما رد المعيب خاصة، لأن خيار العيب لا يمنع تمام الصفقة لهذا القبض فرد المعيب خاصة لا يؤدي إلى تفريق الصفقة على البائع من قبل التمام، وليس له أن يردها إلا برضا البائع وهذا الجواب يستقيم في شيئين فيستغني كل واحد في الانتفاع به عن الآخر، فأما إذا كانا شيئين لا يستغني أحدهما في الإنتفاع به عن الآخر كروجي الخف ومصراعي الباب وما أشبهه إذا قبضهما ثم وجد بأحدهما عيبًا ليس له أن يرد المعيب خاصة لما فيه من الإضرار بالبائع، ولكن أما أن يردهما أو يمسكهما وهكذا ذكر محمد رحمه الله في (الأصل).
إذا اشترى زوجي وجد بأحدهما عيبًا بعد القبض فأراد أن يرد المعيب خاصة فظاهر الجواب أن له ذلك، قال مشايخنا: أن ألف أحدهما العمل مع صاحبه وصار بحال لا يعمل إلا مع صاحبه فإنه لا يرد المعيب خاصة وصار بمنزلة شيء واحد وإن كان المشتري شيئًا واحدًا فوجد ببعضه عيبًا قبل القبض أو بعده فليس له أن يرد المعيب خاصة، وإن كان المعقود عليه مما يكال أو يوزن من ضرب واحد فوجد ببعضه عيبًا ليس له أن يرد المعيب خاصة سواء كان قبل القبض أو بعد القبض فظاهر وأما بعد القبض بخلاف ما إذا كان المعقود عليه ثوبين أو عبدين، والفرق أن المكيل والموزون جعل كشيء واحد من حيث الحكم في حق البيع لأن المالية والتقوم للمكيل والموزون يثبت بالإجتماع صار الكل في حق البيع كشيء واحد حكمًا، ولو كان شيئًا واحدًا حقيقية بأن كان ثوبًا وجد ببعضه عيبًا فأراد أن يرد المعيب خاصة ليس له ذلك كذلك هاهنا.
حكى الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي أنه كان يقول على قياس قول محمد: يجب أن يرد بعض المكيل والموزون بالعيب وإن كان مجتمعًا إذا كان التمييز لا يرد بالمعيب عيبًا، وكذلك إذا وجد البعض صغارًا فأراد أن يغربل ليرد الصغار من الحب الذي هو من تحت الغربال ويمسك الباقي ليس له ذلك، وكذلك إذا اشترى الجوز والبيض صغارًا فأراد أن يرد الصغار خاصة ويمسك الباقي فليس له ذلك. وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: ما ذكر من الجواب في المكيل والموزون محمول على ما إذا كان الكل في وعاءٍ واحدًا أما إذا كان في أوعية مختلفة فوجد في وعاء واحد معينًا فإنه يرد ذلك وجد بمنزلة الثوبين والصفين كالحنطة والشعير وكان يفتي به ويزعم أنه رواية أصحابنا، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهرزاده رحمه الله وقد عثرت على الرواية في (المنتقى).
وصورة ما ذكر ثمة: إذا اشترى سمن أو عسل أو اشترى جرة زيت أو دهن أو سلة زعفران أو قوصرة تمر أو جوالق حنطة أو دقيق فوجد بشيء من ذلك عيبًا قبل القبض أو بعده فهو بالخيار إن أمضاه، وليس له أن ينقض البيع في المعيب خاصة، لأن هذا شيء واحد والحال فيه قبل القبض وبعد القبض سواء، ولو اشترى قوصرتي تمرًا أو جرتي زيت أو قرتي عسل أو كرين متفرقين وفي وعائين أو جانبيتي خل، فوجد بأحدهما عيبًا قبل القبض فله أن يدع البيع أو يأخذ المبيع وإن كان بعد القبض فليس له أن يرد إلا الذي به العيب قال الحاكم أبو الفضل: قال أبو يوسف إلا إذا كان سواء مثل الأول زيتًا واحدًا وسمنًا واحدًا فيرده كله أو يتركه كله في قول أبي حنيفة وهو قلنا.
قال أبو الفضل أيضًا: وجدت في البيوع عن أبي حنيفة إذا اشترى أثوابًا فقبضهما أو لم يقبضهما رد المعيب خاصة ولزمه الآخر، وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا اشترى عشرة قوصير تمر فوجد ببعضها عيبًا فإن كان تمرًا واحدًا من صنف واحد ليس له أن يرد إلا جميعه أو يأخذ جميعه، وإن كان مختلفًا له أن يرد المعيب خاصة. وكذلك قال الفقيه أبو جعفر فيما اشترى لفائف إبريسيم، فوجد بعض ما في كل لفافة معيبًا فأراد أن يرد ذلك خاصة بأن يميز المعيب فليس له ذلك، وبمثله لو وجد لفافة منها كلها معيبًا كان له أن يرد لك ويمسك مالا عيب به، وكذلك إذا اشترى عددًا من كر الغزل فوجد في كل واحد شيئًا معيبًا لا يكون له أن يميز ذلك ويرده خاصة، وإن وجد بعض العدد معيبًا له أن يرد ذلك ويمسك ما لا عيب به، ومن المشايخ من قال: لا فرق بينما إذا كان الكل في وعاء واحدًا أو أوعية ليس له أن يرد البعض بالعيب وإطلاق محمد رحمه الله في (الأصل): يدل عليه، وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي.
وفي (المنتقى): قال محمد: رجل اشتري طعامًا ووجد به عيبًا فأراد أن يرد البعض دون البعض فله ذلك، وكذلك كل ما يكال أو يوزن لأنه ليس في رد بعضه ضرر على البائع قال محمد رحمه الله: وقال أبو حنيفة ليس له أن يرد البعض دون البعض، قال: وأظنه قول أبي يوسف..
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف رجل اشترى جاريتين صفقة واحدة ورأى بأحديهما عيبًا قبل القبض وأعتق التي لا عيب بها لزمه الآخرى، ولو قبض التي لا عيب بها ثم أراد ردها فله ذلك، ولو كان قبض التي بها العيب وهو يعلم بالعيب فقبض أحديهما فله أن يردهما جميعًا، ولو كان قبض أحديهما وأعتقها وهو لا يعلم بالعيب ثم وجد بالأخرى عيبًا ولم يقبضها فله أن يردها، وإذا قبضهما جميعًا فأعتق أحديهما وهو يعلم بعيب الأخرى فليس هذا منه رضا، ولو قبض واحدة وترك واحدة ثم حدث بكل واحدة عيب، فله أن يدع التي لم يقبض إلا أن يرضي البائع أن يقبل الأخرى بعيبها، وإن شاء البائع ذلك قال للمشتري: خذهما جميعًا. وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد إذا اشترى عبدين وعلم بعيب فقبض أحدهما فهو رضا بعيبهما جميعًا.
وفي (المنتقى): رجل اشترى ثلاثة أعبد فقبض أحدهم ثم وجد بأحد الباقيين عيبًا فليس له إلا أن يردهم جميعًا أو يأخذهم جميعًا، ولو كان أعتق العبد الأول لزمه بحصته من الثمن، وهو بالخيار في الباقيين إلا إن شاء أحدهما وليس له أن يرد المعيب خاصة إلا أن يوصي البائع. وإذا اشترى جراب هرويًا وأخذ ثوبًا منه وقطعه وخاطه أو باعه، ثم وجد بثوب من الجراب عيبًا فللمشتري أن يأخذ ما بقي من الثياب ويرد الذي به العيب خاصة، لأنه حين استهلك ثوبًا فكأنه قبض كله، ولو قال البائع: لا أسلم لك أنا أرضى أن يرد الجراب كله، فليس له ذلك إلا إن شاء المشتري، ولو كان قطع الثوب ولم يخطه فرضي البائع أن يمسك الجراب ويأخذ الثوب المقطوع فله ذلك، ذكر مسألة الجراب في (المنتقى).
وفيه أيضًا اشترى من آخر نخلًا فيه تمر بوضعه من الأرض وتمره ولم يقبض المشتري حتى جر البائع فإن كان حرارة بعض النخل أو التمر بأن كان لم يبلغ الحرار فالشراء بالخيار، لأنه عيب حدث في ضمان البائع، وإن كان ما صنع البائع لم ينقص النخل والتمر فلا خيار للمشتري، لأن فعله إصلاح، وإذا قبضهما المشتري وجد بأحدهما عيبًا رده وحده، لأن البائع سلم المبيع متفرقًا فلا بأس بالرد كذلك، وإن كان المشتري قبض ذلك كله قبل الحرار ثم حرة المشتري ولم ينقصه الحرار شيئًا، ولم ينقص النخيل أيضًا، ثم وجد بأحدهما عيبًا لم يكن له أن يرد أحدهما دون الآخر، وله أن يردهما جميعًا بالعيب الذي وجد بأحدهما، لأنه إذا قبضهما قبل الحرار كانا بمنزلة شيء واحد وليس هذا كالفص والخاتم إذا غير أحدهما عن الآخر بعد القبض وليس فيه ضرر، لأن التمر بعض النخل لأنه خرج منه، والفص ليس من الفضة، ولو كان حرار المشتري بفص أحدهما ثم وجد العيب لم يرد واحدًا منهما.
أما إذا كان العيب بالذي ينقص لأنه بعيب زائد، وأما إذا كان بالآخر تفرقت الصفقة وقد كانت مجتمعة فإذا تعذر الرد رجع بنقصان العيب إلا أن يشاء البائع أن يقبل ذلك مع العيب رد، لأن امتناع الرد إنما كان لحق البائع فإذا رضي زال حقه فيرتفع الامتناع. وكذلك لو اشترى شاة على ظهرها صوف فجز البائع الصوف قبل القبض أو جزه المشتري بعد القبض، كان الجواب فيه كالجواب في التمر إلا أن فرق بينهما أن الصوف يدخل في العقد في غير شرط بخلاف التمر، والقياس في التمر كذلك لأن التمر مع النخل بمنزلة شيء واحد، لكون التمر متصلًا بالنخلة إتصال خلقة، إلا أنا تركنا القياس في التمر بالنص وهو قوله عليه السلام: «من باع نخلًا مؤبرًا فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع»، ولو كان شاة حاملًا فولدت عند البائع ولم تنقصها الولادة، فقبضها المشتري ثم وجد بأحدهما عيبًا رده بحصته من الثمن، لأنه مبيع متفرق في يد البائع فلا يكون في رد أحدهما تفريق اليد على البائع، وإن قبضها ثم ولدت ثم وجد بأحدهما عيبًا لم يملك الرد لأنه لا يمكن رد الأم مع الولد، لأن العقد لم يرد على الولد فلا يرد عليه الفسخ ولا يمكن رد الأم بدون الولد، لأن الولد عنده يبقى مقصودًا بلا عوض فيكون ربا بخلاف الصوف، لأنه ظاهر صار مبيعًا فصار انفصاله عن الأصل وبقاؤه متصلًا به سواء، واللبن مثل الولد يريد به إذا اشترى شاة وفي ضرعها لبن فحلب البائع أو المشتري لبنها كان بمنزلة الولد إذ لا قيمة له حالة الإتصال كما في الولد ولهذا إذا غصب شاة يصير ضامنًا لصوفها ولا يصير ضامنًا لولدها ولبنها، وزان هذه المسألة من تلك المسألة ما إذا زاد الصوف بعد القبض يمنع الرد. وإذا اشترى فجلًا أو شلجمًا معينًا في الأرض فقلعه المشتري كله فوجد ما اشترى من الفراج فيه ذلك ووجد به عيبًا بعد ما قلعه كله لا يستطيع الرد بعيب ولكن يرجع بنقصان العيب. وإذا اشترى من آخر عبدًا بثمن معلوم فجاء أجنبي وزاد المشتري في المبيع ثوبًا فقبضه المشتري فهذا متطوع وللثوب حصة من الثمن، وقد رضي صاحب الثوب أن يكون حصة ثوبه للبائع فإن وجد المشتري بالعبد عيبًا رد بحصته من الثمن ويكون حصة الثوب للبائع، وإن وجد بالثوب عيبًا بعد ذلك رده على صاحبه وأخذ من البائع تلك الحصة. ولو لم يجد بالعبد عيبًا رده على صاحبه ولم يرجع بحصته، فإن وجد بعد ذلك عيبًا رده على صاحبه بجميع الألف.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا اشترى مصراعي باب فأخذ أحدهما بإذن البائع، ثم ذهب ليأخذ الآخر فوجده قد سرق من البائع، هلك على البائع، لأنه هلك في يده ويرد عليه المشتري ما أخذ إن شاء لأنه صار معيبًا، فلو أنهما حين أخذ أحدهما عينه بصرفه قاس وباقي المسألة بحاله كان الهلاك على المشتري، لأن تعييب المأخوذ يؤثر في غير المأخوذ فيصير قابضًا له، وكذا في الخفين والنعلين. وفيه أيضًا اشترى ضيعة مع غلاتها واطلع على عيب بها وأراد ردها ساعة وجدها معيبة، لأنه لو جمع الغلات امتنع الرد لأن ذلك يكون رضا منه بالعيب، ولو ترك الغلات فكذلك يمتنع الرد لأنه تضييع فيزداد العيب. وإذا اشترى مشجرة ووجد ببعض الأشجار عيبًا فأراد أن يرد المعيب خاصة ليس له ذلك، لأنها وإن كانت متباينة حقيقة فهي كشيء واحد، بمعنى ألا ترى أن المعيب لو ردها خاصة لا تشترى من البائع بمثل ما تشترى مع غيرها.

.نوع آخر في بيان ما يمنع الرجوع بالأرش وما لا يمنع:

كيفية الرجوع بنقصان العيب أن يقوم المبيع ولا عيب به، ويقوم وبه ذلك العيب، فإن كان تفاوت ما بين القيمتين النصف فالمشتري يرجع على البائع بنصف الثمن، وعلى هذا القياس فإنهم وإذا باع المشتري المبيع بعد ما علم بالعيب به، فالأصل في هذا أن في كل موضع لو كان المبيع قائمًا على ملك المشتري أمكنه الرد على البائع، إما برضاه أو بغير رضاه فإذا أزاله عن ملكه بالبيع، أو ما أشبهه لا يرجع بنقصان العيب، وفي كل موضع لا يمكنه الرد لو كان المبيع قائمًا على ملكه فأزاله عن ملكه بالبيع، أو ما أشبهه يرجع بنقصان العيب، ولهذا لأن المشتري الثاني قام مقام المشتري الأول بالبيع فصار كون المبيع في يد المشتري الأول وأراد أن يرجع بنقصان العيب مع إمكان الرد ليس له ذلك، فكذا إذا كان في يد المشتري الثاني، بيان هذا الأصل إذا تعيب المبيع في يد المشتري بعيب، ثم أطلع على عيب آخر كان في يد البائع كان له أن يرده برضى البائع، فإذا خرج المبيع عن ملكه في هذه الصورة أو ما أشبهه ليس له أن يرجع بنقصان العيب. وإذا اشترى ثوبًا وصبغه أو اشترى دارًا وبنى فيها بناءً ثم اطلع على عيبه، ليس له أن يرده، وإن رضي به البائع فإذا أخرجه عن ملكه في هذه الصورة بالبيع أو ما أشبهه يرجع بنقصان العيب.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): رجل اشترى عبدًا وأعتقه، ثم وجد به عيبًا إن كان أعتقه على مال لا يرجع بنقصان العيب، وإن كان أعتقه بغير مال يرجع بنقصان العيب عندنا، فالأصل في جنس هذه المسائل أنه متى تعذر رد المبيع على البائع بسبب إخراج المشتري المبيع عن ملكه بالبيع أو الهبة وكان ذلك قبل العلم بالعيب منع الرجوع بالنقصان عند ظهور العيب، لأن المشتري متشبث بالمبيع مع إمكان الرد بعد العلم بالعيب، أما التشبث بالبيع بعد العلم بالعيب فلأن المشتري منه والموهوب له متشبث به، وبعد العلم بالعيب، وتشبثهما كتشبث المشتري الأول لأنه حصل بتسليطه. وأما مع الرد فلأن المشتري منه لورد المشتري عليه بقضاء أمكنه الرد على البائع وكذلك الموهوب له، لو فسخ الهبة مع المشتري أمكنه الرد، قلنا: والتشبث بالمبيع بعد العلم بالعيب مع إمكان الرد دليل الرضا بالعيب، والرضا بالعيب يسقط حق المشتري في الرد وفي الرجوع بنقصان العيب. ومتى تعذر الرد بتلف المشتري على حكم ملك المشتري من غير فعله، وكان ذلك قبل العلم بالعيب لا يمنع الرجوع بنقصان العيب وذلك كالموت لأنه غير متشبث بالمبيع بعد العلم بالعيب مع إمكان الرد فلا يمنع الرجوع بنقصان العيب، كما لو كان حيًا وتعذر الرد بسبب من الأسباب. ومتى تعذر الرد بتلف المشترى على حكم ملك المشتري بفعل المشتري ينظر إن كان بفعل مضمون عليه من جميع الجهات لو حصل في ملك الغير نحو القتل وإحراق الثوب وغير ذلك منع الرجوع بنقصان العيب، فإنه وصل إليه عوض الجزء الفائت من حيث المعنى، لأن القتل والإحراق سبب الضمان وجد في ملك الغير، وإنما سقط عنه الضمان بسبب ملكه، فيجعل سقوط الضمان بسبب الملك وقد زال عنه الملك بسبب القتل بدلًا عن الملك فهو معني قولنا: أنه وصل إليه العوض فلا يرجع بنقصان العيب كما لو باع. وإن كان بفعل غير مضمون عليه يمنع بجميع الجهات لو حصل في ملك الغير لا يمنع الرجوع بنقصان العيب، وذلك نحو الإعتاق والتدبير، ولأن العتق في ملك الغير لا يتصور بسبب الضمان لأنه لا ينفد أصلًا فإذا لم يكن بسبب الضمان في ملك الغير لا يمكننا أن نجعل الضمان واجبًا بالسبب ثم ساقطًا عنه بسبب الملك حتى يصير سقوط الضمان بسبب الملك وقد زال عنه الملك بالإعتاق بدلًا عن الملك على نحو ما ذكرنا في القتل فهو معنى قولنا: لم يصل إليه عوض الجزء الفائت بخلاف فصل القتل على ما ذكرنا، بخلاف ما لو أعتقه على مال أو كاتبه لأنه وصل إليه عوض الجزء الفائت، لأن البدل مقابل تجميع الأجزاء القائم والفائت لأن حقه بالجزء والفائت قائم من حيث الاعتبار ما له يصل إليه بدله، ولو قتله أجنبي لا يرجع بالنقصان قتله عمدًا أو خطاءً لأنه وصل إليه العوض وهو القصاص أو القيمة.
قال في (القدوري): وإذا اشترى ثوبًا أو طعامًا وخرق الثوب واستهلك الطعام ثم اطلع على عيب كان (له أن) يرجع بنقصان العيب بلا خلاف، ولو لبس الثوب حتى تخرق من اللبس، أو أكل الطعام ثم اطلع على عيب به قال أبو حنيفة: لا يرجع بنقصان العيب، وقالا: يرجع والصحيح قول أبي حنيفة، لأن الأكل واللبس في ملك الغير سبب الضمان، وإنما سقط الضمان عنه بسبب الملك والثوب ما ذكرنا. وإذا اشترى عبدًا وباع بعضه وبقي البعض لم يرد ما بقي كيلا يتضرر البائع، ضرر عيب الشركة ولم يرجع بنقصان العيب بحصة ما باع بلا خلاف، وهل يرجع بحصة ما بقي؟ ففي ظاهر رواية أصحابنا لا يرجع، وعن محمد أنه يرجع، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية، لأنه متشبث بالبيع بالقدر الذي باع بيد المشتري منه مع إمكان الرد أن يرد المشترى منه ذلك بعيب نقضًا، فيصير راضيًا في القدر الذي باع فيصير راضيًا بالباقي ضرورة عدم التجزؤ.
وفي (المنتقى): عن أبي يوسف فيمن اشترى ثوبًا أو باع نصفه ثم وجد بالنصف الآخر عيبًا أنه يرد ما بقي، وقال أبو حنيفة: لا يرد ويرجع بفضل العيب، قال أبو الفضل: هذا خلاف جواب (الأصل).
ولو اشترى حنطة أو سويقًا وطحن الحنطة أولت السويق بسمن ثم اطلع على عيبًا يرجع بنقصان العيب، لأنه لم يتشبث بالمبيع بعد العلم بالعيب مع إمكان الرد لأنه لا يمكنه الرد بعد الطحن ولت السويق وإن رضي به البائع لمكان الزيادة فلا يصير راضيًا بالعيب فيرجع بحصة النقصان. وإذا اشترى طعامًا فأكل بعضه ثم وجد بالباقي عيبًا فعلى قول أبي حنيفة لا يرد ما بقي ولا يرجع بأرش ما أكل ولا بارش ما بقي، وقال أبو يوسف: لا يرد ما بقي ويرجع بأرش ما أكل، وقال محمد: يرد ما بقي ويرجع بنقصان العيب فيما أكل، فالحاصل: أن أبا حنيفة وأبا يوسف يجعلان المكيل والموزون في حكم شيء واحد فلا يرد بعضه بالعيب كما في العبد الواحد، وإنما اختلفا في الرجوع بنقصان العيب فعند أبي حنيفة الأكل بمنزلة البيع حتى قال: لو أكل جميع الطعام ثم أطلع على عيب به لا يرجع بنقصان العيب، كما لو باع فصار أكل بعض الطعام وأنه شيء واحد عنده بمنزلة بيع نصف العبد، وهناك لا يرجع بنقصان العيب أصلًا. وعند أبي يوسف الأكل بمنزلة الطحن حتى إن عنده بعد ما أكل الطعام إذا طلع على عيب يرجع بنقصان العيب كما لو طحن الحنطة ثم اطلع على عيب بها، فصار أكل بعض الطعام كطحن بعض الحنطة وذلك لا يمنع الرجوع بنقصان العيب في الكل. ومحمد رحمه الله: جعل المكيل والموزون في حكم شيئين، لأنه مما لا يضره التبعيض والأكل عنده بمنزلة الطحن فكأنه اشترى شيئين حنطة وشعيرًا وطحن أحدهما ثم أطلع على عيب بالكل، وهناك يرجع بحصة ما طحن ويرد الباقي فكذا هنا هذا جملة ما ذكر في (الأصل).
وذكر في موضع من (المنتقى): عن محمد إذا أكل بعض الطعام ثم علم بالعيب أنه يرجع بنقصان العيب فيما أكل وفيما بقي ولا يرد الباقي، وذكر في موضع آخر منه عن أبي يوسف: أنه إذا أكل بعض الطعام رجع بنقصان العيب الذي بقي عنده، وذكر في موضع آخر منه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة إذا أكل بعض الطعام ثم أطلع على عيب كان بالذي أكل وبالذي بقي، فإنه يرجع بنقصان عيب ما أكل، وكذلك جميع ما يكال أو يوزن مما لا ينقصه التبعيض.
وأما إذا باع بعض المكيل والموزون فعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يرد ما بقي ولا يرجع بشيء من النقصان؛ لأنه في حكم شيء واحد فصار بمنزلة العبد الواحد، وعن محمد أنه يرد ما بقي ولا يرجع بحصة العيب فيما باع هكذا ذكر في (الأصل).
وكان الفقيه أبو الليث يفتي في هذه يقول محمد على ما ذكر في (الأصل) رفقًا بالناس، وعليه اختيار الصدر الشهيد حسام الدين.
وفي (فتاوى أبي الليث): أن من اشترى دقيقًا وخبز بعضه، ثم تبين أن الدقيق مُر، رد الباقي بحصة من الثمن ورجع بالنقصان بحصة ما استهلك وهو بناء على مذهب محمد على ما هو المذكور في (الأصل).
وفي (المنتقى) عن أبي يوسف: أنه إذا باع بعض الطعام رد ما بقي في يده ولا يرجع بنقصان العيب.
وفي موضع آخر من (المنتقى) إذا باع بعض الطعام، ثم وجد بالباقي عيبًا لم يرد الباقي ولا يرجع بنقصان العيب في قولهم جميعًا، إذا أبق بعد القبض، ثم علم المشتري به عيبًا كان عند البائع لا يكون له أن يرجع بنقصان العيب ما دام العبد حيًا، فإذا مات له أن يرجع بنقصان العيب، وهذا؛ لأن الرجوع بنقصان العيب خلف عن الرد بالعيب، وإنما يصار إلى الخلف عند وقوع اليأس عن الأصل، وما دام العبد حيًا لا يقع اليأس عن الأصل فلهذا لا يرجع بنقصان العيب.
وإذا اشترى أرضًا ووقفه، ثم وجد به عيبًا رجع بنقصان العيب، ذكر المسألة هلال الرازي في (وقفه)، ولو جعله مسجدًا، ثم وجد به عيبًا لا يرجع بنقصان العيب ذكر المسألة في القدوري في (شرحه)، والفرق بينهما: أنه لما جعله مسجدًا فقد جعله لله تعالى، قال الله تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا} [الجن: 18] ومتى صار لله تعالى زال عن ملكه، ولهذا لا يعتبر فيه شرطه، فإنه لو جعل داره مسجدًا بشرط أن يصلي فيه فلان دون فلان لا يعتبر هذا الشرط ولو بقي على حكم ملكه لا يعتبر شرطه؛ لأنه حينئذٍ يكون هذا شرطًا في ملكه، علم أن الدار زال عن ملكه باتخاذه مسجدًا فيعتبر الإزالة عن ملكه باتخاذه مسجدًا كالإزالة بالبيع، وهناك لا يرجع بالأرش وهنا كذلك إما بجعله وقفًا لا يزيله عن ملكه؛ لأن الموقوف باقي على حكم ملكه ألا ترى أنه يعتبر شرطه؟ فإنه لو وقف أرضه بشرط أن تصرف غلته إلى فلان دون فلان يعتبر شرطه فلم توجد الإزالة في باب الوقف فلا يمنع الرجوع بالأرش.
ذكر القدوري مسألة المسجد في (شرحه) من غير ذكر خلاف، وفي موضع آخر أن على قول محمد لا يرجع بنقصان العيب، وعلى قول أبي يوسف يرجع بناء على أن قول محمد المسجد مؤبد فتحت الإزالة، عن ملكه وعند أبي يوسف المسجد ليس بمؤبد فلم تتم الإزالة عن ملكه وصار من حيث المعنى كأنه لا إزالة.
ولو اشترى ثوبًا وكفن به ميتًا، فإن كان المشتري وارث الميت وقد اشترى بشيء من التركة رجع بالأرش، ولو تبرع بالتكفين أجنبي لم يرجع بأرش العيب، والفرق وهو أن المشتري إذا كان وراثًا وقد اشترى من التركة لمورثه فالملك في الكفن لم يثبت للوارث بل هو على ملك المورث فبقي الملك في الكفن على الوجه الذي أوجبه العقد وقد تعذر الرد، بخلاف ما إذا تبرع أجنبي بالتكفين؛ لأن الكفن ملك المتبرع وبالتكفين أزاله عن ملكه فيبطل حقه من كل وجه كما لو تبرع به على إنسان في حال حياته.
إذا مات العبد المشترى في يد المشتري الثاني، ثم اطلع على عيب به ورجع على بائعه وهو المشتري الأول بنقصان العيب، فالمشتري الأول لا يرجع على بائعه بنقصان العيب؛ لأن البيع الثاني لم ينفسخ فلم يثبت حق الرد في المشتري الأول فلا يثبت له حق الرجوع بالنقصان خلفًا عنه، وهذا قول أبي حنيفة وعلى قول أبي يوسف يرجع، ذكر قول أبي يوسف في هذه المسألة في (المنتقى) ولم يذكر قول محمد، وذكر في (المنتقى) أيضًا قول محمد في مثل هذه المسألة نظير قول أبي يوسف في هذه المسألة، وذكر قول أبي يوسف بخلافه.
وصورتها: رجل اشترى من آخر جارية وباعها فولدت في يد المشتري الثاني ولدًا ووجد بها عيبًا قد كان دلسه البائع الأول ولم يعلم به المشتري الأول ورجع المشتري الثاني على المشتري الأول بنقصان العيب لا يرجع المشتري الأول على بائعه بذلك في قول أبي يوسف، وقال محمد: يرجع.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): رجل اشترى من آخر عبدًا بألف درهم وتقابضا، ثم أقر المشتري أن البائع قد كان أعتقه قبل البيع أو دبره، أو كاتب أمة فأقر أنه استولدها، وأنكر البائع ذلك، وحلف لا يصدق المشتري على البائع؛ لأن إقرار الإنسان ليس بحجة على غيره على ما عرف ويكون العبد حرًا في الإقرار بالعتق وولاؤه موقوف، وصار مدبرًا موقوفًا في مسألة التدبير وكذا في مسألة الاستيلاد، وإن وجد المشتري بالمبيع عيبًا علم أنه كان عند البائع، فله أن يرجع بنقصان العيب؛ لأنهما تصادقا على الرجوع بنقصان العيب، أما البائع؛ فلأن في زعمه أن المشتري أقر كاذبًا، وإنه صار كالمنسي للإعتاق والتدبير، وذلك لا يمنعه من الرجوع بنقصان العيب على ما مر، والمشتري يزعم أن البيع وقع باطلًا، وإن له حق الرجوع بجميع الثمن فصار قدر النقصان متفقًا فلهذا رجع بنقصان العيب.
وكذلك لو كان المشتري أقر أنه والأصل والمسألة بحالها رجع بنقصان العيب لما قلنا، ولو كان المشتري أقر أن العبد لم يكن للبائع يوم باعه، وإنما كان لفلان فصدقه المقر له في ذلك، فإن شاء أجاز البيع وأخذ منه الثمن وإن شاء لم يجز وأخذ العبد؛ لأنه ثبت بتصادقهما أن البائع كان فضوليًا في هذا البيع وأن البيع توقف على إجازة المقر فيكون له الخيار، فإن أجاز بيعه وأخذ الثمن، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيبًا قديمًا لم يرجع بشيء على البائع؛ لأن الإقرار من المشتري نزل منزلة التمليك، ولا نعني به أن الإقرار تمليك مبتدأ؛ لأن الإقرار خيار عن كائن سابق والتمليك إنشاء الملك، ولكن نعني به أن الإقرار بدل عن التمليك؛ لأن الإقرار بالملك إخبار عن سبق الملك والملك لابد له من التمليك ولكن الإقرار إنما يدل على سبق التمليك بأدنى زمان يمكن فيجعل كأن المشتري ملكه منه، ثم أقر له بناءًا على ذلك، فإذا كان هكذا انقطع ملك المشتري عن المبيع فبطل حقه في العيب أصلًا، وهذا إذا صدقه المقر له في الإقرار، فإن كذبه فيه رده بالعيب؛ لأن الإقرار نفسه ليس بتمليك، وإنما يثبت التمليك في ضمن الإقرار، فإذا بطل الإقرار بطل التمليك الذي يثبت في ضمنه.
وكذلك لو كان الإقرار من المشتري بهذا بعد علمه بالعيب وكذبه المقر له رده المشتري على البائع، بخلاف ما إذا عرضه المشتري على البيع بعد العلم بالعيب.
والفرق وهو أن العرض على البيع إنشاء تصرف يعتمد الملك في المحل بعضه الأصل فيكون ذلك دليلًا على تقرير ملكه وإبطال حقه في العيب، فأما الإقرار كما يصح في الملك يصح في غير الملك حتى أن من أقر بما لا يملك، ثم ملكه يومًا من الدهر يؤمر بالتسليم إلى المقر له فلا يكون هذا رضًا من المقر ينوب ملكه.
ولو وجد به المشتري عيبًا قديمًا وقد حدث عنده آخر حتى امتنع رده وذلك قبل إقراره فرجع بنقصان العيب، ثم أقر به المشتري المقر له وصدقه المقر له لم يرجع البائع على المشتري بنقصان العيب الذي أخذ منه؛ لأن أكثر ما في الباب أن الإقرار من المشتري جعل بمنزلة تمليك مبتدأ على ما مر أن التمليك إنما يثبت سابقًا على الإقرار بأدنى يوم يمكن فيحمل وجود التمليك بعد الرجوع بنقصان العيب، ويحتمل أن يكون قبله فلا يبطل المأخوذ بالشك، وفي الفصل الأول لا يثبت حق الرجوع للمشتري بالشك.
قال: رجل اشترى من رجل عبدًا بألف درهم، وتقابضا فأقر المشتري أن العبد لفلان أعتقه قبل أن اشتريه وأنكر البائع ذلك كله فهو على وجوه: أما إن صدقه المقر له في الملك والإعتاق، أو صدقه في الملك دون الإعتاق، أو كذبه فيهما جميعًا.
ففي الوجه الأول: كان العبد مولى للمقر له؛ لأن المشتري أقر له بالملك وشهد عليه بالعتق، فإذا صدقه في الملك نفذ الكل عليه، وإن وجد المشتري بالعبد عيبًا قديمًا لم يرجع بشيء؛ لأنه لما ثبت الملك للمقر له بإقرار المشتري ولم يصدقا على البائع جعل كأن المشتري ملكه بعد الشراء تمليكًا مبتدأ، ثم أعتقه المقر له، ثم أقر به المشتري، ولو كان كذلك لم يرجع المشتري على البائع بشيء فهاهنا كذلك.
وفي الوجه الثاني: دفع العبد إلى المقر له وكان عبدًا له لا يعتق عليه؛ لأن المشتري أقر له بالملك وشهد عليه بالعتق فثبت ما أقر به بحكم التصديق، وبطل ما شهد به بحكم التكذيب، وإن وجد المشتري به عيبًا لم يرجع بشيء لما قلنا: إن الإقرار منه بمنزلة تمليك مبتدأ على ما مر.
وفي الوجه الثالث: عتق العبد على المقر؛ لأنه مالكه ظاهرًا وقد أقر بحريته حيث نسب الإعتاق إلى من يزعمه مالكًا والمالك الظاهر متى أقر بحرية مملوكه يعتق وكان الولاء موقوفًا لما قلنا قبل هذا، وإن وجد المشتري بالعبد عيبًا قديمًا يرجع بنقصان العيب على البائع؛ لأن المقر بهذا الإقرار جعل كالمنسي للإعتاق ولم يجعل بمنزلة الملك؛ لأن التمليك إنما كان مقتضيًا للإقرار بالملك للمقر له وقد بطل الإقرار بتكذيب المقر له فبطل ما ثبت في ضمنه.
ولو أقر المشتري أنه اشتراه وهو لفلان إلا أن المشتري قال أعتقه فلان بعد شرائي لا يرجع بنقصان العيب، أما إذا صدقه المقر له فيهما أو صدقه في الملك دون الإعتاق فلما قلنا، وكذلك إذا كذبه فيهما فرق بين هذا وبين ما تقدم، والفرق وهو: أن فيما تقدم المشتري زعم أن شراؤه وقع على حر فلم يثبت الملك له حتى يجعل الإقرار بالملك لفلان تمليكًا مبتدأ، منه أما هاهنا إقرار الشراء وقع على مال متقدم وشراء ما هو مال متقدم صحيح فقد أقر بصحة الشراء، ثم أقر للمقر له بالملك على وجه لا يحتمل البطلان، والإقرار بالملك لفلان بعد الإقرار بصحة الشراء إقرار منه بالتملك من فلان وتعلق به حق البائع وهو أن تنقطع خصومة المشتري منه في العيب، وبتكذيب المقر له إن بطل الإقرار في حق المشتري لم يبطل في حق البائع.
استشهد في (الكتاب) فقال: ألا ترى أن المشتري إذا قال: بعت العبد من فلان، وإن فلانًا أعتقه بعد الشراء وكذبه فلان، ثم وجد المشتري به عيبًا لم يرده ولم يرجع بشيء؟ لأنه أقر بالتمليك من فلان على وجه لا يحتمل النقض وقد تعلق به حق البائع الأول من حيث البراءة عن العيب ولئن بطل إقرار البائع الثاني في حقه بتكذيب المقر له لم يبطل في حق البائع الأول كذا هنا.
ثم فرع على مسألة الاستشهاد وقال: لو ادعى أنه باعه من فلان ولم يذكر الإعتاق وكذبه المشتري الثاني وحلف وعزم البائع على ترك الخصومة كان له أن يرده على البائع الأول؛ لأن العقد قد انفسخ في حق المشتري الثاني بتكذيبه، وتوقف في حق البائع الثاني على رضاه، فإذا عزم على الفسخ فيما بينهما بتراضيهما فعاد العبد إلى قديم ملك المشتري الأول فكان له الرد بالعيب وشرط عزم المشتري الأول على ترك الخصومة حتى يتم النقص في حقه، لو وجد المشتري الأول بينة فأقامها على البائع الثاني قبل العزم على ترك الخصومة لا يلتفت القاضي إلى ذلك.
وهو نظير ما قال في (الجامع الصغير) في رجل ادعى على رجل أنه باع أمته وحجد المشتري وحلف، وعزم البائع على ترك الخصومة كان له أن يطأها، والمعنى ما مر، ثم ما ذكر هنا إشارة إلى أن عند العزم على ترك الخصومة ينفسخ العقد من الأصل ولم يجعل هذا إقالة في حق البائع الأول، وإنما كان كذلك؛ لأن القاضي ألزم المشتري الأول حكم الفسخ بغير رضاه وما يلزم الإنسان من غير رضاه لا يمكن أن يجعل إقالة.
رجل اشترى من آخر عبدًا بألف درهم وتقابضا، ثم أقر المشتري أن العبد مدبر لهذا الرجل أو كانت أمة فأقر المشتري أنها أم ولد لهذا الرجل اشتراهما وهما كذلك أو حدث المقر له فيهما أو كذبه في التدبير والاستيلاد وصدقه في الملك أوكذبه في الكل، وزعم المقر أن المقر له فعل ذلك بعد الشراء، وإنما يخالف هذا الأول فيما إذا كذبه المقر في الكل، وزعم المقر أن المقر له فعل ذلك قبل الشراء، فإنه قال في الإعتاق يرجع بنقصان العيب وفي التدبير والاستيلاد لا يرجع.
والفرق: أن في مسألة الإعتاق والشراء زعم أن شراءه وقع على الحر ولم يثبت الملك له فلم يجعل الإقرار من المشتري تمليكًا مبتدأ منه ولم يتعلق به حق البائع بل جعل المقر كالمنسي للإعتاق فملك الرجوع بالنقصان.
أما في مسألة التدبير والاستيلاد المشتري اعترف بقيام المالية وقت الشراء؛ لأن المدبر وأم الولد مالان محلان للبيع، ولهذا جاز البيع فيهما بقضاء القاضي، ويجوز البيع فيما ضمت إليهما فيثبت الملك للمشتري، وصار مقرًا بملك حادث للمقر له من جهته، ويعلق به حق البائع وهو بطلان خصومة المشتري معه في العيب، إلا أنه بإسناد التدبير إلى ما قبل الشراء ادعى معارضًا مانعًا ثبوت الملك له بالشراء مع قيام المحلية فلم يصدق في دعوى الإسناد فيما يرجع إلى حق البائع فلهذا لم يرجع بنقصان العيب.
ذكر في (فتاوى أهل سمرقند): إذا اشترى سمنًا ذائبًا فأكله، ثم أقر البائع أنه قد كان وقع فيه الفأرة وماتت يرجع بنقصان العيب عند أبي يوسف ومحمد، وعليه الفتوى.
إذا اشترى شجرة وقطعها فوجدها لا تصلح إلا للحطب يرجع بنقصان العيب، إلا أن يأخذها البائع مقطوعة، في هذا الموضع أيضًا، قالوا: وهذا إذا اشترى لا لأجل الحطب أما إذا اشتراها لأجل الحطب، لا يرجع بنقصان العيب.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): مسلم اشترى عصيرًا وقبضه وتخمر في يده، ثم اطلع على عيب به لم يرده ويرجع بنقصان العيب؛ لأن تعذر الرد كان لا يضيع من جهه المشتري، فإن قال البائع: أنا آخذ الخمر بعينها فليس له ذلك؛ لأن امتناع الرد لحق الشرع؛ لأن الرد بالعيب بغير قضاء عقد جديد في حق الثالث وحرمة تمليك الخمر حق الشرع فصار الرد بالعيب عقدًا جديدًا في حق الشرع، فيمتنع في الخمر، فعلم أن امتناع الرد لحق الشرع فلا يسقط برضا العبد، فإن لم يخاصم في العيب حتى صارت خلًا رجع بنقصان العيب ولا يرده بالعيب إلا أن يقبله البائع؛ لأن العين وإن عاد مالًا متقومًا إلا أنه لم يعد حلوًا، والرغبات مختلفة باختلاف الصفات فلا يرده إلا أن يقبله البائع؛ لأن امتناع الرد لحق البائع وقد رضي به البائع.
ولو أن نصرانيًا اشترى من نصراني خمرًا وتقابضا، ثم أسلما، ثم وجد المشتري بالخمر عيبًا لا يرده بالعيب، وإن قبله البائع كذلك، ولكن يرجع بنقصان العيب، فإن لم يرجع بنقصان العيب حتى صار الخمر خلًا لم يرده بالعيب، إلا أن يرضى البائع.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): رجل اشترى الجوز أو البيض فيكسره فيجده فاسدًا فله أن يرده ويأخذ الثمن كله، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: يريد به إذا وجده خاويًا علي أو وجده منتن اللب أو وجد البيض مذرة؛ لأنه تبين أن البيع لا يصح لما نبين بعد هذا إن شاء الله، أما إذا وجده قليل اللب أو وجد لبه فاسدًا ولم يكن مكتنزًا فهو من باب العيب وليس من باب الفساد وقد تعذر الرد بسبب الكسر فيرجع بنقصان العيب إلا أن يرضي البائع بأن يأخذه مكسورًا، حتى لو وجده بهذه الصفة قبل الكسر كان له الرد بسبب العيب؛ لأن الرد ممكن.
والمسألة على هذا التفسير مذكورة في (المنتقى)، وصورة ما ذكر ثمة إذا اشترى جوز فكسره فوجده فاسدًا، فإنه يرده ما بقي ويأخذ الثمن، وإن كان ما كسر ينتفع به وله ثمن بأن كان قليل اللب أو كان أسود اللب، فإنه لا يرده ولا يرد ما بقي، ولكن يرجع بنقصان العيب فيما كسر، قال ثمة: فهذا عيب والأول ليس بعيب بل هو عدم، وهذا إذا كسره ولم يعلم بالعيب أما إذا كسره وهو عالم بعيبه صار راضيًا فيبطل حقه في كل وجه.
ثم ما ذكر في (الكتاب) مستقيم في البيض، فإنه لا قيمة لقشره، فإذا وجده فاسدًا يتبين أن المبيع لم يكن مالًا فتبين أن البيع كان باطلًا لعدم مصادفته محله فيرده ويرجع بجميع الثمن، وفي الجوز أيضًا مستقيم إذا لم يكن للقشر قيمة أما إذا كان للقشر قيمة بأن كان في موضع يعد الحطب ويستعمل قشر الجوز استعمال الحطب فوجد خاويًا، اختلف المشايخ فيه منهم من قال: يرجع بحصة اللب ويصح العقد في القشر بحصته؛ لأن العقد في حق القشر صادف محله، ومنهم من قال: يرد القشر بجميع الثمن؛ لأن مالية الجوز قبل الكسر باعتبار اللب دون القشر، فإذا كان اللب لا يصلح للانتفاع به لم يكن محل البيع موجودًا وإن كان للقشر قيمة فتبين أن العقد وقع باطلًا، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي.
وإذا اشترى بيض نعامة فكسرها ووجدها مذرة ذكر بعض المشايخ في شرح (الجامع الصغير): أنه يرجع بنقصان العيب ولا يرجع بجميع الثمن؛ لأنه ينتفع بقشرها فكونها مذرة يكون عيبًا فيها فيرجع بنقصان العيب فهذا الفصل يجب أن يكون بلا خلاف؛ لأن مالية بيض النعامة قبل الكسر باعتبار القشر وما فيه بخلاف قشر الجوز على قول بعض المشايخ، وأما إذا كسر بيض النعامة فوجد فيها فرخًا ميتًا اختلف فيه المتأخرون، منهم من قال: لا يجوز؛ لأنه اشترى شيئين وأحدهما ميت فلا يجوز كما بعد الانفصال، ومنهم من قال: يجوز؛ لأن الميت في معدته ومثل هذا لا يمنع جواز العقد كما إذا اشترى جارية وفي بطنها ولد ميت.
وأما إذا وجد البعض فاسدًا، لم يذكر في (الكتاب)، وحكي عن الفقيه أبي جعفر أنه قال: إذا اشترى ألفًا أو ألوفًا من الجوز فوجد فيها عيبًا أو وجدها خاوية لا يرجع بشيء؛ لأن الكثير من الجوز لا ينجو عن مثل هذا في العرف والعادة، وهو نظير التراب في الحنطة، ثم إنه جعل فلولا في الألف والألوف جميعًا وما ورد على ذلك البيض فقد حكي عن الفقيه أبي جعفر أيضًا أنه قال: إذا اشترى مائة بيضة فوجد فيها واحدًا أو اثنين أو ثلاثة مذرة لا يكون له أن يرجع بشيء، وجعل الثلاثة في المائة قليلًا.
وأما إذا اشترى عشرة من الجوز فوجد فيها خمسة خاوية اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يجوز العقد في الخمسة التي فيها لب بنصف الثمن بالإجماع، وقال بعضهم: يفسد العقد في الكل بالإجماع، وبعضهم قالوا: العقد يفسد في الكل عند أبي حنيفة؛ لأنه جمع في العقد بين ما له قيمة وبين ما لا قيمة له فصار كالحر والميتة، وعندهما يصح العقد في الخمسة التي فيها لب بنصف الثمن وهو الأصح؛ لأن هذا بمعنى الثمن المفضل عندهما، فإن الثمن ينقسم على الأجزاء لا على القيمة.
وكذلك إذا اشترى بطيخًا وكثيرها منتنًا لا تصلح لأكل أحد من الناس ولا لعلف الدواب، فإنه يرجع بجميع الثمن، فإن كان لا يصلح لعلف الدواب، أو كان قشره يصلح لعلف الدواب فهذا من باب العيب فيرجع بنقصان لتعذر الرد بسبب الكسر، وكذلك إذا اشتراه فوجده مرًا أوكان يصلح لعلف الدواب أو يتكلف بعض الناس لأكله فهذا من باب العيب، وإن كان لا يصلح لأكل أحد من الناس ولا لعلف الدواب فالعقد باطل وعلى هذا حكم الثمار وغيره من الفواكه.
وفي (المنتقى): اشترى بطيخًا بدرهم عددًا وكسر واحدًا بعد القبض فوجده فاسدًا لا ينتفع به فله أن يرجع بحصتها ولا يرد غيرها، وقال: وليس البطيخ في هذا كالجوز، يريد به أن في الجوز إذا وجد بعضه فاسدًا رده كله.
قال: واللوز والفستق والبندق والبيض نظير الجوز والرمان والسفرجل والقثاء والخيار نظير البطيخ.
وفي (المنتقى): اشترى دابة وقبضها فسرقت من يده، ثم علم بها عيبًا لم يكن له أن يرجع إلى البائع بنقصان العيب رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة.
وفيه أيضًا: اشترى ثوبًا فقطعه لابن صغير له ثوبًا وخاطه فوجد به عيبًا فليس له أن يرجع بنقصان العيب، ولو كان الابن كبيرًا رجع؛ لأن الوجه الأول: الهبة تمت بالقطع ولم يمتنع الرد بالقطع، فإن البائع لو رضي به يجوز فكانت الهبة في حال لم يكن الرد ممتنعًا، فيبطل بها حق الرد وهو الأصل، فيبطل الحلف وهو الرجوع بنقصان العيب، أما في الوجه الثاني: الهبة إنما تتم بالتسليم وبالخياطة امتنع الرد فالهبة وقعت في حال كان حق الرد باطلًا، وثبت حق الرجوع بنقصان العيب فلا يمنع الرجوع بنقصان العيب، وكذلك لو قطع لمملوكه أو لأم ولده فله أن يرجع بنقصان العيب.
وفي (فتاوي الفضلي): اشترى بعيرًا قبضه فلما أدخله داره سقط فذبحه إنسان فنظروا إلى أمعائه فوجدوها فاسدة فسادًا قديمًا، ينظر إن ذبحه الذابح بغير أمر المشتري، لم يرجع المشتري على البائع بالنقصان؛ لأن الذابح يضمن القيمة، وإن ذبحه بأمر المشتري يرجع المشتري عند أبي يوسف ومحمد بمنزلة ما لو اشترى طعامًا فأكله، ثم وجد به عيبًا، فإنه يرجع بنقصان العيب.
وإذا اشترى حملًا وظهر به عيب فوقع فانكسر عنقه فنحره، ليس له أن يرجع على البائع بشيء؛ لأن النحر حصل بعد العلم بالعيب وذلك يمنع الرجوع بالنقصان.
رجلان لكل واحد منهما بعير فتبايعا وتقابضا، ثم وجد أحدهما عيبًا في البعير الذي اشتراه فمات في يده وقد مرض البعير الآخر فله الخيار، إن شاء رجع بحصته العيب من الآخر وإن شاء رجع بحصته العيب من قيمة البعير الآخر صحيحًا، وإنما نحر لمرض البعير الآخر.
ولو اشترى عبدًا بجارية وتقابضا فوطء المشتري الجارية، ثم رأى العبد صاحبه فلم يرضه، أو وجد به عيبًا فرده يخير، إن شاء ضمن مشتري الجارية قيمتها يوم قبضها مشتريها، وإن شاء أخذ الجارية ولا يضمنه النقصان إن كانت بكرًا ولا العقر إن كانت ثيبًا؛ لأن الوطء حصل في ملك المشتري الواطئ.

.نوع آخر منه في دعوى العيب والخصومة فيه وإقامة البينة عليه:

يجب أن يعلم أن العيب نوعان: ظاهر يعرفه القاضي بالمشاهدة والعيان كالقروح والعمى والإصبع الزائدة وأشباهها، وباطن لا يعرفها القاضي بالمشاهدة والعيان.
والظاهر أنواع: قديم كالأصبع الزائدة ونحوها، وحديث لا يحتمل الحدوث من وقت البيع إلى وقت الخصومة كأثر الجدري وما أشبه ذلك، وحادث يحتمل الحدوث من البيع إلى وقت الخصومة كالجراحات وما أشبهها، وحادث لا يحتمل التقدم على مدة البيع.
وأما الباطن فنوعان: نوع يعرف بأثار قائمة كالثيابة والحبل والذاء في موضع لا يطلع عليها الرجال، ونوع لا يعرف بآثار قائمة كالسرقة والإباق والجنون، فإن كانت الدعوى في عيب ظاهر يعرفه القاضي بالمشاهدة ينظر إليه، فإن وجده سمع الخصومة ومالا فلا، ثم إذا سمع الخصومة، فإن كان العيب قديمًا أو حادثًا لا يحدث من وقت البيع إلى وقت الخصومة كان للمشتري أن يرد؛ لأنا عرفنا قيامه للحال بالمعاينة وتيقنا بوجوده عند البائع إذا كان لا يحدث مثله، أو لا يحدث في مثل هذه المدة فيرده المشتري، إلا أن يدعي البائع سقوط حق المشتري الرد بالرضا أو غيره ويكون القول قول المشتري فيه مع يمينه، ثم عند طلب البائع يمين المشتري يحلف المشتري باتفاق الروايات وعند عدم طلبه هل يحلف المشتري عامة المشايخ على أنه لا يحلف في ظاهر الرواية.
ورأيت في (المنتقى) رواية عن أبي يوسف: أن المشتري إذا أراد الرد بعيب لا يحدث مثله يحلف بالله ما علم بالعيب حين اشتراه ولا رضي به منذ علم ولا عرضهُ على بيع. قال: وكان أبو حنيفة يقول: لا أحلف المشتري حتى يدعي ذلك البائع، قال: وأجب إلى أن استحلفه وإن لم يدع البائع ذلك، وعن أبي حنيفة رواية أخرى: أن المشتري لا يحلف على ذلك من غير فصل.
ثم كيف يحلف المشتري أكثر القضاة على أنه، يحلف بالله ما سقط حقك في الرد بالعيب من الوجه الذي يدعيه لا نصًا ولا دلالة وهو الصحيح.
وإن كان عيبًا يحتمل الحدوث في مثل هذه المدة ويحتمل التقدم عليه، أو كان مشكلًا فالقاضي يسأل البائع أكان به هذا العيب في يدك، فإن قال: نعم كان للمشتري حق الرد إلا أن يدعي البائع سقوط حق المشتري في الرد ويثبت ذلك بنكوله أو بالبينة، فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه إن لم يكن للمشتري بينة على كون هذا العيب عند البائع.
ثم كيف يحلف البائع. ذكر في (الأقضية) في موضع: يحلف بالله لقد بعته وما به هذا العيب، وهذا الإنكار يصح لجواز أنه حدث به هذا العيب بعد البيع قبل التسليم، وإنه يكفي لثبوت حق الرد. وذكر في موضع آخر منه: أنه يحلف بالله لقد بعته وسلمته وما به هذا العيب، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في (الجامع) والقدوري في (كتابه). وهذا لا يكاد يصح لجواز أن العيب حدث بعد البيع قبل التسليم، وإنه يكفي للرد، فمتى حلفناه عليهما كان البائع بارًا في يمينه لو كان العيب حادثًا بعد البيع قبل التسليم، فيبطل حق المشتري في الرد.
وذكر في كتاب الاستحلاف: أنه يحلف بالله لقد سلمته بحكم هذا البيع وما به هذا العيب، وهذا لا يكاد يصح أيضًا لجواز أنه كان، إلا أن المشتري رضي به أو أبرأه عنه، فالاعتماد على ما روى بشر عن أبي يوسف: أنه يحلف بالله ما لهذا المشتري قبلك حق الرد بالعيب الذي يدعيه، وهذا تحليف على الحاصل، وإنه موافق لمذهب محمد رحمه الله في كثير من المسائل على ما يأتي بيانه في مواضعه إن شاء اللّه تعالى.
وإن كان عيبًا لا يحتمل التقدم على مدة البيع، فالقاضي لا يرده على البائع؛ لأنه تيقن بانعدامه في يده، وأما إذا كان البيع باطنًا، فإن كان يعرف بآثار قائمة في البدن، وكان ذلك في موضع يطلع عليه الرجال، فإن كان للقاضي بصارة بمعرفة الأمراض ينظر بنفسه في ذلك، وإن لم يكن له بصارة في ذلك يسأل عن من له بصارة في ذلك ويعتمد على قول مسلمين عدلين وهو أحوط والواحد يكفي، فإذا أخبره واحد مسلم عدل بذلك يثبت العيب بقوله في حق توجه الخصومة فيحلف البائع ولا يرد بقول هذا الواحد هكذا ذكر بعض المشايخ في (شرح الجامع) وفي (شرح أدب القاضي) الخصاف.
وذكر بعض المشايخ في (شرح المبسوط): أنه ما لم يتفق اثنان عدلان من الأطباء لا يثبت العيب في حق توجه الخصومة، فبعد ذلك ينظر إن كان هذا العيب لا يحتمل الحدوث في مثل هذه المدة عرف ذلك بقول الواحد أو المثنى أو أشكل عليهما ذلك اختلفوا فيما بينهم، فإنه لا يرد على البائع بل يحلف، وإن كان هذا العيب لا يحتمل الحدوث في مثل هذه المدة بأن عرف وجوده بقول الواحد لا يرد ويحلف البائع، وإن عرف وجوده بقول المثنى ذكر في الأقضية، وفي القدوري: أنه يرد بقولهم، وهكذا ذكر في (شرح الجامع)، وعن أبي يوسف: أنه لا يرد بقول المثنى ويحلف البائع؛ لأنهم لا يهتدون عن حقيقة الأمر، وإنما يشهدون عما لا يصلح حجة للرد، وفي (أدب القاضي) للخصاف: أن قبل القبض يرد بقول المثنى وبعد القبض يحلف البائع، وإن كان عيبًا لا يطلع عليه إلا النساء كالحبل وما أشبه ذلك، فالقاضي يريها النساء، الواحدة (من) النساء العدلة يكفي والثنتان أحوط، فإذا قالت واحدة عدل: أنها حبلى أو قالت اثنتان ذلك بقيت في حق توجه الخصومة، فبعد ذلك أن قالت أو قالتا حدث في مدة البيع لا يرد على البائع ولكن حلف البائع، فإن نكل الآن يرد عليه، وإن قالت أو قالتا كان ذلك بعد القبض لا يرد ولكن يحلف البائع؛ لأن شهادة النساء حجة ضعفة والعقد بعد القبض قوي، ولا يجوز فسخ العقد القوي بحجة ضعفة. وإن كان ذلك قبل القبض فكذلك لا يرد بقول الواحد هل يرد بقول المثنى؟ ذكر بعض مشايخنا: أن على قياس قول أبي حنيفة لا يرد، وعلى قولهما يرد. وذكر الخصاف في (أدب القاضي): أنه لا يرد في ظاهر رواية، أصحابنا وفي (القدوري): أنه لا يرد في المشهور من قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن ثبوت العيب بشهادتين أمر ضروري ومن ضرورة ثبوت العيب توجه الخصومة لما ليس من ضرورته الرد فيحلف البائع، فإذا نكل فقال: بدت بشهادتين بنكوله فيثبت الرد. وروي الحسن بن زياد عن أبي حنيفة مطلقًا: أنه يثبت الرد بشهادتهن؛ لأن شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال كشهادة الرجال فيما يطلع الرجال، وعن محمد في رواية ابن سماعة مطلقًا: أنه يثبت الرد بشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال إلا في الحبل؛ لأن معرفة الحبل غير ممكن؛ لأن الحبل من جملة ما توخى الله علمه بنفسه، أما معرفة ما سوى الحبل حقيقة ممكن بالنظر إليه فجاز الرد بشهادتهن. وفي (النوادر) عن أبي يوسف: أن قبل القبض يثبت الرد بشهادتهن بخلاف ما بعد القبض، والفرق: أن شهادة النساء وإن كانت حجة ضعيفة إلا أن العقد قبل القبض ضعيف أيضًا، ولهذا ملك المشتري الرد بالعيب قبل القبض من غير قضاء ولا رضا ويجوز فسخ العقد بحجة ضعيفه بخلاف ما بعد القبض.
وفي (المنتقى) ابن سماعة عن أبي يوسف: اشترى جارية فقبضها وادعى أنها رتقاء أريها النساء، فإن قلن هي رتقاء رددتها على البائع وكذلك إذا ادعى أن بها كية قديمة في موضع لا ينظر إليه إلا النساء قال وأرد في مثال هذا بقول امرأة واحدة، قال ثمة: وحكي عن محمد بن الحسن مثل ذلك.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل اشترى جارية وادعى أن لها حبلًا وأراد ردها بعد يوم أو يومين أو ثلاثة، فإن القاضي يحلف البائع البيتة بالله لقد بعتها وما بها حبل، وإن قال المشتري للقاضي: حلفه ما يعلم أن بها حبلًا فالقاضي يحلفه، فإن حلف على ذلك لا يحلف البتة حتى يشهد نساء أنها حامل، فإذا شهد بذلك حلف على ذلك البته على نحو ما ذكرنا، فإن لم يحلف على العلم حلف البتة لقد باعها وما بها حبل.
وفي (نوادر هشام) عن محمد: اشترى جارية وادعى أن بها حبلًا وأحضر أمرأة عدلة شهدت بذلك، قال: أقبل شهادتها على أن استحلف البائع بالله لقد باعها وقبضها المشتري وما هي يومئذ بحامل، وإذا لم تشهد المرأة قلت للبائع: أهي حامل عندك الساعة، فإن لم يقر قلت: أحلف ما هي عندك الساعة حامل.
وعن إبراهيم عن محمد: أن من اشترى في آخر جارية وادعى أنها خنثى يحلف البائع على ذلك؛ لأن هذا من جملة ما لا يطلع عليه الرجال والمرأة فيعذر معرفة ما وقع فيه الدعوى من جهة غيرها فيعتبر الدعوى والإنكار، والجواب في دعوى الاستحاضة في حق حكم الرجوع إلى النساء لتوجه الخصومة وفي الرد بشهادتهن قبل القبض وبعده كالجواب في دعوى الحبل على الوجه الذي ذكرنا كذا ذكر في كتاب (الاستحلاف). ولكن إذا شهد الرجال على الاستحاضة قبلت شهادتهم؛ لأن درور الدم يراه الرجال فجاز أن يثبت بشهادتهم. وأما إذا ادعى المشتري انقطاع حيضها وأراد ردها بهذا السبب لا يوجد لها رواية في المشاهير، وحكي عن الحاكم الإمام أبي محمد الكوفيين أنه قال: يسأل المشتري أولًا عن مقدار مدة الانقطاع، فإن ادعى الانقطاع في مدة يسيرة لا يعد عيبًا، وإن ادعى الانقطاع في مدة كثيرة سمعت دعواه؛ لأن الناس يعدونه عيبًا، فحينئذٍ يسأل البائع: أهي كما ادعاه، فإن قال: نعم، سأله: أكانت منقطعة الحيض عنده، فإن قال: نعم، ردها بإقراره عليه، وإن قال: هي كذلك للحال، ولكن ما كانت منقطعة الحيض عنده، وإنما حدث هذا العيب في يد المشتري توجهت الخصومة على البائع لتصادقهما على قيام العيب في الحال، فإن طلب المشتري يمين البائع يحلف البائع على ذلك.
وكيفية الاستحلاف فيه كما في دعوى سائر العيوب، فإن حلف برئ، وإن نكل يرد عليه؛ لأن نكوله بمنزلة إقراره، وإنه حجة ملزمة، فإن شهد للمشتري شهود على انقطاع الحيض عند البائع لا تقبل شهادتهم بخلاف ما لو شهدوا على كونها مستحاضة، والفرق أن الاستحاضة درور الدم، وإنه مما يوقف عليه، أما انقطاع الحيض على وجه يعد عيبًا لا يقف عليه الشهود، فقد تيقن القاضي بكذبهم، فلا يقبل شهادتهم.
وإن أنكر البائع انقطاع حيضها للحال هل يستحلف البائع على ذلك؟ على قول أبي حنيفة لا يستحلف، وعلى قولهما يستحلف.
بعد هذا يحتاج إلى بيان المدة اليسيرة والكثيرة. قالوا: ويجب أن تكون هذه المسألة نظير مسألة مدة الاستبراء إذا انقطع الحيض، وفي تلك المسألة الروايات مختلفة، فعن أبي يوسف: قدر الكثير بثلاثة أشهر، وعن محمد: أنه قدر الكثير بأربعة أشهر وعشر، ثم رجع وقدر الكثير بشهرين وخمسة أيام. وعن أبي حنيفة وزفر: أنهما كانا يقدران الكثير بسنتين. وإذا عرفت المدة الكثيرة، فما دون ذلك يكون يسيرًا، والكثير عيب دون اليسير.
فإن كان القاضي مجتهدًا كان له أن يقضي بما أدى إليه اجتهاده من هذه الأقاويل، وإن لم يكن مجتهدًا ليأخذ بالمدة التي اتفق عليه أصحابنا أنها كبيرة وهي سببان حتى لا يكون خروجًا عن أقاويلهم. وإذا ادعى الانقطاع في مدة كثيرة ينبغي أن يدعي الانقطاع بأحد الشيئين إما الداء أو الحبل حتى تسمع دعواه.
الدليل عليه ماذكر في (فتاوي الفضلي): إذا اشترى جارية وهي طاهرة فامتد طهرها ولم تحض من غير ظهور الحبل بها ليس له أن يردها على بائعه مالم يدع ارتفاع الحيض بالحبل أو بالداء؛ لأن الارتفاع بدون هذين الشيئين لايعد عيبًا والمرجع في الحبل إلى قول النساء، والمرجع في الداء إلى قول الأطباء.
وإذا أخبرت امرأة بالحبل أو طبيبان بالداء فتمام المسألة ماكتبناها قبل هذا، ويعتبر في ذلك أقصى ماينتهي إليه ابتداء حيض النساء عادة وذلك تسعة عشر سنة عند أبي حنيفة.
ذكر الصدر الشهيد في بيوع (الجامع الصغير) وفي دعوى الحبل: لو قالت امرأة واحدة أن بالجارية حبلًا، وقالت امرأتان أو ثلاثة ليس بها حبل تتوجه الخصومة على البائع بقول ملك المرأة ولا يعارضها قول المرأتان والثلاث في أنهما ليس بها حبل، فإن قال البائع للقاضي: المرأة التي تقول انها حامل جاهلة ينبغي للقاضي ان يختار لذلك امرأة عالمة تقى هاهنا.

.فصل آخر:

لابد من معرفته أن الاستحاضة وانقطاع الدم والحبل لأهل له يثبت بقول الجارية، وقد ذكر في كتاب الاستحلاف ما يدل على أنه لا يثبت، فقد ذكر ثمة: أن من اشترى أمة وادعى بها حبلًا واستحاضة فالقاضي لايجعل بين البائع وبين المشتري خصومة حتى تشهد امرأة أو امرأتان بها حبلًا أو استحاضة، وبهذا تبين ان ما ذكره الصدر الشهيد في (الجامع الصغير): أنه لا يقف عليها غيرها غير مستقيم، وإن الطريق إقرار البائع أو إشهاده في الاستحاضة والحبل، وفي الانقطاع إقرار البائع.
وأما إذا كان العيب باطنًا لايعرف بآثار قائمة بالبدن نحو الإباق والجنون والسرقة والبول في الفراش، فإنه يحتاج إلى إثباته في الحال؛ لأنه لايعرف عيانًا وطريق معرفة ثبوته على ماذكره محمد في (الجامع) أن القاضي يسأل البائع عن ذلك إذا صح دعوى المشتري، وإنما تصح دعوى المشتري إذا ادعى أن هذه العيوب كانت في يد البائع وقد وجدت في يد المشتري إلا أن في الجنون يصح دعوى المشتري إذا ادعى هذا القدر، وفي الإباق والسرقة والبول في الفراش لابد لصحة الدعوى من زيادة شيء وهو أن يقول المشتري هذه العيوب كانت في يد البائع وقد وجدت في يد المشتري والحالة واحدة ويعني باتحاد الحالة أن يكون وجودها في يد البائع وفي يد المشتري قبل البلوغ وبعده.
أما لو كانت في يد البائع قبل البلوغ ووجدت في يد المشتري بعد البلوغ فهذا لا يكفي لصحة الدعوى والسؤال للبائع، وفي الجنون سواء كان الجنون في يد البائع والمشتري قبل البلوغ، أو كان في أيديهما بعد البلوغ، أو كان في يد البائع قبل البلوغ فهذا يكفي لصحة الدعوى ولسؤال البائع، وهذا؛ لأن الجنون عيب واحد؛ لأن سببه واحد وهو آفة تخل الدماغ ففي أي حالة وجد في يد المشتري فهو عين ماكان في يد البائع.
أما في الإباق وأشباهه: يختلف العيب باختلاف الحالة لاختلاف السبب فسبب الاباق والسرقة في حالة الصغر قلة العقل وبعد البلوغ سببه قلة المبالاة، وسبب البول في الفراش قبل البلوغ ضعف المثانة وبعد البلوغ داء في الباطن.
وإذا اختلف سبب العيب باختلاف الحالة يختلف العيب واختلاف العيب يمنع الرد، ثم إذا صح دعوى المشتري فالقاضي يسأل البائع أنها هذا العيب في الحال، فإذا أقر به ثبت العيب في حق توجه الخصومة فيسأل أكان هذا العيب بها عندك، فإن أنكر يحلف على الثبات، وإن أنكر البائع قيام هذا العيب للحال، فإن أقام المشتري بينة على ذلك يثبت قيام العيب للحال وتوجهت الخصومة على البائع في أن هذا العيب هل كان بها في يده. وإن لم يكن للمشتري بينة على ذلك وطلب من القاضي أن يحلف البائع بالله ما يعلم قيام العيب به في الحال.
ذكر في (الجامع الكبير): أنه يحلفه ونسب الجواب إلى أبي يوسف ومحمد فإنه معصوم ومحمد أنه يحلف ولم يذكر قول أبي حنيفة، من مشايخنا من قال: ماذكر عن الجواب قول الكل إلا أنه لم يذكر قول أبي حنيفة لا لأن قوله يخالف قولهما بل؛ لأنه لم يحفظ قوله.
وحكى القاضي أبي الهيثم عن القضاة الثلاثة أن المسألة على الخلاف، على قول أبي حنيفة لايحلف، وحكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ أنه قال: وجدت في كتاب الاستحلاف لمحمد ابن سلمة أن المسألة على الخلاف فوجه قولهما: أنه ادعى عليه معنى لو أقر به يلزمه فعند الانكار يستحلف كما في سائر الدعاوي، ولأبي حنيفة أن اليمين لدفع الخصومة مستحقة لإنشائها ومتى استحلف البائع هاهنا لاتنقطع الخصومة بينهما بل تتحقق بينهما خصومة أخرى في أن هذا العيب هل كان عند البائع ويستحلف البائع مرة أخرى، ولا كذلك سائر الدعاوي.
وفي (المبسوط) في (أدب القاضي) للخصاف: جعل طريق معرفة ثبوت هذه العيوب للحال البينة، فقال: لايثبت للمشتري حق الخصومة مع البائع مالم يقم بينة على وجود هذه العيوب في يد نفسه، فإن لم تكن له بينة وطلب يمين البائع فهو على الاختلاف الذي مر، وإذا ثبت وجود هذه العيوب في يد المشتري وأنكر البائع كونها عنده ولم يكن للمشتري بينة فاحتيج إلى تحليف البائع، كيف يحلف البائع؟.
فعلى رواية بشر بن الوليد: يحلف بالله لهذا ملك الرد بالسبب الذي يدعيه. وذكر في (الأقضية) في الجنون، بالله ما جن عندك قط، وفي الإباق والسرقة يحلف بالله ماسرق وما بال في الفراش عندك حتى بلغ مبلغ الرجال، وهذا بناء على ما قلنا: إن الجنون لا يختلف بالاختلاف الحالة وماعداه من السرقة والإباق والبول في الفراش يختلف باختلاف الحالة، واتحاد العيب شرط ثبوت حق الرد. ثم إذا اختلفا (المشتري و) البائع، فإن حلف بريء عن دعوى المشتري، وإن نكل يرد عليه بنكوله ولا يحلف المشتري على الرضا من دعوى البائع عند أبي حنيفة ومحمد وقدر هذا.
ثم إذا ادعى البائع ذلك كيف يحلف المشتري، أكثر القضاة على أنه يحلف بالله ما سقط حقك في الرد من الوجه الذي يدعيه البائع لاصريحًا ولا دلالة، وقال أبو بكر الرازي: يحلف بالله إنك محق في ردك العبد على البائع فقيل له: إن الاستحلاف مشروع على النفي وهذا استحلاف على الإثبات أيضًا، فإن المودع إذا ادعى الرد وهلاك الوديعة فإنه يستحلف على الرد وعلى الهلاك وهذا استحلاف على الإثبات.
قال في (كتاب الأقضية): اشترى جارية وظفر المشتري بشجة كانت عند البائع وحلف القاضي البائع فنكل، ردها المشتري عليه، فادعى البائع بعد ذلك أنها حبلت في يد المشتري وهي حبلى في هذه الساعة فالقاضي يسأل المشتري عن ذلك، فإن قال المشتري: مالي بها علم فالقاضي يريها النساء، فإن قلن: هي حبلى لا يثبت الرد بقولهن، ولكن تتوجه الخصومة على المشتري فيحلف القاضي المشتري بالله ما حدث هذا الحبل عندك، فإن حلف فلا شيء عليه والرد على حاله كما كان، إن نكل يثبت ما ادعاه البائع فيردها على المشتري؛ لأن رد المشتري على البائع لم يصح هنا؛ لأنه ردها مع عيب زائد وفيه ضرر للبائع أن يدفع ذلك الضرر عن نفسه بأن يرد الجارية على المشتري، ولكن إنما يردها على المشتري مع نقصان عيب الشجة؛ لأنه تعذر الرد بعيب الشجة فيلزم البائع نقصان عيب الشجة، فإن قال البائع للقاضي: أنا أمسك الجارية مع (عيبها) ولا أضمن نقصان عيب الشجة كان له ذلك؛ لأن حق الرد إنما يثبت للبائع هنا دفعًا للضرر عنه بالرد عليه بعيب زائد، فإذا اختار إمساك الجارية فقد أسقط حق نفسه ورضي بذلك الضرر، فكان له ذلك ولا يلزمه نقصان الشجة هنا وأنه ظاهر.
ولو أن القاضي حين سأل المشتري عن الحبل قال المشتري: إن هذا الحبل كان عند الباع ولم أعلم به سمع دعواه؛ لأن الحبل عيني لايظهر إلا بعد مدة فيحتمل وجوده عند البائع، وإن لم يظهر إلا في هذا الوقت فصار المشتري بدعوى وجود هذا الحبل عند البائع مقرًا بوجوده عنده لكن لم يثبت وجوده عند البائع؛ لأن قول المشتري ليس بحجة على البائع إن كان حجة على نفسه، فيحلف البائع، فإن حلف لم يثبت وجوده عند البائع، وقد أقر المشتري بوجوده عنده فكان للبائع أن يرد الجارية عليه ويرد معها نقصان عيب الشجة، وإن نكل عن اليمين ظهر أن هذا العيب كان عند البائع، وظهر أن هذا الرد كان صحيحًا.
قال: ولو كان القاضي حين قضى برد الجارية على البائع بعيب الشجة فقبل أن يرد المشتري الجارية على البائع قال البائع: إنها حبلى، وهذا حبل حدث عند المشتري وقال المشتري: لا بل كان عند البائع فالقاضي لا يعجل في الرد ويحلف البائع على ما ادعى المشتري عليه أنه حدث عنده ولا يمين على المشتري هنا، بخلاف الفصل الأول، فإن هناك يحلف المشتري في تلك المسألة الرد قديم والبائع يريد نقض ذلك الرد وردها على المشتري ما دام المشتري ينكر، فلا يملك البائع ذلك بيمين نفسه فيكون اليمين على المشتري، وهنا الرد لم يتم بعد فيجعل في الحكم كأن القاضي لم يقض بالرد فكان المشتري مدعيًا الرد على البائع والبائع ينكر فكان القول قول البائع مع يمينه، لكن هذا الفرق يشكل بالوجه الثاني، فإن في الوجه الثاني الرد قديم والبائع يريد نقض ذلك الرد مع هذا يحلف البائع، وإنما الفرق الصحيح أن يقال: بأن في الفصل الأول المشتري منكر وجود الحبل عنده فيحلف على ذلك، وهاهنا مقر بوجود الحبل عنده حيث أقر بوجوده عند البائع، فلا يحلف المشتري على وجود الحبل عنده وهو مقر بذلك، ولكن المشتري ادعى أن هذا الحبل الموجود في يده كان عند البائع، والبائع ينكر فيحلف البائع كما في الوجه الثاني.
قال محمد: رجل باع نصف عبد له من رجل بخمسين دينارًا وباعه النصف الآخر بمائة دينار، ثم إن المشتري وجد العبد أعور فقال البائع: حدث عندك أيها المشتري، وقال المشتري للبائع: كان عندك فالقول قول البائع وعلى المشتري البينة، وإن لم يكن للمشتري البينة يحلف البائع، ويقال للمشتري: أتخاصم البائع في النصف الأول أو في النصف الثاني أو فيهما؛ لأن كل واحد من النصفين معقود عليه بإيراد العقد عليه على حدة واختلاف الأسباب ينزل اختلاف الأعيان.
ولو كانا عينين كان له أن يخاصم في أيهما شاء، وإن شاء خاصم فيهما كذا هنا، فإن قال: أنا أخاصم في الآخر وأقف في الأول لأتأمل أكان العيب عنده أم لا، كان ذلك، ويستحلف البائع على النصف الآخر، فإن نكل رد ذلك على البائع، وإن حلف لزم المشتري. وإذا حلف البائع، ثم إن المشتري خاصم من بعد في النصف الأول فأراد أن يستحلفه فقال البائع لما حلفت أنه لا عور عند البيع الثاني كان ذلك متى حلف أنه لا عور به عند البيع الأول بطريق الضرورة فلا أحلف مرة أخرى لايلتفت إلى ذلك؛ لأن هذه اليمين في النصف نفت الخصومة فلا تعتبر، ألا ترى أنه لو حلف المدعى عليه بعد الخصومة قبل طلب المدعي لا يعتبر يمينه فهذا أولى.
وكان الفقه في ذلك: أن اليمين أحد نوعي الحجة للمدعي كالبينة، ثم إن البينة لا تعتبر قبل وجود الدعوى فكذا اليمين، ثم إذا حلف في النصف الأول، فإن حلف لم يرد عليه شيء، وإن نكل عن هذا اليمين لزمه النصف الأولى، فإن قال المشتري: إن العيب واحد وقد ثبت بنكوله فأرد عليه النصف الآخر لا يلتفت إلى ذلك، وهذا لا يشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن عنده النكول بدل، وبدل الفسخ في أحد النصفين لا يكون بدلًا للفسخ في النصف الآخر، وإنما يشكل عندهما النكول إقرار.
ولو أقر البائع بالعيب يوم باع النصف الأول كان للمشتري أن يرد عليه النصفان، ولكن الوجه في هذا أن يقال: بأن الإقرار حجة مطلقة في حق المقر، فإذا ثبت العيب بإقراره في النصف الأول ثبت في النصف الباقي؛ إذ يستحيل أن يكون العيب قائمًا بأحد النصفين شائعًا ولا يكون قائمًا في النصف الآخر، فأما النكول ليس بإقرار حقيقة ولكن جعل إقرارًا ضرورة قطع الخصومة فيعتبر إقرار في محل الخصومة هاهنا النصف الأول دون الثاني.
وكذلك لو خاصمه المشتري في النصف الأول قبل أن يخاصمه في النصف الثاني فنكل البائع عن اليمين فرد عليه النصف الأول، ثم أراد رد النصف الثاني بذلك النكول لم يكن له ذلك حتى يخاصمه فيه خصومة مستقبلة لما قلنا فلا يفيد، وإن أراد المشتري أن يخاصم في النصفين جميعًا يحلف البائع فيهما يمينًا واحدًا؛ لأن الدعاوي إذا اجتمعت وتوجهت من واحد على واحد والجنس متحد يكفي يمين واحدة، أصله حديث القسامة.
وألا ترى أن من ادعى أموالًا مختلفة على رجل فطلب يمينه في الكل يحلف يمينًا واحدًا؟ فكذا هنا يحلف يمينًا واحدًا بالله لقد باعه النصف الأول وسلمه إليه وما به هذا العيب، وباعه النصف الثاني وسلمه إليه وما به هذا العيب، فإن حلف فيهما برئ عنهما، وإن نكل فيهما لزماه وإن حلف في أحدهما ونكل في الآخر لزمه، ما نكل فيه وبرئ عما حلف فيه.
قال محمد في (الجامع) أيضًا: رجلان باعا من رجل عبدًا صفقة واحدة أو صفقتين فمات أحد البائعين وورثه البائع الآخر، ثم طعن المشتري بعيب في العبد، فإن شاء خاصمه في أحد النصفين، وإن شاء خاصمه في النصف ألأخر وقيام الحلف كقيام الأصل، فإن خاصمه المشتري فيما باعه بنفسه حلفه على الثبات بالله لقد بعته وسلمته وما به هذا العيب؛ لأن هذا تحليف على فعل نفسه فيكون على الثبات، وإن خاصمه بالذي باشر البيع مورثه، حلفه بالله لقد باعه وسلمه إليه، ولم يعلم به هذا العيب؛ لأن هذا تحليفه على فعل الغير فيكون على العلم، فإن حلف في أحدهما لم يقع به الاستغناء عن اليمين في النصف الآخر، وإن نكل في أحدهما لم يكن ذلك لازمًا في النصف الآخر لما قلنا، وإن جمع بين النصفين في الخصومة فلا يخلو إما أن يكون البيع صفقة أو صفقتين، فإن كان صفقتين حلفه على النصفين ويجمع بين اليمين بالله لقد بعته بالنصف وسلمته وما به هذا العيب، ولقد باعه صاحبك بصفة وسلمه وما يعلم بهذا العيب وهذا بالاتفاق.
فأما إذا كانت الصفقة واحدة فكذلك الجواب عند محمد، وعند أبي يوسف يكتفي باليمين على نصيبه خاصته على الثبات ويبرأ ذلك عن يمينه في النصف الذي باعه مورثه.
محمد رحمه الله سوى بين الصفقة والصفقتين وقال: بأن الصفقة هاهنا، وإن كانت متحدة صورة فهي متعذرة حكمًا، ولهذا كان للمشتري أن يخاصم البائع في أي نصف شاء، ولو كانت الصفقة متعذرة ومعنى يحلف على النصفين فكذلك إذا كانت متعذرة صورة.
يوضحه: أن الوارث في نصيب المورث قام مقام المورث، ولو كان المورث حيًا فاليمين في نصيب أحدهما لا ينوب عن اليمين في نصيب صاحبه فهنا كذلك، وأبو يوسف رحمه الله يفرق بين الصفقة والصفقتين ويقول بأن الصفقة إذا كانت واحدة، وحلف على أحد النصفين لا يكون في التحليف على النصف الآخر فائدة إذ لا يتصور أن يكون العيب عند بيع أحد النصفين دون الآخر إذ وقت بيع النصفين واحد، فإذا استحلف على النصف الذي باعه على الثبات لا يمكنه الحلف لو كان به العيب فيحصل ما هو المقصود من الاستحلاف وهو النكول فاكتفى باليمين على الثبات في النصف الذي باعه مورثه، ولم يجعل على القلب، باعتبار أن اليمين على الثبات أقوى من اليمين على العلم، فإن في اليمين على الثبات يحنث، علم بالعيب أو لم يعلم، وفي اليمين على العلم لا يحنث ما لم يعلم بالعيب، والأقوى ينوب عن الأضعف أما الأضعف لا ينوب عن الأقوى، بخلاف ما لو كان البيع بصفقتين متفرقتين فقد تصور أن يكون العيب عند بيع أحد النصفين دون الآخر؛ لأن وقت بيع أحد النصفين غير وقت بيع النصف الآخر فلو اكتفى بالاستخلاف على النصف الذي باعه يمكنه الحلف إذا لم يكن العيب قائمًا وقت بيعه، وبخلاف ما إذا كان مورثه حيًا؛ لأن هناك ربما يكون أحدهما أودع من صاحبه فينكل بنوع اشتباه لا ينكل به الآخر، فكان في استحلاف كل واحد منهما فائدة، أما هاهنا فبخلافه، وبخلاف ما إذا خاصمه في أحد النصفين فحلف البائع، ثم خاصمه في النصف الآخر حيث لا يكتفي باليمين الأولى ولا ثبوت الأولى عن الثانية؛ لأن اليمين في النصف الأول لسبق الدعاوي في النصف الآخر، ولا يعتبر اليمين قبل الدعوى، أما هاهنا وجدت الدعوى في النصفين فجاز أن ثبوت اليمين في النصف الذي باعه عن اليمين في النصف الذي باع مورثه.
قال في (الجامع) أيضًا: متفاوضان باعا عبدًا، ثم غاب أحدهما وطعن المشتري في العبد بعيب، فله أن يخاصم هذا الحاضر ويحلفه؛ لأن كل واحد منهما أصيل فيما باع وكيل عن صاحبه في الخصومة وكفيل عنه فيما التزم، وصاحبه التزم تسليم العبد سليمًا فيكون كفيلًا عنه في ذلك، فلهذا يحلف، فإن نكل لزمه وإن حلف لم يلزمه، فإن حلف الحاضر، ثم حضر الغائب فأراد المشتري استحلافه كان له ذلك؛ لأن صاحبه فيما باشر لكونه أصيلًا فيحلف الآخر لكونه كفيلًا؛ لأن تحلف الأصيل لا يسقط الحلف عن الكفيل وفيما باشر هذا الذي حضر آخرًا استخلف الأول لكونه كفيلًا فيحلف الذي حضر لكونه أصيلًا؛ لأن تحلف الكفيل لا يسقط حلف الأصيل.
فرق بين هذا وبين ما إذا وجب لهما حق على رجل فاستحلف أحدهما الخصم، ثم حضر الأخر ليس له أن يستحلفه؛ لأن الاستحلاف يحتمل النيابة من جانب الطالب فصار استحلاف أحدهما لكونه وكيلًا عن الآخر كاستحلافهما، فأما في مسألتنا الكلام في الحلف والحلف لا يحتمل النيابة، وإنما يحلف كل واحد منهما فيما باع صاحبه بحكم الكفالة لا بحكم النيابة، وحلف الكفيل لا يسقط حلف الأصيل، ثم فرق بين الاستخلاف والحلف في جريان النيابة وعدم جريانه، والفرق: أن ما هو المقصود من اليمين للمدعي لا يفوت بالنيابة في الاستحلاف؛ لأن المقصود بكون المدعي عليه، وفي هذا استحلافه واستحلاف ما بينه سواء، أما هذا المقصود يفوت بالنيات في الحلف؛ لأن كل من وجب عليه اليمين يثبت فاسقًا لا يتورع عن اليمين الكاذبة فلهذا افترقا، ثم كيفية التحليف أنه يحلف الحاضر منهما بالله لقد باعه النصف وسلمه وما يعلم بهذا العيب، فإذا حضر الآخر حلف على هذا الوجه أيضًا إن كان العقد بصفقتين بالاتفاق، وكان صفقة واحدة فكذلك عند محمد وعند أبي يوسف يستحلف يمينًا واحدة على الثبات في النصف الذي باع، وقد مر هذا فيما تقدم.

.نوع آخر في اختلاف الواقع فيه:

وعن محمد في (الإملاء): إذا اشترى الرجل من آخر عبدين بألف درهم صفقة واحدة ووجد عيبًا بأحدهما بعد ما قبضهما، ثم اختلفا في قيمتهما يوم وقع البيع فقال المشتري: كان قيمة المعيب ألفي درهم وقيمة الآخر ألف درهم، وقال البائع: على عكس هذا، لم يلتفت إلى قول واحد منهما، وينظر إلى قيمة العبدين يوم يختصمان فيه، فإن كانت قيمة كل واحد منهما يوم الخصومة ألف درهم رد المعيب خاصة بنصف اليمين بعد ما حلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه.
وإن أقاما جميعًا البينة على ما ادعيا أخذ بنيتهما جميعًا فيما ادعيا من الفضل فيجعل قيمة المردود ألفي درهم على ما شهد به شهود المشتري ويجعل قيمة الآخر ألفي درهم على ما شهد به شهود البائع فيرد المشتري المعيب يتضمن الثمن.
ولو مات أحدهما والآخر قائم ووجد بالقائم عيبًا واختلفا في قيمة القائم، وفي قيمة الميت ولا بينة لهما، فالقول قول البائع في قيمة الهالك، فالبينة بينة البائع أيضًا، ولو لم يقيما بينة على قيمة الهالك، وأقاما البينة على قيمة الحي فالبينة بينة المشتري.
وفي (النوازل): اشترى خلًا في خابية وحمله في جرة له فوجد فيهما فأرة ميتة فقال البائع: هذه الفأرة كانت في جرتك، وقال المشتري: لا بل كانت في خابيتك فالقول قول البائع؛ لأنه ينكر العيب.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): اشترى دهنًا بعينه في آنية بعينها وأتى على ذلك زمان فلما فتح رأس الآنية وكان رأسها مشدودًا منذ قبضها ووجد فيها فأرة ميتة وأنكر البائع أن تكون في يده فالقول قول البائع؛ لأنه ينكر العيب وتأويل المسألة إذا كان رأسها مشدودًا وقت القبض ولم يعلم انفتاحها بعد ذلك إلى أن وجد فيه الفأرة ولا عدمه، أما لو عرف استمرار الشد وعدم انفتاح رأس الآنية التي وجد فيها الفأرة فالقول للمشتري وله الرد.
وإذا اشترى عبدًا وقبضه، ثم جاء به وقال: وجدته محلوق اللحية وأنكر البائع فالقول قول البائع، فإن أثبت المشتري أنه محلوق اللحية اليوم، فإن لم يكن أتى على البيع وقت يتوهم خروج اللحية عند المشتري له أن يرد؛ لأنه العيب عند البائع وإن كان أتى على البيع مثل ذلك لم يرد ما لم تقم البينة أنه كان محلوق اللحية على البائع أو يستحلفه فينكل.
وإذا ادعى المشتري عيبًا بالمبيع والبائع يعلم أن هذا العيب كان به وقت البيع وبينه أن لا يأخذها حتى يقضي القاضي عليه بردها؛ لأنه لو أخذها بغير قضاء لم يكن له أن يردها على بائعه.
وفي (المنتقى): رجل باع من آخر عبدًا وقبضه المشتري وطعن به لعيب، وقال: اشتريته اليوم ومثله لا يحدث في اليوم، وقال البائع: بعته منذ شهر ومثله يحدث في الشهر فالقول للبائع.
وفيه أيضًا: اشترى من آخر جارية ووجد بها عيب فخاصم البائع إلى صاحب الشرطة والسلطان لم يوله الحكم فقضى على البائع وردهما إليه وقضى للمشتري بالثمن كله وبيع المشترى (قبل) أن يأخذ الثمن منه؛ لأنه يعلم أن البائع قد كان دلّس العيب.
وفيه أيضًا: اشترى دابة وأراد أن يردها بعيب فقال البائع: قد ركبتها في حوائجك بعدما علمت بالعيب، وقال المشتري: لا بل ركبتها لأردها عليك فالقول قول المشتري، وتأويل المسألة على قول بعض المشايخ: إذا كان لا يمكنه الرد إلا بالركوب.
وفيه أيضًا: رجل اشترى من رجل غلامًا بجارية ووجد مشتري الجارية بالجارية عيبًا وردها واختلفا في الغلام فالقول قول الذي في يده الغلام.
وفيه أيضًا: رجل باع من آخر جارية وقال: بعتها وبها قرحة في موضع كذا وجاء المشتري بالجارية ولها قرحة في ذلك الموضع وأراد ردها، فقال البائع: ليست هذه القرحة، والقرحة التي أقررت بها قد برئت وهذه قرحة حادثة عندك، فالقول قول المشتري، وكذلك لو قال البائع: بعتها وإحدى عينيها بيضاء وجاء المشتري بالجارية وعينها بيضاء، وأراد أن يردها فقال البائع: كان البياض بعينها اليمنى وقد ذهب وهذا بياض حادث بعينها اليسرى، وكذلك إذا قال البائع بعتها: وبرأسها شجة إلى آخر المسألة، فإن قال البائع: في فصل الشجة كانت شجته موضحة فصارت منقلة عندك، فالقول قول البائع في هذا، وكذلك في فصل بياض العين لو قال البائع: كانت نكتة بياض ازداد عندك والعين مبيضة كلها أو عامتها فالقول قول البائع، وإن كانت بعينها نكتة بياض فقال البائع، كان البياض مثل الخردل أقل من هذا إذا جاء من هذا أمر متقارب جعلت القول قول المشتري، وإن تفاوت فالقول قول البائع.
ولو قال: بعتها وبها حمى فجاء المشتري محمومة يريد ردها فقال البائع: زادت الحمى لا يصدق البائع وكان للمشتري أن يردها، ولو قال البائع: بعتها وبها عيب وجاء المشتري وبها عيب وأراد ردها فقال البائع: لم يكن بها هذا العيب وإنما كان كذا وكذا فالقول قوله؛ لأن العيوب مختلفة.
ولو قال: بعته وبه عيب في رأسه فجاء به المشتري وأراد إن يرده بعيب برأسه فالقول قول المشتري أنه هذا العيب وإن كذبه البائع.
والحاصل: أن البائع إذا نسب العيب إلى موضع وسماه فالقول قول المشتري، وإذا لم ينسب إلى موضع بل ذكره مطلقًا فالقول قول البائع.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): إذا اشترى جارية وقبضها، ثم ادعى أن لها زوجًا وأراد ردها فقال البائع: كان لها زوج عندي ولكن مات عنها أو طلقها وانقضت عدتها، ثم بعتها فالقول قول البائع؛ لأنه ينكر ثبوت حق الرد؛ لأن النكاح إنما يثبت حق الرد على تقدير البقاء، فإذا أنكر البقاء إلى وقت البيع فقد أنكر ثبوت حق الرد، وإن قال البائع: كان لها زوج فلان عين الزوج إلا أنه طلقها قبل البيع فكذلك الجواب القول قول البائع ما دام الزوج غائبًا، فإذا حضر الزوج، فإن صدق البائع في الطلاق لا يثبت للمشتري حق الرد؛ لأنه لم يثبت العيب وإن كذبه وقال: ما طلقتها فالقول قول الزوج؛ لأنهم اتفقوا على وجود النكاح ولم يثبت الطلاق بمجرد قول البائع فكان للمشتري حق الرد بعيب النكاح، وهذا الفصل مشكل؛ لأن ثبوت النكاح هاهنا مضاف إلى تصديق المشتري، فإنه لولا تصديق المشتري ما ثبت النكاح بإقرار البائع، لحصول الإقرار بعد زوال ملكه، وحصول العيب مضافًا إلى المشتري لا يثبت له حق الرد، وإن قال البائع: كان لها زوج بعد البيع إلا أنه طلقها منذ التسليم، أو قال: بعد التسليم لم يقبل قوله؛ لأن البائع أقر بقيام النكاح وقت البيع، ثم ادعى ردًا له والمشتري ينظر.
ولو كان لها زوج عند المشتري فقال المشتري للبائع: قد كان هذا الزوج عندك وقال البائع: كان زوجها عندي غير هذا وطلقها ذلك الزوج أو مات عنها، وقال المشتري: بل هو هذا فالقول قول البائع ولا يكون للمشتري حق الرد؛ لأن ما أقر به البائع بطل بتكذيب المشتري وما ادعاه المشتري لم يثبت لعدم تصديق البائع بخلاف ما تقدم؛ لأن هناك اتفقا على عيب واحد متصل بالعقد فكان القول قول من ينكر زواله.
واستشهد محمد رحمه الله في (الكتاب) فقال: ألا ترى أن رجلًا لو اشترى عبدًا أو قبضه فمات عند المشتري فادعى المشتري أن البائع باعه وبإحدى عينيه بياض ومات هو كذلك؟ وقال البائع: كان ذلك لكنه زال قبل البيع فالقول قول البائع، ولو قال: زال عنه بعد البيع فالقول قول المشتري، ولو قال البائع: كان البياض بعينه اليمنى فزال عندك وقد حدث البياض عندك باليسرى، وقال المشتري: بل البياض عندك كان باليسرى كان القول قول البائع. إن ما أقر به البائع بطل بتكذيب المشتري وما ادعاه المشتري لم يثبت لعدم تصديق البائع بخلاف ما تقدم؛ لأن هناك اتفقا على عيب واحد متصل بالعقد فكان القول قول من ينكر زواله.
قال في (الجامع) أيضًا: رجل اشترى من آخر جارية، ثم أقام بينة أن لها زوجًا معروفًا غائبًا لا قبل هذه الشهادة؛ لأن هذه بينة قامت لغائب أو على غائب وليس عنه خصم حاضر، وطعن أبو حازم القاضي في جواب هذه المسألة فقال: ينبغي أن يقبل هذه البينة؛ لأن الحاضر يدعي لنفسه حق الرد ولا يتوصل إلى إثباته إلا من بعد إثبات حق الغائب، وهو النكاح في مثل هذه الصورة ينتصب الحاضر خصمًا عن الغائب في إثبات حقه إذا كان للحاضر حق فيما هو حق للغائب، أو يكون ما هو حق الغائب سبب حق الحاضر أما إذا لم يكن فلا.
ألا ترى أن من تزوج امرأة فادعت أنه كان تزوج أختها قبلها وأقامت على ذلك بينة والأخت غائبة لا تقبل بينتها؟ وإن كان لو ظهر نكاح أختها حصل الخلاص عن حبالة هذا الزوج، ولكن قبل لما لم يكن لها حق في نفس النكاح، ولم يكن النكاح سبب حقها لم تثبت هي خصمًا عن أختها، إذا ثبت هذا فنقول: حق الغائب النكاح والنكاح ليس حق الحاضر ولا يثبت حقه في الرد بالعيب والنكاح ليس بسبب للرد بل الموجب للرد التزام البائع تسليم المعقود عليه سليمًا، ولكن ظهور العيب كما أن عند ظهور الإحصان يجب الرجم بزنا المحصن لا بنفس الإحصان، وكما أن عند يسار الحالف تجب الكفارة بالعتق باليمين لا ننفس اليسار فكذا هاهنا، وإذا لم يكن للحاضر حقًا في النكاح ولم يكن النكاح سبب حق الحاضر لا ينتصب الحاضر خصمًا عن الغائب.
وكذلك لو شهد الشهود أن لها زوجًا ولم يعرفوه فشهادتهم باطلة؛ لأنهم شهدوا بالنكاح لمجهول، ولو شهدوا بالنكاح لغائب معروف لا تقبل شهادتهم، فإذا شهدوا لغائب مجهول أولى. ولو شهدوا على إقرار البائع أن لها زوجًا معروفًا غائبًا، أو على إقراره بأن لها زوجًا مجهولًا صح؛ لأن هذه شهادة على إقرار البائع وهو معلوم حاضر بخلاف الوجه الأول على ما مر.
قال في (الكتاب): ألا ترى أنه لو شهد الشهود أن لفلان على فلان شيئًا أو غصب منه شيئًا كان باطلًا، ولو اشهدوا على إقراره أنه غصب من فلان شيئًا كان ذلك جائزًا؟ فكذا هنا، وهناك كذلك وإذا قبلت الشهادة ظهر النكاح فكان للمشتري أن يردها مع يمينه بالله ما يعلم أن الزوج مات عنها أو طلقها طلاقًا بائنًا، هكذا ذكر في (الجامع) من مشايخنا من قال: هذا إذا ادعاه البائع فأما بدون الدعوى فالقاضي لا يحلف المشتري؛ لأنه نصب لفصل الخصومات، وذلك إنما يكون عند الدعوى، والأصح أن القاضي يحلف المشتري على هذا في الحالين صيانة لقضائه.
وإذا اشترى خادمًا وقبضه وطعن بعيب فيه فجاء بالخادم ليرده فقال البائع: ما هذا بخادمي، وقال المشتري: هذا خادمك الذي اشتريته فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن المشتري لا يملك الفسخ بخيار العيب إلا بقضاء أو رضاء ولم يوجد قضاء فلم ينفسخ البيع، بفسخه نفى المشتري بما يدعي في هذا العين المعين مدعيًا حق الفسخ لنفسه والبائع ينكر فيكون القول قول البائع، كما لو تصادقا أن المبيع هذا إلا أن المشتري ادعى عيبًا فيه آخر والبائع ينكر، وهناك القول قول البائع كذا هاهنا.

.نوع آخر منه:

رجل قال لآخر: إن عبدي هذا أبق فاشتره مني فقال له الآخر: بكم تبيعه فقال: بكذا فاشتراه منه، ثم وجده المشتري آبقًا فليس له أن يرده، فإن باعه المشتري من آخر فوجده المشتري الثاني آبقًا فأراد أن يرده وأنكر المشتري الأول أن يكون آبقًا فأقام المشتري الثاني بينة على مقابلة البائع الأول لم يستحق به شيئًا؛ لأن البائع الأول أخبر أن عبده أبق لكن لم يجعل ذلك وصفًا للإيجاب فلم يصر إيجاب المشتري منتظمًا لذلك، فلم يصر المشتري مقرًا بذلك العيب وصار البائع الأول معترفًا بإباقة، واعترافه حجة عليه وليس بحجة على المشتري الأول.
ولو قال البائع الأول للمشتري الأول: بعتك هذا العبد على أنه أبق أو على أني بريء من إباقه والمسألة بحالها كان للمشتري الآخر أن يرده على المشتري الأول؛ لأن البائع الأول جعل الإباق وصفًا لإيجابه فصار جواب المشتري قبولًا لذلك الوصف، كأنه قال: اشتريته على أنه آبق، ولو قال هكذا كان مقرًا بإباق العبد كذا هنا. ولو قال البائع الأول: بعت على أني بريء من الإباق ولم يقبل من إباقه لم يرده المشتري الآخر على المشتري الأول ما لم يقم البينة على أنه باعه وهو آبق؛ لأن البائع وإن جعل الإباق صفة لإيجابه إلا أنه ذكر الإباق مطلقًا غير مضاف إلى العبد فصار إيجاب المشتري منتظمًا كذلك على سبيل الإطلاق وبهذا لا يصير مقرًا بوجود العيب فيه، ألا ترى أن البيع قد يكون بشرط البراءة عن كل عيب وذلك لا يكون إقرارًا بوجود كل عيب فيه بخلاف قوله على أني بريء من إباقه؛ لأنه أضاف الإباق إلى العبد بالهاء الذي هو كناية عنه فصار جواب المشتري قبولًا بذلك الوصف فصار مقرًا بذلك أما هاهنا فبخلافه.
وفي (المنتقى): رجل أقر على عبده بدين، ثم باعه من آخر ولم يذكر الدين، ثم باعه المشتري من آخر ولم يذكر الدين، فإن للمشتري الآخر أن يرده على بائعه بذلك الإقرار الذي كان من البائع الأول؛ لأن الدين لازم للغريم أن يرد البيع فيه وليس هذا كالإقرار بالإباق قبل البيع وبعده في حق فسخ البيع الآخر بين المشتري الآخر وبين بائعه الذي لم يقر بالإباق، والإقرار بالزوج كالإقرار بالدين في أن المشتري الآخر يرد على بائعه بالإقرار الذي كان من البائع الأول.
وفيه أيضًا: رجل أقر أن أمته أبقت منه، ثم وكل وكيلًا أن يبيعها ولم يبين أنها آبقه فباعها مأموره وكتم ذلك الإقرار وتقابضا، ثم علم المشتري بذلك الإقرار وأراد ردها به على بائعه وكذبه بائعه وقال: لم تأبق، أو كان الإقرار من المولى بعد ما باع الوكيل وتقابضا فليس للمشتري أن يردها على الوكيل.
ألا ترى أن المضاف أو شريك العنان لو باع أمة، ثم أقر رب المال أو الشريك بعيب فيها ليس بظاهر لم يكن للمشتري أن يردها على البائع بذلك الإقرار، ولو أن الموكل قال للوكيل إن عبدي آبق فبعه وابرأ من إباقه، فباع الوكيل ولم يبرأ من الإباق، ثم علم المشتري بمقالة الموكل قبل القبض فله أن يرده بذلك، وليس هذا كالمسألة الأولى التي لم يبين رب العبد فيها الإباق للوكيل، فإن هناك لا يجوز إقراره على بعض بيع الوكيل.
قال: ولو كان هذا في رب المال والمضارب لم يكن للمشتري أن يرده بإقرار رب المال على المضارب علل فقال: لأن رب المال لو نهى المضارب عن البيع كان له أن يبيعه.
وفيه أيضًا: لو وكل رجلًا ببيع عبد له فأقر الوكيل أنه أبق ولا يعلم أنه أقر به قبل الوكالة أو بعد الوكالة، ثم باع العبد من رجل وتقابضا، ثم اطلع على مقالة الوكيل فله أن يرد على الوكيل، وليس للوكيل أن يرده على الموكل، ولو كان المشتري سمع إقرار الوكيل بذلك قبل البيع، ثم اشتراه منه لم يكن له أن يرده على الوكيل.
وفيه أيضًا: إذا باع رجل من رجل عبدًا وأقر البائع والمشتري بإباقه وكان ذلك منهما في عقد البيع، ثم باعه المشتري من آخر وكتم الثاني من الآخر على أنه مأمون وليس بآبق، ثم علم المشتري الآخر بالإباق وبما جرى بين البائع الأول والمشتري الأول من إقرارهما وقت جريان البيع لم يكن له أن يرده، ولا يكون إقرار المشتري الأول بإباقه نافذًا على من لم يشتر منه من الباعة.
ولو أن المشتري الأول اشتراه من غير إقرار منه ومن البائع الأول بإباقه، ثم أقام المشتري الأول بينة على إباقه ورد القاضي على البائع الأول، ثم إن البائع الأول باعه من ذلك المشتري أو من رجل آخر، وباعه المشتري من رجل وباعه المشتري الثاني من رجل آخر، ثم علم المشتري الآخر بالإباق وبما جرى بين المشتري الأول وبائعه من رد القاضي العبد عليه بالإباق ببينة قامت فله أن يرد على بائعه؛ لأن البينة حجة في حق الناس كافة.
وفيه أيضًا: إذا اشترى من آخر جارية، ثم ادعى أنها آبقة وأقام البينة على إباقها وردها القاضي بذلك أقام رجل بينة أنها أمته ولدت في ملكه وقضى القاضي له بالجارية، ثم باعها مأمونة فخاصمه المشتري في إباقها واحتج عليه بحكم الحاكم بالإباق فله أن يردها.
رجل اشترى عبدًا فساومه رجل فيه فقال له المشتري: اشتره مني، فإنه ليس به عيب فلم يتفق بينهما بيع، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيبًا يحدث مثله فخاصم فيه البائع وأقام بينة أنه كان عند البائع وأقام البائع بينة أنه قال عند المساومة: اشتر مني، فإنه لا عيب به لا يلتفت إلى هذه البينة ويقضى بالرد على بائعه؛ لأن بإقالة المشتري كذب معين؛ لأن هذا نفي لكل العيوب والإنسان لا يخلو عن قليل العيب عادة، ومن العيوب بالآدمي ما لا يقف عليه غيره غالبًا فيسقط اعتبار حقيقة هذا اللفظ حمل على المجازة هو ترويج السلعة. ولو قال للذي ساومه: اشتر فإنه ليس به عيب كذا فلم يتفق بينهما بيع، ثم إن المشتري ادعى ذلك العيب وأراد أن يرده على بائعه بذلك فليس له ذلك؛ لأن العمل بحقيقة ممكن؛ لأن الآدمي يخلو عن عيب واحد معين فكان ذلك منه إقرار في ذلك العيب فلا تسمع دعوى وجود ذلك العيب منه بعد ذلك.
ولو كان مكان العبد ثوبًا وباقي المسألة بحالها، لا تسمع دعواه ولا يرده على بائعه في الوجهين جميعًا؛ لأنا لم نتيقن بكذبه؛ لأن عيوب الثوب مما يوقف عليه ولو كان العيب مما يحدث مثله أصلًا أو لا يحدث مثله في هذه المدة رد القاضي العبد على بائعه؛ لأنه صار مكذبًا فيما أقر حقيقة، ولو صار مكذبًا فيما أقر شرعًا ليس أنه يلتحق إقراره بالعدم كذا هنا.

.نوع آخر منه:

وإذا أصاب الإمام والجند غنائم في دار الحرب فأخرجوها إلى دار الإسلام فباع الإمام أو بعض أمنائه الغنائم لمصلحة رآها حتى جاز البيع، فوجد المشتري بجارية عيبًا لا يدري أكان العيب يوم الشراء أو لم يكن، لم يكن له أن يخاصم الإمام في الرد بالعيب؛ لأن بيع الإمام خرج على وجه القضاء بالنظر للغانمين، ولو صار خصمًا في هذا البيع خرج بيعه من أن يكون قضاء، فإن القاضي لا يصلح خصمًا.
وإذا عرفت هذا الحكم في حق القاضي فكذا في حق أمينه؛ لأن أمنيه نائب عنه هذا بخلاف ما إذا نصب الإمام وصيًا عن الميت بالتصرف حيث تلحقه العهدة؛ لأنه نائب الميت ولكن ينصب القاضي، والميت كان يصلح خصمًا في حياته فكذا نائبه.
وإذا لم يصلح الإمام خصمًا ولا نائبه كان للإمام أن يجعل أمينه خصمًا للمشتري ابتداء وإن شاء نصب آخر دفعًا للضرر عن المشتري، فإن أقام المشتري البينة على الخصم أن العيب كان بالجارية يوم اشتراها ردها عليه، وإن لم يكن أراد استحلاف من يخاصمه لا يستحلف؛ لأن المقصود من الاستحلاف النكول الذي هو قائم مقام الإقرار، ولو أقر هذا الخصم بالعيب لا يصلح إقراره للمعنى الذي قلنا فكذا هذا الذي نصبه الإمام إذا أقر لا يصلح إقراره، وإذا لم يصح إقراره لما قلنا فالقاضي يخرجه عن الخصومة وينصب للمشتري خصمًا آخر؛ لأنه لا وجه إلى الخصومة مع هذا الخصم؛ لأنه مقر بالعيب فينصب خصمًا آخر نظرًا للمشتري وإذا نصب القاضي خصمًا آخر ورد المشتري الجارية على هذا الخصم الآخر ببينة أقامها فالقاضي يبيع الجارية ويوفي المشتري ثمنها، فإن كان الثمن الثاني مثل الثمن الأول فيها، وإن كان أنقص أعطاه الفضل من بيت المال، وإن كان الثمن الثاني أفضل جعل الفضل للفقراء إن كانت الجارية من الخمس، وإن كانت من الأربعة الأخماس جعل الفضل في بيت المال؛ لأن ذلك حق الغانمين وتعذر صرفه إلى كل الغانمين لكثرتهم وتفرقهم، وتعذر صرفه إلى بعض الغانمين لما فيه من إبطال حق البعض فكان بمنزلة اللقطة فيوضع في بيت المال، هذه الجملة من بيوع (الجامع).
وفي (المنتقى): رجل اشترى عبدًا وباعه من أبيه، ثم مات الأب، والابن وارثه، لا وارث له غيره، ثم وجد الابن بالعبد عيبًا قديمًا لم يستطع رده وذكر عين هذه المسألة في (الزيادات) وزاد ثمة وباعه من مورثه في صحته، ثم مات المورث، وورثه هذا البائع لا وارث له غيره، ثم وجد بالعبد عيبًا قد كان دلّسَهُ البائع الأول لا يكون له أن يرده؛ لأنه لا وجه إلى الرد على البائع الأول؛ لأن الملك هو المستفاد من جهة البائع الأول قد انعدم ببيع الوارث عن المورث، ولا وجه إلى الرد على نفسه؛ لأنه لو رد لرد لنفسه فيصير الواحد رادًا ومردودًا عليه وأنه لا يجوز، ولا ينصب القاضي هنا وصيًا عن الميت؛ لأنه لو نصبه إما أن ينصبه ليرده على الوارث أو على البائع الأول، ولا وجه إلى أن يرده على البائع الأول؛ لأنه ما جرى بينهما معاقدة والسبب المتحلل قائم، ولا وجه إلى أن يرده على الوارث؛ لأن في هذا إيجاب المورث الدين على الوارث بعد الموت وإنه مستحيل إذا لم يكن وارث آخر؛ لأن ما يجب من الدين للمورث على الولد بملك الوارث كما يملك سائر أملاكه.
وإذا ملك ما على نفسه يسقط ضرورة أن الإنسان لا يثبت له على نفسه دين فلم يكن في إيجاب الدين للمورث على الوارث فائدة.
قال مشايخنا رحمهم الله: وهذا إذا لم يكن على الميت دين فأما إذا كان عليه دين، فالقاضي ينصب خصمًا للميت ليرد العبد على الوارث ولا يملك الوارث ما عليه؛ لأن دين المورث يمنع وقوع الملك للوارث فكان الرد مقيدًا بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين.
قال في (المنتقى): ولو كان مع هذا الابن ابن آخر ذلك الآخر خصمًا فيه يرده على ابن البائع، ثم إنه يرده على بائعه.
وفي (الزيادات) أيضًا: رجل اشترى عبدًا وباعه من وارثه في صحته بثمن معلوم وقبض الثمن، ثم مات البائع وورثه هذا المشتري، ولا وارث له غيره، ثم وجد به عيبًا كان له أن يرد فينصب القاضي وصيًا عن الميت ليرده الوارث عليه، والرد هاهنا مفيد إذ لا يستحيل وجوب الدين للوارث على مورثه بعد الموت، ألا ترى أنه إذا حفر بئرًا على قارعة الطريق ومات ووقع فيها دابة الوارث وهلكت وجبت قيمة الدابة للوارث على المورث إلا أنه لا يمكنه الخصومة مع المورث والرد عليه فينصب القاضي وصيًا عن المورث ليرد عليه الوارث، فإذا رد ارتفع السبب المتحلل بقضاء القاضي وعاد الملك المستفاد من جهة البائع الأول فيرده الوصي على البائع الأول ويأخذ الثمن منه ويدفعه إلى الوارث، فإن قبل رد الوارث إنما يكون للرجوع بالثمن ورجوع الوارث بالثمن يكون في تركة الميت وتركة الميت سالمة للوارث بغير مزاحم، فأي فائدة له في هذا.
قلنا: التركة سالمة للوارث إرثًا وبالرد والرجوع تسلم له التركة اقتضاء لدينه، وفيه فائدة حتى لا يتقدم عليه غريم آخر ولا يزاحمه وارث آخر إن ظهر، وهذا إذا نقده الثمن، فأما إذا لم ينقده الثمن لا يكون له الرد إذا لم يكن معه وارث آخر؛ لأنه لا فائدة في الرد في هذه الصورة؛ لأن فائدة الرد في مثل هذه الصورة استفادة البراءة عن اليمين وقد استعاد البراءة بالموت لاستحالة أن يجب للميت على وارثه دين.
وفي (المنتقى): رجل اشترى لنفسه من ابنه الصغير وأشهد على ذلك، ثم وجد به عيبًا فأراد أن يرده لنفسه على ابنه، ثم يرد لابنه على بائعه فليس له ذلك، ولكن بأن القاضي حتى يجعل لابنه خصمًا يرده عليه، ثم يرده الأب لابنه الصغير على الذي اشتراه منه. وكذلك لو كان الأب باع من ابنه الصغير عبدًا أو قبضه لابنه من نفسه، ثم وجد به عيبًا وأراد رده على نفسه لابنه.
وفيه أيضًا: رجل باع عبدًا بأمة وتقابضا، ثم وجد مشتري الأمة بالأمة إصبعًا زائدًا وردها عليه بقضاء قاض وأخذ العبد، ثم إن مولى الأمة اطلع على أن مشتري الأمة قد كان وطئها قبل أن يستردها، والوطء لا ينقصها شيئًا وذلك بعدما ماتت الأمة في يدي الذي ردت إليه أو بعد ما باعها فليس له شيء، قال: لأنه قد كان له أن يرد الأمة ويأخذ العبد.

.نوع آخر في المكاتب والمأذون يردان بالعيب:

قال محمد رحمه الله في (الزيادات): مكاتب اشترى ابنه لم يستطع بيعه؛ لأنه كما اشتراه صار مكاتبًا عليه على ما عرف، والمكاتب لا يباع، فإن وجد به عيبًا لا يرده بالعيب؛ لأن الكتابة تمنع البيع فيمنع الرد ولا يرجع بنقصان العيب، واختلفت عبارة المشايخ فيه بعضهم قالوا: لأن الكتابة كما تمنع الرد تمنع الرجوع بنقصان البيع؛ لأن الكتابة في معنى البيع من حيث إنها معاوضة قابلة للفسخ، والبيع كما يمنع الرد بالعيب يمنع الرجوع بنقصان العيب، وبعضهم قالوا: لأن الملك بهذا الشراء وقع للمولى فكأن المكاتب اشتراه، ثم باعه من المولى، ثم اطلع على عيب به، والبيع يمنع الرجوع بنقصان العيب وبعضهم قالوا: لأن الرجوع بنقصان العيب خلف عن الرد ولهذا لا يصار إليه مع القدرة على الرد، إنما يظهر حكم الخلف عند وقوع الناس عن الأصل ولم يقع الناس عن الأصل هاهنا؛ لأن الكتابة قابلة للفسخ يمكن الرد، فإن عجز المكاتب الذي اشترى ابنه كان له أن يرده بالعيب؛ لأن المانع من الرد الكتابة وقد ارتفعت الكتابة بالعجز والرد في الرق فارتفع المانع، والمكاتب هو الذي يلي الرد والخصومة فيه؛ لأن العاقد هو، فإنه هو المشتري، فإن لم يخاصم المكاتب في ذلك حتى لو باعه المولى أو مات كان الرد إلى المولى؛ لأن الملك للمولى، والمكاتب كان في معنى الوكيل عن المولى ألا ترى أنه يقع الرد عائدًا إلى المولى وحكمه واقع له؟ فإذا تعذر الرد من جهة المكاتب بالموت أو بالبيع صار كالوكيل بالشراء إذا مات قبل الرد بالعيب فهناك يثبت للمولى كل حق الرد كذا هنا. ولو أن المكاتب لم يعجز، ولكن أبرأ البائع عن العيب صح إبراؤه حتى لو عجز المكاتب بعد ذلك لم يستطع رده.
فإن قيل: كيف يصح الإبراء عن العيب إسقاط حق الرد وليس للمكاتب هاهنا حق الرد فكيف يصح إسقاطه.
قلنا: سبب حق الرد وجوده وهو التزام البائع بالبيع تسليم المبيع تسليمًا ولكن لم يثبت له حق الرد لمانع، وإسقاط الحق يعتمد سبب ثبوت الحق لاثبوت الحق لامحالة، ألا ترى أن إبراء الآخر المستأجر عن الآخر قبل استيفاء المنفعة صحيح وكذا تسليم الجار المنفعة مع وجود الشريك صحيح وإنما صح لما قلنا. وأقرب من هذا: الحر إذا اشترى عبدًا وكاتبه، ثم وجد به عيبًا ليس له أن يرده ولو أبرأه عن العيب صح حتى لو عجز ورد في الرق ليس له أن يرده، وإنما صح لما قلنا، فإن قيل: الإبراء عن العيب تبرع والمكاتب، ولكن تبرع هو من صنيع التجارة معهم ومثله يملك المكاتب كالتأجيل والإعارة واتحاد الضيافة اليسيرة بأقل من قيمته بما يتغابن الناس في مثله، وكذلك لو أبرأ المولى البائع عن العيب قبل العجز صح إبراؤه؛ لأن الملك للمولى على مامر والمكاتب بمنزلة الوكيل عن المولى، والموكل إذا أبرأ البائع عن العيب صح إبراؤه عن العيب كذا هنا، والذي ذكرنا من الجواب فيما إذا اشترى المكاتب ابنه فهو الجواب فيما إذا اشترى أباه أو أمه.
وأما إذا اشترى أخاه أو عمه أو أخته فهو على قول أبي يوسف ومحمد هو لا يتكاتبون معه فصار الجواب فيهم والجواب في الابن والأب على السواء، وعلى قول أبي حنيفة هؤلاء يتكاتبون معه فيملك ردهم بالعيب كما يملك بيعهم، فإن أبرأ المولى البائع قبل عجز المكاتب لايصح إبراؤه عنده؛ لأن المولى لايملكه لما لم يتكاتب، ولهذا لو أعتقه المولى لايصح إعتاقه فكان أجنبيًا عنه فلم يصح إبراؤه عنه لهذا.
قال: وإذا اشترى المكاتب أم ولده ووجد بها عيبًا إن كان معها ولد لايملك رد بيعها وإنما يملك بيعها؛ لأن الجارية في باب الاستيلاد تبع للولد، قال عليه السلام: «أعتقها ولدها» وقد امتنع الولد هاهنا لما مر فيمتنع بيع الجارية ولكن يرجع بنقصان العيب فرق بين هذا وبين ما إذا اشترى ابنه، ثم وجد به عيبًا فإنه كما لايرده بالعيب لايرجع عليه بنقصان العيب.
والفرق إما على المعنى الأول فلأنه لم يصر مكاتبه، وأما على الثاني؛ فلأنهما لم يصر مملوكه للمولى، وأما على المعنى الثالث؛ فلأن الاستيلاد لا يحتمل الرفع فكان الأصل ميؤوس فيظهر حكم الخلف والمكاتب هو الذي يلي الرجوع؛ لأنه من حقوق العقد والمكاتب هو العاقد فكان الرجوع له إلا أن يموت أو يباع بعد العجز على ما مر، فإن إبراء المكاتب البائع عن العيب قبل العجز صح لما قلنا، وإن إبراء المولى لا يصح؛ لأن المولى أجنبي عنها، فإنها لم تتكاتب عليه ولم تدخل في ملكه، ولهذا لو أعتقها المولى لايصح بخلاف الولد على ما مر، وإن لم يكن معها ولد فكذلك الجواب على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة: له أن يردها بناء على أصل معروف، أن المكاتب إذا ملك أم ولده وليس معها ولد فعلى قولهما تصير أم ولد له ولا يتبعها، وعلى قول أبي حنيفة: لا تصير أم ولد له ويتبعها فهما سواء بينهما إذا كان معهما ولد وجعلها أم ولد له في الحالين.
وأبو حنيفة فرق، ووجه الفرق: أن المكاتب يشبه الحر من وجه ويشبه العبد من وجه فلشبهه بالأحرار جعلها أم ولد له إذا كان معها ولد ولشبهه بالعبيد لا يجعلها أم ولد له إذا لم يكن معهما ولد عملًا بالشبهين جميعًا.
قال: مكاتب أو حر اشترى عبدًا أو كاتبه، ثم وجد به عيبًا لايرده بالعيب لما قلنا: أن الكتابة مانعة أيضًا لما مر أن الكتابة مانعة من الرد بالعيب لكونها مانعة من البيع ولا يرجع بنقصان العيب أيضًا لما مر أن الكتابة في معنى البيع والبيع يمنع الرجوع بنقصان العيب، فإن إبراء المكاتب أو الحر البائع من العيب صح الإبراء حتى لايكون للمكاتب بعد العجز ولا للحر ولاية الرد بالعيب لما مر، ولو أبرأ المولى البائع قبل عجز المكاتب لايصح الإبراء؛ لأن المولى أجنبي عن اكتساب المكاتب وإنما يملك من يكاتب عليه لأجل الضرورة، فإن التكاتب عليه لا يكون إلا بعد الدخول في ملكه.
وكذلك وارث الحر إذا أبرأ البائع لايصح إبراؤه، وإن كان ذلك في مرض موت الحر؛ لأنه لاملك للوارث في مال مورثه في حال حياته، وفي مرض موته له شبهة الملك، والإبراء لا يثبت بالشبهة، ولهذا لو عفى عن جارح مورثه في الخطأ، لايبرأ، وإنما لم يبرأ لما قلنا: وإذا صح الإبراء للحال لايتوقف على ملك يحدث كالوارث إذا أعتق، ثم مات المولى إذا أعتق عبد المكاتب، ثم عجز المكاتب، فإنه لاينفذ لما قلنا، ولو أن المولى أبرأ البائع بعدما عجز المكاتب الأول قبل عجز الثاني صح الإبراء أما بعد عجز الثاني فلأنهما بالعجز صارا ملكًا للمولى، وأما قبل عجز الثاني فلأن يعجز الأول صار الثاني مملوكًا للمولى وصار المولى فيه قائمًا مقام المكاتب ألا ترى أنه كان يصح من المكاتب الأول إبراء البائع قبل عجز المكاتب الثاني؟ فكذا من المولى.
أكثر ما في الباب أن الرد ممتنع، إلا أن سبب حق الرد موجود فحصل الإبراء بعد وجود سبب الحق فيصح على ما مر، وكذا وارث الحر إذا أبرأ البائع بعد موت المورث صح الإبراء؛ لأن الملك والحق له.
وكذلك رجل اشترى عبدًا وباعه من آخر، ثم مات المشتري الأول، ثم ظهر بالعبد عيب كان عند البائع الأول فإبراء وارث المشتري الأول البائع عن العيب صح الإبراء حتى لو رد العبد عليه صح الإبراء لا يستطيع رده على البائع، وإن كان الرد ممتنعًا في الحال وطريقه ماذكرنا.
أورد محمد رحمه الله هذه المسألة لبيان أن صحة الأداء لا تعتمد قيام الحق لامحالة بل كما يصح الإبراء عند قيام الحق يصح عند وجود سببه.
مكاتب اشترى عبدًا وباعه من مولاه وتقابضا أولم يتقابضا حتى عجز المكاتب، ثم وجد المولى به عيبًا لم يرده بالعيب؛ لأنه لو رد إما أن يرد على بائع العبد أو على العبد ولا وجه إلى الأول؛ لأن المولى استفاد ملكًا مبتدأً من جهة العبد فلم يملك الرد على بائع العبد ما لم يعد حكم البيع من العبد، وذلك بالرد على العبد ولا وجه إلى الرد على العبد لعدم الفائدة نيابة أن المولى إن نفذ الثمن ففائدة الرد وجوب الثمن دينًا في ذمة البائع والمكاتب بالعجز صار ملكًا للمولى، والمولي لا يستوجب على مملوكه دينًا، وإن لم ينفذ الثمن ففائدة الرد البراءة من الثمن، والمولى يعجز المكاتب ندى عن الثمن، إذ المملوك لا يستوجب على مالكه شيئًا ومالا يفيد لا يرد الشرع به على ما مر بهذا الطريق.
قلنا: إن من اشترى من آخر عبدًا ولم ينقده الثمن حتى وهب البائع الثمن منه، ثم وجد بالعبد عيبًا لا يرده، وإنما لا يرد لعدم الفائدة على نحو ما قلنا.
ولو كان المولى اشترى العبد أولًا من رجل وباعه من مكاتبه، ثم عجز المكاتب، ثم وجد المولى بالعبد عيبًا وأراد المولى أن يرده على بائعه هل له ذلك؟ لم يذكر هذا الفصل في (الكتاب). قال مشايخنا: وينبغي أن لا يكون له ذلك؛ لأنه باع ما اشترى منه فلا يملك الرد عليه ما لم يرتفع حكم البيع الثاني، وذلك بالرد وتعذر الرد بحكم البيع الثاني؛ لأن البائع الثاني هو المولى فيصير هو الرد والمردود عليه، وإنه باطل، وإذا تعذر الرد بحكم البيع الثاني تعذر بحكم الأول ضرورة عندما دون عليه دين مستغرق لرقبته.
اشترى عبدًا وقبضه، ثم باعه من مولاه، إن باعه بمثل قيمته جاز بيعه بلا خلاف، أما على قول أبي حنيفة؛ فلأن هذا البيع يفيد له ملك العين وملك التصرف؛ لأن دين العبد إذا كان مستغرقًا يمنع الرد وقوع الملك للمولى في أكسابه، وأما قول أبي يوسف ومحمد؛ فلأن هذا البيع إن كان لا يفيد له ملك العين يفيد ملك التصرف؛ لأن دين العبد وإن كان لا يمنع وقوع الملك للمولى في أكسابه يمنع المولى عن التصرف، فهذا البيع يفيد له ملك التصرف، وأنه يكفي لنفاذ البيع أصله: شراء العبد المأذون، فإنه صحيح مع أنه لا يفيد له ملك العين لإفادته ملك التصرف، وكذا شراء رب المال شيئًا من مال المضاربة صحيح، وإنما صح لإفادته ملك التصرف هذا إذا باعه بمثل قيمته، وإن باعه وحابى فيه محاباه فاحشة أو يسيرة لا يجوز، فلم يتحمل في هذا العقد الغبن الفاحش ولا الغبن اليسير.
ومن هذا الجنس مسائل: أحدها هذه، والثانية: المضارب إذا باع ممن لا يقبل شهادته له، فإنه لا يتحمل فيه الغبن اليسير كما لا يتحمل منه الغبن الفاحش.
والثالثة: المريض إذا باع وعليه دين محيط بتركته، فإنه لا يتحمل منه الغبن الفاحش إذا باع رب المال شيئًا من مال المضاربة بعدما صار رأس المال عروضًا، فإنه لا يتحمل منه الغبن اليسير، كما لا يتحمل الغبن (الفاحش)، والأصل منه أن كل من تمكنت التهمة في تصرفه لا يتحمل منه الغبن اليسير ولا الغبن الفاحش، قلنا: والعبد في تصرفه مع المولى متهم بالميل إليه، وكذلك المضارب متهم في بيعه ممن لا تقبل شهادته له، وكذلك المريض منهم لجواز أنه قصد إيثار المشتري على الغرماء، وعلم أنه لو أبرأ بطريق التبرع ينقض تبرعه بمال إلى طريق يروج إيثاره وهو المبيع، وكذلك رب المال متهم؛ لأنه بعدما صار رأس المال عروضًا لا يملك منع المضارب ونهيه عن التصرف لتعلق حقه في الربح، فلعل أنه قصد الإضرار بحرمانه عن الربح، ثم إذا باعه من مولاه بمثل قيمته حتى جاز هذا البيع فقبضه المولى ووجد به عيبًا إن كان للمولى نقد، نقد الثمن لم يملك رده على العبد؛ لأنه لا يفيد؛ لأن فائدة الرد في مثل هذه الصورة الرجوع بالثمن وهو ممتنع هاهنا؛ لأن المولى لا يستوجب على عبده دينًا سواء كان على العبد دين أو لم يكن؛ لأن محل الدين ملكه والإنسان لا يستوجب دينًا في ملك نفسه، ولا يرجع بنقصان العيب على العبد أيضًا؛ لأن ذلك القدر يصير دينًا له في ملكه.
فإن قيل: المولي قد يستوجب على عبده دينًا، فإنه إذا باع شيئًا من عبده المأذون المديون بالدراهم أو الدنانير، فإنه يجوز ويجب الثمن في ذمة العبد، فإن حكم البيع بالدراهم والدنانير وجوب الثمن في ذمة المشتري، على ما عرف من أصلنا: أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات.
قلنا: بيع المولى من العبد المأذون المديون عندنا لا ينعقد موجب الثمن في ذمة العبد، بل ينعقد فيما بين المتعاقدين مفيدًا الملك في الدراهم المعينة عند القبض، على مثال البيع بشرط الخيار للمشتري لا ينعقد موجبًا الثمن في ذمة المشتري؛ لأن خيار الشرط يمنعه، بل ينعقد فيما بين المتعاقدين مفيدًا الملك في الدراهم المعينة عند القبض، وهذا لأن الدراهم والدنانير إن كانا لا يتعينان في عقود المعاوضات يتعينان عند القبض، فينعقد العقد فيما بين المتعاقدين في الحال مفيدًا الملك عند التعيين بالقبض، وهذا الطريق مما لا يمكن بحقيقة في الفسخ فيما بين المتعاقدين من غير أن يعود الثمن دينًا في ذمة البائع، الأصل له في الشرع، وإن أراد المولى أو العبد الرجوع على البائع بشيء لم يكن لهما ذلك، أما المولي، فإنه ما جرى بينهما معاقدة والسبب المحلل قائم، وأما العبد فلأن ما استفاد العبد من الملك من جهته إزالة عن ملكه إلى ملك مولاه، فلا يملك الرد عليه ما لم يعد حكم ذلك الملك بالرد على العبد، هذا إذا كان المولي قد نقد الثمن، وإن لم يكن نقد الثمن كان له أن يرد على العبد؛ لأن الرد هاهنا مفيد؛ لأن فائدة الرد في مثل هذه الصورة سقوط الثمن عن ذمة المولي وبراءته عن دين العبد، ولا يستحيل أن ببراءة المولى عن دين العبد كما لو أداه إلى العبد حقيقة، فإذا رد إلى العبد بقضاء القاضي عاد حكم الملك الذي استفاده العبد من جهة بائعه فكان له أن يرد على بائعه، فإن سقط الدين عن العبد في هذه الصورة مثل رد المولى العبد عليه، ثم أراد المولى رده على العبد لم يكن له ذلك؛ لأن المولى قد برئ من الثمن حين سقط الدين عن العبد، فلم يكن في هذا الرد فائدة فلا يرد هذا الذي ذكرنا إذا كان الثمن دراهم أو دنانير، فإن كان الثمن عرضًا بعينه أو مكيلًا أو موزونًا بعينه، ودين العبد قائم على حاله فوجد المولى بالعبد عيبًا رده على العبد إن كان الثمن قائمًا في يد العبد على حاله؛ لأن الرد مفيد؛ لأن فائدة الرد هاهنا استحقاق لتسلم هذا العين إلى المولى، ولا يمتنع أن يكون في يد العبد عين واجب التسليم إلى المولى، كما لو غصب من مولاه عينًا، وإن كان العبد قد استهلك الثمن لم يكن للمولى أن يرده؛ لأنه لا يفيد؛ لأنه لا يستفيد به عين الثمن وإنما يستفيد قيمته دينا في الذمة والمولي يستوجب على عبده دينًا، وكذلك لو كان العبد باع العبد من المولى بمكيل أو موزون بغير عينه، المولى عند التسليم لم يملك رده؛ لأن حقه لا يعود في المقبوض بعينه، بل في مثله دينًا في الذمة؛ وهذا لأن حق المشتري عند الرد إنما يعود فيما يثبت فيه حق البائع وقت العقد؛ لأن الرد فسخ العقد، والعبد عند العقد استوجب على المولى مكيلًا أو موزونًا دينًا في الذمة فالمولى عند الرد يستوجب على العبد مكيلًا أو موزونًا دينًا في الذمة أيضًا، والمولى لا يستوجب على عبده دينًا فلا يكون في الرد فائدة فلا يرد.
ولو كان العبد المأذون باع العبد من المولى بعرض بعينه أو بمكيل أو موزون بعينه، وقبض المولى العبد ووجد به عيبًا فلم يخاصم العبد في الرد حتى سقط الدين عن العبد لا يملك المولى رد العبد.
وإن كان الثمن قائمًا في يد العبد على حاله؛ لأنه لا يستفيد بهذا الرد شيئًا؛ لأنه كما سقط الدين عن العبد فقد تمكن المولى من أخذ الثمن من يد العبد بدون الرد عليه بخلاف ما إذا كان الدين على العبد على حاله؛ لأن هناك المولى لا يتمكن من أخذ الثمن من يد العبد بدون الرد عليه فكان الرد مقيدًا، أما هنا فبخلافه هذا كله إذا قبض المولى العبد من المأذون، فإن لم يقبضه حتى وجد به عيبًا كان له أن يرده على العبد في الوجوه كلها؛ وإنما كان كذلك؛ لأن قبل القبض الصفقة عين تام لما عرف أن تمام الصفقة بالقبض، ولهذا لا يحتاج في هذا الرد إلى قضاء القاضي، بل يتفرد به العاقد ولما لم تكن الصفقة قبل القبض تامة كان الرد امتناعًا عن إتمام العقد، والعاقد مختار في تحصيل العقد، وإتمامه سواء كانت فيه فائدة حكمته أو لم تكن كما في خيار الرؤية، وخيار الشرط، أما بعد القبض، الصفقة قد تمت، ولهذا لا ينفرد العاقد بالرد بل محتاج فيه إلى قضاء القاضي والقاضي لا يشتغل بما لا يفيد على ما مر؛ ولأن العيب قبل القبض لا حصة له من الثمن، فلا يتوقف صحة الرد بالعيب على استفادته بمقابلته شيئًا ولا شيء بمقابلته، أما بعد القبض له حصة من الثمن، فإذا لم يستفد بمقابلته شيئًا بطل.
وإنما وقع الفرق باعتبار أن الفائت بالعيب وصف، فما دام في يد البائع فهو بيع للمبيع، فلا يكون له حصة من الثمن، وإذا قبضه المشتري فقد احتبس هذا الوصف عند البائع فصار مقصود المكان له حصة من الثمن والأوصاف، وإلا يباع لا لفرد بالعقد فلا يفرد بضمان العقد، إنما يفرد بالفعل فجاز أن يفرد بالضمان الذي يعود إلى الفعل؛ ولأن تقرير الحصة من الثمن المعيب قبل القبض يؤدي إلى التناقض.
بيانه: إنما إذا أقررنا للعيب حصة قبل القبض لا يؤمن من أن يحدث فيه عيب قبل القبض فينتقض التقدير الذي كان؛ لأن العيب الذي يحدث قبل القبض يكون محسوبًا على البائع، وما أدى إلى التناقض يكون باطلًا بخلاف ما بعد القبض، فإنا إذا قدرنا للعيب حصة من الثمن بعد القبض لا يتوهم نقضه بعيب يحدث فيه؛ لأنه يكون محسوبًا على المشتري، فلا يؤدي إلى التناقض فلهذا افترقنا.
واستدل محمد رحمه الله: في (الكتاب) لبيان أن العيب قبل القبض لا حصة له من الثمن بمسألتين:
أحدهما: أن من اشترى عبدًا ووجد به عيبًا قبل القبض فصالحه البائع من ذلك العيب على جارية زيادة في البيع ولم يكن عوضًا عن حصة العيب انقسم الثمن على العبد، وعلى الجارية على قيمتهما ولم تكن حصة الجارية من الثمن حصة العيب، حتى لو وجد بأحدهما عيبًا رده بحصته من الثمن، وإن كان ذلك بعد القبض كانت حصة الجارية من الثمن حصة العيب، حتى لو كان العيب ينقص العيب عشر قيمته كانت حصة الجارية عشر الثمن.
المسألة الثانية: الوكيل بالشراء إذا وجد بالمبيع عيبًا ورضي به، إن كان ذلك قبل القبض لزم الموكل، كأنه اشتراه مع العلم بالعيب، وإن كان ذلك بعد القبض، للعيب حصة من الثمن فوجبت حصة العيب من الثمن للموكل، فصار الوكيل بالرضا بالعيب مبطلًا حق الموكل الذي وجب، وفي العيب قبل القبض.
قال: ولو أن رجلًا اشترى من رجل عبدًا وقبضه ونقد الثمن، ثم باعه المشتري من رجل آخر وهب الثمن من المشتري الثاني وأبرأه منه، ثم إن المشتري الثاني وجد به عيبًا وأراد أن يرده على البائع الثاني ليس له ذلك، ولو كان ذلك قبل القبض كان له ذلك.
والفرق من قبل القبض ما ذكرنا، ولو كان للمشتري الثاني فيه خيار الشرط أو خيار الرؤية والباقي بحاله فله أن يردها قبل القبض وبعد القبض؛ لأن خيار الشرط يمنع انعقاد العقد في حق الحكم، وخيار الرؤية يمنع تمام الصفقة قبل القبض وبعده في ذلك على السواء فكان الرد امتناعًا عن الإتمام فلا يتوقف على الفائدة، وبعد القبض الصفقة تامة فلم يكن الرد امتناعًا عن الإتمام بل كان إلزامًا، فإذا لم يستفد بمقابلته شيئًا لا يشتغل به القاضي، فإنما سوينا في خيار الشرط وخيار الرؤية بينا قبل القبض وبعده، وفرقنا في خيار العيب بينما قبل القبض وبعده.

.نوع آخر في البراءة عن العيوب:

إذا باع شيئًا على أنه بريء من كل عيب صح المبيع وتثبت البراءة عن كل عيب.
وقال الشافعي: لا تصح البراءة وعلى هذا الخلاف الإبراء عن الحقوق المجهولة والصحيح مذهبنا؛ لأن الإبراء إسقاط فيه معنى التمليك، أما إسقاط بدليل أنه صح من غير قبول كالطلاق والعتاق، وأما فيه معنى التمليك بدليل أنه يريد بالرد وأيًا ما كان فالجهالة لا تمنع صحته، أما صحة الإسقاط فظاهر، وإما صحة التمليك؛ فلأن هذا تمليك يحتاج فيه إلى التسليم؛ لأن ما وقعت البراءة عن مسلم لمن وقعت البراءة له، والجهالة إذا لم تمنع التسليم والتسليم لا يمنع صحة التمليك.
كما لو اشترى قفيزًا من صبرة ويدخل في هذه البراءة العيب الموجودة والحادث قبل القبض في قول أبي يوسف، وقال محمد: لا يدخل فيه الحادث، وهذا بناء على أنه إذا باع بشرط البراءة عن كل عيب يحدث بعد البيع قبل القبض هل يصح هذا الشرط عند أبي يوسف يصح، وعند محمد لا يصح، فأما إذا كان من مذهب محمد أن البراءة عن العيب الحادث لا تصح لو نص عليه فعند الإطلاق أولى، وعند أبي يوسف لما صحت البراءة عنه حالة التنصيص عليه فكذا حالة الإطلاق.
وجه قول محمد: أن هذا إبراء قبل وجود السبب لأن سبب الفسخ العيب، فالإبراء قبل وجود العيب يكون إبراء قبل وجود السبب، والإبراء قبل وجود السبب لا يجوز، ولأبي يوسف أن حق المشتري في صفة السلامة مقصودًا، وصفة السلامة تستحق بالعقد لاقتصار مطلق العقد صفة السلامة؛ لأن في الفسخ مقصودًا وصفة السلامة تستحق بالعقد إذن فصار الإبراء عن كل عيب إبراء عما يقتضيه مطلق العقد من صفة السلامة، فكان إبراء بعد وجود السبب؛ لأن سبب استحقاق صفة السلامة العقد، ولو شرط أنه بريء عن كل عيب به لم ينصرف إلى حادث في قولهم جميعًا، وكذلك إذا خص ضربًا من العيوب صح التخصيص، ولو كانت البراءة عامة واختلفا في عيب فادعى المشتري أنه حادث، وقال البائع: كان به يوم العقد فالقول قول البائع في قول محمد، وقال زفر والحسن: القول قول المشتري ولا يتأتى على هذا قول أبي يوسف؛ لأن البراءة العامة عنده تتناول القائم والحادث فلا يفيد هذا الاختلاف على قوله إلا على رواية شاذة عنه: أن البراءة العامة عنده لا تتناول الحادث، على تلك الرواية جواب أبي يوسف في هذه المسألة نظير الجواب عند محمد.
ووجه قول زفر والحسن: أن البراءة تستفاد من جهة المشتري فيكون القول قوله فيما أبرأ، وجه قول محمد: إن الإبراء حصل بصفة العموم فيتناول العيوب كلها، فالمشتري بدعوى حدوث بعضها يدعي خروج شيء بعينه من اللفظ فلا يقبل قوله، ولو كانت البراءة عن كل عيب بها واختلفا على نحو ما ذكرنا فالقول قول المشتري؛ لأن الإبراء يتناول عينًا موصوفًا بكونه في الحال فلا يدخل تحته إلا ما يثبت بالحجة أنه بذلك الوصف.
قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول رجل اشترى من رجل جارية وقال البائع للمشتري: أنا بريء من يدها، ولم يذكر عيبًا قال: هو بريء، قلت: وإن قال أنا بريء منها قال: الإبراء عن العيب؛ لأنه لا يقع هذا على أن البراءة عن العيب في كلام الناس.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل اشترى من رجل ثوبًا وأراه البائع خرقًا فيه فقال المشتري: أبرأتك عن هذا الخرق، ثم جاء المشتري بعد ذلك يريد قبض الثوب، فإذا فيه ذلك الخرق فقال المشتري: ليس هذا الخرق مثل ما رأيته حين أبرأتك حين كان رأيته شهرًا، والإذن ذراع فالقول قوله في ذلك، وكذلك القول في زيادة بياض عين الجارية.
وفي (نوادر إبراهيم) عن محمد: إذا قال أبرأتك عن كل عيب بعينه، فإذا هو أعور لا يبرأ، وكذلك إذا قال: أبرأتك عن كل عيب بيده، فإذا يده مقطوعة لا يبرأه، وإن كان أصبع مقطوعة من يده يبرأ، وإن كان أصبعان مقطوعتان فهذان عيبان، لا يبرأ، وإن كانت الأصابع كلها مقطوعة مع نصف الكف فهذا عيب واحد فيبرأ.
وفي كتاب (العلل): عن محمد إذا قال: أبرأتك عن كل عيب بعينها، فإذا هي عمياء فهو بريء، ولو قال: أبرأتك عن كل عيب بكفها، فإذا هي مقطوعة الكف لا يبرأ؛ لأن الكف بعد القطع لا تسمى كفًا فأما العين بعد العمي تسمي عينًا، ففي مسألة العين الإبراء صادف محله فصح، وفي مسألة الكف الإبراء لم يصادف محله فلم يصح.
وعن (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: إذا باع جارية قال: برئت إليك من كل عيب إلا من عيب بكفها، أو إلا من عيب بعينها فوجدها يابسة أو وجدها عمياء فهو برئ منها؛ لأنه قد سمى ذلك العيب له فهو برأ منه حين أخبره به.
وكذلك إذا قال: أنا بريء من كل عيب بهذا العبد إلا إباقه فوجده آبقًا فهو بريء عنه، ولو قال: إلا الإباق فله أن يرده بالإباق، ولو باع يومًا وبرئ عن كل خرق به دخل تحت البراءة كل خرق به، دخل تحت مرفوعه كانت أو غير مرفوعه، محيطة كانت أو غير محيطة، مرقوة أو غير مرقوة.
وكذلك إذا باع عبدًا وبرئ من كل قرح به دخل تحت القروح الدامية وآثار قروح قد برئت، ولا يدخل تحته آثار الكي؛ لأن الكي غير القرح.
وفي (المنتقى): إذا باع سلعة وقال برئت إليك من العيب بها، أو قال: برئت إليك عن عيب بها فهذا على عيب واحد، فإن قال وجد بها عيبان فهو بريء من أحدهما.
وفي (نوادر المعلى) عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر جارية وبرئ البائع إليه من كل آمة برأسها موضحة وليس برأسها آمة لا يبرأ عن الموضحة، ولو برئ إليه من كل سن لها سوداء، أو حمراء، أو خضراء، وكذلك لو برئ إليه من عينيها السوداوين، فكانت حمراوين فهو بريء منهما، قال المعلى: وسألت محمدًا عن ذلك فقال: كفء في الآمة يبينه.
وفي القدوري: وإذا اشترى عبدًا على أن به عيبًا واحدًا فوجد به عيبين وقد تعذر رده بموت أو ما أشبه ذلك فعند أبي يوسف الخيار إلى البائع، وقال محمد: الخيار إلى المشتري يرجع بنقصان أي: العيبين شيئًا، فيقوم العبد وبه العيبان وبه العيب الذي لا يريد الرجوع بنقصان فيرجع بفضل ما بينهما، وإنما كان الخيار إلى المشتري عند محمد؛ لأنه هو المبرئ عن العيب، فكان تعيين ما وقعت البراءة عنه إليه.
قال في (الزيادات): وكذلك إذا وجد به ثلاثة عيوب وتعيب عنده بعيب زائد حتى تعذر الرد يرجع بنقصان العيبين من الثلاثة أي: ذلك شاء عند محمد، فيقوم وبه العيب الذي لا يريد الرجوع بنقصانه، ويقوم وبه العيوب الثلاثة فيرجع بفضل ما بينهما.
وفيه أيضًا: إذا اشترى عبدين على أن بأحدهما عيبًا فوجد بأحدهما عيبًا فليس له حق الرد، ولو وجد به عيبان فله حق الرد، وكذلك لو وجد بكل واحد عيبًا فله الرد، وبعد ذلك ينظر، إن كان ذلك قبل القبض رد أيهما شاء فهذا قول محمد، فالخيار إلى المشتري عند محمد؛ لأن الخيار إنما يثبت للمشتري حقًا له فكان التعيين إليه، فإن كان قبض أحد العبدين ولم يعلم بالعيب فيه، ثم علم بالعيب بالعبد الآخر، وقبضه مع العلم بالعيب، ثم علم بالعيب الذي قبضه أولًا، له أن يرد أيهما شاء، فإن أراد رد الذي قبضه مع العلم بالعيب فقال البائع: ليس لك أن ترده؛ لأنك رضيت بعيبه حين قبضته مع العلم بالعيب، لا يلتفت إلى قول البائع؛ لأن القبض مع العلم بالعيب إنما يكون رضا بالعيب، إذا كان عيبًا يثبت له حق الرد، وهذا العيب ما كان يثبت له حق الرد؛ لأنه أبرأه عن عيب واحد بأحدهما وحين قبض الثاني، مع العلم بالعيب، فالعيب بالأول لم يكن معلومًا فهذا العيب ما كان يثبت له حق الرد مكان قبض الثاني مع العلم بالعيب وجوده وعدمه بمنزلة.
فإذا باع من آخر عبدًا على أن لا عيب به ولكن يبرأ إليه من عيب واحد فاشتراه على ذلك وقبضه، ثم وجد به عيبين وقد تعذر بسبب من الأسباب يرجع بنقصان أي العيبين شاء من قيمته صحيحًا؛ لأنه وإن ذكر عيبًا واحدًا وكان نص في الابتداء على أنه لا عيب به، فيتناوله العقد سليمًا بخلاف ما إذا لم يقل في الابتداء لا عيب به، فإن هناك يرجع بنقصان أي العيبين شاء من قيمته معينًا بالعيب الآخر.
ولو اشترى عبدين على أنه برئ من كل عيب بأحدهما قبضهما، ثم وجد بأحدهما عيوبًا لا يكون له أن يرده، فإن استحق الآخر بعد ذلك رجع بحصته من الثمن عليهما فهمًا صحيحان، ولو اشتراهما على أنه برئ من ثلاث شجاج بأحدهما فوجد بأحدهما ثلاث شجاج واستحق الآخر، فإنه يقسم الثمن على المستحق وهو صحيح، وعلى الآخر وهو مشجوج بثلاث شجاج؛ لأن في الوجه الأول دخلا في العقد سليمًا بخلاف الوجه الثاني.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن البراءة عن كل عيب لا يكون إقرار بوجود العيب لعلمنا يقينًا أن العبد لا يجتمع فيه العيوب كلها، فيجعل مجانًا عن إلزام العقد وإبرامه بالامتناع عن التزام صفة السلامة وشرط البراءة عن بعض العيوب إقرار بوجوده، إذ لو لم يكن إقرار بوجوده لم يكن لتخصيص العيوب معنى وفائدة، ألا ترى أن قوله لا عيب به مطلقًا لا يجعل إقرار ينفي العيوب كلها؟ لأن الإنسان لا يخلو عن قليل عيب، والعمل بالحقيقة غير ممكن، فيسقط اعتبار الحقيقة ويجعل قوله لاعيب به مجازًا عن الترويج، حتى أن من عرض عيبًا على رجل وقال: اشتر، فإنه لاعيب به، فلم يتفق بينهما بيع، ثم وجد به عيبًا كان له أن يرده على بائعه وليس لبائعه أن يحتج عليه بقوله عند العرض لاعيب به، وتخصيص بعض العيوب بالنفي يكون إقرار بانتفاء ذلك العيب، حتى من عرض عيبًا على رجل، وقال: اشتر، فإنه ليس به عيب كذا فلم يتفق بينهما بيع، ثم وجد به عيبًا لم يكن له أن يرده على بائعه بذلك العيب، وجعل قوله ليس به عيب، كذا إقرار بانتفاء ذلك العيب؛ لأن العمل بالحقيقة هاهنا ممكن، فإن الإنسان يخلو عن عيب معين فكذا هاهنا.
والدليل على صحة ماقلنا ما ذكر في (الكتاب): أن من اشترى من رجل عينًا، ثم أراد أن يرده بالعيب فشهد شاهدان على أن البائع يبرأ عن كل عيب به، ثم اشتراه أحد الشاهدين، ثم وجد به عيبًا فأراد رده كان له ذلك، فلم يجعل الشهادة على البراءة عن كل عيب إقرار بالعيب، وبمثله لو شهدا على أن البائع يبرأ عن عيب كذا، ثم اشتراه أحد الشاهدين، ثم وجد به ذلك العيب لا يكون له حق الرد، وجعل الشهادة على البراءة عن عيب مخصوص إقرارًا بوجود ذلك العيب، وعن أبي يوسف إذا أبرأه عن كل عيب دخل فيه العيوب والأدواء، ولو أبرأه عن كل داء دخل فيه السقم والمرض ولا يدخل فيه الكي، ولا أثر قرح قد برأ ولا الأصبع الزائدة.
والحاصل: أن الداء داخل في العيب غير داخل في الداء، ولو أبرأه من كل عاملة دخل فيه السرقة والفجور، ولا يدخل فيه الكية ولا أثر القروح ولا الدمل والثؤلول والأمراض، وعن أبي حنيفة: أن الداء المرض الذي في الجوف طحال أو كبد والعاملة السرقة والإباق والزنا.

.نوع آخر في الضمان عن العيوب:

وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: اشترى من رجل عبدًا وضمن له من رجل عيوبه فوجد به عيبًا ورده فلا ضمان عليه في قياس قول أبي حنيفة، وهذا على العهدة وقال أبو يوسف: هو ضامن للعيوب هذا مثل ضمان الدرك والاستحقاق، وكذلك لو ضمن له رجل ضمان السرقة والعتاق فوجده حرًا أو مسروقًا ضمن، وكذلك لو ضمن رجل العمى والجنون فوجده كذلك رجع على الضامن بالثمن، ولو مات عنده قبل أن يرده وقضى البائع بنقصان العيب كان للمشتري أن يرجع بذلك على الضامن ولو ضمن له بحصة مايجد عن العيوب فيه من الثمن فهو جائز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، فإن رده المشتري رجع بجميع الثمن على الضامن بذلك، كما يرجع على البائع.
ابن سماعة عن أبي يوسف: لو اشترى رجل عبدًا فقال له رجل: ضمنت لك عماه وكان أعمى فرده على البائع لم يرجع على ضامن العمى بشيء، ولو قال: إن كان أعمى فعليه حصة العمى من الثمن فرده بالعمى كان له أن يضمن حصة العمى.
ولو اشترى عبدًا فوجد به عيبًا فقال له رجل: ضمنت لك هذا العيب لم يلزمه شيء.
وفي (واقعات الناطفي): لو قال المشتري للبائع أنت بريء من كل حق لي قبلك، دخل العيب تحت الإبراء هو المختار، ولا يدخل الدرك؛ لأن العيب حق له قبله للحال والدرك لا.

.نوع آخر في الصلح عن العيوب:

قال محمد في (الأصل): إذا اشترى الرجل من آخر عبدًا بألف درهم وقبضه منه ونقده الثمن، ثم وجد به عيبًا فأنكر البائع أن يكون باعه وبه ذلك العيب، ثم صالحه البائع على أن يرد عليه دراهم مسماة حالة أو إلى أجل فهو جائز، والحاصل: أن الناس تكلموا في المشتري إذا وجد بالمبيع عيبًا أن فيما أدى والأصح في ابتداء مايحدثه العيب حقه في الحر والفائت يطالب به البائع؛ لأنه ضمن له تسليمه بالعقد، ومن العيوب مايكون بعرض الزوال وإذا زال صار قادرًا على تسليمه فقبل يطالبه في الابتداء به، ثم إن البائع يعجز عن تسليمه إليه لفواته فينفسخ البيع فيه، ويصير حق المشتري في حصة العيب من الثمن، إلا أنه متى وقع الصلح على جنس الثمن يعتبر استيفاء لحصة العيب من الثمن ويجوز حالا ومؤجلًا وإذا وقع على خلاف جنس الثمن يعتبر معاوضة بين المأخوذ وبين حصة العيب من الثمن، وفيما إذا صالح عن العيب على أكثر من حصة من الثمن، فطريق الجواز أن بمقدار حصة العيب هذا استيفاء لحصة العيب وما زاد على ذلك فالبايع حط عنه من الثمن، ولو صالحه من العيب على دينار، فإن نقده قبل أن يتفرقا فهو جائز، وإن افترقا قبل أن ينقده بطل الصلح، ولو كان المشتري باعه ونقد الثمن، ثم اطلع على عيب به فصالحه بائعه منه على دراهم لم يجز؛ لأنه لا حق للمشتري بعدما باعه لا في الرد بالعيب ولا في الرجوع بنقصان العيب، فإنما صالح فيما ليس بحق له، فإن كان العبد مات عند المشتري الثاني فرجع على بائعه بنقصان العيب، ثم إن البائع الثاني صالح البائع الأول على صلح.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: الصلح باطل وعندهما صحيح بناء على المشتري الثاني إذا رجع على بائعه، هل لبائعه أن يخاصم البائع الأول؟ عند أبي حنيفة ليس له ذلك خلافا لهما، وذكر في المأذون إذا حدث به عيب عند المشتري الآخر فيرجع على بائعه لنقصان ليس لبائعه أن يرجع إلى البائع ولم يذكر خلافًا، منهم من قال: هو قول أبي حنيفة.
ومنهم من فرق لأبي يوسف ومحمد بين المسألتين، والفرق: أن في تلك المسألة للبائع الأول أن يقول للمشتري الأول: سبيلك أن تقبل منه لا أقبل منك فإذا لم يقبل فأنت الذي فوت حقك فلا يمكنه الاحتجاج عليه هاهنا فقلنا بأنه يرجع عليه، وإن كان الثمن مكيلًا أو موزونًا بغير عينه وبين الكيل والضرب وتقابضا، ثم وجد بها عيبًا فصالح، فإن وقع الصلح على بعض الثمن من جنسه فهو استيفاء لا استبدال، فيجوز حالًا ومؤجلًا سواء كان الثمن قائمًا في يد المشتري أو كان مستهلكًا، وإن وقع الصلح على خلاف صلح الجنس فهو معاوضة، ففي كل موضع حصل الافتراق فيه عن دين بدين لا يجوز، وإن كان الثمن مكيلًا أو موزونًا بعينه وتقابضا فصالحه على بعض الثمن من ذلك الجنس مؤجلًا أو بعينه فهو جائز إن كان الذي أخذه عوضًا عن الجارية مستهلكًا، وإن كان الذي هو ثمن قائمًا بعينه لم يجز الصلح على بعض الثمن من ذلك الجنس مؤجلًا جاز حالًا إذا أوفاه إياه قبل أن يتفرقا أو كان بعينه؛ لأن الثمن في هذه المسألة تعين في العقد بالتعيين فكان حق المشتري في عين ما أدى، فكان ماوقع عليه الصلح عوضًا عما استوجبه عليه ومبادلة المكيل والموزون بجنسه مؤجلًا يجوز.
وفي المسألة الأولى: الثمن استحق بالعبد دينا قائمًا يرجع بحصة العيب من ذلك لامن عين المقبوض فجاز الصلح عن مثله حالًا ومؤجلًا.
ولو طعن في بياض بعينها فصالح البائع من ذلك على أن حط عنه درهمًا كان جائزًا، فلو أنه انجلى البياض بعد ذلك رد الدرهم على البائع.
وكذلك لو طعن بحبل فيها فصالحه البائع على أنه حط عنه درهمًا، ثم ظهر أنه لم يكن بها حبل، فإنه يرد الدرهم، وكذلك لو اشترى أمة فوجدها (منكوحة عند) البائع فصالحه البائع على دراهم، ثم طلقها الزوج طلاقًا كان على المشتري رد الدراهم.
اشترى كر حنطة، ثم ظهر بعيب بأحدهما، فصالحه الآخر على درهم أو على قفيز حنطة أو على قفيز شعير لم يجز؛ لأن الحنطة بالحنطة مثل بمثل فتكون الزيادة ربًا كما لو قال عند ابتداء العقد، وإذا لم تصح الزيادة هل يفسد البيع، إن كان بلفظة الصلح بأن قال صالحتك عن العيب على أن أزيد لك قفيز حنطة أو درهم فسد البيع عند أبي حنيفة؛ لأن الزيادة تلحق بأصل العقد ولو كان موجودًا لدى العقد كان العقد فاسدًا كذا هاهنا.
صالحه من كل عيب على درهم جاز سواء طعن المشتري بعيب أولم يطعن؛ لأن هذا إبراء عن العيوب المجهولة بعد وجوب سبب الحق له، وذلك صحيح، ولو اشترى العيوب منه بدرهم لايجوز؛ لأن مثل هذه الجهالة تمنع صحة البيع ولا تمنع صحة الصلح صالحه من العيب على ركوب دابته في حوائجه فهو جائز، قالوا: وتأويله إذا شرط ركوبه في المصر أما إذا شرط ركوبه خارج المصر إذا أطلق لا يجوز لمكان الجهالة، نص على هذا التفصيل في كتاب الإقرار.
صالحها من عيب الغلام على أن تزوج نفسها منه صح، وكان هذا إقرار بالعيب؛ لأن النكاح لايصح إلا بمال وكان كالبيع إذا باعت ثوبًا منه بحصته من العيب؛ لأن النكاح لايصح إلا بمال إذا كان إقرار منها بالعيب؛ لأن البيع لا يصح إلا بمال بخلاف الصلح.
اشترى ثوبًا فقطعه قميصًا وخاطه فباعه بعد ذلك، أو لم يبعه، ثم اطلع على عيب أو كان البيع بعد ظهور العيب، ثم صالحه من العيب على دراهم جاز؛ لأن حقه قد تقرر في الرجوع بنقصان العيب بسبب الخياطة، ألا ترى لو كان في يده ليس للبائع أن يقول أنا أقبله كذلك، فإنما صالح عن حقه، وكذلك إذا صبغه بصبغ أحمر، ثم باعه أو لم يبعه حتى صالح من العيب، ولو قطعه ولم يخطه حتى باعه، ثم صالحه من العيب لايصح؛ لأنه حقه لم يتقرر في الرجوع بنقصان العيب؛ لأن القطع المجرد نقصان، ألا ترى أن للبائع يقول: أنا أقبله؟ كذلك، فإنما صالح عما ليس بحق له، والسواد بمنزلة القطع المفرد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: بمنزلة القطع مع الخياطة، صالحه على أن أبرأه عن كل عيب فهو جائز سمى أو لم يسم خلافًا لابن أبي ليلى، وكان أبو حنيفة رحمه الله يحتاط في ذلك ويقول: نكتب في صك الصلح برئت من كل عيب سميته وعرفته أو يكتب في الصك أنه باع العبد وخرج عن ملكه، ثم عاد إلى ملكه بصدقة أو ما أشبهها، أكثر ما في الباب أن هذا حيلة بالكذب إلا أن الكذب، مباح لإحياء حقه، ولدفع الظلم عن نفسه كالشفيع يعلم بالبيع في جوف الليل لا يمكنه الإشهاد، فإذا أصبح يشهد ويقول علمت الآن، وكذلك الصغيرة تبلغ في جوف الليل، فإذا أصبحت تقول بلغت الآن وأجزت نفسي فيرخص فيه كذا هاهنا.
وحيلة أخرى: أن تعلق المشتري أعتقه بمخاصمته في عيب تجد بها، فإذا خاصمه عتق العبد ولا يمكنه الرد ولا الرجوع بنقصان العيب، طعن بعيب في عينها، ثم صالحه البائع من عيبها على ما جاز، وإن لم يذكر العيب وجعل يسميه محل العيب بمنزلة تسمية العيب.
وقال في (الأصل): اشترى أمة بخمسين دينارًا وقبضها وطعن المشتري بعيب بها، فاصطلحا على أن قبل البائع السلعة ورد عليه تسعة وأربعين دينارًا قالوا جائز، فهل يطيب للبائع ما استفصل من الدينار، ينظر: إن كان البائع مقرًا أن هذا العيب كان عنده على قول أبي حنيفة ومحمد لا يطيب، ويجب عليه رده على المشتري، وعلى قياس قول أبي يوسف لا يلزمه الرد، بناءًا على أن عند أبي يوسف الإقالة بأكثر من الثمن الأول أو بأقل يعتبر بيعًا جديدًا لا إقالة فلزمه الرد، وأما إذا كان جاحدًا أن هذا العيب كان عنده أن عيبًا لا يحدث مثله فكذلك الجواب، وإن كان عيبًا يجوز أن يحدث مثله طاب الفضل للبائع بالاتفاق لم يقر ولم ينكر بل سكت فهو وما لو أنكر سواء، ولو كان المشتري أخذ ثوبًا وقبل منه السلعة على أن يرد الثمن كان عليه هذا وما لو حبس شيئًا من الثمن سواء.
وإن كان مكان الثوب دراهم، فإن فضت فالجواب كما ذكرنا، وإن كاتب إلى أجل لا يجوز على كل حال.
اشترى ثوبًا فقطعه قميصًا ولم يخطه، ثم وجد به عيبًا أقر البائع أنه كان عنده فصالحه البائع على أن قبل البائع الثوب وحط المشتري عنه من الثمن مقدار درهمين كان جائزًا، ويحصل ما احتبس عند البائع من الثمن بمقابلة ما انتقص بفعل المشتري.
وقال في (الأصل) أيضًا: طعن المشتري بعيب جحده البائع فاصطلحا على أن يحط كل واحد منهما عشرة ويأخذ الأجنبي بما وراء المحطوط، ورضي به الأجنبي فالبيع من الأجنبي جائز؛ لأن المشتري باع ملك نفسه وحطه أيضًا جائز؛ لأن حطه في ملك نفسه وهو والثمن يكون هذا من المشتري رضاء بالعيب، وحط البائع لا يجوز؛ لأنه لا في ملك لغيره، وكان للأجنبي الخيار إن شاء أخذ بما وراء العشرة من الثمن، وإن شاء ترك؛ لأنه إنما اشترى ليسلم له المشترى بما وراء العشرين من الثمن، وتبين أنه إنما سلم له بما وراء العشرة، وهذه المسألة تدل على أن المشتري إذا ظهر أنه صار مغبونًا على وجه لا يتغابن في مثله أنه يثبت له الخيار، وأدلة الكتب متعارضة ظاهر الجواب لا خيار له، وعن محمد فيمن اشترى صبرة حنطة فوجد في أسفله دكانًا فله الخيار، وإذا اشترى طعامًا في جفنه، ثم علم مقداره يثبت له الخيار وهو خيار التكشف وخيار الكتمة، قال الشيخ الإمام شمس الحلواني رحمه الله: كان القاضي يقول الفقيه عبد الله كان يفتي بثبوت الخيار للمشتري إذا صار مغبونًا، وكان يقول هب، كان في المسألة روايتان: يختار هذه الرواية رفقًا بالناس إذا كان الثمن عشرة مثلًا، فاصطلحا على أن يأخذ من الآخر الثوب بثمانية، وحط البائع الأول عن المشتري الأول درهمًا جائز سواء كان قبل قبض الثمن أو بعده لما عرف، أن الحط بعد قبض الثمن صحيح.
اشترى ثوبًا بعشرة وتقابضا وسلمه المشتري إلى قصار فقصره وجابه متخرقًا، فقال المشتري: لا أدري عند القصار تخرق أو كان به عند البائع، فاصطلحوا على أن يقبل المشتري الثوب ويرد القصار عليه درهمًا فذلك جائز، وكذلك لو كان هذا الصلح على أن يقبله البائع منه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وهذا إشارة إلى أنه إذا صالحه على أن يعتله البائع، ويغرم له القصار درهمًا، ويترك له المشتري درهمًا أنه يجوز، قال مشايخنا: وهو غلط؛ لأن اشتراط ترك الدرهم على المشتري صحيح؛ لأن البائع جاحد للعيب، أما اشتراط الدرهم على القصار باطل؛ لأنه ما كان بينه وبين القصار سبب يستوجب به الضمان عليه، وفي زعمه أنه يملك الثوب ابتداء من جهة المشتري بعد ما تخرق في يد القصار، فاشتراط أخذ الدرهم منه عذرًا لا أن يكون تأويله أن القصار يضمن الدرهم أولًا للمشتري، ثم المشتري يدفع ذلك إلى البائع ليقبل المبيع منه فحينئذٍ يجوز؛ لأنه يزعم أنه يملك المبيع ابتداء، وهذه الزيادة بدل ما تلف عند القصار فكان له أن يأخذ إذا رد جميع الثمن.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: تأويله أن يقع الصلح على أن يقبل البائع الثوب من المشتري، على أن يحط المشتري من البائع درهمًا، ويأخذ المشتري من القصار درهمًا ويعطيه المشتري أجرة.
وفي (فتاوى الفضلي): اشترى من آخر جارية ووجد بها عيبًا فاصطلحا على أن يدفع البائع كذا درهمًا والجارية للمشتري فهو جائز؛ لأن هذا صلح عن العيب، وإن اصطلحا على أن يدفع المشتري ذلك الجارية للبائع لا يجوز؛ لأنه ربا إلا إذا باعه منه بأقل من الثمن الذي اشتراها منه بعد أن كان يقدر الثمن كله.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل اشترى من آخر عبدًا ووجد به عيبًا قبل أن يقبضه، وصالحه من العيب على عبد آخر وقبضهما المشتري، ثم استحق أحد العبدين رجع المشتري بحصة المستحق من الثمن أيهما كان، كأنه اشتراهما جميعًا، ولو قبض العبد المشتري، ثم وجد به عيبًا فصالحه منه على عبد ودفع الثمن، ثم استحق العبد المشتري يبطل الصلح في العبد الثاني.
وفي (نوادر ابن سماعة) أيضًا عن أبي يوسف رحمه الله: رجل اشترى جارية ووجد بها عيبًا قبل القبض أو بعده فصالحه البائع على جارية أخرى، ثم استحقت الجارية الأولى بطل الصلح.
وفي (المنتقى): رجل اشترى من آخر كر حنطة بعشرة دراهم وقبض الكر ولم يدفع الثمن، حتى وجد بالكر ينقصه العشرة فأراد رده فصالحه البائع من العيب على كر شعير بعينه، فإنه جائز، وحصة الشعير نقصان العيب، وإن كان بغير عيبه، ووصفه وسمى أجله فهو باطل؛ لأنه صار بمنزلة سلم لم يدفع إليه رأس ماله، فإن دفع إليه غير الثمن وقال هذا حصة الكر الشعير فهو جائز والشعير سلم، وكذلك إذا دفع إليه كل الثمن، ولو دفع إليه عشر الثمن ولو نقل عشر هذا حصة الشعير، فإن الذي نقده من جميع الثمن فيثبت عشر كر الشعير ويبطل تسعة أعشاره.

.نوع آخر منه:

قال محمد في (الجامع): عبد أو دارًا في يدي رجل أقام رجل بينته أنه باعه من ذي اليد بألف درهم، وأقام آخر بينة أنه باعه من ذي اليد بمائة دينار قضى القاضي بالثمنين على ذي اليد؛ لأن المبيع إذا كان مسلمًا إلى المشترى كانت الحاجة إلى إثبات الثمن والثمن دين فصار، كما لو ادعى أحدهما ألف درهم والآخر مائة دينار، وكذلك إن اقام كل واحد منهما بينة أن العبد عبده باعه من ذي اليد بما يدعيه من الثمن؛ لأن المبيع إذا كان مسلمًا إلى المشتري لا يحتاج كل واحد منهما إلى إثبات الملك لنفسه ليترجح بالنتاج، فإن وجد المشتري بالعبد عيبًا وأراد أن يرده ليس له أن يرده عليهما؛ لأنه إذا رد عليهما كان رادًا على كل واحد منهما النصف، وكل واحد زعم أنه باعه كله فكان له أن لا يقبل النصف مع عيب الشركة، ولكن يرده على أيهما شاء؛ لأن في زعم كل واحد أن البائع هو، وأن للمشتري حق الرد عليه وحق استرداد جميع الثمن منه، وفي زعم المشتري أن له حق استرداد كل الثمن من كل واحد منهما، فلهذا كان له أن يرد على أيهما شاء، ويسترد الثمن منه، وإذا رده على أحدهما لا يكون له على الآخر سبيل لا في الرد ولا في الرجوع بنقصان العيب.
أما في الرد بعجزه عن ذلك حين رد على الأول، وأما في الرجوع بنقصان العيب؛ لأن في زعم الآخر إلى نصيبه منه وإن له حق الرد بالعيب علي لا على صاحبي، فإذا رد على صاحبي مع أنه ليس له حق الرد عليه كان ذلك منه بمنزلة تمليك مبتدأ وبه يبطل حق الرجوع بنقصان العيب، فإن لم يرده بالعيب على أحدهما حتى تعيب عند المشتري بعيب ذا يد لا يكون له حق الرد عليه، ولكن يرجع بنقصان العيب على أيهما شاء؛ لأن في زعم كل واحد منهما أن له حق الرجوع بنقصان العيب عليه وهو يدعي على كل واحد منهما جميع الثمن فقد اتفقا على استحقاق قدر النقصان، فيرجع على أيهما شاء بذلك، إلا أن يقول الذي يريد أن يرجع عليه بالنقصان أنا أقبله كذلك، فحينئذ يرد عليه لامتناع الرد إنما كان دفعًا للضرر عنه، فإذا رضي به كان للمشتري أن يرد عليه فإن أبى أن يرده عليه وأعطاه النقصان كان للمشتري أن يرجع على الآخر بنقصان العيب.
فرق بين هذا وبينهما لو رد على أحدهما حيث لا يكون له على الآخر سبيل، والفرق بينهما أن فصل الرجوع على أحدهما بنقصان العيب في حق استرداد جميع الثمن من صاحبي أخذ ذلك منه بغير حق، فإذا أخذ منه قدر النقصان، فقد أخذ بعض حقه، وهذا لا يوجب سقوط حقه في الرجوع بنقصان العيب علي، أما في فصل الرد في زعم الآخر أن للمشتري حق الرد علي بالثمن لا على صاحبي، فإذا رد عليه لم يكن له حق الرد عليه كان ذلك منه بمنزلة بيع جديد، وبه يبطل حق الرجوع بنقصان العيب.
ولو مات العبد، ثم اطلع على عيب قديم رجع بنقصان العيب عليهما إن شاء لما مر، ولو قطعت يد العبد المشترى وأخذ المشتري أرشها، ثم وجد به عيبًا قديمًا كان له أن يرجع بالنقصان عليهما؛ لأن الأرش زيادة منفصلة والزيادة مانعة من الرد بالعيب، فيكون له حق الرجوع بنقصان العيب عليهما لما مر، فإن قال أحدهما: أنا أقبله كذلك؛ لأن امتناع الرد بسبب الزيادة إنما كان لحق الشرع تحرزًا عن الربا، فلا يسقط ذلك برضا العبد، فإن باعه المشتري فإنه يبطل حق الرجوع بنقصان العيب، والفرق وهو أن البيع إنما يوجب بطلان الرجوع بنقصان العيب في موضع بقي حق الرد في نفسه بعد حدوث العيب ليصير المشتري بالبيع راضيًا بذلك العيب، فيبطل حقه من كل وجه.
وفيما إذا تعيب المبيع بعيب زائد بقي للمشتري حق الرد في نفسه، ولهذا لو قال البائع: أنا أقبله كذلك كان له أن يرده عليه، وبالبيع يبطل حقه من كل وجه، أما بعد القطع لم يبق له حق الرد في نفسه، ولهذا لو قال البائع: أنا أقبله كذلك لايملك الرد، فإذا لم يبق حقه في الرد تعذر حقه في النقصان قبل البيع، فلا يبطل بالبيع، فإن كان أقام أحدهما البينة أنه عبد وباعه من ذي اليد يوم الجمعة بمائة دينار يقضى بالثمنين؛ لأن الحاجة هاهنا إلى إثبات الثمن، فإن وجد به عيبًا رده إلى الثاني، وكذلك لو تعذر بالعيب يرجع بنقصان العيب على الثاني دون الأول؛ لأن القضاء بالعقدين على هذا الترتيب يوجب انقطاع حق المشتري عن الأول، فلهذا يرد بالعيب ويرجع بالنقصان على الثاني دون الأول.

.نوع آخر في الوصي والوكيل والمريض:

قال محمد رحمه الله في (الجامع): رجل اشترى عبدًا بألف درهم وقبضه ولم ينقد الثمن حتى مات وأوصى إلى رجل، ولا مال له سوى العبد وعليه دين ألف درهم سوى الثمن، فوجد الوصي بالعبد عيبًا فرده بالعيب بغير قضاء القاضي، فرده جائز وليس للغريم نقضه؛ لأن الموجب للرد قد وجد، لو امتنع الرد إنما يمتنع لحق الغريم، وحق الغريم يتعلق بمالية العبد لا بعينه، ولأن الرد بالعيب بغير قضاء بمنزلة بيع جديد في حق الثالث والغريم ثالثهما، فصار في حق الغريم كأن الوصي باع هذا العبد وللوصي هذه الولاية ويرجع الوصي على البائع، فيأخذ منه نصف الثمن ويدفعه إلى الغريم الآخر، والوصي هو الذي يلي ذلك؛ لأن هذا الرد اعتبر بيعًا جديدًا في حق الثالث، وقبض الثمن من حقوق العبد، فيكون للعاقد.
ولو أن البائع لم يقبل هذا العبد من الوصي حتى خاصمه إلى القاضي، فإن كان القاضي علم بدين الآخر لا يرده بل يبيعه ويقسم الثمن بينهما؛ لأن فيه إبطال حق غريم الآخر؛ لأن الرد بقضاء فسخ من كل وجه، فيبطل البيع ويعود إلى الأصل، فيسقط الثمن، فلا يصل الغريم شيء لا يضمن البائع نقصان العيب لا قبل بيع القاضي ولا بعده، أما بعد بيع القاضي؛ فلأن بيع القاضي حصل للميت، فيجعل كأن الميت باع نفسه، ولو باع الميت نفسه حال حياته، ثم اطلع على عيب به لم يرجع بنقصان العيب فهاهنا كذلك، وأما قبل بيع القاضي فلأن امتناع الرد في هذه الصورة كان بمعنى من جهة المشتري وهو اكتسابه سبب وجود الدين للغريم الآخر وامتناع الرد بمعنى من جهة المشتري لايثبت حق الرجوع بنقصان العيب.
وإن لم يعلم القاضي بدين الغريم وخاصم الموصي البائع في العيب رده بالعيب على البائع؛ لأن الموجب للرد قد ظهر وهو العيب، وفي المانع شك، ويبطل الثمن الذي للبائع على الميت؛ لأن الرد بقضاء القاضي فسخ من كل وجه، ومتى صح الفسخ والثمن غير منقود يبطل عن المشتري، فإن أقام الغريم الآخر بينة على دينه، خير البائع المردود عليه إن شاء أمضى الرد وضمن الغريم الآخر نصف ثمن العبد، فيصير الثمن بينهما نصفان، وإن شاء نقض الرد، ورد العبد حتى باع في دينهما؛ لأنه ظهر دين الغريم الآخر بعذر صحيح، هذا الرد من القاضي (يعد) فسخًا من كل وجه لما فيه من إبطال حق الغريم الآخر، فاعتبر رده بيعًا جديدًا كيلا يبطل هذا الرد، أمكن اعتباره بيعًا جديدًا لوجود معنى البيع فيه، وهو التمليك والتملك.
ولو أن رجلًا اشترى عبدًا في صحته بألف درهم وقبض العبد ولم ينقد الثمن حتى مرض وعليه دين ألف درهم، فوجد بالعبد عيبًا فرده بغير قضاء أو استقال البيع البائع فأقاله برئ من مرضه، فجميع ما صنع صحيح، وإن لم يبرأ من مرضه ومات وقيمة العبد مثل الثمن أو أقل منه ولا مال له غيره كان الجواب فيه كالجواب في الوصي إذا رد العبد بغير قضاء وإن أقاله البيع وقيمة العبد مثل الثمن أو أقل منه؛ لأن المريض مرض الموت يملك بيع ماله، ولا يمكن إيثار بعض الغرماء على البعض كالوصي، ولو لم يقبل البائع البيع حتى خاصم المشتري البائع إلى القاضي في العيب في مرض المشتري، فالقاضي يرد العبد عليه سواء علم بدين الغريم الآخر أو لم يعلم، بخلاف مسألة الوصي، فإنه إذا خاصم البائع في العيب إلى القاضي بدين الغريم الآخر فالقاضي لايرده. والفرق سواء أن الميت للرد بموجود في الحالين لكن عسى يمتنع عمل الميت، والموجب لمانع، ففي مسألة المريض المانع وهو حق الغريم موهوم؛ لأن حق الغريم إنما يتعلق بمال المريض إذا كان المريض مرض الموت ولا يدرى في الحال أنه هل يتصل بهذا المرض الموت أو (لا) يتصل، وإذا وقع الشك لايمتنع عمل المثبت، أما في فعل الموصي المانع ثابت قطعا؛ لأن الوصي إنما يخاصم البائع بعد الموت، وبعد الموت المانع ثابت قطعًا، فجاز أن يمتنع عمل المثبت والموجب.
فإن مات المشتري من مرضه بعدما رده عليه، فالجواب فيه كالجواب في الوصي إذا رده بالعيب نقضًا، فلم يعلم القاضي بدين الغريم الآخر؛ لأنه لما مات ظهر أن المرض مرض الموت من ابتدائه، فظهر أن حق الغريم الآخر كان متعلقا بماله حتى رده القاضي على البائع كما لو رده الوصي فيكون الجواب في الوصي، إلا في خصلة أن هاهنا متى كانت قيمة العبد أكثر من الثمن، فإنه لا يجبر المردود عليه بنقض الرد، ويباع العبد ويقسم الثمن نصفين.
و(لو) قال: أنا أمسك العبد وأرد نصف القيمة حتى تزول المحاباة، لم يكن له ذلك، وفي الوصي يخير المردود عليه، والفرق: أنه لما مات من مرضه ظهر أنه ماكان للقاضي ولاية الفسخ ليتعلق حق الغريم بماله، وإن فسخه لم يصح، فاعتبر عقدًا جديدًا وفيه محاباة، والمحاباة لا تعفي من المريض، وإن قلت: إذا كان عليه دين مستغرق لتركته، فتعذر تصحيح الرد من هذا الوجه وتعذر تصحيحه بتبليغ الثمن إلى تمام الصحة؛ لأن الرد بقضاء القاضي فسخ من كل وجه، فلا يصح الفسخ تأكيدًا من الثمن الأول، وإذا تعذر تصحيح الرد بالطريقين تعين بعض الرد، فأما الوصي فعفى عنه المحاباة اليسيرة، فأمكن تصحيح الرد بمثل الثمن، فلهذا يخير فيه البائع. وهذه المسألة من أغرب المسائل، فإن عفي فيه المحاباة اليسيرة من الثابت ولم يعف من الأصل وهو المريض.
وإذا أمر رجل رجلًا ببيع عبد له، فباعه الوكيل وسلمه وقبض الثمن من المشتري أو لم يقبض حتى وجد المشتري بالعبد عيبًا وخاصم الوكيل في العيب فقبله الوكيل بغير قضاء، فإن كان ذلك عيبًا يحدث مثله من وقت البيع يلزم الوكيل دون الموكل، فلا يكون للوكيل أن يخاصم الموكل، وإن كان عيبًا لا يحدث مثله في تلك المدة ذكر في (الأصل) أنه يلزم الموكل يجب أن يعلم أن الوكيل بالبيع والشراء خصم في الرد بالعيب من حقوق العبد فيرجع إلى العاقد، والوكيل في حق الحقوق كالعاقد لنفسه.
وإذا رد عليه بالعيب بعد القبض فهو على وجهين:
إن رد عليه برضاه والعيب مما يحدث مثله يلزم الوكيل باتفاق الروايات، ولا يكون له مخاصمة الموكل، كأن الوكيل اشتراه ثانيًا من المشتري، وإن كان عيبًا لا يحدث مثله في مدة البيع ذكر في بيوع (الأصل) أنه يلزم الموكل؛ لأنهما فعلا بأنفسهما عين مايفعله القاضي؛ لأن الرد متعين في هذا، فيجعل فعلهما كفعل القاضي، وذكر في عامة الروايات أنه يلزم الوكيل؛ لأن الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي عقد جديد في حق الثالث والموكل ثالثهما.
وإن كان الرد بقضاءٍ فهو على ثلاثة أوجه: إن كان ببينة قامت على الوكيل لزم الموكل؛ لأن البينة حجة في حق الناس كافة، فيعد الرد على الموكل، وإن كان الرد بنكول الوكيل، فكذلك يكون ردًا على الموكل؛ لأن الوكيل مضطر في النكول كما هو مضطر في سماع البينة إذا لم يستبق منه ما يطلق اليمين على انتفاء العيب؛ لأن الإنسان كما يوكل غيره ببيع السليم يوكل ببيع المعيب، فاعتبر نكوله بالبينة، ولكن الوكيل مع الموكل على خصومته، فإن أقام بينة أن هذا العيب كان عند الموكل رده عليه، وإن لم يكن له بينة، فله أن يحلف الموكل فإن نكل رده عليه، وإن حلف لزم الوكيل، وهذا لأن الرد حصل بقضاء القاضي على كره منه، فإن صورة هذه المسألة أن يقر الوكيل بالعيب أولًا، ثم يجحد ويأبى القبول حتى يحتاج فيه إلى قضاء القاضي.
قلنا: والرد بقضاء فسخ من كل وجه، غير أن هذا الفسخ استند إلى سبب قاصر وهو الإقرار، فمن حيث إنه فسخ كان للوكيل حق مخاصمة الموكل، بخلاف ما إذا كان الرد بغير قضاء، ومن حيث إنه استند إلى دليل قاصر يلزم الوكيل إلى أن يقيم الحجة على الموكل، وهذا كله إذا كان عيبًا يحدث مثله في مدة البيع، فالقاضي يرده من غير بينة وإقرار ويمين، ويكون ذلك ردًا على الموكل؛ لأن القاضي إنما قضى بالرد لعلمه أنه كان عند الموكل وعلمه هذا بالبينة، وهذا كله إذا كان الوكيل حرًا بالغًا، فإن كان مكاتبًا أو عبدًا مأذونًا فالخصومة في الرد بالعيب بينهما ولا يرجعان على المولى، ولكن يباع المأذون فيه ويلزم الدين المكاتب، وإن كان الوكيل صبيًا محجورًا أو عبدًا محجورًا، فلا خصومة معهما، وإنما الخصومة مع الموكل.
وذكر محمد رحمه الله في (الجامع الكبير): أن من أجر عبد غيره ليشتري نفسه للآمر من مولاه بألف درهم، فقال: نعم فأتاه مولاه قال: بعني نفسي لفلان بألف درهم ففعل فهو للآمر، فإن وجد الآمر بالعبد عيبًا، فأراد خصومة البائع، فإن كان العيب معلومًا للعبد يوم اشترى نفسه لم يرده؛ لأن العبد كان وكيلًا بالشراء، والوكيل إذا اشترى مع العلم بالعيب يمتنع الرد؛ لأنه أسقط حق الرد، وحق الرد (من) حقوق العقد فيكون إلى العاقد، والعاقد هو العبد وكان للعبد الرد من استطلاع رد الآمر؛ لأن المشتري وهو العبد في يد نفسه وهو وكيل بالشراء، والوكيل بالشراء يملك الرد بالعيب من غير استطلاع رأي الموكل مادام المشتري في يده على مايأتي بيانه بعد هذا ان شاء الله تعالى.
وإذا أمر الرجل غيره أن يشتري عبد فلان بكذا، فاشترى ونقد الوكيل البائع الثمن وقبض العبد واطلع على عيب به فما دام العبد في يد الوكيل رده على البائع من غير استطلاع رأي الموكل، فإن كان قد سلم العبد إلى الآمر لا يرده من غير رأي الموكل، والفرق: أن في الرد إبطال العقد الذي هو حق الوكيل، وإبطال الملك الذي هو حق الموكل، فكان الوكيل في الرد أصيلًا من وجه ثابتًا من وجه، فلكونه أصيلًا ملك الرد من غير استطلاع رأي الموكل مادام العبد في يده، ولكونه نائبا لم يملك الرد من غير استطلاع رأي الموكل بعدما دام العبد في يده، ولكونه نائبًا لم يملك الرد من غير استطلاع رأي الموكل بعدما سلمه إلى الموكل، ومتى كان العبد في يد الوكيل، فأراد الوكيل الرد، فادعى البائع رضا الآمر بهذا العيب، فإن أقام على ذلك بينة قبلت بينته وامتنع الرد، وإن لم يكن له بينة وأراد استحلاف الوكيل ليس له ذلك، بخلاف ما إذا ادعى على الوكيل أنك رضيت بالعيب، فأراد استحلاف الوكيل حيث له ذلك، والفرق: أنه إذا ادعى الرضا على الوكيل، فالوكيل يستحلف بطريق الأصالة، وإذا ادعى الرضا على الموكل، فالوكيل لا يستحلف بطريق الأصالة، وإنما يستحلف (بالنيابة، و) النيابة لا تجري في الاستحلاف، وإذا لم يستحلف الوكيل رد الوكيل الجارية على البائع، ثم إذا حضر الموكل وادعى الرضا وأراد استرداد الجارية من يد البائع فله ذلك، ولو كان الوكيل بالشراء وكيلًا بالخصومة في العيب فادعى البائع أن المشتري رضي بهذا العيب فالوكيل رده بحضرة الموكل فيحلف.

.نوع آخر منه:

رجل اشترى من آخر عبدًا وقبضه وباعه من رجل آخر، ثم إن المشتري الآخر وجد به عيبًا ورده على المشتري الأول، فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون الرد منه قبل القبض، وفي هذا الوجه للمشتري الأول أن يرده على البائع الأول سواء كان الرد بقضاء أو بغير قضاء (إن كان الرد بقضاء؛ فلأن) الرد قبل القبض فسخ للعقد من الأصل في حق الناس كافة، وإن كان بغير قضاء؛ لأنه تصرف دفع وامتناع من القبض وولاية الدفع عامة فظهر أمره في حق الكل، ولهذا لم يتوقف على قضاء القاضي.
وهذا المعنى يعم العقار والمنقول جميعًا.
ومعنى آخر يخصّ المنقول أن الرد بالعيب قبل القبض لايمكن أن يعتبر بيعًا جديدًا أصلًا؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لايجوز، فجعلناه فسخًا في حق الكل أصلًا، فصار كأنه لم يبع، فعلى هذا التعليل لايرد العقار عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن بيع العقار قبل القبض جائز، فأمكن أن يعتبر بيعًا جديدًا في حق البائع الأول.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ واختلفت فيه الروايات: أن الرد بالعيب قبل القبض بغير قضاء في العقار هل يعتبر بيعًا جديدًا في حق الثالث، ذكر في كتاب الشفعة أنه لايعتبر، قال شيخ الاسلام: ماذكر في كتاب الشفعة قول محمد، فإن بيع العقار قبل القبض عنده لايجوز، أما على قول أبي حنيفة يعتبر بيعًا جديدًا؛ لأن عنده بيع العقار قبل القبض جائز، وبعض مشايخنا قالوا: ماذكر في الشفعة قول الكل فنقابل عند الفتوى.
و(الثاني): إن كان الرد من المشتري الثاني بعد القبض، إن كان الرد برضا المشتري الآخر من غير قضاء، فالمشتري الأول لا يرده على بائعه؛ لأن الرد بالعيب بالتراضي فسخ في حق المتعاقدين عملًا باللفظ، وعقد جديد في حق الثالث عملًا بالمعنى، وهو التمليك والملك بالتراضي، والبائع الأول ثالثهما، فصار في حق البائع الأول كأن المشتري الأول اشتراه ثانيًا، فلا يكون له حق الخصومة مع بائعه لافي الرد ولا في الرجوع بنقصان العيب.
وفي (القدوري) عن محمد فيمن اشترى دينارًا بدرهم وقبض الدينار وباعه من ثالث، ثم وجد المشتري الآخر به عيبًا فرده على الأوسط بغير قضاء كان للأوسط أن يرده على الأول، لا يشبه هذا العروض، وقد مرت المسألة من قبل، وهذا إذا كان عيبًا يحدث مثله، فأما إذا كان عيبًا لايحدث مثله، فعلى رواية البيوع والإقرار يرد على بائعه، وعلى رواية (الجامعين) والمأذون والوكالة لايرد على بائعه.
وإن كان الرد بقضاء قاض فهو على ثلاثة أوجه: فإن كان الرد بالبينة كان للمشتري الأول أن يرد على بائعه إذا ثبت أن العيب كان عند بائعه؛ لأن الرد بالبينة فسخ في حق الثالث إذ ليس فيه معنى البيع وهو التمليك والتملك، وإن حصل الرد بنكوله أو بإقراره بقضاء القاضي بأن أقر بالعيب أولًا، ثم أبى القبول، فكذلك الجواب عند علمائنا يرده على البائع الأول؛ لأن هذا فسخ حصل بقضاء القاضي بغير رضا المشتري الأول، فيكون فسخًا في حق الكل كما لو حصل الرد بالبينة.
وإنما قلنا حصل بغير رضا المشتري الأول أما نصًا فظاهر، وأما دلالة فلأن الرضا بالفسخ بطريق الدلالة لو ثبت يثبت من حيث إنه باشر سبب الفسخ بالنكول أو الإقرار بالعيب، ليس بسبب للفسخ، فإن الفسخ لايوجد وإنما يوجد بقضاء قاض عن اختيار، وحكم الشيء ما يثبت به من غير أن يتخلل بين السبب وبين الحكم بفعل فاعل مختار، أكثر ما فيه أن القاضي مضطر في هذا، وهذا الاضطرار إنما جاء من جهة المشتري الأول بإقراره أو بنكوله، فيكون بمعنى المكره من جهته، وفعل المكره يتنقل إلى المكره، فيصير كأن المشتري الأول باشر الفسخ بنفسه، إلا أن نقول: فعل المكره إنما يتنقل إلى المكره فيما صلح آلة للمكره كما في القتل والإتلاف، وأما فيما لايصلح آلة للمكره فعل المكره لا يتنقل إليه. ألا ترى أن في حق الإثم في الإكراه على القتل لايصير فعل المكره منقولًا إلى المكره؟ لأنه في حق الإثم لا يصلح إلا له، وأما القاضي لا يصلح إلا للمشتري الأول في حق القضاء بالفسخ؛ لأن القضاء بالفسخ يكون بالكلام، والإنسان لا يصلح آلة لغيره في الكلام؛ إذ لا يتصور أن يصير الشخص الواحد متكلمًا بكلام غيره. قال بعض مشايخنا: هذا الجواب الذي ذكر في فصل البينة والنكول مستقيم إذا لم يجحد المشتري الأول أن هذا العيب كان عنده بل سكت، فإن البينة على الساكت مسموعة، والساكت يستحلف أيضًا، فأما إذا جحد الأول أن هذا العيب كان عنده ورد عليه بالنكول أو بالبينة، فعلى قول أبي محمد: ليس له أن يخاصم البائع الأول لمكان التناقض، وعلى قول أبي يوسف: له ذلك؛ لأن القاضي لما قضى عليه بالرد فقد أبطل جحوده والتحق بالعدم.
وعامتهم على أن الجواب في فصل الإقرار هكذا إن سبق منه الجحود نصًا، بأن قال: بعتها وما به هذا العيب، وإنما حدث عندك، ثم أقر به بعد ذلك وأبى القبول، فرد عليه القاضي لايكون له مخاصمة بائعه عند محمد؛ لأنه حصل مقرًا لبائعه بسلامة العبد عند العيب حيث قال للمشتري الثاني: لم يكن به هذا العيب حين بعتها منك، لو بطل إقراره للبائع الأول بسلامته عن العيب، إنما يبطل بإقراره الثاني بعد ذلك، ولا يقدر المقر له على إبطال إقراره الأول بإقرار يكون منه بعد ذلك، فبقي إقراره الأول بسلامة المبيع عن هذا العيب عند البائع الأول، فلا يصح منه دعوى كون السلعة معيبة بعد ذلك لمكان التناقض.
وذكر في (المنتقى): إذا اشترى عبدًا وقبضه وأراد أن يرده على بائعه بالعيب فقال البائع: هذا العيب حدث عندك واستحلف القاضي البائع، فأبى أن يحلف فرده عليه قال: له أن يرده على بائعه، أي: له أن يخاصم بائعه فيه و(لو) لم يأب اليمين ولكن أقر بالعيب فرد عليه بإقراره لم يكن له أن يخاصم بائعه، فقد ذكر المسألة مطلقًا من غير تفصيل.
وفي (نوادر هشام): عن محمد في رجل اشترى من آخر دارًا وقبضها، ثم ردها بعيب بغير قضاء، قال: كان أبو حنيفة يقول مرة: كل شيء لو رفعا إلى القاضي قضى به، ففعل هذا دون القاضي، فهو على حقه مع بائعه الأول.
ولو وهبها وسلم، ثم رجع في الهبة بقضاء أو بغير قضاء، فله أن يردها على بائعه بناء على أن الرجوع في الهبة فسخ من كل وجه سواء كان بقضاء أو بغير قضاء، وفيه كلمات كثيرة قد ذكرناها في كتاب الهبة من هذا الكتاب.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): رجل اشترى من آخر جارية وباعها من غيره، فظهر بها عيب عند المشتري الآخر مما يحدث، فجاء به إلى المشتري الأول وأراد الرد عليه، فقال المشتري الأول: بعتها وما كان بها هذا العيب، وإنما حدث عندك وأقام المشتري الآخر بينة أن هذا العيب كان بها عند البائع الأول، فردها القاضي على المشتري الأول، فللأول أن يردها بذلك العيب على البائع الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله (وعند محمد رحمه الله) لا يردها.
وجه قول محمد: أن المشتري الأول لما ادعى حدوث العيب عند المشتري الثاني، فقد أنكر قيامه عنده وأقر أنه لم يكن عند البائع الأول، وبقضاء القاضي صار مكذبًا في إنكاره في إقراره؛ لأن شرط جواز القضاء بالرد على المشتري قيام العيب عند بائعه، فبقي حكم إقراره فلا يكون له أن يخاصم بائعه.
ولهما: أن المشتري الأول صار مكذبًا شرعًا فيما زعم بقضاء القاضي عليه بالرد، والتحق زعمه بالعدم.
نظيره مسألة الشفعة فإن المشتري إذا أقر بالشراء بألف والدار في يديه وأقام البائع بينة على البائع بألفين، فالشفيع يأخذ من المشتري بألفين، وإن زعم المشتري أن حقه في الألف ولكن لما صار مكذبا شرعًا بقضاء القاضي التحق زعمه بالعدم، وما يقول بأنه صار مكذبًا فيما أنكر لافيما أقر، قلنا: الإقرار بعدم العيب عند البائع الأول لم يؤخذ نصًا، وإنما يثبت في ضمن دعوى الحدوث في يد المشتري الثاني، وإذا صار مكذبًا في المتضمن بطل المتضمن ضرورة.
هذا إذا أقام المشتري الآخر بينة على أن هذا العيب كان عند البائع، فأما إذا أقام بينة أن هذا العيب كان عند المشتري الأول لم يذكر هذا الفصل في (الجامع)، وإنما ذكر في إقرار الأصل، وقال: ليس للمشتري الأول مخاصمة بائعه بالإجماع، ووجه ذلك: أن المشتري الأول لم يصر مكذبًا فيما أقر من كون الجارية سليمة وقت شرائه عند البائع الأول؛ لأن المقر الأول إنما يصير مكذبًا في إقراره إذا قضى القاضي بالبينة عليه بخلاف ما أقر به، وهنا القاضي لم يقض على المشتري الأول بخلاف ما أقر به؛ لأن المشتري الأول أقر بكونها سليمة وقت شرائه إياها عند البائع الأول، والقاضي قضى بكونها معيبة وقت بيع الأول من المشتري الثاني؛ لأن القاضي قضى بالرد على المشتري الأول، وشرط كونها معيبة عند المشتري الأول؛ لأن عند البائع الأول لم يثبت بقضاء القاضي كونها معيبة عند البائع فلا يصير المشتري الأول مكذبًا في إقراره بكونها معيبة عند البائع الأول، فلهذا لايكون له مخاصمة البائع الأول، وقود هذا التعليل أن لا يكون للمشتري الأول حق مخاصمة بائعه في المسألة الأولى بالاجماع، وقود ماذكر من العلة لهما في المسألة الأولى أن يكون للمشتري الأول حق مخاصمة بائعه عندهما في هذه المسألة أيضًا.
وفي (المنتقى): اشترى من آخر دارًا وسلمها إلى إنسان، ثم افترقا قبل القبض، ثم رأى المشتري بالدار عيبًا فله أن يردها على بائعها وإن لم يتفرقا حتى يتقاضى السلم، فليس له أن يردها على بائعها، وهذا يجب أن يكون على قول محمد؛ لأن بيع العقار قبل القبض عنده لايجوز، فلا يمكن أن تجعل هذه المناقضة بيعًا جديدًا في حق البائع الأول، وقد ذكرنا جنس هذا في أول الفصل.

.نوع آخر منه:

قال محمد رحمه الله في (الجامع): رجل اشترى من آخر عبدًا بألف درهم وقبضه، ثم باعه من آخر بمائة دينار وتقابضا، ثم إن المشتري الآخر لقي بائعه وزاد في الثمن خمسين دينارًا، حتى صحت الزيادة ودفع المشتري الزيادة إلى البائع، ثم وجد المشتري بالعبد عيبًا فرده على البائع بقضاء قاضٍ استرد الثمن والزيادة جميعًا، وكان للمشتري الأول أن يرد على بائعه؛ لأن المبيع عاد إلى قديم ملكه، وكأن المشتري الآخر لم يزده في الثمن شيئًا، ولكنهما التقيا فجدد العقد بينهما بألفي درهم صح، وينقض البيع الأول بطريق الاقتصار كأنهما تقابلا، ثم تعاقدا، فإن وجد المشتري الآخر بالعبد عيبًا فرده لم يكن لبائعه أن يرده على بائعه الأول؛ لأن هذا الرد لايعود إليه قديم ملكه بالعقد الأول، لما عرف أن الإقالة عقد جديد في حق الثالث، والبائع الأول ثالثهما، فصار في حق البائع الأول كأن المشتري الأول اشتراه ثانيًا من المشتري الآخر، فلم يعد إلى المشتري الأول بالرد بالعيب الملك المستفاد من جهة البائع الأول بخلاف الزيادة؛ لأنها لاتوجب فسخ العقد الأول على أصح الأقوال؛ لأن الزيادة تصرف في وصف العقد، والتصرف في وصف البيع تقريرًا لأصله، فعاد إلى المشتري الأول بالرد عليه قديم ملكه، أما هاهنا بخلافه.
ولو كان المشتري الثاني زاد في الثمن عرضًا بعينه، ثم وجد بالعبد عيبًا ورده على المشتري الأول بقضاء، رده المشتري الأول على البائع الأول لما مر، وإن لم يجد المشتري الثاني بالعبد عيبًا لكنه هلك العرض قبل أن يقبض البائع الثاني، وقيمة العرض خمسون دينارًا، فإنه ينقض العقد في ثلث العقد ويكون ذلك الثلث إلى البائع الثاني؛ لأن الزيادة إذا صحت التحقت بأصل العقد، ويصير كأن المشتري الثاني اشتراه بمائة دينار، وعرض قيمته خمسون دينارًا، فإن وجد المشتري بعد ذلك بالعبد عيبًا ورد الثلثين الباقيين على البائع الثاني بقضاء، فإن للبائع الثاني أن يرد العبد على البائع بذلك العيب؛ لأنه عاد إلى البائع الثاني ملكه الذي استفاده من جهة البائع؛ لأن في الثلث انتقض العقد بهلاك أحد العرضين وإنه فسخ من الأصل، وفي الثلثين انتقض العقد بالرد بقضاء القاضي، وإنه فسخ من الأصل أيضًا، ولو كان لم يهلك العرض ولكن إقالة البيع في ثلث العبد، ثم وجد بالباقي عيبًا يرده على بائعه، أما في الثلث ما عاد إليه الملك المستفاد من جهة البائع الأول، وأما في الثلثين، فحتى لايتضرر البائع الأول ضرر عيب الشركة.

.نوع آخر منه:

رجل اشترى من رجل عبدًا بألف درهم وتقابضا، وباعه من آخر، فجحد المشتري الآخر فخاصمه المشتري الأول إلى القاضي ولم يكن له بينة فحلف، وعزم المشتري الأول على ترك الخصومة، ثم وجد به عيبًا كان عند البائع الأول، فأراد رده على البائع الأول، فاحتج عليه البائع الأول بدعواه البيع من المشتري الثاني، فالقاضي يرده عليه ولا يبطل حقه بدعواه البيع من الثاني؛ لأن دعوى المشتري البيع من الثاني قد بطلت بيمين، حجة قاطعة لخصومته هاهنا، فبطل دعواه بيمين الثاني، والتحق بالعدم، إلا أن المشتري متى علم أنه صادق في دعوى البيع لا يسعه فيما بينه وبين الله تعالى، إلا إذا عزم أن لا يخاصم الثاني، إذا وجد بينة يومًا من الدهر، فحينئذ يسعه الرد فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن بجحود الثاني ينفسخ العقد في حقه على ماعرف ويتوقف الفسخ في حق المشتري الأول، فإذا عزم على ترك الخصومة فقد ساعده على الفسخ فينفسخ العقد فيما بينهما.
قالوا: وهذا إذا عزم المشتري على ترك الخصومة بعدما حلف الثاني، أما إذا عزم على ترك الخصومة قبل حلف الثاني، فليس له أن يخاصم بائعه، والفرق: أن بعد حلف الثاني، ولم يكن للمشتري الأول بينة ينعقد إبقاء العقد فيكون الأول مضطرًا في مساعدة في الفسخ فلم يحتمل معنى المبادلة، فكان فسخًا من كل وجه في حق الناس كافة، فأقبل حلف الثاني، فالمشتري الأول غير مضطر في فسخ البيع الثاني، فاعتبر هذه المساعدة منه بيعًا جديدًا في حق الثالث، فلا يكون له مخاصمة البائع الأول، وإن صدقه المشتري الآخر في الشراء وتصادقا أن البيع بينهما كان تلجئة وسمعة، فرده على المشتري الأول، ثم وجد المشتري بالعبد عيبًا كان عند بائعه كان له أن يرده على بائعه؛ لأن البيع بينهما إنما ظهر بإقرارهما قائمًا يثبت على الوجه الذي أقرا به، وقد أقرا أنه ثبت كذلك والبيع تلجئة لا يزيل المبيع عن ملك البائع، فبقي الملك المشترى المستفاد من جهة بائعه على حاله فلا يمتنع الرد، وكذلك إن اتفقا على أنهما كانا بالخيار في هذا البيع، أو على أن فلانا منهما بعينه كان بالخيار، فرده صاحب الخيار رده المشتري الأول على بائعه، وكذلك لو أنفقا على المشتري الثاني لم يرده ورد بخيار الرؤية، فللمشتري الأول أن يرده على بائعه؛ لأن الرد بخيار الشرط وبخيار الرؤية فسخ للعقد من الأصل في حق الناس كافة، وكذلك إن اتفقا أن البيع الثاني كان بألف درهم إلى العطاء فرد البيع الثاني، فللمشتري الأول أن يرده على بائعه؛ لأن البيع إلى العطاء بيع فاسد، والرد بفساد السبب فسخ في حق الناس كافة.
ولو تصادق المشتري الأول والثاني على جريان بيع بات بينهما، ثم خير أحدهما صاحبه بثلاثة أيام ولياليها جاز وقد مر هذا في فصل الجناية.
ولو أن من شرط له الخيار في هذه الصورة نقض البيع لم يكن للمشتري الأول أن يرده على بائعه بحكم العيب؛ لأن البيع في الأصل لما وقع باتًا تعلق به حق البائع الأول، وهو انقطاع حق المشتري الأول في الرد، فهما في إثبات الخيار وتحصيل الفسخ يريدان إبطال ذلك الحق على البائع الأول، وليس لهما هذه الولاية، ولو لم يخير أحدهما صاحبه بالفسخ ولكن وجد المشتري بالعبد عيبًا ورده على المشتري الأول، فأراد المشتري أن يرده على البائع الأول، فقد ذكرنا هذا الفصل تمامه قبل هذا.
ولو أن المشتري الأول مع المشتري الثاني أقرًّ بالبيع الثاني عند القاضي، ثم جحد البيع، وأنكرا أن يكونا أقرا عنده بشيء جعلا عند القاضي جحودهما فسخًا للعقد؛ لأن الجحود جعل كناية شرعًا عن الفسخ، فإن أراد المشتري الأول الرد بعد ذلك لم يكن له ذلك؛ لأن البيع قد ثبت عند القاضي بإقرارهما، وجحودهما جعل نقضًا باختيارهما، فكان بمنزلة الإقالة، حتى لو أراد المشتري الآخر إمساك العبد بعد ذلك ليس له ذلك، وكذلك لو أعتقه المشتري الآخر لم يصح إعتاقه، ولو أعتقه المشتري صح؛ لأن الإقالة تمت فيما بينهما.
رجل اشترى عبدًا وقبضه ووجد به عيبًا فأراد أن يرده، فأقام البائع بينة أن المشتري أقر أنه باعه من فلان قبلت بنيته ولم يكن للمشتري أن يرده، سواء كان فلان حاضرًا أو غائبًا، فرق بين هذا وبينما إذا أقام البينة أن المشتري باعه من فلان الغائب حيث لا تقبل بنيته، وكان للمشتري أن يرده عليه بالعيب، والفرق: أن في الفصل الأول قامت على إثبات إقرار المشتري الأول، والمشتري الأول حاضر، وليس في قبولها قضاء على الغائب بالبيع؛ لأن الإقرار حجة قاصرة فقبلت، وثبت إقرار المشتري الأول بالبيع، فلا يتمكن من الرد بعد ذلك. أما في الفصل الثاني البينة قامت على إثبات البيع من الغائب، وذلك ممتنع لما فيه من القضاء على الغائب من غير أن يكون خصم حاضر، فلم تقبل هذه البينة، وصار وجودها والعدم بمنزلة، ولو انعدمت كان للمشتري أن يرده على البائع بالعيب كذا هنا.
ولو كان البائع أقام البينة أن المشتري باع هذا العبد من هذا الرجل وهو حاضر لكنهما يجحدان البيع والشراء لم يرده المشتري الأول؛ لأن البينة في هذه الصورة قامت على خصمين حاضرين فقبلت وثبت البيع بينهما، فإذا تجاحدا البيع جعل ذلك إقالة منهما للبيع، والإقالة بيع جديد في حق الثالث، والبائع الأول ثالثهما، فاعتبر في حقه بيعًا جديدًا، فبطل حق الرد بالعيب والله أعلم.

.الفصل الخامس عشر: في بيع المرابحة والتولية والوضعية:

المرابحة بمثل الثمن الأول وزيادة، والتولية بيع بمثل الثمن الأول من غير زيادة والوضيعة بمثل الثمن الأول مع نقصان معلوم، والكل جائز؛ لأن المبيع معلوم والثمن معلوم، ولأن الناس تعاملوا ذلك كله من غير نكير منكر، وتعامل الناس حجة يترك بها القياس، ويخص بهذا الأثر.
قال محمد رحمه الله: إذا اشترى شيئًا فباعه مرابحة، فإن كان البدل في العقد الأول من ذوات الأمثال، جاز بيعه مرابحة سواء جعل الربح من جنس رأس المال أو من غيره، إذا كان معلومًا يجوز الشراء به؛ لأن الربح جزء من أجزاء الثمن، كما يجوز أن يكون من جنس واحد يجوز أن يكون من جنسين، ولكن بشرط أن يكون معلومًا يجوز الشراء به، وإن لم يكن البدل في العقد الأول من ذوات الأمثال فباعه مرابحة ممن لايملك ذلك البيع، فالبيع باطل؛ لأن الثمن في بيع المرابحة مثل الثمن الأول وزيادة ربح، فإذا لم يكن الثمن الأول من ذوات الامثال والمشتري لا يملك عين ذلك الثمن، لو انعقد العقد ينعقد بقيمة ذلك الثمن وهي مجهولة لاتعرف إلا بالحزر والظن، وجهالة الثمن تمنع جواز العقد.
وإن كان يملكه فهو على وجهين: إن باعه بربح درهم أو شيء موصوف جاز العقد؛ لأنه يقدر على تسليم ما التزم، وإن باعه بربح (ده يازده) فالبيع باطل؛ لأنه جعل الربح من جنس رأس المال، فإنه جعل الربح مثل عشر الثمن، وعشر الشيء يكون من جنسه، فإذا لم يكن الثمن من ذوات الأمثال يصير العقد منعقدًا بالثمن الأول وتنقص قيمته وهذا لا يجوز.
ولو اشترى ثوبًا بعشرة فأعطي بها دينارًا أو ثوبًا، فرأس المال العشرة، حتى لو باعه مرابحه لزم المشتري الثاني عشرة لا ما نقد المشتري الأول؛ لأن الثمن ما ملك بالعقد، والمملوك بالعقد الأول العشرة دون الثوب والدينار.
ولو اشترى ثوبًا بعشرة خلاف نقد البلد، فباعه بربح درهم فالعشرة مثل ما نقد، والربح من نقد البلد؛ لأن رأس المال يجب أن يكون مثل الأول، فلا يتغير بنقد البلد، أما الربح فدرهم ذكره مطلقًا، ومطلق اسم الدرهم ينصرف إلى نقد البلد، ولو نسب الربح إلى رأس المال، فقال: أبيعك (ده يازده) فالربح من جنس الثمن؛ لأنه جعل الربح جزءًا للثمن حيث جعله مثل عشره فكان على صفة ضرورة.
في (المنتقى): باع من رجل متاعًا مرابحة، وأخبره أن رأس ماله مائة دينار، فلما أن أراد أن يدفع الثمن قال: اشتريت بمائة دينار شامية والبيع ببغداد، قال: ليس له إلا نقد بغداد، وإن أقام البينة أن رأس ماله مائة دينار شامية قبلت بينته ويكون المشتري بالخيار.
وفيه: رواه ابن سماعة عن محمد بشر عن أبي يوسف: رجل اشترى متاعًا بنيسابور، فقدم بلخ ولم يبين أنه اشتراه بنقد نيسابور، فقال ببلخ: قام علي هذا المتاع بكذا، فأبيعه بربح مائة درهم أو بربح ده دوازده، فإن الربح ورأس المال نقد بلخ، إلا أن يصدقه المشتري أنه نقد نيسابور أو تقوم بينته.
وإذا كان نقد نيسابور دون نقد بلخ في الوزن والجودة، فقال: قام علي بكذا، ولم يبين أنه نقد نيسابور كان رأس المال والربح على نقد نيسابور، وإذا كان نقد نيسابور أكثر وزنًا وأجود من نقد بلخ ولا يعلم المشتري بذلك، فاشتراه على أنه نقد نيسابور وهو بلخ، ثم علم أن نقد نيسابور أكثر وزنًا وأجود من نقد بلخ، فللمشتري الخيار إن شاء أخذه، وإن شاء ترك.
وإذا اختار البائع في رأس المال في بيع المرابحة والتولية، قال أبو حنيفة: يحط قدر الجناية في التولية ويتخير في المرابحة، إن شاء أخذ بجميع المذكور، وإن شاء ترك، وقال أبو يوسف: يحط الجناية في التولية وفي المرابحة يحط الجناية وحصتها من الربح، وقال محمد: يثبت له الخيار في الموضعين، إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
وجه قول أبي يوسف: أن العقد الثاني في المرابحة والتولية في حق الثمن بناء على الأول، وقدر الجناية لم يكن ثمنًا في العقد الأول، فلا يمكن إثباته في العقد الثاني، وإذا سقط قدر الجناية سقط حصته من الربح في بيع المرابحة ضرورة.
وجه قول محمد: أنهما كانا باشرا عقدًا باختيارهما ثمن سماه، فينعقد بجميع ذلك الثمن كما لو باعه مساومة وزاد؛ لأن انعقاد السبب الثاني يعتمد التراضي منهما، ولا يتم رضا المشتري الأول إذا لم يحجب له جميع الثمن المسمى، إلا أنه دلس على المشتري الثاني، والتدليس ثبت الخيار للمشتري كتدليس العيب.
ولأبي حنيفة رحمه الله في الفرق بين المرابحة والتوليه أن في إثبات الجناية في التولية، يعتبر العقد عن موضوع ما صرحا به؛ لأنهما صرحا بالتولية ومع الجناية هو مرابحة لا يكون معتبرًا للعقد؛ لأنهما صرحا بالمرابحة أكثر مما ظنه المشتري، غير أن البائع دلس على المشتري بتسمية بعض الربح رأس المال، والتدليس يثبت الخيار.
ولو هلك المبيع أو حدث به ما يمنع الفسخ عند ظهور الجناية سقط خياره، ولا شيء له في قول أبي حنيفة، وهو المشهور من قول محمد رحمه الله؛ لأنه تعذر الرد بما حدث من الهلاك أو غيره، وتعذر الرد يسقط الخيار كما في خيار الرؤية وخيار الشرط، وروي ابن سماعة عن محمد رحمه الله أن المشتري يرد قيمة المبيع ويرجع على البائع بالثمن، وإذا حط البائع عن المشتري بعض الثمن باعه مرابحة بما بقي بعد الحط، وكذلك لو حط عنه بعد ما باع حط ذلك من المشتري الثاني مع حصته من الربح وكان له ولاية حط ذلك عن المشتري الآخر.
ولو زاد المشتري البائع في الثمن زيادة، باعه مرابحة على الأصل والزيادة جميعًا، وهذا مذهب علمائنا الثلاث رحمهم الله، بناءً على أن الزيادة في الثمن والحط عنه ملتحق بأصل العقد، ويجعل كأن العقد ورد ابتداء على هذا القدر، وقد جرت المسألة من قبل.
قال محمد في (الكتاب): لو حط عنه بعد ما باع حط ذلك عن المشتري الثاني مع حصته من الربح، إشارة إلى أنه لا يحط ذلك عن المشتري الآخر بنفس الحط عن الأول مالم يحط عنه، وهذا فصل قد اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: لا يحط ذلك عن المشتري الآخر ما لم يحط عنه، ومنهم من قال: ينحط عنه بنفس الحط عن الأول.
ولو اشترى ثوبًا ولم ينقد ثمنه، ثم باعه مرابحة جاز، فإن أخر الثمن منه شهرًا بعد ذلك لم يلزمه أن يؤخر عن المشتري ولا يشبه هذا الحط.
ولو اشترى ثوبًا بعشرة فباعه مرابحة باثني عشر، ثم اشتراه ثانيًا عشرة باعه مرابحة على ثمانية في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يبيعه مرابحة على عشرة؛ لأن الشراء جديد فنبني عليه بيع المرابحة، كما لو باعه المشتري من ثالث، ثم إن البائع اشترى من ذلك الثالث، ولأبي حنيفة: أنه لما باعه أولًا وربح، كان الربح على شرف السقوط بأن يرد بالعيب أو يبطل العقد بسبب من الأسباب، فلما اشتراه منه بعد ذلك تأكد الربح، والتأكيد إثبات من وجه، فصار كأنه اشترى الربح والثوب بذلك الثمن، فيصير مقدار الربح من الثمن بمقابلته، ويبقى الباقي بمقابلة الثوب فيبيعه مرابحة على ذلك القدر احتياطًا؛ لأن باب المرابحة مما يحتاط فيه؛ لأنه من باب الربا فيلحق الشبهة منه بالحقيقة، فعلى هذا عند أبي حنيفة: لو اشتراه بعشرة وباعه بعشرين، ثم اشتراه بعشرة لا يبيعه مرابحة أصلًا.

.نوع آخر فيما يحدث بالسلعة:

مما يجب أن يبين وما لا يجب: وإذا حدث عيب في يد البائع بالمبيع، أو في يد المشتري بآفه سماوية، أو بفعل المبيع فله أن يبيعه مرابحة بجميع الثمن من غير بيان عند علمائنا الثلاث رحمهم الله؛ لأن جميع ما يقابله الثمن قائم؛ لأن الفائت وصف، والأوصاف لا يقابله شيء من الثمن إذا فاتت من غير صنع واحد، ومعنى إذ الأمانة بالصدق إذا نفى جميع ما يقابله الثمن، ولو كان الحادث من فعله، أو فعل أجنبي لم يبعه مرابحة حتى يبين، أما إذا حدث بفعله فلأنه حبس جزءًا من المبيع بجنايته، والأوصاف إذا صارت مقابلًا بالتبادل صار لها حصة من الثمن، وأما إذا حدث بفعل أجنبي فلأن جناية الأجنبي موجبة للضمان عليه، فيكون المشتري حابسًا بدل جزء المعقود عليه، وذلك مبلغه من بيع المرابحة حتى يبين.
وفي (المنتقى): اشترى عبدًا وقبضه، ثم جاء أعور أو أعمى لم يبعه مرابحة، وكل ما ينقصه مما يحدث به من العيب عنده بقدر ما لا يتغابن الناس في مثله لم يبعه مرابحة، وكذلك إذا جابى لبائع، وكذلك إن حدث من المبيع نماء وهو قائم في يده كالثمرة والولد والصوف، أو هلك بفعله، أو بفعل أجنبي لم يبعه مرابحة حتى يبين، أما قبل الهلاك فإن المستولد من نفس المبيع له حكم المبيع، وفي ذلك نوع خيانة، وأما إذا هلك بفعله، أو بفعل أجنبي فلما مر، ولو هلك بآفة سماوية جاز له أن يبيعه مرابحة من غير بيان، ولو استغل الدار والأرض جاز أن يبيعه مرابحة من غير بيان؛ لأن العلة ليست بمتولدة من العين، ولهذا لا يمنع استيفاؤها الرد بالعيب فلا يكون حابسًا شيئًا من المعقود عليه باعتبارها؛ لأن العلة بدل المنفعة واستيفاء المنفعة لا يمنع من بيعها مرابحة؛ وهذا لأنه أنفق عليها... من المنفعة، فإذا كان استيفاء عين المنفعة لا يمنع من بيع المرابحة، فكذا استيفاء بدل المنفعة.
قال: ولو اشترى جارية ثيبًا فوطئها جاز أن يبيعها مرابحة، وإن كانت بكرًا لم يبعها مرابحة حتى يبين، والفرق هو أن المستوفى بوطء الثيب لا يقابله شيء من البدل؛ لأنه ليس بمال الاستخدام، وإن الحق بتفويت الحر في عين الملك بخلاف ما إذا كانت بكرًا؛ لأن العذارة... هو مال ويقابلها شيء من الثمن، فصار إزالتها كقطع العضو.
قال: ولو اشترى نسيئة لم يبعه مرابحة حتى يبين؛ لأن الأجل نسبه كونه مبيعًا، فإنه يزاد في الثمن لأجل الأجل، فألحق بحقيقته احتياطًا، فصار كأنه اشترى شيئين، ثم أراد أن يبيع أحدهما مرابحة على كل الثمن، وذلك لا يجوز من غير بيان فهاهنا كذلك، وهذا في الأجل المشروط، فإن لم يكن الأجل مشروطًا إلا أنه متعارف موهوم فيما بين التجار، مثل البياع يبيع الشيء من إنسان ولا يطالبه بالثمن بل يأخذه منه منجمًا في كل شهر، أو في كل عشرة أيام هل عليه أن يبين ذلك في بيع المرابحة؟ أكثر المشايخ أنه ليس عليه ذلك، وروي عن أبي يوسف أنه لا يبيعه مرابحة حتى يتبين حاله، وبه أخذ بعض المشايخ، ثم في الأجل المشروط إذا باعه من غير بيان وعلم به المشتري فله الخيار، إن شاء رضي به وأمسكه، وإن شاء رده.
ذكر المسألة في (الأصل) وفي (الجامع الصغير)، وتصير هذه المسألة رواية فيمن اشترى شيئًا وصار مغبونًا فيه غبنًا فاحشًا له أن يرده على البائع بحكم الغبن، وإليه أشار محمد رحمه الله في الصلح عن العيوب، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يحكي عن أستاذه يقول: في المسألة روايتان عن أصحابنا: وكان يفتي برواية الرد رفقًا بالناس، وكان القاضي الإمام صدر الإسلام أبو اليسر، والقاضي الإمام ركن الإسلام أبو بكر.... والقاضي الإمام جمال الدين.... مولى جدي رحمهم الله يفتون أن البائع إن قال للمشتري: قيمة متاعي كذا، إذا قال: متاعي يساوي كذا فاشترى بناء على ذلك، ثم ظهر بخلافه أن له الرد بحكم التغرير، أما إذا لم يقل ذلك، فليس له الرد، وغيرهم كانوا لا يفتون بالرد على كل حال، والصحيح: أن يفتى بالرد إذا وجد التغرير، وبدونه لا يفتى بالرد.
قال: ولو اشترى من إنسان بدين عليه كان له أن يبيعه مرابحة على قدر الدين، ولو صالح من الدين على ثوب لم يجز له أن يبيعه مرابحة حتى يتبين الفرق وهو أن مبنى الصلح على الحط والتجوز بدون الحق، والمشتري الثاني اعتمد مما كسبه الأول، فإذا ترك الأول المماكسة في عقد الصلح كان في بيعه مرابحة من غير بيان نوع جناية فلا يفعل، فأما الشراء فمبناه على المماكسة، فكان الشراء بالدين والثمن النقد سواء، فجاز له أن يبيعه مرابحة من غير بيان، وعن أبي يوسف في فصل الصلح أنه إذا زاد في ثمنه أكثر مما يتغابن الناس فيه، فإنه لا يبيعه مرابحة حتى يبين، وإن كان أخذه بقيمته أو بنحو ذلك باعه مرابحة من غير بيان.
قال: وقال أبو حنيفة: إذا اشترى ممن لا تجوز شهادته له لم يجز له أن يبيعه مرابحة حتى يتبين. وقال أبو يوسف ومحمد: له أن يبيعه مرابحة. ولو اشترى من عبده أو مكاتبه لم يجز بيعه مرابحة بالاتفاق حتى يبين.
فوجه قولهما: أنه ليس لأحدهما في مال صاحبه ملك ولا حق، فكانا في ذلك بمنزلة الأخوين بخلاف العبد والمكاتب؛ لأن كسب العبد لمولاه وما حصل لمكاتبه من وجه كأنه لمولاه، فكان الشراء عدما من ذلك الوجه بخلاف ما نحن فيه.
ولأبي حنيفة: أن ما يحصله المرء لهؤلاء (ما) بمنزلة يحصله لنفسه من وجه، ولهذا لا تقبل شهادته لهؤلاء، فباعتبار هذا الوجه صاروا في حقه بمنزلة العبد والمكاتب، ولا يشاركه بعض هؤلاء مع البعض في المعاملة، أو ظاهر فيثبت معنى الجناية بترك البيان.
وفي (المنتقى): إذا اشترى الرجل شيئًا بغلاء والزيادة مما لا يتغابن الناس في مثله، فله أن يبيعه مرابحة ولا يبين، وإذا جاوزت الزيادة ذلك والمشتري يعلم لا يبيعه مرابحة ما لم يبين، وإن كان لا يعلم وسعه أن يبيعه ولا يبين.
قال: وإذا كانت الزيادة في الأمر البين الذي لا يحتاج الناس إلى أن تبين فيه المحاباة فليس عليه أن يبين، نحو أن يشتري فلسًا بدرهم، فهذا معروف فيما بين الناس أن الفلس لا يباع بدرهم، فإن باع هذا ولم يبينه وسعه إلا أن يشتريه منه بجهل ذلك، فإن كان كذلك لم يبعه حتى يبين كما يبين في النسبة.
وفيه أيضًا: وهب لرجل ثوبًا على عوض اشترط وتقابضا، فليس له أن يبيعه مرابحة في قياس قول أبي حنيفة وهذا مثل الصلح، وأما في قياس قول أبي يوسف إن كان العوض مثل قيمة الهبة فلا بأس بأن يقول: قام علي بكذا، ولا يقول اشتريته بكذا، وكذلك إن حط عن العوض ما يتغابن الناس فيه، وإن حط أكثر من ذلك لم يجز له أن يبيعه مرابحة بألف، ويقول: قام علي بكذا، وللشفيع أن يأخذها بالشفعة بألف.
وفي (نوادر هشام) قال: سألت أبا يوسف عن رجل اشترى من رجل متاعًا بدراهم له عليه من ثمن المتاع، وهذا المتاع إن أصاب في يد غيره لم يشتره من ذلك الثمن بالنصف، قال: كان هكذا فلا يبيعه مرابحة حتى يبين؛ لأنه قد حاباه.
وفيه أيضًا: إذا اشترى عبدًا بألف درهم ببعض لها صرف ونقد في ثمنه غلة، فلا صرف لها، فإنه يبيعه على الغلة التي نقدها؛ لأن قبول البائع نقدًا دون نقده حط عن الثمن.
وفي (نوادر هشام) قال: قلت لأبي يوسف في رجل اشترى ثوبًا بعشرة جياد ونقده زيوفًا، قال في قول أبي حنيفة يبيعه مرابحة على عشرة زيوف، وقال أبو يوسف: يبيعه على عشرة جيادًا، ثم رجع أبو يوسف عن قول أبي حنيفة وشده فيه، قال: سمعت أبا يوسف يقول: فيمن اشترى ثوبًا بعشرة دراهم مزيفة أنه يبيعه ويبين، وإن لم يبين فللمشتري الخيار.
إذا اشترى نصلًا وحمائل وجفنًا، ثم أنفق على ذلك حتى ركبه وحلاه بفضة ثم باعه، وقال: القصة فيه كذا أبيعكها بوزنها بلا ربح، وما بقي قام علي بكذا وكذا، فهذا جائز استحسانًا، من قبل أنه وقع لكل شيء من هذا ثمن على حدة.
ولو اشترى مختوم حنطة بعينها بمختوم شعير بغير عينه وتقابضا، فلا بأس أن يبيع الحنطة مرابحة وكذلك كل صنف من الكيل أو الوزن بصنف آخر.
ولو اشترى قفيرًا من الحنطة بقفيزي شعير بغير عينه، ثم باع الحنطة بربح ربع حنطة لم يجز، وهذا بخلاف ما لو اشترى قلب فضة، ثم باعه بربح درهم.
قال: الوارث لا يبيع ما ورثه عن أبيه مرابحة على ما اشتراه الأب. ولو أقام المشتري بينة أن المشترى ميراث لبائعه من أبيه كان له أن يرده عليه. ولو أقام البائع (البيّنة) أنه كان ميراثًا إلا أنه بيع في دين علي واشتريته بهذا الثمن، ثم يقبل قوله، وله أن يحلف المشتري على علمه، وإن أقام بينته على ذلك قبلت بينته وكانت أولى من بينة المشتري؛ لأنهم شهدوا بمثل شهادته في الميراث وزادوا عليهما بيع الميراث وشراءه. وكذلك لو أقام (البيّنة) أنه كان ميراثًا إلا أني بعته من فلان وقبضت ثمنه وسلمه إليه، ثم إني اشتريته منه بهذا الثمن قبلت بينته في قول أبي حنيفة.
وروى أبو سليمان عن أبي يوسف فيمن اشترى عبدًا بطعام عينه وتقابضا لم يكن له أن يبيعه مرابحة؛ لأنه لو هلك قبل القبض انتقض البيع ولو رده بعيب انتقض البيع. وروى بشر عن أبي يوسف بخلاف هذا. وعن محمد أنه يبيعه مرابحة رجل رقم يره وزاد في رأس المال وقال المشتري: أبيعك على هذا الرقم ولم يقل اشتريته بذلك، ولا قال قام علي به، جاز في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: إن كان المشتري جاهلًا بذلك الأمر، فليس له أن يبيعه حتى يقول زدت في الرقم، وإن (لم) يقل وعلم المشتري به بعد ذلك فله أن يرده، وإن كان المشتري تاجرًا يعرف ما يجري بين التجار من هذه الزيادات لزمه.
بشر عن أبي يوسف في (الإملاء): رجل اشترى من آخر ثوبًا وبطانة، وجعلها حشوها قطنًا وريشًا وهب له، ثم حسب الثمن وأجر الخياط، ثم قال لغيره: قام علي بكذا وكذا وباعه مرابحة على ذلك جاز، وكذلك الرجل يرث الثوب فبطنه بالقز والذي اشتراه ويحسب أجرة الخياط وثمن القز، وقال لغيره: قام علي بكذا وكذا وباعه مرابحة على ذلك جاز، وكذلك لو كان القز ميراثًا والظهارة مشترى.
ولو باع ثوبين قد اشترى أحدهما بعشرة والآخر ميراث باعهما مرابحة، وقال وقت البيع: قاما علي بعشرة، فهذا لا يجوز، قال: من قبل أن للثوب الميراث حصة من الثمن يردها بالعيب ويرجع بها في الاستحقاق، وهو لم يشتره بشيء، وهذا مخالف للذي وصفنا قبله من الثوب المحشو والمبطن؛ لأن ذلك ثوب واحد لا يراثل بعضه بعضًا، وهذان ثوبان كل واحد منهما ثوب على حدة.
رجل اشترى عبدًا بألف درهم وتقابضا، ثم باعه مرابحة على ألف ومائة درهم وتقابضا، ثم بلغ المشتري الثاني أن أصل شراء المشتري الأول كان بألف، فخاصم في ذلك فأقام بينة عليه بذلك، فقال معه: قد كنت اشتريته بألف درهم، ثم وهبته، ثم اشتريته بألف ومائة لم يصدق على ذلك، فإن طلب يمين المشتري على علمه، وقال المشتري: شهدني حين وهبته واشتريته بألف ومائة أستحلفه على علمه، ولو لم يدع بيعه هذا، ولكنه قال: المائة الزيادة أنفقتها عليه في طعامه وفي حمولته من البلد التي اشتريته فيه إلى هذا البلد، فإن كان إنما باعه مرابحة على ما قام، فالقول قوله مع يمينه، وإن كان قال: قد اشتريته بألف ومائة على ذلك لم يقبل قوله في هذه المائة أنها نفقة؛ لأنه قد أقر في عقدة البيع أنها في أصل الثمن.
رجل اشترى ثوبًا بخمسة عشر درهمًا ونقد الثمن، ثم باعه بربح ده يازده، وأخبر أنه قام علي بعشرة، فانتقد عشرة وربحها، ثم قال بعده: غلطت، قام علي بخمسة عشر وكذبه المشتري، فإنه لا تقبل بينة البائع على ما ادعاه من رأس المال، فإن صدقة المشتري في ذلك، قيل للمشتري: أعطه خمسة دراهم ونصف، أو رد البيع في قول أبي يوسف رحمه الله، وأما في قياس قول أبي حنيفة فلا يؤخذ المشتري بزيادة، إنما يقال للبائع إن يثبت ما فسخ البيع وخذ الثوب ورد ما فقدت، وإن سبب فعلم البيع بالذي انتقدت لا يزاد عليه.
ولو قال المشتري: إنما اشتريته بخمسة فحسبت وجعلت رأس مالك عشرة وأراد استحلافه على ذلك، فلا يمين على البائع في قول أبي حنيفة، ويستحلف في قول أبي يوسف.
ولو أقر البائع أن رأس المال ذلك، أو قامت بذلك بينة، فإنه يرد في قول أبي يوسف على المشتري خمسة ونصف، وأما في قول أبي حنيفة فلا يرد شيئًا، إن شاء المشتري يرد البيع، وإن شاء أمسك بالثمن الذي نقده، فإن كان اشتراه تولية في المسألتين جميعًا فإنهما يترادان في الزيادة والنقصان في قول أبي يوسف، وكذلك قال أبو حنيفة في النقصان، وكذلك قياس قوله في الزيادة، وكذلك لو ابتاعه بربح درهم على عشرة، فهو مثل ذلك في جميع هذه الوجوه في ده يازده.
في (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل غصب من آخر عبدًا، فأبق منه وعيبه فقضي عليه بقيمة المغصوب منه، ثم ظهر العبد كان للغاصب أن يبيعه مرابحة على القيمة التي غرم، ويقول: قام علي بكذا، ولا يقول اشتريت.
وفي (نوادر هشام) عن محمد: اشترى بجراب هروي فيه كذا ثوبًا لك كل ثوب بعشرين درهمًا أنه يبيعه مرابحة على عشرين، ولو كان للجراب حصة لم يقدر على البيع مرابحة بعشرين، وكذلك دن الخل وقوصرة التمر بمنزلة، وأما ورق السمن والعسل وقد اشتراه جزافًا فله حصته من الثمن.

.نوع آخر في بيان ما للمشتري أن يلزم السلعة في بيع المرابحة وما ليس له ذلك:

قال محمد في (الأصل): اشترى متاعًا فله أن يحمل عليه ما أنفق في القصارة والخياطة ويقول: قام علي بكذا، ولا يقول: اشتريته بكذا، وكذلك يحمل عليه ما أنفق في الصبغ أو الغسل أو الفتل، ويقول: قام علي بكذا ولا يقول: اشتريته بكذا؛ لأن ذلك كذب وخيانة، وإن قال ذلك، ثم علم المشتري فله الخيار إن شاء أخذ، وإن شاء رد؛ لأنه خيانة، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال أبو يوسف في مسألة القصارة والفتل والصبغ: إنه لا خيار للمشتري؛ لأن الذي أنفق في الصبغ والفتل والقصارة شراء أيضًا، فلا يكون هذا من باب الجناية، والأصل في جنس هذا أن يقال: ما جرت عادة التجار بإلحاقه برأس المال يلحق برأس المال وما لا فلا أو نقول: ما أثر في المبيع وتزداد به مالية البيع صورة ومعنى، فله أن يلحق برأس المال وما لا فلا، ولا يحمل عليه ما أنفق على نفسه في سفره، وأما الرقيق فله أن يلحق بهم طعامهم وكسوتهم بالمعروف. وفي (المنتقى) وفي الرقيق يحمل على أثمانهم طعامهم، ولا يحمل عليه كسوتهم، ويضم أجرة سائق الغنم، ولا يضم أجرة الراعي استحسانًا، قال شمس الأئمة الحلواني: في موضع جرت العادة فيما بين التجار بإلحاق أجر الراعي برأس المال يلحق أيضًا، والباج الذي يؤخذ في الطريق لا يلحق برأس المال، قال رحمه الله: في موضع جرت العادة فيما بين التجار بإلحاقه برأس المال يلحق به أيضًا.
ولا يضم أجرة الطبيب والرائض والبيطار، وجعل الآبق وأجرة السمسار تضم إن كانت مشروطة في العقد بالإجماع، وإن لم تكن مشروطة بل كانت موسومة، أكثر المشايخ على أنها لا تضم، ومنهم من قال: لا تضم أجرة الدلال بالإجماع، بخلاف أجرة السمسار إذا كانت مشروطة في العقد، أو لم تكن على قول بعض المشايخ، وذكر في (البرامكة): أن أجرة السمسار لا تضم من غير فصل، وفي (المنتقى) ويحمل على الثمن كراء السفينة وكراء الدابة التي حملت ويقول: قام علي بكذا، وفي الدواب يحمل على أثمانها ثمن العلف، ولا يحمل ثمن الجلال والبرامع، وكذا في الرقيق لا يحمل على الثمن ثمن العطر والأدهان، وكذا لا يضم كل ما جاوز القوت من الطعام والإدام، ولا يضم أجرة سائق الرقيق وحافظ الطعام والمتاع وما عمل بيده من قصارة أو خياطة أو ما أشبه ذلك من الأعمال لا يضمه إلى رأس المال.
وقال أبو يوسف: ولا يضم إلى ثمن الرقيق ما أنفق عليه في تعلم القرآن والكتابة والصناعة والسفر وغير ذلك، وقال محمد: يضم إذا اشترى لؤلؤة واستأجر من شقها ضم أجرة إلى ثمنها ويبيعها مرابحة على ذلك كله؛ لأنه يزيد في ثمنها، وأما الياقوتة فما كان ينقصه ذلك لا يحتسب بأجره في الثمن، وما كان منه يزيده الثقب..... أو لابد له منه احتسب أجر ذلك.
وفي الطعام لا يضم أجرة الكيالين إلى رأس المال ويضم أجرة النقالين. وإذا جصص الدار أو طينها أو طوى......، فإنه يضم ثمن ذلك وأجر..... ثمن الدار، ولا يضم أجرة الحافر سواء بئر ماء أو بئر بالوعة والفناء في الأرض يحتسب ذلك ثمنها، وكذلك النفقة في الكراب وكشح الكروم، ولو سقى الأرض لم يحتسب ذلك في رأس مالها، وكذلك إذا سقى النخل والكرم والشجر.
ولو أحدث في الأرض زرعًا أو كرمًا أو شجرًا وأنفق في سعتها يحتسب بذلك في رأس المال ما بقي فيها، فإذا ذهب ذلك من الأرض لم يحتسب بشيء ما أنفق من قبل أن منفعة الماء كانت للنخل والشجر، فإذا ذهب ذلك لم يبع مرابحة إلا على الثمن الذي اشتراها به، وإذا اشترى تمر نخل، فإنه يحتسب بأجرة اللقاط، ولا يحتسب بأجرة الحافظ.
وإذا اشترى شياه وأجر آخر من يذبحها ويسلخها ويملحها، فإنه يضم ذلك كله إلى رأس ماله. إذا اشترى نحاسًا واستأجر من يضربه آنية حسب بذلك، وكذلك ينحته أبوابًا، وكذلك الرجل يشتري الحطب ويتخذ منه فحمًا، فإنه يحتسب أجر الموقد وأجر الآخر وأجر النقالين.
وإذا اشترى غنمًا وأنفق عليها في علفها وأصاب من ألبانها وأصوافها دون ذلك ألحق الفضل من النفقة برؤوس مالها.
ونظير هذا رجل اشترى دجاجة وقبضها فباضت عنده ثلاثين بيضة فباع البيضات بدرهم، ثم أراد أن يبيع الدجاجة مرابحة، إن أنفق على الدجاجة قدر ثمن البيضات جاز؛ لأنه جعل ثمن البيض عوضًا عما أنفق، وإن لم ينفق لا يجوز وهذا هو الأصل في جنس هذه المسائل، إن قدر ما أصاب من الزيادة أولًا نفق في ماله لا يلزمه بيان ذلك في بيع المرابحة.

.نوع آخر منه:

في بيع ما اشترى مرابحة إذا كان المبيع جملة مما يكال أو يوزن أو يعد غير متفاوت، كان للمشتري أن يبيع بعض تلك الجمل مرابحة؛ لأن مالا يتفاوت، فالثمن فيه ينقسم على الأجزاء، فنصف الثمن يكون ثمن النصف بيقين وثمن الربع يكون ربع الثمن بيقين، فيبيع النصف منه مرابحة على نصف الثمن ويبيع الربع مرابحة على ربع الثمن، وإن كان مختلفًا مما لا يكال ولا يوزن، فإن باع نصفًا مشاعًا مرابحة جاز، بأن اشترى جرابًا هرويًا وباع ربع جميع ذلك أو نصفه بربع الثمن أو نصفه؛ لأن كل جزء من المشاع معلوم الحصة بالعقد، فصار كالمعين الذي لا يتفاوت، وإن باع بعضها معينًا بأن باع ثوبًا معينًا من الجراب وكان الثمن في الأصل جملة لم يبعه؛ لأن الانقسام فيما يتفاوت باعتبار القيمة وطريق معرفتها الحزر والظن، ويجري في ذلك السهو والغلط، وإن سمى لكل واحد ثمنًا جاز بيعه مرابحة على ما سمى في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن حصة كل واحد من الثمن معلوم بيقين، وقال محمد: لا يبيعه مرابحة؛ لأن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد في البيع بثمن واحد مع التفصيل ليرغب المشتري في الرديء لماله من المقصود في بيع الرديء، فلو جوزنا له بيع أحدهما مرابحة من غير بيان ربما يبيع الرديء بمثل ثمن الجيد وفيه من الجناية ما لا يخفى.
وإذا اشترى ثوبًا واحدًا واحترق نصفه فليس له أن يبيع النصف الباقي بنصف الثمن، وإن كان الباقي نصف الثوب باعتبار الذرعان؛ لأن الثوب الواحد لا ينقسم باعتبار عدد الذرعان؛ لأن الذرعان من ثوب واحد مما يتفاوت، وإنما ينقسم باعتبار القيمة، فنصف الثمن لا يكون ثمن النصف الباقي من حيث الإخاطة والتعين، وكذلك إذا اشترى ثوبًا واحدًا وأراد أن يبيع ذراعًا منه بأن ميز ذراعًا منه وباعه مرابحة على ما يخصه لا يجوز، إما لأن التمييز يوجب نقصانًا في هذا الذراع، فكأن اشترى شيئًا وعينه، أو لأن ما يخصه من الثمن غير معلوم من حيث الإخاطة والتعين؛ لأن الثمن لا ينقسم باعتبار عدد الذرعان. وكذلك إذا لم يميزه ولكن عين ذراعًا في جانب واحد لا يجوز أن يبيعه مرابحة للمعنى الثاني، وإن لم يعين وأراد أن يبيع ذراعًا منه ما يخصه، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يفسد العقد عندهم جميعًا، وإذا فسد العقد لا تتصور المرابحة، وقال بعضهم: يفسد العقد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: لا يفسد كما في الدار ويجعل الذراع عبارة عن السهم، فمتى كان الثوب عشرة أذرع كان بائعًا عشر الثوب بعشر الثمن وذلك جائز..
ولو اشترى رجلان مكيلًا أو موزونًا أو معدودًا لا يتفاوت اعتبر أقرارًا ومعنى التبادل فيها ساقط، فيكون ما في يد كل واحد منهما كأنه عين ما كان له قبل القسمة، ولو كانت الجملة مختلفة فاقتسماها لم يجز لأحدهما أن يبيع حصته مرابحة؛ لأن القسمة فيما يتفاوت إقرار من وجه مبادلة من وجه، فما في يد كل واحد منهما نصفه كان له قبل القسمة، ونصفه بدل عما وصل إلى شريكه من نصيبه، فصار كأنه اشترى ذلك بنصيبه فلا يبيعه مرابحة.
وفي (المنتقى): إذا اشترى ثوبًا بعشرة دراهم وقطع نصفه وباعه، ثم باع النصف الباقي مرابحة على عشرة، ثم علم المشتري بذلك، فهو بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك من قبل أن النصفين يتفاضلان، أشار إلى أنه لو أراد أن يأخذ هذا النصف بنصف الثمن ليس له ذلك؛ لأن ثمن هذا النصف مجهول هذا كرجل اشترى ثوبين صفقة واحدة بثمن واحد، ثم باع أحدهما مرابحة على جميع الثمن وعلم المشتري بذلك فهو بالخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك وليس له أن يأخذ الثوب بحصته؛ لأن ثمنه مجهول.
وفيه أيضًا: رجل اشترى أمة وقبضها ففقأ رجل عينها، فأخذ لها إن شاء، فإنه يبيعها على ما بقي مرابحة، قال الحاكم أبو الفضل هذا الخلاف جواب (الأصل).
وفيه أيضًا: رجل اشترى دارًا وقبضها فانهدم بناؤها، فباع النقض وأخذ ثمنه لم يكن له أن يبيع الدار مرابحة من قبل أن ذلك بالحزر والظن.

.مسائل هذا النوع في الاختلاف في المرابحة ورأس المال:

قال محمد رحمه الله في (الجامع): رجل اشترى ثوبًا قيمته عشرة بعشرة، ودفع إليه رجل ثوبًا اشتراه بعشرة وقيمته عشرون ليبيعه مع ثوبه، فجاء المأمور بالثوبين جميعًا إلى رجل وقال: إنهما علي بعشرين، فأنا أبيعكهما مرابحة بربح عشرة فاشتراها على ذلك يقسم الربح عليهما نصفين؛ لأن ثمن كل واحد منهما عشرة، أكثر ما فيه أن قيمة أحدهما نصف قيمة الآخر، ولكن الثمن في بيع المرابحة ينقسم على قدر رأس المال في البيع الأول ولا ينقسم على قدر قيمتهما في البيع الثاني؛ لأن المرابحة بيع بمثل الثمن الأول وزيادة، فيجعل هذا كالمنصوص عليه، فلو وجد مشتري الثوب، بالثوب الآخر عيبًا، فأراد رده فقال البائع: كان ثمن كل واحد منهما عشرة؛ لأن الآمر اشترى ثوبه بعشرة وأنا اشتريت ثوبي بعشرة، فصار الثمن وهو ثلاثون منقسمًا عليهما نصفين فلك أن ترده بخمسة عشر، وقال المشتري: بل كان لك وقد اشتريتهما صفقة واحدة بثلاثين، فانقسم الثمن في البيع الأول على قدر قيمتهما ثلاثًا، وانقسم الثمن الثاني وهو ثلاثون عليهما أثلاثًا، فجملة ما يقابل المعيب من الثمن والربح عشرون فأنا أرده بهذا القدر، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن ظاهر ما قاله البائع عند البيع شاهد للمشتري؛ لأنه قال: قام علي بعشرين وهذه اللفظة إنما تستعمل في صفقة واحدة فيكون القول قول المشتري مع يمينه على العلم بالله ما يعلم أن الأمر كما قاله البائع، فإن حلف رده وأخذ من البائع على الآمر بخمسة عشر؛ لأن في زعم البائع أن حقه قبل الآمر في خمسة عشر وزعمه معتبر، وإن أقاما البينة بينة المشتري أيضًا.
ولو وجد المشتري العيب بالثوب المأمور والمسألة بحالها، فالقول قول المشتري أيضًا لما قلنا، ويقال للمشتري قد أقر لك البائع زيادة خمسة، فإن شئت فصدقه وخذها، وإن شئت فاترك.
وفي (المنتقى): رجل اشترى عبدًا بمائة ورجل آخر اشترى جارية بمائتين فوكل أحدهما صاحبه ببيع مملوكه مع مملوك نفسه مرابحة، وساومه على أي حال رأى جمعهما، فقال المأمور لرجل: إنهما قاما بثلاثمائة فصدقه المشتري وأربحه ربحًا واشتراهما وقبضهما، ثم وجد بالعبد عيبًا وأراد رده، فقال البائع: رأس مال هذا مائة وكذبه المشتري وحلف على علمه ما يعلمه قام بالذي قلت، فإنهما يقومان قيمة عدل، فيرد العبد بالذي يصيبه من القيمة، فإن أصابه أقل من المائة فقال للمشتري: إن البائع قد أقر لك بفضل، فإن شئت فصدقه وخذه، وإن شئت فاتركه، وإن كان نصيبه أكثر من نصف الثمن رده البائع عليه فلزم البائع غرم، له أن يقبضه ولا يرجع به على صاحب الجارية.
ولو كان المشتري هو الذي ادعى أن شراء الثوبين كان بصفقتين كل واحد بعشرة، وقال البائع: بل كانت الصفقة واحدة فالقول قول البائع، فإن وجد المشتري العيب بثوب المأمور رده بعشرة، وإن أقاما البينة فالبينة للمشتري؛ لأنه يثبت زيادة صفقة وزيادة ثمن المردود بالعيب، وإن وجد العيب بثوب الآمر رده بخمسة عشر؛ لأن المشتري ادعى فيه خمسة عشر وقد أقر له البائع بخمسة زائدة، فإن شاء صدقه وأخذ منه، وإن شاء ترك، قال مشايخنا: هذا إذا كان البائع مصرًا على إقراره، فأما إذا لم يكن مصرًا على إقراره لا يؤخذ بتلك الخمسة، لارتداد إقراره الأول بتكذيب المشتري ولم يذكر هاهنا أن البينة بينة البائع؛ لأن البائع ببينته لا يثبت لنفسه حقًا.

.مسائل التولية:

بشر عن أبي يوسف في رجل اشترى جارية بألف درهم فولدت عند المشتري ولدًا، ثم ولي البيع رجلًا لم يبيعها ولدها قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف جواب الأصل، وإذا ولي رجلًا شيئًا بما قام عليه ولم يعلم المشتري بكم قام عليه فالبيع فاسد، فإن أعلم البائع المشتري بكم قام عليه فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذه وإن شاء ترك؛ لأن الذي قام عليه اسم لما اشتراه به ولما لحقه من المؤنة التي التحقت بالثمن، وذلك لا يعرف إلا ببيان البائع، فإذا لم يبين كان الثمن مجهولًا ففسد البيع فإن أعلمه بعد ذلك صح، يريد به إذا أعلمه في المجلس، وهذا؛ لأن ساعات المجلس كساعة واحدة فصار الإعلام في آخر المجلس كالإعلام وقت العقد.
وفي (القدوري): لو باع شيئًا بربح ده يازده ولم يعلم ما اشترى به فالبيع فاسد حتى يعلم المشتري فيختار أو يدع وهذا رواية ابن رستم عن محمد، روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أن البيع جائز، وتأويله: أنه موقوف في حق وصف الجواز إذا زالت الجهالة بدلالة ما فسر، أنه لو هلك ذلك الشيء فالبيع فاسد ويلزمه قيمته، وهذا دليل على أن العقد محكوم بفساده ووجب الخيار ليكشف حال الثمن عند الإعلام بعد أن كان ملتبسًا.
روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله: فيمن اشترى ثوبين بمائة درهم فقبضهما، ثم ولي رجلًا أحدهما بعينه لم يجز، وكذلك لو أنه أشركه في أحدهما بعينه لم يجز، ولو كان المشتري قبض أحد الثوبين من البائع، ثم أشرك رجلًا فيهما جازت الشركة في النصف المقبوض، وكذلك لو ولاهما رجل جازت التولية في النصف المقبوض.
ولو اشترى جاريتين بألف درهم وقبضهما وباع إحداهما، ثم وليهما رجل، فالمولى بالخيار إن شاء أخذ التي لم تبع بحصتهما، وإن شاء ترك إذا لم يعلم بيع أحدهما، وكذلك أشركه فيهما جازت الشركة في النصف التي لم تبع وإن لم تبع إحداهما لكنه أعتق إحداهما أو ما يثبت، ثم وليهما رجل أو أشركه فيهما جاز في الأمة... منهما.
وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: أن أحد الشيئين إذا كان طعامًا غير مقبوض فولاهما رجلًا لم تجز التولية في الآخر؛ لأن بيع الطعام قبل القبض لا يجوز بالإجماع، قال الحسن: وروي عن أبي يوسف غير هذا، قال: إذا كان لا يختلف في إبطاله؛ لأنه ليس بمال، أفسدت البيع في الآخر، وإذا كان لا يختلف في إبطاله لعلة عارضة، وهو قال: أجزت البيع في الآخر والله أعلم.

.مسائل الوضيعة:

الأصل فيه: أن بضم قدر الوضيعة إلى رأس المال لم يسقطها من الجملة ويكون الثمن ما بقي.
ومثاله: إذا اشترى ثوبًا بعشرة فباعه بوضيعة ده يازده فإنك تجعل كل درهم من رأس المال أحد عشر جزءًا، فتكون الجملة مائة وعشرة فيسقط فيها جزء من أحد عشر وذلك عشرة، يبقى هناك مائة وهي تسعة دراهم وجزءًا من أحد عشر جزءًا من درهم، وإنما جعلنا كل درهم على أحد عشر جزءًا؛ لأنه لما باعه بوضيعة ده يازده فقد جعل الوضيعة جزءًا من أحد عشر جزءًا، فيجعل كل درهم أحد عشر جزءًا لها، فتصير الجملة مائة وعشرة أجزاء، سقط من كل أحد عشر واحد يبقى مائة وهي تسعة دراهم وجزء من درهم، وعلى هذا القياس يجري الباب، حتى لو باع بوضيعة ده دوازده يجعل كل درهم اثنا عشر فيكون مائة وعشرون يسقط منها عشرون، بقي هناك مائة وبقي ثمانية دراهم وثلاث دراهم.

.الفصل السادس عشر: في الاستحقاق وبيان حكمه:

استحقاق العقد على المشتري يوجب توقف العقد السابق على إجازة المستحق ولا يوجب نقضه وفسخه في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أن الخصومة من المستحق وطلب الحكم من القاضي دليل بعض العقد فينتقض به العقد كما ينتقض بصريح النقض، حتى لا تعمل إجازة المستحق بعد ذلك. وعن أبي يوسف رحمه الله: إن أخذ المستحق العين بحكم القاضي دليل النقض فينتقض به العقد، وعن أبي يوسف رواية أخرى: أن المستحق إذا قال عند الخصومة: أنا أقيم البينة لأجيز العقد فحكم له لا ينتقض العقد وتعمل إجازته، وإن لم يقل ذلك لا تعمل إجازته، وفي ظاهر الرواية: ليس شيء من ذلك دليل النقض، أما الخصومة وطلب الحكم فلأنهما لإثبات الاستحقاق وإظهاره، والاستحقاق لو كان ثابتًا ظاهرًا يوم البيع لا يمنع انعقاد البيع فظهوره في الإنتهاء لا يوجب النقض والفسخ من طريق الأولى، والأخذ بحكم القاضي محتمل، يحتمل التأويل والتلوم، ويحتمل النقض والفسخ، والعقد جائز بيقين فلا يثبت النقض بالشك، وإذا أجاز المستحق البيع وعمل إجازته، كان الثمن للمستحق ولكن البائع يقبضه ويدفعه إلى المستحق، وإذا كان المشترى شيئًا واحدًا كالثوب الواحد والعبد الواحد، فاستحق بعضه قبل القبض أو بعده، فللمشتري الخيار في الآخر؛ لأن الصفقة تفرقت على المشتري قبل التمام، وإن استحق أحدهما بعد القبض فلا خيار في الآخر وإن تفرقت الصفقة عليه؛ لأنها تفرقت بعد التمام، وإن كان المشترى مكيلًا أو موزونًا واستحق بعضه، فللمشتري الخيار فيما بقي إن شاء أخذه بالحصة وإن شاء ترك، وإذا كان المشترى شيئين كالثوبين والعبدين فلم يقبضهما حتى استحق أحدهما أو قبض أحدهما بعد القبض، فلا خيار له في الآخر؛ لأن الصفقة وإن تفرقت عليه إلا أنها تفرقت بعد التمام، وإن استحق بعضه بعد القبض فعن أبي حنيفة روايتان.
وفي (المنتقى): رجل اشترى من رجل عبدًا بألف درهم ووهب البائع الثمن للمشتري قبل القبض أو بعده، ثم استحق العبد فلا سبيل للمشتري على البائع؛ لأن ما وهب البائع للمشتري ماله فلا يضمن له ماله في يده، ولو أجاز مستحق العبد العقد قبل أن يقضى له فإن البيع جائز، والهبة جائزة في قول أبي حنيفة رحمه الله إن كانت الهبة قبل قبض الثمن، ويضمن البائع مثله لرب العبد، ولا تجوز الهبة بعد القبض فيؤديه المشتري ويكون لرب العبد، وأما في قول أبي يوسف: فلا تجوز الهبة في الوجهين جميعًا؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن له في الابتداء ببيع عبده فباعه ووهب الثمن من المشتري كان الحكم ما ذكرنا فهنا كذلك.
قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: رجل اشترى من آخر أمة شراء جائزًا أو فاسدًا أو ملكها بهبة أو صدقة واستولدها، ثم استحقها رجل ببينة أقامها قضى القاضي بالجارية وأولادها للمستحق؛ لأن الأولاد فرع ملكه إلا إذا ثبت غرور المستولد، ولابد لذلك من البينة على المشترى والهبة أو ما أشبه ذلك، فإذا أقام المستولد بينة على ذلك يثبت غروره؛ لأنه وطئها على حسبان أنها ملكه وهذا هو حد الغرور، وولد المغرور حر بالقيمة فيقضي القاضي حينئذٍ للمستحق بالجارية وبقيمة الولد، ويقضي بعقر الجارية أيضًا ولا يرجع المستولد على مملكها بالعقر بائعًا كان أو واهبًا، ويرجع بقيمة الأولاد عليه إن كان بائعًا، ولا يرجع عليه إن كان واهبًا.
والفرق: أن البائع بالبيع ضمن سلامة الجارية للمشتري؛ لأن المشتري ضمن سلامة الثمن وهذا عقد مجازاة ومقابلة، ولأجل ذلك ثبت له حق الرد بالعيب، وضمان سلامة الجارية يكون ضمان سلامة الزوائد بطريق التبعية ولم تسلم الزيادة للمشتري لما ضمن قيمتها للمستحق، فيرجع على البائع بذلك بحكم الضمان، فأما الواهب لم يضمن سلامة الموهوب للموهوب له ليصير ضامنًا سلامة الزوائد بطريق التبعية؛ لأن ضمان سلامة المبيع من البائع بمقابلة ضمان سلامة البدل ولا بدل في الهبة، ومجرد الغرور لا يثبت حق الرجوع ما لم يؤخر ضمان السلامة إما قضاءً أو في ضمن عقد المعاوضة، حتى لو كان الواهب ضمن سلامة الموهوب للموهوب له نصًا يقول بأنه يرجع على الواهب بقيمة الولد، فإن كان المشتري باع الأمة من رجل آخر واستولدها المشتري الثاني، ثم استحقها رجل وأخذ الجارية وقيمة الأولاد من المشتري الثاني على المشتري الأول بقيمة الأولاد قيل: يرجع على بائعه بقيمة الأولاد، على قول أبي حنيفة: لا يرجع، وعلى قولهما: يرجع.
لهما: أن البائع الأول ضمن للمشتري الأول سلامة الأولاد ولم يسلم لها الأولاد حين أخذ منه قيمة الأولاد. والدليل عليه: أن المشتري الأول في هذه الصورة يرجع على بائعه بالثمن، وإنما يرجع لأن بائعه ضمن سلامة المبيع لما رجع المشتري الثاني عليه بالثمن.
ولأبي حنيفة: أن البائع الأول ضمن للمشتري الأول سلامة أولاده لا سلامة أولاد المشتري منه، وهذا ضمان السلامة في ضمان البيع، فإنما يثبت ضمان سلامة أولاد المشتري الثاني في ضمان البيع الثاني والبيع الثاني مقصور على البائع الثاني؛ لأنه حصل باختياره، فما وجد في ضمان السلامة في صحته يكون مقصورًا على البائع الثاني أيضًا، ألا ترى أن ضمان تسليم المبيع إلى المشتري الثاني لما وجب بالبيع الثاني، والبيع الثاني مقصور على البائع الثاني لا على البائع الأول بخلاف الرجوع بالثمن؛ لأن البائع الأول ضمن للمشتري الأول ما باع منه ولم يسلم له ذلك لما رجع الثاني على المشتري الأول بالثمن.
اشترى دارًا وبنى فيها بناءً، ثم استحق رجل الدار بالبينة، ونقض بناء المشتري، فالمذكور في عامة الكتب أن المشتري يرجع على البائع بقيمة البناء، وذكر في شركة (الجامع): أن للمشتري الخيار في البناء المنقوض إن شاء أمسكه ولا يرجع على البائع لما لحقه من زيادة غرم؛ لأنه لما اختار النقض فقد أبرأ البائع عن الضمان، وإن شاء ترك النقض على البائع ورجع عليه بقيمة البناء مبنيًا، وبعض مشايخنا قالوا: إذا اختار المشتري إمساك النقض فله أن يرجع إلى البائع بما يلحقه من زيادة غرم، وقاسه على ما إذا خرق ثوب إنسان خرقًا فاحشًا، كان لصاحب الثوب أن يمسك الثوب ويضمن النقصان كذا هذا، ولو أن المشتري باع الدار من رجل آخر وبنى فيها المشتري الثاني بناءًا، ثم استحقها رجل من المشتري الثاني يرجع المشتري على المشتري الأول بالثمن وبقيمة البناء، ويرجع المشتري الأول على بائعه بالثمن، ولا يرجع عليه بقيمة البناء عند أبي حنيفة خلافًا لهما.
وفي (المنتقى) عن أبي يوسف رواية أخرى، أنه قال: في رجوع المشتري الأول على بائعه بقيمة البناء أنا أقف في هذا حتى أنظر، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله، ذكر المعلى عن أبي يوسف أن أبا حنيفة قال: لا يرجع المشتري الأول على بائعه بالثمن حتى يؤدى، وقال أبو يوسف: حتى يقضي عليه فرق أبو يوسف رحمه الله بين هذا وبينما إذا غصب رجل عبدًا وجنى العبد في يد الغاصب جناية، ثم قبضه المغصوب منه فليس له أن يرجع على الغاصب بأرش جنايته حتى يرجع عليه.
وفي (المنتقى): رجل اشترى دارًا وبنى فيها بناء، ثم استحق نصف الدار رد ما بقي من الدار ورجع بنصف قيمة البناء؛ لأنه مغرور في نصفها، ولو كان استحق نصف الدار بعينه فإن كان البناء فيه خاصة رجع بقيمة البناء، وإن كان البناء في النصف الذي لم يستحق فله أن يرد ذلك النصف، ولا يرجع بشيء من قيمة البناء، وعن محمد رحمه الله فيمن اشترى دارًا على أن البائع فيه بالخيار فبنى المشتري فيها بناءًا، ثم اختار البائع البيع، ثم استحقت الدار فقال: لا يرجع المشتري على البائع بشيء من قيمة البناء؛ لأنه بنى فيها قبل أن يملكه البائع منه.
وفي شركة (الجامع): اشترى دارًا من رجلين وبنى فيها بناءًا، ثم استحق رجل الدار ونقض بناء المشتري، ثم حضر أحد البائعين كان للمشتري الخيار إن شاء أمسك المقبوض، وإن شاء سلم نصف المقبوض إليه ورجع عليه بنصف قيمة البناء؛ لأنه صار مغرورًا من جهته في النصف، فإن حضر البائع الآخر بعد ذلك كان للمشتري الخيار في النصف الآخر، واختياره أخذ الشيئين مع الأول في أحد النصفين لا يكون اختيارًا لذلك مع الثاني، فله أن يختاره مرة أخرى.
وروى إبراهيم عن محمد: فيمن اشترى جارية ووهبها من رجل وسلمها إليه، ثم إن الواهب اشتراها من الموهوب له واستولدها واستحقها مستحق رجع على البائع وهو الموهوب له بقيمة الولد؛ لأنه مغرور.
روى أبو سليمان عن أبي يوسف في (الإملاء)، قال أبو حنيفة: في رجل اشترى من آخر أمة وقبضها ونقد الثمن فاستحقهما رجل بالبينة وقضى القاضي بها للمستحق وأراد المشتري أن يرجع على البائع بالثمن فقال له البائع: قد علمت أنهم شهدوا بالزور وأن الأمة لي، وقال المشتري: أنا أشهد لك أن الأمة لك وأنهم شهدوا بالزور فللمشتري أن يرجع على البائع بالثمن بعد هذا الإقرار، قال: من قبل أن المبيع لم يسلم له والشهادة على البائع، فلا يحل له أن يأكل الثمن، والمبيع لم يسلم للمشتري.
رجل اشترى أمة من رجل وقبضها، ثم اشتراها منه أهل الحرب، ثم اشتراها هذا الرجل منهم، استحقها مستحق بالبينة وقضى القاضي له أن يأخذها بالثمن فله أن يرجع بالثمن على بائعها الأول.
وفي (المنتقى): رجل وطئ جارية ابنه، فولدت له يضمن قيمتها لابنه، ثم ولدت له ولدًا آخر، ثم استحقها رجل فقضى بها له وبعقرها يرجع على الابن بالقيمة ضمن له وبقيمة له، قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف جواب (الأصل)، وذكر بعد هذا المسائل.
رجل وطئ جارية ابنه وعلقت منه، فادعى الولد حتى ثبت نسبه منه وغرم قيمة الجارية بيقين، ثم ولدت بعد ذلك أولادًا، ثم استحقها رجل وأخذ عقرها وقيمة الولد، فعلى قول محمد لا يرجع الأب على ابنه بشيء من قيمة الأولاد، وقال أبو يوسف: يرجع عليه بقيمة كل ولد ولدته بعد الولد الأول.
وفيه أيضًا: جارية بين رجلين، اشتراها من رجل فاستولدها أحدهما وضمن لشريكه نصف قيمتها ونصف عقرها، ثم استولدها ثانيًا، ثم استحقها مستحق وقضى القاضي له بالجارية وبقيمة الولدين وبالعقر على المستولد، فإن المستولد يرجع على الشريك بما ضمن له، ثم يرجعان بالثمن على البائع، يرجع المستولد على البائع بنصف قيمة الولدين حصة من الشراء، ولا يرجع عليه بالنصف الباقي؛ لأنها حصة شريكه لم يشترها منه ولا من الشريك، إنما هو ضمان دخل عليه بالاستهلاك وبطل الاستهلاك.
قال: ولو أن رجلًا غصب أمة فأبقت منه ضمن قيمتها، ثم وجدها واستولدها، ثم استحقها مستحق وأخذها وعقرها وقيمة ولدها فقضى القاضي، فالغاصب يرجع على المغصوب منه بالقيمة التي دفعها إليه وبقيمة الولد ولا يشبه الغاصب في هذا الشريك، هذا في الشريك بمنزلة النكاح، ألا ترى أنه ضمن حصته من العقر، وإنما ثبت نسب الولد من قبل الشريك الرق للواطئ فيه، فليس الشريك يضار في هذا.
وروى المعلي عن أبي يوسف: في رجل اشترى أمة وأعتقها، ثم تزوجها فجاءت بولد، ثم استحقها رجل، قال: هو مغرور ويرجع بقيمة الولد، وقال محمد: هو ليس بمغرور ولا يرجع بقيمة الولد.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: رجل باع لرجل ساجة ملقاة في الطريق وقبض الثمن وخلى بين البائع وبين الساجة، ولم يحركها المشتري من موضعها فقد صار قابضًا لها، فإن أحرقها رجل فهي من مال المشتري، فإن جاء مستحق واستحقها بالبينة فالمستحق بالخيار إن شاء ضمن المحرق، وإن شاء ضمن البائع إن كان البائع هو الذي ألقاها في ذلك الموضع، ولا سبيل للمستحق على المشتري إن لم يكن حركها من ذلك الموضع.
رجل باع أمة من رجل فلم يقبضها المشتري حتى زاد البائع في المبيع أمة أخرى، ثم استحقت الأولى، فإن شاء المشتري أخذ الزيادة بحصتها من الثمن كأن الشراء وقع عليهما جميعًا.
وذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: في رجل اشترى عشر بيضات واستحق بعضها أو تلف قبل القبض أنه قال فيه قولان: أحدهما أن يبطل من الثمن بقدر العدد، والثاني أنه يبطل بقدر حصة ذلك من الثمن على القيمة، فعلى قول لم تجعل مختلفة وعلى قول الثاني جعلها مختلفة.
رجل باع من آخر جارية غيره وتقابضا، ثم اختلف البائع والمشتري، فقال البائع: بعتها بغير أمر صاحبها، وقال المشتري: لا بل بعتها بأمر صاحبها فالقول قول المشتري والمسألة معروفة، ولو أن المشتري استولدها بعد ذلك، ثم استحقها مولاها قال أبو يوسف: يأخذ المولى الولد عبدًا له مع الجارية؛ لأن المشتري ليس بمعروف.
رجل اشترى نصف عبد، ثم اشترى آخر النصف الآخر ولم يقبض الأول فما استحق فهو منهما، وإن قبض الأول ولم يقبض الآخر فما استحق فهو من الآخر، وإن قبضا فما استحق فهو منهما.
رجل اشترى من رجل دارًا بألف درهم ونقده الثمن وقبض الدار، وأقام أخ المشتري بينة أن الدار كانت لأبيه تركها ميراثًا له ولأخيه هذا المشتري، فإنه يقضي له بنصف الدار، فبعد ذلك ينظر: إن كذبه المشتري كان المشتري بالخيار، إن شاء رد النصف الباقي على بائعه ورجع عليه بجميع الثمن، وإن شاء أمسكه ورجع عليه بنصف الثمن، وإن صدقه المشتري بقي النصف في يده بنصف الثمن ورجع على بائعه بنصف الثمن الضامن للدرك يرجع عليه دون قيمة البناء إلا أن يسميه، وأما الضامن للخلاص وهو أن يسلم العبد من يد البائع إلى المشتري ويحصله من يد المستحق فليس على ضامن الخلاص رد الثمن، وإن مات العبد في يد المستحق بمنزلة موته في يد البائع، وإذا ضمن له الدرك فإنما هو من الاستحقاق وليس..... أن يسلمه من يد البائع.
في (نوادر هشام) عن محمد: رجل اشترى أرضًا بشربها واستحق الشرب قبل القبض أخذ الأرض بجميع الثمن إن شاء، وكذلك المسيل إن كان قد قبض وأخذت فيها غرسًا أو بناءًا أو زرعًا رجع بنقصان الشرب والمسيل.
قال محمد: كل شيء إذا بعته وحده لم يجز البيع فيه وإن بعته مع غيره جاز البيع فيه، فإذا استحق ذلك الشيء فإن شاء المشتري أخذ الباقي بجميع الثمن وإن شاء ترك، وكل شيء إذا بعته وحده جاز وإذا بعته مع غيره جاز أيضًا كان له حصة من الثمن.
قال هشام: قلت لمحمد رجل اشترى أمة هي ليست بحاضرة فقبضها ولم تقر بالرق وباعها من رجل آخر ولم تقر بالرق أيضًا وقبضها المشتري الآخر، ثم ادعت أنها حرة قال: يعتقها القاضي ويرد بعضهم الثمن على البعض، فإن قال المشتري الأول: قد كانت أقرت بالرق وليس له على ذلك بينة ولم يقر المشتري الثاني بذلك قال: يرد المشتري الثاني بالثمن (على) الأول ولا يرد المشتري الأول على بائعه؛ لأن المشتري الأول مقر أنها أقرت له بالرق.
وفي (الفتاوى): رجل اشترى جارية وباعها حتى تداولتها الأيدي، ثم ادعت الجارية في يد المشتري الآخر أنها حرة الأصل وردها صاحبها على بائعها بقولها وقبل بائعها منه وردها هو أيضًا على بائعه وقبل منه، فأراد أن يرد على بائعه فليس لبائعه أن لا يقبلها منه إن لم تكن انقادت للبيع فتثبت الحرية بقولها في حق الكل، وإن كانت انقادت للبيع بأن بيعت وسلمت إلى المشتري وهي ساكتة فللبائع الأول أن لا يقبلها؛ لأنها لما انقادت للبيع فقد أقرت بالرق فدعوى حرية الأصل منها بعد ذلك دعوى العتق العارض، والعتق العارض لا يثبت بمجرد قولها، فكان للأول أن لا يقبلها كما لو ادعت العتق العارض.
قال هشام: وسألت محمد رحمه الله عن غلام لم يبلغ الحلم باعه إنسان، فأقر بأنه مملوك له وهو يعبر عن نفسه، ثم استحق بالحرية وغاب البائع ولا يدرى أين هو هل يرجع المشتري على الغلام بالغرور قال: لا، قلت: فالرجل الذي اشترى عبدًا أقر على نفسه بالرق وغاب البائع وقبض المشتري العبد ولم ينقد الثمن فأعتق القاضي العبد؛ لأنه كان حر الأصل هل يشهد القاضي ببراءة المشتري عن الثمن والبائع غائب قال: نعم.
قال: وسمعت محمدًا يقول رجل اشترى من صبي لم يأذن له أبوه أو وصيه في التجارة جارية فاستولدها، ثم استحقها إنسان، فإنه يأخذها وولدها رقيقًا والنسب ثابت، وكذلك إن اشتراها من عبد محجور عليه.
ولو اشترى رجل جارية بعبد وتقابضا وولدت الأمة من المشتري، فإذا العبد حر الأصل فإن لبائع الجارية أن يأخذ الجارية وعقرها، وولدها رقيقًا والولد ثابت النسب، قال هشام: قلت لمحمد فإن كان الذي باع العبد كان اشتراه من غيره قال: الولد يكون له بالقيمة.
رجل اشترى أمة وقبضها فادعاها آخر فاشتراها منه أيضًا، ثم استحقت الأمة وقد ولدت للمشتري، قال محمد رحمه الله: يرجع بالثمنين على البائع، فإن كانت الأمة جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر من وقت اشتراها من الآخر رجع بقيمة الولد التي يعرفها للمستحق على المشتري الآخر، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت شرائها من المشتري الآخر لا يرجع بقيمة الولد على واحد منهما؛ لأن إقراره الثاني براءة الأول، قال محمد رحمه الله: ويضمن البائع في الأرض المشتراة إذا استحقت، البناء والغرس والزرع، وضمان الزرع: أن ينظر ما قيمة الزرع فيضمنه البائع، قال هشام: وذلك إذا لم يستحصد.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: رجل اشترى جارية فولدت منه فاستحق رجل نصفها قضى له عليه بنصف قيمتها وبنصف عقرها، فإن قضى بذلك فاستحق رجل آخر النصف الآخر بعد ذلك فإنه يقضي له أيضًا بنصف قيمة الجارية وبنصف عقرها ويقضي عليه بقيمة الولد بينهما نصفين.
رجل اشترى جارية وقبضهما فولدت له، ثم أعتقها وتزوجها فولدت له ولدًا آخر، ثم استحقت فليس عليه إلا عقر واحد، وكذلك لو لم يتزوجها بعد العتق ولكنه زنى بها فولدت له أولادًا، ثم استحقت لم يغرم للمستحق إلا عقر واحد، وصار ذلك العتق ليس بعتق فكأنه وطء على الملك الأول، ويثبت نسب الأولاد ويغرم قيمتهم ويرجع على البائع بقيمة الأولاد الذين كانوا قبل العتق، ولا يرجع بقيمة الأولاد الذين كانوا بعد العتق.
في (نوادر ابن سماعة) عن محمد في يده كران حنطة، باع كرًا منها من رجل بثمن مسمى ودفعه إليه فاستحق من يده قال: يأخذ المشتري الكر الباقي ودفعه، ثم استحق الأول قال: يبطل البيع فيه ولا سبيل له على المشتري الثاني، ولو كان في يده كران فباع أحدهما ولم يدفعه حتى باع الآخر ودفعه، ثم باع الكر الباقي ودفعه، ثم حضر المشتري الأول ووجد المشتريين جميعًا فإنما سبيله على المشتري الثالث؛ لأن البائع قد كان له أن يبيع الكر الباقي بعد بيعه من المشتري الأول فلما باعه وقع البيع على ما يملكه وجاز الدفع إليه، ثم لما باع الكر الآخر لم يجز بيعه؛ لأنه للمشتري الأول، فإن لم يجد المشتري الأول المشتري الثالث، إنما وجد المشتري الثاني يقضى له بنصف ما في يده، فإذا حضر الثالث أخذا جميعًا ما في يده فيكون بينهما نصفين وكذلك لو كان مكان الكرين عبدًا فباع نصف من رجل ولم يدفع إليه، ثم باع نصفه من آخر ودفعه إليه، ثم باع نصفه من ثالث ودفعه إليه.
وروى ابراهيم عن محمد في رجل باع قفيزًا من طعام- ومعه ثلاثة أقفزة- من رجل، ثم باع قفيزًا من رجل آخر، ثم باع قفيزًا من ثالث، ثم قال لهم الأقفزة الثلاثة، ثم استحق القفيز الأول قال يأخذ المستحق القفيز الثالث فيكون له؛ لأن صاحب الطعام باع القفيز الأول وهو يملكه وباع الثاني وهو يملكه، (وباع) الثالث وهو لا يملكه.
رجل اشترى من دار نصفها مشاعًا، ثم استحق نصفها قبل القسمة فالبيع على النصف الباقي فإن كان قسم للمشتري، ودفع إليه ما اشترى، ثم استحق النصف الذي اشترى فللمشتري نصف نصف الباقي وهو ربع جميع الدار، ولو اشترى من صبرة نصفها وهو كر، ثم استحق نصفها قبل القسمة أو بعد القسمة والقبض فإنه يأخذ جميع النصف الباقي من الكر، ولو اشترى من عبد نصفه كان ما استحق من نصيب البائع، وسلم للمشتري نصفه وفرق بين العبد والدار.
رجل وهب لرجل عبدًا أو تصدق به عليه فاستحق من يد الموهوب له أو من يد المتصدق عليه، كان للواهب أو المتصدق أن يرجع على بائعه بالثمن رواه ابن سماعة عن أبي يوسف.
وروى ابن سماعة عنه أيضًا: في رجل اشترى من رجل عبدًا وقبضه، ثم إن الموهوب له وهبه من رجل آخر، ثم استحق العبد من يد الموهوب له الآخر، كان للمشتري أن يرجع على بائعه بالثمن، ولو كان المشتري للعبد باعه من رجل، ثم وهبه لرجل من الابتداء، ثم إن الموهوب له باعه من رجل، ثم استحق من يد الآخر، فالمشتري الأول لا يرجع على بائعه قبل أن يرجع الآخر على بائعه وهو الموهوب له، فإذا رجع عليه رجع المشتري الأول على بائعه.
وروى بشر عن أبي يوسف في (الإملاء): رجل اشترى زق سمن أو عسل أو جرة زيت أو دهن أو سلة زعفران أو جوالقًا من دقيق أو حنطة، ثم استحق منها فللمشتري الخيار إن شاء أخذ الباقي بحسابه من الثمن وإن شاء ترك؛ لأن هذا شيء واحد فيكون الحال فيه قبل القبض وبعده سواء، ولو كان اشترى زقي سمن أو قوصرتي تمر أو جرتي زيت أو جوالقي حنطة واستحق أحدهما، إن كان قبل القبض فله أن يرد البيع كله، وإن كان بعد القبض فليس له أن يرد الأخرى ويرجع بحساب ما استحق وكذلك سائر ما وصفت لك.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل اشترى من رجل دارًا وقبضها فاستحق رجل نصفها فأقام المشتري بينة أنه اشترى الجارية من هذا المستحق ولم يؤقت وقتًا قال: لا يرجع المشتري على البائع بثمن ذلك النصف، إنما هذا رجل اشترى من رجل دارًا فادعاها آخر فاشتراها منه أيضًا ولو أقام البينة أنه اشتراها منه بعد الاستحقاق رجع على البائع الأول بنصف الثمن.
ابن سماعة عن أبي يوسف في (الإملاء): رجل اشترى من رجل أرضًا بيضاء وبنى فيها بناءًا، ثم استحقت الأرض وقضى القاضي على المشتري بهدم البناء فهدمه، ثم استهلكه فلا شيء على البائع من قيمة البناء وهذا اختيار منه له، وإن لم يستهلكه ولكن المطر أفسده كان البناء صحيحًا فصار طينًا، أو كسره رجل، فعلى البائع فصل ما بين النقض والبناء، وإن شاء البائع أخذ النقض على تلك الحالة وأعطاه قيمة البناء مبنيًا ويرفع عنه ما حدث في النقض من النقصان من كل وجه، فإن اختار هذا فالمشتري بالخيار، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وكذلك يدخله بضمان أي جناية أحد فالمشتري بالخيار والبائع بالخيار، فإن اتفقا على وجه من ذلك أقضي بينهما، وإن اختلفا ترك في يد المشتري وضمن البائع فضل ما بين النقض إلى البناء، وإن كان النقصان من غير جناية أحد فهو مثل ذلك في قول أبي يوسف كان للمشتري أن يمسك ويرجع بفضل ما بين الهدم إلى البناء كما يمسك المفقوءة عيناه ويرجع بالنقصان.
رجل اشترى دارًا وبني فيها وغاب، ثم أن البائع باعها من رجل ونقض المشتري الآخر بناء الأول وبنى فيها ثانيًا، ثم جاء الأول، فهذه المسألة على وجهين: الأول أن يكون الثاني بناها بآلات هي ملكه وفي هذا الوجه يضمن المشتري الثاني للمشتري الأول حصة البناء من الدار العامرة ونقض البناء الأول للمشتري الأول، وإن بنى ينقض الأول فالمشتري الثاني يضمن للمشتري الأول حصة البناء من الدار العامرة وللمشتري الأول أن يمسك البناء وليس للمشتري الثاني رفعه؛ لأنه عين ملك الأول فإن زاد المشتري الثاني في ذلك زيادة، أعطاه قيمة الزيادة من غير أن يعطيه أجرة العامل؛ لأن الزيادة عينها مال متقوم، فأما العمل فلا يتقوم إلا بالعقد.
وفي (المأذون الكبير): اشترى أمة واستولدها واستحقها رجل بالبينة وقضى على المشتري بقيمة الولد رجع المشتري بذلك كله على بائعه، وفرق بين هذه المسألة وبينما إذا اكتست أكسابًا أو وهب لها، ثم استحقت وقضي للمستحق بالكسب والهبة حيث لا يرجع المشتري على البائع بالكسب والهبة.
ولو اشترى أرضًا وأحياها أي عمرها فاستحقت من يد المشتري هل يرجع على البائع بما أنفق في عمارتها وحرثها؟ فلا رواية لهذه المسألة، وقيل: لا يرجع؛ لأن الإحياء حصل بصرف المنافع والمنافع عندنا لا تتقوم إلا بالعقد.
وسئل الشيخ الإمام شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: عن رجل اشترى من آخر جارية، ثم ظهر أنها حرة وقد مات البائع ولم يترك شيئًا لا وارث له ولا وصي، غير أن بائع الميت حاضر قال: القاضي يجعل للميت وصيًا حتى يرجع المشتري على وصي الميت، ثم وصي الميت يرجع على بائعه للميت.
وسئل هو عمن اشترى سكنًا في دكان وقف فقال المتولي: ما أذنت بالسكنى وأمر بالرفع، هل للمشتري أن يرجع على البائع؟ قال: إن كان المبيع بشرط القرار، رجع لفوات الشرط وظهور العيب وإلا فلا رجوع له على البائع بوجه ما لا بالثمن ولا بالنقصان.
أيضًا ذكر في (مجموع النوازل): في رجل اشترى من آخر أرضًا بعينها فجاء مستحق واستحقها بالبينة وقضى القاضي بالأرض له وطلب المشتري من البائع الثمن فرد الثمن عليه، ثم ظهر فساد الدعوى وفساد القضاء بفتوى الأئمة، هل للمستحق أن يسترد تلك الأرض ويقول قد ظهر بطلان القضاء؟ قال: لا؛ لأن المشتري لما رجع على البائع بالثمن ورد البائع الثمن عليه فقد فسخا البيع فيما بينهما بالتعاطي فانفسخ العقد من كل وجه وارتفع حكمه فكيف يستردها قال: ولو لم يرجع المشتري على البائع بعد ما قضى القاضي بالأرض للمستحق وفسخ العقد بينهما، ثم بعد ذلك ظهر بطلان قضاء القاضي وبطلان الاستحقاق، كان لهذا المستحق عليه استرداد الأرض في هذه الصورة؛ لأنه ظهر بطلان الفسخ بناء على ظهور بطلان القضاء بخلاف الفصل الأول.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): رجل اشترى جارية فولدت عنده ولدًا لا باستيلاده، ثم استحقها رجل بالبينة أخذها وولدها، ولو أقر المشتري بالجارية لإنسان أخذ المقر له الجارية ولا يأخذ ولدها.
والوجه في ذلك: أن دعوى الملك المطلق دعوى الملك من الأصل فتكون الشهادة بالملك من الأصل؛ لأن الشهود إنما يشهدون على وقت الدعوى فيكون القضاء بالملك المطلق قضاء بالملك من الأصل؛ لأن القاضي إنما يقضي مما يشهد به الشهود، والشهادة حجة مطلقة متعدية فظهر الملك في الجارية عند القضاء بها في حق الولد جميعًا، ولهذا قلنا: إن في القضاء بالملك المطلق يرجع الباعة بعضهم على بعض وطريقه ما قلنا: أن القضاء بالملك المطلق بالبينة، فظهر الملك من الأصل كافة، فأما القضاء بالملك بالإقرار ليس بقضاء بالملك من الأصل؛ لأن الإقرار حجة قاصرة، ألا ترى أن الباعة لا يرجع بعضهم على بعض؟
يوضحه: أن الإقرار ليس ثابتًا بل هو إخبار، وثبوت المخبر به فيه لصحة والمخبر به ملك الآمر، فيقضي بملك الآمر في أدنى زمان يتصور فيه الملك فيقضي بملك الآمر بعد الانفصال عنها؛ لأنه متيقن ولا يقضي به حال الاتصال؛ لأنه مشكوك فيه، ثم في فصل البينة هل يشترط قضاء على حدة بالولد أو القضاء بالأم يكفي؟ اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: القضاء بالأم يكفي، وقال بعضهم: يشترط قضاء على حدة بالولد، وإليه أشار محمد رحمه الله في موضع آخر، فإنه قال: إذا قضى بالأصل للمستحق، ولم يعلم بالزوائد، لم تدخل الزوائد تحت القضاءوهذا؛ لأن القضاء بالزوائد منفصلة حقيقية فلابد من القضاء بها.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الكبير): رجل اشترى ثوبًا فقطعه وخاطه قميصًا، ثم ادعى رجل أن الثوب له وأقام البينة قضى القاضي له بالقميص، ولا يرجع المشتري على البائع بشيء.
الأصل في جنس هذه المسائل: أن الاستحقاق متى وقع على ملك البائع، رجع المشتري على البائع بالثمن ومتى وقع على حدوث الملك للمشتري لا يرجع المشتري على البائع بالثمن، وهذا؛ لأنه متى وقع الاستحقاق على ملك البائع، لم يسلم المبيع للمشتري من جهة البائع بالبيع، فلا يسلم الثمن للبائع إذ البيع عقد معاوضة يقتضي السلامة بإزاء السلامة ومتى وقع الاستحقاق على حدوث ملك المشتري، فالمبيع مسلم للمشتري من جهة البائع، وإنما زال بسبب حدوث من جهته، فلا يمنع سلامة الثمن للبائع وإنما يعرف وقوع الاستحقاق على حدوث الملك للمشتري إذا حدث في العين بما يمنع الاستحقاق من الأصل، وإذا عرفت هذا الأصل فنقول: في هذه المسألة الاستحقاق وقع على حدوث الملك للمشتري لا على الملك من الأصل، إذا كان الثوب للمستحق من الأصل، لصار للذي خاطه، فإن من غصب ثوب إنسان وخاطه قميصًا، ينقطع حق المالك ويصير حق الغاصب أن ضرورة استحقاق القميص أن يكون بملك حدث على ملك المشتري، وبهذا لا يتبين أن المبيع لم يسلم للمشتري من جهة البائع، وكذلك لو اشترى حنطة فطحنها، ثم جاء رجل وأقام البينة أن الدقيق له يقضي القاضي بالدقيق للمستحق، ولا يرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن الاستحقاق وقع على حدوث الملك للمشتري لما قلنا، فقد سوى بين الخياطة والطحن هاهنا وافترقا في حق صحة الزيادة، وإنما كان كذلك باعتبار أن المانع من صحة الزيادة هلاك المبيع، وبالطحن يهلك المبيع وهي الحنطة، أما بالخياطة لا يهلك المبيع؛ لأن المبيع هو الثوب وبعد الخياطة الثوب باق، أما المانع من الرجوع على البائع بالثمن حدوث معنى يمنع الاستحقاق من الأصل والخياطة مع الطحن يستويان في حق هذا المعنى. وكذلك لو أن رجلًا غصب من رجل ثوبًا فقطعه وخاطه قميصًا، ثم جاء رجل وأقام البينة أن القميص له وأخذ القميص من الغاصب لا يبطل الضمان الأول؛ لأن الملك لم يستحق من الأصل بل مقصورًا على صاحب اليد لما قلنا في المسألة الأولى فبقي ملك المغصوب منه، بسبب الخياطة فيجب عليه قيمة الثوب، وكذلك الجواب في الحنطة بطحنها، ولو أن رجلًا اشترى شاة فذبحها وسلخها فأقام رجل البينة أن اللحم والجلد والأطراف والرأس له وأخذ ذلك كله كان للمشتري أن يرجع على بائعه بالثمن؛ لأن الاستحقاق اسم هذه الأشياء بمنزلة الاستحقاق باسم الشاة وهناك يرجع المشتري على البائع؛ لأن الاستحقاق ورد الملك على الملك المطلق ولم يوجد هاهنا ما يمنع القضاء من الأصل؛ لأن حق المالك لا ينقطع عن العين بهذه الأشياء، فوجب القضاء بالملك عن الأصل، فتبين أن الاستحقاق على ملك البائع، ولو كان في الغصب يبطل حق المغصوب منه عن الضمان لما ذكرنا أن بهذه الأشياء لا ينقطع حق المالك عن العين، فورد الاستحقاق على ملك المغصوب منه فوجب بطلان حقه عن الضمان، ولكن يرجع الثاني على الغاصب بالنقصان.
وكذلك لو اشترى ثوبًا فقطعه ولم يخطه، ثم استحق رجل الثوب المقطوع بالبينة، فإن المشتري يرجع بالثمن على البائع؛ لأن الاستحقاق ورد على الملك المطلق ولم يوجد هاهنا ما يمنع القضاء بالملك من الأصل؛ لأن مجرد القطع لا يقطع ملك المستحق وإن كان هذا في الغصب بأن غصب رجل ثوبًا فقطعه ولم يخطه، ثم استحقه رجل بالبينة يبطل حق الأول عن الضمان إذ الملك صار مستحقًا من الأصل.
ولو أن رجلًا غصب من رجل لحمًا فشواه فأقام رجل البينة أن هذا اللحم المشوي له فقضي به له رجع المغصوب منه على الغاصب بقيمة لحمه؛ لأن الاستحقاق لم يثبت من الأصل إذ لو جعل هذا الاستحقاق له من الأصل، لصار الغاصب مالكًا له، فمن ضرروة هذه البينة أن يجعل الاستحقاق مقصورًا على الحال، ويجعل كأن المغصوب منه كان مالكًا، ثم الغاصب يملك عليه بالشيء، ثم المستحق يملك عليه بوجه من الوجوه، ثم وجب هاهنا القيمة، فهذا دليل على أن اللحم مضمون بالقيمة لا بالمثل، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: هو مضمون بالمثل، وتأويل هذه المسألة على قوله إذا لم يوجد مثله.
ولو كان هذا في الشراء بأن اشترى لحمًا فشواه، ثم أقام رجل البينة أنه له وقضى به له لم يرجع على البائع بالثمن؛ لأن الاستحقاق مقصور على المشتري لما قلنا، ولو أقام المستحق البينة في هذا كله أن ذلك اللحم قبل أن يشويه المشتري، وذلك الثوب قبل أن يخيطه المشتري وتلك الحنطة قبل أن يطحنها المشتري كان له، كان للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن. ولو كان هذا في الغصب يبطل حق الأول عن الضمان؛ لأن الاستحقاق هاهنا ثبت من الأصل وتبين أن المشتري أو الغاصب كان غاصبًا لهذه الأشياء من المستحق فكان ضامنًا للمستحق.
ولو أن رجلًا اشترى من رجل شاة وذبحها وسلخها فأقام الرجل البينة أن اللحم له وأقام آخر بينة أن الجلد له وأقام آخر بينته أن الرأس والأطراف له وقضى القاضي بذلك، ودفع إلى كل واحد ما، استحقه ببينة لم يرجع المشتري على البائع بشيء؛ لأن هذا الاستحقاق مقصور على المشتري؛ لأن تملك هذه الأشياء على الافتراق لا يتصور إلا بعد الذبح، إذ لا يجوز أن يستحق كل واحد منهم جزءًا من الشاة وهي حية، وإنما يجوز ذلك بعد الذبح، فكان الاستحقاق مقصورًا على المشتري، ألا ترى أن المدعي لو أقام البينة على شيء من هذه الجملة أنه لو أقام الذي في يده بينة على مثله أن صاحب اليد أولى؛ لأن ذا اليد أسبقهما تاريخًا؛ لأنه يثبت الملك لنفسه ملكًا بغير الذبح، وهذا بخلاف ما إذا كان المدعي لهذه الجملة رجل واحد؛ لأن ذلك يصلح استحقاقًا من الأصل؛ لأن الواحد يجوز أن يستحق هذه الجملة من الشاة حية، ألا ترى أن المدعي لو أقام البينة على ذلك وذو اليد أقام البينة على مثله أن المدعي أولى؟
وكذلك على هذا لو أن رجلًا اشترى ثوبًا فقطعه قميصًا ولم يخطه، فأقام رجل البينة أن الكمين له وأقام آخر البينة أن الدخريص له وقضى القاضي، لا يرجع المشتري على البائع بالثمن وإنما لا يرجع لما قلنا.
وفي (مجموع النوازل): باع من آخر حمارًا على أنه غارتي يريد به أن لا يرجع عليه عند الاستحقاق قال: للمشتري أن يرجع عليه عند الاستحقاق؛ لأن الرجوع حق ثابت شرعًا في البيع الجائز والفاسد، وقيل: يجب أن يكون البيع بهذا الشرط فاسدًا؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، فيكون للمشتري أن يسترد الثمن ويكون للبائع أن يسترد المبيع بحكم فساد العقد، (اكرد لالي دلالي كرد)، ثم استحق المبيع من يد المشتري فالمشتري على من يرجع بالثمن، والجواب (أكرد لا لي خود بيع كرده باشد مشتري برد لالي رجوع كغد).
وفي صلح (فتاوى أبي الليث): رجلان اشتريا عبدًا صفقة واحدة فاستحق نصف العبد فهما بالخيار إن شاءا أخذا نصف العبد وإن شاءا تركا، فإن أخذا كان لكل واحد ربع العبد، وإن سبق أحدهما بالأخذ أخذ ربع العبد، ثم لا يكون للآخر حق الرد على البائع.
وفي (المنتقى): رجل اشترى دارًا وقبضها، ثم خاصمه رجل في حائط بين دار المشتري وبين دار الذي خاصمه، ولم يكن في الشراء للحائط ذكر ولا شرط، فقامت البينة أن الحائط للجار وقضى به القاضي، فأراد المشتري أن يرد الدار، قال: إن كان للمشتري على الحائط خشبة واحدة أو أكثر وليس للمستحق عليه خشبة أصلًا، فله أن يرد الدار، وإن أراد أن يمسك الدار ولا يرجع بحصة كل الحائط فعل، وإن كان الذي استحق الحائط عليه جذوع أيضًا، فإن شاء رد الدار وإن شاء رجع بحصته من الحائط، وإن لم يكن لواحد منهما عليه جذوع وكان متصلًا ببناء المشتري رد الدار إن شاء، وإن أمسك الدار ورجع بحصة الحائط كله، وإن كان متصلًا بالبناءين جميعًا بناء المشتري وبناء المدعي رجع بحصة نصف الحائط وإن شاء رد الدار، وإن لم يكن متصلًا ببناء واحد منهما ولم يكن لواحد منهما عليه جذوع، فإنه لا يرد الدار ولا يرجع بشيء على البائع.
إلا أن بكون سمى له الحائط في الشراء فحينئذ يرجع بحصته أو يرد الدار، وإن كان الحائط متصلًا ببناء الجار وليس بمتصل ببناء المشتري ولا جذوع للمشتري عليه، فإنه لا يرد الدار ولا يرجع بشيء، ولو كان للمشتري عليه ستره، فلما استحق الحائط أمر بهدمها والسترة قائمة قبل شرائه كان له أن يرجع بنقصان هذه السترة، وإن شاء رد الدار، ولو كان للمشتري عليه فرادي لا غير، فاستحق الحائط لم يرجع بشيء ولم يرد الدار، ولو كان الحائط متصلًا ببناء المشتري اتصال تربيع وللجار عليه جذوع فالحائط للمشتري وللجار موضع جذوعه وليس للمشتري أن يرجع على البائع بحصة مواضع الجذوع في حائطه، ولكن يقال للمشتري: هذا عيب فإن شئت فرد الدار وإن شئت فخذها بجميع الثمن، ولو كان له مثل ما في دار وطريق فاستحق ذلك رد الدار إن شاء، وإن شاء أمسكها ورجع بنقصان ذلك، ولو كان كنيف شارع إلى الطريق أو ظلة شارعة فخاصم فيها أهل الطريق فأمره القاضي برفعها لم يرجع على البائع بشيء ولم يرد الدار، ليس هذا من حقوقه الواجبة هذا في طريق المسلمين.
وإن كان له باب في الطريق الأعظم وباب في طريق غير نافذ، فأقام أهل ذلك الطريق بينة أنهم أعادوا لبائع هذا الطريق فأمره القاضي بسده وقضى عليه فهو بالخيار إن شاء رد الدار وإن شاء رجع بنقصان ذلك الطريق.
رجل مات وترك ابنين ودارًا فأدعى أحد الابنين أن أباه كان باع هذه من هذا الرجل بألف درهم وأنكر ذلك الرجل والأبن الآخر، فأقام ابن المدعي البينة على ما ادعى، فإني أقضي على الرجل بنصف الثمن وأقضي له بنصف الدار حصة الذي ادعى البيع، ولا خيار له في رده وليس هذا كالاستحقاق لنصف الدار؛ لأني إنما نقضت البيع هاهنا في النصف لجحود المشتري، ولو ادعى لأجزت البيع فيه.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): في رجل ادعى حقًا في الدار وأنكر المدعى عليه ذلك، ثم إن المدعى عليه صالح المدعي على مائة يأخذها المدعي صح الصلح عندنا. هذه المسألة تبتني على أصلين: أحدهما: أن الصلح عن الحقوق المجهولة إذا كان لا يحتاج فيها إلى التسليم جائز عندنا. والثاني: أن الصلح على الإنكار جائز عندنا والمسألة معروفة.
ثم إذا صح الصلح لو استحقت الدار من يد المدعى عليه إلا ذراعًا منها لم يرجع عليه بشيء. ولو كان المدعي يدعي كل الدار وباقي المسألة بحالها يرجع على المدعي بحصته ما استحق عن المائة. والفرق: أن في المسألة الأولى الاستحقاق غير مناقض أصلًا؛ لأن الصلح وقع عن حقوق مجهولة، واسم الحق يتناول ما بقي في يد المدعى عليه بعد الاستحقاق، فيمكن للمدعي أن يقول للمدعى عليه: عنيت بالدعوى السابق هذا القدر الذي بقي في يدك، وإذا لم يكن الاستحقاق مناقضًا للصلح أصلًا لا يكون له حق الرجوع على المدعي بشيء. وأما في المسألة الثانية الاستحقاق مناقض للصلح بقدره وقع عن كل الدار على مائة، فلابد وأن ينتقض الصلح بقدر ما استحق، فيرجع على المدعي بحصة ذلك.
قال في (الجامع الصغير) أيضًا: في عبد لرجل مقر له بالعبودية باعه من رجل، وقد قال العبد للمشتري: اشترني فإني عبد له فاشتراه، فإذا هو حر لا سبيل للمشتري على العبد إذا كان البائع غايبًا غيبة منقطعة معروفة، وإذا كان البائع لا يدرى أين هو رجع المشتري على العبد بالثمن، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا رجوع للمشتري على العبد بالثمن بحال، ووجه ذلك: أن ضمان الثمن وجوبه بالمعاقدة أو بالكفالة عن المعاقدة ولم يؤخذ شيء من ذلك بالعبد، إنما الموجود منه الإخبار بكونه عبدًا، وإنه لا يوجب ضمان الثمن، ألا ترى أن أجنبيًا لو قال للمشتري: اشترى هذا العبد، فإذا هو حر لا يرجع المشتري عليه بالثمن وطريقه ما قلنا، ألا ترى أن العبد إذا قال لرجل: ارتهني فإني عبد فارتهنه، فإذا هو حر لا يرجع المرتهن على العبد بدينه؟ كذا هاهنا.
وجه (ظاهر الرواية): أن العبد ضمن للمشتري سلامة نفسه أو سلامة الثمن من نفسه متى تعذر استيفاؤه من البائع، وقد تعذر الاستيفاء من البائع إذا غاب غيبة لا يدرى أين هو، فيرجع المشتري بالثمن على العبد بحكم الضمان، كالمولى إذا قال لأهل السوق: بايعوا عبدي هذا، فإني قد أذنت له في التجارة، فبايعوه ولحقه ديون، ثم استحق العبد فإن أصحاب الديون يرجعون على المولى بقيمته، وجعل المولى ضامنًا لهم سلامة حقوقهم من نفسه عند تعذر الاستيفاء من مالية العبد.
بيانه: أن المشتري إنما رغب في الشراء اعتمادًا على أمر العبد إياه وعلى إخباره أنه عبد، فيجعل العبد ضامنًا سلامة البدل عند عدم سلامة نفسه نفيًا للغرور، وإذا صار العبد ضامنًا سلامة البدل عند عدم سلامة نفسه كان للمشتري حق الرجوع على العبد بحكم الضمان، ويمكن جعل العبد ضامنًا للسلامة؛ لأن البيع معاوضة يستحق به السلامة، فيمكن أن يجعل الآمر به ضامنًا للسلامة على ما هو موجبه نفيًا للغرور، ولا كذلك الرهن؛ لأنه شرع لملك الحبس من غير عوض ويصير يعارضه استيفاء ليس حقه من غير عوض، فلا يمكن أن يجعل الآمر به ضامنًا للسلامة.
أو نقول: الثمن يجب بالبيع، فجاز أن يكون الآمر به ضامنًا، أما الدين لا يجب بعقد الرهن بل هو واجب قبل عقد الرهن فلا يكون الآمر به ضامنًا للسلامة، تم قول محمد رحمه الله في هذه المسألة، فإذا العبد حر يحتمل أنه أراد به حرية الأصل، ويحتمل أنه أراد به العتق المعارض، فإن كان المراد منه حرية الأصل يثبت أن التناقض لا يمنع صحة الشهادة على حرية الأصل؛ لأن العبد في دعوى الحرية هاهنا متناقض، واختلف المشايخ فيه قال بعضهم: التناقض في حرية الأصل إنما لا تمنع صحة الشهادة؛ لأنه لو منع، منع من حيث إنه يعدم الدعوى إلا أن دعوى العبد في حرية الأصل ليس بشرط في الاتفاق، والخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله في العتق العارض.
وبعضهم قالوا: دعوى العبد شرط عند أبي حنيفة في حرية الأصل وفي العتق العارض إلا أن التناقض لا يمنع صحة الدعوى في حرية الأصل، فلا يمنع صحة الشهادة، وفي العتق العارض يمنع صحة الدعوى، فيمنع صحة الشهادة، وإن كان المراد مما ذكر في (الكتاب) العتق العارض ثبت أن التناقض في العتق العارض، لا يمنع صحة الدعوى عند أبي حنيفة؛ لأنه لابد من دعوى العبد للقضاء بالحرية عند أبي حنيفة، والعبد في دعواه الحرية هاهنا متناقض، والصحيح أن دعوى العبد عند أبي حنيفة شرط في حرية الأصل. وفي العتق العارض والتناقض لا يمنع صحة الدعوى وصحة الشهادة لا في حرية الأصل ولا في العتق العارض؛ لأن التناقض في حرية الأصل إنما لا يمنع لخفاء حالة العلوق، فإن الولد قد يجلب من دار الحرب صغيرًا ولا يعلم بحرية أبيه وأمه، فبقي بالرق لم يعلم بحرية أبيه وأمه، فيدعي الحرية والتناقض فيما (طريقه) طريق الخفاء لا يمنع صحة الدعوى ولا يجزئ الخفاء في حرية الأصل، يجزئ في العتق العارض؛ لأن المولى بنفسه (أقر) بالإعتاق من غير علم العبد، فيجعل التناقض فيه عفوًا أو نقول التناقض إنما يؤثر فيما يحتمل النقض بعد ثبوته، فلا يكون التناقض فيه مانعًا صحة الدعوى وقبول البينة، ألا ترى أن التناقض في دعوى النسب لا يمنع صحته حتى إذا كذب المُلاعِنُ نَفْسَهُ ثبت منه كذلك هاهنا والله أعلم.

.الفصل السابع عشر: في مسائل الاستبراء:

قال محمد رحمه الله في (الأصل): إذا اشترى جارية وجب على المشتري أن يستبرئها بحيضة، والأصل في ذلك قوله عليه السلام في سبايا أوطاس: «ألا لا توطأ الحبالى حتى تضعن، ولا الحيالى حتى تستبرأن بحيضة» والحكمة في ذلك تعرف براءة الرحم وصيانة ماء نفسه عن الخلط، والتحرز من أن يصير ساقيًا ماؤه زرع غيره، لكن لا يمكن بناء الحكم على حقيقة هذا المعنى لبطونه، فبني الحكم على السبب الظاهر، وهو استحداث ملك الرقبة واليد؛ لأن الصيانة إنما تجب عليه في تلك الحالة؛ لأن بملك الرقبة يقدر على الفعل شرعًا وبملك اليد يقدر عليه حقيقة فيعلق الحكم به لهذا، وتعدي الحكم من المنصوص عليه وهي المسبية إلى المشتراة بهذه العلة، ويستوي على ظاهر الرواية أن يكون البائع ممن يطؤها أو لا يطؤها؛ لأن هذا الحكم بناء على استحداث حل الوطء بملك الرقبة واليد. وكذلك قال أبو حنيفة في الجارية: إذا كانت بكرًا إنه يجب الاستبراء، وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أنها إذا كانت بكرًا وقد أحاط علم المشتري أنها لم توطأ لم يجب الاستبراء.
وفي (المنتقى): رجل وهب جارية لابنه الصغير وسكنت في ملكه أربعة أشهر، ثم قومها على نفسه واشتراها، فلا استبراء عليه عند أبي يوسف، وقال أبو حنيفة: عليه الاستبراء وإن كانت ممن لا تحيض لصغر أو كبر استبرأها بشهر لقيام الشهر في غير ذات الحيض مقام الحيض، وفي ذوات الحيض كما في العدة، كما لا يجوز له أن يطأ ولا يقبلها ولا يلمسها بشهوة ولا ينظر إلى عورتها؛ لأن هذه الأشياء دواع في الوطء والداعي إلى الشيء يعطى له حكم ذلك الشيء، ويشترط في الاستبراء حيضة بعد استحداث ملك الرقبة واليد حتى إن الحيضة قبل القبض لا تجزئ بها عن الحيضة إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله ما ذكرنا أن هذا الحكم مبني على استحداث حل الوطء بملك الرقبة واليد جميعًا لا على حقيقة تعرف براءة الرحم.
ولو انقطع الحيض لعلة قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يطؤها حتى تمضي مدة لو كان حاملًا طهر الحمل ثلاثة أشهر، وقال محمد رحمه الله: يعتبر أربعة أشهر وعشرة أيام، ثم رجع وقال: شهران وخمسة أيام، وقال زفر: سنتان. وروي (المعلى) عن أبي يوسف في رجل اشترى جارية تحيض في السنة مرة واحدة، قال: عليه (السلام) «أن يستبرئها بحيضة»، قيل له: قد كنت تقول قبل هذا بثلثة أشهر، قال: الآن أقول بخلاف هذا، فسئل عن من اشترى جارية مستحاضة لا يعلم حيضها كيف يستبرئها، قال: يدعها من أول الشهر عشرة أيام.
ولو ملك جارية حاملًا لا يطؤها (حتى) تضع حملها، أو بعد ما وضعت حملها لا استبراء عليه بالحديث الذي روينا، ولأن وضع الحمل في حق حصول المقصود وهو تعرف براءة الرحم فوق الحيضة، وإن وضعت حملها قبل القبض فعليه الاستبراء كما لو حاضت قبل القبض.
وإذا اشترى جارية لها زوج ولم يدخل بها فطلقها قبل أن يقبضها المشتري، فعلى المشتري أن يستبرئها بحيضة، هكذا ذكر في (الأصل)، وفي كتاب (الحيل): أنه لا استبراء على المشتري، فعلى رواية كتاب (الحيل) اعتبر وقت الشراء هي مشغولة بحق الغير، وعلى رواية الأصل اعتبر وقت القبض، وهو الصحيح؛ لأن وقت وجوب الاستبراء على المشتري وقت القبض، وهي وقت القبض فارغة عن حق الغير. وإن كان الزوج طلقها بعد قبض المشتري فلا استبراء على المشتري، وهذا هو الحيلة لاسقاط الاستبراء أن يزوجها البائع قبل البيع من رجل أو يزوجها المشتري بعد الشراء قبل القبض، ثم يقبضها المشتري، ثم يطلقها الزوج، فلا يجب الاستبراء على المشتري؛ لأن وقت وجوب الإستبراء وقت القبض هي مشغولة بحق الزوج فلا يجب عليه الاستبراء، وبعد ما طلقها زوجها صارت فارغة عن حقه لم يوجد السبب وهو استحداث حل الوطء باستحداث ملك الرقبة والوطء باليد.
قال الشيخ الإسلام شمس الأئمة الحلواني: إنما لا يجب الاستبراء على المشتري في هذه الصورة إذا كان البائع لا يطؤها أما إذا كان البائع يطؤها يجب الاستبراء تحرزًا عن سقي زرع غيره، وهكذا روى ابن سماعة في (نوادره) عن محمد.
والمذكور ثمة: رجل اشترى جارية لها زوج وقبضها، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، فلا استبراء على المشتري إلا أن يكون البائع زوجها بعد وطئه إياها قبل أن تحيض، فإني لا أحب لهذا المشتري في هذه الصورة أن يطأها حتى تحيض حتى لا يجتمعان عليها في طهر واحد، وإن لم يكن يجد المشتري حرة فلإسقاط الاستبراء حيلة أخرى، وهو أن يتزوجها المشتري قبل الشراء، ثم يشتريها ويقبضها، فلا يلزمها الاستبراء؛ لأن النكاح يثبت له عليها الفراش، وقيام الفراش له عليها دليل شرعي على فراغ رحمها من ماء الغير.
وفي (المنتقى): رجل تزوج أمةً، ثم اشتراها قال استحسن أن يستبرئها، رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وروي عن أبي يوسف وأبي حنيفة في هذه الصورة: أنه لا استبراء عليه وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني يقول: رأيت في كتاب الاستبراء لبعض المشايخ أنه إنما لا يجب الاستبراء على المشتري في هذه الصورة أن لو تزوجها ووطئها ثم اشتراها؛ لأنه حينئذ يملكها وهي مشغولة بعذر، فأما إذا استبرأها قبل أن يطأها وكما استبرأها يبطل النكاح فحال ثبوت ملك اليمين لا نكاح فيجب الاستبراء لتحقق سببه وهو استحداث حل الوطء بملك اليمين، وكان يحسنه ودقته رحمه.
وإذا باع جارية ولم يسلمها إلى المشتري حتى تارك المشتري البيع، فلا استبراء على البائع استحسانًا، وإذا ردها بالعيب بعد القبض أو تقايلا بعد القبض فعلى المشتري أن يستبرئها بحيضة، وإذا رجعت الآبقة أوردت المغصوبة أو فكت المرهونة أو عجزت المكاتبة أو انقضت الإجارة لم يكن على المولى أن يستبرئها بلا خلاف. وإذا كان الخيار للمشتري فردها بعد القبض فليس على البائع أن يستبرئها عند أبي حنيفة رحمه الله خلافًا لهما، فإذا رد القاضي المبيع على البائع لفساد البيع، عليه أن يستبرئها.
وإذا باع الغاصب الجارية المغصوبة من رجل وقبضها المشتري، ثم استحقها المالك إن لم يكن المشتري وطئها قبل الاستحقاق فلا استبراء على المالك قياسًا واستحسانًا، وإن كان قد وطئها إن علم بحالها أنها مغصوبة فلا استبراء على المالك قياسًا واستحسانًا أيضًا، وإن لم يعلم بحالها مغصوبة فالقياس أن لا يجب الاستبراء على المالك، وفي الاستحسان يجب.
وإذا زوج الرجل أمته من إنسان، ثم مات الزوج عنها، فله أن يجامعها بعد مضي العدة ولا استبراء عليه، وإن طلقها الزوج بعد الدخول بها، فله أن يجامعها بعد مضي العدة والاستبراء عليه، وإن طلقها الزوج قبل الدخول بها، فإن كان المولى لم يستبرئها بعد ما قبضها بحكم الشراء ولم تحض عند الزوج فعليه الاستبراء، وإن كانت قد حاضت عند الزوج فلا استبراء على المولى (إن كان) قد استبرأها بعد ما قبضها، ثم زوجها وطلقها قبل الدخول بها ولم تحض في يد الزوج فلا استبراء على المولى هو الصحيح.
وإذا تزوج جارية وكان الزوج يطأها لم يكن على الزوج استبراء في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يستبرئها بحيضة استحسانًا كيلا يؤدي إلى اجتماع الرجلين على امرأة واحدة في طهر واحد، ولأبي حنيفة: أن عقد النكاح متى صح تضمن العلم ببراءة الرحم شرعًا، وهو المقصود من الاستبراء.
وإذا أراد الرجل أن يبيع أمته وقد كان يطؤها يستحب أن يستبرئها ثم يبيعها. وإذا أراد الرجل أن يزوج أمته من إنسان يطؤها، بعض مشايخنا قالوا: يستحب أن يستبرئها بحيضة ثم يزوجها كما لو أراد بيعها، والصحيح أن هاهنا يجب الاستبراء، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، بخلاف ما إذا أراد أن يبيعها. والفرق: أن في فصل البيع يجب الاستبراء على المشتري، فيحصل المقصود به، فلا معنى للإيجاب على البائع، أما في فصل النكاح لا يجب الاستبراء على الزوج ليحصل به معنى الصيانة، فمست الحاجة إلى إيجابه على المولى.
وفي (المنتقى) الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: كره للرجل أن يبيع جارية كان يطؤها حتى يستبرئها بحيضة، وإن كانت لا تحيض أبدًا أو كانت آيسة فبشهر، وإن ارتفع حيضها بعد الوطء فبأربعة أشهر، وإن جامعها في الحيض فلا يبيعها حتى تطهر من حيضة.
وإذا زنت أمة الرجل فليس عليه استبراء في قول أبي حنيفة، وقال محمد: أحب إلي أن لا يطأها حتى يستبرئها بحيضة، وروي عن محمد رحمه الله رواية أخرى أنه قال: يجب عليه الاستبراء، وإن حبلت من الزنا لم يقربها حتى تضع حملها.
وإذا كانت الجارية بين رجلين اشترى أحدهما من صاحبه نصيبه، فعليه الاستبراء. وإذا وطئ الرجل أمته ثم اشترى أختها فله أن يطأ الأولى، وليس له أن يطأ الثانية إذا اشتراها كيلا يصير جامعًا ماءه في رحم أختين، وإن لم يكن وطء الأولى فله أن يطأ أيتهما شاء، وإن وطئهما أو قبلهما أو لمسهما بشهوة أو نظر إلى فرجهما فقد أساء؛ لأنه ارتكب المحرم وهو الجمع بينهما في حق الوطء والدواعي ولا يطأ واحدة منهما بعد ذلك حتى يزول ملك الوطء عن الأخرى حتى ذكر في (الأصل)، وفي (نوادر هشام) قال: سمعت محمدًا رحمه الله يقول في رجل عنده أختان وطئهما ثم باع إحديهما، فإن لم يستبرئ التي باعها بحيضة قبل أن يبيعها، فإنه لا يقرب هذه حتى تحيض، وروى بشر عن أبي يوسف: رجل عنده أمتان أختان وطء إحداهما، فلا ينبغي له أن يطأ الأخرى حتى تحيض الموطوءة حيضة ويخرجها عن ملكه، وفي قول أبي حنيفة: إذا أخرجها عن ملكه وطء الأخرى. وفي (القدوري): ذكر المسألة في غير ذكر خلاف، فقال: إذا أخرج التي وطئ عن ملكه جاز له أن يطأ الأخرى؛ لأن المحرم هو الجمع في الوطء وقد زال ذلك بإبطال ملك المتعة والله أعلم.

.الفصل الثامن عشر: في بيع الأب والوصي والقاضي مال الصبي وشرائهم له:

الواحد لا يصلح عاقدًا من الجانبين في عقود المعاوضات لما فيه من رجوع الحقوق المضادة والأحكام المتنافية إلى الواحد، فإن البيع يوجب ضد ما يوجبه الشراء من الأحكام، قالوا الواحد إذا صار بائعًا ومشتريًا يرجع إليه أحكام متضادة، ألا ترى أنه يصير مطالِبًا ومطالَبًا مسلمًا ومتسلمًا مستزيدًا ومستنقصًا، وإنه ممتنع بحال، ولأن المعاوضة توجب حقًا لكل واحد من المتعاقدين على صاحبه، فالواحد إذا صار بائعًا ومشتريًا وجب الحق له على نفسه، وأنه ممتنع، والقياس في الأب كذلك، حتى لا يجوز بيع الأب ماله من أبيه الصغير وشراء مال ابنه الصغير لنفسه لما قلنا من الاستحالة، إلا أنهم استحسنوا وجوزوا ذلك، وطريقه أن يجعل الأب رسولًا عنه في التصرف وأمكن جعل الأب رسولًا عنه في التصرف لانتفاء التهمة عن تصرفه مع نفسه بسبب كمال الشفقة، وعبارة الرسول عبارة المرسل، فصار العقد قائمًا بعبارتين معنى، كأن الأب باع من ابنه وهو بالغ، ثم تحمل العهدة عليه بحكم الأبوة لعجزه عنها، فلا يؤدي إلى التضاد في الأحكام؛ لأنه إنما يؤدي إلى التضاد في الأحكام أن لو كان لخوف العهدة للأب بحكم العقد، ولهذا لو بلغ الصبي كان العهدة عليه بخلاف الوكيل؛ لأنه لم يوجد في حق الوكيل سبب لحمل العهدة عليه سوى العقد، فكان الخوف العهدة بحكم العقد فجاء التضاد، أما هنا فبخلافه على أنا نقول بأن هذا العقد لا يوجب التسلم والتسليم والمطالبة فلا يتحقق من التضاد في الأحكام.
واختلف المشايخ في أنه هل يشترط لتمام هذا العقد الإيجاب والقبول، والصحيح أنه لا يشترط حتى أن الأب لو قال: بعت هذا من ولدي فلان بكذا، وقال: اشتريت من مال ولدي هذا بكذا، فإنه يتم العقد، ولا يشترط أن يقول: بعت هذا من ولدي واشتريت، وإليه أشار محمد رحمه الله في (الزيادات)، وهذا لأنه لا معتبر بالقبول عند وجود الرضا كما في فصل التعاطي، والرضا يتم بقوله: بعت هذه العين من ولدي، فلا يعتبر القبول ويجوز هذا البيع من الأب بمثل القيمة وبما يتغابن الناس فيه، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز إلا بمثل القيمة، فعلى هذه الرواية لم يتحمل الغبن اليسير من الأب في تصرفه في الوجهين جميعًا، ووجهه: أن الغبن اليسير إنما يتحمل في تصرفه مع الإيجاب؛ لأن التحرز عنه غير ممكن، هذا المعنى موجود في تصرفه مع نفسه، والجواب الأب عند انعدام الأب بمنزلة الأب.
ولو كان له ابنان صغيران فباع مال أحدهما من الآخر بأن قال: بعت عبد ابني فلان من ابني فلان جاز؛ لأنه لو باع مال أحدهما من نفسه يجوز، فكذا إذا باع من الآخر، وإذا أتلفا فالعهدة عليهما هو الصحيح؛ لأن لحوق العهدة الأب بطريق التحمل عنهما لعجزهما عن التحمل بأنفسهما، وبالبلوغ ارتفع العجز، فكانت العهدة عليهما. وفي (الهاروني) وفي الثمن لزم الأب شراء مال ولده الصغير ولا يبرأ الأب منه حتى ينصب القاضي وكيلًا من الصغير، فيقبضه عن الأب للصغير، ثم بعد قبضه بأمر القاضي يرده على الأب حتى يكون في يده عن ابنه وديعة.
وفي (الفتاوى): الأب إذا باع مال الصبي من أجنبي بمثل القيمة، فالمسألة على ثلاثة أوجه: إن كان الأب محمودًا عند الناس أو كان مستور الحال يجوز حتى لو كبر الأبن لم يكن له أن ينقضه؛ لأن الأب له شفقة كاملة ولم يعارض هذا المعنى معنى آخر، فكان هذا البيع نظرًا فيجوز، وإن كان فاسدًا عند الناس إن باع العقار لا يجوز حتى لو كبر الأبن له أن ينقضه. قال الصدر الشهيد رحمه الله في (واقعاته): هو المختار إلا إذا كان جبرًا للصغير بأن باع بضعف قيمته؛ لأنه عارض ذلك المعنى معنى آخر فلم يكن هذا البيع نظرًا. وإن باع ما سوى العقار من المنقولات ففيه روايتان: في رواية: يجوز ويؤخذ الثمن منه ويوضع على يدي عدل، وفي رواية: لا يجوز إلا إذا كان جبرانًا للصغير، قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار.
وفي وصايا (المنتقى) إبراهيم عن محمد رحمه الله: بيع الأب المفسد جائز، فيؤخذ الثمن منه ويوضع على يدي عدل من غير فصل بين العقار والمنقول.
الوصي إذا باع مال اليتيم من نفسه أو باع مال نفسه من اليتيم، فعلى قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف إذا كان فيه منفعة ظاهرة لليتيم يجوز، وإن لم يكن فيه منفعة ظاهرة لليتيم لا يجوز. وعلى قول محمد وأظهر الروايات عن أبي يوسف: لا يجوز بحال.
وتكلموا في تفسير المنفعة الظاهرة على قول أبي حنيفة، بعضهم قالوا: أن يبيع من الصبي من مال نفسه ما يساوي ألف درهم بثلثمائة ويبيع مال الصبي من نفسه ما يساوي ثمان مائة بألف درهم، وقال بعضهم: أن يبيع من الصبي من مال نفسه ألف درهم بخمسمائة، ويبيع من مال الصغير ما يساوي خمسمائة بألف، وبعضهم قالوا: أن يبيع من مال الصبي من نفسه ما يساوي ألفًا بألف وخمسمائة. والصحيح قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الوصي مختار الأب بعد وفاته، وهو حال عجزه عن المراقبة بنفسه له الاستقصاء في النظر واختيار من هو أشفق الناس على الصغير، فنزل الوصي منزلة الأب إلا أن شفقة الوصي لا تكون نظير شفقة الأب، فشرط في تصرفه مع نفسه المنفعة الظاهرة، ولم يشترط في تصرف الأب مع نفسه المنفعة الظاهرة.
ثم إذا جاز بيع الوصي من نفسه على قول أبي حنيفة هل يكتفي بقوله: بعت أو اشتريت كما في الأب أو يحتاج إلى الشطرين؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب، وذكر الناطفي رحمه الله في (واقعاته): أنه يحتاج فيه إلى الشطرين بخلاف، وذكر للفرق ثمة وجهًا فقال: ولاية الأب تثبت شرعًا بلا قبول، فكذا يجوز بيعه بلا قبول، وولاية الوصي ما يثبت شرعًا بلا قبول، فكذا لا يجوز بيعه بلا قبول. قال الناطفي ثمة: رأيت هذه المسألة فيما علق على ابن الحسن، فكأنه أبو الحسن الكرخي رحمه الله.
وفي (واقعات الناطفي) أيضًا: الوصي إذا أمره إنسان أن يشتري أشياء من مال الصغير، فاشتراه له لا يجوز، بخلاف ما إذا اشتراه لنفسه على قول أبي حنيفة رحمه الله، والفرق: أنه إذا اشتراه فحقوق العقد من جانب اليتيم راجع إلى اليتيم، ومن جانب الوصي راجع إليه، فلا يؤدي إلى التضاد، وإذا اشترى لغيره فحقوق العقد من جانب اليتيم راجعة إلى الوصي ومن جانب الآمر كذلك فيؤدي إلى التضاد.
الصبي المأذون إذا باع من مال نفسه فهو كبيع الوصي بنفسه، فقد اعتبر في تصرفه مع الوصي جهة النيابة عن الوصي تولاه بنفسه، ولو باع الصبي المأذون من الأجنبي بغبن فاحش يجوز عند أبي حنيفة في تصرفه مع الأجنبي جهة المالكية والأصالة لا جهة النيابة، فإن الوصي لو باع مال الصغير من أجنبي بغبن فاحش لا يجوز، هما اعتبرا جهة النيابة في تصرفه مع الأجانب أيضًا حتى قالوا: لو باع الصبي ماله من أجنبي بغبن فاحش لا يجوز ولو باع الوصي.
القاضي إذا باع مال اليتيم من نفسه ذكر في (السير) أنه لا يجوز، وأشار في المعنى فقال: لأن بيعه منه نوع قضاء وهو إنما استفاد القضاء من جهة غيره وما تم ذلك إلا به وبغيره، فكذا العقد الذي يعقده القاضي لا يتم إلا به وبغيره. وذكر الناطفي في كتاب (الأجناس) أن ما ذكر محمد رحمه الله في (السير الكبير) من عذر جواز بيع القاضي مال اليتيم من نفسه، فكذلك قوله خاصة أما على قول أبي حنيفة رحمه الله ينبغي أن يجوز.
وروى بشر عن أبي يوسف: أن القاضي إذا اشترى من متاع اليتيم لنفسه شيئًا، فهو بمنزلة الوصي، فإذا رفع إلى قاض آخر نظر فيه، فإن كان خيرًا لليتيم أجازه وإلا لم يجزه، وأكرهُ القاضي شراءه.
الأب إذا اشترى لابنه الصغير شيئًا ونقد الثمن من مال نفسه وأشهد على نفسه أنه إنما نقد عنه ليرجع في ماله، ذكر في بيوع (الإملاء)، وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: أن له الرجوع عليه، واختلفت الروايات في اعتبار وقت الإشهاد. قال في بيوع (الإملاء): يعتبر الاشهاد وقت الشراء، وقال في (نوادر ابن سماعة): يعتبر الإشهاد وقت نقد الثمن. وإن نقد عنه الثمن ولم يشهد على الرجوع، فإنه لا يرجع به على الأبن، نص عليه في بيوع (الإملاء).
وفي (نوادر رستم) عن محمد رحمه الله إذا لم يشهد الأب على الرجوع لكن نوى الرجوع ونقد الثمن على هذه النية وسعه الرجوع فيما بينه وبين الله تعالى، ولو كان مكان الأب وصيًا فله حق الرجوع ليشهد له الرجوع على ذلك أو لم يشهد، وكذلك الجواب في مهر امرأة الأبن الصغير.
وروى بشر عن أبي يوسف في رجل اشترى دارًا لابنه الصغير، فعلى الأب أن ينقد الثمن، وإن مات قبل أن ينقده فهو في ماله خاصة ولا يرجع به في مال الأبن، قال: وما يشتري الأب يرجع به عليه يرجع بثمن الكسوة والطعام عليه، كذلك كل دين لزم الصبي في حاجته فضمنه الأب وأداه لم يرجع على الأبن استحسانًا وهو متطوع فيه.
ولو اشترى لابنه دارًا وأشهد عند عقده البيع أنه يرجع عليه بالثمن كان له أن يرجع به عليه، وكذلك كل شيء يشتريه مما لا يجبر الأب عليه، وكذلك كل دين كان على الأبن، فضمنه الأب يريد أنه إذا أشهد أنه يرجع عليه إذا أداه.
وفي (المنتقى) عن أبي يوسف أن ما اشتراه الأب لابنه إن كان شيئًا يجبر الأب عليه مما كان طعامًا أو كسوة ولا مال للصغير لا يرجع الأب عليه، وإن أشهد أنه يرجع عليه كان له أن يرجع.
وإن لم يشهد لا يكون له أن يرجع وعن أبي حنيفة رحمه الله فيما إذا اشترى دارًا أو ضيعة أو مملوكًا لابنه الصغير إن كان للابن مال، فالرجوع على التفصيل الذي ذكرنا، وإن لم يكن له مال لا يرجع عليه أشهد عليه أو لم يشهد، وكان هذا صلة منه لابنه. وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن الأحب إذا اشترى لابنه الصغير في صحته ونقد الثمن في مرض موته لا يرجع على الابن بشيء؛ لأن الذي تبرع به الأب على الابن الثوب وقد أمضاه في حالة الصحة.
وفي (نوادر هشام) عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: الأب إذا باع لابنه الصغير ما ثمنه عشرة بدرهم جاز، وإن اشترى له ما ثمنه درهم بعشرة لا يجوز، وفي (الأصل) سوى بين البيع والشراء فلم يجوزهما في هذه الصورة وأشباهها؛ لأن تصرف الأب مقيد بشرط عدم الضرر فقد تحقق الضرر هاهنا. وعلى هذه الرواية فرق بين البيع والشراء، فلم يجوز الشراء لمكان التهمة؛ لأن الأب يضيف الشراء إلى نفسه من حيث إنه اشترى لنفسه، فلما وجد فيه عيبًا أظهر الشراء للابن، ومثل هذه التهمة لا يجوز... في جانب البيع، والداعي إلى النفاذ موجود لينفذ.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: في رجل باع عبد ابنه الصغير من رجل بألف درهم، ثم قال في مرضه: قد قبضت من فلان الثمن، ثم مات في مرضه لم (أقبل) إقراره، علل فقال: لأنه كان ضمن لابنه ألف درهم في مرضه أو أقر بها له في ماله، ومعنى هذا الكلام أن الأب بإقراره بالاستيفاء من المشتري أقر للابن بمقدار الثمن في ماله، وإقرار المريض لابنه لا يرجع، فصار وجوده كعدمه، وكان للوصي أن يأخذ الثمن من المشتري كما لو لم يوجد هذا الإقرار من المريض. ولو كان قال في مرضه: قد قبضتها من فلان فضاعت كان مصدقًا، ولو قال: قبضتها واستهلكتها لم يكن مصدقًا ولا يبرأ المشتري منها؛ لأنه لما ادعى الضياع مما أقر للابن شيئًا من ماله بخلاف ما إذا ادعى الاستهلاك، ولا يكون للمشتري إذا أخذ منه الثمن أن يرجع به على الأب أو في ماله؛ لأن ذلك الإقرار قد بطل، وإقرار قد بطل لا شيء عليه الحكم.
وفي (المنتقى): اشترى من ابنه الصغير عبدًا والعبد في يد الأب، فمات العبد فهو من مال الأبن حتى يأمره الوالد بعمل أو بقبضه بمنزلة عبد اشتراه وهو وديعة عنده، وهذا؛ لأن العبد في يد الأب أمانة وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الشراء.
وفي الباب الثاني من بيوع (الجامع): إذا أرسل غلامه في حاجته، ثم باعه من ابنه الصغير جاز ولا يصير الأب قابضًا عن ابنه بمجرد البيع، حتى لو هلك قبل أن يرجع إلى الوالد، فذلك من الوالد، بخلاف ما إذا وهبه منه حيث يصير قابضًا له عن الأبن بقض الهبة حتى لو هلك الغلام قبل أن يعود، فذلك من مال الولد، وإن لم يمت الغلام في مسألة البيع حتى رجع إلى الوالد وتمكن من قبضه صار قابضًا له عن ولده، وإن كان الولد لم يبلغ بعد، وإن لم يرجع الغلام حتى بلغ الولد، ثم رجع إلى الولد وتمكن الوالد من قبضه لا يصير قابضًا له عن ولده حتى لو هلك هلك على الوالد.
والأصل أن الأب إذا اشترى لابنه الصغير شيئًا، فما دام الأبن صغيرًا فحق القبض للأب، وإذا بلغ الأبن كان الأب قد اشترى من الأجنبي فحق القبض للأب، وإن كان قد اشترى من نفسه فحق القبض للابن.
وفي (الهاروني): إذا باع الأب داره من ابنه في عياله والأب ساكن فيها لا يصير الأب قابضًا حتى يفرغها الأب، حتى لو انهدمت الدار والأب فيها يكون من مال الأب، وكذلك لو كان فيها متاع الأب أو عياله وهو غير ساكن فيها، فإن فرغها الأب صار الابن قابضًا، فإن عاد الأب بعد ما تحول عنها فسكنها أو جعل فيها متاعًا له أو سكنها عياله وكان عينًا صار بمنزلة الغاصب.
وفيه أيضًا: لو باع الأب من ابنه الصغير جبة له وهي على الأب أو طيلسانًا هو لابسه أو خاتمًا في أصبعه لا يصير الابن قابضًا حتى ينزع الأب ذلك، وكذلك الدابة والأب راكبها حتى ينزل عنها. ولو قال الأب: اشهدوا أني قد اشتريت جارية ابني هذه بألف درهم وابنه صغير في عياله جاز الشراء وصار الأب قابضًا للجارية إن كانت في يده والثمن دين عليه لا يبرأ إلا بالطريق الذي قلنا.
قال في (الزيادات): وصي اليتيمين إذا باع مال أحدهما من الآخر لا يجوز، أما على قول محمد وأظهر الروايات عن أبي يوسف فلا والوصي إنما يقوم بالعقد في الطرفين باعتبار منفعة ظاهرة لا يظهر النفع في حق أحدهما، إلا بظهور الضرر في حق أحدهما. وكذلك لو أذن الوصي لهما في التصرف فباع أحدهما مالًا من الآخر لم يجز، وكذلك لو أذن لعبدين (أو) يتيمين بالتصرف فباع أحدهما ماله من الآخر لم يجز؛ لأنهما استفادا الولاية من جهة الوصي، والوصي لو فعل ذلك بنفسه لا يجوز فكذا إذا فعل من استفاد الولاية من جهته.
وفيه أيضًا: إذا وكل الأب رجلًا ببيع عبد له من ابنه أو بشراء عبد الابن للأب والابن صغير لا يعبر عن نفسه، ففعل الوكيل ذلك لا يجوز لما ذكرنا أن الواحد لا يصلح عاقدًا من الجانبين في عقود المعاوضات، وإنما ورد الشرع به في حق الأب بجعل الأب رسولًا بحكم كمال الشفقة، وليس للوكيل مثل تلك الشفقة فلا يصير رسولًا فيكون العقد قائمًا بعبارة واحدة، فإن كان الأب حاضرًا فقبل من الوكيل جاز وتكون العهدة من جانب الابن على الأب ومن جانب الأب على الوكيل، وقيل على العكس؛ لأن جعل الأب متصرفًا عن نفسه أولى؛ لأن الأصل في الإنسان (أن تكون) متصرفًا لنفسه والأول أصح؛ لأن تصرف الأب عن نفسه مباح وعن الصغير فرض وإيقاع تصرفه عنه أولى من إيقاعه عما هو مباح.
ولو كان له ابنان وكل رجلًا حتى باع مال أحدهما من الآخر لا يجوز، قال في (الكتاب): ألا ترى أنهما لو كانا كبيرين، فوكلا رجلًا حتى باع أحدهما من الآخر لا يجوز، وهذا جواب عن سؤال لم يذكر أن الوكيل قائم مقام الموكل. والأب لو باع مال أحدهما من الآخر يجوز، فإذا وكل رجلًا بذلك يجب أن يجوز، أشار بما ذكر من الاستشهاد إلى أنه يجوز أن يملك إنسان مباشرة تصرف نفسه ولا يملك تفويضه إلى غيره.
ولو وكل الأب رجلًا بالبيع ووكل رجلًا آخر بالشراء فتبايع الوكيلان يجوز؛ لأن العقد قائم بالاثنين وزالت الاستحالة، وذكر هشام أن الأب إذا اشترى عبد ابنه الصغير لنفسه شراء فاسدًا فمات العبد قبل أن يستعمله الأب أو يقبضه أو يأمره بعمل مات من مال الصغير لما عرف أن البيع الفاسد لا يفيد الملك بنفسه بل يتوقف ذلك على القبض، وبالتخلية لا يجعل قابضًا بل يشترط القبض الحسي الذي يصير به غاصبًا مال الغير حتى يصير مضمونًا بالقيمة فيملكه بها، وذكرنا قبل هذا أن بالتخلية في البيع الفاسد يقع القبض.
ولو باع عبده من ابنه الصغير بيعًا فاسدًا، ثم أعتقه الأب جاز عتقه؛ لأنه لا يخرج عن ملك الأب بمجرد البيع، فقد أعتق ملك نفسه فينفذ عتقه.
وفي نوادر ابن سماعة عن محمد: لا يجوز (تفريع هلى قوله: ثم أعتقه الأب جاز عتقه) أو ولد المعتق عليه حتى تمضي سنة منذ يوم صار معتوقًا، قال: ولا أحفظ فيه عن أبي حنيفة وأبي يوسف شيئًا، قال ابن سماعة: كان محمد رحمه الله وقت ذلك شهرًا، ثم بعده رجع عن ذلك ووقته لسنة، وكل جواب عرفته في المعتق فهو الجواب في المجنون؛ لأنهما يستويان في حق الأحكام.
وفي (نوادر هشام) عن محمد: وصي يتيم باع غلامًا لليتيم قيمته بألف درهم على أن الوصي بالخيار، فإن زادت قيمة العبد في مدة الخيار فصارت ألفي درهم فليس للوصي أن ينفذ البيع، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
وفي (الأمالي) عن محمد: رجل مات وعليه دين وترك عبدًا، لا مال له غيره وترك ابنًا صغيرًا أو كبيرًا، لا وارث له غيره، وقيمة العبد أكثر من الدين، فباع القاضي العبد بغير مائة واشترط الخيار ثلاثًا، فأجاز الابن البيع وهو كبير، فإجازته باطلة إلا أن يقضي الدين، وإن مات الابن في وقت الخيار انتقض البيع.
ولو أن وصي يتيم باع عبدًا لليتيم واشترط الخيار ثلاثة أيام، ثم مات اليتيم في وقت الخيار جاز البيع، وكذلك الوالد، وعلل فقال: لأن العبد هاهنا بيع للصغير، وفي الوجه الأول بيع لغير مولاه، أراد بالوجه الأول فصل بيع القاضي.
قال محمد رحمه الله في (الزيادات): اشترى الأب لابنه الصغير من مال الصغير ذات رحم محرم من الصغير لا ينفذ على الصغير؛ لأن تصرف الأب من مال الصغير مقيد بقيد النظر والأحسن، وليس من النظر للصغير أن يشتري له من يعتق عليه، فلا ينفذ على الصغير ولكن ينفذ على الأب. وكذلك لو اشترى لابنه الكبير المعتوه من مال المعتوه ذات رحم محرم من المعتوه لا ينفذ على المعتوه ولا ينفذ على الأب فبعد ذلك إن كان المشترى قريبًا من الأب عتق على الأب بحكم قرابته، وإن كان أجنبيًا عنه كأم الصغير والمعتوه أو اختهما لا يعتق عليه، والوصي فيما ذكرنا نظير الأب لكونه قائمًا مقام الأب.
ولو اشترى الأب والوصي للمعتوه جارية قد كان استولدها بحكم النكاح، القياس أن لا يجوز على المعتوه، وبالقياس أخذ محمد.
ووجهه أنه لو صح هذا الشراء على المعتوه تضرر به المعتوه، وفي الاستحسان: يجوز على المعتوه بشراء واحدة من ذلك؛ لأن فيه نظرًا للمعتوه؛ لأنه يدخل في ملكه من يطؤها ويقوم بخدمته، وشراء هذه أنفع له؛ لأنها أشفق عليه وأهدى إلى خدمته. والمحققون من مشايخنا قالوا: وجه القياس: لأن هذه الحاجة تندفع بالمنكوحة وبالجارية التي ينكر بيعها، فلا حاجة إلى شراء هذه، وفيه ضرر بالمعتوه على نحو ما بينا.
واستقبح محمد رحمه الله قول من أخذ بالاستحسان، وقال: من أخذ بالاستحسان يجوز هذه التصرف في الواحدة لا فيما زاد عليها، وهذا أمر قبيح؛ لأن هذا التصرف إن كان داخلًا في ولاية الأب لم يتقيد بالواحدة، وإن لم يكن داخلًا لم يتقيد في الواحدة. ومشايخنا أجابوا عن هذا وقالوا: جواز هذا الشرط ودخوله في ولاية الأب والوصي باعتبار حاجة المعتوه بالواحدة تندفع حاجته، فلا يجوز شراء غيرها، وروي عن محمد في (الأمالي) أنه رجع إلى الاستحسان.
ومما يتصل بهذا الفصل:
المريض إذا باع ما يساوي ألف درهم بخمسائة من الأجنبي ولا مال سواه يصير محابيًا بقدر خمسمائة فتنفذ المحاباة بقدر الثلث، ثم يقال للمشتري: إما أن يبلغ الثمن إلى تمام ثلثي الألف ولا ترد شيئًا من المبيع، وإما أن تفسخ العقد، وهذا إذا لم يكن على الميت دين، فإن كان على الميت دين محيط بماله، فإنه لا تنفذ محاباته في حق الغرماء أصلًا، لا فيما زاد على الثلث ولا بقدر الثلث، ولا يتحمل منه لا الغبن الفاحش ولا الغبن اليسير، غير أن في حق الغرماء لا يصح أصلًا، وفي حق الوارث يعتبر من الثلث، وهذا لأن المريض مرض الموت يتصرف في محل يتعلق به حق الغير وهو الغريم والوارث، ولم يؤخذ منهم الأمر بالتصرف، إما لأنه لا يتفرغ لذلك بشغله بنفسه، أو لأنه لا يقدر على ذلك إلا أن الشرع رخص له في التصرف على وجه يؤدي في إبطال حق الغير، وبالرخص قد يتعلق حقان وبما يتعذر الاحتراز عنه بخلاف المطلوب فلا يتحمل منه لا اليسير ولا الفاحش.
وإذا باع عينًا من أعيان ماله من وراث عند أبي حنيفة لا يصح أصلًا من غير إجازة باقي الورثة سواء حابى أو لم يحاب، باع بمثل القيمة أو بأضعاف القيمة؛ لأنه وصية ولباقي الورثة حق القبض، وعندهما يصح البيع بمثل قيمته وبأضعافها. والوارث إذا باع عينًا من أعيان ماله من الورثة للمريض بمثل القيمة، فكذلك الجواب عند أبي حنيفة في (المأذون الكبير) لشيخ الإسلام في باب إقرار العبد لمولاه، فإن باع المريض من وارثه شيئًا حابى. ذكر شيخ الإسلام في شرح المأذون: أن عندهما لا تصح المحاباة أيضًا أجازت الورثة أم لم يجيزوا، ويقال للمشتري: إما أن يبلغ الثمن إلى تمام القيمة، وإلا يفسخ.
وفي (الزيادات): أن نفس البيع من الوارث لا يصح من غير إجازة الورثة عند أبي حنيفة، وعندهما يصح من غير إجازة الوارث والمحاباة مع الوارث لا تصح إلا بإجازة باقي الورثة وهو الصحيح؛ لأن المحاباة وصية بلا خلاف، والوصية للوارث لا يجوز إلا بإجازة بقية الورثة بلا خلاف.

.الفصل التاسع عشر: في كراهة التفريق بين الرقيق:

الأصل أن من ملك شخصين بينهما قرابة مؤكدة بالحرمة، فلا ينبغي أن يفرق بينهما في البيع إلا إذا كان أحدهما صغيرًا به ورد الأثر والمعنى دفع الضرر عن الصغير؛ لأن الصغير يستأنس بالكبير، والكبير يقوم تبعًا هذه، ففي التفريق بينهما إيحاش الصغير وإضرار به، وكذلك إذا كانا صغيرين؛ لأن كل واحد منهما يستأنس بصاحبه ويستوحش بمفارقته، وإن كانا كبيرين فلا بأس بالتفريق بينهما؛ لأن كل واحد من الكبيرين يقوم تبعًا هذه، ولا يلتفت إلى تعاهد الآخر ولا يستأنس به، فليس في التفريق بينهما إلحاق الضرر بأحدهما، وهذا الحكم في القرابة المؤكدة بالمحرمية حتى إذا اجتمع في ملك رجل زوجان لا بأس بأن يفرق بينهما، سواء كانا صغيرين أو كبيرين، أو كانا أحدهما صغيرًا والآخر كبيرًا، وكذا إذا اجتمع في ملك رجل شخصان هما ذوا رحم وليسا بذوي محرم كابني الخال وابني العم فلا بأس بالتفريق بينهما، وكذا إذا كانا ذوي محرم بالرضاع أو بالصهرية وليسا بذي رحم فلا بأس بالتفريق؛ لأن كراهة التفريق عرفت بالآثار وإنها وردت في القرابة المؤكدة بالمحرمية، فهذه الكراهية تمتد إلى وقت البلوغ في ظاهر مذهب أصحابنا وجد الرضا بالتفريق أو لم يوجد.
فبيانه فيما روى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: رجل له أمة وابنتها وهي لم تبلغ فأراد بيعها بموضع ورضيت الأم بذلك والأبنة قال: أكره التفريق بينهما، وكذا إذا كان ثمة أبوان ورضيا بذلك.
وقال بعض مشايخنا: إذا راهق الصغير ورضيا أن يفرق بينهما، فلا بأس بالتفريق بينهما وعن أبي يوسف روايتان: في رواية إذا رضوا بذلك فلا بأس بالتفريق ولم يشترط على هذه أن يكون الصغير مراهقًا. وفي (نوادر بشر) عنه إذا رضوا بذلك جميعًا والأبنة مراهقة فلا بأس به.
وإذا اجتمع مع الصغير أبواه فلا ينبغي أن يفرق بينه وبينهما ولا بينه وبين أحدهما؛ لأن نفعهما مختلف وشفقتهما متفاوتة.
وإذا اجتمع مع الصغير أمه وخالته، فلا بأس بأن يمسك الأم ويبيع الخالة؛ لأن الأم أقرب وشفقتها مغنية له عن غيرها إلا أن تكون الخالة صغيرة فحينئذ يكره بيع الخالة لما فيه من التفريق بينها وبين أختها. وكذلك إذا كان مع الصغير أمه أو عمته أو جدته من قبل أبيه أو من قبل أمه، فلا بأس بأن يمسك الأم ويبيع من سواها، وكذلك إذا كان مع الصغير أمه أو عمته أو جدته من قبل ابيه أو قبل أمه فلا بأس بأن يمسك الأم ويبيع من سواها، وكذلك إذا كان مع الصغير أمه أو أخته أو أخوه فلا بأس بأن يبيع الأخ والأخت والجدة من قبل الأم أو الأب نظير الأم حتى إذا اجتمع مع الصغير جدته وعمته أو خالته أو أخوه أو أخته، فلا بأس بأن يمسك الجدة ويبيع من سواها، ذكر هذه المسائل على هذا الترتيب في (الزيادات). والحاصل أن على رواية (الزيادات) إذا كان مع الصغير أمه لا بأس بأن يمسك الأم مع الصغير ويبيع من سواها إلا الأب فإنه لا يبيع الأب وإن كان مع الصغير أمه.
وفي (نوادر هشام) قال: سألت محمدًا عن الصغير إذا كان معه أمه أو عمته هل يبيع العمة قال: لا، وإذا كان مع الصغيرة أمها وأخوات لأب لا يبيع واحدة منهن حتى تحبل أو تحيض أو تستكمل سبعة عشر سنة.
وفي (المنتقى) قال أبو يوسف: أفرق بين الصبي وجميع قرابته إذا كان معه أبوان، وإذا كان معه أحدهما فرق بينه وبين من كانت قرابته من قبل الحمى دون من كانت قرابته من الميت حتى أنه إذا كان مع الصغير أبوه وخاله لم أبع الخال، وإن كان مع الأم عمة لم أبع العمة.
قال في (الزيادات): وإذا كان مع الصغير أخ لأب لأم لا يبيع واحدًا منهما، وكذلك إذا كان مع الصغير أخت لأب وأخت لأم لا يبيع واحدة منهما؛ لأن جنس القرابة يختلف منفعتها متفاوتة فلا ينقضي حق الصغير مع أحدهما فيتوهم الضرر، وإن كان معهم أخ لأب وأم في المسألة الثانية لا بأس بأن يمسك الأخ لأب وأم في المسألة الأولى، والأخت لأب وأم في المسألة الثانية، ويبيع من سواه؛ لأن الأخ لأب وأم والأخت لأب وأم أقرب إلى الصغير، وشفقة الأقرب مغنية عن الأبعد.
والحاصل أنه: إذا اجتمع مع الصغير في ملك رجل قرابتان، فإن كانت أحديهما أقرب من الأخرى لا بأس بأن يمسك الأقرب ويبيع الأبعد، وإن كانتا في القرب إلى الصغير على السواء إن كانتا من الجانبين نحو أن يكون أحدهما من قبل الأب والآخر من قبل الأم لا يجوز له أن يفرق بين الصغير والكبيرين واحد منهما، فإن الذي من قبل الأب قائم مقام الأب والذي من قبل الأم قائم مقام الأم، وكما يكره التفريق بين الصغير وبين والديه يكره التفريق بينه وبين من قام مقامهما. وإن كانت من جانب واحد فلا بأس بأن يبيع أحدهما ويمسك الآخر استحسانًا حتى إذا كان مع الصغير أخوان كبيران لا يبيع واحدًا منهما ويمسك الآخر قياسًا، وفي الاستحسان لا بأس بأن يبيع أحدهما ويمسك آخر مع الصغير؛ لأن جنس القرابة ونفعها متحد.
وذكر في البيوع من (الأمالي) وكره التفريق بين الصغير والأخوة المتفرقة والأخوات المتفرقة كما هو القياس لجواز أن يكون منفعة البعض أوفر فيبقى توهم الضرر، وذكر أيضًا أنه إذا كان له أبوان وأخ يكره بيع الأخ لجواز أن يكون الأخ أشفق. والصحيح ما ذكر في (الزيادات)؛ لأنه تعذر اعتبار التفاوت والتساوي في الشفقة أمر باطن فيعتبر التفاوت والتساوي في القرابة لكونها شيئًا داعيًا إلى الشفقة حتى لا تعتبر القرابة البعيدة مع القرابة القريبة، وعند اختلاف الجهة اختلف السبب وتعذر الترجيح فاعتبر كل سبب على حدة.
وإذا اجتمع مع أبوين له بأن كان جارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه حتى يثبت النسب منهما، ثم أسرا وأسر الولد معهما ففي القياس على الاستحسان الذي ذكرنا في الأخوين لا بأس بأن يبيع واحدًا منهما، وفي الاستحسان لا يبيع واحدًا منهما بخلاف الأخوين، والفرق: أن الأب في الحقيقة أحدهما وهو مشتبه فلو جوزنا بيع أحدهما ربما يبيع الأب ويمسك الأجنبي مع الصغير وفيه ضرر بالصغير بخلاف الأخوين؛ لأن كل واحد منهما أخ على الحقيقة، فإذا باع أحدهما كان الباقي مع الصغير أخًا على الحقيقة وبه يصير حق الصغير مقتضيًا سعرًا هو الكلام في حكم كراهة التفريق في البيع.
وأما الكلام في حكم جواز البيع وفساده فنقول: إذا فرق بين الصغير وبين والده أو والديه ومن سواهما من الأقارب في البيع فالبيع جائز في ظاهر الرواية.
عن أبي يوسف: أن البيع باطل في الكل، وعنه رواية أخرى: أنه فرق بين الوالدين والمولودين وجوزه فيما عداه يأمن القرابات لقوة قرابة الولاد وضعف قرابة المتجردة عن الولادة، وجه رواية التسوية أن كراهة التفريق لدفع الضرر عن الصغير وفي حق هذا المعنى قرابة الولادة والقرابة المتجردة عن الولادة على السواء، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن ركن التمليك صدر من أهله مضافًا إلى محله، والنهي عن البيع إنما كان مجاورًا ينفك (عن) البيع، وهو إلحاق الوحشة بالصغير ومثل هذا لا يؤثر في فساد البيع كالبيع وقت النداء أو ما أشبهه. وإذا كان التفريق بحق يستحق في أحدهما لم يكن، وكذلك يجوز أن يلحق أحدهما دين فيباع فيه أو يجني أحدهما جناية؛ لأن المنع عن التفريق لدفع الضرر عن الصغير، ولا يجوز دفع الضرر عن شخص على وجه يلحق الضرر بشخص آخر.
وعن أبي حنيفة في فصل الجناية يستحب الفداء نظرًا للجانبين، وكذلك لو اشتراهما فقبضهما، ثم وجد بأحدهما عيبًا رد المعيب خاصة، وقال أبو يوسف: يردهما؛ لأنهما في معنى كراهة التفريق كشيء واحد.
وجه (ظاهر الرواية): أن الميت لحق الرد بالعيب وهو مقصور على المعيب حقيقة وحكمًا، فلم يجز رد الآخر بعد تمام الصفقة، أكثر ما فيه أن فيه تفريقًا بينهما، ولكن بحق مستحق في أحدهما فيجوز كما لو جنى أحدهما أو لحق أحدهما دين، ولا يكره عتق أحدهما ولا كتابته؛ لأن كراهته للبيع لأجل التفريق ولا تفريق في الإعتاق.
ولو باع أحدهما بسمة للعتق كره عند أبي حنيفة خلافًا لمحمد، والصحيح قول أبي حنيفة أن البيع بسمة ليس ببيع بشرط العتق، فإن البيع بشرط العتق فاسد لكنه ميعاد بينهما والوفاء بالوعد ليس بلازم حتى لو باعه ممن قال: إن اشتريته فهو حر لا يكره البيع بالاتفاق.
وفي (المنتقى): لو باع أحدهما ممن يعتقه لم يجز في قول أبي يوسف، فإن قبضه المشتري وأعتق ضمن القيمة. ولو باع أحدهما من رجل، ثم باع الآخر من ذلك الرجل، قال أبو يوسف: البيع وقع فاسدًا، فإذا اجتمعا في ملكه استحسنت أن أجيزهما.
وفي (نوادر ابن سماعة) قال: سمعت أبا يوسف يقول في رجل اشترى عبدًا صغيرًا وأمه عند البائع فأعتقه المشتري، فالبيع جائز وعليه الثمن، وكذلك لو مات عنده قال: إني إنما كنت انقض البيع لتفريقه بينهما، فإذا ذهب التفريق جاز البيع، وكذلك لو ماتت الأم عند البائع أو أعتقهما مولاها يجوز البيع، وكذلك لو باع المشتري الصغير من رجل فأعتقه. قال: والقياس في العتق والموت أن تلزمه القيمة الصغير ولكن يستحسن أن يجعله بالثمن إذا ذهب الفرقة.

.الفصل العشرون: في الإقالة:

الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله: أن الإقالة تجعل فسخًا في حق المتعاقدين في الصور كلها، فإن أمكن تصحيحها فسخًا لا تصح أصلًا، بيان هذا الأصل من المسائل: إذا باع جارية بألف درهم وتقايلا العقد فيها بألف درهم فعلى قوله صحت الإقالة وإن تقايلا بألف وخمسمائة صحت الإقالة بألف ويلغو ذكر الخمسمائة؛ لأن في الألف وخمسمائة ذكر الألف فيمكن تصحيحها إقالة بالألف بالغًا مبلغ الزيادة، وإن تقايلا بخمسمائة فإن كان العبد قائمًا في يد المشتري على حاله لم يدخله عيب صحت الإقالة بألف ويلغو ذكر الخمسمائة، فيجب على البائع رد الألف على المشتري، وإن دخله عيب تصير إقالة بخمسمائة ويصير المحطوط بإزاء نقصان العيب؛ لأنه لما احتبس عند المشتري جزء من المبيع جاز أن يحتبس عند البائع بعض الثمن.
بعض مشايخنا قالوا: تأويل المسألة أن تكون حصة العيب خمسمائة أو أقل أو أكثر مقدار ما يتغابن الناس فيه، ولكن جواب (الكتاب) مطلق.
ولو كانت الإقالة بجنس آخر ذكر عامة الكتب أنها تصح إقالة عند أبي حنيفة بالثمن الأول ويلغو ذكر جنس آخر، وذكر بعض المشايخ في شرح (الجامع الصغير) أن على قول أبي حنيفة تبطل الإقالة في هذه الصورة، وإن ازدادت الجارية ثم تقايلا، فإن كان قبل القبض صحت الإقالة سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة؛ لأن الزيادة قبل القبض لا تمنع الفسخ منفصلة كانت أو متصلة، وإن كانت الزيادة بعد القبض إن كانت منفصلة فالإقالة باطلة عند أبي حنيفة؛ لأنه تعذر تصحيحها فسخًا بسبب الزيادة المنفصلة مانعة فسخ العقد حقًا للشرع، وأبو حنيفة لا يصحح الإقالة إلا بطريق الفسخ، وإن كانت الزيادة متصلة فالإقالة صحيحة عنده ولأن الزيادة المتصلة عند أبي حنيفة لا تمنع الفسخ حينما وجد الرضا ضمن له الحق في الزيادة ببطلان حقه في الزيادة وقد وجد الرضا لما تقايلا، فأمكن تصحيحها فسخًا فيصح فسخًا عنده.
والأصل عند أبي يوسف رحمه الله: أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين إذا لم يوجد منهما قليل البيع بأن تقايلا بمثل الثمن الأول وكان العقد قابلًا للفسخ، ففي هذه الصورة تجعل الإقالة فسخًا في حقهما أمكن اعتبارها بيعًا جديدًا أو لم يمكن بأن كانت الإقالة في المنقول قبل القبض وإذا وجد منهما دليل البيع وأمكن جعلها تبعًا سواء أمكن جعلها فسخًا أو لم يمكن أن يجعل بيعًا وأمكن أن يجعل فسخًا، كما لو تقايلا في المنقول قبل القبض أو تقايلا في بيع العرض بعد هلاك أحدهما، فالإقالة في هذه الصورة تجعل فسخًا؛ لأنه تعذر جعلها بيعًا، وإن لم يمكن أن تجعل بيعًا ولا فسخًا تبطل كما في بيع العرض بالدراهم إذا تقايلا بعد هلاك العرض، وكما لو تقايلا في المنقول قبل القبض على خلاف جنس الثمن الأول.
بيان هذا الأصل من المسائل: إذا تقايلا قبل قبض الجارية (والجارية) قائمة على حالها لم تتغير إلى زيادة أو نقصان أو تغيرت إلى زيادة أو نقصان، فالإقالة صحيحة عنده فسخًا إذا تقايلا بالثمن الأول، أو بجنس الثمن الأول ولكن زيادة أو نقصان؛ لأنه تعذر اعتبارها فسخًا؛ لأن النقصان لا يمنع الفسخ فيجعل فسخًا، وإن تقايلا على خلاف جنس الثمن الأول بطلت الإقالة؛ لأنه تعذر اعتبارها بيعًا؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز وتعذر اعتبارها فسخًا؛ لأن الفسخ ما يكون بالثمن الأول وقد سميا ثمنًا آخر، وإن تقايلا بعد القبض فإن كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير إلى زيادة ولا نقصان أو تغيرت إلى زيادة أو نقصان، فالإقالة صحيحة عنده فسخًا إذا تقايلا بالثمن الأول أو بجنس الثمن الأول، ولكن لزيادة أو نقصان اعتبارها بيعًا وأمكن اعتبارها فسخًا؛ لأن النقصان لا يمنع الفسخ على كل حال. وكذلك الزيادة قبل القبض لا تمنع الفسخ فيجعل فسخًا.
وإن تقايلا على خلاف جنس الثمن الأول بطلت الإقالة؛ لأنه تعذر اعتبارها بيعًا؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز، وتعذر اعتبارها فسخًا؛ لأن الفسخ ما يكون بالثمن الأول وقد سميا ثمنًا آخر، وإن تقايلا قبل القبض.
وإن كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير وقد تقايلا بالثمن الأول، فالإقالة عنده صحيحة فسخًا؛ لأنه لم يوجد دليل البيع والعقد قابل للفسخ فتجعل الإقالة فسخًا، إذا سكتا عن الثمن الأول يصير مذكورًا مقتضى الإقالة ما يكون بالثمن الأول.
وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان فعلى قول أبي يوسف تجعل الإقالة بيعًا؛ لأنه وجد دليل البيع وهوالزيادة في الثمن أو النقصان عنه، وأمكن جعلها بيعًا فجعلناها بيعًا حتى لا تلغو الزيادة أو النقصان. وإن تقايلا بخلاف جنس الثمن الأول تجعل بيعًا عنده؛ لأنه وجد دليل البيع وأمكن اعتباره بيعًا؛ لأن بيع المنقول بعد القبض جائز فجعلناها بيعًا.
وإن تغيرت الجارية إلى نقصان بأن تعيبت في يد المشتري بفعل المشتري أو بآفة سماوية، فإن تقايلا بمثل الثمن الأول أو سكتا عن ذلك تجعل الإقالة فسخًا عنده غير أن البائع إذا لم يعلم بالعيب وقت الإقالة كان له الخيار إن شاء أمضى الإقالة وإن شاء رد، وإن علم بالعيب فلا خيار له، وهذا؛ لأن البائع في إقالة بيع العرض بالدارهم بمنزلة المشتري عند الشراء وإن تغيرت الجارية إلى زيادة، فإن كانت الزيادة منفصلة كالولد والأرش والعقر تجعل الإقالة بيعًا؛ لأن تعذر اعتبارها فسخًا لمكان الزيادة وأمكن اعتبارها بيعًا فجعلناها بيعًا، وإن كانت الزيادة متصلة، فالجواب في هذا والجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير سواء؛ لأن الزيادة المتصلة عنده لا تمنع الفسخ عند وجود الرضا ممن له الحق وفي الزيادة وقد وجد الرضا هاهنا لما تقايلا.
والأصل عند محمد: أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين إذا لم يوجد منهما دليل البيع بأن تقايلا بجنس الثمن الأول وكان البيع قابلًا للفسخ. وإن وجد منهما دليل البيع لم يمكن أن تجعل فسخًا وأمكن جعلها بيعًا رواية واحدة، كما لو تقايلا بعد القبض بالثمن الأول ولكن بعد الزيادة المنفصلة، أو تقايلا بعد القبض بخلاف جنس الثمن الأول. وإن وجد منهما دليل البيع جعلهما بيعًا وفسخًا كما لو تقايلا بعد القبض والجارية قائمة على حالها بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان. وعن محمد روايتان وفي رواية كتاب المأذون يجعلها بيعًا وفي رواية كتاب الشفعة يجعلها فسخًا وإن لم يمكن جعلها بيعًا ولا فسخًا تبطل الإقالة.
بيان هذا الأصل من المسائل:
إذا تقايلا قبل قبض الجارية تصح الإقالة ويكون فسخًا عند محمد إذا حلصت الإقالة بالثمن الأول أو على جنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان، وإن حصلت الإقالة على خلاف جنس الثمن الأول تبطل الإقالة عنده على نحو ما قلنا.
وعند أبي يوسف رحمه الله: وإن تقايلا بعد قبض الجارية فإن كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير وقد تقايلا بالثمن الأول وقد سكتا عن الثمن الأول يجوز الإقالة عنده فسخًا على نحو ما قلنا لأبي يوسف، وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان عن محمد في الصورة روايتان، ففي رواية كتاب المأذون تصح الإقالة بيعًا وفي رواية كتاب الشفعة تصح فسخًا؛ لأنه وجد دليل البيع وأمكن جعله بيعًا وفسخًا وفي مثل هذه الصورة عن محمد روايتان. وإن تقايلا على خلاف الثمن الأول صحت الإقالة عنده بيعًا رواية واحدة؛ لأنه وجد دليل البيع وتعذر جعلها فسخًا؛ لأن الفسخ ما يكون بمثل الثمن الأول وأمكن جعلها بيعًا وفي مثل هذه الصورة تصح الإقالة بيعًا عنده رواية واحدة.
وإن كانت الجارية قد تغيرت عن حالها إلى زيادة أو نقصان إن كان التغير إلى نقصان بأن تعيبت في يد المشتري بفعل أجنبي أو بآفة سماوية، فالجواب فيه عند محمد رحمه الله نظير الجواب عند أبي يوسف رحمه الله، إن تغيرت الجارية إلى زيادة فإن كانت الزيادة منفصلة تصح الإقالة عنده بيعًا؛ لأنه تعذر اعتبارها فسخًا لمكان الزيادة وأمكن اعتبارها بيعًا فجعلناها بيعًا، وإن كانت الزيادة متصلة فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير؛ لأن الزيادة المتصلة لا تمنع صحة الفسخ عنده سواء وجد الرضا ممن له الحق في الزيادة أو لم يوجد، وإذا كان الفسخ لا يتعذر بسبب الزيادة المتصلة صار وجودها والعدم بمنزلة.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب المأذون إقالة العبد المأذون له في التجارة: إذا باع بألف درهم، ثم إن العبد أقال البيع في الجارية وجعلها على وجهين: أما إن كانت الإقالة قبل قبض المشتري الجارية أو بعد قبضه إياها، وجعل كل وجه على وجهين: أما إن كان الثمن موهوبًا أو غير موهوب. فإن كانت الإقالة قبل قبض الجارية والثمن غير موهوب تصح الإقالة فسخًا عندهم إلا في فصل، وهو ما إذا حصلت الإقالة بخلاف جنس الثمن الأول، فإن هناك تبطل الإقالة عندهم أما في سائر الفصول؛ لأنه تعذر اعتبارها بيعًا جديدًا؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز وأمكن جعلها فسخًا إذا كان الثمن غير موهوب للمأذون؛ لأنه لا يكون فسخًا بغير ثمن فيجعل فسخًا، وأما إذا حصلت الإقالة بخلاف الثمن الأول فلأنه كما تعذر اعتبارها بيعًا تعذر اعتبارها فسخًا؛ لأن في الفسخ ما يكون بمثل الثمن الأول فيبطل ضرورة وإن كان الثمن موهوبًا للمأذون، فالإقالة باطلة عندهم جميعًا في الفصول كلها؛ لأنه كما تعذر اعتبارها بيعًا لحصولها قبل القبض في المنقول تعذر اعتبارها فسخًا لما كان الثمن موهوبًا؛ لأنه يكون فسخًا بغير ثمن والمأذون لا يملك ذلك؛ لأنه يكون تبرعًا.
وإن تقايلا قبل قبض الجارية بعد ما تغيرت الجارية إلى زيادة أو نقصان، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها؛ لأن الزيادة قبل القبض والنقصان قبل القبض لا يمنع الفسخ على كل حال، فصار وجود ذلك والعدم بمنزلة، فتصح الإقالة فسخًا إذا كان الثمن غير موهوب إلا إذا حصلت الإقالة على خلاف جنس الثمن الأول، فإن هناك لا تصح الإقالة أصلًا، وإن كان الثمن موهوبًا للمأذون لا تصح الإقالة في الفصول كلها عندهم جميعًا.
وأما إذا تقايلا بعد قبض الجارية، فإن تقايلا بعد قبض الجارية، فإن تقايلا والثمن غير موهوب، فإن كانت الجارية قائمة على حالها، إن تقايلا بالثمن الأول أو سكتا عن ذكر الثمن الأول تصح الإقالة فسخًا عنده؛ لأنه لم يوجد دليل البيع وأمكن اعتبارها فسخًا، وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن إلى زيادة أو نقصان تصح الإقالة فسخًا عند أبي حنيفة، ويلغو ذكر الزيادة والنقصان على قول أبي يوسف بيعًا؛ لأنه وجد دليل البيع وهو ذكر الزيادة أو النقصان وأمكن اعتبارها بيعًا وفسخًا، فجعلناها بيعًا حتى لا تبطل الزيادة أو النقصان، وعند محمد في هذه الصور روايتان.
وإن تقايلا بخلاف جنس الثمن الأول فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: تبطل الإقالة لتعذر اعتبارها فسخًا، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: تصح الإقالة بيعًا جديدًا؛ لأنه أمكن اعتبارها بيعًا جديدًا، هذا إذا تقايلا والجارية قائمة على حالها.
فإن كانت الجارية قد تغيرت أو تغيرت إلى زيادة وكانت الزيادة منفصلة، فالإقالة باطلة عند أبي حنيفة على كل حال يعتبر الإقالة فسخًا، وتعذر اعتبارها فسخًا لمكان الزيادة المنفصلة، وعندهما تصح الإقالة بيعًا جديدًا في الفصول كلها؛ لأنه أمكن اعتبارها بيعًا. وإن كانت الزيادة متصلة، فالجواب كما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير وإن تغيرت إلى نقصان بأن تعيبت في يد المشتري أو بآفة سماوية، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير هذا إذا تقايلا بعد القبض والثمن غير موهوب.
فأما إذا تقايلا بعد القبض والثمن موهوب للمأذون، فإن كانت الجارية قائمة على حالها وقد تقايلا بالثمن الأول بطلت الإقالة عند أبي حنيفة؛ لأنه قد تعذر اعتبارها فسخًا إذا كان الثمن موهوبًا، عندهما يجعل بيعًا؛ لأنه إن تعذر اعتبارها فسخًا أمكن اعتبارها؛ لأن البيع بعد هبة الثمن صحيح. وإن سكتا عن ذكر الثمن الأول فكذلك عند أبي حنيفة الإقالة باطلة، وعند أبي يوسف تصح بيعًا واضطربت روايات المأذون في هذا الفصل عند محمد، في بعض الروايات اعتبرها بيعًا كما فيما تقدم، وفي بعض الروايات الإقالة باطلة كما هو قول أبي حنيفة. ووجه هذه الرواية: أن الإقالة عند محمد إنما تجعل بيعًا عند تعذر اعتبارها فسخًا إذا أمكن جعلها بيعًا هاهنا؛ لأنهما سميا ثمنًا ولم يصر الثمن الأول مذكورًا يمقتضى الإقالة؛ لأن الثمن الأول إنما يصير مذكورًا بمقتضى الإقالة إذا بقي للعقد ثمن، ولم يبق هاهنا ثمن فلم يصر الثمن الأول مذكورًا، والبيع لا يصح من غير تسمية الثمن بخلاف ما إذا كان الثمن غير موهوب؛ لأن هناك صار الثمن الأول مذكورًا بمقتضى الإقالة فأمكن أن يجعل بيعًا.
وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان فعلى قول أبي حنيفة الإقالة باطلة، فعلى قولهما تصح بيعًا، وإن تقايلا بخلاف جنس الثمن الأول فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الإقالة باطلة، وعلى قولهما تجعل بيعًا، فإذا تقايلا وقد تغيرت عن حالها والثمن موهوب، وإن تغيرت إلى زيادة وكانت الزيادة منفصلة نحو الأرش والولد والعقر، فعند أبي حنيفة الإقالة باطلة، وعندهما الإقالة صحيحة بيعًا رواية واحدة إلا في فصل واحد، وهو إذا سكتا عن ذكر الثمن فإن هذا الفصل عن محمد روايتان في رواية تصح الإقالة بيعًا، وفي رواية تبطل الإقالة. وإن كانت الزيادة متصلة فهذا وما لو كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير سواء، وإن تغيرت إلى نقصان تعيبت بفعل المشتري أو بآفة سماوية أو ما لو كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير سواء عندهم جميعًا. هذه الجملة من (مأذون شيخ الإسلام خواهر زاده) رحمه الله.
وفي (القدوري): الإقالة فسخ في حق المتعاقدين عقد جديد في حق الثالث، قال أبو يوسف رحمه الله: الإقالة بيع وإلا إذا تعذر فتجعل فسخًا، وقال محمد: هو فسخ إلا إذا تعذر فيجعل بيعًا، وقال زفر: هو فسخ في حق المتعاقدين وغيرهما.
وفي (المنتقى) قال محمد: إن الإقالة بعد القبض وقبل القبض مناقضة وليست ببيع، وكذلك قال أبو حنيفة، ثم هذا الخلاف الذي ذكرنا فيما إذا حصل الفسخ بلفظ الإقالة، أما إذا حصل بلفظ المفاسخة أو المتاركة أو الرد، فإنها لا تجعل بيعًا فإن أمكن جعلها بيعًا، وإذا حصل الفسخ بلفظ الإقالة فهو بيع جديد في حق الثالث بلا خلاف حتى أن الشفيع إذا سلم الشفعة في بيع مع المشتري تقايلا البيع يتجدد للشفيع حق الشفعة واعتبرت الإقالة بيعًا جديدًا في حقه، ونظائر هذا كثيرة. ثم إنما تعتبر الإقالة فسخًا في حق المتعاقدين فيما كان من موجبات البيع، فأما ما لم يكن من موجبات البيع وإنما ثبت بأمر زائد أو شرط زائد فالإقالة تعتبر بيعًا جديدًا في حقه على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): وإذا اشترى الرجل من رجل عبدًا بكر من طعام وسط إلى أجل أو حالًا وتقابضا وقد كان أعطاه المشتري حنطة أجود من المشروط أو أردأ أو مثل المشروط، ثم تقايلا لا يلزمه رد المقبوض بعينه وإن كان قائمًا؛ لأن الطعام في هذه المسألة ثمن ولهذا جاز الاستبدال به، والأثمان لا تتعين عند الفسخ كما لا تتعين عند البيع. وكذلك الجواب فيما إذا كان الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء، وإذا لم يجب رد الطعام بعينه في هاتين الصورتين يرد مثل الذي كان مشروطًا أو يرد مثل المقبوض لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في الكتاب نصًا، عامة المشايخ على أنه يرد مثل المشروط، وهذه الصورة ألزمه تفاوت ما بين المقبوض والمشروط وهو تفاوت ما بين الوسط والرديء بسبب تبرعه؛ لأن حقه كان في المشروط، فهو إذا تجوز بالرديء فقد تبرع بمقدار ذلك، فلو لزمه رد مثل المشروط لزمه ذلك التفاوت بسبب تبرعه وإنه لا يجوز.
ثم على قول عامة المشايخ فرق بين الإقالة بعد القبض والرد بالعيب بغير قضاء وبين الرد بالعيب قبل القبض أو بعد القبض بقضاءٍ فقال: إذا كان الرد بالعيب قبل القبض كيف ما كان أو كان الرد بعد القبض بقضاء يلزمه رد مثل المقبوض لا رد مثل المشروط، والفرق: أن الرد بالعيب قبل القبض بقضاءٍ أو بغير قضاءٍ وبعد القبض بقضاءٍ فسخ من كل وجه في حق الكل وليس ببيع جديد، ولهذا لا يتجدد للشفيع حق الشفعة. وإذا انفسخ البيع من كل وجه فيما يستقبل من الأحكام صار وجود البيع وعدمه بمنزلة، ولو عدم البيع ووجب على القابض رد المقبوض بعد ما ملكه بسبب صحيح لزمه رد مثل المقبوض كما في العوض كذا هاهنا.
أما الإقالة والرد بالعيب بعد القبض إذا كان بتراضيهما بمنزلة بيع جديد ولهذا يتجدد للشفيع حق الشفعة، فإذا كان بمنزلة بيع جديد صار كأن المشتري باع العبد من البائع ثانيًا بمثل الثمن المشروط في البيع؛ لأن الإقالة بناء على العقد، فإنما تصح بما كان مشروطًا في أصل البيع فكأن المشتري باع العبد من البائع بمثل الثمن الأول الذي كان مشروطًا في البيع، ولو كان كذلك كان على البائع أن يعطي المشتري مثل الثمن المشروط في البيع ولا يلزمه رد مثل المقبوض كذا هاهنا، فإن قيل: الإقالة والرد بالعيب بعد القبض بغير قضاءٍ إنما اعتبر بيعًا جديدًا في الثالث أما في حق المتعاقدين اعتبر فسخًا حتى أن البائع بعد الإقالة لو باع العبد من المشتري ثانيًا قبل القبض يجوز، كما لو كان الرد بقضاءٍ أو قبل القبض بغير قضاءٍ ولو باعه من غيره لم يجز؛ لأنه في حق الثالث بيع جديد فصار بائعًا المبيع قبل القبض. إذا ثبت هذا فنقول: وجوب رد مثل المقبوض أو رد مثل المشروط في البيع في حق المتعاقدين فتعتبر الإقالة في هذا فسخًا وإذا اعتبر فسخًا يجب أن يعتبر الفسخ المقبوض لا بمثل ما كان مشروطًا في البيع.
والجواب: أن الإقالة فسخ فيما بين المتعاقدين من موجبات البيع وهو ما يثبت بين البيع من غير شرط فصيرورة العين مبيعًا من موجبات البيع، فإنه يثبت من غير شرط فتعتبر الإقالة فسخًا في حق العبد فيما بينهما فيكون العبد عائدًا إلى البائع بحكم الفسخ لا ببيع جديد فكان له أن يبيع العبد من المشتري قبل القبض كما لو كان الرد بقضاءٍ، فأما ما لم يكن من موجبات البيع فإنما يثبت بأمر زائد أو بشرط زائد فالإقالة تعتبر بيعًا جديدًا في حقه، وإن كان ذلك في حق المتعاقدين.
الدليل على صحة هذا مسألتان ذكرهما محمد رحمه الله في (الزيادات): إذا كان لرجل على غيره ألف درهم مؤجل باعه المطلوب بذلك عبدًا قبل حلول الأجل أو صالحه من ذلك على عوض، قال: يبرأ المطلوب من الدين كما لو عجل الدين، فلو أن مشتري العبد وجد بالعبد عيبًا بعد القبض فرده بغير قضاءٍ، قال: يعود الدين على الطالب حالًا لا مؤجلًا كأن الطالب باع العبد في المطلوب ثانيًا بألف درهم، واعتبرت الإقالة والرد بالعيب بغير قضاء في حق الأجل بيعًا جديدًا، وإن كان من حقهما لهذا المعنى أن الأجل ليس من موجبات البيع، فإنه لا يثبت بنفس البيع، وإنما يجب بشرط زائد، وبمثله لو كان الرد بالعيب في هذه المسألة قبل القبض بغير قضاءٍ، فالدين يعود مؤجلًا؛ لأن الرد بالعيب قبل القبض بغير قضاءٍ، وبعد القبض بقضاءٍ فسخ من كل وجه، فإذا انفسخ البيع الأول من كل وجه، صار وجوده وعدمه بمنزلة، ولو عدم البيع كان الدين على المطلوب مؤجلًا.
المسألة الثانية: إذا اشترى عبدًا فوجد به عيبًا بعد القبض فرده بغير قضاءٍ، ثم جاء رجل وادعى أن العبد له، وأقام على ذلك شاهدين أحد الشاهدين مشتري العبد، قال: لا تقبل شهادته، واعتبر هذا بيعًا جديدًا في حق الشهادة؛ لأنه ليس من موجبات البيع فصار كأن المشتري باع العبد ثانيًا من بائعه وشهد للمدعي بالملك، ولو كان كذلك لا تقبل شهادته؛ لأنه ساعي في نقض ما تم به وبمثله لوروده بقضاء قاضي، أو بغير قضاءٍ قبل القبض تقبل شهادته واعتبر البيع منفسخًا من كل وجه، وإذا انفسخ البيع من كل وجه صار وجود البيع وعدمه سواء، ولو عدم البيع كان يقبل شهادته للمدعي فهنا كذلك، فعلم أن الإقالة والرد بالعيب بعد القبض بغير قضاءٍ، وإنما تعتبر فسخًا في حق المتعاقدين فيما كان من موجبات البيع، فأما ما لم يكن من موجبات البيع فاعتبر شراءً جديدًا في حقه كما يعتبر شراءً جديدًا في حق الثالث.
إذا ثبت هذا فنقول: زيادة الجودة على المشروط في أصل البيع ونقصان الجودة ليس من موجبات البيع، فإنه لا يجب ذلك بالبيع، وإنما وجب بعارض آخر، وهو أن المشروط الجودة، أو إبراء البائع المشتري عن الجودة، وإذا لم يكن ما حصل من الجودة فللبائع من موجبات البيع اعتبرت الإقالة في ذلك بيعًا جديدًا، وإن كان ذلك من حقهما، وإذا اعتبر بيعًا جديدًا صار كأن المشتري باع العبد ثانيًا من البائع بمثل الثمن الأول، ولو كان كذلك لا يجب على البائع رد مثل المقبوض، وإنما يجب عليه رد مثل المشروط في أصل البيع فكذا هاهنا، وإذا كان فسخًا من كل وجه ظهر الفسخ في حقه كما ظهر في حق الأجل ولزمه رد مثل المقبوض لا رد مثل المشروط.
وفي (القدوري): وقبول الإقالة على المجلس؛ لأن الإقالة نظير البيع في حق ارتباط اللفظين بالآخر فيعتبر له المجلس كما في البيع، قال: الإقالة بلفظين، أحدهما: يعبر به عن المستقبل نحو أن يقول: أقلني فيقول: أقلت، وقال محمد: لا يقوم إلا بلفظين يعبر بهما عن الماضي اعتبارًا بالبيع، ولهما أن الإقالة لا تكون إلا بعد نظر فتأمل، فلا يكون قوله أقلني مساومة بل كان تحقيقًا للتصرف كما في النكاح، وبه فارق البيع.
وفي (نوادر ابن سماعة) قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول في رجل باع رجلًا لبعد، ثم لقيه المشتري ولم يقبض البيع قال: إنك قد أغليت علي فلا حاجة لي فيما بعتني، فأقلني فقال البائع: قد أقلتك، قال: ينتقض البيع، وإن يقل (لم) المشتري: قبلت أو رضيت، وهذه الرواية عن أبي يوسف توافق القدوري عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله قال: كذلك لو كان قال له المشتري: فافسخ البيع فيما بيني وبينك ففسخ كان جائز.
وفي (المنتقى) عن محمد رحمه الله: مسألة تدل على أن قوله مثل قولهما، فإنه قال في رجل اشترى من رجل عنبًا بألف درهم، ثم تقابضا، ثم قال المشتري للبائع: أقلني على أن أؤخرك ألف سنة فقال: قد فعلت جازت الإقالة ولم يجز التأخير، قال القدروي رحمه الله أيضًا: وتصح الإقالة إذا كان المبيع قائمًا أو بعضه ولا يعتبر قيام الثمن، يجب أن يعلم أن من شرط صحة الإقالة قيام العقد لكون الإقالة رفعًا للعقد، وقيام العقد بقيام المعقود عليه لا قيام المعقود به؛ لأن المعقود عليه محل إضافة العقد، ولا محل ثبوت حكمه، وما يكال ويوزن إذا كان موصوفًا في الذمة كان ثمنًا، وإذا كان بعينه يكون مبيعًا.
قال محمد في (الجامع الكبير): رجل اشترى من آخر عبدًا بكر حنطة بعينها وتقابضا فهلك العبد، ثم إنهما تقايلا العقد فيما بينهما جازت الإقالة؛ لأن الكر لما كان متعينًا كان هذا بيع العين بالعين، وفي بيع العين بالعين كل واحد منهما مبيع في حق نفسه ثمن في حق ما يقابله؛ لأن العقد لابد له من معقود عليه، وليس أحدهما بأن يجعل معقودًا عليه أولى من الآخر فجعلنا كل واحدمن العوضين مبيعًا في حق نفسه ثمنًا في حق ما يقابله، ولهذا لا يجوز الاستبدال بالكر قبل القبض لما فيه من استبدال المبيع قبل القبض، وإذا هلك قبل القبض، فسد العقد ولما كان كل واحد منهما معقودًا عليه في حق نفسه يبقى العقد ببقاء أحدهما فتصح الإقالة، وإذا صحت الإقالة لزم الآخر رد العبد وقد عجز عن رده بسبب الهلاك فيلزمه قيمته، وإذا باع العبد بكر بغير عينه وتقابضا فهلك، ثم تقايلا والكر فلم يعينه فالإقالة باطلة؛ لأن الكر إذا كان بغير عينه كان ثمنًا، ولهذا لا يشترط فيه التأجيل، ولو كان مبيعًا فالمبيع لا يثبت في الذمة إلا مؤجلًا، وكذا لا يجوز الاستبدال به قبل القبض مع أن الاستبدال بالمبيع قبل القبض ممتنع، وكذلك لو تقايلا حال قيام العبد لا يلزم بائع العبد رد عين ما قبض من الكر، كما في الدراهم فكان ثمنًا، ولما كان ثمنًا لا يبقى العقد بيعًا به فلم يستقم رفعه.
فرق بين هذا وبين ما لو أسلم عبدًا في كر حنطة إلى أجل، ثم هلك العبد، ثم تقايلا على المسلم فيه ثمَّ يجوز، والفرق وهو: أن المسلم فيه مبيع بدليل عكس ماذكرنا من الأحكام ولما كان كذلك كان هذا بيع العرض بالعرض فهلاك أحدهما لا يمنع صحة الإقالة، أما هاهنا بخلافه على ما مر.
وإذا اشترى عبدًا بدراهم وتقابضا، ثم تقايلا بعد ما هلك العبد، فالإقالة باطلة؛ لأن الدراهم ثمن من كل وجه فلا يبقى العقد ببقائها، ولو صح ما ذكرنا أن الثمن إنما يثبت له حكم الوجود في الذمة بالعقد، وما يكون وجوده بالعقد كان حكمًا للعقد، وحكم العقد لا يكون محلًا للعقد؛ لأن محل العقد وشرط الشيء يسبقه وحكم الشيء يعقبه وبينهما تنافي.
ولو اشترى عبدًا بنقرة فضة إن كانت النقرة بغير عينها فكذلك الجواب، وإن كان بعينها لم تنتقض الإقالة بهلاك العبد لما مر، وإذا لم تنتقض الإقالة كان على الذي هلك العبد في يده قيمته دراهم أو دنانير.
فرق بين هذا وبينما إذا كانت الإقالة على النقرة بعينها بعد هلاك العبد، فإن هناك قال: يقضي بالدنانير خاصة، والفرق وهو: أن هاهنا الإقالة صحت على النقرة وعلى العبد، والربا لا يجري بين العبد والنقرة وهذه الحالة، وهو حال وجوب قيمة العبد حال بقاء الإقالة لا يجري الربا إذ الموجود في حالة البقاء ليس إلا القبض الذي له شبه بالعقد وأثره في إيجاب التصدق لا في جريان الربا، ووجوب التصدق حكم شيء بينه وبين ربه لا يدخل تحت القضاء فلم يجب القضاء بخلاف الجنس تحرزًا عن هذه الشبهة التي لا تدخل لها في القضاء لكن قيل: إن قضى بخلاف جنسه لا يجب عليه التصدق بشيء، وإن قضى بجنسه تصدق بالفضل تحرزًا عن الشبهة.
كما لو اشترى عبدًا قيمته ألفا درهم فقتل العبد قبل القبض وأختار المشتري أخذ القيمة قضى القاضي بالقيمة دنانير أو دراهم، لكن إن قضى بالقيمة دراهم بالفضل وإن قضى بالقيمة دنانير لم يتصدق بشيء كذا هاهنا، أما فيما سبق الحال ابتداء الإقالة، فالإقالة عقد جديد في حق الثالث وحرمة الربا حق الشرع فصار في حق الشرع بمنزلة عقد مبتدأ على النقرة وعلى قيمة العبد، وفي حالة الابتداء يجري الربا وإنه يدخل تحت الحكم فيقضى بالدنانير تحرزًا عن الربا.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد رحمه الله: رجل اشترى عبدًا بألف درهم فلم يقبضه حتى قال المشتري للبائع: بعه فقيل هل يكون هذا نقضًا للبيع، فقد ذكرنا هذه المسألة مع أجناس في صدر هذا الكتاب إلا أن موضوع المسألة فيما وضع محمد رحمه الله ثمة أن المشتري، قال للبائع: بعه فقيل، ثم باعه فهو مناقضة للبيع الأول، وموضوع المسألة هاهنا أن المشتري قال للبائع: بعني فقيل هو مناقضة للبيع.
وعنه في رجل اشترى من رجل عبدًا فلم يقبضه حتى سأله البائع أن يبيعه إياه بألف درهم ففعل، لم تكن هذا مناقضة للبيع الأول.
وفي (المنتقى): رجل اشترى من رجل عبدًا ودفع إليه الثمن ولم يقبض، ثم إن المشتري لقي البائع وقال: قد وهبت لك العبد والثمن لم تجز الهبة في الثمن، قال: لأني إنما جعلت قوله: وهبت لك العبد نقضًا للعبد فلا يمكنني أن أجعله هبة للثمن.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: رجل اشترى من رجل عبدًا بجارية وتقابضا، ثم تقايلا فدفع مشتري العبد العبد إلى بائعه، ولم يقبض الجارية حتى ماتت في يد مشتريها، فإن البيع يعود إلى حاله ويرد العبد إلى الذي كان في يده.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: رجل باع عبدًا بعبد وتقابضا فعمي أحدهما، ثم أقاله البيع، قال: إن كان يعلم بالعمى أخذه وليس له غيره، وإن لم يكن علم، فإنه يرد العبد ويأخذ قيمة عبده صحيحًا.
إذا اشترى عبدًا بألف درهم وتقابضا، ثم تقايلا، ثم قتله المشتري قبل أن يرده فقد ذهب بالثمن، وإن فقأ إحدى عينيه فالبائع بالخيار إن شاء أخذه بنصف الثمن وإن شاء ترك، وإن لم يفقأ عينه ولكن ذهبت من وجع، فإن شاء البائع أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
وفي (نوادر المعلى) عن أبي يوسف رحمه الله قال أبو حنيفة رحمه الله: رجل اشترى من رجل عبدًا، ثم قال للبائع قبل أن يقبضه: بعه، فإن أعتقه البائع فعتقه جائز عن نفسه، وقال أبو يوسف رحمه الله: باطل، قال أبو الفضل رحمه الله: يحتمل أن يكون وجه هذه المسألة أنه جعل قوله بعه بمنزلة الإقالة، وجعل عتق البائع بمنزلة قبول الإقالة على قول أبي حنيفة رحمه الله.
وفي (المنتقى): رجل اشترى من رجل عبدًا بألف درهم وتقابضا، فقطعت يده عند المشتري فأخذ أرشها، ثم تقايلا البيع، فإن كان البائع علم بالقطع لزمته الإقالة بجميع الثمن ولا شيء له من الأرش، وإن لم يكن علم بالقطع، فهو بالخيار إن شاء أخذه دون الأرش بجميع الثمن، وإن شاء رده، وكذلك لو كانت جارية فولدت عند المشتري لم يبعها الولد في الإقالة.
وفيه أيضًا: رجل باع عبدًا بأمة وتقابضا، ثم باع نصف العبد، ثم إقالة البيع في الأمة جاز وكان له قيمة العبد والله أعلم.

.الفصل الحادي والعشرون: في الدعاوي والشهادة في البيع:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.نوع منه:

إذا كانت الدار في يدي رجل ادعاها رجل أنه اشتراها وأقام على ذلك بينة فهذا على وجهين:
الأول: أن تكون الدار في يد البائع وفي هذا الوجه لو شهد الشهود المشتري بمجرد الشراء منه يقضي له بالدار، وإن لم يشهدوا بالملك للبائع.
الوجه الثاني: أن تكون الدار في يد غير البائع وذو اليد يدعي الدار لنفسه، وأنه على وجوه، فشهدوا أنه اشتراها من فلان فلم يزيدوا عليه، فإنما لا يقضي له بها ولا ينتقض يد ذو اليد بهذه الشهادة؛ لأنه لم يثبت الملك للمدعي بهذه الشهادة؛ لأنه لم يثبت إلا مجرد الشراء من فلان يوجب الملك للمدعي إن كان البائع مالكًا أو نائب المالك، وإن كان غاصبًا لا يوجب الملك للمدعي فيقع الشك في نقض يد ذي اليد، فلا ينقض بالشك، وكان هذا بمنزلة ما لو شهدوا أنه كان في يد المدعي، ولم يزيدوا عليه، فإنه لا ينقض يد ذي اليد بهذه الشهادة، وإن ثبت حدوث يد ذي اليد؛ لأنه احتمل أن يد المدعي كان بحق فيجب نقضه بهذا الاعتبار، واحتمل أنه كان بغير حق فلا يجب نقضه فلم ينقض بالشك والاحتمال فكذلك هذا، ولا يقال بأن الظاهر أن تكون يده يد الملك؛ لأنا نقول الظاهر يصلح حجة للدفع ولا يصلح حجة الاستحقاق وهاهنا حاجته إلى استحقاق اليد على ذي اليد.
وإن شهدوا أنه اشتراها من فلان وهو يملكها، فإنه يقضي بذلك للمدعي وينقض يد ذي اليد؛ لأنه ثبت ملك المدعي بلا احتمال، فإنهم شهدوا بالملك للبائع، وإذا ثبت ملك البائع ثبت ملك المشتري بالشراء منه فينقض يد ذي اليد، كما لو شهدوا أنه ملك المدعي.
وكذلك إن شهدوا أنه اشتراها من فلان وأنها لفلان تقبل شهادتهم؛ لأن شهادتهم أنها لفلان كشهادتهم أنه كان يملكها، وكذلك لو شهدوا أنها لهذا المدعي اشتراها من فلان يقضي بها للمدعي؛ لأنهم شهدوا بالملك للمدعي وشهدوا بالملك لبائعه، مقتضى شهادتهم بالملك للمدعي، فإن المشتري يملك من جهة البائع.
وكذلك لو شهدوا أن فلانًا باعها منه وسلم إليه، فإنه يقضي للمدعي، وينقض يد ذي اليد وكان يجب أن لا يقضي وهو رواية القاضي أبو حازم عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأنهم لم يشهدوا بالملك للمشتري نصًا، ولم يشهدوا بالملك للبائع ليكون شهادة بالملك للمشتري إذا ثبت شراء أو هبة إنما شهدوا بالبيع والتسليم، وكلا الأمرين قد يكون من المالك ومن نائبه، وقد يكون من الغاصب فصار هذا كما لو شهدوا أنه باعها وهي في يده يوم البيع ولم يزيدوا على ذلك، وهنا لا تقبل الشهادة كذا هاهنا، إلا أن الجواب منه أن يقال: بأنهم بهذه الشهادة أثبتوا للمدعي يد ملك فينتقض يد ذي اليد، كما لو نصوا أنه كان في يده ملك، وإنما قلنا ذلك؛ لأنهم شهدوا للمدعي بيده مقرون بسبب الملك والشهادة للمدعي باليد مقرونًا بسبب الملك فهي محتملة بين أن يكون يد ملك وبين أن لا تكون احتمالًا على السواء، فإذا اقترن به سبب الملك ترجح جانب يد الملك وسقط اعتبار احتمال أنه ليس بيد ملك، وإذا سقط هذا الاعتبار فكأنهم شهدوا نصًا أن يد المدعي يد ملك.
ونظير هذا قالا: في شاهدين شهدوا بدار لرجل يدعيها في يد إنسان أنها كانت في يد ابنه وقت الموت، فإنه يقضى بالدار له وينتقض به يد ذي اليد؛ لأنهم شهدوا للمدعي بيد مقرون بسبب الملك؛ لأن ماكان في بدايته وقت الموت ينتقل إلى وارثه بعد الموت ويصير في يده فيكون شهادة له باليد مقرونًا بسبب الملك؛ لأن الموت سبب ملك للوارث فيما تركه الميت للوارث فترجح يد الملك على يد غير الملك لما اقترن باليد سبب الملك، وإذا ترجح الملك صارت العبرة أو يقول الشهادة بالتسليم شهادة بالملك للبائع من حيث المعنى فيقبل كما لو شهدوا له بالملك نصًا.
بيانه: أن التسليم إن كان تسليم مالك فلا شك أن يكون شهادة بالملك، وإن لم يكن تسليم مالك يصير مالكًا بالتسليم يصير عاجزًا عن الرد، وعجز الغاصب عن الرد يوجب الضمان والمضمون يصير مالكًا للضامن بالضمان كان بمنزلة الشهادة باليد عند الموت اعتبرت الشهادة بالملك عند الموت؛ لأن يد غير المالك تنقلب يد المالك بالموت بسبب العجز عن الرد بالتجهيل، وإذا شهدوا أنه كان في يد المدعي وقت البيع، فلا ذكر لهذا في (الأصل).
وقد اختلف المشايخ فيه ممن اختار العبارة الأولى في المسألة المتقدمة يقول: تقبل هذه الشهادة؛ لأن الشهادة باليد عند سبب..... شهادة بالملك كما لو شهدوا أنه كان في يده عند الموت، وهذا القائل لا يحتاج إلى الفرق بينما شهدوا أنه كان في يده يوم البيع، وبينما إذا شهدوا أنه كان في يده يوم الموت.
ومن اختار العبارة الثانية في المسألة المتقدمة يقول: لا تقبل هذه الشهادة وهكذا روى هشام في (نوادره) عن محمد رحمه الله، وهذا القائل يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبينما إذا شهدوا أنها كانت في يده عند الموت، والفرق: أن الشهادة باليد عند البيع ليست بشهادة للملك للبائع؛ لأن يده إن لم تكن يد ملك لا تنقلب يد ملك بمجرد البيع لا يعجز عن التسليم ما دام في يده، فأما الشهادة باليد عند الموت شهادة بالملك له؛ لأن بالموت يعجز عن الرد فتنقلب يده بالموت يد ملك إن لم تكن يد ملك في الأصل.
وأما إذا شهدوا أنه اشتراها من فلان وقبضها منه ولم يزيدوا على ذلك كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا شهدوا أن فلانًا باعها منه وسلمها إليه؛ لأن الشهادة بقبض المشتري شهادة بتسليم البائع، ثم إذا قبلت الشهادة في هذه المسائل يثبت الشراء على البائع، وينتصب ذو اليد خصمًا من البائع ويقوم إنكاره مقام إنكار البائع حتى لو حضر البائع، وأنكر البيع لا يلتفت إلى إنكاره.
دار في يد رجل إدعاها رجل وشهد شاهدان أنه اشتراها منه إن سميا مقدار الثمن قبلت شهادتهما سواء شهدا بإستيفاء الثمن أو لم يشهدا؛ لأن المشهود به معلوم من كل وجه؛ لأن المشهود به في البيع المبيع والثمن، وكل ذلك معلوم فكانت الشهادة مقبولة، وأما إذا لم يسميا بأن لم يشهدا باستيفاء الثمن لا تقبل شهادتهما؛ لأن الثمن مجهول وهو مقضي به إذا لم يكن مستوفيًا؛ لأنه لابد للقاضي من القضاء بالثمن على المشتري حتى يمكن قبض المبيع من البائع، وإذا كان مقدار الثمن مجهولًا لا يمكنه القضاء، وإذا تعذر القضاء بالثمن تعذر القضاء بالمبيع وشهادة لا يمكن القضاء بها لا تقبل.
وأما إذا شهدا بإستيفاء الثمن كانت الشهادة مقبولة، فإن كان مقدار الثمن غير مقضي به متى كان مستوفيًا، فجهالته وهو غير مقصودة لا يصير ما هو مقضي به وهو المبيع معلوم، فإن أنكرت قضاء بهذه البينة فقبلت، وإذا ادعى على آخر أنك اشتريت مني هذه العين والمشتري يجحد، فجاء المشتري بشاهدين واختلفا في جنس الثمن أو في مقدار الثمن، فإنه لا تقبل شهادتهما على كل حال، وإذا كانت العين قائمًا في يد المشتري، وذلك لأن المعقود عليه ما دام قائمًا فالعقد مقضي به أيضًا، ألا ترى أنهما إذا تقايلا حال قيام المعقود عليه صحت الإقالة؟ ولا يمكن للقاضي أن يقضي بالعقد بما شهدوا؛ لأنهما شهدا بعقدين مختلفين؛ لأن العقد بألف غير العقد بألفين، ولهذا قلنا: إن الاختلاف لو وقع فيما بين المتعاقدين على هذا الوجه يتحالفان، وإذا كان العقد بألف غير العقد بألفين فقد شهد كل واحد منهما بعقد لم يشهد به صاحبه، وما غاب عن علم القاضي لا يثبت بشهادة واحد هذا إذا كان المبيع قائمًا، فأما إذا كان المبيع هالكًا في يد المشتري، وادعى المشتري الشراء أو أنكر البائع، وقال: لا بل غصب مني فأقام المشتري شاهدين فاختلفا فهذا على وجهين.
إما أن يختلفا في المقدار أو جنس الثمن، فإن اختلفا في جنس الثمن بأن شهد أحدهما بألف درهم والآخر بمائة دينار، فإنه لا تقبل هذه الشهادة، وإن لم يكن العقد مقضيًا به حال هلاك المعقود عليه حتى لو تقايلا لم تصلح الإقالة، وإنما المقضي به المال إلا أن الدعوى لو وقعت في مطلق المال، واختلفا على هذا الوجه لا تقبل شهادتهما؛ لأنه لابد للمدعي من أن يدعي أحد المالين، وأنه إذا ادعي أحدهما وقد كذب شاهد فلا تقبل شهادته، وأنه اختلفا في مقدار الثمن إن تخلل بين الإثنين حرف العطف بأن شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة، فإن كان المدعي يدعي أكثر المالين، فإنه يقبل هذه الشهادة على الأقل؛ لأن العقد غير مقضي به في هذه الإقالة فكأن الدعوى وقعت في مطلق المال.
واختلف الشاهدان على هذا الوجه والمدعي يدعي أكثر وهناك تقبل الشهادة على الأقل عندهم جميعًا نص على هذا في كتاب الإجارات كذا هنا، وإن كان المدعي يدعي أقل المالين، فإن كان يدعي ألف درهم لا تقبل؛ لأنه كذب شهادة بالأكثر إلا أن يوفق المدعي فيقول: كان لي عليه ألف وخمسمائة كما شهد به الشاهد بالأكثر إلا أني استوفيت خمسمائة لم يعلم به هذا الشاهد إن وفق على هذا الوجه، فإنه يقضى له بألف درهم؛ لأن المانع من قبول الشهادة تكذيب الشاهد بالأكثر وقد زال التكذيب متى وفق المدعي على هذا الوجه فتقبل الشهادة.
فأما إذا لم يتخلل بين الأقل والأكثر حرف العطف بأن شهد أحدهما بالألف والآخر بألفين إن كان المدعي يدعي الأقل، فإنه لا تقبل هذه الشهادة عندهم جميعًا كما لو وقع الدعوى في مطلق المال؛ لأنه كذب شاهده بأكثر المالين إلا أن يوفق المدعي على قول أبي يوسف ومحمد، فيقول: كان لي عليه ألفان إلا أني استوفيت منه ألف درهم ولم يعلم به الشاهد بأكثر المالين فحينئذ تقبل الشهادة عندهما؛ لأن المانع من قبول الشهادة عندهما في هذا الفصل تكذيب الشاهد بأكثر المالين، وقد زال التكذيب فتقبل الشهادة كما لو تخلل بين المالين حرف العطف، وعند أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا تقبل وإن وفق على هذا الوجه؛ لأن المانع من قبول الشهادة أنهما لم يتفقا على ألف لفظًا ولا يثبت اتفاقهما على ألف لفظًا ولا يبيعه هذا التوفيق، وإن كان المدعي يدعي أكثر المالين ألفي درهم، فالمسألة على هذا الوجه والاختلاف لا تقبل عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد: تقبل هذه الشهادة.
قال: وإذا ادعى رجل دارًا في يدي رجل أنه قد اشتراها منه وأقام على ذلك شاهدين فشهدا أنه باعها وسميا الثمن، واتفقا عليه، غير أنهما اختلفا في الأيام أو البلدان، فإنه لا يمنع قبول الشهادة؛ لأن البيع تصرف قولي واختلاف الشاهدين في الزمان والمكان لا يمنع قبول الشهادة متى قامت الشهادة على القبول، ألا ترى أن العادة بين الناس أنهم يدورون على الشهود، وعند الإشهاد فتختلف الأماكن والأوقات ويكون الإقرار واحدًا.
قال: وإذا ادعى الرجل دارًا في يدي رجل أنه اشتراها وأقام شاهدين عليها غير أنهما لا يعرفان الدار ولا الحدود ولا يسميان من ذلك شيئًا، فإن شهادتهما لا تقبل؛ لأنهما شهدا لمجهول؛ لأنهما لم يشيرا ولا حدود المشهود به، والتعريف في العقارات يقع بأحد هذين الأمرين، فإذا لم يوجد واحد منهما كان المشهود به مجهولًا، وجهالة المشهود به تمنع قبول الشهادة؛ لأنه لا يمكن القضاء بها، وإن قالا: قد سمى البائع والمشتري موضع الدار وحدودها وصفوا ذلك وسمو إلا أنا لا نعرف أن هذا المحدود هل هو في يد البائع أم لا؟ فإنه تقبل هذه الشهادة؛ لأن المشهود به معلوم، فإنهم حدوا الدار، والتعريف يقع بذكر الحدود في باب العقار إلا أنه لا يقضى بها متى أنكر المشهود عليه أن تكون الدار التي ذكرها الشهود وحدوها وهي الدار التي في يده الجواز أن يكون لهذا الدار التي ادعاها الحدود التي ذكرها الشهود، ويحتاج المدعي إلى إقامة بينة أخرى، أن الدار التي ادعاها المدعي بهذه الحدود التي ذكرها الشهود، فإذا أقام بينة أخرى على هذا الوجه قضي بالدار.
ونظير هذا: ما قالوا في رجل جاء بكتاب قاض إلى قاض أن فلانًا وفلانًا شهدا عندي أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا دينارًا فأحضر المدعي أنه فلان بن فلان، وأنكر الرجل أن يكون بن فلان ما لم يقم المدعي بينة أخرى أن هذا الرجل فلان بن فلان، فإنه لا تقبل بينته كذا هاهنا، وإذا كان المشتري يجحد الشراء، والبائع يدعيه فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كان يدعيه المشتري، فإن القاضي يحتاج إلى أن يقضي بالثمن إذا كان البائع مدعيًا كما يحتاج لو ادعاه المشتري، فيكون الجواب في الفصلين واحد.
وإذا كانت الدار في يد رجل، فأقام على ذلك الرجل شاهدين أنها داره ابتاعها من فلان، وأقام الذي في يديه بينة أنها داره ابتاعها من ذلك لفلان أيضًا، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه: إما أن تكون الدار في أيديهما أو في أيد أحدهما أو في يد البائع، وكل وجه من ذلك على أربعة أوجه: أما إن أرخا وتاريخهما على السواء أو تاريخ أحدهما أسبق من تاريخ آخر، أو لم يؤرخا أصلًا، أو أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فإن كانت الدار في أيديهما وقد أرخا وتاريخهما على السواء، أو لم يؤرخا، فإنه يقضى بالدار بينهما نصفين؛ لأنهما استويا في الدعوى والحجة واليد فتستويان البينة، فإنه يقضى بينهما نصفان فكذلك هذا، وكذلك إذا أرخ أحدهما دون الآخر،، فإنه يقضي بالدار بينهما نصفان ولا يقضي بجميع الدار لصاحب التاريخ؛ لأن الذي لا تاريخ له ثابت بيقين وقع الشك في نصفها إن كان شراءه بعد شراء صاحب التاريخ وجب نقض يده، وإن كان قبله لا يجب نقضه وقد احتمل شراء الدار التي لا تاريخ له أن يكون سابقًا على صاحب التاريخ وأن يكون لاحقًا فقد وقع الشك في نقض يده فلا يجوز نقضها بشك ويخبر كل واحد منهما أثبت الشراء في الجميع ولم يسلم له إلا النصف فيخبره.
كما لو اشترى دارًا، ثم استحق نصفها، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فأسبق التاريخ أولى لوجهين:
أحدهما: أن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة ولو عاينا شراء أحدهما سابقًا وشراء الآخر بعد ما كان السابق بينهما أولى، وإن كانت الدار في أيديهما، وكذا إذا ثبت بالبينة العادلة.
والثاني: وهو بينة أسبقهما تاريخًا أكثر إثباتًا؛ لأنها تثبت ملكه منذ شهرين والآخر منذ شهر فكانت بينة من أسبق التاريخ أكثر إثباتًا فكان أولى، وإن كانت الدار في يد أحدهما، إن أرخا وتاريخهما على السواء أو لم يؤرخا، أو أرخ أحدهما فذو اليد أولى إن كان تاريخهما على السواء أو لم يؤرخا؛ لأنهما استويا في إثبات الشراء مما يتأكد باليد فيكون صاحب اليد، وأنه يثبت آكد لشيئين أولى كالعتق مع الشراء إذا اجتمعا كان العتق أولى؛ لأنه آكد فكذلك هذا، وكذلك إن أرخ أحدهما فصاحب اليد أولى؛ لأن يده ثابتة بيقين وقع الشك في نقض يده إن كان شراء الذي لا تاريخ به سابقًا على يده وجب نقض يده، وإن كان لاحقًا لا يجب نقض يده وقد احتمل كلا الأمرين، فلا ينقض يده بالشك.
وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق كان أسبقهما تاريخًا أولى سواء كان في يده أو في يد الآخر إن كان أسبقهما تاريخًا ذو اليد فلا إشكال؛ لأنه من غير تاريخ كان أولى، وإن كان أسبقهما تاريخًا من الآخر فكذلك أولى؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة؛ ولأنه أكد ثباتًا.
إن كانت الدار في يد البائع إن أرخا وتاريخهما على السواء أو لم يؤرخا فالدار بينهما نصفًا ويجبر كل واحد منهما استويا في الدعوى والحجة، وإن كان تاريخ أحدهما أسبق فالسابق أولى كما لو ثبت الأمر أن متعاينة، فأما إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فإن صاحب التاريخ أولى.
فرق بين هذا وبينما إذا كانت الدار في يد أحد المشتريين، وقد أرخ الخارج ولم يؤرخ ذو اليد، ذكر أن ذا اليد أولى من صاحب التاريخ، ووجه الفرق بينهما: وهو أن الدار متى كانت في يد البائع لو جعلنا صاحب التاريخ أولى نقل بعض ما هو ثابت، ومتى جعلنا صاحب الإطلاق أولى أنكر بعض ما هو الثابت وتقليل نقض ما هو الثابت أولى، وإنما قلنا ذلك؛ لأنا متى جعلنا صاحب التاريخ أولى نقضنا بشراء الآخر غير أنه لم يثبت الشراء ومتى قضينا للذي لا تاريخ له فقضينا على صاحب التاريخ شراءه وتاريخه بعدما ثبت الأمران بالبينة وتقليل نقض ما هو الثابت أولى من تكثرة بخلاف ما لو كان في يد أحد المشتريين حيث قضي لذي اليد ولا يقضى لصاحب التاريخ حتى نقل بعض ما هو الثابت، وذلك لأنا متى قضينا لصاحب التاريخ يحتاج إلى أن ينتقض الشراء على ذي اليد ويده ثابت معاينة، والثابتة معاينة فوق الثابت بالبينة فيكون نقض الثابت معاينة وهو أكثر من نقض الثابت بالبينة وهو التاريخ، فإذًا من حيث المعنى لا فرق بينهما؛ لأنا في الموضعين نقضي على وجه نقل النقض هذا الذي ذكرنا كله إذا ادعيا يلغي الملك من وجه واحد، فأما إذا ادعيا تلقي الملك من وجه.
اثنين ادعى أحدهما أنه اشترى هذه الدار من زيد، وادعى الآخر أنه اشتراها من عمرو وأقاما جميعًا البينة فهذا لا يخلو من وجهين: إما أن تكون في أيديهما أو أيد أحدهما، إن كان في أيديهما يقضي بالدار بينهما؛ لأن كل واحد منهما بينة يثبت الملك لبائعه؛ لأن الملك لبائعه غير الثابت باتفاق صاحبه فكأن البائعين حضرا وادعيا، وأقام البينة على الملك والدار في أيديهما، وهناك المدعي بينهما يكون نصفين؛ لأنهما استويا في الدعوى والحجة واليد، فكذلك إن كان في أيد أحدهما فالخارج أولى بخلاف ما إذا ادعيا تلقي الملك من وجه فلا يقضي لذي اليد.
ووجه الفرق بينهما: أنهما متى ادعيا تلقي الملك من وجه اثنين فكل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه فيجعل كأن البائعين حضرا وادعيا ملكًا مطلقًا والدار في أيد أحدهما وأقام البينة.
ولو كان كذلك كان الخارج أولى فكذلك هذا، وأما إذا ادعيا تلقي الملك من جهة واحدة فكل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه ثابت بتصادقهما، وإنما يثبت كل واحد منهما بينة الملك بسبب الشراء وذو اليد آكد الشرائين والقضاء للآكد أولى إذا تعذر العمل بهما، كالرهن مع الشراء هذا إذا ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين من غير التاريخ، فإن ادعيا مع ذلك تاريخًا أو ادعاه أحدهما فهذا وما لو ادعيا ملكًا مطلقًا سواء؛ لأن كل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك بملكيته، فكأن كل واحد من المالكين حضر وادعى الملك لنفسه، وسيأتي الكلام في دعوى الملك المطلق في كتاب الدعوى إن شاء الله تعالى.
قال: وإن كانت الدار في يدي رجل فأقام عليها رجل البينة أنه اشتراها من ذي اليد بألف درهم، وأقام الذي في يديه البينة أنه باعها منه بألفي درهم ولا يدري التاريخ بين البيعين، فإنه يقضي بألفي درهم ببينة البائع؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن أحدهما يفسخ الأول لا محالة وبأخذهما بعينه متعذر؛ لأنه ليس أحدهما بأن يعتبر بأولى من الآخر، فإذا تعذر القضاء بالعقدين، وبعقد واحد، يجعل كأن الدعوى وقعت في مطلق المال كما لو حصل الدعوى بعد هلاك المبيع، ولو وقع الدعوى في مطلق المال ادعى أحدهما العين، وأقر المدعي قبله بألف وأقاما جميعًا البينة كان بينة صاحب العين أولى لوجهين؛ الأول: أنه أكثر إثباتًا، والثاني: أنه يثبته ببينة دعواه والآخر يثبت إقراره لغيره والبينة مشروعة على إثبات الدعوى لا على الإقرار لغيره فكذلك هذا.
ولو أقام البائع البينة أنه باعها بعبد أو طعام وأقام المشتري بينة أنه اشتراها منه بألف درهم كانت بينة البائع أولى، ولا تجيء العلة الأولى التي ذكرنا في الفصل الأول أنه بينة البائع أولى، ولا تجيء العلة الأولى التي ذكرنا في الفصل الأول أن إلي أكثر إثباتًا يثبت زيادة؛ لأن الزيادة إنما تتحقق في جنس واحد ولا تتحقق في جنسين، وإنما تجيء العلة الأخيرة وهو أن البائع بببنته يثبت دعواه على المشتري والمشتري ببينته يثبت إقراره بألف للبائع والبينات مشروعة لإثبات الدعوى على الغير لا لإثبات إقرار الغير، فإن من أقر لإنسان ورد المقر له إقراره، فأراد إثبات إقراره بالبينة لا تقبل بينتهُ.
هذا معنى قولهم: إن البائع أثبت لنفسه والمشتري لغيره، فكان البائع أشبه بالمدعي عين فكذلك هذا، قال: ولو أقام المشتري البينة أنه ابتاع هذه الدار ودار أخرى بألف درهم وأقام البائع البينة أنه باع هذه الدار وحدها بألفين أجزت البيع فيهما جميعًا بألفين؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن الدار متى بيعت مرة أخرى لا يمكن أن تباع (مرة) أخرى مع آخر ما لم يشترها البائع ثانيًا والشهود لم يشهدوا بذلك، وإذا تعذر القضاء بالعقدين لزمنا قبول البينتين؛ لأن كل واحد منهما يثبت زيادة فوجب قبول بينة كل واحد منهما في إثبات الزيادة.
قال: إذا كانت الدار في يدي رجل فأقام بينة أنه باعها من فلان بألف درهم في رمضان، وأقام فلان البينة أنه اشتراها في شوال بخمسمائة، فإنه يقضي بالشراء بخمسمائة؛ لأن الثابت بالبينة العادلة إذا قبلت كالثابت معاينة، ولو عاينا الشراء الآخر بخمسمائة، فإنه ينتقض البيع بألف درهم؛ لأن القضاء بالعقدين وبعقد واحد بعينه متعذر على ما بينا فتعتبر الدعوى في مطلق المال، ادعى أحدهما بألف والآخر بخمسمائة وأقام البينة كان كذلك تقبل بينة من يثبت ألف للوجهين اللذين ذكرنا فيما تقدم.
قال: وإذا ادعى الرجل دارًا في يدي رجل وأقام بينة أنه اشتراها بألف درهم والبائع يقول: لم أبع شيئًا وأقام البائع البينة على أنه قد رد عليه الدار، فإني أقبل ذلك منه وأنقض البيع، هكذا ذكر في كتاب الدعوى، ويجب أن لا تقبل بينة البائع، وذلك لأن البائع ناقض في هذه الدعوى؛ لأنه زعم أولًا أنه لم يبع، ثم ادعى الفسخ حين ادعى الفسخ لا يصح إلا بعد البيع فكان مناقضًا في الدعوى.
والمناقضة في الدعوى تمنع صحة الدعوى فكان يجب أن لا تقبل بينة البائع على الفسخ بعدما جحد البيع إلا أن الجواب عنه في وجهين:
الأول: المناقضة إنما تتحقق بين الدعوى إذا لم يمكن التوفيق بينهما، وهاهنا التوفيق ممكن بين الكلامين بأن يقول البائع: لم أبع شيئًا لنفسي، وإنما باع وكيلي، ثم فسخت البيع بعد ذلك نفي، وإذا أمكن التوفيق بين الكلامين من هذا الوجه يوفق ويحمل عليه حملًا لأمره على الصلاح، وإذا حمل عليه يجعل كالمنصوص عليه فكأن البائع قال: لم أبع بنفسي وإنما باع وكيلي، ثم استحقت العقد معك وأقام على ذلك بينة، ولو كان كذلك تقبل بينة البائع على الفسخ فكذلك هذا.
ونظير هذا ما قالوا فيمن ادعى على آخر دينًا فقال المدعي قبله لم يكن لك علي دين فأقام المدعي بينة على الدين، ثم ادعى قبله الإيفاء أو الإبراء وأقام على ذلك بينة قبلت بينته؛ لأن التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يحمل قوله: لم يكن لك دين حين أنكرت؛ لأني قضيت ذلك أو أبرأتني، فكذلك هذا التوفيق بين الدعوتين ممكن فتوفيق القاضي أنهما حملًا لأمر البائع على الصلاح، فإن الظاهر من حال العاقل أن لا يناقض في كلامه، ومحمد رحمه الله لم يذكر توفيق المدعي والمسألة مجهولة على أنه وفق إلا أنه يذكر في بعضها توفيق المدعي ولا يذكر في البعض.
والثاني: وهو أن قوله فسخت البيع؛ لأن جحود البيع فسخ، ألا ترى أنهما لو تبايعا، ثم تجاحدا لفسخ البيع بينهما كما لو تقايلا فيكون جحود أحدهما دعوى الفسخ؟ فكأن البائع ادعى الفسخ أول مرة وأنكر المشتري، ثم أقام البائع البينة على الفسخ، ولو كان كذلك تقبل منه بينة البائع على الفسخ فكذلك هذا.

.نوع منه:

قال محمد رحمه الله: في (الزيادات): رجل باع عبد رجل من رجل، ثم اختلف البائع والمشتري فقال البائع: أمرني صاحب العبد بالبيع وقال المشتري: لا بل (لم) يأمرك به، ادعى المشتري عدم الأمر وادعى البائع الأمر فالقول قول من يدعي الأمر؛ لأن دخولهما في هذا العقد وهما عاقلان اعتراف بينهما لصحته ونفاذه، والنفاذ في ملك الغير لا يكون إلا بالأمر فمن يدعي عدم الأمر يدعيه بعد الإقرار بالأمر فيكون مناقضًا، فإن أقام المدعي لعدم الأمر بينة، صاحب العبد لم يأمره بالبيع لم تقبل بينته؛ لأن هذه البينة قامت على النفي؛ ولأن البينة إنما تسمع إذا ترك ثبت على دعوى صحيحة والدعوى هاهنا لم تصح لمكان التناقض.
وكذلك لو أقام بينة على إقرار صاحبه إن صاحب العبد لم يأمره بالبيع لا تقبل بينته؛ لأن الدعوى لم تصح على عدم أمره، وكذلك لو لم يكن له بينة، فإن أراد أن يحلف صاحبه على ما ادعى من عدم الأمر لا يلتفت إلي ذلك؛ لأن الدعوى لم تصح والاستحلاف يترتب على دعوى صحيحة.
وإن تصادق البائع والمشتري أن البيع كان بغير الأمر فذاك بينهما فسخ للعقد، والوكيل مع الموكل يفسخان العقد ويصح فسخهما.
بيانه: أن دخولها في هذا العقد اعتراف منهما نفاذه وإقراره بأمر صاحب العقد واتفاقهما على عدم الأمر بعد ذلك يجعل اتفاقًا منهما على الفسخ فيجعل ذلك فسخًا منهما على طريق الابتداء على طريق نفي العقد في الأصل، وإنما يصح الفسخ بينهما لا على الموكل؛ لأن تصادقهما لا يعمل في حق الموكل ويجعل في حق الموكل هذا بيعًا مبتدأً، فإن حضر صاحب العبد وصدقهما ادعى لزمه الفسخ وهذا العبد إلى قديم ملكه؛ لأن فسخهما إنما لم يقبل في حق الموكل دفعًا للضرر حتى صدقهما فيما زعما، وإن كذبهما فيما زعما وقال: كنت أمرته فالبيع ماض في حقه صحيح في حقهما، ويجعل في حق الموكل كأن الوكيل اشتراه من المشتري.
وهو نظير المشتري مع الوكيل إذا قالا: البيع بفسخ الإقالة فسخًا بينهما بيعًا مبتدأً في حق الموكل كذا هاهنا، ثم يبطل الثمن على المشتري عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الفسخ قد صح فيما تلقهما والفسخ يبطل الثمن عن المشتري؛ لأن الوكيل بالبيع يملك إسقاط الثمن عن المشتري عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بالفسخ كما يملك الإبراء ويضمن للموكل مثله كما في الإبراء، وعلى قول أبي يوسف لا يبطل الثمن عن المشتري؛ لأن عنده الوكيل بالبيع لا يملك إسقاط الثمن عن المشتري.
وفيه أيضًا: رجل في يده مملوك لرجل قال رجل لصاحب العبد: آمرك أن تبيعه مني بكذا فصدقه صاحب اليد أو سكت وباع منه العبد وتقابضا، ثم حضر البائع عند القاضي وقال: إن صاحب العبد قد حضر وأنكر الأمر بالبيع، وأقام البينة على ذلك وأراد نقض البيع، أو أراد استحلاف المشتري على ذلك بأن لم يكن له بينة لا يلتفت إلى قوله؛ لأن هذه الدعوى منه لم تصح لمكان التناقض والسعي في بعض ما تم به، أما إذا صدق المشتري فيما قال فظاهر، وأما إذا سكت؛ فلأنه إنما باعه بناءًا على ما ادعى به الأمر فصار بمنزلة المقر بالأمر، ولم يذكر في (الكتاب) أن صاحب اليد لو كذب في دعوى الأمر وباعه بعد ذلك، والصحيح: أن الجواب فيه نظير الجواب فيما إذا تصدق أو سكت؛ لأنه إنما باعه بناءًا على دعوى الأمر فيعلق به حق الغائب فلا يملك إبطاله، وإن حضر صاحب المملوك عند القاضي وجحد الأمر بالبيع، ثم غاب وطلب البائع نقض البيع أجابه القاضي إلى ذلك؛ لأنه لما جحد الأمر عند القاضي، فقد ظهر عنده أن البائع كان فضوليًا وإن العقد كان موقوفًا والفضولي يملك نقض العقد الموقوف، ويكون فسخ القاضي إعانة له لا أن يكون فسخًا على الحقيقة بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك القاضي لم يعاين جحود المالك، وإنما البائع يريد إثباته بالبينة بيمين المشتري، ولابد لذلك من الدعوى الصحيحة، ودعوى البائع لم تصح، فإن طلب المشتري يمين المالك بالله ما أمره بالبيع فالقاضي لا يؤخر النقض لذلك ويقول له: انقض البيع ورد العبد على البائع وانطلق واطلب يمين المالك؛ لأن حق النقض قد ثبت للحال بدليل وهو جحود المالك الأمر؛ لأن الشرع لما جعل القول قول المنكر فقد جعله حجة فيثبت به عدم الأمر من غير يمين؛ إذ اليمين شرع لنفي التهمة لا لكونه حجة مثبتة فهو معنى قولنا: إن حق النقض قد ثبت للحال بدليل، فلا يجوز تأخيره بطلبه اليمين على ذلك، ولو أن صاحب العبد لم يحضر ولم يجحد الوكالة حتى مات فورثه البائع فقال إن صاحب العبد لم يأمرني بالبيع لا يلتفت إليه؛ لأنه ساع في نقض ما تم به.
فإن قيل: ينبغي أن يلتفت إليه من حيث أنه صار بمنزلة الميت وقام مقامه ومن هذا الوجه لا يتحقق التناقض، ألا ترى أن صاحب العبد لو كان حيًا فحضر وجحد الوكالة قبل ذلك منه؟
قلنا: إنما يلتفت إلى قوله إذا صار بمنزلة الميت قائمًا مقامه في هذا العين، وشرط قيامه مقام الميت في هذا العين بقاء هذا العين على ملكه وذلك لا يثبت بمجرد قوله، فلهذا لا يلتفت إلى قوله، وكذلك لو طلب يمين المشتري على ذلك لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن الدعوى لم تصح لما مر، وكذلك لو لم يمت رب العبد وادعى البائع أنه جحد الأمر، ووهب هذا العبد مني وسلمه إلي وصار العبد لي لا يلتفت إلى قوله؛ لأنه يدعي بطلان بيع أقر بصحته متناقضًا ساعيًا في نقض ما تم به.
بيانه: أنه يدعي أن ذلك العقد كان موقوفًا، وإن العبد صار ملكًا لي بالهبة فطرأ الملك البات على الملك الموقوف فأوجب بطلان العقد الموقوف فصار مدعيًا انتقاض ما تم به فلم يصح، ولو مات صاحب العبد فورثه البائع وأقام بينة على أنه يثبت بينته على إقرار المشتري بطلان حقه ولا يريد إبطال ما أوجبه بل يقول: أوجبت البيع وألزمت التسليم إلا أن المشتري نقض وأبطل ما أوجبت البيع له فانعدم التناقض من جهة البائع، والمشتري في دعوى النقض في هذه الفصول بمنزلة البائع؛ لأنه أحد المتعاقدين، وإن حضر صاحب العبد من المشتري كان له ذلك؛ لأن العبد كان مملوكًا له لو خرج عن ملكه إنما يخرج إذا حصل البيع من البائع بأمره، وقوله في إنكار الأمر مقبول إذا لم يبين منه ما يجعله متناقضًا في إنكار الأمر فلم يثبت الأمر فبقي العبد على ملكه كما كان فكان له أن يأخذ العبد وعليه اليمين إن طلب المشتري ذلك لاحتمال النكول، وإن كان المشتري غائبًا فلا سبيل له على العبد؛ لأن العبد في يد المشتري حقيقة وقد صار مملوكًا له ظاهرًا؛ لأنا حكمنا بصحة البيع ظاهرًا؛ لأنه إنما اشتراه بناءًا على ظاهر الوكالة فلابد من نقض العقد وإبطال يد المشتري ليتمكن المولى من أخذه، وفي ذلك قضاء على الغائب وأنه لا يجوز، ولكن للمولى أن يضمّن البائع قيمة العبد؛ لأنه باعه بغير أمره وسلمه بغير أمره فوجب عليه قيمة العبد عند تعذر رد العبد كما في الغاصب إذا أبق المغصوب من يده، وللبائع أن يطلب يمين المولى، بالله ما أمره بالبيع لاحتمال النكول، فإن حلف أخذ قيمته وإن نكل بطل الضمان؛ لأنه صار مقرًا.
وكذلك لو أقام البائع بينة على صاحب العهد في هذه الصورة أنه أمره بالبيع قبلت بينته لأنه بهذه البينة يسقط الضمان عن نفسه فكان خصمًا فيه، وإن لم يجد بينة على ذلك وحلف الآمر فحلف حتى ضمن قيمة العبد للآمر سلم العبد للمشتري وكان الثمن للبائع؛ لأن البائع ملك بأداء الضمان فتبين أنه باع ملك نفسه وسلم ملك نفسه، ألا ترى أن الغاصب إذا باع المغصوب ثم ادعى الضمان نفد البيع وسلم العبد للمشتري كذا هذا.
فإن قيل: الملك بالضمان يستند إلى وقت وجوب الضمان، وسبب وجوب الضمان هو التسليم دون البيع والبيع كان سابقًا على التسليم فيستند الملك إلى وقت البيع فينبغي أن لا ينفذ البيع.
قلنا: الرواية محفوظة لمودع الوديعة وضمن القيمة للمودع أنه ينفذ بيعه.
وطريقة أنه وإن كان أمينًا في العين إلا أنه لما أشغل بالبيع وتبين لذلك جر القبض لنفسه فيصير ضامنًا بالقبض السابق على البيع، فعند أداء الضمان يثبت الملك له من ذلك الوقت، فكان ثبوت الملك سابقًا على البيع والتسليم فيفسد البيع كذا هنا.
ولو لم يحضر به العبد حتى مالت فورثة البائع ورجل آخر نصفين فأراد الوارث الآخر أن يأخذ نصف العبد وجحد الآمر المورث كان له ذلك؛ لأنه قام مقام الموروث في نصف العبد ولم يبق منه ما يجعله متناقضًا في جحود الأمر ولا ساعيًا في نقض ما تم به، ولكن يحلف أولًا بالله ما يعلم أن المورث أمر بالبيع إن طلب المشتري يمينه؛ لأنه قام مقام المورث.
ولو حضر المورث وجحد الأمر وطلب المشتري يمينه أن يحلف فكذلك هاهنا، إلا أن المورث يحلف على الثبات بالله ما أمرت بالبيع؛ لأنه يحلف على فعل نفسه والوارث يحلف على العلم؛ لأنه يحلف على فعل الغير، فإذا حلف، إن نكل صار مقرًا للأمر فلا يكون له على العبد سبيل ولكن يأخذ نصف الثمن لم يصر مقرًا بالأمر فكان له أن يأخذ نصف العبد.
ولو أراد البائع أن ينقض البيع في النصف الآخر ليس له ذلك لما قلنا من التناقض، والسعي في نقض ما تم به وكان للمشتري الخيار في النصف إن شاء أخذه بنصف الدين، وإن شاء رده؛ لأن الصفقة قد تغيرت عليه باستحقاق النصف، ودخله عيب الشركة فكان له الخيار لهذا، هذا الذي ذكرنا إذا اتفق البائع والمشتري يوم العقد أن العبد لفلان، فإذا لم يجز بينهما شيء من ذلك وقت العقد فقال البائع بعد بيع العبد: كان لفلان وقد بعتك بغير أمره وقال المشتري: لا أدري لمن كان هو فالقاضي لا يلتفت إلى قول البائع ولا ينقض البيع بينهما؛ لأن العقد قد صح من حيث الظاهر فيصير البائع بدعواه متناقضًا ساعيًا في نقض ما تم به فلا يصل ذلك منه وكذلك إذا حضر فلان المقر له وصدق البائع فيما أقر به وأراد أخذ العبد ليس له ذلك إلا ببينة يقيمها على ملكه أو يستحلف المشتري فنكل بخلاف الوجه الأول؛ لأن في الوجه الأول البائع مع المشتري اتفقا على كون العبد ملكًا لفلان فجاز أن يعتبر قوله في إنكار الأمر، أما هاهنا اتفقا على كون العبد ملكًا لفلان ليعتبر قوله في إنكار الآخر إذا اعتبر قوله إنما يعتبر في دعوى الملك لنفسه، ودعوى الإنسان الملك لنفسه من غير حجة مردود، فإن لم يكن له بينة وحلف المشتري، فنكل ودفع العبد إلى المقر له رجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن البائع كان مقرًا بأن المبيع ملك المستحق وقد رجع المشتري إلى تصديقه بحكم النكول القائم مقام الأب فظهر أن البائع أخذ ما أخذ من الثمن بغير حق فكان للمشتري حق الرجوع عليه بالثمن، وإن لم يحضر المقر له حتى مات فورثه البائع، أن البائع أقام بينة أن العبد كان ملك الميت وقد بعته بغير أمره، ثم مات البائع وانتقض البيع لطروء الملك النافذ بحكم الإرث على ملك.
الموقوف فالقاضي لا يقبل بينته، ولو أراد أن يحلف المشتري على ذلك لا يحلف؛ لأن الدعوى منه لم تصح فكان التناقض والسعي في بعض ما تم به، فلا يترتب عليه سماع البينة والتحليف، وإن مات المقر له ورثه البائع ورجل آخر، فأقام الوارث الآخر بينة أن العبد كان لفلان الميت مات وتركه ميراثًا بيني وبينه، وأنه باع بغير أمره وصحح الميراث منه وقبل ذلك لعدم التناقض يقضي له بنصف العبد ولا يقضي بنصف البائع؛ لأنه لو قضى به البائع لا يصلح خصمًا في ذلك، ودعواه فيه فاسدة فيه كيف يصح القضاء به للبائع والبائع لا يصلح خصمًا فيه، ثم يسأل القاضي المشتري العبد كان للمقر، فإن قال: كان للميت وقد كان أمر البائع بالبيع فالقاضي لا يقضي بالبيع في النصف الباقي؛ لأن المشتري مع البائع تصادقا أن العبد كان للميت وقد كان أمر البائع بالبيع فالقاضي لا يقضي بالبيع في النصف الباقي؛ لأن المشتري مع البائع تصادقا أن العبد كان للميت، وأن البيع حصل بأمر المشتري يقر بالأمر صريحًا والبائع يقر بذلك مقتضي الإقدام على البيع، فإن إقدامه على البيع ولا يصح البيع في ملك الغير إلا بإذنه فقد تصادقا على الأمر، وعلى صحة البيع، ولكن تصادقهما يعمل في حقهما ولا يعمل في حق الوارث الآخر، فكان للوارث الآخر أن يأخذ نصيبه وبقي البيع في نصيب البائع.
فإن قال: ينتقض البيع في نصيب البائع لحقه، ولكن لو أراد المشتري أن ينقض البيع فيه لتفرقة الصفقة وبدخول عيب الشركة فيه كان له ذلك، وإن أقال المشتري البيع كان للبائع أن يسلم له شيء من العبد ونقض البيع في كل العبد؛ لأن الملك يثبت للعبد في جميع العبد بإقالة الوارث الآخر البينة على ذلك؛ لأن أحد الورثة يتنصب خصمًا عن الميت فيما يدعي للميت وصار البائع مستحقًا عليه بزعم المشتري، والشراء من المستحق عليه باطل فلهذا نقض البيع في الكل، قال ولو لم يمت رب العبد ولكن أقال، ثم أمر البائع بالبيع وأشهد على ذلك شهودًا، لو كان ذلك في غير مجلس القضاء، ووكل البائع بخصومة المشتري في ذلك لم يكن البائع وكيلًا؛ لأنه يصير ساعيًا في بعض ما تم به، إذ جحود صاحب العبد في غير مجلس القضاء غير معتبر، فلا يصح ذلك منه، واستشهد في (الكتاب) أن الشيء في نقض ما تم من جهته مردود.
فقال: ألا ترى أن بائع الدار إذا كان شفيع الدار وأراد أن يأخذها بالشفعة ليس له ذلك، وذلك لأجل أنه يسلم الشفعة مباشرة العقد بدليل أن المشتري إذا كان شفيعًا كان له حق الأخذ، وإن كان باشر العقد ولكن إنما كان ذلك؛ لأن البائع في نقض ما تم به والمشتري ليس ببائع في نقض ما تم به.
قال في (الكتاب) أيضًا: ألا ترى أن البائع لا يصح وكيلًا عن الشفيع في طلب الشفعة، وإنما لم يصح لما قلنا، وهو السعي في نقض ما تم به.

.نوع آخر:

رجل اشترى من رجل بيتًا بألف درهم وتقابضا، ثم ادعى المشتري أن الطيسلان كان لابنه يوم اشترى، فإن أباه مات وترك ميراثًا له لا وارث له غيره وأراد الرجوع على البائع بالثمن لم يسمع دعواه وأقام على ذلك بينة لم تقبل بينته؛ لأنه بالإقدم على الشراء صار شراء بالملك للبائع على رواية (الجامع)، وعلى رواية (الزيادات) صار مقرًا بصحة الشراء على الروايات كلها فبدعواه للأب والإرث من جهته يصير متناقضًا ساعيًا في نقض ما تم به فلا تصح دعواه ولا تقبل بينته، ولو كان الأب حيًا وادعى الطيلسان لنفسه، وأقام على ذلك بينة تصح دعواه قبلت بينته بعد ذلك، فورث الأب الطيلسان سلم له، ولم يكن للبائع على الطيلسان سبيل.
أما على رواية (الجامع)؛ فلأنه وإن صار مقرًا بملك الطيلسان للبائع ولكن إقراره حصل في ضمن الشراء وقد بطل الشراء بالقضاء بالطيلسان للأب فبطل الإقرار الحاصل في ضمنه، وعلى رواية (الزيادات) المشتري صار مقرًا بصحة الشراء لا يملك الطيلسان للبائع إلا أن القاضي لما قضى بالطيلسان للأب تبين أن الشراء لم يكن له حق البيع فصار مكذبًا في إقراره فالتحق بالعدم.
وكذلك لو قضى القاضي بالملك للأب فلم يقبضه الأب حتى مات فورثه الأب كان الطيلسان له ميراثًا؛ لأن الملك تقرر للأب بقضاء القاضي، فلا يبطل بالموت للأب، وإن كان القاضي لم ينقض للأب بالطيلسان حتى مات بطلت البينة، ولم يكن له على البائع سبيل؛ لأن دوام الخصومة إلى وقت القضاء شرط صحة القضاء وقد انقطعت خصومة الأب بالموت، والابن لا يصلح خصمًا لكونه متناقضًا، فإن كان الأب قد ترك ابنًا آخر غير هذا المشتري كان هو على حجته يعني في البينة التي أقامها الأب في البينة التي بينها بنفسه؛ لأنه لم يسبق منه ولا من أبيه ما يوجب المناقضة ولكن القاضي إنما يقضي بنصف الطيلسان، وذلك حصته وكان ينبغي أن يقضي تلك الطيلسان؛ لأن أحد الورثة ينتصب خصمًا عن الميت في جميع ما يدعي له كما ينتصب خصمًا عنه في جميع ما يدعي عليه، ولو كان الميت حيًا ليس له أن يقضي بكل الطيلسان كذا هاهنا.
وجوابه: أن القضاء يقع للوارث من وجه من حيث أن الملك في العين يثبت للوارث ويقع للمورث من وجه فمن حيث إنه يقع للمورث يصلح الابن الآخر خصمًا في النصف الآخر ومن حيث إنه يقع للوارث ففي نصيب الصلح يصير خصمًا إذ لا مناقضة فيه، وفي نصيب الابن المشتري يكون نائبًا عنه فلا يصلح خصمًا، كما لو كان الابن المشتري حاضرًا.
ولو كان حاضرًا بنفسه لا يسمع خصومة فكذلك هاهنا فامتنع القضاء به، ثم إذا قضى القاضي بالنصف للابن الآخر والابن المشتري بالخيار في النصف الباقي؛ لأن بعض المبيع استحق من يده، فإن اختار امساكه لزمه نصف الثمن، وإن اختار رده لا يلزمه شيء ولو كان المشتري أقر عند البيع صريحًا أن الطيلسان للبائع، ثم اشتراه منه، ثم استحق الطيلسان والد المشتري وقضى القاضي له بالطيلسان، ثم مات الوالد فورث الابن الطيلسان منه فهذا على وجهين.
إن لم يرجع الابن المشتري بالثمن على البائع سلم الطيلسان للابن المشتري فلا رجوع له بالثمن على البائع؛ لأن المشتري لما أقر بالملك للبائع صريحًا فقد أقر أن البيع كان صحيحًا فهذا الإقرار منه لم يبطل في حقه بقضاء القاضي؛ لأن في زعمه أن الشهود شهدوا بزور وأن القاضي أعطاه في قضائه فحين مات الأب سلم الطيلسان له بجهة البيع لا بجهة الإرث فلا يكون له حق الرجوع على المشتري بالثمن بخلاف الوجه الأول، وهو ما إذا لم يكن أقر الابن المشتري بالملك للبائع صريحًا؛ لأن الإقرار هناك يثبت في ضمن الشراء وقد بطل الشراء بقضاء القاضي فيبطل ما يثبت في ضمنه فسلم الطيلسان للأب بحكم الإرث لا بحكم البيع، فكان له أن يرجع بالثمن على بائعه وإن كان الابن قد رجع على البائع بالثمن قبل موت المورث، ثم مات الأب، وورث الابن الطيلسان ليس له ذلك ويرد الثمن على البائع؛ لأن البائع مع المشتري وإن تصادقا أن البيع قد صح، وأن القاضي أخطأ في قضائه إلا أن المشتري لما رجع على البائع بالثمن فقد رضي بانفساخ البيع وإنفسخ العقد في حقه فلا يكون له أن يلزم البائع بالبيع وقد انفسخ العقد في حقه ولكن البائع بالخيار، إن شاء استرد الطيلسان وترك الثمن في يد المشتري؛ لأن البيع لم ينفسخ في حق البائع برجوع المشتري عليه بالثمن؛ لأنه يلزم لكن راضيًا بالفسخ.
ألا ترى أنه احتيج فيه إلى قضاء القاضي بل يوقف على إجازته، فإن شاء أجاز الفسخ وأخذ الطيلسان على المشتري واسترد الثمن قبل هذا على قول محمد؛ لأن قضاء القاضي بالفسخ لم ينفذ باطنًا عنده فكان البائع بالخيار، إن شاء أبطله، فأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر فقضاء القاضي بالفسخ نفذ باطلًا فلا يكون للبائع الخيار، فيأخذ الطيلسان من المشتري ليترك الثمن عليه.
وإن كان الرجوع بالثمن بغير قضاء القاضي فالثمن يسلم للمشتري ويؤمر برد الطيلسان على البائع؛ لأن العقد قد انفسخ فيما بينهما بتراضيهما فيسلم الثمن للمشتري ويؤمر المشتري برد الطيلسان على البائع؛ لأن المشتري قد كان أقر صريحًا أن الطيلسان للبائع ولم يبطل هذا الإقرار فيؤمر بتسليم الطيلسان إليه لهذا.

.نوع آخر فيه من المسائل المتفرقات:

قال أبو يوسف: رجل ادعى عبدًا في يدي رجل أنك بعتني هذا العبد ونقدتك الثمن وهو ألف درهم، وحجة البائع البيع وقبض الثمن فشهد شاهدان على إقراره بالبيع وقبض الثمن، وقالا: لا نعرف العبد ولكنه قال: إن عبدي زيد وشهد آخران هذا العبد اسمه زيد أو شهدا على إقرار البائع على هذا العبد اسمه زيد فالبيع لا يتم بهذه الشهادة ويحلف البائع، وإن حلف رد الثمن، وإن نكل عن اليمين لزمه البيع بنكوله.
وإن شهد شاهدا البيع أنه باع عبده زيد المولد ونسبه إلى شيء يعرف من عمل أو صناعة أو حلية ذلك هذا العبد فهذا والأول سواء في القياس، إلا أني استحسن إذا نسبوه أمر معروف أن أجيزه وكذلك الأمة.
وسئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله: عمن اشترى من آخر أرضًا على أنها..... وامتنع المشتري عند نقد الثمن لعلة أنه أنقص والبائع يقول بعتها كما هي، فإن القول قول البائع مع اليمين فيما أنكر من شرط الجرتبين معنى المسألة أن المشتري قال: اشتريتها على أنها...... وأنكر البائع شرط الجربين فالقول قول البائع، وإن حلف أحد تمام الثمن وإن نكل وأقام البينة للمشتري على شرط الجربين قال: بعد هذا القول قول المشتري مع اليمين أنها ليست جربين، فإن حلف فله ردها وليس للمشتري أن يتربص أن يسمح بل ينقد تمام الثمن، وإذا اختلف البائع والمشتري فادعى المشتري بيعًا بائنًا والبائع يدعي بيع الوفاء فالقول قول البائع؛ لأن المشتري يدعي زوال ملك البائع عنه وهو ينكر.
وإن أقاما البينة فالبينة بينة المدعي الوفاء؛ لأنها أكثر إثباتًا؛ لأنه خلاف الظاهر في الساعات.
فإن قيل: أليس أن بيع الوفاء اعتبر في الحكم رهنًا، وفي الاختلاف في الرهين البيع البيع أولى؛ لأنه يزيل الملك فكانت البينة عليه إثباتًا.
قلنا: ليس هذا تم ظاهرًا بل له حكم الرهن بعد ثبوته فلابد من اعتبار ظاهر الكلام أولًا وكلاهما بيع وأحدهما ظاهر والآخر خلاف الظاهر فكان فيه زيادة فكان أولى، وكذلك إذا ادعى أحدهما البيع والصلح عن غير طوع، وادعى الآخر عن طوع، فأقام البينة على ما ادعيا فبينة مدعي الكره أولى.
وكذلك إذا ادعى أحدهما إقرار بدين كذا طائعًا، والآخر يدعي على إكراه أو كانت البينة بينة من يدعي الإكراه، والقول في هذه المسائل قول من يدعي الطوع، ذكر هذه المسائل في (مجموع النوازل) وقد تقدم في مسألة بيع الوفاء أن القول قول من يدعي الوفاء وهو البائع، وقد ذكر جنس هذه المسائل قبل هذا في فصل الاختلاف الواقع مع المتعاقدين.

.الفصل الثاني والعشرون: في السلم:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.نوع منه في بيان شرائط السلم:

فنقول: للسلم شرائط كثيرة:
أحدها: بيان جنس المسلم فيه كقولنا تمرزلا.
والثاني: بيان نوعه كقولنا فارسي أو ما أشبهه.
والثالث: بيان صفته كقولنا جيد أو رديء.
والرابع: بيان قدره في المكيلات بالكيل والموزونات بالوزن والمعدودات بالعد لأن بدون بيان هذه الأشياء يقع بينهما منازعة من التسليم والتسلم، أما إذا لم يبينا الجنس، فإن المسلم فيه أجناس مختلفة فالمسلم فيه ربما يعطي جنسًا، ورب السلم يطالبه بجنس آخر وليس الرجوع إلى قول أحدهما بأولى من الآخر؛ لأنهما متعاوضان وقضية المعاوضة التساوي، وأما إذا لم يبينا النوع والصفة؛ فلأن المسلم فيه يختلف باختلاف النوع وصفته فتعين كل واحد منهما نوعًا آخر وصفة أخرى، وأما إذا لم يبين المقدار؛ فلأن كل واحد منهما يعين المقدار غير ما يعين صاحبه، وينبغي أن يعلم مقداره بمعيار يؤمن فقده من أيدي الناس، ولو علم قدره بمكيل بعينه نحو أن يقول بهذه الإناء بعينه أو بهذا الزنبيل أو بوزن هذا الحجر لا يجوز إذا كان لا يعرف كم يسع في الإناء ولا يعرف وزن للحجر، وبيع العين يخالف بيع السلم هذا في المشهور.
فإن من قال لغيره: بعت منك من هذه الصبرة بهذه الزنبيل أو بوزن هذا الحجر جاز في المشهور من الرواية؛ لأن التسليم في باب السلم لا يعقب العقد، وإنما يكون بعد حلول الأجل، ومن الجائز أن يهلك ذلك الإناء الحجر قبل حلول الأجل فلا يدري كم يجب تسليمه، فأما في بيع العين السلم يعقب العقد، وأنه لا يهلك في هذه الساعة الطبيعة غالبًا فلا تتمكن الجهالة.
وكذا في الذرعيات ينبغي أن يعلم قدر يؤمن فقده من أيدي الناس وإن أعلمه بخشبة بعينها ولا يدري كم هي أو بذراع مده أو يد فلان لا يجوز.
الشرط الخامس: أن يكون المسلم فيه مؤجلًا بأجل معلوم حتى إن سلم الحال لا يجوز وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: الأجل ليس بشرط لجواز السلم والصحيح مذهبنا؛ لأن جواز السلم عرف بخلاف القياس بالنص والنص جوزه بشرط الأجل قال عليه السلام: «من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم»، واختلفت الروايات في الأجل الذي لا يجوز السلم بدونه.
ذكر ابن أبي عمرو أن البغدادي أستاذ البخاري قال: إنه مقدر بثلاثة أيام فصاعدًا قال: وهو قول أصحابنا رحمهم الله عن أبي الحسن الكرخي أنه ينظر إلى مقدار المسلم فيه وإلى عرف الناس في تأجيل مثله، فإن كان شرط أجلًا يؤجل لمثله في العرف والعادة تجوز السلم ومالا فلا، وعن أبي بكر الرازي رحمه الله أنه قال: أقل مقدار يتعلق به جواز السلم أن يكون زائدًا على مجلس العقد ولو بساعة، وعن محمد أنه أدناه بالشهر فصاعدًا وعليه الفتوى.
الشرط السادس: أن يكون المسلم فيه موجودًا من وقت العقد إلى وقت محل الأجل حتى أن السلم في المنقطع لا يجوز وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي: الشرط وجوده وقت محل الأجل لا غير، والصحيح مذهبنا؛ لأنه أسلم فيما هومعجوز التسليم في الحال فلا يجوز كما لو حصل محل الأجل قبل إدراك المسلم فيه.
بيانه: أن العجز ثابت في الحال لو ارتفع العجز إنما يرتفع بسبب قيام الأجل إلى وقت الإدراك، ألا ترى أنه لو جعل محل الأجل قبل ذلك لا يجوز.
قلنا: وقيام الأجل وقت الإدراك ثابت باستصحاب الحال لا بدليل يوجب بقاؤه بيقين لجواز أنه سقط قبل ذلك لها بإسقاط من له الأجل أو بموته، واستصحاب الحال يصلح لإثبات ما كان ثابتًا ولا يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتًا إلا لضرورة ولا ضرورة هاهنا؛ لأنه يمكنه أن يقبل السلم في المنقطع وإذا لم يثبت القدرة بسبب قيام الأجل الثابت باستصحاب الحال حصل السلم في معجوز الحال، وفي الثاني: وليس كما لو كان موجودًا عند العقد؛ لأن القدرة ثابتة في الحال بيقين لوجوده في أيدي الناس فجاز العقد لثبوت القدرة في الحال ولم يمتنع الجواب لتوهم زوالها بعارض يستمر إذا كان المسلم فيه موجودًا من وقت العقد إلى وقت محل الأجل، حتى جاز السلم فلم يأخذه رب السلم بعد محل الأجل حتى انقطع، فصاحب السلم بالخيار، ان شاء فسخ العقد وأخذ رأس ماله وإن شاء انتظر وجوده؛ لأن العقد وقع صحيحًا وقد عجز المسلم إليه عن تسليم المعقود عليه، فكان لرب السلم أن يفسخ العقد ويرجع برأس ماله، وحد الانقطاع ما ذكر الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله أن لا يوجد في السوق الذي تباع فيه، وإن كان يوجد في الثبوت.
الشرط السابع: أن يكون المسلم فيه يتعين بالتعيين حتى لا يجوز السلم في الأثمان نحو الدراهم المضروبة والدنانير المضروبة؛ لأن المسلم فيه يجب أن يكون مبيعًا؛ لأن السلم شرع بطريق الرخصة، والرخصة باستباحة المحضور مع قيام الحاضر فاستباحة الشيء مع قيام الحاضر بخلاف القياس، فالتنصيص على الرخصة في السلم تنصيص على أن السلم بخلاف القياس، وإنما يكون جواز السلم بخلاف القياس أن لو كان المسلم فيه مبيعًا، فأما إذا كان ثمنًا كان جوازه على مواقعة القياس؛ لأن البيع بالثمن والثمن ليس في ملكه بجائز قياسًا واستحسانًا، فلا يجوز السلم في التبر على رواية كتاب الصرف لا يجوز؛ لأن على رواية كتاب الصرف التبر ثمن، وعلى رواية كتاب الشركة يجوز؛ لأن على رواية كتاب الشركة التبر مبيع.
الشرط الثامن: أن يكون المسلم فيه من الأجناس الأربعة من المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة والذرعيات، حتى لا يجوز السلم في الحيوإن هذا مذهبنا، وإنما كان كذلك؛ لأن الحيوان متفاوت في نفسه، فإنك تجد حيوانين (متساويين) في الجنس والصفة والنوع، ثم يختلفان في القيمة اختلافًا فاحشًا لتفاوت بينهما في المعاني الباطنة من الهماجة وحسن السير وما أشبه ذلك، ولهذا لا يضمن الحيوان في الإتلاف بمثله وما كان بهذه الصفة لا يجب دينًا في الذمة بدلًا عما هو مال، إما لأنه يفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم أو؛ لأن الواجب في الذمة يفضي بالمثل بلا زيادة ونقصان كضمان الإتلاف، وإذا كان المماثلة شرطًا بين الواجب والمؤدى وإنها لا توجد في الحيوان أدى إلى الربا، إلى هذا أشار عمر رضي الله عنه في قوله: فإن من الربا صوبًا لا يكذب.
... على أحد منهما السلم في السن أي السلم في الحيوان، فقد جعل السلم في الحيوان من الربا، وإنما يتحقق الربا في السلم في الحيوان من الوجه الذي قلنا كان القياس أن لا يجوز السلم في النبات أيضًا؛ لأنها ليست من ذوات الأمثال، فيؤدي إلى الربا أيضًا على نحو ما بينا في الحيوان، لكن تركنا القياس ثمة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه سئل عن السلم في الكراس، فقال: «لا بأس به إذا كان ضربًا معلومًا إلى أجل معلوم» والنص الوارد في النبات بخلاف القياس لا يكون واردًا في الحيوان؛ لأن في الحيوان نصًا آخر بخلافه، وهو حديث عمر رضي الله عنه.
الشرط التاسع: بيان مكان الإيفاء إذا كان المسلم فيه شيئًا له حمل ومؤنة كالحنطة وغير ذلك، وهذا قول أبي حنيفة آخرًا، وكان أبو حنيفة لا يقول ببيان مكان الإيفاء ليس بشرط، ولكن إن ببيان مكان الإيفاء يتعين ذلك المكان للإيفاء، وإن لم يبينا مكانًا بتعين مكان العقد للإيفاء لا يتعين مكان العقد للإيفاء، بل بقي مكان الإيفاء مجهولًا.
وأجمعوا أن مكان العقد يتعين لإيفاء رأس المال، وأجمعوا على أن بيع العين إذا كان المبيع حاضرًا في مجلس العقد يتعين مكان العقد لإيفاء المبيع، وأجمعوا على أن في مكان القرض والغصب والاستهلاك يتعين للإيفاء.
وعلى هذا الخلاف إذا باع عبدًا حاضرًا بكر حنطة دينًا في الذمة إلى أجل عند أبي حنيفة آخرًا يشترط بيان مكان الإيفاء للحنطة هو الصحيح، وعندهما يتعين مكان العقد للإيفاء. وعلى هذا الخلاف إذا قسم الرجلان دارًا على أن يرد أحدهما كرًا مؤجلًا في الذمة على صاحبه عند أبي حنيفة رحمه الله آخرًا يشترط بيان مكان الإيفاء للحنطة لصحة القسمة هو الصحيح، وما ذكر في كتاب القسمة مجهول على قوله الأول، وعندهما: يتعين مكان القسمة للإيفاء.
وعلى هذا الخلاف إذا أجر داره بما له حمل ومؤنة عند أبي حنيفة رحمه الله آخرًا يشترط بيان مكان الإيفاء لصحة الإجارة، وعندهما: يتعين مكان الدار للإيفاء.
وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في المسألة: أن سبب التزام الكر السلم، فيتعين مكان السلم للإيفاء كما في الغصب والقرض وما أشبه ذلك، وهذا؛ لأن العقد عقد معاوضة والمعاوضة تقتضي التساوي، فإذا وجب تسليم أحد البدلين وهو رأس المال في مكان العقد يجب تسليم البدل الآخر فيه تحقيقًا للتساوي، ألا ترى أن بيع العين إذا كان المبيع حاضرًا في مكان العقد حتى وجب تسليم المبيع في مكان العقد يجب تسليم الثمن في مكان العقد، وإذا كان غائبًا عن مكان العقد حتى وجب تسليمه في المكان الذي فيه يجب تسليم الثمن في ذلك المكان ليستوي حكم البدلين كذا هاهنا، وإذا تعين مكان العقد للإيفاء كان مكان الإيفاء معلومًا، ولو فسد العقد هاهنا فسد لجهالة مكان الإيفاء.
ولأبي حنيفة: أن مكان العقد لو تعين مكان الإيفاء، أما إن تعين نصًا بالعقد أو ضرورة لا وجه إلى الأول؛ لأن العقد يتعرض للمكان أصلًا من حيث النص، ولا وجه إلى الثاني؛ لأن الضرورة إنما تتحقق إذا وجب تسليم المعقود عليه عقب العقد حتى يصير مطالبًا بالتسليم عقيب العقد، فيتعين مكان العقد للإيفاء ضرورة وجوب التسليم عليه في مكان العقد، وفي هذه المسائل التي ذكرناها لم يجب تسليم العقد عليه عقيب العقد، فلم يصر مطالبًا بالتسليم في مكان العقد، فلا يتعين مكان العقد للإيفاء، وإذا لم يتعين مكان العقد للإيفاء، ولم يعينا مكانًا آخر يبقى مكان الإيفاء مجهولًا وإنه يفسد العقد فيما له حمل ومؤنة لمكان المنازعة، وأما إذا كان المسلم فيه شيئًا ليس له حمل ومؤنة لا يشترط بيان مكان الإيفاء بالإجماع.
وهل يتعين مكان العقد للإيفاء؟ ذكر في بيوع (الأصل) وفي (الجامع الصغير) ما يدل على أنه يتعين عندهم جميعًا، وذكر في كتاب الإجارات ما يدل على أنه لا يتعين عندهم جميعًا، وإن بينا مكانًا آخر للإيفاء فيما ليس له حمل ومؤنة هل يتعين ذلك المكان للإيفاء؟ وذكر في كتاب الإجارات أنه لا يتعين، وذكر الطحاوي أنه يتعين، وإليه أشار محمد في (الأصل).
الشرط العاشر: قبض رأس المال في المجلس سواء كان رأس المال شيئًا يتعين بالتعيين أو لا يتعين، إنما كان كذلك لأن السلم عقد جوز بخلاف القياس إلى رأس المال، فإذا افتراقا من غير قبض رأس المال يتبين أنه لا حاجة فيعمل فيه بالقياس، فقد ذكر قبض رأس المال والمجلس، وقبض رأس المال في المجلس ليس بشرط لا محالة، وإنما الشرط القبض قبل افتراقهما بالأبدان ألا ترى أن ما ذكر في (النوادر) لو تعاقدا عقد السلم ومشيا ميلًا أو أكثر ولم يغب أحدهما عن صاحبه، ثم قبض رأس المال فافترقا جاز.
وفي (النوادر) أيضًا: لو ناما أو نام أحدهما لم يكن ذلك فرقة، وفيه أيضًا: إن أبى المسلم إليه قبض رأس المال في المجلس أجبر عليه.
الشرط الحادي عشر: إعلام قدر رأس المال في المقدرات نحو المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة، فإن كان مشارًا إليه ليس بشرط حتى أن من قال لغيره: أسلمت إليك هذه الحنطة في كذا منٍ من الزعفران لا يعرف قدر الحنطة لا يجوز على قول أبي حنيفة، وأجمعوا على أن رأس المال إذا كان شيئًا ذرعيًا أو حيوانًا أو شيئًا من العدديات المتقاربة أنه يصير معلومًا بالتعيين والإشارة، وأجمعوا أن في بيع العين الثمن يصير معلومًا بالإشارة إليه والتعيين، ولا يحتاج إلى إعلام قدره، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن الدراهم قلما تخلو عن الزيف، وقد يرد الاستحقاق على بعضها، فإذا رد الزيف ولم يستبدل في المجلس، إن استحق بالبعض فسخ العقد بقدره، فإذا لم يعلم مقداره لا يدري في أي قدر نفي العقد، وفي أي قدر انفسخ، أكثر ما في الباب أن هذه أمور موهومة إلا أن الأصل في السلم عدم الجواز، وإنما جوز إذا وقع الأمن عن الغرر من كل وجه، وإنما يقع الأمن عن الغرر من كل وجه بإعلام رأس المال، وبه فارق ما إذا كان رأس المال ثوبًا بعينه حيث لا يشترط بيان ذرعانه؛ لأن الذرعان في الثياب تجري مجرى الوصف بعد الإشارة ليس بشرط.
وينبنى على هذه المسألة إذا أسلم عشرة دراهم في سنتين ولم يبين حصة كل واحد منهما أن كانا مختلفي الجنس بأن أسلم (في) هروي ومروي أو أسلم في حنطة وشعير أو كانا متفقي الجنس مختلفي الصفة بأن أسلم في هرويين أحدهما جيد والآخر رديء لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله ما لم يبين حصة كل واحد منهما، وإن كانا متفقي الجنس والصفة بأن أسلم في هرويين جيدين، القياس على قول أبي حنيفة: أن يشترط بيان حصة كل واحد منهما، وفي الاستحسان: لا يشترط بيان حصة كل واحد بالإجماع قياسًا واستحسانًا.
الثاني عشر: أن يكون رأس المال منتقدة عند أبي حنيفة رحمه الله أن غيره كرها خلافا لهما، بأن ترك الانتقاد يؤدي إلى فساد السلم على ما عليه غالب دراهم الناس، فإما لا يخلو عن الزيوف حتى لم ينقده ربما يجده أكثره زيوفًا فيرده، وينفسد السلم في قدر المردود استبدل مثله خيارًا في مجالس الرد، أو لم يستبدل والاحتراز عن هذا الفساد يمكن (عند) الالتقاء ويكون شرطًا عند أبي حنيفة رحمه الله.
الشرط الثالث عشر: أن يكون عقد السلم باتًا لا خيار فيه، فإذا عقد عقد السلم بشرط الخيار لهما أو لأحدهما، فالسلم فاسد إلا إذا أبطل صاحب الخيار خياره قبل التفرق بالأبدان ورأس المال قائم في يد المسلم إليه، فحينئذ ينقلب العقد جائزًا. ولو كان رأس المال هالكًا في يد المسلم إليه وقت إبطال الخيار لا ينقلب العقد إلى الجواز.
الشرط الرابع (عشر): أن يكون ما جعل مسلمًا فيه مضبوطًا بالوصف على الوجه الذي يذكر الوصف بذوات الأمثال حتى قالوا ما كان مضبوطًا بوصفه معلومًا بقدره موجودًا من وقت أجله يجوز السلم فيه ومالا فلا.

.نوع آخر في بيان ما يجوز السلم فيه وما لا يجوز:

إذا أسلم ثوبًا هرويًا في ثوب مروي لا يجوز، وإذا أسلم قفيز حنطة في قفيز شعير لا يجوز أيضًا، والأصل في جنس هذه المسائل معروفة، علة الحرمة في ربا النقد، وفي ربا النساء، فنقول ربا النقد يحرم بوصفين وهو القدر والجنس، ومعنى القدر الكيل في المكيلات والوزن في الموزونات، وربا النساء يحرم بأحد وصفي علة ربا النقد، وهو الجنس بثمنين بأن أسلم هرويًا في ثوب هروي أو الوزن أو الكيل في مثمنيين أو ثمنين حتى إنه إذا أسلم قفيز حنطة أو قفيز شعير لا يجوز لوجود الكيل في مثمنيين.
وكذا إذا أسلم دراهم في الذهب لا يجوز لوجود الوزن في ثمنين، وإذا أسلم في الحديد في الزعفران لا يجوز لوجود الوزن في مثمنين، فإذا أسلم الدراهم في الزعفران يجوز؛ لأنه لم يوجد الوزن في مثمنين أو ثمنين إنما وجد في ثمن ومثمن.
ولا بأس بأن يسلم الفلوس في الحديد والرصاص وما أشبهه؛ لأنه لم يجمعهما أحد وصفي علة الربا النقد وهو الوزن أو الجنس.
وإذا أسلم الفلوس في الصفر لا يجوز؛ لأن جمعهما الجنسية والمراد من الفلوس الفلوس الرائجة، أما لو كانت كاسدة لا يجوز إسلامها في الحديد والرصاص؛ لأنها بالكساد صارت وزنية، فيكون هذا إسلام الموزون وهما مثمنان. ولو أسلم النصل في الحديد لا يجوز لمكان الجنسية، وكذا السيف في الحديد، وإن أسلم السيف في الصفر يجوز إذا كان السيف يباع وزنًا لا يجوز؛ لأن في الوجه الثاني جمعهما الوزن وفي الوجه الأول لا.
وإذا أسلم الدراهم في المكيلات وزنًا وأسلم الدراهم في الوزنيات كيلًا، ومعناه: وإذا أسلم فيما ثبت كيله بالنص وزنًا أو أسلم فيما يثبت وزنه كيلًا وروى الحسن في (المجرد) عن أصحابنا رحمهم الله أنه يجوز، وذكر الطحاوي عن أصحابنا أنه لا يجوز، فصار فيه روايتان.
وفي (المنتقى) ذكر قول أبي حنيفة ومحمد فيما إذا أسلم في المكيل وزنًا في طرف عدم الجواز، وقول أبي يوسف في طرف الجواز. واتفقت الروايات عن أصحابنا أن ما يثبت كيله بالنص لا يجوز بيعه بجنسه وزنًا، وإن تماثلا وزنًا كالحنطة بالحنطة وأشباهها؛ لأن الشرع ورد فيها بالجواز بشرط التماثل في الكيل، قال: وفي (فتاوى أهل سمرقند) لو علم أنهما تماثلًا كيلًا يجوز، وكذا بيع الدقيق بالدقيق وزنًا لا يجوز إن تماثلا في الوزن؛ لأن الدقيق كيلي حتى لو علم أنهما تماثلًا كيلًا يجوز، وفيه أيضًا: وما ثبت وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه كيلًا كالدراهم بالدراهم كيلًا إلا رواية شاذة عن أبي يوسف رحمه الله قال: يجوز إذا اعتاد الناس ذلك.
والحاصل: أن ما ثبت كيله بالنص فهو مكيل أبدًا، وما ثبت وزنه بالنص فهو موزون أبدًا، وما لا نص فيه ولكن عرف كونه مكيلًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعرف أصل زمانه فهو مكيل أبدًا، وإن تعارف الناس بيعه وزنًا في زماننا، وما عرف كونه موزونًا في تلك الوقت فهو موزون أبدًا، وما لم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعتبر فيه عرف الناس في زماننا، إن تعارفوا كيله فهو مكيل، وإن تعارفوا وزنه فهو موزون، وإن تعارفوا كيله ووزنه فهو مكيل وموزون، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وقال أبو يوسف: المعتبر في جميع الأشياء عرف الناس في زماننا، عرف ذلك بالنص مكيلًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو موزونًا أو لم يعرف، وما ثبت كيله أو وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه مجازفة.
وإن تبايعا صبرتين مجازفة، ثم كيلا بعد ذلك فكانتا متساويين لم يجز العقد عندنا؛ إذ المعتبر في جواز العقد العلم بالمساواة وقت العقد، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في (شرحه) في آخر الباب الأول من كتاب البيوع.
وإذا أسلم في اللبن في جبنه كيلًا أو وزنًا معلومًا إلى أجل معلوم جاز؛ لأن كون اللبن مكيلًا أو موزونًا غير ثابت بالنص، ولم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أيضًا، فتكون العبرة فيه للعرف، والناس اعتادوا بيعه كيلًا ووزنًا، وكذلك الخل والعصير نظير اللبن لما قلنا، ثم ذكر في اللبن جبنه قال شمس الأئمة رحمه الله: هذا في ديارهم؛ لأن اللبن كان ينقطع من أيدي الناس في بعض الأوقات، أما في ديارنا لا ينقطع فيجوز في كل وقت، والخل يوجد في كل وقت فلا يشترط الجبن، والعصير لا يوجد في كل وقت فيشترط السلم في جبنه في هذا الباب أيضًا.
وإذا شرط في السلم طعام قرية أو أرض خاصة لا يبقى طعامها في أيدي الناس فالسلم فاسد، وإن شرط طعام موضع يبقى طعامه كطعام خراسان وما وراء النهر يجوز؛ لأنه إذا كان لا يبقى طعامها في أيدي الناس لا تثبت القدرة على التسليم قطعًا أو شبهًا به وقت حلول الأجل، ولابد منها لجواز التسليم، وإذا كان طعامها يبقي تثبت القدرة على التسليم قطعًا أو شبهًا بالقطع ذكر المسألة في (الأصل).
وذكر في (الأصل) أيضًا: إذا أسلم في حنطة هراة خاصة وهي تنقطع من أيدي الناس لا يجوز، بخلاف ما لو أسلم في ثوب هروي حيث يجوز، قال عامة المشايخ: لم يرد بهذا هراة خراسان؛ لأن تلك بلدة عظيمة لا يتوهم انقطاع حنطتها عن أيدي الناس، وإنما أراد به قرية في الهراة تسمى هراة، فطعام تلك القرية مما يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس.
والحاصل: أن ما ثبت كيله بالنص فهو مكيل أبدًا، وما ثبت وزنه بالنص فهو موزون أبدًا، وما لا نص فيه ولكن عرف كونه مكيلًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعرف أصل زمانه فهو مكيل أبدًا، وإن تعارف الناس بيعه وزنًا في زماننا، وما عرف كونه موزونًا في تلك الوقت فهو موزون أبدًا، وما لم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعتبر فيه عرف الناس في زماننا، إن تعارفوا كيله فهو مكيل، وإن تعارفوا وزنه فهو موزون، وإن تعارفوا كيله ووزنه فهو مكيل وموزون، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وقال أبو يوسف: المعتبر في جميع الأشياء عرف الناس في زماننا، عرف ذلك بالنص مكيلًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو موزونًا أو لم يعرف، وما ثبت كيله أو وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه مجازفة.
وإن تبايعا صبرتين مجازفة، ثم كيلا بعد ذلك فكانتا متساويين لم يجز العقد عندنا؛ إذ المعتبر في جواز العقد العلم بالمساواة وقت العقد، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في (شرحه) في آخر الباب الأول من كتاب البيوع.
وإذا أسلم في اللبن في جبنه كيلًا أو وزنًا معلومًا إلى أجل معلوم جاز؛ لأن كون اللبن مكيلًا أو موزونًا غير ثابت بالنص، ولم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أيضًا، فتكون العبرة فيه للعرف، والناس اعتادوا بيعه كيلًا ووزنًا، وكذلك الخل والعصير نظير اللبن لما قلنا، ثم ذكر في اللبن جبنه قال شمس الأئمة رحمه الله: هذا في ديارهم؛ لأن اللبن كان ينقطع من أيدي الناس في بعض الأوقات، أما في ديارنا لا ينقطع فيجوز في كل وقت، والخل يوجد في كل وقت فلا يشترط الجبن، والعصير لا يوجد في كل وقت فيشترط السلم في جبنه في هذا الباب أيضًا.
وإذا شرط في السلم طعام قرية أو أرض خاصة لا يبقى طعامها في أيدي الناس فالسلم فاسد، وإن شرط طعام موضع يبقى طعامه كطعام خراسان وما وراء النهر يجوز؛ لأنه إذا كان لا يبقى طعامها في أيدي الناس لا تثبت القدرة على التسليم قطعًا أو شبهًا به وقت حلول الأجل، ولابد منها لجواز التسليم، وإذا كان طعامها يبقي تثبت القدرة على التسليم قطعًا أو شبهًا بالقطع ذكر المسألة في (الأصل).
وذكر في (الأصل) أيضًا: إذا أسلم في حنطة هراة خاصة وهي تنقطع من أيدي الناس لا يجوز، بخلاف ما لو أسلم في ثوب هروي حيث يجوز، قال عامة المشايخ: لم يرد بهذا هراة خراسان؛ لأن تلك بلدة عظيمة لا يتوهم انقطاع حنطتها عن أيدي الناس، وإنما أراد به قرية في الهراة تسمى هراة، فطعام تلك القرية مما يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس.
ثم اختلفوا فيما بينهم قال بعضهم: لا فرق بين مسألة الحنطة وبين مسألة الثوب؛ لأن محمدًا رحمه الله ذكر: إذا أسلم في حنطة هراة، وهو مما ينقطع عن أيدي الناس لا يجوز، وذكر إذا أسلم في ثوب هروي يجوز، ولم يذكر هو ينقطع عن أيدي الناس، ولو كان ينقطع من أيدي الناس لا يجوز، فعلى هذا يقع الفرق بين الثوب والحنطة. ومن المشايخ من فرق بين الحنطة والثوب، والفرق: أن نسبة الثوب إلى هراة لبيان جنس المسلم فيه لا لتعيين المكان؛ لأن الهروي ما ينسخ على صفة معلومة سواء نسخ على تلك الصفة بهراة أو غيرها يسمى هرويًا، وذلك الجنس مما لا يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس حتى (لو) كان هذا لتعيين المكان وثبات ذلك المكان مما يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس لا يجوز السلم أيضًا، فأما نسبة الحنطة إلى مكان لتعيين ذلك المكان، فإذا كان طعام ذلك الموضع مما يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس لا يجوز السلم فيه حتى لو كان نسبة الحنطة إلى مكان لبيان ذكر الصفة لا لتعيين المكان كالجسموإني ببخارى، فإنه يذكر لبيان الجودة لا يفسد السلم، وإن كان يتوهم انقطاع حنطة ذلك الموضع.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد رحمه الله: يجوز أن يسلم المروي البغدادي في مروي مرو؛ لأنهما جنسان، وكذلك المروي البغدادي في مروي الأهوازي ومروي الواسطي. وفي (نوادر هشام) قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله قال: «لا خير أن يسلم عن لا في قطن؛ لأنه وزني وكله»، وفي (الفتاوى): إذا أسلم قطن هروي في ثوب هروي جاز؛ لأنه عدمت المجانسة؛ لأن الثوب خرج من أن يكون قطنًا.
وفيه أيضًا: إذا أسلم شعرًا في مسح شعر، إن كان لا ينقص ذلك المسح ولا يصير شعرًا جاز؛ لأنه انعدمت المجانسة، وإن كان ينقص ويصير شعرًا لا يجوز؛ لأنه حتى شعرًا ألا ترى أنه يعود شعرًا؟.
وفي (المنتقى): إذا أسلم صوفًا في لبد وشعرًا في مسح أو خز في ثوب خز لا يجوز ولم يوصل. ولو أسلم غزلًا في ثوب جاز، وعلل فقال: لأن اللبد ينقض فيعود صوفًا، وكذلك الخز والمسح والثوب لا ينقض فيعود غزلًا، وعن أبي يوسف رحمه الله: لا بأس أن يسلم اللبن في الجبن، وعنه أيضًا: ويجوز أن يسلم السمن في الناطف وإن لم يخلط الناطف بالدقيق.
قال في (الجامع الصغير): لا (خير) بالسلم في الجوز (و) في البيض عددًا ووزنًا وكيلًا، ولا خير في سلم الرمان والسفرجل والبطيخ والقثاء وما أشبه ذلك؛ لأن الجوز والبيض عددي متفاوت والسلم في العدديات المتفاوتة جائز ولا كذلك الرمان والسفرجل؛ لأنه عددي متفاوت والسلم في العدديات المتفاوتة لا يجوز، والمتقارب ما نقل عن أبي يوسف رحمه الله أن كل ما يتفاوت آحاده في القيمة فهو عددي متفاوت وما لا يتفاوت في القيمة فهو عددي متقارب، ثم قال: يجوز السلم في الجوز والبيض عددًا، لم يشترط للجواز إعلام الصفة أنه جيد أو وسط أو رديء، قالوا: وذكر محمد رحمه الله في (الزيادات) أنه يجوز السلم في الجوز وإن لم يسم وسطًا ولا جيدًا، وأما البيض: إن بين بيض الأوز أو الدجاجة أو الحمام يجوز، وإن لم يسم وسطًا ولا جيدًا، فلم يجعل إعلام الصفة شرطًا للجواز في البيض والجوز؛ لأنه لما سقط إعلام القدر حتى جاز السلم فيها عددًا مع أن بين العددين تفاوت من حيث القدر، فلأن يسقط إعلام الصفة أولى.
وفي (المنتقى) عن أبي يوسف: ولا خير في السلم في الجوز الهندي وفي بيض النعام، وعنه أيضًا: (لو أسلم) بيض الأوز في بيض الدجاج أو أسلم بيض النعام في بيض الدجاج جاز، وإن أسلم بيض الدجاج في بيض النعامة أو أسلم بيض الدجاجة في بيض الأوز إن كان في حين يقدر عليه لا يجوز.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): ويجوز السلم في الفلوس عددًا، ذكر المسألة مطلقًا من غير ذكر خلاف، فمن مشايخنا من قال: إن جواز السلم في الفلوس قولهما؛ لأن ثمنية الفلوس عندهما قابلة للبطلان؛ لأن الفلوس إنما صار ثمنًا باصطلاح الناس، وإلا فهي سلعة في الأصل، وما ثبت باصطلاحهم على خلافه، فإذا أقدما على السلم فيها والسلم لا يجوز إلا في المثمن ذلك إبطالًا لاصطلاح الأول، فعادت سلعة، فيجوز السلم فيها، فأما على قول محمد رحمه الله: ينبغي أن لا يجوز لا يعتبر الفلس ثمنًا حتى لا يجوز بيع فلس بفلسين، والسلم في الأثمان لا يجوز. قالوا: وقد روى أبو الليث الخوارزمي عن محمد نصًا: أن السلم في الفلوس لا يجوز.
ومن المشايخ من قال: جواز السلم في الفلوس قول الكل، وهذا القائل يفرق لمحمد رحمه الله بين السلم وبين البيع، والفرق: أن من ضرورة جواز السلم كون المسلم فيه مثمنًا، فيضمن أقدامها على البيع إبطالًا لذلك الاصطلاح في حقهما، فبقي ثمنًا كما كان، فلا يجوز بيع الواحد بالاثنين، ويجوز السلم في الثوم والبصل كيلًا لا عددًا، ذكرهما شيخ الإسلام في (شرحه) وجعلهما من العدديات المتفاوتة، والسلم في الباذنجان يجوز عددًا، ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في (شرحه)، والسلم في الكاغد يجوز عددًا؛ لأنه عددي ذكره الصدر الشهيد في (واقعاته)، ولا خير في السلم في الرطبة؛ لأن الرطبة لا تباع وزنًا إنما تباع حزمًا وبين الحزم متفاوت، وكذلك في الحطب حزمًا أو قالا، فإن بين من ذلك على وجه لا تتمكن المنازعة بينهما في التسليم والتسلم يجوز في بعض الشروح لو بين الطول والعرض والغلظ في المسألتين، وكان عرف ذلك، وإذا أسلم في كندم بنكير أو قال: كندم منك، أو قال: كندم سره يجوز؛ لأنه لايراد بهذه الألفاظ الجيد.
في (فتاوى أبي الليث)، وفي (الأصل): لا خير في السلم في الزجاج إلا أن تكون مكسرة، فيشترط منها وزنا معلومًا فيجوز، وكذلك الزجاج فإنه موزون معلوم على وجه لا تفاوت فيه، فأما الأوإني المتخذة من الزجاج فهي عددية متفاوتة فلا يجوز السلم لا بذكر العدد ولا بذكر الوزن، قال شمس الأئمة السرخسي: إلا أن يكون شيئًا معروفًا يعلم أنه لا تفاوت في المالية كالمكاحل والطاسات، فإن أبعاد ذلك لا تختلف في المالية إنما تختلف أنواعه، وكل نوع معلوم عند أهل هذه الصنعة، فيجوز السلم فيه حينئذ بذكر العدد.
قال: ولا بأس بالسلم في الآجر واللبن إذا اشترط من ذلك معروفًا وأجلًا معلومًا ومكانًا معلومًا وأراد بقوله شيئًا معلومًا لبنًا معلومًا. ولو اشترى آجره لم يجز من غير إشارة رواه الحسن في (المجرد) عن أبي حنيفة إلا أن وضع المسألة في (المجرد) في مائة آجرة من أبون. وذكر شيخ الإسلام وجه الفرق، فقال: الآجر من العدديات المتقاربة باعتبار القدر متى كان اللبن واحدًا إلا أن ما يكون من التفاوت بين لبن ولبن من حيث المقدار لايعتبر الناس فيما بينهم متى كان اللبن واحدًا.
ولا تجوز المماسكة بينهم لأجل ذلك، فأما باعتبار الصنعة وهي النضج من العدديات المتفاوتة؛ لأن التفاوت من حيث النضج بين آجر متفاوت معتبر يعتبره الناس فيما بينهم، وتجري فيه المماكسة فيما بينهم، فألحق بالعدديات المتقاربة في باب السلم باعتبار الحاجة وبالعدديات المتفاوتة في البيع لانعدام الحاجة، ويمكن أن يقال بأن الآجر من العدديات المتقاربة إذا كان الملبن واحدًا في السلم وفي بيع العين جميعًا وفساد البيع في مسألة (المجرد) لاختلاف اللبن واحدًا لما قلتم، فإن الموضوع بمسألة (المجرد) لو باع مائة آجرة من أتون لم يجز، ولم يذكر أن الملبن واحد أو مختلف، وكما يوضع في الأتون اللبن من ملابن واحد يوضع اللبن من ملابن تختلف، فيمكن أن نحمل مسألة (المجرد) على الملابن المختلفة وعند ذلك لا يقع الفرق بين مسألة السلم وبين مسألة البيع، ثم ذكر في هذه المسألة مكانًا معلومًا.
واختلف المشايخ بعضهم قالوا: أراد به مكان الإيفاء وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وبعضهم قالوا: أراد به المكان الذي يضرب فيه اللبن.
ولا بأس في السلم بالثياب والبسط والحرير بعد أن يشترط طولها وعرضها بذرع معلوم ويبين صفتها وهذا استحسان. والقياس: أن لايجوز؛ لأن الثياب ليست من ذوات الأمثال، لكن استحسنا ذلك بحديث ابن عباس على ما مر، وبحديث علي فإنه قال: «لا بأس بالسلم في الثياب»، والمعنى فيه أن الثياب مصنوع العباد والعبد إنما يصنع بآلة، فإذا اتحد الصانع والآلة يتحد المصنوع، فلا يبقى بعد ذلك إلا تفاوت يسير، والتفاوت اليسير في المعاملات متحمل، ثم إن محمدًا رحمه الله اشترط لجواز هذا السلم بيان الطول والعرض والصفة ولم يشترط بيان الوزن، ولا شك أن بيان الوزن في الكرباس ليس بشرط؛ لأن الكرباس لايختلف باختلاف الوزن. وهل يشترط بيان الوزن في الحرير؟ اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه يشترط، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي، وهكذا ذكر في (شرح القدوري)؛ لأن الحرير يختلف باختلاف الوزن ولم يبين الذرع لايجوز؛ لأن الذروعات بمنزلة الصفة، فكأنه أسلم في موزون وترك صفته.
قال شيخ الإسلام خواهر زاده في (شرحه): إذا اشترط الوزن في الحرير ولم يشترط الذرعان إنما لا يجوز السلم إذا لم يبين لكل ذرع ثمنًا، أما إذا بين لكل ذرع ثمنًا يجوز، وإن بين طولها وعرضها بذراع رجل معروف فلا خير فيه، هكذا ذكر في (الأصل). قال مشايخنا: أراد بقوله بذراع رجل معروف فعل الذرع لا الاسم وهو الخشب، ألا ترى أنه قال: لو مات ذلك الرجل لم يدر رب السلم، وإذا شرط كذا كذا ذراعًا مطلقًا فله ذراع وسط اعتبارًا للنظر من الجانبين.
واختلف المشايخ في تفسير قوله: فله ذراع وسط، بعضهم قالوا: أراد به المصدر، وهو فعل الذرع لا الاسم وهو الخشب، يعني لا يمد كل المد (ولا يرخى كل) الإرخاء، وقال بعضهم: أراد به الخشب؛ لأن خشب الذرع يتفاوت في الأسواق، فمنها ما يكون أقصر ومنها مايكون أطول. قال شيخ الإسلام: والصحيح أنه يحمل عليهما إذا شرط مطلقًا فيكون له الوسط منهما نظرًا بين الجانبين.
قال في (الأصل): ولا بأس بالسلم بالتبن كيلًا معلومًا وضمانًا معلومًا وكيله العرارة، فإن كان معلومًا يجوز، وإن كان لا يعرف ذلك فلا خير فيه، فقد شرط الكيل في التبن، وقد اختلف المشايخ قال بعضهم: إنه مكيل على كل حال؛ لأنه متولد من المكيل وإن تعارفوا كيلًا فهو مكيل.
ولا باس بالسلم في البواري بعد أن يشترط ذرعًا وصفة معلومة وصنعة معلومة، هكذا ذكر في (القدوري)، ولا خير في السلم في جلود الإبل والبقر والغنم؛ لأنه عددي متفاوت وإن بين لذلك ضربًا معلومًا يجوز. والأدم إذا كان يباع وزنًا يجوز السلم فيها بذكر الوزن إذا بينوا على وجه لا تمكن المنازعة بينهما في التسليم، والتسليم معه لا يصير.
ولا خير في السلم في الرؤوس والأكارع؛ لأنها من العدديات المتفاوتة؛ لأن التفاوت الذي يكون بين رأس ورأس وكراع وكراع تفاوت يعتبره الناس فيما بينهم، وتجري المماسكة لأجله، ولا يشترون إلا بعد الإشارة.
ولا خير في السلم في اللحم في قول أبي حنيفة من غير فصل بينما إذا كان منزوع العظم أو لم يكن، وعلى قول أبي يوسف ومحمد لا بأس به إذا بين الجنس بأن قال: جذع أو ضأن، بأن قال: مضى أو حل وبين صفة اللحم بأن قال: سمين أو مهزول وبين الموضع بأن قال: من الحنت مثلًا وبين القدر بأن قال: عشرة أمناء فوجه قولهما أن الجهالة تنعدم ببيان هذه الأشياء، ولو لم يجز السلم هاهنا، إنما لم يجز لمكان الجهالة.
ولأبي حنيفة وجهان: أحدهما: أن اللحم يتفاوت باختلاف العظم، ويكثر عند صغره، فكان المسلم فيه مجهولًا، وهذا التعليل يقتضي جواز السلم إذا كان منزوع العظم. الثاني: أن اللحم يتفاوت من حيث السمن والهزال ورغبات الناس تتفاوت فيه أيضًا، وهذا التعليل يقتضي جواز السلم إذا كان منزوع العظم، ولا بأس بالسلم في الشحوم والألبان؛ لأنها لا تختلف سمنًا وهزالًا، وكذلك ما فيها من الدسم لا يختلف باختلاف ما فيها من العظم.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): ولا بأس بالسلم في السمك المالح وزنًا معلومًا. يجب أن يعلم أن السلم في السمك عددًا لا يجوز طريًا كان أو مالحًا؛ لأنه عددي متفاوت فيه الصغير والكبير، وأما السلم فيه وزنًا، فإن كان طريًا وكان السلم في غير حينه لا يجوز، هكذا ذكر في (الأصل)، وطعن بعض المشايخ في قوله غير حينه وقالوا: الطري مما يوجد في الأحايين كلها؛ لأن وجوده بالأخذ واحدة ممكن في الأوقات كلها، والجواب: أن الأخذ قد يتعذر في بعض الأوقات بأن يتجمد الماء أو يكثر أو ما أشبه ذلك، فلهذا شرط الحين وإن كان السلم في الطري في حينه، أو كان السلم في المالح ذكر في (الأصل) ولم يحك خلافًا.
وروى أبو يوسف رحمه الله عن أبي حنيفة: أن السلم في السمك لا يجوز بحال من الأحوال، وجه هذه الرواية: أن السمك لحم، فلا يجوز السلم فيه كما لا يجوز في لحم البقرة والشاة عنده. وجه الفرق لأبي حنيفة على ظاهر الرواية: أن السلم في لحم البقرة والشاة إنما لم يجز، إما لأن اللحم يتفاوت باختلاف العظم، وهذا المعنى لم يكن بحقيقة هاهنا؛ لأن العظم في السمك ساقط الاعتبار فيما بين الناس لا تجري المماكسة باعتباره، أو لأن اللحم يتفاوت من حيث السمن والهزال، وهذا المعنى لا يمكن يحقيقة هاهنا أيضًا؛ لأن السمن والهزال ليس بظاهر فيه، وهذا كله قول أبي حنيفة.
و(قال) أبو يوسف ومحمد: لا يجوز السلم في كبار السمك، وفرقا بينه وبين اللحم؛ لأن في اللحم يمكن بيان مكان اللحم، فتزول الجهالة في السمك لا يمكن، وهذا كله في كبار السمك، وأما الصغار منه فالسلم فيها جائز وزنًا معلومًا أو كيلًا معلومًا، طريًا كان أو مالحًا بعد أن يكون السلم في الطري في حينه، فقد فرقا بين الصغار والكبار، والفرق: أن في الكبار إنما لا يجوز السلم عندهما؛ لأنه لا يمكن بيان مكان اللحم وهذا المعنى لا يتأتى في الصغار.
وقال في (الأصل): ولا خير في السلم في شيء من الطيور ولا لحومها، أما في الطيور فلا يجوز؛ لأنه سلم في الحيوان، فإن قيل: السلم في الحيوان إنما كان باطلًا لتفاوت الحيوان في نفسه تفاوتًا يعتبره الناس، ومن الطيور ما لا يتفاوت تفاوتًا يعتبره الناس كالعصفور، فكان يجب أن يجوز السلم فيه كما في الجوز والبيض، والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن بطلان السلم في الحيوان ثابت نصًا على ما روينا والعبرة في المنصوص عليه النص لا للمعنى، والنص لم يفصل بين حيوان وحيوان، وإليه أشار محمد رحمه الله حين سئل: لماذا لا يجوز السلم في الحيوان لأنه لا يضبط في الوصف؟ قال: لا لأني أجوز السلم في الديباج ولا أجوزه في الشاة وضبط الشاة أهون علي من ضبط الديباج السنة....
والثاني: أن العصفور إن كان من العدديات المتقاربة إلا أنه بمعنى المنقطع؛ لأنه مما لا يقتنى ولا يحبس التوالد وقد يمكن أخذه وقد لا يمكن، ولا رجحان لإمكان الأخذ على عدم الإمكان حتى يقام مقام الوجود في أيدي الناس، فيبقى العبرة للانقطاع بخلاف السمك الطري؛ لأن إمكان الأخذ راجح على عدم الإمكان، فيكون العبرة لإمكان الأخذ فيقام إمكان الأخذ مقام الوجود في أيدي الناس.
وأما لحومها: فأما عددًا فلا إشكال أنه عددي متفاوت، وأما وزنًا هل يجوز؟ فظاهر ما ذكر محمد يدل على أنه لا يجوز؛ لأنه أطلق إطلاقًا، فمن مشايخنا من قال: بأن المسألة على الاختلاف لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: يجوز كما لو أسلم في اللحم، ومنهم من يقول: لا يجوز وزنًا عند الكل إلا أنه حمل المذكور من لحم الطير على طيور لا تقتنى ولا تحبس للتوالد، فيكون البطلان بسب أنه أسلم في المنقطع، فلا يجوز بسبب الانقطاع عندهم جميعًا، وإن ذكر الوزن فأما فيما يقتنى ويحبس للتوالد فيجوز عند الكل؛ لأن ما يقع من المتفاوت في اللحم بسبب العظم في الطيور تفاوت لا يعتبره الناس، فإنه لا تجري المماكسة بسببه فكان بمنزلة عظم الإلية وعظم السمك، وإلى هذا مال شيخ الإسلام المعروف خواهرزاده.
ولا يجوز السلم في الخبز عند أبي حنيفة ومحمد رحمه الله لا وزنًا ولا عددًا؛ لأن الخبز عنده يختلف بالعجن والنضج وكيفية الخبز، فمنه الخفيف ومنه الثقيل، والمقاصد مختلفة، ومع التفاوت لا يمكن تجويز السلم فيه، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يجوز وزنًا واختيار المشايخ للفتوى قول أبي يوسف إذا أتى بشرائطه لحاجة الناس، لكن يجب أن يحتاط وقت القبض حتى يقبض من جنس الذي لا يصير استبدالًا بالمسلم فيه قبل القبض.
وبيع الحنطة بالخبز وبيع الدقيق به وبيع الخبز بهما يجوز متساويًا متفاضلًا إذا كانا نقدين، وإن كان أحدهما نسيئة والآخر نقدًا، فإن كان الخبز نقدًا يجوز بالاتفاق، وإن كان الخبز نسيئة عند أبي حنيفة ومحمد لا يجوز، وعند أبي يوسف يجوز بناء على اختلافهم في جواز التسليم في الخبز وزنًا، والمشايخ أفتوا بقول أبي يوسف. وإذا أراد دفع الحنطة إلى الخباز جملة وأخذ الخبز متفرقًا ينبغي أن يبيع صاحب الحنطة خاتمًا أو سكينًا من الخباز بألف من الخبز مثلًا ويجعل الخبز ثمنًا ويصفه بصفة معلومة حتى يصير دينًا في ذمة الخباز ويسلم الخاتم إليه، ثم يبيع الخباز الخاتم من صاحب الحنطة بالحنطة مقدار ما يريد الدفع إليه ويدفع الحنطة فيبقى له على الخباز الخبز الذي هو ثمن، هكذا قيل، وهو مشكل عندي، قالوا: إذا دفع دراهم إلى خباز، وأخذ منه كل يوم شيئًا من الخبز، فكلما أخذ يقول: هوعلى ما قاطعتك عليه.
ولا خير في السلم في الجوهر واللؤلؤ لا عددًا ولا وزنًا ولا كيلًا، قال الشيخ الإمام الأجل السرخسي: ما ذكر من الجواب محمول على الكبار من اللآلئ، وأما الصغار منها التي تباع وزنًا وتجعل في أدوية العين والمفوح فالسلم فيها يجوز وزنًا، ولا بأس بالسلم في الجص والنورة كيلًا معلومًا ومكانًا معلومًا، واختلف المشايخ في قوله: ومكانًا معلومًا قال بعض: أراد به مكان الإيفاء على قول أبي حنيفة، وقال بعضهم: أراد به المكان الذي يستخرج منه الجص والنورة.
ولا بأس بالسلم في الأدهان إذا شرط من ذلك ضربًا معلومًا، من مشايخنا من قال: هذا في الدهن الصافي، فأما المربي بالبنفسج وغيره فلا؛ لأن المربي يختلف باختلاف ما يربى من الأدوية، فهو نظير الناطف المبرز، ولا يجوز السلم فيه لما يقع من التفاوت في البروز التي فيه، والأصح أن المربي وغيره في ذلك سواء.
ولا بأس بالسلم في الصوف وزنًا وإن اشترط كذا وكذا جزه بغير وزن لم يجز، وإن أسلم في صوف غنم بعينها لم يجز، وكذلك ألبانها وسمونها، ولا خير في السلم في السمن الحديث والزيت الحديث والحنطة الحديثة وهي التي تكون في هذا العام؛ لأنها قد لا تكون، ولا بأس بالسلم في نصول السيف يريد به إذا كان معلوم الطول والعرض والصفة، ولا يجوز إسلام الصوف في الشعر؛ لأنه يجمعهما الوزن. قال شمس الأئمة الحلوإني: هذا إذا كان الشعر يباع وزنًا كذنب الفرس وغيره، لا بأس بالسلم في الجبن والمصل إذا كان معلومًا عند أهل الصنعة على وجه لا يتفاوت هو الصحيح.
ولا بأس بالسلم في القطن والكتان والإبريسم والنحاس والحديد والرصاص والصفر والشبة، وهذه الأشياء من ذوات الأمثال، والحناء والوسمة والرياحين اليابسة التي تكال نظير هذه الأشياء وأما الرياحين الرطبة والبقول والقصب والخشب والحطب فهذه الأشياء ليست من ذوات الأمثال، فلا يجوز السلم فيها.
في باب البيع بالفلوس في كتاب الصرف، وفي بيوع (الأصل): لا بأس بالسلم في الجذوع إذا بين ضربًا معلومًا وبين الطول والعرض والغلظ والأصل والمكان الذي يوفيه فيه، وكذلك الساج وصوف العيدان والخشب والقصب وإعلام الغلظ في القصب بإعلام ما يشد به أنه ذراع أو شبر، والغزل من ذوات الأمثال ذكره شمس الأئمة السرخسي في أول إجازته، وذكر الطحاوي في كتابه أنه كل ما كان موزونًا فهو مثله.

.نوع آخر منه:

إذا أسلم إلى رجل دينًا له عليه لم يجز؛ لأن هذا بيع الدين بالدين، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ذلك، فإن لم يفترقا حتى نقده في المجلس يعني نقد رب السلم رأس المال في المجلس صح؛ لأن الدراهم لا تتعين في العقود، وإن عينت فلا تتعين كذلك الدين، وإن أضيف العقد إليه فصار وجود الإضافة إلى الدين والعدم بمنزلة. ولو لم توجد الإضافة إلى الدين وقبض الدراهم في المجلس صح فهاهنا كذلك.
قال: ولو أسلم إليه دراهم له ثالث لم يصح السلم، وإن نقده في المجلس؛ لأن الفساد هاهنا ما كان باعتبار الإضافة إلى الدين، وإنما كان باعتبار شرط التسليم على ثالث، وهو شرط بغير مقتضى العقد أن يكون التسليم على العاقد، فإذا شرط التسليم على غيره فقد غير مقتضى العقد، فلا يرتفع الفساد لهذا.
ذكر في (الجامع الصغير): رجل أسلم إلى رجل مائتي درهم في كر حنطة ونقد مائة، ومائة كانت له دينًا على المسلم إليه، فحصة النقد جائزه، وحصة الدين باطلة، هكذا ذكر المسألة في (الكتاب)، واعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما أن يقول أسلمت إليك مائتي درهم في كر حنطة ولم يصف المائتين إلى دراهم بعينها، ثم نقد رب السلم من المائتين مائة وجعل المائة الأخرى قصاصًا بدين كان له قبل عقد السلم، أو قال: أسلمت إليك هذه المائة الدين التي لي عليك في كر حنطة، ففي الوجه الأول جاز السلم بحصة ما نقد عندهم جميعًا، ويبطل بحصته ما لم ينقد عندهم جميعًا؛ لأن السلم وقع جائزًا نافذًا من الابتداء خاليًا عن الشروط الفاسدة لما ذكر المائتين مطلقًا، ألا ترى أنه لو نقد المائتين كلها في المجلس جاز، وإنما فسد بعض السلم بعدذ لك بسبب طارئ وهو أنه لم ينقد المائة وجعلها قصاصًا بماله على المسلم إليه، والعقد متى فسد بعضه بسبب طارئ، فإنه يقتصر الفساد على ما فيه الفساد ولا يستتبع في الكل، كما لو باع عبدين وهلك أحدهما قبل القبض، وكما إذا أسلم إلى رجل مائتي درهم في كر حنطة ونقد مائة ولم ينقد المائة الأخرى حتى افترقا عن المجلس صح السلم بحصة ما نقد وبطل بحصته ما لم ينقد، فرق أبو حنيفة بين هذه وبينما إذا جعل رأس المال حرًا وعبدًا، فإنه يفسد العقد كله وكذلك إذا أسلم مكيلًا في مكيل أو موزونًا في موزون أو شيئًا من جنسه وغير جنسه بطل العقد في جميعه في قول أبي حنيفة، وهنا قال: العقد لا يفسد كله والصفقة واحدة في الموضعين جميعًا وإنما فعل هكذا والله أعلم؛ لأن العقد في هذه المسائل فسد بعضه بفساد قوي مقارن العقد، وفي مسألة (الكتاب) فسد بفساد طارئ، والأصل عند أبي حنيفة أن العقد إذا كان صفقة واحدة وفسد بعضه بمفسد مقارن للعقد فسد كله، وإذا فسد بعضه بمفسد طارئ على العقد لا يفسد كله، والأصل عند أبي يوسف ومحمد: أن الفساد بقدر المفسد على كل حال حتى قالا في المسائل التي مر ذكرها بأن السلم يجوز في حصة العبد وفي حصة الموزون، وقد مر شرح ذكر الأصلين قبل هذا، وذكر أبو الحسن عن أبي يوسف رحمهما الله فيمن باع جارية في عنقها طوق فضة بألف درهم نسىئة أن البيع باطل في الجميع (، إلا) في قول أبي يوسف الأخير، فجعل أبو الحسن رجوعه في هذه المسألة رجوعًا في جميع المسائل.
وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين مسألة (الجامع الصغير) وبينما إذا باع عبدين على انه بالخيار، فمات أحدهما في مدة الخيار أن العقد يفسد كله حتى لو أراد أن يخبر العقد في القائم ليس له ذلك، والعقد قد وقع جائزًا وقد فسد بمفسد طارئ، ثم لم يقتصر الفساد على وجه فيه الفساد بل شاع في الكل، وهاهنا قال: لا يفسد العقد في الكل، والفرق ظاهر أن فساد بعض العقد بسبب موت أحد العبدين في مدة الخيار طارئ من وجه باعتبار وقوع صورة العقد طارئ، وباعتبار النفاذ وثبوت الحكم مقارن؛ لأن النفاذ ما كان ثابتًا، وإنما يثبت بالإجازة فاعتبار صورة العقد تمنع شيوع الفساد واعتبار النفاذ يوجب شيوع الفساد واعتبار النفاذ يوجب الفساد، فيرجح ما يوجب الشيوع احتياطًا، أما هاهنا فالعقد وقع نافذًا موجبًا لحكمه، فإنه أوجب الملك في البدلين إلا أنه فسد البعض بعدذ لك بسبب المقاصة، وأنه طارئ من كل وجه، فلا يتعدى إلى الباقي.
وفرقوا أيضًا بين الصرف والسلم، فإنه إذا اشترى مائة دينار بألف درهم مطلقًا غير مضاف إلى دراهم بعينها ونقد خمسمائة وجعل خمسمائة الأخرى قصاصًا بالدين الذي له على بائع الدينار كان ذلك جائزًا، وهاهنا قال: لا يجوز، والفرق أن جواز الصرف على موافقة القياس إلا أن القبض شرط بقائه على الصحة وقد وجد القبض في جميع الألف من بائع الدينار؛ لأنه قبض خمسمائة حقيقة وخمسمائة في خدمته كالمقبوض له وأما عقد السلم فيجوز بخلاف القياس لحاجة المسلم إليه، ومتى جوزناه بما في ذمته لا تندفع حاجته، فلو جوزناه جوزناه من غير حاجة وما جوز بحاجة لا يمكن تجويزه بغير حاجة فلهذا افترقا، هذا إذا لم يضف المائتين إلى دراهم بعينها فأما إذا أضاف المائتين إلى دراهم بعينها بأن قال: أسلمت إليك هذه الخمسمائة التي لي عليك في كذا وكذا من طعام، فكذلك الجواب عند علمائنا الثلاثة لا يفسد العقد في الكل بناءًا على أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات بالتعيين عند علمائنا، فصار وجود الإضافة إلى الدين وهي دراهم والعدم بمنزلة ولو عدمت الإضافة وباقي المسألة بحالها جاز العقد في حصة المعقود كذا هاهنا.
ثم فرق علماؤنا بين هذه المسألة وبينما إذا قال: أسلمت إليك هذه الخمسمائة والخمسمائة الدين التي لي على فلان ونقد خمسمائة، فإن السلم يبطل في الكل، وهاهنا يجوز بحصة ما نقد ولم يوجد في المسألتين جميعًا إلا الإضافة، وإنها باطلة عندها، وإنما كان كذلك؛ وذلك لأن في تلك المسألة رب السلم أضاف السلم إلى دراهم له في ذمة المسلم وشرط التسليم عليه، والإضافة إن لغت في حق استحقاق المشار إليه إلا أنه نفى شارطًا تسليم إحدى الخمسمائتين على غير، فكان بمنزلة ما لو ذكر ألف درهم مطلقًا على أن ينقد خمسمائة بنفسه، وينقد خمسمائة فلا يكون فساد العقد بسبب اشتراط تسليم بعض الثمن على غيره وإنه مقارن للعقد، فأوجب فساد الكل، ألا ترى أنه لو نقد الكل من ماله لم يجر وهنا لغت الإضافة إلى الدراهم، ولم يوجد بعد إلغاء الإضافة اشتراط تسليم بعض الثمن على غير العاقد.

.نوع آخر في قبض رأس المال والمسلم فيه ومسائلهما:

قال القدوري في (شرحه): لا يجوز للمسلم إليه أن يبرئ رب السلم من رأس مال السلم؛ لأن الإبراء إسقاط، والساقط متلاش، فينعدم به القبض والقبض وجب حدًا من حدود الشرع، فلا يجوز إسقاطه، قال: فإن أبرأه وقبل رب السلم البراءة بطل عقد السلم، وإن رد البراءة لم يبطل؛ لأن العقد قد صح بتراضيهما فلا يقدر أحدهما على فسخه إلا برضا الآخر، والمسلم إليه يريد فسخ العقد بالإبراء لما مر أنه ينعدم القبض المستحق فلا يقدر من غير قبول صاحبه، قال: ولا يجوز أن يأخذ برأس المال شيئًا آخر من غير جنسه؛ لأنه يسقط به القبض المستحق شرعًا، قال: ولو أعطاه من جنسه أجود أو أردأ ورضي المسلم إليه بالأردأ جاز؛ لأنه جنس حقه أصلًا إلا أنه دون حقه وصفًا، فمن حيث إنه جنس حقه أصلًا صح التجوز به، ومن حيث إنه دون حقه وصفًا يشترط رضاه.
قال: ولو أعطاه أجود من حقه أجبر على القبول، وقال زفر: لا يجبر؛ لأنه متبرع فيما يرجع إلى صفة الجودة، ولو تبرع بزيادة صفة الجودة (لا يجبر على القبول)، ولنا: أنه وفاه حقه بكماله وأحسن في الدين وقد قال عليه السلام: «خيركم أحسنكم قضاء للدين»، ولأن صفة الجودة قائمة بالعين، فكانت من توابع الإيفاء وليس له أن يمتنع من الاستيفاء.
لو قال المسلم إليه لرب السلم: خذ هذا وزد لي درهمًا، يجب أن يعلم أن هاهنا مسألتين: أحديهما: أن يكون السلم في المكيلات والموزونات، والثانية: أن يكون في الذرعيات، وكل مسألة على أربعة أوجه.
إما أن يأتي المسلم إليه بالزيادة من حيث القدر أو بالنقصان من حيث الصفة، فإن كان المسلم فيه مكيلًا وقد أتى بالزيادة من حيث القدر بأن أسلم إليه عشرة دراهم في عشرة أقفزة حنطة، فجاء المسلم إليه يأخذ قفيزًا من حنطة، وقال لرب السلم: خذ هذا وزدني درهمًا فإنه يجوز، وإنما جاز؛ لأن تجويزه لا يؤدي إلى الزيادة؛ لأنه إن جعلنا المؤدى عين الواجب حكمًا لا غيره ضرورة أن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز صار المودى مقابلًا بالدراهم، فيصير رب السلم على هذا الاعتبار مشتريًا أحد عشر قفيزًا بأحد عشر درهمًا، وهذا جائز وإن اعتبرنا الحقيقة وجعلنا المؤدى غير الواجب في الذمة؛ لأن الواجب في الذمة دين، وهذا عين صار رب السلم باعتبار الحقيقة مشتريًا أحد عشر قفيرًا بعشرة أقفزة حنطة له في ذمة المسلم إليه وبزيادة درهم فيكون بالعشرة والدرهم بإزاء القفيز الحادي عشر فكان جائزًا فدل أن تجويزه لا يؤدي إلى الربا.
فأما إذا أتى ما زيد من حيث الصفة بأن أسلم عشرة دراهم في عشرة أقفزة حنطة وسط، فأتى المسلم إليه بعشرة أقفزة حنطة جيدة، وقال: خذها وزدني درهمًا ذكره في بيوع (الأصل) أنه لا يجوز ولم يذكر فيه خلافًا، وذكر في كتاب الصلح وقال: لا يجوز على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ويجوز على قول أبي يوسف رحمه الله فكان المذكور في بيوع (الأصل) قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وجه ما ذهب إليه أبو يوسف رحمه الله ظاهر، وهو أن تجويزه هذه المعاوضة أن تعذر باعتبار الحال لما يتبين في حجتها أمكن تجويزها بطريق الزيادة، بأن يجعل رب السلم كأن زاد في رأس المال درهمًا والمسلم إليه زاد في الجودة، والزيادة تلتحق بأصل العقد وتجعل كالموجود لدى العقد وإذا جعلناها كالموجود لدى العقد صار كأنه أسلم أحد عشر درهمًا في عشرة أقفزة حنطة جيدة، ولو أسلم أحد عشر درهمًا في عشرة أقفزة حنطة جيدة جاز فكذلك هاهنا.
وأما أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فيقولان: إن تجويز هذا التصرف باعتبار الحال متعذر؛ لأنه باعتبار الحال ما يأخذ غير الواجب في ذمة المسلم من حيث الحقيقة، فيصير باعتبار الحقيقة رب السلم مشتريًا عشرة أقفزة حنطة جيدة بعشرة أقفزة حنطة وسط في ذمة المسلم إليه وزيادة درهم بإزاء الجودة وهذا لا يجوز؛ لأن الجودة مال الربا لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها، فإنه لو باع قفيز حنطة رديئة، وزيادة درهم بإزاء الجودة لم يجز، فباعتبار الحكم لا يتمكن الربا؛ لأن المستوفى عين الواجب في باب السلم من حيث الحكم، فعلى هذا الاعتبار يكون ما يأخذ مقابلًا بالدراهم لا بجنسه من الحنطة يصير رب السلم مشتريًا عشرة أقفزة حنطة جيدة بأحد عشر درهمًا، وهذا ليس بربا فيمكن الربا من وجه دون وجه فتمكن شبهة الربا. وقول أبي يوسف رحمه الله بأن تجويز هذا التصرف بطريق الإلحاق ممكن فاسد؛ لأن الزيادة إنما تلتحق بأصل العقد إذا صحت حيث وجدت؛ لأنها تصح للحال أولًا، ثم تستند وصار كالزيادة بعد هلاك المبيع، فإنها لا تصح وإن كانت تستند. ولو صحت لهذا إن إنشاءها في الحال غير ممكن بهذا الذي ذكرنا إذا أتى بأزيد مما شرط عليه.
فأما إذا أتى بأنقص مما شرط عليه، فإن أتى ما نقص من حيث القدر، بأن أتى بتسعة أقفزة وقد أسلم إليه في عشرة أقفزة، فقال: خذ هذا وأزيد عليك درهمًا، فإنه يجوز عندهم جميعًا؛ لأنهما تقابلا السلم في بعض المسلم فيه، وذلك قفيز واحد، والإقالة في نص المسلم فيه جائزة لما مر، فأما إذا أتى بأنقص من حيث الصفة بأن أسلم في عشرة أقفزة حنطة جيدة قال بعشرة أقفزة حنطة وسط، وقال: خذها وأزيد عليك درهمًا لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وقال أبو يوسف رحمه الله: نص على هذا الخلاف في كتاب الصلح، فأما أبو يوسف فيقول بأن تجويز هذا التصرف إن تعذر بطريق الإقالة للحال؛ لأنه أقاله على مجرد الوصف لا يصح أمكن تصحيحه بطريق الحط؛ لأن الحط يلتحق بأصل العقد كالزيادة، فإذا التحق بأصل العقد صار كأنه أسلم في الابتداء بتسعة دراهم في عشرة أقفزة حنطة وسط، فيكون جائزًا بهذا الاعتبار.
ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله طريقان:
أحدهما: أن يقال بأنا لو جوزنا هذا التصرف يتمكن فيه شبة الربا؛ لأن المؤدى باعتبار الحقيقة غير الواجب، فيكون مقابلًا بجنسه من الحنطة، فيصير رب السلم بائعًا بعشرة أقفزة حنطة له جيدة في ذمة المسلم إليه بعشرة أقفزة حنطة بعينها وسط وزيادة درهم، وإنه ربا وباعتبار الحكم يصير مشتريًا عشرة أقفزة حنطة وسط بتسعة دراهم التي كانت رأس المال، وإنه ليس ربا، فيتمكن الربا من وجه ولا يتمكن من وجه، فتتمكن شبهة الربا (وشبهة الربا) مانعة جواز العقد كالحقيقة.
والثاني: أنه أقال السلم على مجرد الوصف لا يقبل العقد، فلا يقبل الفسخ.
فإن قيل مجرد الوصف مما يقبل ابتداء العقد، فإن المسلم فيه كان ثوبًا وسطًا، فأتى المسلم إليه بثوب جيد وقال: خذ هذا وزدني درهمًا، فإنه يجوز وقد صار المسلم إليه بائعًا مجرد الوصف من رب السلم؛ لأن الأصل له فيصير الوصف مع الأصل له وشراء الوصف مع الأصل جائز، فأما هاهنا لو صحت الإقالة على مجرد الوصف يبقى الأصل لرب السلم ويصير لوصف السلم إليه بالإقالة، والوصف على هذا الوجه لا يقبل العقد، فإنه لو باع الجودة من الثوب بدون الأصل لا تجوز الإقالة، (وصار) رب الثوب بائعًا للجودة بدون الأصل.
وقول أبي يوسف بأن تصحيح هذا التصرف بطريق الحط ممكن قلنا: هذا إذا أمكن إتيانه للحال ولم يكن للوجهين الذين ذكرنا، والجواب في الموزونات نظير الجواب في المكيلات، هذا الذي ذكرنا كله إذا كان المسلم فيه مكيلًا أو موزونًا.
فأما إذا كان المسلم فيه ذرعيًا بأن كان ثوبًا وجاء بأزيد من حيث القدر بأن أسلم عشرة دراهم في عشرة أذرع، فأتى بثوب هو أحد عشر ذراعًا، وقال لرب مال السلم: خذ هذا وزدني درهمًا جاز ذلك؛ لأنه لا يؤدي إلى الربا على ما بينا، وكذلك إذا أتى بالزيادة من حيث الصفة، فإنه يجوز عندهم جميعًا بخلاف ما لو كان المسلم فيه مكيلًا أو موزونًا حيث لا يجوز على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. والفرق: أن تجويز هذا في الثوب لا يؤدي إلى الربا؛ لأن المأخوذ إما أن يعتبر عين الواجب من حيث الحكم، فيكون مقابلًا بالدراهم فيصير مشتريًا ثوبًا جيدًا بأحد عشر درهمًا، وهذا جائز ويعتبر الحقيقة، فيعتبر المؤدى غير الواجب، فيصير رب السلم على هذا الاعتبار مشتريًا ثوبًا جيدًا بثوب وسط في ذمة المسلم إليه، وزيادة درهم بإزاء الجودة، وإنه جائز في غير مال الربا؛ لأن للجودة في عين مال الربا قيمة عند مقابلتها بعينها.
فإنه لو اشترى ثوبًا جيدًا بثوب رديء وزيادة درهم بإزاء الجودة كان جائزًا، فأما في الحنطة فإن أجاز هذا باعتبار أن المأخوذ عين الواجب، فيكون مقابلًا بالدرهم فيصير مشتريًا عشرة أقفرة حنطة جيدة بأحد عشر درهمًا وهذا جائز، فاعتبار الحقيقة يكون المؤدى مقابلًا بما وجب لرب السلم في ذمته، فيصير مشتريًا عشرة أقفزة حنطة جيدة بعشرة أقفزة حنطة له وسط في ذمة المسلم إليه وزيادة درهم، وهذا لا يجوز، فيتمكن الربا من وجه، ولا يتمكن من وجه فثبت شبهة الربا.
وأما إذا أتى بالنقصان من حيث الصفة بأن أسلم في ثوب جيد، فأتى بثوب وسط وقال لرب السلم: خذ هذا لأزيد عليك درهمًا لم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد (و) يجوز في قول أبي يوسف.
وجه قول أبي يوسف، ما ذكرنا في فصل المكيل أن تصحيح هذا التصرف بطريق الحط والإلحاق بأصل العقد ممكن.
ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: الوجه الثاني الذي ذكرنا في فصل المكيل، أن في هذه الإقالة لو صحت صحت على مجرد الوصف وتعذر تصحيح الإقالة على مجرد الوصف على ما مر، ولا يجيء في هذا الفصل، لأبي حنيفة الوجه الأول الذي ذكرنا في فصل المكيل من شبهة الربا؛ لأن التجويز في الثوب لا تتمكن فيه شبهة الربا.
أما إذا أتى بأنقص من حيث القدر بأن أتى بتسعة أذرع وقال: خذها وأزد عليك درهمًا لم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يجوز، وهذا لأن الذرع إذا لم يجعل له حصة من الثمن فهو بمنزلة الصفة حتى تسلم الزيادة للمشتري في بيع العين من غير عوض، وإن وجده أنقص لا يحط عنه شيء من الثمن، وإذا كان بمنزلة الصفة في هذه الحالة كانت الإقالة على ذراع منها، والإقالة على القدر جائزة إنما لا يجوز على مجرد الوصف وتصح الحوالة والكفالة والارتهان برأس المال.
وقال زفر: لا يجوز؛ لأن هذه التصرفات إنما شرعت للتوثيق مالًا بماله، ولنا: أن رأس المال دين كسائر الديون، فيصح أخذ الرهن والحوالة والكفالة به قياسًا على سائر الديون، واستحقاق قبض رأس المال في المجلس لا ينفي معنى التوثيق.
قال: فإن فارق رب السلم المسلم إليه قبل القبض بطل العقد، وإن كان الكفيل والمحال عليه في المجلس، ولا يضرهما افتراق الكفيل والمحال عليه إذا كان المتعاقدان في المجلس؛ لأن القبض من حقوق العقد، وحقوق العقد تتعلق بالمتعاقدين فيصير بقاء المجلس في حقهما، ولا يضرهما افتراق غيرهما.
قال: ولو أخذ به رهنًا فإن افترقا والرهن قائم انتقض العقد، ولو هلك في المجلس مضى العقد على الصحة؛ لأن الاستيفاء لا يتم إلا بهلاك الرهن، والافتراق قبل تمام القبض موجب انتقاض السلم.
قال: ولو أخذ بالمسلم فيه رهنًا فهلك الرهن صار مستوفيًا؛ لأن القبض وجد حقيقة ويتم بالهلاك والرهن، وإن لم يكن من جنس حقه صورة فهو من جنسه معنى وهو المالية، والمرتهن إنما يصير مستوفيًا دينه من مالية المرهون من صورته.
قال: ولو لم يهلك الرهن ولكن مات المسلم إليه وعليه ديون كثيرة، فصاحب السلم أحق بالرهن إلا أنه لا يجعل الرهن بدينه بل يباع بجنس حقه حتى لا يصير مستبدلًا بالمسلم فيه قبل القبض.
قال: إذا قال رب السلم للذي عليه السلم: كل مالي عليك وعزله في بيته أو في غرائزك ففعل ذلك رب التسليم ليس بحاضر، فإنه لا يكون قبضًا من رب السلم، وذلك؛ لأن رب السليم لو دفع إليه غرائز نفسه، وقال: كل مالي عليك من السلم في غرائري هذه ففعل، ورب السلم ليس بحاضر، فإنه لا يصير قابضًا، وإن صح الأمر باعتبار الغرائر من حيث إنه أمره يستعمل غرائزه لم يصح باعتبار الحنطة؛ لأنها ملك المسلم إليه فلأن لا يصير قابضًا هاهنا ولم يصح الأمر لا باعتبار الحنطة ولا باعتبار الغرائر؛ لأن كلهيما ملك المسلم إليه أولى، هذا إذا كان رب السلم غائبًا، فأما إذا كان رب السلم حاضرًا في منزل المسلم إليه وكان بحضرته لا شك أنه لا يصير قابضًا إذا لم يخل بينه وبين الطعام؛ لأن القبض إنما يثبت إما بالقبض حقيقة بأن يأخذ مواجهة أو بتخلية المسلم إليه إياه ولم يوجد واحد منهما، فإذا خلى بينه وبين الطعام، فأهله هل يصير قابضًا أم لا؟ لم يذكر هذا الفصل في (الكتاب) نصًا.
وقد ذكر القدوري في (شرحه): أن على قول أبي يوسف رحمه الله: لا يصير قابضًا حتى لو هلك بعد ذلك كان الهلاك على المسلم إليه، وعلى قول محمد يصير قابضًا، وظاهر ما ذكر محمد رحمه الله في (الجامع الصغير) يدل على أن المذهب عنده كذلك؛ لأنه قال: ورب السلم ليس بحاضر، فهذا يدل على أنه إذا كان حاضرًا في منزله إذا خلى بينه وبين الطعام يصير قابضًا.
وجه قول محمد رحمه الله: أن التخلية من البائع، فيصير المشتري بها قابضًا قياسًا على ما لو حصلت التخلية من غير منزل البائع، وإنما قلنا بأن التخلية قد صحت؛ لأن صحتها بإزالة المسلم إليه يده على الحقيقة، وقد أزالها حين خلى بينه وبين الطعام.
وأبو يوسف رحمه الله يقول: بأن التخلية لم تصح فلا يعتبر، وإنما قلنا ذلك؛ لأن شرط صحة التخلية زوال يد المسلم إليه حتى إذا كان في يده حقيقة وقال: خليت لا يصير قابضًا، وهاهنا يد المسلم إن زالت من حيث الحقيقة لم تزل من حيث الحكم؛ لأن المنزل وما فيه في يده حكمًا، فيده إن زالت حقيقة لم تزل حكمًا، فلم تثبت التخلية، فأما إذا دفع رب السلم غرائر نفسه، وقال المسلم إليه: كل مالي عليك من الطعام في غرائري، فإنه لا يصير قابضًا إذا جعلها في غرائره حتى إذا هلك لا يهلك على رب السلم.
فرق بين هذا وبينما إذا اشترى طعامًا بعينه يشترط الكيل، ثم دفع المشتري إلى البائع غرائر، وقال له: كله في غرائري فكال في غرائره، فإن المشتري يصير قابضًا. ووجه الفرق بينهما: هو أن القبض لو ثبت في باب السلم، فإنما يثبت إما بالكيل أو بجعل الحنطة في غرائر رب السلم، ولا يجوز أن يثبت القبض بالكيل يلاقي ملك السلم إليه، وإذا لم يصح أمره بالكيل لم يصر الاكتيال منقولًا إلى رب السلم كما قبل الأمر، ولا يجوز أن يثبت القبض بجعل الحنطة غرائزه وإن صح الأمر به من حيث إنه تصرف في الغرائز، والغرائز ملك رب السلم؛ لأن جعل المسلم إليه الحنطة في غرائز رب السلم غير منقول إلى رب السلم؛ لأن المسلم إليه في ذلك عامل لنفسه؛ لأن الحنطة ملك المسلم إليه، وقد أذن له رب السلم بجعلها في غرائزه، فصار مغيرًا الغرائز من المسلم إليه، والمستقر عامل لنفسه في الانتفاع بالعارية وإن كان بأمر المعير، ولهذا كان قرار الضمان عليه، وإذا صار عاملًا لنفسه فما صح الأمر به لم يصر منقولًا إلى الأمر حتى يصير فعله كفعله، وإذا لم يصير فعله كفعله وإذا لم يصر فعله منقولًا إليه لا حق الكيل ولا في جعله في الغرائر صار الحال بعد الأمر كالحال قبل الأمر، وقبل الأمر لا يصير قابضًا، فكذلك هاهنا بخلاف شراء العين، وذلك؛ لأن الفعل صار منقولًا إلى المشتري في حق الكيل وجعل الحنطة في غرائره بعد الكيل من كل وجه؛ لأن البائع في جعل الحنطة في غرائره عامل للمشتري من كل وجه؛ لأنه يضع ملكه في ملكه ومنفعة ذلك له فيكون عاملًا له، وإذا صار عاملًا له صار فعله منقولًا لا إلى الأمر حكمًا، فيجعل كأن الأمر فعل بنفسه، ولو فعل بنفسه حقيقة صار قابضًا، فكذا إذا صار فعل البائع منقولًا إليه.
وعن هذا قلنا: إن في شراء العين إذا أمر المشتري البائع بالطحن، فطحن يصير قابضًا، وفي السلم لا يصير رب السلم قابضًا؛ لأن الأمر بالطحن في باب السلم لا يجوز؛ لأن الطحن يلاقي ملك المسلم إليه، فيصير الحال بعد الأمر كالحال قبله، أما الأمر بالطحن في باب التراخي فقد صح؛ لأنه لاقى ملك المشتري ومنفعة الطحن حاصلة للمشتري، فانتقل فعله إليه.
فإن قيل في فصل الشراء: ينبغي أن لا يصح الأمر في حق ثبوت القبض؛ لأن البائع لا يصلح وكيلًا عن المشتري في القبض، ألا ترى أنه لو وكله بذلك نصًا لا يصح، قلنا: القبض بالأمر يثبت حكمًا لا قصدًا، ويجوز أن يثبت الشيء حكمًا وإن كان لا يثبت قصدًا على ما عرف، وما ذكرنا من الجواب في فصل السلم فيما إذا كان لم يكن في غرائر السلم حنطة لرب السلم، فأما إذا كانت مكال المسلم إليه السلم فيها بأمره هل يصير رب السلم قابضًا؟ فلا رواية في هذا الفصل، وقد قيل: لا يصير قابضًا. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: ولا يصح عندي أنه يصير قابضًا، ثم فرق بين السلم وبين مسألتين أخريين ذكر أحديهما في كتاب الصرف، والأخرى في كتاب المزارعة.
أما التي ذكرها في كتاب الصرف: إذا دفع درهمًا إلى صانع وقال له: زد من عندك درهمًا بمالي بكذا ففعل، فإن الآمر يصير قابضًا للدرهم الزائد الذي صار مستقرضًا من الصانع حكمًا لاتصاله بماله، وإن كان الآمر بالخلط في حق الزيادة لا في ملك الصانع؛ لأنه في حق الدرهم المدفوع لا في ملك الأمر، وهاهنا قال: لا يصير قابضًا، وإن صح الأمر باعتبار الغرائر؛ لأنه ملك الأمران لم يصح باعتبار الحنطة.
وأما التي ذكرها في المزارعة إذا قال لآخر: ازرع أرضي ببذرك على أن الخارج كله لي فبذر، فإنه يصير مقرضًا البذر من الآمر، ثم الآمر يصير قابضًا البذر حكمًا لاتصاله بملكه، وإن كان الأمر في حق الحنطة لا في ملك المأمور؛ لأنه باعتبار الأرض لا في ملك الآمر.
ووجه الفرق بينهما: هو أن الأمر في مسألة الخاتم وفي مسألة المزارعة صح في حق الدرهم المدفوع وفي حق الأرض؛ لأنه لا في ملك الآمر على ما مر، وصار فعل المأمور منقولًا إلى الآمر؛ لأن المأمور عامل له بأمره؛ لأنه أمره بالحنطة في أرضه، وهذا سبب ملك لو وجد من الآمر، فإن خلط الجنس بالجنس سبب ملك، وكذا إلقاء حنطة الغير في أرضه سبب ملك، وإذا كان سبب ملك لو وجد من الآمر كان لا الآمر أمر المأمور بأن يباشر له سبب ملك، فيكون آمرًا عاملًا له بأمره بالشراء فاشترى، وإذا صار عاملًا له بأمره وقد صح الاعتبار بملكه صار فعله منقولًا إليه حكمًا فكان بمنزلة ما لو فعل بنفسه، ولو فعل بنفسه صار قابضًا فكذلك هذا، فأما في مسألتنا هذه فالأمر بجعل الحنطة في غرائره إن صح باعتبار الغرائر؛ لأنه يتصرف في ملكه، إلا أن فعله لم يصر منقولًا إليه، وإن كان عاملًا بأمره؛ لأنه عامل لنفسه؛ لأن جعل الحنطة في الغرائر ليس بسبب ملك الأمر لا قبل التسليم ولا بعد التسليم قبل السلم فلا إشكال بعده؛ فلأنه لا يملكه بحمله في الغرائر، وإنما يملكه بالأخذ قبل الجعل في الغرائر، وإذا لم يكن الوضع في الغرائر سبب ملك الآمر لا يمكننا أن نجعله عاملًا للآمر من حيث أنه يباشر له سبب ملك أمره، بقي عاملًا لنفسه بهذا الوضع من حيث إنه جعل غرائره مشغولًا بحنطة نفسه وصار مستعير الغرائر على ما مر، وعمل المستعير لا يصير منقولًا إلى الآمر وإن عمل بأمره، وإذا لم يصر منقولًا صار الحال بعد الأمر كالحال قبله.
وصار قياس مسألتنا من مسألة المزارعة أن لو قال له: أقرضني كر حنطة وألقه في ناحية من أرضي جملة، فألقاه في ناحية من الأرض جملة، لا يصير قابضًا وإن صح الأمر من حيث التصرف في الأرض؛ لأن الإلقاء جملة في ناحية من الأرض ليس بسبب ملك حتى يصير عاملًا للأمر بمباشرة ما هو سبب ملك له فيبقى عاملًا لنفسه من حيث إنه استعمل أرضه بحنطة فيصير مستعير الأرض منه.
وقياس مسألة الخاتم من مسألتنا: أن لو كان في الغرائر حنطة لرب السلم، ولو كان كذلك يصير رب السلم قابضًا؛ لأن الأمر قد صح باعتبار ملكه بالخلط، وإذا صح الأمر وأنه سبب ملك الآمر، لو وجد من الآمر صار عاملًا له فصار فعله منقولًا إليه فصار كأنه فعل بنفسه، ولو فعل بنفسه صار قابضًا فكذلك هذا.
قال: وإذا وكل رب السلم وكيلًا بدفع رأس المال إلى المسلم إليه صح، فإن دفع الوكيل ومما في المجلس بعد لا يبطل السلم، وإن ذهب رب السلم عن المجلس أو المسلم إليه قبل دفع الوكيل بطل السلم، وكذلك لو كان المسلم إليه وكل رجلًا بالقبض.
وإذا كفل رجل لرب السلم برأس المال قبل أن يتفاسخا السلم فالكفالة باطلة؛ لأنه لم يكفل بدين واجب للحال ولا أضاف الكفالة إلى سبب الوجوب قالوا: لو كان كفل بأمر المسلم إليه وقبل ذلك رب السلم صحت الكفالة، ويضمن ذلك شرط صحتها وهو فسخ السلم أولًا.

.نوع آخر:

إذا أسلم إلى رجل دراهم في كر حنطة، ثم إن المسلم إليه اشترى من رجل حنطة على أنها كر وأوفى رب السلم عن كر السلم، فإنه يحتاج لإباحة التصرف فيه من الأكل والبيع وأساه ذلك إلى كيلين كيل للمسلم إليه وكيل لرب السلم ولا يكفي رب المسلم إليه وإن كان رب السلم حاضرًا حين اكتال المسلم إليه، وكذلك لو أن المسلم إليه أمر رب السلم بقبضه فقبضه يحتاج أن يكيل مرتين بكيله، أولًا للمسلم إليه بحكم النيابة عنه، ثم يكيله لنفسه ولا يكتفي بكيل واحد.
وكذلك لو كان المسلم إليه دفع إلى رب السلم دراهم حتى يشتري له حنطة، فاشترى له حنطة بشرط الكيل وقبضه وكاله، ثم قبضه قضاء لحقه فعليه أن يكيله ثانيًا لنفسه، وهذا؛ لأن الكيل أعطي له حكم القبض شرعًا فيما بيع مكايلة؛ لأن القدر في العين معقود عليه فيما بيع مكايلة، ألا ترى لو وجده أزيد مما سمى من القدر رد الزيادة إذا كانت الزيادة بحيث لا تدخل بين الكيلين؛ لأن الزيادة لم تدخل في العقد، ولو وجده انقص، فإنه ينقص عنه حصة من الثمن؛ لأن كل كيل أصل بنفسه وليس مع الباقي قلنا: والقدر غير متعين قبل الكيل لجواز أن يكون مثل الكيل المشروط أو أزيد منه أو أنقص منه وإنما يتعين بالكيل وكان الكيل حكم القبض من حيث إنه يعمل عمل القبض فعين ما ملك بالعقد غير متعين، ثم يحتاج في هذه المسائل قبضين قبض المسلم إليه وقبض رب السلم، وقبض المسلم إليه من بائعه لا ينوب عن قبض رب السلم وإن كان بحضرة رب السلم فكذا الكيل، وإذا اشترى المسلم إليه من رجل حنطة مجازفة أو استفاد من أرضه حنطة أو أوفي رب السلم فهاهنا يكتفي بكيل واحد، حتى إذا كاله المسلم إليه بحضرة رب السلم لم يحتج رب السلم إلى كيل آخر.
وكذلك إذا استقرض المسلم إليه حنطة على أنها كر، ثم أوفى رب السلم، فإنه يكفي كيل واحد، إما كيل رب السلم وإما كيل المسلم إليه بحضرة رب السلم، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا اشتراه المسلم إليه مجازفة أو استفاده من أرضه؛ لأن الكيل غير محتاج إليه في حق المسلم إليه لإباحة التصرف، أما فيما اشتراه مجازفة؛ فلأن المعقود عليه عين المشار إليه لا المقدار وأنه متعين قبل الكيل، وأما فيما استفاده من أرضه، فالكلام فيه ظاهر وإنما المحتاج اليه الكيل في حق رب السلم؛ لأن القدر معقود عليه في حقه، فكان المحتاج إليه كيلًا واحدًا من هذا الوجه، وإنما الأشكال في فصل الاستقراض بملك بعوض، فكان كالشراء فيصير القدر معقودًا عليه متى استقرضه بشرط الكيل، كما لو اشتراه مكايلة، والوجه في ذلك: أن القرض إن كان مبادلة من حين الصورة، فهو عارية من حيث الحكم والاعتبار؛ لأن مايرد المستقرض عين المقبوض حكمًا لا بدله إذ لو لم يجعل، كذلك مبادلة الشيء بجنسه نسيئة وإنه حرام، ولما كان القرض تمليكًا بغير بدل من حين الحكم يعتبر بما لو كان تمليكًا بغير بدل من حيث الحقيقة، وهناك لايحتاج إلى الكيل، فكذا هاهنا بخلاف الشراء؛ لأنه تمليك بعوض حقيقة وحكمًا، وكل جواب عرفته في المكيلات فهو الجواب في الموزونات.

.نوع آخر في السلم ينتقض فيه القبض بعد الافتراق:

إذا قبض المسلم إليه رأس المال، ثم وجدها أو بعضها زيوفًا أو نبهرجة فهاهنا مسائل.
إحديها: أن يجدها مستحقة، وكان ذلك في مجلس العقد، فإنه يقف على إجازة المستحق، إن أجاز جاز، وإن لم يجز بطل السلم؛ لأنه لما ظهر أنها مستحقة ظهر أن رب السلم صار قاضيًا دينه من مال الغير، فيكون القضاء موقوفًا على إجازة صاحب المال، كما لو باع ماله، فإن أجاز ورأس المال قائم جاز؛ لأن القبض توقف على إجازة المستحق، فيعتبر بما لو توقف العقد على إجازة المستحق، ولو توقف العقد على إجازته، فإنما يجوز بإجازته إذا كان المقبوض قائمًا ويصير مثل ما نقد دينًا لصاحب المال على رب السلم؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن له صاحب المال في الابتداء أن يقضي دينه من ماله ضمن مثل ماقضى لصاحب المال، فكذا إذا أجاز قضاءه في الانتهاء، وإن لم يجز انتقض القبض والقضاء؛ لأنه كان موقوفًا على إجازته، فإذا لم يجز بطل كما لو توقف البيع على إجازته، فإنه ينتقض إذا لم يجز فكذا هاهنا.
وإذا انتقض القبض صار كأنه لم يقبض، فإن قبض درهمًا آخر في المجلس بقي العقد على الصحة، وجعل كأنه أخر القبض إلى أخر المجلس، فإن لم يقبض بطل العقد، وإن وجدها ستوقة وكان ذلك في مجلس العقد، ويجوز به المسلم إليه لا يجوز؛ لأن الستوقة ليست من جنس رأس المال (، لأنه) فضة، والستوقة (ليست) بفضة من حيث الحكم؛ لأن الرصاص والنحاس في الستوقة على الفضة، والفضة مغلوبة، والعبرة للغالب، فكان الكل نحاسًا أو رصاصًا من حيث الحكم. ولو كان الكل نحاسًا أو رصاصًا من حيث الحقيقة ورأس المال فضة إذا تجوز به المسلم إليه لم يجز؛ لأنه يصير مستبدلًا برأس مال السلم قبل القبض، وإنه لا يجوز، هذا إذا تجوز به، فأما إذا رده وقبض مكانه آخر في المجلس جاز؛ لأنه إذا قبض آخر مكانه آخر المجلس وإن وجدها زيوفًا أو نبهرجة وكان ذلك في مجلس العقد، فإن تجوز به المسلم إليه جاز؛ لأن الزيوف من جنس رأس المال؛ لأن الزيوف من الدراهم ما تكون الفضة فيه غالبة على الغش، والعبرة للغالب، فكان الكل فضة، فالتجوز به لايصير مستبدلًا برأس المال، وإن رده واستبدل به في المجلس يجوز، وجعل كأنه أخر القبض إلى آخر المجلس، وإن افترقا قبل الاستبدال بطل السلم، فأما إذا وجد شيئًا منها مستحقًا وكان ذلك بعد الافتراق عن المجلس، فإن أجاز المالك وكان رأس المال قائمًا جاز؛ لأن خيار الإجازة لا تمنع صحة القبض، فلا يتبين أن الافتراق عن المجلس جعل قبل قبض رأس المال، وإذا صح القبض على سبيل التوقف جاز بإجازته إذا كان رأس المال قائمًا، وإن رد بطل السلم بقدره قل أو كثر عندهم جميعًا؛ لأن القبض كان موقوفًا بين أن يكون قبض رأس المال متى أجاز، وبين (أن) لا يكون قبض رأس المال متى لم يجز، والموقوف بين الشيئين إذا تعين أحدهما كان هو الثابت من الأصل، وكان قبض رأس المال لم يوجد أصلًا.
وأما إذا وجد شيئًا منها ستوقًا وكان بعد الافتراق عن المجلس بطل السلم بقدره قل أو كثر يجوز به، أو رد أو استبدل مكانه أو لم يستبدل لما ذكرنا أن الستوقة ليست من جنس رأس المال، وإذا لم تكن من جنس رأس (المال) ظهر أن الافتراق عن مجلس العقد حصل من غير قبض رأس المال بقدر الستوقة، فبطل السلم بقدره ولا يعود جائزًا بالقبض بعد المجلس كما لو لم يقبض هذا القدر أصلًا في المجلس ثم قبض، وأما إذا وجد شيئًا منها زيوفًا وكان ذلك بعد الافتراق عن المجلس، فإن تجوز به جاز، كما لو تجوز به في المجلس وإن لم يتجوز به ورده أجمعوا على أنه إذا لم يستبدل في مجلس الرد أن السلم يبطل بقدر مارده، وأما إذا استبدل مكانه أخرى في مجلس الرد، فالقياس: أن يبطل السلم بقدره، وبالقياس أخذ زفر، وفي الاستحسان: لا يبطل متى كان المردود قليلًا، وبه أخذ علماؤنا الثلاثة رحمهم الله، وإن كان كثيرًا فعند أبي حنيفة يبطل وعندهما: لا يبطل استحسانًا.
وكذلك على هذا الاختلاف أحد المتصارفين إذا وجد شيئًا مما قبض زيوفًا ورد بعد المجلس. وجه القياس: أن الرد بالزيافة مما ينقض قبض المسلم إليه في رأس المال من الأصل بدليل أنه: إذا لم يستبدل مكانه أخرى في مجلس الرد بطل السلم بقدره، ولو لم ينتقض قبضه من الأصل، وإنما انتقص من وقت الرد مقصودًا على الرد كان لايبطل السلم كما لو وهب رأس المال منه ولهذا ينفرد الرد.
والدليل على أبي حنيفة ما إذا كان المردود كثيرًا، وإذا كان الرد بالزيافة مما ينقض قبضه من الأصل لو نفى السلم بعدها صحيحًا، فإنما يبقى صحيحًا بصحة القبض الثاني، والقبض الثاني صح من وجه صح من حيث إن مجلس الرد مجلس العقد حكمًا؛ لأن العقد كان باقيًا على الصحة إلى وقت الرد حكمًا بسبب قيام المعقود عليه وكون المقبوض، وإذا كان العقد قائمًا إلى وقت الرد كان مجلس الرد مجلس العقد من حيث الحكم، فصح القبض الثاني باعتبار الحكم، وباعتبار الحقيقة لا يصح القبض الثاني؛ لأنه لم يوجد في مجلس العقد حقيقة، فإن حقيقة العقد توجد بالإيجاب والقبول، فقد دار القبض الثاني بين أن يصح وبين أن لا يصح، والصحة لم تكن ثابتة فلا يثبت بالشك والاحتمال.
وأبو حنيفة رحمه الله هكذا يقول في المردود: إذا كان كثيرًا إلا أنه في القليل استحسن وصح القبض الثاني وإن كان القياس يأبى صحته لنوع ضرورة، فإن أموال الناس لا تخلو عن قليل زيف يكون فيها، لو أخذنا بحقيقة القياس في القليل لضاق الأمر على القياس، والقياس يترك بالضرورة والحرج، فرجحنا كون هذا المجلس مجلس العقد حكمًا على كونه غير مجلس العقد حقيقة بسبب الحرج والضرورة، هذه الضرورة معدومة في الكثير؛ لأن أموال الناس تخلو عن كثير الزيوف، فكانت العبرة فيه للقياس أن يبطل السلم بقدر المردود كما قاله زفر رحمه الله، وبخلاف الستوقة والمستحقة؛ لأن أموال الناس تخلو عن المغصوب والنحاس والرصاص قليلًا كان أو كثيرًا.
وأبو يوسف ومحمد قالا: بأن القبض الثاني صح من وجه ولم يصح من وجه كما قاله زفر رحمه الله فيعتبره صحيحًا احتيالًا لجواز العقد، فإنه يحتال لجواز العقد ما أمكن، فرجحنا كون هذا المجلس مجلس العقد حكمًا على كونه غير مجلس العقد حقيقة احتيالًا منا لجواز العقد كما رجح أبو حنيفة رحمه الله كون هذا المجلس مجلس العقد على كونه غير مجلس العقد حقيقة إذا كان المردود قليلًا ولهذا سمياه استحسانًا.
وهذا بخلاف ما لو وجد ستوقة أو مستحقة ولم يخبر المستحق؛ لأن هناك ظهر أن العقد كان باطلًا كما تفرقا عن المجلس؛ لأنه لم يوجد قبض رأس المال، فأما هنا فبقي العقد صحيحًا بعد الافتراق لوجود قبض رأس المال، وإنما يبطل القبض بالرد، فيكون العقد باقيًا إلى مجلس الرد، فيكون مجلس الرد مجلس العقد حكمًا، فيعتبر بما لو كان مجلس العقد حقيقة إذا تفرقا بعد قبض رأس المال جاز كذا هنا.
ثم اتفقت الروايات الظاهرة المشهورة عن أبي حنيفة أن ما زاد على النصف كان كثيرًا، وإن كان المردود أقل من النصف كان قليلًا، وهذا لأن الكثرة والقلة بين شيئين من حيث الحقيقة إنما تعرف بالمقابلة لا بالتسمية؛ لأن مامن قليل إلا يوجد ماهو أقل منه، فمتى كان المردود أكثر من النصف كان المردود كثيرًا، وإذا كان المردود أقل من النصف كان قليلًا باعتبار المقابلة؛ لأن ما يقابله من غير المردود أقل فكان المردود كثيرًا، وإذا كان المردود أقل من النصف كان قليلًا؛ لأن ما يقابله من غير المردود أكثر، فيكون المردود قليلًا باعتبار المقابلة، وأما النصف ففيه روايتان: في رواية جعله قليلًا، وفي رواية أخرى ما زاد على الثلث كثير، والثلث وما دونه قليل وهذه الرواية موافقة لما ذكرنا في الصيد والذبائح أن الظاهر من العضو في الشاة إذا كان أكثر من الثلث فهو كثير، والثلث وما دونه قليل.

.نوع آخر في بيان ما يكون قصاصًا في السلم وما لا يكون:

هذا النوع ينبنى على أصلين: أحدهما: أن دين السلم مما يستوفى ولا يوفى به دين آخر إما أن يستوفي؛ لأن الاستيفاء وفاء بموجب العقد، وأما لا يوفى به دين آخر؛ لأن إيفاء دين آخر به استبدال والاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز، لقوله عليه السلام: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» والمراد المسلم فيه حال بقاء العقد، ورأس مال السلم بعد انفساخه، ولأن المسلم فيه مبيع وإنه دين، واستبدال المبيع بالعين قبل القبض لا يجوز مع أن العين أقبل للتصرف من الدين، فلأن لا يجوز بالمبيع بالدين أولى.
وأصل آخر: وهو أن باب في المقاصة تصير آخر الدينين قضاء لأولهما ولا يصير أول الدينين قضاء لآخرهما؛ لأن القضاء يتلو الوجوب ولا يسعه، ولهذا في الدين المشترك لو وجب للمديون على أحد الشريكين دين بقدر حصته، فصار قصاصًا كان للشريك الآخر أن يرجع عليه بنصفه؛ لأنه صار مستوفيًا حصته، وإذا كان دين المديون سابقًا على دينهما، فصار قصاصًا لم يكن لشريكه أن يرجع عليه بشيء؛ لأنه صار قاضيًا بنصيبه دينًا عليه لا مقتضيًا، وعلامة الاستيفاء قبض عين مضمون مثل المسلم فيه بعد عقد السلم لا على وجه الاقتضاء بدين آخر. ألا ترى أن في موضع الذي صار مستوفيًا إنما صار مستوفيًا بهذا الحد، وهو قبض عين ديون مثل المسلم فيه بعد عقد السلم لا على وجه الاقتضاء بدين آخر، وهذا لأن قبض عين الدين لا يتصور قبضه بهذا الطريق، وهو أن يصير المقبوض مضمونًا على القابض إذا قبضه لا على وجه الاقتضاء بدين آخر، ثم يلتقيان قصاصًا إذا كان المقبوض مثل الدين، وإن كان في هذا نوع مبادلة لكن الاستيفاء لا يهيأ بدونه يسقط اعتبار هذا النوع من المبادلة شرعًا بقي المحرم الاستبدال الخالص، وإنما شرطنا أن يكون قبض مثل هذا العين عقد السلم؛ لأنه لو كان قبله كان دين السلم آخر الدينين، وآخر الدينين يصير قضاء لأولهما ولا يصير أولهما قضاء لآخرهما، فيكون استبدالًا بالمسلم فيه.
وإذا وجب على رب السلم مثل السلم بسبب متقدم على العقد لم يصر قصاصًا بالسلم. أما على الأصل الأول؛ فلأن ما هو صورة الاستيفاء وهو القبض الحقيقي لم يوجد بعد عقد السلم، وأما على الأصل الثاني؛ فلأنه لو وقعت المقاصة صار دين السلم قضاء لما وجب قبل عقد السلم، وكذلك إذا وجب بعقد بعده لم يصر قصاصًا نحو أن يشتري رب السلم من المسلم إليه شيئًا بحنطة مثل السلم للأصل الأول، وهو انعدام القبض حقيقة بعد عقد السلم ديون الأصل الثاني.
ولو وجب عليه بقبض مضمون نحو أن غصب منه كذا بعد عقد السلم واستقرض منه قصاصًا لوجود حد الاستيفاء وهو قبض مضمون بعد عقد السلم لا على وجه الاقتضاء بدين آخر.
ولو كان غصبه كرًا قبل العقد وهو قائم في يده حتى حل السلم قصاصًا صار سواء كان بحضرتهما أو لم يكن؛ لأن القبض حقيقة موجود وإنه مما يمتد، فكان للدوام حكم الابتداء فجارت المقاصة، ولو كان الكر وديعة عند رب السلم قبل العقد أو بعده، فجعله بالمسلم إليه قصاصًا لم يكن قصاصًا إلا أن يكون بحضرتهما أو يرجع رب السلم، فيتخلى به؛ لأن قبض رب السلم كان أمانة، والمعتبر في الاستيفاء قبض ضمان، فلابد من تجديد القبض بالتخلية به. ولو غصب منه كرًا بعد العقد قبل حلول السلم، ثم حل، فإنه يصير قصاصًا.
ولو كان الغصب واقعًا قبل العقد، فلابد من أن نجعله قصاصًا. والفرق وهو: أن في الفصل الأول القبض الحقيقي بصفة الضمان وجد بعد عقد السلم، فصلح اقتضاءًا، لكن لم تثبت المقاصة قبل حلول الأجل لما فيه من إبطال الأجل، فإذا حل الأجل زال المانع، فتثبت المقاصة، أما في الفصل الثاني القبض حين وجد لم يصلح اقتضاءًا لوجوده قبل عقد السلم إلا أن لدوامه حكم الابتداء جازت المقاصة، ومن حيث إنه حين وقع لم يصلح اقتضاءًا لابد من إثبات المقاصة من قبل المتعاقدين، ولو غصب منه بعد عقد السلم كرًا أجود من السلم لم يصر قصاصًا إلا برضا المسلم إليه، وإن كان أردأ لم يصر قصاصًا رب السلم اعتبارًا لحق كل واحد منهما في الوصف.
قال محمد رحمه الله في (الزيادات): رجل أسلم إلى رجل مائة درهم في كر حنطة وسط إلى أجل معلوم، ودفع إليه رأس المال، ثم إن رب السلم باع من المسلم إليه عبدًا بكر حنطة وسط مثل المسلم فيه، وقبض الكر ولم يسلم العبد إليه حتى انتقض العقد في العبد، بموت العبد أو بالرد بخيار الشرط أو الرؤية أو بالرد بالعيب قبل القبض بقضاء أو بغير قضاء، أو بعد القبض بقضاء حتى انفسخ من كل وجه في حق الناس كافة، كان على رب السلم أن يرد الكر الذي هو ثمن العبد حكمًا لانفساخ العقد في العبد، فإن العقد قد انفسخ في العبد بهذه الأسباب من كل وجه، وعند انفساخ العقد لا يسلم العبد للمشتري، فلا يسلم ثمنه للبائع.
فإن قال بائع العبد وهو رب السلم: أنا أمسك الكر المقبوض وأرد مثله، كان له ذلك؛ لأن المستحق على البائع من الثمن حال انفساخ العقد ما هو المستحق على المشتري حال مباشرة العقد، والمستحق على المشتري حال مباشرة العقد إذا كان العقد مطلقًا كر في الذمة لا كر بعينه، فكذا المستحق على البائع حال انفساخ العقد.
توضيحه: أن استحقاق الرد بحكم الفسخ قائمًا، يثبت استحقاق ما ورد عليه الفسخ، والفسخ ما ورد على المقبوض العين، وإنما ورد على الموصوف في الذمم ضرورة ورود البيع عليه، فإن الفسخ إنما ورد عليه البيع، ولأن هذا الكر ما صار ملكًا له بالعقد ليزول عن ملكه بانفساخ العقد؛ لأن العقد ما ورد على المعين، وإنما صار ملكًا له بالقبض وقبضه باق بعد، فيبقى الكر مملوكًا له، فكان له أن يحبسه، فإن لم يرد رب السلم الكر الذي هو ثمن حتى حل السلم صار قصاصًا بكر السلم تقاصا أو لم يتقاصا؛ لأن البيع إذا انتقض وإنفسخ من كل وجه بالأسباب التي ذكرنا بطل جهة الثمنية للكر، فبقي الكر في يده مقبوضًا بعد عقد السلم لا على وجه الاقتضاء بدين آخر وهو قبل السلم، فقد وجد علامة الاستيفاء، فصار قصاصًا بالسلم لهذا، وكذلك لو كان عقد البيع قبل السلم ولكن قبض الكر الذي هو به أسلم ممن كان بعد السلم، ثم انفسخ البيع بينهما بالأسباب التي ذكرنا صار الكر الذي هو ثمن قصاصًا بالسلم عند حلول الأجل؛ لأن العبرة لحالة القبض؛ لأن الاستيفاء يقع بالقبض، والقبض وجد بعد عقد السلم، فتقدم العقد وتأخره في هذا سواء.
ولو كان مشتري العبد وهو المسلم إليه رد العبد بعد القبض بالتراضي أو تقايلا العقد في العبد والباقي بحاله، فإن الكر الذي هو ثمن لا يصير قصاصًا بالسلم في الفصلين جميعًا تقاصا أو لم يتقاصا، وإنما كان كذلك؛ لأن الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي، والإقالة فسخ في حق المتعاقدين عقد جديد في حق الثالث؛ لأن الصورة صورة الفسخ وهو قولهما فسخًا، والمعنى معنى المبادلة، وهو التمليك والتملك بالتراضي ولا يمكن اعتبار المعنى والصورة في حق شخص واحد، فاعتبرنا الصورة في حق المتعاقدين، واعتبرنا المعنى في حق الثالث، وحرمة الاستبدال بالمسلم فيه حق الشرع فصار في حرمة حق الاستبدال الذي هو حق الشرع عقدًا جديدًا، وإذا اعتبرنا على هذا الوجه بقي العقد الأول وثمنه، فبقي الكر مقبوضًا بجهة الثمنية، فلا يمكن أن يجعل ذلك القبض استيفاء، لما ذكرنا أن الاستيفاء إنما يكون بقبض عين مضمون هو مثل السلم لا بجهة الاقتضاء بدين آخر، وهذا الكر بقي مقبوضًا بجهة الثمنية، فلو صار قصاصًا كان هذا استبدالًا بالمسلم فيه قبل القبض، وإنه لا يجوز، أو نقول بأن الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي والإقالة اعتبر كل واحد منهما فسخًا في حق المتعاقدين فيما هو من حقوق ذلك العقد اعتبارًا للصورة، وفيما ليس من حقوق ذلك العقد اعتبر بيعًا جديدًا اعتبارًا للمعنى على ما ذكرنا، وعقد السلم بشيء من حقوق ذلك العقد فيجعل في حق حكم السلم بمنزلة بيع مبتدأ، ولما كان هكذا بقي العقد الأول وثمنه والتقريب ما ذكرنا، ولو كان عقد البيع وقبض الكر قبل عقد السلم والباقي بحاله، فإن الكر الذي هو ثمن العبد لا يصير قصاصًا بكر السلم وإن تقاصا؛ لأنه لو صار قصاصًا صار دين السلم ايفاء وقضاء الثمن العبد؛ لأنه آخر الدينين وقد ذكرنا أن آخر الدينين يصير قصاصًا لأولهما، فيصير آخرهما مقبوضًا بدين السلم ولا يصير دين السلم مقبوضًا فلا يجوز.

.نوع آخر هو قريب من هذا النوع:

قال محمد رحمه الله في (الجامع الكبير): رجل أسلم إلى رجل في قفيز من رطب وجعل أجله في جنسه حتى كان جائزًا، فأعطاه المسلم إليه مكانه قفيزًا من تمر وأسلم في قفيز من تمر، فأعطاه مكانه قفيرًا من الرطب، وتجوز به رب السلم فهو جائز في قول أبي حنيفة؛ لأن الرطب والتمر عنده جنس واحد جاز أحدهما بالآخر كيلًا بكيل ابتداء، فيكون هذا استيفاءًا للمسلم فيه لا استبدالًا، وعندهما: إن كان المسلم فيه قفيز رطب، فأعطاه مكانه تمرًا لا يجوز على كل حال؛ لأنهما يعتبران المماثلة بعد الجفاف ولهذا لا يجوز بيع الرطب بالتمر عندهما كيلًا بكيل ابتداءً ولا مساواة بينهما في تلك الحالة، فإن الرطب تنقص إذا جف فيصير رب السلم بقبض كرٍ من تمر مستوفيًا أكثر من حقه باعتبار النظر إلى تلك الحالة وهو ربا فلم يجز، وصار كما لو أسلم في ثلاثة أذرع قفيز تمر، فاستوفى قفيزًا من تمر، فأعطاه قفيزًا من رطب فهو على وجهين:
إما أن يقبضه على وجه الاستيفاء بأن يقول المسلم إليه لرب السلم: خذه لحقك أو قضاء لحقك أو قضاء من حقك أو ما أشبه ذلك من العبارات، أو يقبضه على وجه الصلح والإبراء بأن يقول: خذه صلحًا بحقك أو قضاء من حقك على أني بريء مما كان لك قبلي.
ففي الوجه الأول: هو باطل؛ لأن تقدير ما قال المسلم إليه خذ كمال حقك وما أعطاه لا يفي بكمال حقه؛ لأن العبرة عندهما لحال الجفاف، والرطب ينقص إذا جف فلا يصير مستوفيًا جميع حقه باعتبار تلك الحالة، وليس في لفظه ما يدل على إسقاط شيء فلا يدرى كم أخذ من حقه وكم بقي مع أنه إذا انتقص مقدار الربع مثلًا، فإن جعلناه مستوفيًا جميع حقه كان استيفاء لقفيز بثلاثة أرباع قفيز وذلك ربا، وإن جعلناه مستوفيًا بثلاثة أرباع قفيز، فالمسلم إليه لم يرض بإعطاء قفيز من الرطب إلا وأن يكون قضاءً عن جميع حقه، وفي هذا تفويت حقه في صفة الرطوبة وهي صفة مقصورة.
وفي الوجه الثاني: وهو ما إذا كان على طريق الصلح والإبراء ينظر إلى هذا الرطب كم تنقص إذا جف، فإن علم ذلك بنى على ما يعلم، وإن لم يعلم بنى ذلك على أكثر ما لا يزيد عليه النقصان، فإن علم أنه إذا جف ينقص مقدار الربع أو علم أنه لا يزيد النقصان على الربع ويبقى بثلاثة أرباع ينظر بعد هذا إن كانت قيمة القفيز من الرطب مثل قيمة ثلاثة أرباع قفيز من تمر أو أقل، فالصلح جائز؛ لأن رب السلم استوفى بعض حقه وأبرأه عما بقي؛ لأن في لفظ الصلح ما يدل على الإبراء والإسقاط، كيف وقد صرح بالإبراء في بعض المواضع ولم يشترط عليه بإزاء ما أبرأه عوضًا، وهو الحسن الجميل الذي ورد به الأثر فيجوز، وإن كانت قيمة قفيز من الرطب أكثر من قيمة ثلاثة أرباع تمر السلم بطل الصلح؛ لأنه وإن استوفى قدر ثلثة أرباع وأبرأه عن الربع فقد جعل لنفسه بمقابلة ما أبرأه عنه فضل جودة الرطوبة فلا يجوز، كمن له على آخر ألف درهم نبهرجة إلى سنة فصالحه على خمسمائة نبهرجة معجلة، أو كان له على رجل ألف درهم نبهرجة حالة، فصالحه على خمسمائة جيدة حالًا لا يجوز لما قلنا: إنه اعتاض صفة الجودة عما أبرأ فكذا هاهنا.
واستشهد محمد رحمه الله لإيضاح هذا بما لو كان لرجل على رجل قفيز تمر مؤجل فصالحه على نصف قفير تمر حال كان الصلح باطلًا؛ لأنه حط القدر بمقابلة فضل الجودة في المسألة الأولى، وبمقابلة فضل الحلول في المسألة الثانية كذا هنا.
رجل أسلم إلى رجل في قفيز من حنطة، فأعطاه مكانه قفيز حنطة مقلية لم يجز في قولهم جميعًا؛ لأنه لا مماثلة بين المقلية وغير المقلية شرعًا، ولهذا لا يجوز بيع المقلية بغير المقلية قفيزًا بقفيز عندهم جميعًا، فكان هذا استبدالًا عند الكل لا استيفاء فلهذا لا يجوز. وكذلك لو أسلم في قفيز بسر أخضر أو أصفر في جنسه وأعطاه مكانه قفيز بسر مطبوخ، أو أسلم في قفيز حنطة، فأعطاه مكانه قفير حنطة مطبوخة، لو أسلم في قفيز حنطة، فأعطاه مكانه قفيز دقيق لا يجوز؛ لأنه لا مماثلة بين البسر المطبوخ وبين الأخضر، ولهذا لا يجوز مع أحدهما بالآخر قفيزًا بقفيز ابتداء، وكذا المطبوخ على هذا، وكذا لا يجوز بيع قفيز حنطة من المطبوخة بقفيز من غير المطبوخة، ولا يجوز بيع قفيز حنطة بقفيز دقيق، فعلم أنه لا مماثلة، فكان هذا استبدالًا لا استيفاءًا.
ولو أسلم في قفيز حنطة فأعطاه قفيزًا من حنطة قد أنقع من الماء حتى انتفخ، فهذا جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد لا يجوز؛ لأنهما مثلان عندهما خلافًا لمحمد رحمه الله، ولهذا جاز بيع الحنطة المبلولة بغير المبلولة عندهما قفيزًا بقفيز خلافًا لمحمد، وكان قول محمد في هذا على قياس قوله في الرطب.
ولو أسلم في زيتون فأخذ مكانه زيتًا لا يجوز وإن علم أنه أقل مما في الزيتون؛ لأنهما صنفان فيكون استبدالًا والله أعلم بالصواب.

.نوع آخر في الاختلاف الواقع بين رب السلم وبين المسلم إليه وإنه على وجوه:

الأول: أن يقع الاختلاف بينهما في المسلم فيه أو في رأس المال أو فيهما ويجب أن يعلم بأن هاهنا مسألتان: الأولى ما إذا كان رأس المال دينًا كالدارهم والدنانير وإنها على وجوه ثلاثة: الأول: أن يقع الاختلاف في المسلم فيه وإنه على وجوه ثلاثة، إن وقع الاختلاف في جنسه بأن قال رب السلم: أسلمت عشرة دراهم في كر حنطة وقال المسلم إليه: أسلمت عشرة دراهم في كر شعير تحالفا استحسانًا إن لم يكن لهما بينة، ويبدأ بيمين المسلم إليه في قول أبي يوسف الأول، وفي قوله الآخر يبدأ بيمين رب السلم، وإذا تحالفا فالقاضي يقول لهما: ماذا تريدان؟ لأن العقد لا ينفسخ بمجرد التحالف كما في بيع العين، فإن قالا: نفسخ العقد أو قال أحدهما ذلك فسخ القاضي بينهما، وإن قالا: لا نفسخ، تركهما رجاء أن يعود أحدهما إلى تصديق صاحبه، وأيهما أقام بينة قبلت بينته، وفي قبول بينة المسلم إليه إشكال إذ لا وجه إلى قبولها لإثبات العشرة لنفسه؛ لأن رب السلم قد أقر له بعشرة، ولا وجه إلى قبولها لإثبات الشعير؛ لأنه يثبت الشعير للغير، والبينة لا تقبل على إثبات حق الغير، ولكن الوجه في ذلك أن بينة المسلم إليه إنما تقبل لإسقاط اليمين عن نفسه، وكما تقبل بينة الإنسان لإثبات الحق لنفسه تقبل لإسقاط اليمين عن نفسه.
ألا ترى أن بينة المودع على الرد مقبولة لإسقاط اليمين عن نفسه؛ لأن البراءة حاصلة له بقوله رددت. وإن أقام البينة إن لم يتفرقا عن مجلس العقد بعد، فعند محمد رحمه الله يقضي بعقدين، يقضي على رب السلم بعشرين درهمًا وعلى المسلم إليه بكر حنطة وكر شعير، وإن تفرقا عن المجلس وقد نقد رب السلم عشرة لا غير قضي بعقد واحد ببينة رب السلم، وعند أبي يوسف رحمه الله: يقضي بعقد واحد ببينة رب السلم على كل حال.
فالأصل عند محمد في جنس هذه المسائل أن يقضي بسلمين ما أمكن، فإن لم يمكن لضرورة حينئذ يقضي بسلم واحد، وإنما كان الأصل القضاء بعقدين؛ لأنه اجتمع ما يوجب القضاء بعقدين، فإن كل واحد ادعى عقدًا غير العقد الذي ادعاه صاحبه، فإن العقد على الحنطة على الشعير وما يوجب القضاء بعقد واحد، فإنهما مع اختلافهما اتفقا على أنه لم يجر بينهما إلا عقد واحد فكان القضاء بعقدين وفيه عمل بالبينتين، وبدعوى العقدين صورة أولى من القضاء بعقد واحد، وفيه تعطيل إحدى البينتين.
إذا ثبت هذا فقول ما داما في مجلس العقد أمكن القضاء بالعقدين إذ يمكن القضاء بعشرين في كل عقد بعشرة إذ يمكن نقد رأس المال كل عقد في مجلسه، أما إذا تفرقا عن المجلس وقد نقد رب السلم عشرة لا غير لا يمكن القضاء بعقدين إذا لم ينقد رأس مال أحدهما في المجلس فنقضي ببينة رب السلم؛ لأن رب السلم ببينته تثبت الحق لنفسه، والمسلم إليه يثبت الحق لغيره.
والأصل عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: القضاء بسلم واحد إلا إذا تعذر، فيقضي بسلمين حينئذٍ على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإنما كان الأصل هو: القضاء بعقد واحد مما يأباه القياس؛ لأن القياس يأبى جواز سلم؛ لأنه بيع ما ليس عند الناس. إذا ثبت هذا فنقول القضاء على إثبات العشرة لنفسه وعلى إثبات الشعير لغيره، والعشرة ثابتة له بإقرار رب السلم، فلا تقبل بينته من هذا الوجه، ولذلك لا تقبل بينته على إثبات الشعير؛ لأن البينة على الشعير قامت على إثبات ما أقر به للغير والبينة على إثبات ما يقر به الإنسان لغيره غير مقبولة، فإن من أقر لإنسان بشيء وكذبه المقر له، فقال المقر: أنا أقيم البينة على ذلك لا تقبل بينته، فهو معنى قولنا: أمكن رد بينة المسلم، فيمكن القضاء بعقد واحد ببينة رب السلم من هذا الوجه فيقضي به.
وإن اختلفا في قدر المسلم فيه، فهذا وما لو اختلفا في جنس المسلم فيه سواء إذ المعنى لا يوجب الفصل.
وإن اختلفا في صفة المسلم فيه ولا بينة لواحد منهما، القياس: أن يتحالفا، وفي الاستحسان: أن (لا) يتحالفا، وبالقياس نأخذ.
وجه الاستحسان: أنهما اختلفا في صفة المبيع، فلا يتحالفان كما في بيع العين.
وجه القياس: أن الاختلاف في صفة المسلم فيه، وإنه دين بمنزلة الاختلاف في أصل المعقود عليه في بيع العين بأن قال المشتري: اشتريت منك هذا الكر وقال البائع: لا بل بعتك هذا الكر الآخر، وهذا لأن الدين غائب عندنا يعرف بصفته فيختلف أصله باختلاف صفته، فهو معنى قولنا: الاختلاف في صفة المسلم فيه وإنه دين بمنزلة الاختلاف في أصل المعقود عليه في بيع العين. ولو اختلفا في أصل المعقود عليه في بيع العين مخالفًا كذا هاهنا بخلاف ما إذا اختلفا في صفة المعقود عليه في بيع العين أنه عشرة أذرع أو أحد عشر؛ لأن المعقود عليه غير مشار إليه قط لا يصير عينين باختلاف الصفة، فيكون الاختلاف واقعًا في الصفة لا في المعقود عليه لا يوجب التحالف؛ لأن هذا السبب باختلاف فيما هو من صلب العقد الذي لا يوجد العقد بدونه.
ألا ترى أن البيع يوجد بدون هذه الصفة، فكان بمنزلة ما اختلفا في شرط يلحق بالعقد الذي يوجد بدونه العقد، وذلك لا يوجب التحالف كذلك هاهنا، والمعنى: أن التحالف عرف بخلاف القياس بالنص فيما إذا وقع الاختلاف فيما هو من صلب العقد الذي لا يوجد العقد بدونه، فيبقى ما وراءه على أصل القياس، فإن قامت لأحديهما بينة فإنه يقضي ببينته طالبًا كان أو مطلوبًا، كما وإن أقاما جميعًا البينة فعلى قولهما لا شك أنه يقضى بعقد واحد ببينة رب السلم كما لو اختلفا في جنس المسلم فيه أو في قدره. وأما على قول محمد رحمه الله: ذكر في بعض المواضع أنه يقضي بعقدين وإنه قياس، وبه نأخذ؛ لأن الاختلاف في صفة الدين على جواب القياس جعل بمنزلة الاختلاف في أصل المعقود عليه.
هذا إذا اختلفا في المسلم فيه ورأس المال شيء لا يتعين بالتعين إن اختلفا في جنسه بأن قال رب السلم: أسلمت إليه عشرة دراهم في كر حنطة وقال المسلم إليه: لا بل أسلمت إلى دينارًا في كر حنطة، ولا بينة لواحد منهما لا يتحالفان قياسًا، ويكون القول قول رب السلم؛ لأنهما اتفقا على حق رب السلم واختلفا في حق المسلم إليه؛ لأن المسلم إليه يدعي الدينار ورب السلم ينكر، فالقول قول رب السلم لا المنكر في الشرع.
وفي الاستحسان: يتحالفان كما إذا اختلفا في جنس الثمن في بيع العين، فإن أقام البينة، فعند محمد يقضي بعقدين على رب السلم بدينار وعشرة دراهم، ويقضي على المسلم إليه بكري حنطة إن لم يتفرقا عن مجلس العقد؛ لأن القضاء بعقدين على هذا الوجه ممكن؛ لأن رأس المال دين والمسلم فيه كذلك ومحل الدين الذمة، وفي الذمة سعة فأمكن القضاء بعقدين، ومن أصله القضاء بعقدين إلا في موضع التعذر، ولم يذكر في (الكتاب) قول أبي حنيفة وأبي يوسف في هذه الصورة.
وذكر ابن سماعة في (نوادره) عنهما: أنه يقضي بعقد واحد ببينة المسلم إليه وهو الصحيح؛ لأن الأصل عندهما أن يقضي بعقد واحد ما أمكن القضاء بعقد واحد يرد بينة رب السلم؛ لأن بينته قامت على إثبات العشرة وكر حنطة وكر حنطة ثابت له بإقرار المسلم إليه، فلا حاجة إلى إثباته بالبينة، والعشرة ثابتة للمسلم فبينة رب السلم قامت في حق العشرة على إثبات ما أقر به لغيره فهو معنى قولنا أمكن رد بينة رب السلم فأمكن القضاء بعقد واحد فيقضى به.
وإن وقع الاختلاف في قدر رأس المال أو صفته، فالجواب فيما إذا وقع الاختلاف في صفة المسلم فيه أو قدره، فأما إذا اختلفا في المسلم فيه وفي رأس المال ورأس المال شيء لا يتعين بالتعيين إن اختلفا في جنس المسلم فيه وفي جنس رأس المال، ولا بينة لواحد منهما يتحالفا قياسًا واستحسانًا؛ لأن كل واحد منهما حصل مدعيًا ومدعى عليه، المسلم إليه يدعي الدينار على رب السلم، ورب السلم يدعي الحنطة على المسلم إليه، والمسلم إليه ينكر، فيتحالفان قياسًا واستحسانًا كما في بيع العين، فإن أقام أحدهما بينة قبلت بينته، وإن أقاما البينة يقضي بالعقدين إن لم يتفرقا عن مجلس العقد بلا خلاف، أما عند محمد فظاهر، وأما عندهما؛ فلأن عندهما إنما يقضي بعقد واحد عند الإمكان ولا إمكان هاهنا؛ لأن إمكان القضاء بعقد واحد ما يرد إحدى البينتين، أو بقول كل واحد منهما في إثبات الزيادة مع القضاء بعقد واحد، وهنا تعذر القضاء بعقد واحد يرد إحدى البينتين؛ لأن كل واحد منهما قامت في موضعها ومحلها؛ لأن رب السلم أقام البينة على الحنطة، والحنطة غير ثابتة له بإقرار المسلم إليه؛ لأن المسلم إليه منكر للحنطة، والمسلم إليه أقام البينة على الدينار، والدينار غير ثابت بإقرار رب السلم؛ لأن رب السلم منكر للدينار، فهو معنى قولنا: تعذر رد البينتين، وتعذر قبول واحد في إثبات الزيادة مع القضاء بعقد واحد؛ لأن الزيادة إنما تتحقق في جنس واحد لا في جنسين مختلفين، فالدينار لا يصلح زيادة في الدراهم، والدراهم لا تصلح زيادة في الدينار، والحنطة لا تصلح زيادة في الشعير، وكذا الشعير لا يصلح زيادة في الحنطة، فتعذر القضاء بعقد واحد من هذا الوجه فيقضي بعقدين ضرورة.
وإن وقع الاختلاف في قدر المسلم فيه وفي قدر رأس المال ولا بينة لهما يتحالفان، وإذا أقام أحدهما بينة قبلت بينته، وإن أقام البينة قضى بعقدين عند محمد إن لم يتفرقا عن مجلس العقد، وعندهما: يقضي بعقد واحد إذ القضاء بعقد واحد ممكن بأن يقول: بينة كل واحد منهما على إثبات الزيادة في عقد واحد على ما أقر له صاحبه؛ لأن الجنس واحد، فيمكن القضاء بكل واحد من البينتين في عقد واحد من حيث إثبات الزيادة من غير إثبات عقد آخر، فلا ضرورة إلى القضاء بعقدين، فيقضي على رب السلم بعشرين ببينة المسلم إليه، ويقضي على المسلم إليه بكري حنطة ببينة رب السلم.
وإن اختلفا في صفة رأس المال والمسلم فيه، فالجواب في البينة عندهم جميعًا كالجواب فيما إذا اختلفا في صفة رأس المال لا غير، فكل جواب عرفته ثمة في حق إقامة البينة عندهم جميعًا فهو الجواب هنا، هذا الذي ذكرنا إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير.
المسألة الثانية: إذا كان رأس المال عينًا بأن كان عرضًا إن اختلفا في جنس المسلم فيه، فإن الجواب في التحالف أن لا يتحالفا قياسًا، ويكون القول قول المسلم إليه؛ لأنهما اتفقا على حق المسلم إليه، واختلفا في حق رب السلم؛ لأن رب السلم يدعي حنطة والمسلم إليه ينكر، فيجب أن يكون القول قول المسلم إليه ولا يتحالفان، ولكن في الاستحسان يتحالفان، ثم الجواب إلى آخره على ما قلنا.
وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته وإن أقاما جميعًا البينة، فإنه يقضي بعقد واحد منهم جميعًا، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلا إشكال؛ لأن عندهما يقضي بسلم واحد مع إمكان القضاء بسلمين في حال عدم الإمكان.
أما على قول محمد؛ فلأنه تعذر القضاء بعقدين؛ لأن رأس المال عين، والعين متى جعلت رأس مال في السلم لا يمكن أن يجعل رأس مال في سلم آخر إلا بعد إثبات الشراء ثانيًا من المسلم إليه ولم يمكن إثبات الشراء؛ لأن الشهود لم يشهدوا بذلك لتعذر القضاء بعقدين فوجب القضاء بعقد واحد، بخلاف ما لو كان رأس المال دراهم أو دنانير؛ لأنه يجب دينًا في الذمة وفي الذمة سعة، فيمكن القضاء بعشرين كما يمكن بعشرة فقد أمكن القضاء بعقدين، فلا يقضي بعقد واحد.
وإن اختلفا في قدر المسلم فيه فالجواب في حق التحالف والبينة كالجواب في الفصل الأول عندهم جميعًا.
وإن اختلفا في صفة المسلم فيه إن لم تقم لأحدهما بينة، فالقياس على ما مضى من الاستحسان أن يتحالفا، وفي الاستحسان: أن لا يتحالفا، وبالقياس نأخذ، ثم الجواب إلى آخره على ما بينا، وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته. وإن أقاما جميعًا البينة يقضي بعقد واحد عندهم جميعًا؛ لأن القضاء بعقدين غير ممكن إلا بعد الشراء ثانيًا من المسلم إليه، والشهود لم يشهدوا بالشراء.
فإن اختلفا في جنس رأس المال ولم يقم لأحدهما بينة، القياس: أن لايتحالفا ويكون القول قول رب السلم، وفي الاستحسان: يتحالفان. وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته لما بينا، وإن أقاما جميعًا البينة فعلى قول محمد رحمه الله يقضي بعقدين؛ لأن القضاء بالعقدين ممكن؛ لأن كل فريق شهد بعين لم يشهد به الآخر، والقضاء بعينين في عقدين ممكن، فيقضي بعقدين كما لو اختلفا في جنس رأس المال ورأس المال دين، وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يقضي بعقد واحد على رواية الكرخي وهو الأصح؛ لأن القضاء بعقد واحد ممكن برد أحد البينتين وهي بينة رب السلم؛ لأنها قامت على إثبات ماهو ثابت له بإقرار المسلم إليه، ولما أمكن رد إحدى البينتين أمكن القضاء بعقد واحد.
وإن اختلفا بعقد في مقداره إن لم تقم لأحدهما بينة، فالقياس: أن يكون القول قول رب السلم ولا يتحالفان؛ لأن المسلم إليه يدعي زيادة ثوب في رأس المال وهو ينكر، وفي جانب المسلم فيه اتفقا على أنه كر حنطة إلا أنهما يتحالفان استحسانًا، وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته. وإن أقاما جميعًا البينة يقضي بعقد واحد عندهم؛ لأن القضاء بعقدين غير ممكن؛ لأن أحد الثوبين باتفاق البينتين صار رأس المال في عقده، فلا يتصور أن يجعل رأس المال في عقد إلا بإدراج زيادة لم يشهد به الشهود وهو الشراء.
وإن اختلفا في صفته إن لم يقم لأحدهما بينة، فإنهما لا يتحالفان قياسًا واستحسانًا، ويكون القول قول رب السلم؛ لأنهما اختلفا في صفة رأس المال وهو عين، فكان بمنزلة ما لو اختلفا في صفة المعقود عليه في بيع العين، فيكون القول قول منكر الزيادة قياسًا واستحسانًا، فإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته، وإن أقاما جميعًا البينة، فإنه يقضي بعقد واحد عندهم جميعًا؛ لأن رأس المال واحد (وهو) عين.
وإن اختلفا فهما إن اختلفا في جنس رأس المال وجنس المسلم فيه إن لم تقم لأحدهما بينة، فإنهما يتحالفان قياسًا واستحسانًا؛ لأن كل واحد منهما حصل مدعيًا ومدعى عليه، وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته وإن أقاما جميعًا البينة يقضي بعقدين لما ذكرنا فيما إذا اختلفا في جنس رأس المال والمسلم فيه فهما دينان.
وإن اختلفا في قدر رأس المال والمسلم فيه إن لم تقم لأحدهما بينته، فالجواب في التحالف أنهما يتحالفان قياسًا واستحسانًا، وإن قامت لأحدهما بينة يقضي ببينته، وإن أقاما جميعًا البينة، فإنه يقضي بعقد واحد عندهم جميعًا ويقبل بينة كل واحد منهما في إثبات الزيادة؛ لأن القضاء بعقدين متعذر لما ذكرنا، ويمكن العمل بالبينتين من حيث إثبات الزيادة؛ لأن الجنس واحد من الجانبين، فإنما إذا اختلفا في صفة رأس المال والمسلم فيه ولم يقم لأحدهما بينة، فإنهما يتحالفان قياسًا واستحسانًا، وإن قامت لأحدهما بينة فإنه يقضي ببينته، وإن أقاما جميعًا البينة فإنه يقضي بعقد واحد وتقبل بينة كل واحد منهما في إثبات الزيادة يقضي بثوب هو أحد عشر ذراعًا وبكر حنطة جيدة؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن رأس المال عين ولابد من قبول كل واحد من البينتين؛ لأنهما قامت على إثبات ما هو غير ثابت، فيقضي بعقد واحد بالزيادة الثابتة بالبينتين. هذا الذي ذكرنا كله إذا اختلفا في المسلم فيه أو في رأس المال أو فيهما.
الوجه الثاني: إذا اختلفا في بيان مكان الإيفاء، فقال الطالب: شرطت لي الإيفاء في مكان كذا، وقال المطلوب: لا، بل شرطت لك الإيفاء في مكان كذا لمكان دون ذلك المكان، ولم تقم لهما بينة، فعلى قول أبي حنيفة لا يتحالفان قياسًا واستحسانًا، ويكون القول قول المسلم إليه مع يمينه، وقال أبو يوسف ومحمد: ذهبا في ذلك إلى أنهما اختلفا في مقدار المسلم فيه من حيث المعنى أو في مقدار رأس المال فيتحالفا، كما لو اختلفا في مقدار رأس المال، وإنما قلنا ذلك؛ لأن المسلم إليه يلزمه زيادة قفيز أو قفيزين لمؤنة الكراء متى لزمه النقل إلى المكان الذي يدعيه غير رب السلم تلزمه زيادة درهم لو لزمه النقل من المكان الذي يدعيه المسلم إليه، ومؤنة الكراء تلحق بأصل المال حتى لو كان له أن يضم مؤنة الكراء إلى الثمن ويبيعه مرابحة على الكل.
فإذا صارت مؤنة النقل ملحقًا بأصل المعقود عليه، فكأن رب السلم يدعي عليه اثني عشر قفيزًا بعشرة دراهم وهو يقول: عشرة أقفزة فكأن المسلم إليه يدعي عليه أحد عشر أو اثني عشر درهمًا بكر حنطة، فرب السلم يقول: عشرة دراهم، ينزل اختلافهما في بيان مكان الايفاء من حيث منزلة اختلافهما في مقدار المسلم فيه أو في رأس المال، وذلك مما يوجب التحالف هذا، وهذا الخلاف ما لو اختلفا في مقدار الأصل، فإنهما لا يتحالفان، ويكون القول قول رب السلم في الزيادة؛ لأن الاختلاف في الأجل ليس باختلاف في المعقود عليه ولا في بدله لا من حيث الحقيقة ولا من حيث المعنى، وذلك لأن رب السلم لا تلزمه زيادة مال بسبب نقصان الأجل، فلا يكون الاختلاف في الأجل اختلافًا في المعقود عليه ولا في بدله، والتحالف أمر عرف بخلاف القياس بالنص، والنص إنما ورد بإيجاب التحالف إذا اختلفا في بدل المعقود عليه أو في المعقود عليه، فإذا لم يوجد الاختلاف في المعقود عليه ولا في بدله لا حقيقة ولا معنى يرد إلى ما يقتضيه القياس، والقياس يوجب أن يكون القول قول المنكر وعلى المدعي فبهذا تعلقا.
وأما أبو حنيفة ذهب في ذلك إلى أن التحالف وجب نصًا بخلاف القياس، والنص الوارد بإيجاب التحالف متى اختلفا في المعقود عليه أو في بدله لا يكون واردًا دلالة فيما إذا اختلفا في مكان الإيفاء؛ لأن مؤنة الكراء معقود عليه من وجه، وليس بمعقود عليه من وجه من حيث إنه ليس بإزائه بدل مقابلة لم يكن معقودًا عليه، ومن حيث إنه قال يلزمه سبب تسليم المعقود عليه كان معقودًا عليه، ولهذا قالوا في بيع المرابحة أنه يقول: قام علي بكذا ولا يقول اشتريت بكذا، ولهذا قال محمد رحمه الله: إنهما إذا أقاما جميعًا البينة، فإنه لايقضي بعقدين، وإن أمكن القضاء بالعقدين كما إذا اختلفا في مقدار الأجل وقامت لهما بينة، وإذا كان بمنزلة المعقود عليه من وجه لم يكن النص الوارد بإيجاب التحليف متى اختلفا في المعقود أو في بدله من كل وجه وأرادا نصًا دلالة، ورد هذا إلى ما يقتضيه القياس، والقياس يقتضي أن يكون القول قول المسلم إليه؛ لأن رب السلم يدعي عليه زيادة وهو ينكر ذلك، أو يقال: اختلفا في شرط ملحق بالعقد يوجد العقد بدونه، فلا يوجب التحالف، وإن كان لا يصح العقد إلا به قياسًا على الأجل، وإنما قلنا ذلك؛ لأن بيان مكان الإيفاء شرط ملحق بالسلم، والسلم يوجد بدون بيان مكان الإيفاء إلا أنه يكون فاسدًا كالأجل، والدليل على أن الاختلاف في المكان كالاختلاف في الأجل أن الأسفار تختلف (باختلاف) المواضع والأمكنة كما تختلف باختلاف الأيام والأزمنة، ألا ترى أن التجار يجلبون الطعام وغيرها من السلع من بلد إلى بلد لطلب الربح كما يحبسونها لوقت رجاء الربح بسبب تغير السعر، ثم الاختلاف في الأجل لم يوجب التحالف، فكذا في بيان مكان الإيفاء اختلافًا في قدر المسلم فيه أو في رأس المال معنى، فمن حيث الحقيقة اختلاف في شرط ملحق للعقد يوجد العقد بدونه كالأجل، فيجب التحالف من وجه ولا يجب من وجه، فلا يجب هذا إن لم تقم بينة أحدهما، وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته طالبًا كان أو مطلوبًا لما ذكرنا. وإن أقاما جميعًا البينة ذكرنا أنه يقضي بينة الطالب؛ لأن في بينته زيادة إثبات، وهو النقل إلى المكان الذي يدعيه بنفيه بينة المسلم إليه، فكانت أولى بالقبول ويقضي بعقد واحد.
وهذا عند أبي يوسف رحمه الله لا إشكال؛ لأنه على مذهبه لو اختلفا في المقدار المعقود عليه من حيث الحقيقة وقامت لهما بينة لا يقضي بعقدين فهذا أولى.
وإنما يشكل على قول محمد رحمه الله؛ لأن الأصل عنده أن يقضى بعقدين متى اختلفا في مقدار المعقود عليه على الحقيقة ليكون عملًا بالبينتين، وهنا قال: يقضي بعقد واحد مع إمكان القضاء بعقدين بأن يقضي ببينة رب السلم بعشرة دراهم في كر حنطة إلى المكان الذي ادعاه رب السلم وببينة المسلم إليه بعشرة دراهم في كر حنطة إلى المكان الذي يدعيه المسلم إليه، ولكن وجه الفرق له ما ذكرنا أن مؤنة الكراء معقود عليه من وجه دون وجه على ما بينا، والاختلاف في مقدار المعقود عليه من كل وجه، ورأس المال دين يوجب القضاء بعقدين متى قامت لهما بينة على مذهبه، والتحالف إذا لم تقم لهما بينة والاختلاف فيما ليس بمعقود عليه من كل وجه كالأجل لا يوجب القضاء بعقدين متى قامت لهما بينة ولا التحالف إذا لم يقم لهما بينة، فإذا كان لهما بينة عملنا بالشبهين في حق حكمين مختلفين، فعملنا بشبه المعقود عليه في حق التحالف ليمكننا العمل بالشبه الآخر؛ لأنا متى عملنا بشبه المعقود عليه في حق القضاء بعقدين يلزمنا إظهار هذا الشبه في حق التحالف من الطريق الأولى؛ لأن التحالف أسهل ثبوتًا من القضاء بعقدين حتى وجب التحالف في بيع العين في موضع لا يجب القضاء بعقدين، هذا الذي ذكرنا إذا اختلفا في بيان مكان الإيفاء.
الوجه الثالث: أما إذا اختلفا في الأجل، فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه: أما إن اختلفا في أصل الأجل، بأن قال أحدهما كان بأجل، وقال الآخر: بغير أجل أو اختلفا في مقدار الأجل بأن قال رب السلم: كان الأجل شهرًا، وقال المسلم إليه: لا بل شهرين، أو اختلفا في المضي بأن قال رب السلم: كان شهرًا وقد مضى، وقال المسلم إليه: لم يمض بعد، وإنما أسلمت إلي الساعة.
فإن اختلفا في أول وجه، فهذا على وجهين: إما أن يكون مدعي الأجل الطالب أو المطلوب، فإن كان مدعي الأجل وهو الطالب، والمطلوب ينكر ولم تقم لهما بينة، فالقياس: أن يكون القول قول المطلوب مع يمينه، وفي الاستحسان: يكون القول قول الطالب مع يمنيه. وجه القياس في ذلك: وهو أن المطلوب بإنكار الأجل إن كان يدعي فساد العقد إلا أنه يدفع استحقاق مال عن نفسه بدعوى الفساد، فيكون القول قوله إذا لم يسبق منه إقرار بالجواز.
بيان ما قلنا: إن السلم في جانب المسلم إليه يبيع بأقل الثمنين، فيكون ما يستحق عليه من المسلم فيه أكثر مما يحصل له من رأس المال، فكان دافعًا عن نفسه استحقاق مال بدعوى الفساد فيكون القول قوله.
وإن كان مدعيًا لفساد العقد كالمضارب ورب المال إذا اختلفا فقال رب المال: شرطت له نصف الربح إلا عشرة، وقال المضارب: شرطت لي ثلثه أو النصف، كان القول قول رب المال، وإن كان مدعيًا للفساد بما ادعى؛ لأنه دافع بدعوى الفساد استحقاقًا عن نفسه، على ما مر بيانه قبل هذا.
وللاستحسان طريقان في ذلك أحدهما: أن يقال إن المطلوب لما أقر بالسلم فقد أقر بالأجل؛ لأن السلم عبارة عن أخذ مال عاجل بآجل فصار مقرًا بالأجل راجعًا عنه، فلا يصدق في الرجوع. والثاني: وهو أن المطلوب بإنكار الأجل يدعي فساد العقد من غير أن يدفع عن نفسه استحقاقًا؛ لأن المسلم فيه غير مستحق للحال، متى ثبت جواز العقد لا يكون بدعوى الفساد دافعًا استحقاقًا عن نفسه بما يدعي من الفساد، فإنه لا يصدق في دعوى الفساد دافعًا استحقاقًا عن نفسه بما يدعي من الفساد، فإنه لا يصدق في دعوى الفساد كما في النكاح، وكما في المضارب على ما مر، هذا إذا كان الطالب هو مدعي الأجل.
فأما إذا كان المطلوب هو يدعي الأجل، قال أبو حنيفة رحمه الله: القول قوله استحسانًا، وقال أبو يوسف ومحمد: القول قول الطالب قياسًا.
وجه قولهما: أن الطالب بإنكار الأجل وإن كان يدعي فساد العقد إلا أنه بدعوى الفساد يدفع عن نفسه استحقاق مال للحال؛ لأن رأس المال يستحق عليه للحال في السلم متى ثبت جواز السلم، ولا يحصل له للحال عرض إنما يحصل له في الثاني؛ لأن المسلم فيه أجل، والآجل لا يعادل العاجل؛ لأن النقد خير من النسيئة، وقد ذكرنا أن أحدالمتعاقدين إذا ادعى الفساد يكون القول قوله، إذا كان دافعًا عن نفسه استحقاقًا، بخلاف ما لو أنكر المطلوب الأجل وادعى الطالب ذلك؛ لأن المطلوب بإنكار الأجل يدعي فساد العقد من غير أن يدفع عن نفسه استحقاقًا للحال؛ لأن المسلم فيه لا يستحق عليه للحال، ومتى جاز العقد فيكون القول قول من يدعي الصحة.
ولأبي حنيفة رحمه الله: أن كل واحد منهما بإنكار الأجل مدعٍ للفساد من غير دفع الاستحقاق عن نفسه، فيكون القول قول من يدعي الجواز وإنما قلنا ذلك؛ لأن ما يحصل لكل واحد منهما في باب السلم مثل ما يستحق عليه من حيث المعنى في جانب المسلم إليه إن كان يستحق عليه زيادة؛ لأن يبيع بأقل الثمنين من جانبه فهو أجل، وما يحصل له، وإن كان ناقصًا فهو عاجله، والعاجل وإن كان قليلًا خير من الآجل، والزيادة خير من الناقص، فكان في كل واحد من البدلين ضرب نقصان ونوع زيادة فاستويا، فالتحق السلم لهذا المعنى بالنكاح وببيع العين فيسقط اعتبار الاستحقاق في كل واحد من الجانين كأنه لا استحقاق أصلًا، فصار منكر الأجل مدعيًا للفساد من غير أن يدفع عن نفسه استحقاقًا، فيكون القول قول من يدعي الصحة، وهذا خلاف رب المال إذا ادعى فساد المضاربة عن نفسه استحقاق مال؛ لأن ما يستحق عليه خير مما يحصل له؛ لأنه يستحق عليه عين مال ويحصل له منفعة والعين خير من المنفعة.
وفي باب السلم ما يحصل لكل واحد منهما عين مال إلا أن في كل واحد منهما نوع نقصان ونوع زيادة فاستويا زال اعتبار الاستحقاق من الجانبين فيبقى دعوى الفساد من غير دعوى الاستحقاق فيكون القول قول من ينكر الفساد؛ لأن الظاهر يصلح لرفع المعصية عن فعل الغير، هذا إذا لم يقم لأحدهما بينة. وإن قامت لأحدهما بينة قبلت بينته، وإن أقاما البينة فالبينة بينة من يدعي الأجل؛ لأنه يثبت زيادة شرط في العقد ليس في بينة الآخر، هذا إذا اختلفا في أصل الأجل.
وإن اختلفا في مقدار الأجل إن لم يقم لأحدهما بينة فالقول قول الطالب مع يمنيه ولا يتحالفان عند علمائنا الثلاثة، وقال زفر: يتحالفان.
وجه قول زفر قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا» فقد أوجب التحالف عند اختلاف المتبايعين بلا فصل بينما إذا وقع الاختلاف بينهما في المعقود عليه أو في بدله أو شرط ملحق بالعقد، فلو خليت فظاهر الحديث كنت أقول بأنهما إذا اختلفا في الأجل أو في خيار الشرط في بيع العين يتحالفان إلا أني تركت ظاهره بالإجماع، ولا إجماع على ظاهره؛ لأنهما متبايعان اختلفا فيما لا يجوز العقد بدونه، فوجب أن يتحالفا قياسًا على مالو اختلفا في مقدار المسلم فيه أو في مقدار رأس المال، بخلاف ما إذا اختلفا في الأجل وخيار الشرط في بيع العين، فإنهما يتحالفان؛ لأن الأجل في بيع العين وخيار الشرط مما يجوز العقد بدونه، فلم يكن الاختلاف الواقع فيه كالاختلاف الواقع في مقدار الثمن أو في مقدار المعقود عليه.
وعلماؤنا رحمهم الله ذهبوا في ذلك إلى أن التحالف واجب بخلاف القياس من الوجه الذي ذكرنا، والشرع على وجوبها باختلافها في المعقود عليه أو في الثمن؛ لأنه علق وجوب التحالف للمتبايعين، وهذا اسم مشتق من البيع فيتعلق وجوب التحالف باختلافهما فيما يوجد به البيع، والبيع يوجد بالمبيع وبالثمن لا بالأجل ولا بشرط ملحق به، وإذا كان كذلك صار تقدير الحديث كأنه قال إذا اختلف المتبايعان في المبيع أو في الثمن تحالفا وترادا، ولو نص على هذا لا يجب التحالف في شرط ملحق به لا قياسًا ولا دلالة؛ لأن الشرط الملحق بالعقد دون المبيع والثمن؛ ولأنهما متبايعان اختلفا فيما يوجد العقد بدونه، فوجب أن لا يتحالفا قياسًا على ما لو اختلفا في الأجل والخيار في بيع العين، وإنما قلنا ذلك؛ لأن السلم بدون الأجل يكون سلمًا إلا أنه يكون فاسدًا بخلاف ما لو اختلفا في مقدار المسلم فيه ورأس المال؛ لأنهما اختلفا فيما هو من صلب العقد الذي لا يوجد العقد بدونه، هذا إذا لم يقم لأحدهما بينة يقضي ببينته إن قامت للمطلوب؛ فلأنه يثبت الزيادة، وإن قامت للطالب؛ فلأنه يثبت حادثا يسقط به الثمن عن نفسه، فيقبل كالمشتري إذا تفرد بإقامة البينة على ألف درهم.
وإن أقاما جميعًا البينة، فالبينة بينة المطلوب؛ لأنه يدعي زيادة الأجل ففي بينته زيادة إثبات ولا يقضي بعقدين عندهم جميعًا، عند أبي يوسف لا إشكال، وعند محمد؛ لأن الاختلاف في مقدار الأجل لا يجعل العقد عقدين، ولهذا لم يتحالفا بخلاف ما إذا اختلفا في مقدار المسلم فيه أو في رأس المال؛ لأن ما يدعيه كل واحد منهما من العقد غير ما يدعيه صاحبه ولهذا تحالفا.
وإن اختلفا في المضي إن لم تقم لأحدهما بينة، فالقول قول المطلوب أنه لم يمض؛ لأن الطالب يدعي توجه المطالبة بعدما لم يكن متوجهًا والمطلوب ينكر، فيكون المطلوب متمسكًا بما كان ثابتًا، فيكون القول قوله، وإن قامت لأحدهما بينة يقبل ببينته، وإن قامت للمطلوب لا شك أنه يقبل ببينة؛ لأنه يثبت زيادة أجل ببينته، وإن قامت للطالب فكذلك تقبل بينته؛ لأنه يدعي إيفاء الأجل، وتوجه المطالبة على المسلم إليه بعد ما لم يكن ثابتًا فتقبل ببينته.
وإن أقاما جميعًا البينة فالبينة بينة المطلوب؛ لأن ببينته يثبت زيادة أجل من حيث المعنى، فكان القول قوله في شيء، والبينة بينته في شيء آخر، وهذا جائز كما في المودع الرد كان القول قوله؛ لأنه منكر للضمان والبينة بينته؛ لأنه مثبت للرد كذلك هذا.
الوجه الرابع: إذا وقع الاختلاف بينهما في قبض رأس المال في المجلس، فأقام رب السلم البينة أنهما تفرقا قبل قبض رأس المال وأقام المسلم البينة أنه قبض رأس المال قبل الافتراق، فإن كان رأس المال في يد المسلم إليه، فالبينة بينة المسلم إليه والسلم جائز؛ لأن بينته قامت على إثبات القبض وبينة رب السلم قامت على النفي، والبينات مقبولة للإثبات دون النفي.
والثاني: أن ببينته تثبت عقدًا جائزًا وبينة رب السلم تثبت عقدًا فاسدًا، ولا يقال بأنه لا يدعي على رب السلم شيئًا إذا كان رأس المال في يده بل يقر له بكر حنطة ويريد أن يثبت إقراره لغيره، فكيف يقبل بينته؛ لأنا نقول موضوع المسألة أن رب السلم ينكر قبضه في مجلس العقد ويدعي عليه غصبًا بعد التفرق أو وديعة حتى يكون مدعيًا استحقاق ما في يد المسلم إليه من الدراهم، فيكون القول قول المسلم إليه لإنكاره استحقاق ما في يده، وتقبل بينته أيضًا؛ لأنها قامت على الإثبات، وفي قبولها فائدة وهو سقوط الثمن.
ولو كانت الدراهم في يدي رب السلم والمسلم إليه يقول: قبضت ثم غصبت مني بعد ذلك، أو أودعتك، ورب السلم يقول: لم يقبض وتفرقنا قبل القبض، وأقاما البينة فالبينة بينة المسلم إليه؛ لأنها قامت على إثبات القبض واستحقاق ما في يدرب السلم.
ثم ذكر محمد رحمه الله جواب هذه المسألة فيما إذا قامت لهما بينة ولم يذكر الجواب فيما إذا قامت لأحدهما بينة أو لم تقم لهما أصلًا، ولابد من معرفته فنقول إن قامت لأحدهما بينة على الوجه الذي ذكرنا إن قامت لرب السلم لا تقبل؛ لأنها قامت على النفي، فلا تقبل. وإن كان لو قبلت كان قبولها استحقاق ما في يد المسلم إليه كبينة رب الوديعة لا تقبل على نفي الرد، وإن كان في ذلك إيجاب الضمان وبينة المسلم إليه تقبل؛ لأنها قامت على الإثبات، وفيها سقوط اليمين عنه أو استحقاق ما في يد الطالب.
وإن لم تقم لأحدهما بينة، فهذا على وجهين:
إما أن تكون الدراهم في يد المطلوب أو في يد الطالب، فإن كانت في يد المطلوب إن كان الطالب لا يدعي عليه غصبًا ولا وديعة، وإنما يقول: ما قبضت رأس المال، فإنه لا يمين على واحد منهما؛ لأن اليمين يجب على المنكر، وأحدهما لا يدعي على صاحبه حقًا، أما المطلوب فلأنه يقر بالسلم للطالب، وليس يدعي عليه شيئًا، والطالب يكذبه في إقراره ولا يدعي على المطلوب شيئًا. وإن ادعى الطالب الغصب عنه أو الوديعة ما أنكر القبض في المجلس، فالقول قول المطلوب؛ لأن المطلوب أقر للطالب بكر حنطة وكذبه الطالب فيما أقر له وادعى على المطلوب استحقاق ما في يده من الدراهم والمطلوب أنكر، فيكون القول قوله مع يمينه. كمن أقر لإنسان بدينار وكذبه المقر له، وادعى عليه عشرة دراهم في يد رب السلم، فإن كان المطلوب ادعى القبض ولم يدع على الطالب غصبًا ولا وديعة بعد ذلك، فلا يمين على واحد منهما؛ لأن المطلوب أقر له بالسلم وكذبه الطالب في إقراره، ولم يدع الطالب على المقر شيئًا، ولا المقر على الطالب شيئًا.
وإن ادعى المطلوب الغصب أو الوديعة بعد ما ادعى قبض رأس المال في المجلس وأنكر الطالب، فمن مشايخنا من قال: القول قول المطلوب مع يمينه فيحلف ويجوز السلم، ويأخذ رأس المال من رب السلم، وذهبوا في ذلك إلى أن المطلوب ادعى صحة العقد، ورب السلم ادعى فساده، فيكون القول قول من يدعي الصحة كما لو اختلفا في أصل الأجل كان القول قول من يدعي الأجل عند أبي حنيفة على كل حال. وإذا جعلنا القول قوله مع اليمين وجوزنا السلم وأثبتنا له استحقاق ما في يد رب السلم يكون الاستحقاق مضافًا إلى إقرار الطالب؛ لأن الطالب يجعل مقرًا بالقبض، ثم ينكر؛ لأن السلم عبارة عن أخذ عاجل مقرًا بالقبض، ثم ينكر؛ لأن السلم عبارة عن أخذ عاجل بآجل، فيصير مقرًا بتسليم رأس المال، ثم راجعًا بعد ذلك، فيكون الاستحقاق مضافًا إلى إقرار الطالب لا إلى يمينه كما في الأجل. وكما لو اختلف الزوجان في النكاح بشهود وغير شهود جعل القول قول من يدعي النكاح بشهود، وإن كان يستحق على ما يدعيه لصاحبه؛ لأنه لا يصير مستحقًا بإقراره، فإن الإقرار بالنكاح إقرار بشهود؛ لأنه لا جواز للنكاح إلا بشهود.
ومنهم من قال: بأن هذا هكذا إذا قال الطالب لم يقبض مفصولًا بأن قال: أسلمت إليك وسكت، ثم قال: إلا أنك لم تقبض، أو قال: أسلمت إليك ولم تقبض بالعطف لا بالاستثناء؛ لأنه مع العطف اعتبر مفصولًا كما في المضاربة إذا قال رب المال: شرطت لك نصف الربح وعشرة أعشر هذا مفصولًا، وكما في الطلاق قبل الدخول اعتبر قوله وطالق ثانيًا مفصولًا بخلاف الاستثناء، ومتى كانت الحالة هذه يكون القول قول المطلوب مع يمينه؛ لأن السلم في هذه الحالة عبارة عن التسليم لا عن العقد، ولهذا قال بأن المطلوب إذا أقر بالسلم، ثم قال: إني لم أقبض مفصولًا، وقال رب السلم: قبضت كان القول قول رب السلم استحسانًا مع يمينه، قال:؛ لأن المطلوب أقر بالقبض، فإذا صار عبارة عن التسليم صار رب السلم مقرًا بالقبض، ثم راجعًا عنه فلا يصدق، فأما إذا قال موصولًا: لم يقبض والمطلوب يقول: قبضت يجب أن يكون القول قول الطالب في هذه المسألة ولا يكون القول قول المطلوب؛ لأن السلم في هذه الحالة جعل عبارة عن العقد لا عن السلم، ولهذا صدق المطلوب إذا أقر بالسلم وأنكر القبض موصولًا، وإذا جعل عبارة عن العقد لا عن التسليم لا يكون الطالب مقرًا بالقبض، ثم منكر القبض بعد الإقرار ومتى لم يجعل مقرًا بالقبض متى جعلنا القول قول المطلوب مع يمينه استحق بيمينه مالًا ادعاه على الطالب، واليمين حجة للدفع لا للاستحقاق لظاهر الحال بخلاف الأجل؛ لأن السلم لا جواز له بدون الأجل بحال من الأحوال، فإنه متى وقع بغير أجل لا ينقلب جائزًا بضرب الأجل، فيكون الإقرار بالسلم لا محالة إقرار بالأجل سواء اعتبر عقدًا أو تسليمًا، فأما السلم فهو العقد يجوز من غير قبض رأس المال وإنما القبض شرط إيفاء العقد على الصحة، فأمكننا أن نجعل السلم عبارة عن العقد لا عن القبض والتسليم.
الوجه الخامس: إذا جاء المسلم إليه بعد ما تفرقا عن المجلس ببعض رأس المال، وقال وجدته زيوفًا إن صدقه بذلك رب السلم كان له أن يرده على رب السلم، وإن كذبه في ذلك وأنكر أن يكون من دراهمه وادعى المسلم إليه أنه من دراهمه، فهذه المسألة على ستة أوجه:
إما أن يكون المسلم إليه أقر قبل ذلك، فقال: قبضت الجياد، أو قال: قبضت حقي، أو قال: قبضت رأس المال، أو قال: استوفيت الدراهم، وفي هذه الوجوه لتعريفه، لا تسمع دعواه للزيافة حتى لا يستحلف رب السلم؛ لأنه متناقض في دعوى الزيادة؛ لأنه أقر بقبض الجياد فظاهر، وأما في قوله استوفيت الدراهم؛ لأن الاستيفاء عبارة عن تمام الحق، فكأنه قال: استوفيت الدراهم التي هي تمام حقي وتمام حقه في الجياد. وأما إذا قال قبضت الدراهم فالقياس أن يكون القول قول رب السلم؛ لأن المسلم إليه يدعي على رب السلم فسخ القبض، فليرجع عليه بالجياد ورب السلم ينكر، وفي الاستحسان: القول قول المسلم إليه؛ لأن المسلم إليه بدعوى الزيافة منكر قبض حقه، ولم يسبق منه إلا الإقرار بقبض مطلق الدراهم، واسم الدراهم مطلقًا كما يتناول الجياد يتناول الزيوف، ورب السلم يدعي إيفاء الحق فيكون قول المسلم إليه، وأما إذا قال قبضت فالقول قول المسلم إليه فهاهنا أولى.
وأما إذا قال: وجدتها ستوقة أو رصاصًا، ففي الوجوه لتعريفه لا شك أن لا يقبل قوله وكذلك في الوجه الخامس، وهو: ما إذا قال: قبضت الدراهم بعد ما أقر بقبض الدراهم؛ لأن الستوق والرصاص ليسا من جنس الدراهم بعد ما أقر بقبض الدراهم.
وفي الوجه السادس وهو: ما إذا قال: قبضت يقبل قوله؛ لأنه أقر بمطلق القبض لا بقبض الدراهم، فبدعواه أن ما قبض ستوقة أو رصاص لا يكون متناقضًا، وإذا جاء المسلم إليه بدراهم ستوقة أو رصاص وجدها في رأس المال، وقال: هذا نصف رأس المال وقال رب السلم: هو ثلث رأس المال، فالقول قول المسلم إليه، ولو كان زيوفًا أو نبهرجة أو مستحقة واختلفا في مثل ذلك، فالقول قول رب السلم مع يمينه ذكر (القدوري) المسألة على هذا الوجه.
والفرق: وهو أن قبض المستحق والزيوف وقع صحيحًا، وإن كان أحدهما على سبيل النفاذ والآخر على سبيل التوقف، وإنما ينتقض بالرد بعد الحكم بالصحة، فالمسلم إليه يدعي الانتقاض في النصف ورب السلم ينكر فيما زاد على الثلث، فيكون القول قول رب السلم مع يمينه، أما في الستوقة والرصاص القبض لم يقع صحيحًا، ولهذا لو تجوز به لا يجوز، فكان الاختلاف في قدر المقبوض، ورب السلم يدعي زيادة في القبض والمسلم إليه ينكر، فيكون القول قول المسلم إليه مع يمينه.
الوجه السادس: رجل قال لآخر أسلمت إلي عشرة دراهم في كر حنطة إلا أني لم أقبضها، فإن ذكر قوله إلا أني لم أقبضها موصولًا بكلامه صدق قياسًا واستحسانًا، وإن ذكر مفصولًا بأن سكت ساعة، ثم قال: إلا أني لم أقبضها، صدق قياسًا، ولم يصدق استحسانًا، وهذا؛ لأن قوله: إلا أني لم أقبضها بيان تغيير لا بيان تقرير؛ لأن قوله: أسلمت إلي، على جواب الاستحسان صار عبارة عن قوله أسلمت إلي رأس المال، لا عن قوله باشرت معي عقد السلم؛ لأن قوله أسلمت إن صار للعقد حقيقة بسبب الشرع، والاستعمال نفي للقبض حقيقة بالشرع والاستعمال أيضًا وترجح حقيقة القبض بحكم الوضع، فإنه في الأصل موضوع للتسليم لا للعقد.
وإذا ترجح أحد الاحتمالين على الآخر صار الاسم للراجح حقيقة وللآخر مجازًا، وإذا صار هذا الاسم مجازًا للعقد صار قوله عنيت بالعقد إرادة للمجاز، وإرادة المجاز من الكلام يغير الكلام من حيث الحقيقة، ولكنه بيان من حيث إن العرب تتكلم بالحقيقة وتريد المجاز، فهو معنى قولنا: إن هذا بيان تغيير فيصح موصولًا، ثم إذا لم يصدق على جواب الاستحسان ذكر أن القول قول الطالب مع يمينه، وكان ينبغي أن لا يستحلف الطالب على جواب الاستحسان؛ لأن قوله: أسلمت إلي على جواب الاستحسان صار عبارة عن قوله أسلمت إلي رأس المال.
ولو قال: أسلمت إليَّ رأس المال، ثم قال بعد ذلك: لم أقبض، لا يصح دعواه حتى يستحلف الطالب على دعواه؛ لأنه صار مناقضًا في الدعوى كذا هاهنا، والجواب إنما لا يصدق في دعوى العقد على طريق الاستحسان؛ لأنه ادعى المجاز من كلامه لا لأنه مناقض؛ لأن المناقضة إنما تثبت بضد ما أقر له من كل وجه بأن قال: قبضت، ثم قال: لم أقبض، وهاهنا لم يقر بصريح القبض، وإنما أقر بالسلم، وإنه يحتمل العقد مجازًا، وإن كان حقيقة للتسليم لا للعقد، وإذا كان محتملًا للمجاز لا يصير مناقضًا في قوله لم أقبض فيكون دعواه صحيحًا، ومن ادعى دعوى صحيحًا يستحلف خصمه على دعواه هذا إذا قال: أسلمت إليَّ.
أما إذا قال: دفعت إلي عشرة، أو قال: نقدتني لكني لم أقبضها، قال أبو يوسف: لا يصدق وصل وإن فصل، كما لو قال: قبضت، ثم قال: لم أقبض وقال محمد: يصدق إن وصل، وإن فصل لا يصدق، والمسألة معروفة في كتاب الإقرار.

.نوع آخر:

منه في شرط الإيفاء والحمل ومسائلها: إذا شرط رب السلم على المسلم إليه أن يوفيه السلم في مصر كذا، ففي أي مكان دفعه إليه من ذلك المصر فله ذلك، وليس لرب السلم أن يكلفه تسليمه في موضع آخر، فقد جوز المسلم من غير بيان مكان الإيفاء في المصر إنما فعل كذلك؛ لأن بتأمن محالها واختلاف أماكنها جعل كمكان واحد حكمًا؛ لأن القيمة لا تختلف بتفاوت محال المصر، وإذا كان كذلك صار مكان الإيفاء معلومًا، فجاز السلم، وله أن يوفيه من أي مكان شاء من ذلك المصر؛ لأن المصر لما جعل كمكان واحد من حيث الحكم صار كأنه شرط عليها الإيفاء في مكان واحد من حيث الحقيقة، ولو كان كذلك ففي أي ناحية من ذلك المكان أوفاه فله ذلك، وليس لرب السلم أن يعين مكانًا آخر كذا هاهنا.
وإن اختلفا فقال رب السلم: شرطت لي أن توفني في محلة كذا، وقال رب السلم: أعطيك في محلة أخرى غير دارك أجبر رب السلم على القبول لما ذكر، وإذا شرط رب السلم أن يوفيه إياه في مكان كذا، فقال المسلم إليه لرب السلم: خذه في غير ذلك المكان وخذ مني الكراء فأخذه جائز ولا يسلم له الكراء أما أخذ التسليم فلأنه استوفى في عين الحق وأما عدم سلامة الكراء؛ لأن المأخوذ صار ملكًا لرب السلم بالأخذ فهذا إذا أخذ الكراء من المسلم إليه، فإنما أخذ الكراء لينقل ملك نفسه، والإنسان بنقل ملك نفسه لا يستوجب الكراء على غيره، وإذا لم يسلم له الكراء كان له الخيار، إن شاء أمسك المقبوض ورد الكراء، وإن شاء رد للمقبوض مع الكراء ليوفيه في المكان المشروط؛ لأنه إنما رضي بقبضه في غير المكان المشروط بشرط أن يسلم له الكراء، فإذا لم يسلم له الكراء، فقد تغير عليه بشرطه فتخير، قالوا: وإنما يتخير إذا كان المقبوض قائمًا، وأما إذا هلك لا خيار له؛ لأنه إنما يثبت الخيار لينتقض قبضه، وإنما يمكنه نقض قبضه قبل الهلاك لا بعد الهلاك، فإذا شرط رب السلم على المسلم إليه أن يحمل المسلم إلى منزله بعد ما أوفى في المكان الذي شرط فيه الإيفاء، بأن شرط عليه أن يوفيه السلم في درب سمرقند ببخارى، ثم يحمل إلى منزلة بكلاباد فلا خير في السلم على هذا الوجه؛ لأن بالإيفاء في المكان المشروط بدرب سمرقند يصير المسلم فيه ملكًا لرب السلم، فإذا شرط عليه الحمل إلى كلاباد صار مستأجرًا له أو مستعينًا به، فيكون إجارة أو إعارة مشروط في عقد السلم، فيوجب فساد السلم كما في بيع العين، وكما لو اشترى حنطة على أن يطحنها المشتري، فهذا إذا شرط الحمل إلى منزله بعد الإيفاء في المكان المشروط، فأما إذا شرط الحمل إلى منزله ابتداء قبل اشتراط الإيفاء في محلة المصر، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في (الكتاب)، وكان الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله يقول: يجوز السلم استحسانًا، وكان يقول: اشتراط الحمل إلى منزله واشتراط الإيفاء في منزلة سواء؛ لأن الإيفاء في منزلة لا يتصور بدون الحمل إلى منزله، ولو شرط الإيفاء في منزله ابتداء أليس أنه يجوز استحسانًا فكذا إذا شرط الحمل إلى منزله، وكان يقول إنما يفسد السلم باشتراط الحمل إلى منزله إذا كان اشتراط الحمل بعد اشتراط الإيفاء في مكان، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني، وروي عن أبي عبد الله البلخي أنه كان يقول: اشتراط الحمل إلى منزله يوجب فساد السلم سواء كان ابتداء بعد شرط الإيفاء في مكان، ويروي ذلك عن أصحابنا رحمهم الله، فإنه يثبت هذه الرواية عنهم، والوجه في ذلك: أن الإيفاء مما يقتضيه عقد السلم، فإنه يجب على المسلم إليه إيفاؤه، واشتراط ما يقتضيه العقد من غير شرط لا يوجب الفساد، فأما لا يقتضي الحمل؛ لأن على المسلم إليه الإيفاء دون الحمل بأن يشتريه المسلم إليه في المكان المشروط ويوفيه من غير حمل، فقد شرط في السلم مالا يقتضيه ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، فيوجب الفساد، هذا كما قال أبو حنيفة وأبو يوسف فيمن اشترى وقر حطب وشرط الحمل إلى منزله لم يجز البيع قياسًا واستحسانًا؛ لأن البيع لا يقتضي الحمل، ولو شرط الإيفاء في منزله يجزئه استحسانًا؛ لأن البيع يقتضي الإيفاء كذا هاهنا.
ولو شرط أن يوفيه إياه في منزله بعد ما يوفيه في محلة كذا بأن قال: على أن يوفيني في درب سمرقند، ثم يوفيني بعد ذلك في منزلي بكلاباد، عامة المشايخ على أنه لا يجوز قياسًا واستحسانًا؛ لأن اشتراط الإيفاء في منزله بعد الإيفاء في مكان لا يتصور إلا بالحمل، ولو شرط الحمل بعد الإيفاء في مكان لا يتصور إلا بالحمل. ولو شرط الحمل بعد الإيفاء أليس أنه لا يجوز استحسانًا وقياسًا، وكان الفقيه أبو بكر محمد بن سلام رحمه الله يقول: يجوز استحسانًا؛ لأن بشرط الإيفاء ثانيًا يفسخ شرط الإيفاء الأول؛ لأن الموفي لا يتصور إيفاؤه ثانيًا، وإذا انفسخ الشرط الأول صار كأنه شرط الإيفاء إلى منزله لا غير هناك يجوز السلم استحسانًا كذا هاهنا.
وفي (المنتقى) بشر عن أبي يوسف: إذا شرط في السلم حمله إلى موضع كذا، فهو جائز وهو قول أبي حنيفة من أن الطعام في ملك المسلم إليه وضمانه حتى يسلمه بخلاف ما لو شرط؛ لأن اشتراط الحمل لا يتضمن فسخ شرط الإيفاء؛ لأن الموفي يتصور حمله، وإذا لم ينفسخ الشرط الأول بقي شرط الحمل شرط إجارة أو إعارة فيوجب فساد السلم.
ولو شرط أن يوفيه إياه في منزلة ابتداءًا، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: المسألة على القياس والاستحسان، القياس: أن لا يجوز، وفي الاستحسان: يجوز، قال الحاكم الشهيد رحمه الله: هذا القياس والاستحسان فيما إذا لم يبين منزله ولم يعلم المسلم إليه أنه في أي محلة، أما إذا بين أو علم المسلم إليه ذلك يجوز قياسًا واستحسانًا.

.نوع آخر:

من هذا الفصل في الإقالة والصلح: يجب أن يعلم بأن الإقالة في السلم جائزة؛ لأن السلم نوع بيع فيجوز إقالته كما يجوز إقالة سائر أنواع البيوع، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» والمراد أخذ السلم حال قيامه ورأس المال بعد انفساخه، فدل الحديث أن السلم قابل للفسخ والإقالة.ولو أقاله في البعض وأخذ البعض جاز؛ لأنه لو أقاله في الكل يجوز، فيجوز في البعض أيضًا اعتبارًا للبعض بالكل.
ولو أبرأ رب السلم المسلم إليه من المسلم فيه، فيجوز بخلاف ما لو أبرأ إليه رب السلم عن رأس المال حيث لا يجوز، والفرق: أن قبض المسلم فيه ليس بمستحق حقًا للشرع بل هو حق العبد، فيصح الإبراء عنه، أما قبض رأس المال مستحق للشرع ليخرج العقد من أن يكون دينًا بدين، فلا يصح الإبراء عنه، ومتى صحت الإقالة يجب على المسلم إليه رأس المال إلى رب السلم، فإن أراد رب السلم أن يستبدل برأس المال شيئًا بعد الإقالة لم يجز استحسانًا، وبه أخذ علماؤنا الثلاثة رحمهم الله، وأصل المسألة أن الاستبدال برأس مال السلم بعد الإقالة قبل القبض هل يجوز؟ على قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله: لا يجوز وهذا استحسان، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» ومتى جوزنا الاستبدال برأس المال بعد الإقالة قبل القبض صار آخذًا عين السلم وعين رأس المال، والمعنى فيه: أن الإقالة في باب السلم قبل قبض رأس المال تمت من وجه من حيث إنها أفادت لرب السلم ملك الرقبة، ولم يتم من وجه من حيث إنها لم تفد لرب السلم ملك التصرف، وملك اليد وحق رب السلم في المسلم إليه يثبت بنفس العقد ويتأكد بتسليم رأس المال، فما لم يقبض رأس المال يكون حقه في المسلم فيه قائمًا من وجه، وإذا بقي حقه في المسلم إليه من وجه بدلًا عن رأس المال، وإنه جائز؛ لأنه وجب بسبب فسخ السلم لا بسبب السلم، ويأخذ من وجه بدلًا عن المسلم فيه؛ لأن الإقالة من حيث إنها لا تتم بها لم توجد؛ لأنه لا حكم لها شرعًا من ذلك الوجه، فيصير مستبدلًا بالمسلم فيه من وجه وإنه يجوز، وبرأس مال السلم من وجه وإنه لا يجوز، وقع الشك في الجواز، فلا يجوز بالشك والاحتمال، ولأجل ما ذكرنا من المعنى لم يشترط قبض رأس المال في مجلس الإقالة في باب السلم؛ لأنا إن اعتبرنا حق رب السلم في المسلم فيه من وجه لا يجب، فيصير كما لا يجب قبض المسلم فيه، وإن اعتبرنا حقه في رأس المال فكذلك لا يجب قبض رأس المال؛ لأنه لم يجب بعقد؛ لأنه وجب بفسخ السلم وفسخ السلم لا يكون سلمًا لا في حقها ولا في حق الثالث؛ لأن الفسخ حصل قبل قبض المبيع، فيكون فسخًا في حق الكل.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): رجل أسلم إلى رجل جارية في كر حنطة وقبضها المسلم إليه ثم تقايلا، فماتت الجارية في يد المسلم إليه، فعليه قيمتها يوم قبضها، وإن هلكت الجارية ثم تقايلا جازت الإقالة عليه قيمة الجارية.
إعلم بأن من هذا الجنس أربع مسائل:
إحداها: بيع العرض بالعرض إذا تبايع الرجلان عرضًا بعرض وتقابضا، ثم هلك أحد العرضين بعد الإقالة قبل التسلم بحكم الإقالة بقيت الإقالة على الصحة. ولو تقايلا بعد ما هلك العرضان فالإقالة باطلة.
والثانية: بيع العرض بالدراهم أو دنانير: إذا تبايع الرجلان عرضًا بدراهم أو دنانير وتقابضا، ثم تقايلا بعدما هلكت الدراهم فالإقالة صحيحة، ولو تقايلا بعدما هلكت العرض فالإقالة باطلة. ولو تقايلا وهما قائمان، ثم هلك أحدهما قبل التسليم بحكم الإقالة، إن هلك العرض بطلت الإقالة، وإن هلكت الدراهم بطلت الإقالة على الصحة، وقد ذكر مع العرض بالدراهم أو بالدنانير في فصل الإقالة، ثم الفرق بين فصل بيع العرض بالعرض وبين فصل بيع العرض بالدراهم أو بالدنانير أن الإقالة صحتها تعتمد قيام العقد من حيث الحكم؛ لأنها رفع للعقد ورفع العقد إنما يتصور حال قيامه والبيع قائم في بيع العرض بالعرض من حيث الحكم قيام أحد العرضين؛ لأن قيام العقد قبل هلاك أحدهما كان بهما لا بأحدهما بعينه بأن يضاف قيام العقد إليه حكمًا بأولى من الآخر؛ لأن كل واحد منهما مال حقيقة وحكمًا؛ لأن كل واحد عين حقيقة وحكمًا، وكل واحد منهما مثمن من وجه، فلا مزية لأحدهما على الآخر، فكان قيام العقد من حيث الحكم بهما جميعًا، وإذا كان قيام العقد حكمًا بهما لا بأحدهما بعينه لم يرتفع العقد بهلاك أحدهما على ما عرف أن الثابت بشيئين لا يزول بزوال أحدهما، فبقي العقد بقيام أحدهما، فجازت الإقالة حال قيام أحدهما لقيام العقد بقيام أحدهما كما جازت حال قيامهما، فأما في بيع العرض بالدراهم والدنانير، فقيام العقد حكمًا مضاف إلى البيع خاصة لا إلى البيع والثمن جميعًا؛ لأن للمبيع فضل مزية على الثمن، فإن المبيع مال حقيقة وحكمًا؛ لأنه عين حقيقة وحكمًا، والثمن دين حقيقية وحكمًا إن لم يكن مشارًا إليه، وإن كان مشارًا إليه دين حكمًا؛ لأن البيع لا يتعلق بعين المشار إليه، وإنما يتعلق بمثله دينًا في الذمة ولهذا جاز الاستبدال قبل القبض قلنا: والدين في الذمة مال حكمًا واعتبارًا وليس بمال حقيقة، ولهذا قالوا بأن البراءة عن الدين تصح من غير قبول كالطلاق والعتاق ويرتد بالرد؛ لأنه مال حكمًا وهبة العين لا يصح من غير قبول، ولا تتأدى زكاة العين بالدين؛ لأن الدين أنقص من العين، فصار مؤديًا الكامل بالناقص.
وكذلك قالوا فيمن حلف وقال: مالي صدقة على المساكين وله ديون على الناس لا تدخل تحت مطلق اسم المال من غير نية؛ لأنه ناقص في كونه مالًا، وإذا كان للمبيع ضرب مزية على الثمن لابد من إظهار مزيته، وقد تعذر إظهار مزية المبيع على الثمن في حق انعقاد البيع؛ لأنه لابد لانعقاد البيع من مثمن وثمن، فأظهر مزيته في حق البقاء لما تعذر إظهار مزيته على الثمن في حق الانعقاد، فجعلنا قيام البيع حكمًا كله مضافًا إلى المبيع لا إلى الثمن، فإذا هلك المبيع ارتفع البيع وإن بقيت الدراهم والدنانير.
والدليل: على أن بقاء البيع مضاف إلى قيام البيع لا إلى الثمن أنا أجمعنا على أنه لو وجد الثمن زيوفًا حال قيام المبيع فرده واستحق الثمن، فإنه يرجع بمثله ولا ينفسخ البيع. ولو كان قيام البيع مضافًا إليه لمكان ينفسخ البيع برده، كما في بيع العرض بالعرض لو استحق أحد العرضين إذا وجد به عيبًا فرده، فإنه ينتقض البيع في الباقي، وفي الثمن لما بقي البيع على حاله علمنا أن قيام العقد مضاف إلى المبيع، فإذا هلك ارتفع البيع فلا يرتفع مرة أخرى بالإقالة.
المسألة الثانية بيع الثمن بالثمن: إذا تبايعا درهمًا بدرهم أو دينارًا بدينار أو دراهم بدنانير، وتقايلا بعد هلاك أحد البدلين أو بعدما هلك البدلان لا تصح الإقالة، والفرق: وهو أن في باب الصرف لو تقايلا قبل هلاك البدلين صحت الإقالة بمثل الدراهم والدنانير التي قبضا دينًا في الذمة لا بأعيانهما كان لكل واحد فيهما أن يرد مثل ما قبض، ولا يلزمه رد ما قبض بعينه؛ وهذا لأن الفسخ معتبر بالعقد، والعقد لا يتعلق بأعيانهما وإن أشير إليها عندنا، فكذا الإقالة لا تتعلق بأعيانهما لو كانا قائمين صار هلاكهما كقيامهما بخلاف بيع العرض بالعرض؛ لأنهما متى كانا قائمين يتعلق الإقالة بأعيانهما، فمتى كانا هالكين لم يبق شيء من المعقود عليه لما هلك اليد؛ لأن كل واحد من البدلين وجب في الذمة، وقد سقط ذلك بالقضاء، فالإقالة لم تضف معقودًا عليه، فيجب أن لا تصح الإقالة، والجواب عنه أن الدين مما لا يسقط بالقضاء، ألا ترى أن البائع إذا حط عن المشتري بعض الثمن بعد ما قبض الثمن صح مع الحط لإسقاط بعض الثمن، ولو كان الثمن يسقط بالثمن بالقضاء كان لا يصح الحط كما لو حصل الحط بعد الإبراء، وإذا كان كذلك فالدين الواجب في الذمة مما لا يسقط بالقضاء إلا أن الطالب لا يطالب الغريم بعد القضاء؛ لأن المطالبة لا تفيد، فإنه لو طالبه طالبه بما بقي في ذمته طالبه الغريم بما أوجب له في ذمة الطالب؛ لأن الديون تقضى بأمثالها لا بأعاينها، وإذا كان كذلك فما هو المعقود عليه وهو الدين قائم في ذمة كل واحد منهما، فصحت الإقالة باعتبار ما بقي في ذمتهما كما صح العقد باعتبار ما يجب في ذمتهما.
المسألة الرابعة: إذا كان رأس المال عرضًا وهلك العرض، ثم تقايلا السلم صحت الإقالة لقيام المسلم فيه وكان قيام المسلم مضافًا إلى قيام المسلم فيه دينًا، وإن كان المسلم فيه رأس المال إذا كان عرضًا كان عينًا حقيقة وحكمًا، وفرق بين فصل السلم وبين بيع العرض بالدراهم، والفرق: أن في بيع العرض بالدراهم المبيع مال حقيقة وحكمًا؛ لأنه عين حقيقة وحكمًا والثمن دين حقيقة وحكمًا أو حكمًا لا حقيقة، فكان للمبيع ضرب مزية على (الثمن) والتقريب ما مر، فأما المسلم فيه إن كان دينًا حقيقة فهو عين حكمًا؛ لأنه مبيع، ولهذا لم يجز الاستبدال به قبل القبض والمبيع ما يكون عينًا، فكان له حكم العين ورأس المال إن كان عينًا فهو دين حكمًا حتى لو افترقا قبل قبض رأس المال بطل السلم، وإن كان رأس (المال) عينًا وجعل كأن الافتراق حصل عن دين بدين فاستويا، فصار قيام العقد مضافًا إليهما كما في بيع العرض بالعرض لا إلى أحدهما بعينه.
وإذا قبض رب السلم رأس المال وتقايلا السلم، ثم اختلفا في مقدار رأس المال، فقال المسلم إليه: كان رأس المال خمسة، وقال رب السلم: لا بل كان رأس المال عشرة، فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، ولا يتحالفان فرق بين هذا وبين بيع العين، فإن في بيع العين إذا تقايلا العقد حال قيام العين واختلفا في مقدار الثمن، فإنهما يتحالفان ويفسخ الإقالة فيما بينهما بعد التحالف، والفرق: أن المقصود من التحالف شرعًا الفسخ متى يعود كل واحد منهما إلى رأس ماله، والإقالة في باب السلم لا تقبل الفسخ لا حكمًا ولا قصدًا، فإنهما لو قالا: نقضنا الإقالة، تنتقض ويعود الأمر إلى ما كان قبل الإقالة، وكذلك إذا هلك العين في يد المشتري قبل التسليم إلى البائع والثمن والدراهم، فإن الإقالة تنتقض ويعود الأمر إلى ما كان قبل الإقالة، فالتحالف يقيد يمر به في الإقالة في بيع العين، فجاز الاشتغال به قياس الإقالة في السلم من الإقالة في بيع العين أن لو تقايلا بعد ما قبض رب السلم المسلم فيه قائم في يده، ثم اختلفا في مقدار رأس المال، وهناك يتحالفان أيضًا؛ لأن الإقالة في هذه الحالة تحتمل الفسخ قصدًا، ففسخهما الإقالة على ما يقوله بعض مشايخنا وهو الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله، ثم إنما كانت الإقالة في باب البيع قابلة للفسخ ولم تكن الإقالة في باب السلم قابلة للفسخ؛ لأن في باب السلم ما يتأول الإقالة وهو المسلم فيه في ذمة المسلم إليه، فملك المسلم إليه بالإقالة يسقط عنه فلا يمكن تصحيح فسخ الإقالة باعتبار المعقود عليه لو صح صح باعتبار الثمن، فكذا فسخها. فأما في باب البيع ما تتأوله الإقالة وهو المبيع قائم حقيقة فيمكن تصحيح الفسخ باعتبار المعقود عليه حتى لو هلك المعقود عليه بعد ما تقايلا وتقابضا، ثم أراد أن ينقض الإقالة لم يكن له ذلك.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: رجل أسلم إلى رجل في كر حنطة، فقال رب السلم للمسلم إليه: أبرأتك من نصف السلم، وقال المسلم إليه: وجب عليه رد نصف رأس المال؛ لأن هنا إقالة في نصف السلم، هكذا قاله أبو نصر محمد بن محمد بن سلام والفقيه أبو بكر الإسكاف، قالا: لأن السلم نوع بيع.
ومن اشترى شيئًا ثم قال المشتري قبل أن يقبض المشتري: وهبت لك نصفه وقبل البائع صار إقالة في النصف بنصف الثمن كذا هنا.
وقال أبو القاسم الصفار: هذا حط ولا يرد شيئًا من رأس المال، قال: وهو بمنزلة حط نصف الثمن في البيع. وفيه أيضًا: وقال أبو نصر فيمن أسلم دراهم في شيء، ثم إن رب السلم (قال:) وهبت ذلك الشيء للمسلم إليه إن قبل المسلم إليه، فعليه أن يرد رأس المال. وقال أبو بكر: ليس عليه الرد والهبة تبرئه من ذلك.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل أسلم إلى رجل ثوبًا في كر حنطة ودفعه إليه، ثم ناقضه السلم، فله أن يبيع الثوب منه قبل أن يقبضه ولا يشبه العرض في هذه الدراهم، وهكذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف زوائد أحدها: أنه لو باعه من غير المسلم فيه قبل القبض لا يجوز. الثاني: إذا لم يكن مستهلكًا لم يكن له أن يشتري منه قيمته شيئًا قبل أن يقبضه، وهو بمنزلة رأس المال إذا كان دراهم.
وفي (نوادر إبراهيم بن رستم) عن محمد: رجل أسلم إلى رجل عشرة دراهم في كر حنطة وله عليه أيضًا كر إلى سنة، فإقالة السلم على أن يعجل له الكراء لنسبة مال الإقالة جائزة والكراء إلى أجله، وإذا كان السلم حنطة ورأس المال مائة درهم، فصالحه على أن يرد عليه مائتي درهم أو مائة درهم أو خمسون كان باطلًا؛ لأن الصلح عن السلم متى كان غير مضاف إلى رأس المال بيع المسلم فيه، وهاهنا الصلح غير مضاف إلى رأس المال، فإنه لم يقل مائة وخمسون من رأس مالك وبيع المسلم فيه قبل القبض لا يجوز، فأما إذا قال: صالحتك من السلم على مائة من رأس مالك كان جائزًا، أو كذلك إذا قال على خمسين من رأس مالك كان جائزًا؛ لأن الصلح على رأس المال في باب السلم إقالة السلم قبل القبض جائزة إن كان لا يجوز بيعه.
بعد هذا اختلف المشايخ في قوله: صالحتك من السلم على خمسين درهمًا من رأس مالك أنه يصير إقالة في جميع السلم أو في نصف السلم، وإن قال: صالحتك من السلم على مائتي درهم من رأس المال لا يجوز يريد بقوله: لا يجوز، لا يجوز الزيادة؛ لأن الإقالة في باب السلم على أكثر من رأس المال لا يجوز عندهم جميعًا إلا أنهم لا يجوز الزيادة ويقع الإقالة في باب السلم بعد رأس المال كما في بيع المنقول لو تقايلا على أكثر من الثمن الأول قبل القبض يصح الإقالة بمثل الثمن ولا تثبت الزيادة، هكذا ذكر شيخ الإسلام في (شرحه)، وأشار شمس الأئمة السرخسي في (شرحه) أنه تبطل الإقالة في هذا الوجه أصلًا، هذه الجملة من كتاب الصلح.
وفي بيوع (الأصل): إذا صالح أحد ربي التسلم مع المسلم إليه على حصة من رأس المال، فالصلح موقوف عند أبي حنيفة ومحمد على إجازة الآخر، فإن أجازا وكانا المقبوض من رأس المال مشتركًا بينهما وما بقي من الطعام مشتركًا بينهما، وإن رد بطل الصلح وبقي حق كل واحد قبل المسلم إليه في الطعام، وهذا إذا أسلما عشرة دراهم مشتركة إلى رجل في كر من طعام، فإن لم يكن العشرة مشتركة بينهما لكن أسلما عشرة دراهم، ثم نقد كل واحد منهما خمسة لم يذكر محمد رحمه الله هذا في البيوع، وذكر بعض المشايخ في شرح البيوع أنه يجوز هذا الصلح في حصة المصالح بالإجماع، وبعضهم قالوا: هذا ليس بصحيح، فقد ذكر في صلح (الأصل) هذا الفصل، وذكر فيه قول أبي حنيفة رحمه الله على حسب ما ذكر في الفصل الأول، ولم يذكر في شيء من الكتب ما إذا قال أحد ربي السلم عقد السلم بحصته، وقد اختلف المشايخ فيه على ما ذكرنا في الفصل المتقدم، ومسائل الصلح في هذا الباب كثيرة سيأتي بيانها في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى.

.نوع آخر في وجود العيب فيه وخيار الرؤية فيه:

قال هشام في (نوادره): سألت أبا يوسف عن رجل أسلم عشرة دراهم في ثوب فأخذه وقطعه، ثم وجد به عيبًا، قال: ليس له أن يرجع بنقصان العيب، قلت: لم؟ قال: ما تقول في رجل له على رجل طعام فقضاه دون طعامه فأكله؟ ثم علم بذلك أنه يرجع بنقصانه، وعنه أيضًا: قالت: سألت محمدًا عن رجل أسلم إلى رجل درهمين أحدهما في الحنطة والآخر في الأرز ودفعهما إليه، ثم وجد أحدهما ستوقة قال: إن كان دفعهما إليه معًا فسد نصف الحنطة ونصف الرز، وإن كان دفع إليه كل درهم على حدة، فإن أقاما فالبينة بينة الذي أسلم إليه، وإن لم يقم لهما تحالفا وفسد السلم كله.
وعن إبراهيم بن رستم عن محمد قال: رجل أسلم إلى رجل خمسة دراهم في خمسة أقفرة حنطة وخمسة دراهم في خمسة أقفرة شعير خمسة للحنطة على حدة وخمسة للشعير على حدة، فأصاب درهمًا ستوقًا يعني بعدما تفرقا، فقال رب السلم: هو من الحنطة، وقال المسلم إليه: هو من الشعير، فالقول قول رب السلم، وإن تصادقا أنهما لا يعلمان من أيهما قال يرد المسلم إليه درهمًا آخر على رب السلم وينتقص من كل واحد منهما خمسة.
وروى بشر (بن) الوليد عن أبي يوسف: في رجل أسلم إلى رجل عشرة دراهم في كر حنطة وخمسة دراهم في كر شعير فأعطاه عشرة للحنطة، ثم أعطاه خمسة للشعير، ثم وجد درهمًا ستوقًا، فقال المسلم إليه: هو من دراهم الحنطة، وقال رب السلم: هو من دراهم الشعير، قال: إن كان المسلم إليه أقر بالاستيفاء، فالقول قول رب السلم، وإن لم يكن أقر بالاستيفاء فالقول قوله، فإن تصادقا أنهما لا يدريان من أيهما هو، قال: يكون نصفه من العشرة ونصفه من الخمسة، فينتقص عشر الحنطة ونصف عشر الشعير؛ لأنه في الحنطة لم يوجد قبض رأس المال، وفي حصة الشعير لم يوجد قبض نصف عشر رأس المال، وإن كان أعطاه خمسة عشر في صفقة واحدة، فإنه ينتقص ثلثا عشر الحنطة وثلث خمس الشعير..
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل أسلم إلى رجل عبدًا في كر حنطة وبجارية للمسلم إليه ودفع عبده وقبض الجارية من غير رؤية، ثم نظر إليها فردها بخيار الروية، فإن ذلك جائز ويرجع إليه من عنده بحصته الجارية، ويجوز منه حصة الكراء السلم.
وفي (المنتقى): رجل أسلم إلى رجل عشرة دراهم في ثوب موصوف مسمى، ودفع رب السلم الدراهم وقبض الثوب فوجد به عيبًا، ثم حدث عند القابض عيب، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يرجع بالنقصان؛ لأنه لا يأخذ ثوبه وبعض رأس ماله؛ لأنه يكون اعتياضًا عن الجودة، وإنه ربا. وقال محمد رحمه الله: أما ما يقبض فهو سلم، فلا يجوز أن يأخذ الثوب ودراهم العيب، ولها إذا قبضه فهو الثوب الذي وقع عليه البيع، فصار بمنزلة البيع إن وجد به عيبًا رده وإن حدث عنده عيب آخر ولم يستطع رده رجع بنقصان العيب الذي وجده، وكذلك لو كان كر حنطة مكان الثوب، ألا ترى أنه يبيعه مرابحة على ما أسلم فيه، ولو لم أجعله بيعًا حتى قبضه وجعلته دينًا اقتضاه، فما كان له أن يبيعه مرابحة. قال ثمة: وينبغي له في قياس قول أبي يوسف أن يرد قيمة الثوب معينًا ويرجع بسلمه إلى الثوب ويرد مثل الكر معينا، ويرجع بسلمه في الكر كما قال في ألف اقتضاها وعلم بعد ما أنفقها أنها كانت زيوفًا، وسيأتي بعض مسائل هذا الفصل في الوكالة إذا وكل الرجل غيره أن يسلم له عشرة دراهم في كر حنطة كان التوكيل صحيحًا؛ لأنه وكل بما يملكه بنفسه ويجري فيه النيابة، والتوكيل بمثله صحيح كالتوكيل بشراء العين وكالتوكيل بالبيع، بيانه: أن الحال لا يخلو إما أن يكون رأس المال عينًا أو دينًا، فإن كان عينًا فقد أمره بالتصرف في عين مملوك له من حيث الإزالة عن ملكه إلى غيره بعوض يحصل له وهو بملك ذلك بنفسه، فيملك الأمر به. وإن كان رأس المال دينًا بأن كان دراهم، فقد أمره بإيجاب رأس المال في ذمته ورب السلم يملك إيجاب رأس المال دينًا في ذمته ملكه، فيملك الأمر به كما لو وكله بالشراء.
فرق بين هذا وبينما إذا وكل رجلًا بقبول السلم بأن قال: خذ لي عشر دراهم في طعام مسمى، فإن التوكيل لا يصح حتى إذا قبل الوكيل السلم يصير قابلًا لنفسه حتى يكون رأس المال له، وله منفعة من الموكل بقبول السلم توكيل بما لا يملك الموكل بنفسه بقضية الأصل؛ لأن قبول السلم بيع ما ليس عنده وبيع ما ليس عند الإنسان مما لا يملكه الموكل بنفسه، فكان القياس: أن لا يجوز لو قبل الموكل بنفسه كما في بيع العين إذا باع ما لا يملك، لكن عرفنا ذلك بالنص، فإن النبي عليه السلام رخص في السلم، والرخصة وردت في بيع ما ليس عنده لا في الأمر ببيع ما ليس عنده، ففي الأمر ببيع ما ليس عنده تكون العبرة للقياس، والقياس يأبى جواز الأمر ببيع ما ليس عنده بخلاف التوكيل بالشراء حيث يصح وإن لم يكن الثمن في ملكه؛ لأن الشراء بما ليس عند الإنسان جائز على موافقة القياس، فكان الأمر به جائزًا على موافقة القياس أيضًا إذا ثبت أن التوكيل بالسلم جائز، فالوكيل هو الذي يطالب بتسليم المسلم فيه عند محل الأجل وهو الذي يسلم رأس المال؛ لأنه هو العاقد وحقوق العقد ترجع إلى العاقد عند علمائنا الثلاثة، ثم إن كان الوكيل نقد دراهم الموكل أخذ المسلم فيه ودفعه إلى الموكل، وإن كان نقد دراهم نفسه، ولم يدفع إليه الذي وكله شيئًا يرجع بما نقد على الموكل، وكان ينبغي أن لا يرجع؛ لأنه أمره بالسلم أما ما أمره بالنقد قلنا: الوكيل مضطر في هذا النقد؛ لأن حقوق حق الوكيل وإنما يبقى قبض المسلم فيه حقًا له؛ لأن السلم يفسد حينئذ، فكان مضطرًا في هذا النقد لإحياء حق نفسه، ومن قضى دين غيره مضطرًا كان له الرجوع بما قضى على المقضي عنه. وإذا عقد الوكيل السلم، ثم أمر الموكل بأداء رأس المال وذهب الوكيل، فقد بطل السلم.
وكذلك لو كان الذي عليه السلم وكل رجلًا يقتضي رأس المال وذهب عن مجلس العقد، ولم يوجد وإذا خالف الوكيل بالسلم فأسلم في غير ما أمره الموكل بالسلم فيه كان للموكل أن يضمن الوكيل دراهمه، وإن شاء ضمن المسلم إليه؛ لأن الوكيل لما خالف نقد العقد على الوكيل؛ بالسلم وكيل بشراء العين، والوكيل بشراء العين إذا خالف نقد العقد عليه، فكذا هذا وإذا نقد العقد على الوكيل قاضيًا دين نفسه من دراهم الموكل، فصار غاصبًا وصار المسلم إليه غاصب الغاصب، فإن ضمن الوكيل بقي السلم صحيحًا على الوكيل، وطريق بقائه صحيحًا بتضمين الوكيل، وإن بطل ذلك التسليم فقد وجد تسليم آخر في ذلك المجلس من حيث الحكم والاعتبار؛ لأن الدراهم في يد المسلم إليه وإنها مضمونة على المسلم إليه نفسه، فثبوت قبضه عن قبض السلم، فكأنه وجد تسليم آخر من حيث الحكم بعدما بطل الأول في المجلس، ألا ترى أن قبض الغاصب ينوب عن قبض الشراء؟ فكذا هاهنا.
وإن ضمن السلم إليه إن ضمنه وهما في المجلس يعني الوكيل والمسلم إليه ونقد الوكيل دراهم أخر، فالسلم جائز؛ لأنه لما ضمن المسلم إليه فقد انتقض قبضه، وصار كأنه لم يقبض رأس المال في أول المجلس وقبضه في آخر المجلس، وإن ضمنه بعدما تفرقا عن المجلس، فإن أسلم بطل؛ لأنه قد انتقض وصار كأنه لم يقبض رأس المال أيضًا حتى تفرقا عن المجلس.
وإذا دفع الرجل إلى رجل دراهم ليسلمها له في الحنطة، ثم الوكيل أسلم إلى رجل، فهذه المسألة على وجوه: إن أضاف العقد إلى دراهم الآمر، فالعقد للآمر، وإن نواه لنفسه عقد العقد بدراهم مطلقة، فإن تصادقا أنه نواه لنفسه فهو لنفسه، وإن نقد دراهم للآمر بعد ذلك، وهذا لأن الوكيل بالسلم لا يصير محجورًا عن السلم لنفسه؛ لأنه وكيل بشراء شيء بغير عينه، والوكيل بشراء شيء بغير عينه لا يصير محجورًا عن الشراء لنفسه؛ لأن ما هو مقصود الآمر من الأمر لا يفوت؛ لأن مقصود الآمر تحصيل ما سمى ويمكن تحصيل ما سمى الأمر إن لم يصر الوكيل محجورًا عن الشراء لنفسه إذا كان ما سمى الموكل بغير عينه، وإذا لم يصر محجورًا عن الشراء لنفسه ملك الشراء لنفسه وللآمر، فأي ذلك نوى، فقد نوى ما يملك فصحت نيته إذا ثبتت نيته بتصادقهما، وأما إذا تكاذبا في النية فقال الموكل: نويت لي، وقال الوكيل: نويت لنفسي يحكم بالنقد إن نقد الوكيل من مال نفسه كان السلم للوكيل، وإن نقد من مال الموكل كان السلم للموكل هكذا ذكر محمد رحمه الله في (الأصل)، بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر محمد رحمه الله قول أبي يوسف، فأما في قول محمد: فالسلم يقع للوكيل ولا يحكم بالنقد، كما لو تصادقا أنه لم يحضره نية؛ لأنه جعل الوكيل عاملًا لنفسه في الحالين جميعًا، وبعضهم قالوا: لا بل المذكور في (الكتاب) قولهم بحكم النقد حال التكاذب بلا خلاف، فعلى قول هذا القائل يحتاج محمد رحمه الله إلى الفرق بين حالة التكاذب وبينما إذا تصادقا أنه لم تحضره النية وهو الأصح، والفرق: أن في حالة التكاذب استويا في الدعوى والإنكار الوكيل ادعى أنه نوى لنفسه والموكل أنكر ذلك، والموكل ادعى أنه نواه له، وأنكر الوكيل ذلك، فقد استويا في الدعوى والإنكار، وفي مثل هذا يحكم الحال كما في مسألة الطاحونة، وما في حالة التصادق لم يوجد منهما الدعوى والإنكار، فلم يجب تحكيم الحال، وجعلنا السلم واقعًا للوكيل؛ لأن الأصل في عمل الحر أن يكون له إلا إذا نص بخلافه.
وأما إذا تصادقا أنه لم تحضره النية، فقد اختلف أبو يوسف ومحمد فيما بينهما، قال محمد: لا يحكم النقد ويجعل السلم واقعًا للوكيل؛ لأن الأصل في عمل الحر أن يكون له إلا إذا نص على خلافه ولم ينص، فوقع العقد للوكيل، وبعدما وقع للوكيل لا ينتقل إلى الموكل النقد من ماله. وقال أبو يوسف: يحكم في هذا النقد؛ لأن هذا العقد صالح لكل واحد منهما لما ذكرنا أن الوكيل يملك مباشرة هذا العقد لنفسه كما يملك مباشرته للوكيل، فيحكم النقد إذا عزفته النية عملًا لأمر على الصلاح حتى لا يصير غاصبًا دراهم الآمر متى عقد لنفسه.

.نوع آخر:

من هذا الفصل في المتفرقات: إذا أسلم في القطن لا يعطي فيه الورام كما في البيع اتفق عليه مشايخ زماننا؛ لأن الورام في البيع أمر عرفي، ولا عرف في السلم.
بشر عن أبي يوسف في (الإملاء): رجل أسلم إلى رجل عبدًا في كر حنطة، ودفع إليه العبد، ثم إن المسلم إليه باع العبد من رجل وسلمه إلى المشتري، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيبًا ورده على المسلم إليه بغير حكم، ثم إن رب السلم مع المسلم إليه أرادا أن يتقايلا السلم. والمسألة على وجهين: إن قال رب السلم للمسلم إليه: رد علي وأبرأتك من المسلم، أو قال: أبرأتك من السلم بهذا العبد، أو قال: أقلني السلم بهذا العبد، فهذا كله باطل. وهذا كرجل قال لغيره: بعني مالك علي من السلم بكذا، وإن قال: أقلني السلم ولم يذكر العبد، أو قال: أبرئني من السلم وخذ رأس مالك، ولم يذكر العبد ففعل، فقد انتقض السلم وله قيمة العبد (وللمسلم) رأس ماله.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: رجل باع من آخر عبدًا بثوب موصوف في الذمة إن ضرب للثوب في الذمة أجلًا جاز، وإن لم يضرب الأجل لا يجوز؛ لأن الثوب لا يجب في الذمة إلا سلمًا ولا سلم بدون الأجل. ولو افترقا قبل قبض العبد لا يبطل العقد؛ لأن هذا العقد اعتبر سلمًا في حق الثوب بيعًا في حق العبد، ويجوز أن يعتبر في عقد واحد حكم عقدين كما في الهبة بشرط العوض، وكما في قوله: إن أديت إلي ألفًا، فأنت حر، اعتبر فيه حكم اليمين وحكم المعاوضة.

.الفصل الثالث والعشرون: في القروض:

هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضًا:

.نوع منه في بيان ما يجوز استقراضه وما لا يجوز:

كل شيء يكال أو يوزن نحو الحنطة والشعير والسمسم والتمر والزبيب جاز استقراضه، الأصل فيه أن ما هو من ذوات الأمثال ويكون مضمونًا على الغاصب والمستهلك بالمثل استقراضه (جائز)؛ لأن المقبوض بحكم القرض مضمون بالمثل من غير زيادة ولا نقصان مما يكون من ذوات الأمثال نحو المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة، يمكن اعتبار المماثلة المشروطة في القرض فيه فيجوز استقراضه، وما لا يكون من ذوات الأمثال نحو الحيوان واللآلئ والجواهر والأكارع والرؤوس لا يجوز استقراضه؛ لأن طريق معرفة القيمة الحزر، وبه لا تثبت المماثلة المعتبرة في القرض، وهي المماثلة من غير زيادة ولا نقصان كما لا يثبت به المماثلة المشروطة في أموال الربا، واستقراض الثياب لا يجوز؛ لأنها ليست من ذوات الأمثال حقيقة، وإنما صارت من ذوات الأمثال شرعًا في باب السلم حتى جاز السلم فيها بشرط مخصوص، والأجل لا يثبت في القرض، فلم يكن من ذوات الأمثال في القرض لا حقيقة ولا شرعًا. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إقراض الخبز ولا (استقراضه) لا عددًا ولا وزنًا، وهذا على أصله مستقيم؛ لأن عنده لما لم يجز السلم في الخبز لمكان التفاوت أولى أن لا يجوز القرض؛ لأن باب القرض أضيق من باب السلم، ألا ترى أنه لا يجوز إقراض الثياب ويجوز السلم في الثياب.:
وقال أبو يوسف في رواية مثل قول أبي حنيفة، وعن ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه قال: لا بأس به وزنًا قال ابن أبي مالك: سألت أبا يوسف عن استقراض الخبز مرة، قال: لا بأس به وعليه أفعال الناس جارية، قال ابن أبي مالك: وهذا قوله المعروف، وذكر في بعض المواضع عن محمد أنه يجوز عددًا ولا يجوز وزنًا، قال: لأن العادة جرت باستقراضها عددًا لا وزنًا والقياس يترك بالعادة.
وذكر في (المنتقى) عن محمد: أنه جوز قرض الخبز عددًا، وقال: بلغنا ذلك عن إبراهيم النخعي، قال ثمة أيضًا: قال محمد: الوزن في قرض الخبز من الدناءة والعدد أحب إلي.
ويجوز استقراض الجوز كيلًا؛ لأنه يكال مرة ويعد أخرى ولهذا جاز السلم فيه كيلًا، ويجوز استقراض الكاغد عددًا؛ لأنه عددي متقارب، كذا ذكره الصدر الشهيد في (واقعاته). واستقراض الباذنجان عددًا يجوز ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في أول شرح الغصب، ويجوز استقراض اللحم وزنًا، رواه إبراهيم عن محمد، والذي روي عنه: من أقرض رجلًا عشرة أرطال لحم الغنم، قال: هو جائز وإنه مشكل على مذهبه؛ لأن اللحم عنده من ذوات القيم حتى إن من أتلف على آخر لحمًا يضمن قيمته، هكذا ذكر محمد رحمه الله في بيوع (الجامع) في الرواية. ونص فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله في شرح (الجامع) أنه من ذوات الأمثال، قال رحمه الله: وتأويل ما ذكر محمد أنه يضمن بالقيمة إذا كان في موضع لا يوجد له المثل، وذكر بعض المشايخ في شرح (الجامع الصغير): أن اللحم من ذوات الأمثال يضمن بالمثل في ضمان العدديات، ويجري بثمنيته الربا وأشار إليه الطحاوي في كتابه، فإنه قال: كل ما يكون موزونًا فهو مثلي.
وفي (نوادر هشام) عن أبي يوسف أنه قال: (لا) خير في قرض الحنطة والدقيق بالوزن، وكذلك التمر وإن كان حيث يوزن، قال هشام رحمه اللّه: قلت لمحمد: التمر عندنا بالري وزنًا فما تقول فيمن أقرضه بالوزن، قال: لا يصلح ذلك؛ لأن أصله كيل، وعن محمد أيضًا: أنه قال: لا يجوز الحنطة أن تقرض وزنًا، فإن أخذه وأكله قبل أن يكتاله، فالقول قول المستقرض أنه كذا كذا قفيزًا. وفي (الأصل): إذا استقرض الدقيق وزنًا لا يرده وزنًا، وعن أبي يوسف رواية أخرى: أنه يجوز بيع الدقيق واستقراضه وزنًا إذا تعارف الناس ذلك أستحسن فيه.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): فإذا كانت الدراهم ثلثها فضة وثلثاها صفر، فاستقرض رجل منها عددًا وهي جارية بين الناس عددًا، فلا بأس به وإن لم تجر بين الناس إلا وزنًا لم يجز استقراضها إلا وزنًا؛ لأن الصفر إذا كان غالبًا تكون العبرة للصفر، وتكون الفضة ساقطة الاعتبار وكون الصفر موزونًا، فأثبت بالنص فتكون العبرة موزونًا ما ثبت بالنص لما فيه لتعامل الناس، فمتى تعاملوا بيعها وزنًا يكون موزونًا، فلا يجوز استقراضها إلا وزنًا، ومتى تعاملوا بيعها عددًا كان عدديًا، فلا يجوز استقراضها إلا عددًا، فقد أسقط محمد رحمه الله اعتبار الفضة في القرض إذا كانت مغلوبة، ولم يسقط اعتبارها في حق البيع حتى لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا على سبيل الاعتبار، إنما فعل هكذا؛ لأن القرض أسرع جوازًا من البيع؛ لأن القرض مبادلة صورة، تبرع حكمًا؛ لأن رد المثل في القرض أقيم مقام رد العين حكمًا، والربا إنما يتحقق في البيع دون القرض، فاعتبرت الفضة المغلوبة في البيع ولم تعتبر في القرض لهذا.
وإن كانت الدراهم ثلثاها فضة وثلثها صفرًا لا يجوز استقراضها إلا وزنًا، وإن تعامل الناس التبايع بها عددًا؛ لأن الفضة إذا كانت غالبة بمنزلة ما لو كان الكل فضة ولكنها زيف، ولو كان كذلك لم يجز استقراضها إلا وزنًا وإن تعامل الناس بها عددًا، فهاهنا كذلك.
وإن كانت الدراهم نصفها فضة ونصفها صفرًا لم يجز اعتبار استقراضها إلا وزنًا؛ لأنه لم يسقط اعتبار واحد منهما؛ لأن إسقاط اعتبار واحد منهما حال كونه مغلوبًا ولم يوجد، فوجب اعتبارهما لم يجز الاستقراض في حق الفضة إلا وزنًا، فإذا تركوا ذلك بطل الاستقراض في الفضة، فبطل في الصفر ضرورة، ويجوز استقراض الجمد وزنًا؛ لأن الناس تعارفوا وزنًا.

.نوع آخر منه:

قال محمد رحمه الله في كتاب الصرف: إن أبا حنيفة كان يكره كل قرض جر منفعة قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطة في العقد بأن أقرض عادلية صحاحًا أو ما أشبه ذلك، فإن لم تكن المنفعة مشروطة في العقد، فأعطاه المستقرض أجود مما عليه، فلا بأس به، وكذلك إذا أقرض الرجل رجلًا دراهم أو دنانير ليشتري المستقرض متاعًا بثمن غال فهو مكروه، وإن لم يكن شراء المتاع مشروطًا في القرض، ولكن المستقرض اشترى من المقرض بعد القرض متاعًا بثمن غال فعلى قول الكرخي: لا بأس به. وذكر الخصاف في (كتابه) وقال: ما أحب له ذلك، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنه حرام؛ لأن هذا قرض جر منفعة؛ لأنه يقول: لو لم أشتره منه طالبني بالقرض في الحال. وذكر محمد رحمه الله في كتاب الصرف: أن السلف كانوا يكرهون ذلك، إلا أن الخصاف لم يذكر الكراهة إنما قال: لا أحب له ذلك، فهو قريب من الكراهة لكنه دون الكراهة، ومحمد لم ير بذلك بأسًا، فإنه قال في كتاب الصرف: المستقرض إذا أهدى للمقرض شيئًا لا بأس به من غير فصل، فإنه دليل على أنه رفض قول السلف.
قال شيخ الإسلام خواهرزاده رحمه الله: ما نقل عن السلف محمول على ما إذا كانت المنفعة وهي شراء المتاع بثمن غال مشروطة في الاستقراض، وذلك مكروه بلا خلاف، وما ذكر محمد رحمه الله محمول على ما إذا لم تكن المنفعة والهدية مشروطة في القرض وذلك لا يكره بلا خلاف، هذا إذا تقدم الإقراض في البيع.
فأما إذا تقدم البيع على الإقراض وصورة ذلك: رجل طلب من رجل أن يعامله بمائة دينار، فباع المطلوب عند المعاملة من الطالب ثوبًا قيمته عشرون دينارًا بأربعين دينارًا، ثم أقرضه ستين دينارًا حتى صار للمقرض على المستقرض مائة دينار وحصل للمستقرض ثمانون دينارًا، ذكر الخصاف أن هذا جائز، وهذا مذهب محمد بن مسلمة إمام بلخ، فإنه روي أنه كان له سلع، فكان إذا استقرض إنسان منه شيئًا كان يبيعه أولًا سلعة بثمن غال ثم يقرضه بعض الدنانير إلى تمام حاجته، وكثير من المشايخ كانوا يكرهون ذلك، وكانوا يقولون: هذا قرض جر منفعة. ومن المشايخ من قال: إن كانا في مجلس واحد يكره، وإن كانا في مجلسين مختلفين لا بأس به؛ لأن المجلس الواحد لجمع الكلمات المتفرقة، فكأنهما وافقا معًا فكانت المنفعة مشروطة في القرض. وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني يفتي بقول الخصاف، ويقول: محمد بن سلمة كان يقول هذا ليس بقرض جر منفعة بل هذا بيع جر منفعة وهو القرض.
وأما هدية المستقرض: إن كانت الهدية مشروطة في الاستقراض فهو حرام، ولا ينبغي للمقرض أن يقبل، فإن لم تكن الهدية مشروطة في الاستقراض، وعلم أنه أهدى إليه لا لأجل الدين أو لأجل الدين، ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أنه لا بأس بقبولها، والتورع عنه أولى، وهكذا حكي عن بعض مشايخنا.
بعد هذا قالوا: إذا كانت المهاداة تجري بينهما قبل القرض بسبب القرابة والصداقة أو كان المستقرض معروفًا بالجودة والسخاوة، فهذا قائم مقام العلم أنه أعطاه لا لأجل الدين فلا يتورع عنه، وإن لم يكن شيء من ذلك، فالحال حال الإشكال، فيتورع عنه حتى يتبين أنه أهدي لا لأجل الدين، ومن قال: بالكراهة في مسألة البيع يقول بالكراهة هاهنا أيضًا، ومحمد لم ير به بأسًا من غير تفصيل.
وأما دعوة المستقرض قال محمد: ولا بأس بأن يجيب دعوة رجل له عليه دين، قال شيخ الإسلام خواهرزاده: (إلى) هذا جواب الحكم، فأما الأفضل أن يتورع عن الإجابة إذا علم أنه لأجل الدين أو أشكل عليه الحال.
قال شمس الأئمة الحلواني: ما ذكر محمد رحمه الله محمول على ما إذا كان يدعوه قبل الإقراض، أما إذا كان لا يدعوه قبل الإقراض أو كان يدعوه في كل عشرين يومًا وبعد الإقراض جعل يدعوه في كل عشرة أيام أو زاد في الباحات، فإنه لا يحل ويكون مسيئًا.
وإذا أرجح في بدل القرض ولم يكن الرجحان مشروطًا في القرض فلا بأس به، روي أن رسول الله استقرض من رجل دراهم وأرجح وقال: «أنا كذلك بريء».
قال مشايخنا رحمهم الله: والرجحان على ضربين: إن كان يدخل تحت الوزنين لا بأس به وإن كان لا يدخل تحت الوزنين فهو على ثلاثة أقسام: أما إن كانت الدراهم مكسرة أو كانت صحاحًا لا يضرها الكسر، وفي هذين الوجهين لا يجوز؛ لأنه تعذر اعتبارها زيادة على بدل القرض؛ لأنه يكون ربا وتعذر اعتبارها هبة؛ لأنها هبة المشاع فيما يحتمل القسمة، وأما إن كانت الدراهم صحاحًا يضرها الكسر، وفي هذا الوجه ينظر إن كان الرجحان زيادة يمكن تمييزها بدون الكسر بأن كان يوجد فيها درهم خفيف يكون مقدار الزيادة لا يجوز، وإن كان الرجحان زيادة لا يمكن تمييزها بدون الكسر يجوز بطريق الهبة، ويكون هذا هبة المشاع فيما يحتمل القسمة.
وإذا أقرضه بالكوفة بشرط أن يوفيه بالبصرة لا يجوز؛ لأنه قرض جر منفعة؛ لأن المستقرض يكفيه خطر الطريق ومؤنة الحمل، وعلى هذا السفاتج التي يتعامل بها التجار، فإنهم يقرضون فيما بينهم ويكتب المستقرض للمقرض سفتجة إلى مكان، فإن كان ذلك شرطًا في القرض فهو مكروه؛ لأنه قرض جر منفعة، فإنه يسقط عن المقرض مؤنة الحمل وخطر الطريق، وإن لم يكن ذلك مشروطًا في القرض فلا بأس به.
وفي (المنتقى) إبراهيم عن محمد: رجل قال لآخر: أقرضني ألفًا على أن أعيرك أرضي هذه تزرعها ما دامت الدراهم في يدي، فزرع المقرض لا يتصدق بشيء وأكره له هذا.

.نوع آخر منه:

إذا استقرض فلوسًا فكسدت، فإن على قول أبي حنيفة يرد عينها إن كانت قائمة، ومثلها إن كانت هالكة، وأما على قول أبي يوسف فقد ذكر بعض مشايخنا في شرح كتاب الصرف: أن المشايخ اختلفوا فيه على قولهما، قال بعضهم: يرد عينها وإن كانت هالكة فعليه قيمتها، وقال بعضهم: عليه قيمتها على كل حال. وفي (المنتقى) ما يدل على هذا القول، فقد ذكر ثمة: أنه إذا استقرض فلوسًا، فعليه مثلها في قول أبي حنيفة، وقال محمد: عليه قيمتها يوم سقطت زاد في رواية إبراهيم عن محمد فعليه قيمتها في آخر ما فسدت بساعة قليلة قبل أن تكسد، وقال يعقوب: عليه قيمتها يوم استقرض، فقد ذكر القيمة على قولهما من غير فصل بينما إذا كانت قائمة أو هالكة على قولهما.
والفلوس المغصوبة إذا كسرت، فإن كانت قائمة رد عينها بالإجماع، وإن كانت هالكة، فعلى الاختلاف الذي مر.
وهذه المسألة في الحاصل فرع لمسألة أخرى في كتاب الغصب، أن من غصب من آخر رطبًا وهلك عنده أو استهلكه، ثم انقطع أوان الرطب، قال أبو حنيفة رحمه الله: عليه قيمته من الفضة يوم الخصومة، وقال أبو يوسف: عليه قيمته من الفضة يوم الغصب، وقال محمد: عليه قيمته من الفضة يوم الانقطاع.
وجه كونها فرعًا لتلك المسألة: أن الواجب على المستقرض رد مثل ما قبض وعلى الغاصب كذلك، وقد حصل قبض الفلوس وهي رائجة، فيجب رد مثلها من ذلك الضرب رائجة، وقد عجز عن تسليمها رائجة بالكساد، كما أن غاصب الرطب عجز عن تسليم الرطب بالانقطاع إلا أن غاصب الرطب عجز عن رد الأصل، ومستقرض الفلوس عجز عن رد الصفة وهي كونها رائجة.
وإذا صارت هذه المسألة بناء على تلك المسألة لو أوجبنا القيمة على قول أبي حنيفة وجب اعتبار القيمة يوم الخصومة هاهنا كما وجب اعتبار القيمة يوم الخصومة ثمة، قلنا: إيجاب قيمتها من الفضة يوم الخصومة لا يفيد؛ لأن قيمتها كاسدة وعينها سواء بل إيجاب العين كاسدة أعدل من قيمتها فأوجبنا المثل على قوله ولم نوجب القيمة لهذا، وعلى قولهما لما وجب اعتبار قيمتها رائجة إما يوم الاستقراض وإما في آخر يوم كانت رائجة كان إيجاب القيمة من الفضة أعدل من إيجاب عينها كاسدة فيؤول الكلام إلى تلك المسألة، فإن اصطلحا على شيء يدًا بيد، فهو جائز؛ لأن الواجب في الذمة على قولهما القيمة من الفضة، وعلى قول أبي حنيفة الفلوس، وأيًا ما كان فالاستبدال به جائز بعد أن يكون الافتراق عن عين بدين، والجواب في العدلي على ما ذكرنا من غير تفاوت. وكثير من المشايخ كانوا يفتون بقول محمد رحمه الله، وبه كان يفتي الصدر الكبير برهان الأئمة، والصدر الشهيد حسام الدين، وبعض مشايخ زماننا أفتوا بقول أبي يوسف رحمه الله وقوله أقرب إلى الصواب في زماننا.
وفي بيوع (الأمالي): رجل استقرض من آخر شيئًا من الكيلي أو الوزني وانقطع عن أيدي الناس، قال: يجبر المقرض على التأخير حتى يدرك الحديث عند أبي حنيفة؛ لأن الانقطاع عن أيدي الناس يجري مجرى الهلاك، ومن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن الحق لا ينقطع عن الغير بهلاك العين على ما عرف في موضعه. وإذا بقي الحق في العين، ولوجود العين غاية معلومة يجبر على التأخير إلى وقت وجوده ليصل إليه عين حقه، أكثر ما فيه أن في التأخير ضرب ضرر للمقرض إلا أن في أخذ غير الحق ضررًا للمستقرض، وهذا الضرر فوق ضرر التأخير، فكان أولى بالدفع.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: في رجل استقرض من آخر شيئًا من الفواكه كيلًا أو وزنًا، فلم يقبضه المقرض حتى انقطع، فهذا لا يشبه الفلوس إذا كسدت؛ لأن هذا مما لا يوجد، فهذا يجبر صاحبه على تأخيره إلى أن يجيء الحديث إلا أن يتراضيا على قيمته. قال: وهذا في الوجه مثل رجل استقرض من رجل طعامًا من بلد الطعام فيه رخيص، فالتقيا في بلد الطعام فيه غال، فأخذه الطالب بحقه، فليس له أن يحبسه ويؤمر المطلوب بأن يوثق له حتى يعطيه إياه في البلد الذي استقرضه فيه.

.نوع آخر منه:

وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد رحمه الله: إذا أخذ المقرض المستقرض في بلدة أخرى، فإن شاء أخذه حتى يؤديه في الموضع الذي استقرضه، وإن شاء أخذه بقيمة ذلك الموضع هاهنا، وإن أبى المستقرض أن يعطيه القيمة أجبر عليه. وروى إبراهيم عن محمد: رجل استقرض من آخر طعامًا بالعراق، فأخذه المقرض بمكة، قال أبو يوسف: عليه قيمته يوم أقرضه، وقال محمد: عليه قيمته بالعراق يوم اختصما، وليس عليه أن يرجع معه إلى العراق ويأخذ طعامه.
في (القدوري): إذا استقرض دراهم بخارية والتقيا في بلدة لا يقدر على البخارية، فإن كان ينفق في ذلك البلد، فإن شاء صاحب الحق أجله قدر المسافة ذاهبًا وجائيًا ويستوثق منه، وإن كان في بلدة لا ينفق وجب القيمة.
وروى بشر عن أبي يوسف: رجل أقرض رجلًا طعامًا أو غصبه إياه وله حمل (و) مؤنة، والتقيا في بلدة أخرى الطعام فيها أرخص، فإن أبا حنيفة قال: يستوثق له من المطلوب حتى يوفيه طعامه حيث أقرضه أو غصبه، قال أبو يوسف: إن تراضيا عليه فحسن وأيهما طلب القيمة أجبرت الآخر عليه وهي القيمة في البلد الذي استقرض أو غصب على حال يوم أقضي، والقول في ذلك قول المطلوب، فإن كان الغصب قائمًا في يديه بعينه أجبره على أخذه ولا أجبره على القيمة.

.نوع آخر:

رجل أقرض رجلًا ألف درهم وقبضها المستقرض، ثم إن المقرض قال للمستقرض: اصرف الدراهم التي عليك بالدنانير، فإن عين له شخصًا بأن قال له مع فلان، ففعل جاز على المقرض بالإجماع، وإن لم يعين شخصًا ففعل، قال أبو حنيفة قال: لا يجوز على المقرض و(قال: لا يجوز). أصل المسألة: إذا قال رب الدين للمديون أسلم ما لي عليك في كر حنطة ولم يعين المسلم إليه، فإن أراد الطالب أن يأخذ الدنانير من المستقرض باختياره جاز ذلك، وهذا عندهم جميعًا، أما عند أبي يوسف ومحمد فظاهر، وأما عند أبي حنيفة؛ لأن بالدفع والأخذ ينعقد بينهما بيع جديد بالتعاطي.
إذا كان للرجل على رجل ألف درهم دين، فدفع المطلوب دنانير إلى الطالب، وقال: اصرفها وخذ حقك منها، فقبضها الطالب فهلكت في يده قبل أن يصرفها، فهي من مال المطلوب؛ لأن الدنانير أمانة في يده؛ لأنه قبضها بحكم الوكالة، والوكيل أمين فيما في يده بحكم الوكالة، فإن صرفها فهلكت الدراهم في يده قبل أن يأخذ منها هلكت من مال الدافع أيضًا؛ لأنه وكيل بالصرف، فالقبض بحكم العقد يقع للآمر أولًا وتصير الدراهم أمانة في يده ما لم يحدث فيها قبضها لنفسه، فإذا أخذ بحقه منها، فقد أخذت في المأخوذ قبضها لنفسه، فإذا هلك بعد ذلك هلك على مال الطالب، وإن لم يأخذها بحقه بعد؛ لأن في هذه المسألة أمره الطالب بالبيع بحقه، وإنما يكون البيع بحقه إذا كان بائعًا لنفسه فيقع البيع للطالب، أما في المسألة الأولى ما أمر الطالب بالبيع بحقه إنما أمره بالصرف لنفسه واستيفاء الحق من الدراهم، فيقع الصرف للدافع، ويقع القبض بحكم الصرف للدافع أيضًا، والتقريب ما ذكرنا.

.نوع آخر من هذا الفصل:

قال محمد رحمه الله في (الجامع): رجل استقرض من رجل كرًا من طعام، ثم إن المستقرض اشترى من المقرض الكر الذي عليه بمائة درهم جاز الشراء؛ لأن المستقرض صار ملكًا للمستقرض بنفس القبض، ووجب عليه للمقرض كرًا مثله، فصح الشراء، بخلاف ما إذا اشترى غير من عليه الدين حيث لا يجوز؛ لأنه لا يمكنه التسليم إلا بالقبض، فكان عاجزًا عن التسليم للحال فلا يجوز، أما هاهنا المبيع في يد المشتري؛ لأنه في ذمته وذمته تكون في يده أيضًا، فلما اشترى وقع مسلمًا إليه فصح.
وإذا جاز الشراء إن نقد المائة في المجلس، فالشراء ماض على صحته، وإن لم ينقدها في المجلس بطل لافتراقهما عن دين، وهذا بخلاف ما إذا وجب على المستقرض كر حنطة، ثم إن كل واحد منهما باع ماله على صاحبه بما لصاحبه عليه حيث يجوز، وإن افترقا عن المجلس من غير قبض شيء لأن هناك الافتراق حصل بعد قبض البدلين حكمًا؛ لأن بنفس الشراء ملك كل واحد ما ذمته إذ ذمته في يده، قالوا: وهذا على قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله؛ لأن عندهما المستقرِض يصير ملكًا للمستقرض بنفس القبض، فيجب عليه مثله دينًا في الذمة فيصح الشراء.
أما عند أبي يوسف: فالمستقرض لا يصير ملكًا للمستقرض إلا بالقبض مع الاستهلاك، فلم يجب في ذمة المستقرض شيء، فلا يصح الشراء، فإذا استهلكه ثم اشتراه لا يصح بلا خلاف، وكذلك الاختلاف في الملك في المنقود وسائر ما يستقرض.
وجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن (القبض) بمنزلة العارية، ولهذا لا يصح التأجيل فيه مع صحة القرض وجعلت إعارة كل مكيل وموزون قرضًا، لا إعارة تمليك المنفعة، ولهذا لا يملكه المكاتب والعبد والأب والوصي، والإعارة تمليك المنفعة لا تمليك العين إلا أن منافع هذه الأعيان لا تنفصل عن الأعيان، فأقيمت المنافع مقام الأعيان، ثم المنافع لما كانت لا تملك إلا بالاستهلاك، فكذلك الأعيان التي قامت مقام المنافع.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد هو: أن الأعيان لما أقيمت مقام المنافع فيما لا يتهيأ الانتفاع إلا بعد استهلاكها يقوم قبض العين أيضًا مقام قبض المنفعة لهذه الضرورة، والمنفعة في باب الأعيان تمليك بالقبض، فكذا العين تملك بالقبض، غير أن قبض المنافع لا يكون بدون الاستهلاك، فإذا افترقا في حق القبض يفترقان في الملك الذي هو بناء عليه. والدليل عليه: أن المستقرض لو باع القرض من غيره يجوز، وكان الثمن له. ولو بقي على ملك المقرض قبل الاستهلاك لكان يقف هذا البيع على إجازته، وكذا سائر تصرفاته من الهبة والصدقة على هذا.
ثم إذا نقد المشتري المائة في المجلس، ثم وجد بالكر عيبًا لم يرده بالعيب؛ لأنه لا وجه إلى رده بحكم الشراء؛ لأن العقد ما يتناوله. ولا وجه إلى رده بحكم القرض؛ لأن القرض تبرع لا يوجب السلامة عن العيب، ولكن يلزمه مثل المقبوض، ولكن يرجع بنقصان العيب من الثمن؛ لأن المبيع كر وجب في الذمة بدلًا عن المقبوض بحكم القرض والمقبوض بحكم القرض معيب في نفسه، فكذا ما وجب عنه، والعقد يقتضي السلامة عن العيب، وقد ظهر أنه معيب وقد تعذر رده؛ لأنه دين في ذمة المشتري، فلما اشتراه سقط عن ذمته، فيرجع بنقصان العيب، كما لو اشترى عبدًا فهلك في يد المشتري ثم اطلع على عيب به، ولو كان القرض المقبوض مستهلكًا كان الجواب كما قلنا، لكن عند الكل، وكذلك الجواب في كل مكيل وموزون غير الدراهم والدنانير والفلوس إذا كان قرضًا.
وقال في آخر الباب: لو اشترى ما عليه من الكر (قبل) القبض بكر مثله جاز إذا كان عينًا، وإن كان دينًا لا يصح إلا أن يقبضه في المجلس لما مر، فإن وجد المستقرض بالقرض عيبًا لم يرده ولا يرجع بنقصان العيب بخلاف الوجه الأول، والفرق بينهما: أنه لو رجع ينقص الكر الذي دفع المستقرض، فيكون هذا مبادلة كر من طعام بأقل من كر وذلك ربا، أما إذا كان الثمن دراهم لو رجع ببعض الدراهم كان هذا مبادلة كر بأقل من مائة درهم، وذلك لا يؤدي إلى الربا.
وقال في آخر الباب: إذا اشترى المستقرَض بعينه وهو مقبوض لم يصح الشراء؛ لأنه ملك المستقرض، وإنما اشترى ملك نفسه فلا يصح، وعلى قياس قول أبي يوسف يصح؛ لأنه ملك المقرض، فإن قيل: لم لا يقدم فسخ المقرض تصحيحًا لما قصدا كما يقدم فسخ البيع بألف على البيع بألفين وخمسمائة تصحيحًا لما قصدا، قلنا: فسخ القرض لا يتم إلا برد المقرض، وذلك فعل والأفعال لا يمكن إتيانها بطريق الاقتضاء، فلا يثبت فسخ القرض إلا إذا سقط اعتبار الرد شرطًا لتمام الفسخ بمقتضى الإقدام على البيع ولا وجه إلى ذلك؛ لأن ما صار شرطًا للشيء لا يسقط اعتباره وإن كان ثبوت ذلك الشيء بطريق الاقتضاء.
نظير هذا ما قال أبو حنيفة ومحمد فيمن قال لغيره: أعتق عبدك عني بغير شيء لا تثبت الهبة بطريق الاقتضاء إلا إذا سقط اعتبار القبض؛ (لأن القبض) شرط للهبة ولم يسقط، وإن كان ثبوت الهبة يقتضي غيره وهو الاعتاق عن الآخر كذا هاهنا.
ولو اشترى المقرض من المستقرض عين ما قبضه صح عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنه ملك المستقرض، وعلى قول أبي يوسف: لا يصح؛ لأنه ما زال عن ملك المقرض فلا يصح شراؤه.
وعنه أيضًا: رجل أقرض رجلًا مائة درهم على أنها جياد، فقبضها ثم اشتراه المستقرض المقرض بعشرة دنانير صح، أما على قول أبي حنيفة ومحمد: فلأنه وجب على المستقرض مثل تلك الدراهم دينًا في الذمة بالإضافة بل يتعلق بمثلها وصار هو بائعًا الدنانير بمثل ذلك الدراهم، فصار وجوب تلك الدراهم في الذمة وجودها والعدم بمنزلة بخلاف مسألة الطعام العقد يتعلق بالعين بالإشارة فيتعلق بما في الذمة بالإضافة، فإذا لم يكن في ذمته شيء لا يصح الشراء أما هاهنا بخلافه.
ثم إذا صح الشراء هاهنا لو افترقا عن المجلس من غير قبض البدل وهو الدينار يبطل الصرف لافتراقهما عن المجلس من غير قبض بدلي الصرف، وإن قبض الدنانير قبل أن يتفرقا، فالعقد ماض على الصحة؛ لأن الدنانير مقبوضة حقيقة والدين مقبوض عليه أيضًا، فوجد قبض بدلي الصرف في المجلس (وأما) في مسألة الحنطة العقد ليس بصرف، فإنما يبطل بالدينية في البدلين، وذلك يزول بقبض أحدهما، ثم في مسألة الحنطة لم يجعل الدين بمنزلة المقبوض إذ لو كان في معنى المقبوض لما احتيج إلى قبض البدل الآخر؛ لأن في عقد غير الصرف يكتفى بقبض أحد البدلين.
والوجه في هذا أن يقال: إن في العقود كلها الشرط تعين أحد البدلين حقًا للشرع ليصير محل العقد موجودًا، غير أن في باب الصرف لما لم يتحقق التعيين إلا بالقبض شرط قبض أحد البدلين للتعيين، وشرط قبض الآخر حقًا للعاقد الآخر تحقيقًا للتساوي بينهما، وفي مسألتنا الدين لما كان في حكم المقبوض، ووجد قبض الآخر في المجلس صار حق الشرع وحق العبد مقامًا، فيجوز أما في مسألة الحنطة، ما في الذمة وإن صار في حكم المقبوض لكن لم يتعين فيه؛ لأن صيرورته مقبوضًا لا ينافي كونه دينًا فلم يصر حق الشرع مقامًا، فشرط تعيين البدل الآخر ليصير حق الشرع مقامًا.
فإن وجد المستقرض الدراهم القرض زيوفًا أو نبهرجة لم يردها؛ لأنه لو ردها بحكم العقد أو بحكم القرض، وكلا الوجهين ممتنع على ما مر في الفصل الأول، ولا يرجع بنقصان العيب هاهنا أيضًا بخلاف مسألة شراء الكر الذي عليه بالدراهم، والفرق وهو أن العقد يتعلق بالكر الذي هو عين بالإشارة، فيتعلق بالكر الذي في ذمة المستقرض أيضًا بالإضافة.
ولهذا إذا اشترى كر حنطة في ذمته من إنسان، ثم تصادقا أنه لا حنطة عليه إنه يبطل الشراء، وإذا تعلق العقد بالكر الذي في ذمة المستقرض، فلو رجع بحصة العيب من الدراهم كان مشتريًا الكر بأقل من مائة وإنه ليس بربا، أما في مسألتنا الدراهم التي في ذمة المستقرض لا تتعين لإضافة العقد إليها، ألا ترى أنها لو كانت عينًا لا تتعين لإضافة العقد إليها، فكذا إذا كانت دينًا لا تتعين لإضافة العقد إليها.
ولهذا لو اشترى مائة درهم في ذمته لإنسان بعشرة دنانير، ثم تصادقا أنه لا شيء عليه لا يبطل الشراء، وإذا لم يتعلق العقد بالدراهم التي في ذمة المستقرض وجب للمستقرض بهذا الشراء مائة درهم جياد في ذمة المقرض بدلًا عن الدنانير، وللمقرض على المستقرض مائه مثلها فصار قصاصًا، فصار المستقرض قاضيًا ما كان عليه بما وجب له في ذمة المقرض بالشراء، فلو رجع بنقصان العيب تسلم له مائة درهم وزيادة شيء وهذا هو الربا.
قال: وليس للمستقرض أن يرد على المقرض مثل دراهمه الزيوف ويرجع عليه بالجياد، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: له ذلك، وهذه المسألة فرع لمسألة أخرى أن من كان له على آخر مائة جياد، فأوفاه المديون زيوفًا ولم يعلم رب الدين حتى هلكت الدراهم في يده أو استهلكها، ثم علم بذلك، فأراد أن يرد عليه مثل المقبوض من الزيوف ويرجع عليه بالجياد ليس له ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف له ذلك استحسانًا.
فوجه قول أبي يوسف أن المقبوض لو كان قائمًا بعينه كان له أن يرده ويرجع بالجياد، فكذا إذا تمكن من رد مثله وعجز عن رد العين، إذ رد المثل جعل كرد العين إيفاء لحقه في الجودة ونظرًا له.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: بأن المقبوض إذا كان قائمًا بعينه، فأراد (رده) ينتقض القبض من الأصل ويلتحق بالعدم، فيعود حقه في الأصل فيعود في الجودة أيضًا، أما برد مثل المقبوض لا ينتقض القبض في المقبوض إذ القبض لم يرد على المثل، وبرد غير المقبوض لا ينتقض القبض في المقبوض، فلا يعود حقه في الأصل، فلو عاد في الجودة عاد ابتداءً، وحقه لا يعود في الجودة ابتداء. ولو وجد المستقرض الدراهم المستقرضة ستوقة أو رصاصًا، وباقي المسألة بحالها ردها على المقرض؛ لأن الستوقة والرصاص عروض واستقراض العروض باطل.
بعد هذا إن لم يتفرقا عن المجلس وقد نقد الدنانير واستوفى مائة جيادًا في المجلس بل يتعلق بمثل المسمى في الذمة، فإذا تبين أنه لم يكن في ذمته دراهم بسبب القرض صار كأن العقد مطلق لم يضف إلى ذمة المستقرض، فلا يبطل العقد إذا قبض في المجلس، فأما إذا تفرقا عن المجلس فقد الصرف لافتراقهما عن غير قبض أحد البدلين وهو الدراهم في المجلس، فكان للمستقرض أن يسترد دنانيره وصار كرجل اشترى دراهم بدنانير وسلم الدنانير وقبض الدراهم، ثم وجدها ستوقة، إن استبدل في المجلس يصح العقد وإن افترقا عن المجلس حتى يبطل العقد برد الدنانير كذا هاهنا.
ولو كان الدين على المستقرض دنانير أو فلوسًا فاشتراها بدراهم، ثم وجدها زيوفًا أو نبهرجة أو ستوقة، ففي الدنانير الجواب ما ذكرنا في جميع الأحوال، وكذلك الجواب في الفلوس إذا كان زيوفًا أو نبهرجة أما إذا وجد الفلوس ستوقة وقد تفرقا بعد قبض الدراهم كان العقد جائزًا، وإن حصل الافتراق عن عين بدين ولكن في غير عقد الصرف فلا يوجب الفساد.

.الفصل الرابع والعشرون: في الاستصناع:

يجب أن يعلم أن الاستصناع جائز في كل ما جرى التعامل فيه كالقلنسوة والخف والأواني المتخذة من الصفر والنحاس وما أشبه ذلك استحسانًا، ولا يجوز فيما لم يجر التعامل فيه كالثياب وما أشبهها، والقياس: أن لا يجوز الاستصناع أصلًا، وبه أخذ زفر والشافعي.
وجه القياس في ذلك ما روي عن النبي عليه السلام: «أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم»، وهذا بيع ما ليس عنده لا على وجه السلم، فلا يجوز عملًا بهذا الظاهر، ولأن من جوز الاستصناع فيما للناس فيه تعامل (إما) أن يجوزه إجارة أو بيعًا أو سلمًا، ولا وجه إلى تجويزه بيعًا؛ لأنه باع ما ليس عنده. ولا وجه إلى تجويزه سلمًا؛ لأنه لم توجد شرائط جواز السلم، وإذا لم يمكن تجويزه على موافقة هذه العقود كان باطلًا، كالاستصناع في الثياب فهذا على وجه القياس.
وجه الاستحسان: أن القياس وإن كان يأبى جواز الاستصناع من الوجه الذي قلتم إلا أنا تركنا القياس وجوزناه بتعامل الناس، فإن الناس تعاملوا الاستصناع في هذه الأشياء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا من غير نكير، ولا رد من الصحابة رضي الله عنهم ولا من التابعين رحمهم الله، وتعامل الناس من غير نكير (ولا) رد من علماء كل عصر حجة يترك بها القياس ويخص بها الأثر، ألا ترى أن دخول الحمام بأجر جائز استحسانًا لتعامل الناس من غير نكير من علماء كل عصر وإن كان القياس يأبى جوازه؛ لأن مدة ما يمكث في الحمام وقدر ما يستعمل من الماء مجهول. وكذلك لو قال لسقاء: أعطني شربة ماء بفلس جاز ذلك لتعامل الناس فيه من غير نكير ورد من علماء كل عصر، وإن كان القياس يأبى جوازه فكذلك هذا.
والأصل في ذلك ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»، والمسلمون رأوا الاستصناع حسنًا فيكون حسنًا بخلاف الاستصناع فيما لا يتعامل الناس فيه نحو الثياب وما أشبه ذلك؛ لأن المجوز للاستصناع التعامل ففيما لا تعامل فيه لا يجوز فيعمل فيه بالقياس.
ثم الاستصناع فيما للناس فيه تعامل إذا جاز استحسانًا فإنما يجوز معاقدة لا مواعدة بدليل أن محمدًا رحمه الله ذكر فيه القياس والاستحسان، ولو كان مواعدة لجاز قياسًا واستحسانًا، والدليل عليه: أنه فصل بين ما للناس فيه تعامل وبين ما لا تعامل للناس فيه، ولو كانت مواعدة لجاز في الكل.
والدليل عليه: أن محمدًا رحمه الله قال في (الكتاب): إذا فرغ الصانع من العمل، وأتى به كان المستصنع بالخيار؛ لأنه اشترى ما لم يره، فقد سماه شراء، وكذلك قال: إذا قبض الآخر فإنه يملكه، ولو كانت مواعدة لكان لا يصير الآخر ملكًا له، فدل أنه ينعقد لا مواعدة، ثم كيف ينعقد معاقدة؟ نقول ينعقد إجارة ابتداء ويصير بيعًا انتهاء متى سلم قبل التسليم بساعة بدليل أنهم قالوا: إذا مات قبل تسليم العمل بطل الاستصناع ولا يستوفي المصنوع من تركته. ولو انعقد بيعًا ابتداءً وانتهاءً لكان لا يبطل بموته كما في بيع العين والسلم.
وقال محمد رحمه الله: إذا أتى به الصانع كان المستصنع بالخيار؛ لأنه اشترى شيئًا لم يره ولو انعقد إجارة ابتداء وانتهاء لم يكن له خيار الرؤية كما في الخياطة والصباغ، ولو كان ينعقد بيعًا عند التسليم لا قبله بساعة لم يثبت خيار الرؤية؛ لأنه يكون مشتريًا ما رآه، خيار الرؤية لا يثبت في المرئي، علمنا أنها تنعقد إجارة ابتداء وإن كان القياس يأباه؛ لأنه إجارة على عمل في ملك الأجير لم يصر بيعًا انتهاءً قبل التسليم بساعة، وإن كان القياس يأبى أن تصير الإجارة بيعًا تركنا القياس في الكل لمكان التعامل.
والمعنى في ذلك: أن المستصنع طلب منه العمل والعين جميعًا، فلابد من اعتبارهما جميعًا (واعتبارهما جميعًا) في حالة واحدة متعذر؛ لأن بين الإجارة والبيع تناف فجوزناها إجارة ابتداء؛ لأن عدم المعقود عليه لا يمنع انعقاد الإجارة ويمنع انعقاد البيع، فاعتبرناها إجارة ابتداء وجعلناها بيعًا قبل التسليم بساعة توفيرًا على الأمرين حظهما كما فعلنا هكذا في الهبة بشرط العوض اعتبرناها (هبة) في الابتداء عملًا باللفظ وبيعًا انتهاء عملًا بالمعنى فكذلك هذا، ولهذا قلنا: لو مات قبل التسليم تبطل الإجارة ومتى سلم كان المستصنع بالخيار؛ لأنه اشترى ما لم يره.
وهذا بخلاف ما لو استأجر وراقًا ليكتب له كتابًا بحبره أو صباغًا ليصبغ بصبغه، فإنها تنعقد إجارة ابتداء وانتهاء، وإن كان فيها تمليك العين من المستأجر وهو الحبر والصبغ ممكنًا من غير أن يجعل بيعًا في الانتهاء لإيصال الصبغ بملكه، فإن إيصال الصبغ بملكه من غير بيع لم يضطر إلى أن تجعل الإجارة بيعًا انتهاء، وإنه خلاف القياس، فأما هنا تمليك العين من المستصنع تبعًا للعمل غير ممكن وإن اعتبرناها إجارة ابتداء؛ لأن العمل لا يصير ملكًا له قبل ملك المحل، وإذا لم يمكن تمليك العين منه تنعقد الإجارة تبعًا للعمل احتجنا إلى تمليك العين منه أولًا ولا يمكننا ذلك إلا بالبيع فجعلناه بيعًا انتهاء. وجعلناه بيعًا قبل التسليم بساعة ليثبت به خيار الرؤية، ولهذا أورد محمد رحمه الله الاستصناع في كتاب البيوع وفي كتاب الإجارات؛ لأن به شبهًا من الأصلين من الإجارة والبيع، فإنها تنعقد إجارة ابتداء وتنقلب بيعًا انتهاء، فكان له اتصال بالكتابين جميعًا فلهذا أورده في الكتابين.
فإن قيل: لو كان ينعقد إجارة لكان الصانع يجبر على العمل ويجبر المستصنع على إعطاء الدراهم كما في سائر الإجارات، ولو أتى الصانع بمصنوع صنعه قبل العمل يري الصانع عما لزمه بالاستصناع، ولو انعقد إجارة لاستحق عليه العمل بعد العقد. قلنا: الروايات في لزوم الاستصناع وعدم لزومه مختلفة. روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: أن الصانع لا يجبر على العمل بل يتخير إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وذكر الكرخي في (كتابه): أن هذا العقد ليس بلازم ولم ينسب هذا القول إلى أحد، وقال أبو يوسف رحمه الله أولًا: يجبر المستصنع دون الصانع وهو رواية عن أصحابنا رحمهم الله، ثم رجع أبو يوسف عن هذا وقال: لا خيار لواحد منهما بل يجبر الصانع على العمل ويجبر المصنوع على القبول.
وجه ما وري عن أبي يوسف: أنه يجبر كل واحد منهما، أما الصانع فلأنه ضمن العمل فيجبر عليه وأما المستصنع؛ فلأنه لو لم يجبر على القبول يتضرر به الصانع؛ لأنه عسى لا يشتريه غيره منه أصلًا، أو لا يشتري بذلك القدر من الثمن فيجبر على القبول دفعًا للضرر عن البائع.
وجه قول أبي يوسف أولًا وهو رواية عن أصحابنا أن المستصنع اشترى شيئًا لم يره، الصانع، باع شيئًا لم يره للمشتري، ما لم يره الخيار بالنص لا للبائع.
وجه ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله وهو المذكور في (القدوري): أنه لا يجبر كل واحد منهما إنما لم يجبر الصانع على العمل، وإن كان ينعقد إجارة؛ لأنه لا يمكنه العمل إلا بإتلاف عين، والإجارة تنفسخ بهذا القدر، ألا ترى أن المزارع له أن يمتنع من العمل إذا كان البذر من جهته ورب الأرض كذلك؛ لأنه لا يمكنه المضي في هذه الإجارة إلا بإتلاف عين. وكذلك لو استأجر رجلًا ليقطع يده وقد وقع فيها أكله كان له أن يمتنع، فكذلك هذا.
ولا يجبر المستصنع على إعطاء الدراهم وإن شرط تعجيله؛ لأن الإجارة في الأجرة شراء ما لم يره كان له أن يفسخ العقد ولا يعطي البدل، ولأن جواز الاستصناع بخلاف القياس لأجل الحاجة، والضرورة في الجواز لا في اللزوم، بقي اللزوم على أصل القياس، وعن هذا قلنا: إن للصانع أن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع؛ لأن العقد ليس بلازم، فإذا رآه ورضي به ليس له أن يبيعه؛ لأن الصانع بالإحضار أسقط خياره ولزم العقد من جانبه، فإذا رضي به المستصنع يثبت اللزوم في حقه أيضًا، فلا يكون للصانع أن يبيع بعده.
وأما قوله: لو أتى المصنوع صنعه قبل العقد لم يجبر على العمل قلنا: المقصود من العمل المعمول، فإذا سلم المعمول سقط عنه العمل هذا إذا لم يضرب لذلك أجلًا. فأما إذا ضرب لذلك أجلًا قال أبو حنيفة: يصير سلمًا ولا يبقى استصناعًا حتى يجب تعجيل رأس المال في المجلس، ومتى أتى بالمصنوع على الوصف الذي وصفه لا يكون له خيار الرؤية، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إنه لا يصير سلمًا بل يبقى استصناعًا، وهذا في استصناع للناس فيه تعامل.
وأما ما لا تعامل للناس فيه كالاستصناع في الثياب، فإنه ينقلب سلمًا يضرب الأجل بالإجماع هكذا قالوا، وذهبا في ذلك إلى أن الاستصناع ينعقد إجارة ابتداء ويصير بيعًا انتهاء، فأما إذا ضرب فيه الأجل، فاعتبار معنى الإجارة فيه يمنع أن يصير سلمًا؛ لأن الإجارة لا تصير سلمًا بضرب الأجل، كما (لو) قال لخياط: خط هذا الثوب غدًا أو إلى شهر لا يصير سلمًا، واعتبار معنى البيع يوجب أن يكون سلمًا؛ لأن المستصنع في حكم مبيع عين، ولهذا يثبت للمستصنع خيار الرؤية، وضرب الأجل لا يصح في الأعيان وإنما يصح في الديون، فضرب الأجل اقتضى أن يكون المبيع دينًا في الذمة، والمبيع لا يثبت دينًا في الذمة إلا سلمًا، فقد اجتمع ما يوجب أن يكون الاستصناع سلمًا وما يمنع وقد أمكن تجويزه استصناعًا من غير أن نجعله سلمًا، فلا نغفله وقد استوى الموجب لصيرورته سلمًا مع المانع بخلاف ما لا تعامل للناس فيه؛ لأنه لا يمكن تجويزه استصناعًا فجوزناه سلمًا.
وأما أبو حنيفة يقول: اجتمع ما يوجب أن يصير الاستصناع سلمًا، وإنما قلنا ذلك؛ لأن اعتبار معنى الإجارة- إن كان- يمنع أن يكون سلمًا واعتبار معنى البيع يوجب أن يكون سلمًا فقد استويا.
وهنا اعتبار آخر يوجب أن يصير سلمًا وهو أنا لو جوزناه سلمًا ورجحنا جانب البيع كان ذلك تجويز هذا العقد على موافقة القياس من وجه؛ لأن المبيع حينئذٍ يثبت دينًا في الذمة وثبوت المبيع في الذمة على موافقة القياس وجه كما في السلم، فأما متى صار استصناعًا لم يكن المبيع في الذمة دينًا ولا عينًا، وهذا خلاف القياس من كل وجه، فصار ما يوجب صيرورته سلمًا شيئان وما يمنع شيء واحد، فتكون العبرة لما يوجب.
ثم إذا صار سلمًا لم يكن للمستصنع خيار الرؤية كما في سائر الأسلام لا يثبت خيار الرؤية، وإن اشترى ما لم يره، فرق بين هذا وبين بيع العين، فإن للمشتري في بيع العين خيار الرؤية وإنما كان كذلك، وذلك لأن إثبات خيار الرؤية الفسخ ولا يحصل هذاالمقصود متى اثبتنا خيار الرؤية في السلم، وذلك لأنه متى رد المقبوض بخيار الرؤية لا ينفسخ السلم؛ لأنه لم يرد عين ما تناوله العقد؛ لأن العقد لم يتناول هذا المقبوض بعينه، وإنما يتناول مثله دينًا في الذمة فلا ينفسخ العقد برده بل يعود حقه إلى مثله، وإذا لم يعد بموته وحكمه لا يثبت، وفي بيع العين يفيد ثمرته وحكمه؛ لأن حكمه الفسخ، والبيع ينفسخ متى رده بخيار الرؤية؛ لأنه رد عين ما تناوله العقد فينفسخ العقد برده، وإذا أفاد حكمه وثمرته يثبت.

.الفصل الخامس والعشرون: في البياعات المكروهة والأرباح الفاسدة وما جاء فيها من الرخصة:

قال مشايخنا: العرية التي فيها الرخصة ليس تفسيرها عندنا أن يشتري الثمار على رؤوس النخيل بثمار محدودة كيلًا أو مجازفة، فإن ذلك لا يجوز عندنا، وإنما تفسيرها أن يهب الرجل ثمرة نخيله من بستانه لرجل، ثم يشق على المعري دخول المعرى له في بستانه كل يوم ويكون أهله في البستان ولا يرضى من نفسه خلف الوعد والرجوع في الهبة، فيعطيه مكان ذلك تمرًا محدودًا بالخرص يعني بالحزر والظن، ليدفع ضرورة عن نفسه ولا يكون مخالفًا للوعد وهذا جائز؛ لأن الموهوب لم يصر ملكًا للموهوب له ما دام متصلًا بملك الواهب، فما يعطيه من الثمر لا يكون عوضًا عنه يكون هبة مبتدأة لكن سمي بيعًا مجازًا؛ لأنه في الصورة عوض يعطيه للتحرز عن الخلف في الوعد.
فإن قيل: لو كان تفسير العرية ما قلتم ينبغي أن لا تقتصر الرخصة على ما دون خمسة أوسق، والراوي ذكرها مقصودة على ما دون خمسة أوسق، قلنا: عندنا الرخصة غير مقصورة إلا أن الراوي إنما ذكر الرخصة؛ لأن العرية التي وقعت كانت فيما دون خمسة أوسق، فظن الراوي أن الرخصة مقصورة فروى كما ظن.
اختلف المشايخ في تفسير العينة التي ورد النهي عنها في قوله عليه السلام: «إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم وظهر عليكم عدوكم»، تفسيرها: أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر يستقرضه عشرة دراهم ولا يرغب المقرض في الإقرار طمعًا في الفضل الذي لا يناله في الإقراض، فيقول: ليس تيسر علي القراض إذ لا يحصل له ربح ولكن أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشرة درهم وقيمته في السوق عشرة ليبيع في السوق بعشرة، فيرضى به المستقرض، فيبيعه المقرض منه باثني عشر، ثم يبيعه المشتري في السوق بعشرة فيحصل لرب الثوب ربح درهمين بهذه التجارة ويحصل للمستقرض قرض عشرة سمي هذا العقد بالعينة؛ لأنه أعرض عن الدين إلى بيع العين.
قال بعضهم: تفسيرها أن يدخلا بينهما ثالثًا فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثني عشر درهمًا ويسلمه إليه، ثم يبيع المستقرض من الثالث الذي ادخلاه بينهما بعشرة ويسلم الثوب إليه، ثم إن الثالث يبيع من صاحب الثوب وهو المقرض بعشرة ويسلم الثوب إليه ويأخذ منه العشرة، ويدفعها إلى طالب القرض، فيحصل لطالب القرض عشرة دراهم ويحصل لصاحب الثوب عليه اثنا عشر درهمًا، وهذا حيلة من حيل الربا، وكان محمد بن سلمة البلخي رحمه الله يقول لتجار بلخ: إن العينة التي جاءت في الحديث «خير من يبايعكم» هذه.
وفي (فتاوى النسفي): أن البيع الذي تعارف (عليه) أهل سمرقند وسموه بيع الوفاء تحرزًا عن الربا في الحقيقة رهن، والمبيع في يد المشتري كالرهن في يد المرتهن لا يملكه ولا يحل الانتفاع به إلا بإذن الراهن، وهو ضامن لما أكل من ثمره واستهلك من عينه، والدين ساقط بهلاكه في يده، إذا كان فيه وفاء بالدين، وللبائع استرداده إذا قضى الدين؛ إذ لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام، وعليه فتوى السيد الإمام أبو شجاع السمرقندي، وفتوى القاضي الإمام علي السغدي ببخارى وكثير من الأئمة على هذا.
و(في) (فتاوى أبي الفضل): سئل عن كرم بيد رجل وامرأة، باعت المرأة نصيبها من الرجل واشترطت أنها متى جاءت بالثمن رد عليها نصيبها ثم باع الرجل نصيبه، هل للمرأة فيه شفعة؟ قال: إن كان البيع بيع معاملة ففيه الشفعة للمرأة سواء كان نصيبها من الكرم في يدها أو في يد الرجل قيل: ثم قال؛ لأن بيع المعاملة والبلخية حكمه حكم الرهن وللراهن الشفعة، وإن كان الرهن في يد المرتهن.
وبعض مشايخ سمرقند قالوا: إذا لم يكن الوفاء مشروطًا في البيع يجعل هذا بيعًا صحيحًا في حق المشتري حتى يحل له الانتفاع بالمشترى كما يحل له الانتفاع بسائر أملاكه، ويجعل رهنًا في حق البائع حتى لا يتمكن المشتري من بيعه، وإذا مات لا يورث عنه، وإذا جاء البائع بالمال يؤمر المشتري بأخذ المال ورد المبيع عليه، ويجوز أن يكون للعقد الواحد حكمان، وقد مر نظير هذا في السلم، وإنما فعلنا هكذا لحاجة الناس بعضهم إلى أموال البعض مع صيانتهم عن الوقوع في الربا.
وسئل أبو القاسم عمّن يحتاج إلى شراء الأشياء، ويخاف الوقوع في الحرام، هل يجب عليه أن يسأل عن كل أحد يريد الشراء عنه عن حال ما يريد شراءه؟ قال: الأشياء على ظاهرها التي جرت العادة عليه حتى تجيء العوارض، وإذا كان نقد قد غلب الحرام على أهله أو كان البائع ممن يتخذ المال من خبث، فالسؤال حسن، وإن كان نقد الغالب عليها الحلال في الأسواق لا يجب السؤال.
وسئل عن بيع الزنار لأهل الذمة قال: لا بأس به؛ لأن ذلك ذل لهم ويكره بيع المكعب المفصص من الرجل إذا علم أنه يشتريه ليلبسه، وسئل الفقيه أبو بكر عمن يريد بيع عبده الأمرد من فاسق يعلم أنه يعصي الله به قال: يكره؛ لأنه إعانة على المعصية.
وسئل أبو القاسم عمن يبيع ويشتري في الطريق قال: إن كان الطريق واسعًا ولا يكون في قعوده ضرر للناس فلا بأس، وعن أبي عبد الله القلانسي أنه كان لا يرى بالشراء منه بأسًا وإن كان بالناس ضرر في قعوده، والصحيح هو الأول؛ لأنه إذا علم أنه لا يشتري منه لا يبيع على الطريق فكان هذا إعانة له على المعصية وقد قال الله تعالى: {ولا تعاونوا على الاثم والعدوان} [] وبعض مشايخنا قالوا: لا تجوز له العقود على الطريق وإن لم يكن للناس في قعوده ضرر ويصير بالقعود على الطريق فاسقًا؛ لأن الطريق ما اتخذ للجلوس فيه إنما اتخذ للمرور فيه.
رجل اشترى شيئًا بعشرة دراهم صغار فدفع إليه العشرة وبعضها كبار وهو لا يعلم لا يحل للبائع أن يأخذه ويصرفه إلى حوائجه.
وسئل بعض مشايخ بلخ عن بعض الطين الذي يؤكل لا يعجبني بيع الذي يؤكل إلا إذا لم ينتفع به إلا للأكل؛ لأنه يضرو يقتل.
رجل له سلعة معيبة يريد بيعها ينبغي أن يبين حتى لا يقع المشتري في الغرور، قال بعض مشايخنا: لو لم يبين وباع صار فاسقًا مردود الشهادة لا يؤخذ به.
قال محمد رحمه الله في آخر بيوع (الجامع الصغير): ولا بأس ببيع من يزيد وهو بيع الفقراء وبيع من كسدت بضاعته، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم باع حلسًا له ببيع من يزيد والناس تعاملوا بيع المزايدة في الأسواق من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا من غير منكر.
والاستيام على سوم الغير مكروه، قال عليه السلام: «لا يستام الرجل على سوم أخيه» فظن بعض الناس أن بيع المزايدة استيام على سوم الغير وليس كذلك.
والفرق بين المزايدة وبين الاستيام على سوم الغير عرف أن صاحب المال إذا كان ينادي على سلعة فطلبه إنسان بثمن فكف عن النداء وركن إلى ما طلب منه ذلك الرجل فليس للغير أن يزيد في ذلك، وهذا استام على سوم الغير، وإن لم يكف عن النداء، فلا بأس لغيره أن يزيد ويكون هذا بيع المزايدة ولا يكون استيامًا على سوم الغير.
وإن كان الدلال هو الذي ينادي على السلعة فطلبه إنسان بثمن، فقال الدلال: حتى أسأل المالك فلا بأس أن يزيد في هذه الحالة، فإن أخبر الدلال المالك فقال: بعه بذلك واقبض الثمن فليس للغير أن يزيد بعد ذلك، وهذا استيام على سوم الغير؛ وهذا لأن النهي عن الاستيام على سوم الغير لدفع الوحشة، والوحشة إنما تحصل إذا ركن صاحب السلعة إلى ما طلب منه وعزم على بيعها بذلك، أما قبل ذلك فلا.
إذا باع العصير ممن يتخذه خمرًا فلا بأس به، وهذا قول أبي حنيفة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله: يكره، وأجمعوا على أنه إذا باع العنب أو الكرم ممن يتخذه خمرًا إنه لا بأس به، فوجه قولهما وهو الفرق بين العنب والعصير والفساد والفتنة من المشتري يحصل بعين ما يتناوله العقد، فصار كبيع السلاح من أهل الفتنة في أيام الفتنة، وفي فصل العنب الفساد والفتنة من المشتري لا يحصل بعين ما يتناوله العقد، بل يحصل بعين آخر، فإن ما يتناول العقد يتبدل العقد، فكان بمنزلة ما لو باع الحديد من أهل الفتنة، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الفتنة والفساد لا تقع إلا بعد تغير المعقود عليه في نفسه، فلا يكره كبيع الحديد من أهل الفتنة والفساد.
ولا بأس ببيع السرقين ويكره بيع القذرة يريد به الخالصة، فإن كانت مخلوط بالتراب فلا بأس ببيعها عندنا.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير) عن أبي حنيفة: في رجل اشترى من آخر جارية (شراء) فاسدًا بألف درهم وتقابضا ثم تصرف كل واحد منهما فيما صار له يعني المشتري في الجارية، والبائع في الدراهم وربح طاب للبائع ما ربح من الدراهم ولم يطب للمشتري ما ربح في الجارية، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله، يجب أن يعلم أن الحنث نوعان: حنث لعدم الملك ظاهرًا، وحنث للملك لفساد سببه.
والمال نوعان: نوع يتعين بالتعيين كالعروض، ونوع لا يتعين بالتعيين كالأثمان وكان الحنث لعدم الملك يعمل في النوعين جميعًا في العروض والأثمان حتى لا يطيب الربح كالمودع يتصرف في الوديعة ويربح لا يطيب له الربح سواء كانت الوديعة عرضًا أو ثمنًا؛ لأن الخبث لعدم الملك غير أن الثابت في العرض حقيقة الخبث؛ لأن العقد يتعلق بمال غيره وقت المباشرة وإن كان في الثاني يصير مملوكًا للغاصب، والثابت في الأثمان شبهة الخبث؛ لأن العقد لم يتعلق بها استحقاقًا وإنما يتعلق به إشارة وهي ملك، فصار ملك الغير وسيلة إلى الربح من وجه فيتمكن فيه شبهة الخبث فيجب التصدق.
وإن كان الخبث في محل مملوك له لفساد سببه يعمل في العروض حتى لا يطيب له ما ربح في العروض، ولا يعمل في النقود حتى يطيب ما ربح فيها عند فساد السبب، هذا هو طريق بعض المشايخ في تخرج المسألة.
وطريق بعضهم أن العقد لا يتعلق بالدراهم المملوكة بالعقد الفاسد، إنما يتعلق بمثلها دينًا في الذمة؛ لأن الدراهم لا تتعين في عقود المعاوضات، فالربح على مثل الدراهم المملوكة العقد الفاسد لا على عينها فطاب له.
فأما الجارية فقد تعلق بها العقد فكان الربح حاصلًا على ملك بعقد فاسد، والعقد الفاسد معصية، فكان فيه نوع خبث، والربح الحاصل من أصل الخبث سبيله التصدق.
وطريق بعضهم أن الفساد ساقط الاعتبار حكمًا في حق الدراهم والدنانير؛ لأن حق المالك انقطع عن العين حتى لم يجب على القابض رد المقبوض بعينه ولو كان للفساد عبرة في جانب الدراهم والدنانير لكان لا ينقطع حق المالك عن العين كما في جانب المبيع، فصار وجود البيع الفاسد وعدمه بمنزلة في حق الدراهم والدنانير بقي مجرد الإذن بالقبض للتصرف فيه من غير بيع، ولو أذن له بالقبض للتصرف من غير بيع كان قرضًا وكان التصرف فيه مباحًا كذا هاهنا.
فأما الفساد غير ساقط الاعتبار حكمًا في حق الجارية؛ لأن حق المالك لا ينقطع عن عينها، فهذا ربح حصل من أصل ملك بسبب فاسد فلا يطيب له. ذكر محمد رحمه الله في إجارات (الجامع الكبير) حكم الدراهم المملوكة بعقد فاسد في طيبة الربح على نحو ما ذكر في (الجامع الصغير).
وذكر بعض المشايخ في شرح (الجامع الكبير): أن هذا الجواب إنما يستقيم على الرواية التي تقول بأن الدراهم والدنانير متى ملك ببيع فاسد ينقطع حق المالك عن عين الدراهم والدنانير، أما على الرواية التي تقول بأن المالك حقه لا ينقطع عن عينها وللمالك أن يأخذ عينها يجب أن لا يطيب له الربح؛ لأن الفساد بقي معتبرًا في حقها حكمًا، فهذا ربح حصل من ملك استفيد بسبب فاسد، فلا يطيب له.
وذكر في إجارات (الجامع): أن من استقرض من آخر ألفًا على أن يعطي المقرض كل شهر عشرة دراهم وقبض الألف وربح فيها طاب له الربح لأنه ربح استفيد بسبب مباح؛ لأنه استقرض الألف على أن يعطي المستقرض المقرض كل شهر عشرة إجارة للألف وهذه إجارة باطلة؛ لأنها إجارة ما لا يمكن الانتفاع (به) إلا بعد استهلاكه فلم تنعقد الإجارة الفاسدة ولا جائزة، ولهذا لم يجب الأجر، بقي مجرد القرض من غير إجارة وإنه مباح فكان الربح حاصلًا بسبب مباح.
قال محمد في (الجامع الصغير): ولو أن رجلًا قال لآخر لي عليك ألف درهم فقبضها وتصرف القابض فيها وربح ثم تصادقا على أنه لم يكن عليه دين يطيب له الربح؛ لأنه ملك المقبوض ملكًا فاسدًا؛ لأنه بمنزلة بدل المستحق؛ لأن وجوب الدين بالتسمية؛ فإذا تصادقا بعد التسمية أنه لم يكن عليه دين صار بمنزلة ما لو لم يستحق العوض فيفسد الملك في العوض لكن لا يبطل، فيتمكن شبهه عدم الملك، ولو حصل الربح من دراهم غير مملوكة يتمكن في الربح شبهة الخبث فلا يعتبر في وجوب التصدق.
وفي (نوادر هشام) قال: سألت محمدًا عن رجل باع من آخر حنطة ثم إن البائع باعها من آخر فقبضها المشتري الثاني واستهلكها، فالمشتري الأول بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ الثاني بمثلها، فإن أخذه بمثلها فباعه بأكثر من رأس المال قال: طاب له الفضل قلت: إن أبا يوسف يقول: يتصدق بالفضل فأبى محمد أن يقبل ذلك، وقال: إنما يتصدق بالفضل إذا أخذ قيمته دراهم.
قال أبو يوسف: رجل اشترى عبدًا وقبضه ومات عنده فأقام رجل بينة أنه اشتراه قبله، قال: له أن يضمنه قيمته ويتصدق بفضل القيمة على الثمن.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: رجل أمر رجلًا أن يشتري له متاعًا بألف درهم فاشتراه بنقد البلد فأعطاه الآمر وصح ونقد المشتري في ثمن المتاع علة هل يطيب له الفضل؟ قال: إن علم الآمر بذلك وعلله منه فهو طيب له وإن لم يعلم، فإن في نفسي ما فيها من هذا ولم يجب بشيء.
وفي (المنتقى): رجل غصب من آخر عبدًا فباعه بعبد ثم باع العبد الثاني بعرض ثم باع العرض بدراهم، فعلى قول أبي حنيفة يتصدق بالفضل عما ضمن من قيمة العبد الغصب، وكذلك لو غصبه ألف درهم واشترى بها عبدًا وباعه بألفين ثم اشتري بالألفين عرضًا وباعه بأكثر من ذلك. وقال أبو يوسف في المسألتين جميعًا: يطيب له الفضل.
ولو اشترى أمة شراءً فاسدًا وباعها بأمة، فإنه يحل له وطء هذه الأمة ولم يكن يحل له وطء الأولى، قال ابن سماعة: وروى أصحابنا أنه قال يعني أبا يوسف: لو باع هذه الأمة تصدق بما زاد على قيمة الأولى التي ضمن قيمتها، ووافق أباحنيفة في البيع الفاسد، فإنه يقول: لو باع المبيعة بيعًا فاسدًا بعرض، ثم باع ذلك العرض بفضل عما ضمن من قيمة البيع الفاسد إنه يتصدق بالفضل وجعل البيع الفاسد أشد من الغصب في هذا.
هشام عن محمد: في رجل اشترى دجاجة ببيضة بغير عينها فلم يقبض الدجاجة حتى باضت خمس بيضات، فما أصاب الدجاجة أخذها به، وما أصاب البيضات الخمس أخذ حصة ما يصيب البيضة من البيضة ويتصدق ببقية البيض، ولو اشتراها ببيض بعينها فهو جائز كله، وكذلك لو اشترى نخلة بمد من رطب بغير عينه فلم يقبض النخلة حتى حملته رطبًا، فإن اشتراها بثمر بعينه فهو جائز على نحو ما بينا.
بشر عن أبي يوسف: لو باع درهمًا من نصراني بدرهمين ثم أسلم قال: إن عرف صاحبه فليرد عليه الفضل، فإن لم يعرف تصدق به.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: رجل اشترى ذمية بيعًا فاسدًا وقبضها وباعها وقضى القاضي عليه بالقيمة للبائع الأولى، وأداها إليه وأبرأه البائع الأول، وفي الثمن الثاني فضل على القيمة التي أداها، فإنه يتصدق بذلك الفضل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وإنما طاب للمساكين وهو أطيب... له من اللقطة؛ لأنه يملكه الذي يتصدق بالربح حتى عمل بالثمن وربح ربحًا فبيعت فيها بيوع كلها ربح قال: يتصدق بالفضل في جميع ذلك.
ولو غصب مالًا أو عمل بوديعة أو مضاربة خالف فيها وربح تصدق بالفضل في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يطيب له الفضل من قبل أنه كان له أن ينقد في ذلك غير الغصب، ولو اشترى بغير الغصب ونقد الغصب أو اشترى بالغصب ونقد غير الغصب فهو كذلك، وقال أبو حنيفة: لا يتصدق بهذا، وإنما يتصدق إذا اشترى به ونقده.
وقال أبو يوسف: إذا اشترى جارية بألف درهم وولدت في يد البائع ولدًا فقبضها المشتري وفيهما فضل كثير على الثمن فذلك طيب له، ولو قتلا في يد البائع واختار المشتري أخذ القيمة، فإنه يتصدق بالفضل، ولو قتل الولد وأخذه، فإنه يتصدق بفضل قيمته على حصته من الثمن.
ولو اشترى عبدًا بألف درهم فقتله عبد قبل القبض فدفع به أخذه المشتري وفي قيمته فضل على الثمن، فليس عليه أن يتصدق به؛ لأنه عرض وليس يحسب الفضل في العرض إنما يحسب في الدراهم والدنانير، ولو باع هذا العبد بفضل أكثر مما كان فيه أو اقل، فإنه يتصدق بالفضل ولا يجاوز ما كان فيه إنما يتصدق بالأقل من الربح الذي صار فيه من الفضل بالقيمة يوم قبض هذا العبد.
ولو باع هذا العبد بعرض لا يتصدق، وإن كان فيه فضل، فإن باع ذلك بدراهم أو دنانير فيها فضل، فإن نظر إلى قيمة العبد المدفوع بالجناية يوم قبضه، فإن لم يكن فيه فضل يومئذ لم يتصدق بشيء، وإن كان في قيمته فضل يومئذٍ نظر إلى ذلك الفضل، قال: هذا الربح الذي صار في يده فيتصدق بالأوكس منهما.
ولو اشترى عبدًا بألف وقيمته ألفان فقتل في يد البائع فاختار المشتري أخذ القيمة وهي ألفا درهم ولم يتصدق بأحد الألفين حتى ضاع أحد الألفين، وبقي الألف الآخر لا يتصدق بشيء، ولو لم يضع حتى لو اشترى بها وربح تصدق بأحد الألفين وحصته من الربح، عند أبي حنيفة لا يتصدق بربح الألف، فإن هلك ألف درهم منها بعد ما تصرف فيها، فعليه التصدق بالألف؛ لأنها دخلت في ضمانه بالتصرف.
ولو كان صالح مع القاتل من القيمة على عبد وأعتق العبد لم يلزمه التصدق بشيء، فإن كان أعتقه على مال أو كاتبه على مال، فلا يتصدق بشيء إلا في خصلة أن يكون العبد يوم قبضه يساوي أكثر من رأس ماله ويكون الذي أعتقه عليه مثل قيمته أو أكثر فيتصدق بذلك الفضل الذي في القيمة على رأس ماله.
الحسن عن أبي حنيفة في البيوع غصب من آخر حنطة تساوي خمسين وباعه بمئة ثم ضمنه صاحب الكر مثله تصدق بالفضل، وإن كان ثوبًا طاب له الفضل؛ لأنه لا يجوز بيع الكر إلا بمثله ويجوز بيع ثوب واحد باثنين.

.فصل في الاحتكار:

الاحتكار مكروه، وإنه على وجوه:
أحدها: أن يشتري طعامًا في مصر أو ما أشبهه ويحبسه ويمتنع من بيعه، وذلك يضر بالناس فهو مكروه للحديث المعروف. والمعنى فيه: أن حق العامة تعلق بما جلب إلى المصر فالمحتكر بالاحتكار يريد إبطال حقهم فلا يطلق له ذلك.
والثاني: أن يشتري طعامًا في مكان قريب من المصر فحمل إلى المصر وحبسه وذلك يضر بأهل المصر فهو مكروه أيضًا للحديث؛ ولأنه إذا كان يحمل طعام ذلك المكان إلى المصر تعلق به حق أهل المصر، فلا يطلق في إبطال حقهم بالاحتكار وهذا على قول محمد.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا اشترى طعامًا في غير المصر وجلبه إلى المصر فلا بأس به من غير فصل بينما إذا كان المكان الذي اشترى فيه الطعام قريبًا من المصر أو بعيدًا عنه، من غير فصل بينما إذا كان يحمل الطعام إلى المصر أو لا يحمل؛ وهذا لأن حق أهل المصر إنما يتعلق بطعام جمع في المصر أو جلبه إلى فنائها، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان، وفي رواية مثل ما قال أبو حنيفة، وفي رواية: إذا اشتراه من نصف ميل وحمله إلى المصر واحتكر فيه يكره.
والثالث: أن يشتري طعامًا في مصر وجلبه إلى مصر آخر واحتكر فيه، فإنه لا يكره لقوله عليه السلام: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون»؛ ولأن حق أهل المصر لا يتعلق بطعام مصر آخر، وكذلك لو زرع أرضه وادخر طعامه، فإنه لا يكره، فإنه في معنى الجالب؛ لأنه حدث بكسبه، ولأن ذلك خالص حقه ولم يتعلق به حق غيره فلا يكون احتكاره إبطالًا لحق الغير ولكن يستحب له البيع نظرًا للناس وإشفاقًا بهم، وإذا قلت المدة لا يكون احتكارًا؛ لأن الناس لا يتضررون في مدة قليلة، وإذا طالت المدة يكون احتكارًا؛ لأنهم يتضررون في مدة طويلة فلابد من حد فاصل بينهما.
وفي الحديث قدر الطويل بأربعين فما دونه يكون قليلًا، وعن أصحابنا أنهم قدروا الطويلة بشهر فما دونه يكون في حكم القليل ثم يقع التفاوت في الاحتكار بين أن لا يتربص العشرة وبين أن يتربص، فوبال الثاني أعظم من وبال الأول.
وفي الجملة التجارة في الطعام غير محمودة قال محمد رحمه الله: ويجبر المحتكر على البيع ولا يسعر.
أما الجبر على البيع لأن فيه نظرًا للعامة، وفي عدم الجبر اضرارًا بهم، أكثر ما في الباب أن الجبر ضرر بالمحتكر إلا أن هذا ضرر خاص والضرر الخالص يسقط اعتباره، وعند الضرر العام قبل الجبر على البيع يجب أن يكون على قولهما، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجبر؛ لأن الجبر على البيع بمنزلة الحجر وهو لا يرى الحجر على الحر.
وأما لا يسعر لما روي أن السعر قد غلا بالمدينة فطلب من النبي عليه السلام أن يسعر فأبى وقال: «إن الله تعالى هو المسعر القابض الباسط الرازق»، وفي حديث الحر قال: «الله تعالى يخفض ويرفع وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس لأحد منكم عندي مظلمة»؛ ولأن الثمن حق البائع؛ لأنه يقابل ملكه، فيكون التقدير إليه إلا إذا أغلى فيه بأن يريد أن يبيع قفيزًا منه بمئة والناس يشترون منه بخمسين، فيمنع البائع عنه دفعًا للضرر عن الناس وإذا رفع أمر المحتكر إلى الحاكم فالحاكم أمره ببيع ما هو فضل عن قوته وعن قوت أهله على اعتبار سعة في قوته وفي قوت أهله وينهاه عن الاحتكار، فإن انتهى فبها ونعمت، وإن لم ينته ورفع إلى القاضي مرة أخرى فهو مصر على عادته وعظه وهدده، فإن رفع إليه مرة أخرى حبسه وعزره على ما يرى؛ لأنه ارتكب ما لا يحل وليس فيه حد مقدر ومن ارتكب ما لا يحل وليس فيه حد مقدر للشرع وعليه.
وإن كان أرباب الطعام يتحكمون على المسلمين ويتعدون عن القيمة تعديًا فاحشًا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير فلا بأس بالتسعير بمشورة من أهل الرأي والبصر، فإذا فعل ذلك ثم تعدى رجل عن ذلك القدر فباعه بثمن فوقه أجازه القاضي يعني أمضاه ولم يبطله، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله يبطله؛ لأنه لا يرى الحجر على الحر وفي إبطال بيعه نوع حجر عليه، أما قولهما فلأنهما إن كانا يريان الحجر على الحر إلا أن الحجر هنا لم يوجد حتى لو حجر القاضي على قوم من أرباب الطعام بأعيانهم تصير المسألة على الخلاف، ومن باع منهم بما قدر الإمام من الثمن جاز بيعه؛ لأنه غير مكره على البيع بل هو طائع.
ذكر القدوري في (شرحه): إذا خاف الإمام الهلاك على أهل المصر أخذ الطعام من المحتكر وفرق فإذا وجدوا ردوا مثله وهذا صحيح؛ لأن أهل المصر في هذه الحالة مضطرون إلى ماله والحال حالة المخمصة وحكم الشرع في المضطر إلى مال الغير حالة المخمصة هذا قال: والتلقي إذا كان يضر بأهل البلد فهو مكروه، وإن كان لا يضر فلا يكره.
وصورة التلقي: أن يخرج من البلدة إلى القافلة التي جاءت بالطعام يريدون البلدة واشتراها خارج البلدة وهو يريد حبسها ويمتنع عن بيعها ولم يترك حتى تدخل القافلة في البلدة، فإن كان يضر بأهل البلدة فهو مكروه إذا كان في وقت الحاجة لأهل البلدة إليها، وإن كان لا يضر بأهل البلدة فلا يكره إذا كان لا يلبس على أهل القافلة سعر أهل البلدة، ولا يغرهم بأن أخبر أن قيمة الطعام في البلدة كذا وهو صادق في ذلك، فأما إذا لبس عليهم سعر أهل البلدة فهو مكروه لحق أهل القافلة والله أعلم.

.الفصل السادس والعشرون: في المتفرقات:

دار بين اثنين باع أحدهما نصفه يجوز وينصرف إلى نصيبه هذا هو جواب (الكتاب)، وقال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله إن عين النصف وقال: بعتك هذا النصف لا يجوز، وإن لم يعين النصف إنما باعه نصف الدار مطلقًا يجوز.
وسئل شمس الإسلام الأوزجندي عن رجل مات وترك ثلاث بنين وبنتين، فباع أحد البنين نصيبه من ابن آخر قبل القسمة من ضياع بعينه قال: إن كان نصيب الابن البائع معلومًا للمشتري جاز.
وفي (شرح الطحاوي): أحد الورثة إذا باع شيئًا من التركة ينظر إن باع نصيبه من كل شيء والمشتري يعلم نصيبه يجوز، وإن باع شيئًا معينًا لا يجوز؛ لأنه يحتمل أن لا يقع هذا في نصيبه، ومعنى قوله لا يجوز، لا يجوز البيع في كل ذلك الشيء أما في نصيبه يجوز.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: رجل ادعى عينًا في يد رجل فأقام على ذلك شاهدين أو شاهدًا واحدًا فقبل الحاكم باع المدعى عليه العين من رجل أو وهبه له قال: لا يجوز بيعه ولاهبته، وقال الحكم أبو الفضل في (المنتقى): هذا الجواب خلاف جواب (الأصل) يريد به فيما إذا أقام شاهدًا واحدًا، فقد ذكر محمد رحمه الله فقبل الحكم باع المدعى عليه أتى في (الجامع) في هذه الصورة أن البيع جائز، وفرق بين الشاهد الواحد والشاهدين.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: رجل قال لآخر: إن لك في يدي أرض ضربة لا تساوي شيئًا فقال فبعها مني بكذا، فقال: بعتها ولم يوفها البائع وهي تساوي أكثر من ذلك، فالبيع جائز؛ لأنه قال في يدي صار كأنه قال أرض كذا، فإذا أجابه فكأنه قال: بعتك أرض كذا.
وفي (المنتقى) عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا قال الرجل لغيره أبيعك هذه الدار تلجئة بألف درهم، إن البيع جائز، ولو قال لأمراة: أتزوجك متعة فالنكاح باطل، وقال أبو يوسف: البيع والترويج جميعًا باطل.
وفي (الإملاء): إذا قال البائع: هذا لك بألف هذا لك بألفين، فقال المشتري: قبلت البيع الأول لم يجز؛ لأن البائع رجع عن البيع الأول فانتقض، ولو قال: قبلت البيعيتن بثلاثة ألاف فهو مثل قوله قبلت البيع الثاني بثلاثة آلاف فيكون البيع بألفين والألف الآخر في زيادة إن شاء قبلها وإن شاء لم يقبلها.
وعن محمد رحمه الله: أنه كان لا يرى بأسًا أن يبيع الرجل من الرجل من طين هذه الأرض عمقها للحفرة.
وفي (الأصل): إذا باع المشتري غنمًا بشرط أن يرد المشتري منها شاة، فالعقد فاسدٌ؛ لأن المردود مجهول، وإنه يوجب جهالة الباقي، وإذا باع أجود الغنم أو أردأها، فقد اختلف المشايخ في هذا الموضع أيضًا.
وفي (المنتقى): إذا باع من آخر ثوبًا بعشرة دراهم على أن يعطيه المشتري كل يوم درهمًا وكل يومين درهمين، فإنه يعطيه في اليوم الأول درهمًا، وفي اليوم الثاني ثلاثة دراهم، وفي اليوم الرابع ثلاثة دراهم، وفي الخامس درهمًا، وفي السادس درهمًا.
وإذا باع الأرض لشربها ولم يقيم الشرب كم هو ولا يعلمان به فهو جائز.
وذكر في (الجامع الصغير): علو لرجل وسفل لآخر فسقطا جميعًا ثم باع صاحب العلو موضع العلو لا يجوز، ولم يذكر ما إذا سقط العلو والسفل قائم على حاله فباع صاحب العلو هل يجوز؟ والجواب أنه لا يجوز؛ لأنه بعد ما سقط العلو فالثابت لصاحب العلو حق التعلي، والتعلي ليس بمال؛ لأنه متعلق بهواء الساحة وأنه ليس بمال ومحل البيع ما هو مال، فالبيع لم يصادف بحاله، وهذا بخلاف الشرب حيث يجوز بيعه تبعًا للأرض بالإجماع ومقصودًا في الرواية وهو قول بعض مشايخ بلخ؛ لأن الشرب عين مال؛ لأنه عبارة عن نصيب من الماء، ولهذا قال بعض مشايخنا: من أتلف على إنسان شربًا ضمن، وإليه مال شيخ الإسلام فخر الإسلام علي البزودي رحمه الله، وإنما لا يجوز بيعه مقصودًا في رواية وهو اختيار مشايخنا رحمهم الله لمكان الجهالة حتى لو سقط اعتبار الجهالة بأن يبيع الشرب مع الأرض حتى دخل الشرب في العقد تبعًا يجوز بيعه بخلاف حق التعلي؛ لأنه ليس بمال على ما ذكرنا.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير) أيضًا: بيع الطريق وهبته جائز وبيع مسيل الماء وهبته باطل، فإن كان أراد بالطريق ومسيل الماء رقبة الطريق ورقبة مسيل الماء، فإنما وقع الفرق بين الطريق والمسيل؛ لأن الطريق معلوم الطول والعرض غالبًا أو إن لم يكن كذلك يمكن إعلامه ببيان طوله وعرضه، فكان المبيع معلومًا غالبًا، فأما مسيل الماء لا يكون معلومًا غالبًا، ولا يمكن إعلامه غالبًا أيضًا؛ لأن مقدار ما يشغل الماء من الأرض أو من النهر مختلف غالبًا، فكان المبيع مجهولًا غالبًا، وإن كان أراد بالطريق ومسيل الماء حق المرور وحق تسييل الماء فما ذكر من الجواب في تسييل الماء أنه لا يجوز البيع باتفاق الروايات إلى ما ذكر من المرور وأنه لايجوز البيع رواية (الجامع الصغير) ورواية كتاب القسمة وبه أخذ عامة المشايخ.
وذكر في (الزيادات) أن بيع حق المرور لا يجوز وبه أخذ الكرخي، وإنما وضع الفرق بين حق المرور وبين تسييل الماء في رواية من حيث جهالة المعقود عليه وتسييل الماء دون حق المرور.
وإنما وقع الفرق بين حق التعلي وبين حق المرور في رواية جواز بيع حق المرور؛ لأن حق المرور يتعلق برقبة الأرض، والأرض مال وله قرار، فكان لهذا الحق حكم المال بطريق التبعية، فأماحق التعلي متعلق بهواء الساحة، وإنه ليس بمال حتى يعطى له حكم المالية بطريق التبعية، فلهذا لم يجز بيعه.
وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب القسمة: أن بيع رقبة الطريق على أن يكون للبائع فيه حق المرور جائز بخلاف بيع حق المرور بانفراده في رواية بيع السفل على أن يكون لصاحب الدار حق قرار العلو جائز، وإذا باع علو منزل في داره دون السفل، فالبيع جائز، فإن بيع حق المرور مستحق واستحق بناء العلو دون الساحة ثم أجاز البيع جاز فقد أجاز المستحق البيع مطلقًا من غير فصل بينما إذا قضى القاضي للمستحق بالعلو أو لم يقض وهذا جواب ظاهر الرواية، فإن على ظاهر الرواية يقضي القاضي المستحق، ولا يبطل البيع من البائع والمشتري فالإجازة لاقت عقدًا قائمًا فيعمل، وفي المسألة روايات مختلفة سيأتي بيانها في موضع إن شاء الله.
ثم إذا أجاز إجازة المستحق كان الثمن كله للمستحق ولا يكون للبائع شيء من الثمن؛ لأنه لما استحق العلو تبين أن الثابت للبائع حق التعلي، وحق التعلي ليس بمال فلا يقابله شيء من الثمن.
وذكر في كتاب الشرب وجعل للشرب حصة من الثمن حتى قال: لو شهد شاهدان بشراء أرض بألف درهم، وذكر أحدهما شرب الأرض ولم يذكر الآخر شربها، فإنه لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الذي ذكر الشرب جعل بعض الثمن بمقابلته.
والفرق: أن الشرب عين مال على ما مر، فجاز أن يكون بمقابلته شيء من الثمن عند دخوله في البيع بخلاف حق التعلي، فإنه ليس بمال فلا يقابله شيء من الثمن، وفي كتاب القسمة جعل للمرور قسطًا حتى إن من باع داره مع ممره واستحق الدار دون الممر يقسم الثمن على الدار دون الممر.
وكذلك قال: في رجلين باعا طريقًا لأحدهما حق المرور وللآخر رقبة الطريق كان الثمن بينهما، قال الكرخي: تأويل المسألة الأولى أن يكون نفس عرضة الطريق لهما، وتأويل المسألة الثانية أن يكون عرضة الطريق بينهما ولأحدهما إما مجرد حق الاستطراق لا يقابله شيء من الثمن وغيره من المشايخ أجروا على الظاهر، وفرقوا بين حق الاستطراق وبين حق التعلي، والفرق ما بينا أن حق المرور أعطي له حكم المالية بطريق التبعية فجاز أن يكون بمقابلة شيء من الثمن بخلاف حق التعلي على ما ذكرنا.
وفي (المنتقى): رجل اشترى قصيلًا من رجل على أن يفصله فتركه في الأرض بغير إذن رب الأرض أو بإذنه حتى سنبل واستحصد، فإن أبا حنيفة قال: هو للبائع كله؛ لأنه تحول عن حاله قبل القبض من قبل أن الفصيل يفصل ثم ينبت ويحصد، قال: وليس الرطبة والقصب هكذا قال: لو زاد ولم يسبل كان للمشتري مثل الرطبة ويتصدق بالفضل إن كان ترك بغير إذن، وقال أبو يوسف: في الأول أيضًا هو للمشتري.
وروى أبو سليمان عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر حنطة ندوية مجازفة وقد رأها ولم يقبضها حتى حفت فلا خيار له. ولو اشترى رطبًا مجازفة وقد رأها فلم يقبضها حتى صار تمرًا فله الخيار.
المعلى عن أبي يوسف: إذا قال لغيره أبيعك من هذا الطعام قفيزًا بدرهم فاشترى له ذلك منه ولم يقبضه حتى أصابه ماء وزاد وقال: إن كان عنده طعام من ذلك الضرب، فإنه يعطيه قفيزًا منه، وإن لم يكن فالمشتري بالخيار إن شاء قبض منه قفيرًا من هذا الطعام، وإن شاء ترك.
وروى بشر عن أبي يوسف: اشترى جارية وشرط البائع أنها خبازة أو مشاطة وقبضها على ذلك ثم هلكت عنده ثم أقر البائع أنها لم تكن خبازة ولا مشاطة قال أبو حنيفة: لا يرجع على البائع بشيء؛ لأن ذلك ليس بعيب وإن كانت قائمة فوجدها من جنس دونه بأن شرط البائع له أنها حبشية مثلًا فإذا هي هندية، فإنه يردها إن كانت قائمة، وإن كانت هالكة لا يرجع بشيء، وكذلك قال أبو يوسف: قال: لأني لا أدري كيف أخذه من الجنسين ولا يعلم فضل ما بين الحبشتين لو شرط... فوجده... فليس في الأرض أحد يعلم فضل ما بين هذين وقد يكون من هذا الجنس ما هو خير من ذلك الأخير، قال: وأما الخبازة، فإنما يقوم عينها خبازة وغير خبازة، أشار أبو يوسف إلى أنه موافق لأبي حنيفة رحمه الله فيما إذا وجدها من جنس دونها إن كانت قائمة يردها، وإن كانت هالكة لا يرجع بشيء مخالف له فيما إذا شرط أنها خبازة، فإذا هي غير خبازة، وقد باتت في يد المشتري.
وعن أبي يوسف في مسألة الخبازة مثل قول أبي حنيفة ذكر المسألة بعد هذا قال: وكذلك كل ما يوزن من الآنية والذرعية وفي نسخة والأوعية ما لاينقص فإما ما ينقص من الكيل أو الوزن، فإنه يرجع بنقصانه في قولهم جميعًا.
وفي (القدوري): لو اشترى عصيرًا فتخمر قبل القبض فالبيع على حاله في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وذكر محمد في (الأصل) أن البيع باطل؛ لأن الخمر ليس بمحل للبيع، ولهذا لو اشترى خمرًا لا يملكه بحال، كما لو اشترى ميتة فصار التخمر قبل القبض بمنزلة هلاك المبيع قبل القبض يوجب بطلان العقد، قال أبو الحسن: يعني قول محمد أن البيع باطل إن للمشتري أن يبطله واستدل على هذا التأويل بما إذا صارت خلًا قبل الفسخ أن يكون له أنه يأخذه ولو بطل العقد لم يكن له حق الأخذ، ومعنى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: أن العقد على حاله أنه لم يبطل بعد إما مفسد بلا شك.
ووجه هذا: أن صحة العقد كان باعتبار المالية والتقوم، وبالتخمر إن سقطت القيمة لم تبطل المالية حتى لو اشترى شيئًا ملك ولو زالت القيمة والمالية جميعًا انفسخ العقد.
كما لو مات المبيع قبل القبض ولو بقيا جميعًا بقي العقد جائزًا، فإذا زال أحدهما وبقي الآخر ارتفع الجواز ولم يرتفع أصل العقد، إلا أن هذا الفساد إنما يكون بعارض على شرف الزوال، فإذا زال صار كأن لم يكن وهو معنى تأويل أبي الحسن رحمه الله لقول محمد رحمه الله.
وفي (المنتقى) قال أبو حنيفة: إذا اشترى عصيرًا فصار خمرًا قبل أن يقبض المشتري، فلم يختصما حتى صار خلًا، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بقيمتها وإن شاء ترك، وقال أبو يوسف: بطل البيع.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف: رجلان بينهما دار فباع أحدهما نصف بيت منها شائعًا والبيت معلوم، فإن أبا حنيفة قال: لا يجوز البيع؛ لأن فيه ضرًا على الشريك في تقطيعه نصيبه عليه عند القسم، قال: أرأيت لو باع نصف كل بيت من الدار لم يتقطع نصيب شريكه قال: وكذلك الأرض.
ولو كان بين رجلين عشر من الغنم وعشرة أثواب مروية مما يقسم باع أحدهما نصف ثوب بعينه من رجل، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: هذا جائز، وكذلك الغنم ولا يشبه هذا الدار الواحدة، وقال أبو يوسف: ينبغي أن يكون هذا والدار سواء في قوله، ألا ترى أنه لو باع نصف كل شاة منها من رجل على هذه لم يستطع شريكه أن يجمع له نصيبه فيها، فقد دخل عليه ضرر ويتقطع نصيبه، فكيف يختلفان.
ولو أن رجلين بينهما أرض ونخل باع أحدهما نصف نخل بعينه بأصله من رجل لم يجز في قول أبي حنيفة، وهذا كالبيت الذي وصفنا، ولو باع أحدهما نصف الأرض واشترى نصف النخيل بأصله، فإن هذا مثل ذلك في قياس قول أبي حنيفة، وكذلك لو باعه نصف الدار شائعًا أن بيتًا منها معلومًا لم يدخل في البيع، وقال أبو يوسف: أنا أرى كل هذا جائزًا لا أنقض بيعًا من أجل قسمة لا يدري أتكون أو لا تكون، ولا يدري لعلها إذا كانت لا تدخل في القسمة ضرر من قبل هذا البيع.
قال محمد رحمه الله: إذا اشترى الرجل من غيره كرًا من طعام مكايلة بمئة درهم فاكتاله من البائع لنفسه، ثم إنه ولى رجلًا بالثمن الأول لم يكن للمشتري أن يقبضه إلا بكيل مستقبل، وإن كان المشتري الأول الذي باع من هذا الثاني اكتاله لنفسه بمحضر من المشتري الثاني؛ لأن الشراء الثاني حصل بشرط الكيل، ولم ينص فيه على الكيل باعتبار أن البيع الثاني بيع تولية، والتولية بعد العقد الأول وإقامة الثاني فيه مقام نفسه، وقد كان البيع الأول بشرط الكيل فيكون الكيل مشروطًا في الثاني ضرورة، وإن لم يكن مشروطًا نصًا فلا يكتفي بكيل بائعه وهو المشتري الأول لما مر في أصل الباب، فإن اكتاله المشتري الثاني فوجده يزيد قفيزًا رد الزيادة على المشتري الأول، سواء كانت زيادة تجري بين الكيلين أو زيادة لا تجري بين الكيلين، لأنه زائد على المعقود عليه، فإذا ردها المشتري الثاني على الأول ينظر إن كانت الزيادة مما يدخل بين الكيلين كانت الزيادة للمشتري الأول ولا يردها على بائعه، وإن كانت الزيادة مما لا يدخل بين الكيلين ردها المشتري على بائعه؛ وهذا لأن الزيادة إذا كانت تدخل بين الكيلين لا يمكن التحزر عنه وذلك عفو، وقال الله تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسًا إلا وسعها} [الأنعام: 152] فهذا دليل على أن ما يدخل بين الكيلين من الزيادة والنقصان عفو، أما إذا كانت الزيادة لا تدخل بين الكيلين يمكن التحزر عنها ولا يجعل عفوًا هذا من حيث النص.
وأما من حيث المعقول هو أن الزيادة إنما ترد على البائع إذا ظهر خطأ الكيل الأول بيقين، وإذا كانت الزيادة تدخل بين الكيلين ظهر الخطأ في الكيل الأول لا بالاجتهاد فوجب الرد على البائع الأول، وإن وجده المشتري الثاني ناقصًا كان للمشتري الآخر أن يأخذ المشتري الأول بحصته إذا لم يسلم له شرطه فيرجع عليه سواء كان النقصان يدخل بين الكيلين أو لا، وهل يرجع المشتري الأول على بائعه؟ إن كان النقصان مما يدخل بين الكيلين لا إذا لم يظهر الخطأ في الكيل بيقين، وإن كان مما يدخل ثيت ذلك بالبينة أو بتصديق البائع يرجع إذا ظهر الخطأ في الكيل بيقين، لا باجتهاد فوجب الرجوع على البائع الأول بذلك.
ثم إذا كانت الزيادة تدخل بين الكيلين فالزيادة تكون للمشتري الأول، وإن كان هو ولى الثاني جميع ما اشترى إلا أنه ولاه ما اشترى باسم الكر وقد سلم له ذلك، فكان الفضل رزقًا ساقه الله إليه.
وكذلك لو كان البيع الثاني مرابحة بيع ما اشترى بمثل الثمن الأول إلا أنه زاد فيه ربحًا ولما كان كذلك كان في اقتضاء الكيل مثل التولية، ولو كان المشتري الأول باع من الطعام قفيزًا ودفعه إلى المشتري وقبض ثمنه، ثم إنه باع الباقي على أنه كر بمثل ما اشتراه تولية فاكتاله الثاني فوجده كرًا تامًا فكذلك جائز ولا خيار له؛ لأنه سلم له جميع ما اشترى ولكن ثمن الكرًا يقسم على إحدى وأربعين قفيزًا، فما أصاب القفيز سقط عن المشتري الثاني، وذلك جزء من إحدى وأربعين جزءًا من الثمن ولزمه الباقي؛ لأن التولية بيع ما اشتري بمثل ما قام عليه ولقد وصل إليه بمقابلة القفيز شيء فلو لم يحط عن المشتري بذلك القدر حصل بيع الباقي بزيادة على ما اشترى تولية، فصار ذلك جناية، وإنه يمكن التحرز عنه، فوجب حط قدر الجناية عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله من غير خيار، ومحمد يخير إن شاء أخذ الكيل بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
ولو كان العقد الثاني مرابحة والباقي بحاله، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد المشتري بالخيار إن شاء رده وإن شاء أمسكه بجميع ثمنه، وعلى قول أبي يوسف يحط قدر الجناية من الربح وهذه المسألة من مسائل (الأصل).
قال في (الجامع) أيضًا: إذا اشتري كرًا على أنه أربعون قفيزًا فكاله البائع فوجده أربعين قفيزًا وتقابضا فأصاب الطعام ماء من ماء المطر فزاد حتى صار خمسين قفيزًا وأفسد الماء الطعام جاز للمشتري أن يبيعه مرابحة من غير بيان، فإن ولاه رجلًا أو باعه مرابحة على أنه كر فوجده خمسين قفيزًا كان للمشتري منه أربعون قفيزًا، إذ المشروط له هذا القدر، وكان للمشتري خيار الرد بالعيب إن لم يعلم به وقت الشراء، وإن علم ليس له ذلك لرضاه بالعيب.
وإن كان الطعام رطبًا وباعها مرابحة على أنه كر فكالها المشتري، فإذا هو ينتقص من الكر، فالمشتري الآخر بالخيار إن شاء ترك بغير شرط عليه، وإن شاء أخذها بحصتها من الثمن، وإن اشترى كرًا على أنه أربعون قفيزًا فكاله وقبضه فولاه رجلًا أو باعه مرابحة فلم يكله له حتى أصاب الطعام ماء فزاد عشرة، ثم كاله فوجده خمسين قفيزًا، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك لتغير المعقود عليه في ضمان البائع على ما مر، ومتى اختار الأخذ أخذ الأربعين قفيرًا لما مر أن المشروط له هذا التقدير وسلم ما بقي من الطعام وهو عشرة أقفزة للبائع الثاني، ولو أن البائع الثاني كال الطعام للمشتري الثاني قبل أن يصيبه الماء فكان أربعون قفيزًا ثم أصابه الماء في يد بائعه، فصار خمسون قفيزًا وأفسده الماء، فللمشتري الثاني الخيار لتغير المعقود عليه في ضمان البائع، فإن اختار الأخذ أخذ الكل؛ لأن المبيع قد تعين بالكيل فكانت الزيادة الحاصلة زيادة في المبيع.
ولو باعه قفيزًا من الكراء فأصابه الماء قبل أن يقبضه فللمشتري الخيار، إن شاء قبض من ذلك الكر، وإن شاء ترك، وإن كان قد كال القفيز وأفرزه لما ذكرنا أن الكيل في غير المعين قبل التسليم هدر، فكان له الخيار كما قبل، إلا أن يكون الماء أصاب المقرر دون غيره فيأخذ قفيزًا من اليابس ولا خيار لواحد منهما على ما مر قبل هذا.
رجل اشترى كر حنطة بمئة درهم على أنه أربعون قفيزًا فكاله، فإذا هو أربعون قفيزًا فقبضه المشتري ثم تقايلا البيع ثم اكتاله البائع، فإذا هو يريد أن ينقص قفيزًا، فتصادقا أن ذلك من نقصان الكيل ومن زيادة مع الكيل، فالزيادة مع الأصل للبائع، والنقصان عليه حتى لا يحط بسببه شيء من الثمن.
وكذلك لو أصابه الماء فازداد ورضي به البائع فذلك كله له، إلا أن يكون لم يعلم فله أن يرده بالعيب وتبطل الإقالة ويعود البيع الأول، وكذلك إن كان رطبًا وقت البيع وهو كرّ تام ثم جف ونقص عند المشتري ثم تقايلا فاكتاله فانتقص وعلم أنه من الجفاف أو تصادقا عليه فذلك كله للبائع ولا يحط شيء من الثمن.
فرق بين هذا وبين التولية والمرابحة، فإن هنالك جعل للمشتري الثاني ما يتيقن بالكيل ولم يجعل الزيادة والنقصان عليه، ومنها جعل الزيادة والنقصان بعد الإقالة على البائع. والفرق بينهما سواء هو أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين وإعادة إلى قديم الملك، وإنما يجب مراعاة الكيل في المبادلات وفيما يملكه الإنسان بالشراء ابتداء لا فيما يعود إلى قديم ملكه، ألا ترى أنه لو فسخ العقد بخيار الشرط أو بخيار العيب بقضاء أو بغير قضاء لا يعتبر فيه كيل مبتدأ، أما التولية والمرابحة فذلك بيع مبتدأ فيعتبر فيه الكيل إذا حصل بشرط الكيل، وقد حصل شرط الكيل فكذا ما جعل بناء عليه.
قال محمد رحمه الله في (الجامع) أيضًا: رجل اشترى من رجل حنطة بعينها على أنه اشتراها بدرهم، فلم يقبضه المشتري حتى أصابه ماء فابتل، فكاله المشتري، فإذا هو قفيز وربع قفيز كان للمشتري الخيار، إن شاء أخذ قفيرًا بعينها بدرهم، وإن شاء ترك وإنما أثبتنا له الخيار بعيب المعقود عليه في ضمان البائع، وإنما اقتصر ملكه على القفير؛ لأن العقد إنما انعقد باسم القفيز يدخل تحت العقد ما يظهر بالقفيز لا ما وقعت الإشارة إليها؛ لأن ذلك من حكم بيع المجازفة وهذا بيع مكايلة.
ألا ترى أنه لو كاله قبل إصابة الماء فوجده أزيد رد الزيادة على البائع، ولو وجده أنقص سقط حصة النقصان من الثمن، ولما كان هكذا فقبل الكيل لم يظهر قدر البيع فالزيادة الحاصلة بالماء لم تكن زيادة في المبيع فلم يسلم للمشتري، وإن كان اكتال الطعام قبل أن يصيبه الماء بمحضر من المشتري فكان قفيزًا إلا أنه لم يدفعه إلى المشتري ثم أصابه الماء فصار قفيزًا وبيع قفيز كان المشتري بالخيار إن شاء أخذ كله بدرهم وإن شاء تركه، أما الخيار فلما مر، وأما سلامة الكل له؛ لأن المعقود عليه ظهر قدره بالتقدير وهو الكيل والزيادة الحاصلة في المبيع فيسلم للمشتري.
وصار كالنخيل إذا أثمرت بعد البيع قبل القبض، وإنما شرط أن يكون الكيل بحضرة المشتري؛ لأن المعقود عليه لما كان يظهر قدره بالكيل صار للكيل شبهة بابتداء العقد فشرط أن يكون بحضرة المشتري لهذا، ولو كانت الحنطة رطبًا في الابتداء فيبس حتى نقص، فإن كان بعد الكيل لم يأخذه المشتري بجميع الثمن؛ لأن المعقود عليه قد تعين بالكيل، وبالجفاف إنما يفوت وصف الرطوبة وفوات الوصف لا يوجب سقوط شيء من الثمن، فإن كان نقص قبل الكيل لا يأخذه إلا بحصته من الثمن؛ لأن المعقود عليه إنما يتعين بالكيل، فإذا كان النقصان قبل الكيل، فإنما يتعين ثلاثة أرباع قفيز فيأخذه بثلاثة أرباع الدرهم ويكون المشتري بالخيار كما لو اشترى شيئين فهلك أحدهما قبل القبض.
ألا ترى أنه لو اشترى هذا الطعام على أنه قفيز بدرهم فكاله فوجده يزيد أو ينقص مقدار ما يجري بين الكيلين، فإن كان زائدًا أخذ المشتري قفيزًا منه بدرهم، وإن كان ناقصًا أخذه بحصته من الثمن، ولو كاله البائع للمشتري بمحضر منه فكان قفيزًا فلم يأخذ المشتري حتى أعيد عليه الكيل، فإذا هو يزيد أو ينقص قدر ما يكون بين الكيلين لزمه بجميع الثمن؛ لأن المعقود عليه قد تعين بالكيل الأول ولم يظهر خطأ الكيال للأول حتى لو كانت الزيادة والنقصان قدر ما لا يجري بين الكيلين إن كان زائدًا رد الزيادة، وإن كان ناقصًا أخذه بحصته من الثمن في الحالين جميعًا إذا ظهر به خطأ الكيال الأول.
وفي (المنتقى) عن أبي يوسف: في عبدين لرجلين لكل واحد منهما عبد على حدة وأحدهما أكثر قيمة من الآخر ولا يعرف عبد كل واحد منهما من عبد صاحبه فباعهما أحدهما، فالثمن بينهما نصفان.
وكذلك قال في ثوب رجل وقع في ثياب رجل ولم يعرف بعينه، فإني أبيعها وأقسم الثمن على عدد الثياب، ولو أوصى رجل لرجل بشاة ولآخر بصوفها فباعا جميعًا، فإن الثمن لصاحب الشاة وليس لصاحب الصوف شيء؛ لأن الصوف لا يباع على ظهر الشاة ولو جعلت له نصيبًا من الثمن أفسدت البيع وكذلك الشاة وما في بطنها.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله في (الإملاء): امرأة قالت لزوجها: خلعتني بالألف التي لي عليك، وقال الزوج: لا ولكني بعتك بالألف التي لك علي هذا العبد في يديك، وقالت هي: لم أشتره منك، فأقامت هي بينة على الخلع وأقام الزوج بينة على بيع العبد أجزت البيع والخلع وضمنت المرأة ألفًا للزوج.
وفي (نوادر هشام) عن محمد: رجل اشترى من رجل سمكة طرية وجحد البائع البيع فأقام المشتري بينة عليه، فالقاضي يأمر المشتري بقبض السمكة ودفع الثمن إلى البائع يريد به ما دام القاضي في المسألة عن الشهود ثم يقبض القاضي السمكة من المشتري والثمن من البائع ويبيع السمكة، ويضع الثمن الثاني والأول على يدي عدل، فإن عدلت البينة ودفع الثمن الثاني إلى المشتري الأول والثمن الأول، وإن ضاع الثمن من مال المشتري يعني المشتري الأول، وإن لم تعدل البينة ضمن المشتري يعني المشتري الأول قيمة السمكة للبائع.
قال هشام: وسألته عن رجل ادعى على رجل أنه باع جاريته هذه منه بألف درهم وجحد المشتري أن يكون اشتراها فحلفه القاضي فحلف، هل يفسخ القاضي الشراء بينهما؟ قال: لا، قلت: إن كان المدعى قبله قال بعد ذلك: هي حرة لوجه الله تعالى هل يكون هذا إقرار منه بالشراء ويلزمه قيمة الجارية؟ قال: لا، قلت: وإن قال المدعى قبله للمدعي إن كنت اشتريتها منك فهي حرة، قال: عتقت الجارية ولم يلزم المدعى قبله قيمتها؛ لأنها إنما عتقت بقول البائع إني بعتها منك.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف: رجل قال لآخر: بعتك ثوبًا بعشرة دراهم وقبضتَه ولم أقبض الثمن، وقال الآخر: أخذته منك رهنًا بعشرة والثوب هالك قال: يضمن المرتهن الأقل من قيمته ومن عشرة.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: رجل قال لآخر: بعتك عبدي هذا أمس بألف درهم فلم يقبل، وقال المشتري: قبلت فالقول قول المشتري قد اشتريت منك عبدك هذا أمس فلم يقبل، وقال البائع: قبلت فالقول قول البائع؛ لأن لفظة البيع تنتظم فعلهما جميعًا.
وإن قال لأمراته: طلقتك أمس بألف درهم فلم تقبلي، فالقول قول الزوج والعتق على مال نظير الطلاق، والإجارة والنكاح نظير البيع.
وأما الكفالة بالمال فينبغي في قياس قول أبي حنيفة: أن يكون القول فيه قول الضامن فلا يلزمه الضمان إلا أن تقوم بينة على رضى المضمون له.
وعنه برواية ابن سماعة أيضًا: رجل عنده مملوك قال لغيره بعتك مملوكي هذا قبل أن أملكه قال: لا أصدقه وألزمه البيع وليس هذا كالطلاق والعتاق؛ لأن في البيع عقدة قد عقدها ثم يريد أن يبطلها وليس في الطلاق والعتاق.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف: رجل قال: اشهدوا أني قد بعت عبدي من فلان بألف درهم وفلان غائب فقدم فقال: قد كنت بعته قبل ذلك المجلس وهذا منك إقرار، وقال البائع: بل كان مني ابتداء، فإن القول قول المشتري؛ لأن هذا الكلام يكون على ما مضى وعلى ما يستقبل.
وفي (نوادر هشام): عن (محمد): رجل اشترى من رجل دارًا بثمن معلوم وأشهد بقبض الثمن، ثم أقام البائع بينة أن المشتري أقر بعد شراء الدار أن هذه الدار تلجئة في يده، فإني أردها على البائع ويأخذ المشتري الثمن من البائع.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف: رجل اشترى من رجل جارية بثمن معلوم وتقابضا اختلفا في ولدها فقال البائع: قد ولدت قبل أن يشتريها، وقال المشتري: لا، بل ولدت بعد الشراء، فالقول قول من في يده الولد والبينة بينة المشتري.
ولو اشترى دارًا من رجل ونقد الثمن واختلفا في باب الدار وقد نزع من موضعه ووضع فيها، فقال المشتري: نزعته بعد ما اشتريت وقبضت، وقال البائع: كان موضوعًا فيه وقت البيع ولم يدخل في البيع فالقول قول المشتري إن كانت الدار في يده، وإن كانت الدار في يد البائع فالقول قول البائع مع يمينه، فإن نكل عن اليمين دخل الباب في البيع وللمشتري الخيار إن كان في تعليقه ضرر، وإن حلف يخير المشتري أيضًا، إن شاء أخذ الدار في غير باب، وإن شاء ترك، ولكن بعد أن يحلف بالله ما اشترى الدار بدون الباب.
وكذلك على هذا جذوع بيوت نقض أو نقض حائط أو شجرة مقلوعة في أرض أو تمر صرم من شجرة، فالقول في جميع ذلك قول الذي في يديه، وإن كان الثمر على الشجر والأرض في يد المشتري، فالقول قول المشتري، وإن كان في يد البائع، فقال المشتري: حدث بعد البيع، وقال البائع: كان قبل البيع ولم أشرط فالقول قول البائع، وللمشتري الخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك.
اشترى أمةً وتقابضا وولدت واختلفا في الولد، فقال البائع: بعتك الأمة في رمضان عام أول وكانت الولادة في شعبان وأقام البينة، وقال المشتري: اشتريتها منك في شعبان وولدت في رمضان وأقام البينة والولد مشكل، فالبينة بينة البائع؛ لأن وقته أول. ولو أقر البائع أنه أخذ من الأمة ثوبًا أو دراهم قبل أن يبيعها، وقال المشتري: أخذت ذلك منها بعدما اشتريت وقبضت، فالقول قول المشتري، وأما في الجماع والغلة فالقول قول البائع.
ابن سماعة عن محمد: رجل اشترى عبدًا وقبضه وأدى الثمن وأعتقه، ثم قال رجل للبائع: كنت بعتني الغلام قبل أن تبيعه من هذا وأعتقه وصدقه البائع في ذلك قال: يأخذ البائع منه الثمن أيضًا، ويكون في يده ثمنان حتى يرجع المشتري الذي قبض الغلام وأعتقه إلى تصديق البائع ويأخذ منه الثمن ويصير الغلام مولى الذي ادعاه أنه أعتقه أولًا، وإن كذبه الغلام أن يكون مولى للذي ادعى، ولا أنه أعتقه كان مولى للذي قبض وأعتق؛ لأن الغلام قدثبت ولاؤه من الذي قبضه وأعتقه فلا يتحول إلا بتصديق الغلام.
المعلى في (نوادره): رجل قال لآخر: بعتك هذه الدار بمئة درهم وقال المدعى قبله: بل أجَّرتها بعشرة دراهم إلى الكوفة فسرت عليها، فإنه يحلف المدعى عليه على الشراء ما اشتريته بمئة درهم، فإن حلف رجع عليه المدعي للبيع بالعشرة التي أقر بها من الإجارة؛ لأنه لم يكذبه قال: بعد ما أقر له بالإجارة لم أؤاجركها فهذا كذاب.
وفي (المنتقى) إبراهيم عن محمد: إذا باع من آخر رطلًا من زيت في خابية فقال المشتري: أعطني من خابية غيرها، فللبائع أن لا يعطيه إلامن تلك الخابية (التي) وقع البيع عليها.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: رجل باع من آخر دارًا ثم إن المشتري لقي البائع وقال له: لم يتهيأ لي ثمن الدار فافسخ العقد بيني وبينك، وتصدق علي بالدار التي بعتني فقال البائع: قد تصدقت عليك بالدار وفسخت البيع بيني وبينك، ولم يقل الآخر شيئًا بعد هذا الكلام قال: أجيز ذلك وأفسخ البيع فيه.
قال: لو أن رجلًا باع ثوبًا له من مسكين بدرهم، ثم إن المسكين لقي البائع وقال: لإني بعشرة لا أقدر على ثمن الثوب، فإن رأيت أن تفسخ البيع وتصدقت عليّ بالثوب فقال البائع: قد تصدقت عليك به وفسخت البيع، فإنه يجوز ذلك.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف رحمه الله: رجل اشترى من آخر دارًا بألف ثم إن البائع قال للمشتري: تصدقت عليك بالدار وقبل المشتري ثم جاء البائع يطلب الثمن وقال: إنما تصدقت عليك بدارك قال: له أن يأخذ الثمن وصدقته باطلة.
وفي (المنتقى): رجل اشترى من رجل آخر عبدًا وقبضه ثم جاء به مشجوجًا وقال: بعتني (العبد) مشجوجًا، فالقول قوله؛ لأن البائع يدعي لزوم البيع على المشتري فيه وهو منكر.
وفيه أيضًا: إذا باع جارية على أنه بالخيار فحدث بها عيب في يد البائع، فقال البائع للمشتري: اقبضها وأنا على خياري، فقبضها وهو يعلم بالجناية أو بالعيب أو كان قبضها بغير إذن البائع مع العلم بالجناية أو العيب، ثم إن البائع أجاز البيع ثم أراد المشتري أن يردها على البائع بالجناية التي كانت عند البائع أو بالعيب الذي حدث عنده، ليس له ذلك وقبضه بعد العلم بالجناية رضًا بالعيب.
وكذلك لو لم يقبضها ولكن أعطى البائع ثمنها بعد علمه بالجناية أو العيب وكذا لو كان قبضها ولم ينقد الثمن ولم يكن عالمًا بالجناية أو العيب ثم علم بذلك بالجناية أو العيب فنقده الثمن من غير أن يأمره بذلك قاضي.
قال محمد رحمه الله في (الزيادات): رجل اشترى شيئًا مما يفسد نحو السمك والفاكهة وشرط الخيار لنفسه ثلاثة أيام، فخاف البائع أن يفسد قبل مضي مدة الخيار في يده فقال للمشتري: إما أن ترد البيع حتى أبيعه من غيرك أو تختاره وتقبضه، ففي القياس: لا يخير المشتري على ما أراد البائع؛ لأن المشتري ما شرط الخيار لنفسه إلا لمقصود وهو أن يكون مخيرًا في المدة ولا يلزمه ضرر، فلا يكون لأحد تفويت هذا المقصود عليه بإلزامه الفسخ أو الإجارة، أكثر ما في الباب إن في عدم إلزام الفسخ والإجارة ضرر البائع إلا أن البائع لما شرط الخيار للمشتري مع علمه بحال المبيع، فقد صار راضيًا بهذا الضرر والضرر المرضي لا يدفع.
وفي الاستحسان: يقال للمشتري: إما أن ترد البيع، وإما أن تأخذه ولا شيء عليك من الثمن ما لم تجز البيع أو يفسد عندك.
وجه ذلك: أن في إلزام المشتري الفسخ أو الإجارة إن كان ضرر بالمشتري لكن في عدم إلزامه ذلك ضرر بالبائع وضرر البائع أولى من ضرر المشتري؛ لأن ضرر المشتري أدنى، فإنه إذا قبضه يتمكن من أكله ومن بيعه من غيره ويتمكن من رد البيع ورد المبيع على البائع لهذا فهو متمكن من دفع الضرر عن نفسه، أما البائع لا يتمكن من دفع ضرره عن نفسه، والضرر الذي يتمكن الإنسان من دفعه أدنى بالتحمل أولى، وما يقول بأن البائع رضي بهذا الضرر هذا ممنوع؛ لأنه يحتمل أنه إنما باع رجاء أن يختار المشتري الفسخ أو الإجازة قبل الفساد، وإن رضي به لكن هذا ضرر محض، والضرر المحض لا يلزم بمجرد الرضا ولكن لا يجبر المشتري على إعطاء الثمن وإن قبضه؛ لأنه إنما أجبرناه على القبض دفعًا للضرر عن البائع وقد حصل هذا المعنى بالقبض والثمن ملك المشتري مع بقاء خياره، فلا يخير المشتري على إعطائه ولكن إن فسد عنده أو اختاره حينئذٍ يلزم إعطاء الثمن، وإن لم يفسد حتى نقض المشتري البيع ورده على البائع ولا شيء عليه من الثمن.
وذكر هشام في (نوادره) عن محمد: أن من اشترى من آخر عصيرًا أو رطبًا على أنه بالخيار ثلاثة أيام، وخاف البائع تخمر العصير وتحمض الرطب في مدة الخيار، فطلب قبض المشتري فالمشتري لا يجبر عليه وهو جواب القياس على نحو ما ذكرنا.
وفيه أيضًا: أن من ادعى على آخر أنه اشترى منه سمكة طرية في يده وجحد البائع، فأقام المشتري بينة على الشراء فخاف فساد السمكة في مدة التركة، وفيه ضرر بالبائع قال: يأمر القاضي المشتري حتى يقبض السمكة ويدفع الثمن، ثم يبيع القاضي السمكة ويضع الثمن الأول والثاني على يدي عدل، فإن زكيت البينة دفع الثمن الأول إلى البائع والثاني إلى المشتري، وإن ضاع في يدي العدل ضاع على المشتري؛ لأن بيع القاضي كبيعه ولو لم تتزك البينة ضمن المشتري قيمة السمكة؛ لأن الشراء لم يثبت فبقي قابضًا سمكة بجهة البيع، فيكون مضمونًا عليه.
قال في (الزيادات): رجل قال لغيره: هذا العبد بيني وبين فلان وفلان ثلاثًا وهما غائبان، فأنا أبيعكه بألف ولم يأمراني بذلك فلعلهما يجيزان البيع فاشتراه المشتري على ذلك ونقد الثمن ثم حضر الغائبان ولم يجيزا البيع لزم المشتري نصيب البائع.
واعلم بأن هاهنا ثلاث مسائل:
إحداها: هذه، والوجه فيها: أن البيع تم في نصيبه من غير توقف، وتوقف في نصيب الغائبين على إجازتهما، فإذا لم يجيزا بطل ولا خيار للمشتري وإن تفرقت الصفقة عليه؛ لأن تفرق الصفقة، إنما يوجب الخيار إذا وقعت الصفقة جملة في الابتداء، ثم تفرقت بعد ذلك، والصفقة من الابتداء ما وقعت جملة حال وقوعها؛ لأنها نفذت في نصيب البائع وتوقفت في نصيب الغائبين فامتاز نصيب البائع عن نصيب الغائبين حال وقوعها، كأنه اشترى نصيب الحاضر بصفقة ونصيب الغائبين بصفقة وهناك لا خيار للمشتري كذا هنا، فإن أجاز أحد الغائبين البيع في نصيبه، قال محمد رحمه الله: لزم المشتري نصيب المجيز بثلث الثمن أيضًا ولا خيار له، وعلى قياس قول أبي يوسف له الخيار لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية: إذا قال الرجل لغيره هذا العبد لفلان وفلان وأنا أبيعكه بألف درهم بغير أمرهما فلعلهما يجيزان البيع فاشتراه المشتري على ذلك فبلغهما الخبر فأجاز أحدهما البيع في نصيبه وأبى الآخر، فعلى قول محمد رحمه الله: لا خيار للمشتري وعلى قول أبي يوسف له الخيار.
وجه قول أبي يوسف أن الصفقة هاهنا وقعت جملة، فإن العقد توقف في الكل على الإجازة، فإذا أجاز أحدهما دون الآخر، فقد تفرقت الصفقة عليه فكان له أن لا يرضى به بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك الصفقة حال وقوعها نفذت في نصيب البائع وتوقفت في نصيب الغائبين فوقعت الصفقة متفرقة من الابتداء، فلا يوجب الخيار حتى إنها لو توقفت في نصيب الغائبين جملة فقلت: بثبوت الخيار في نصيبهما إذا أجاز أحدهما البيع دون الآخر.
وجه قول محمد: أن المشتري لما أقدم على الشراء مع علمه أنهما عسى يتفقان على الإجازة، وعسى يحب أحدهما دون الآخر صار راضيًا بهذا التفرق، ألا ترى أن أحد المشتريين ينفرد بالرد بخيار الشرط، وبخيار العيب باتفاق بينهما، وطريقه ما قلنا.
المسألة الثالثة: إذا قال الرجل لغيره هذا العبد لفلان وأنا أبيعكه بغير أمره بألف درهم فلعله يجيز البيع، فاشتراه على ذلك فحضر فلان وأجاز البيع في نصفه كان للمشتري الخيار بلا خلاف؛ لأن الصفقة وقعت جملة، فإذا أجاز صاحب العبد العقد في النصف، فقد تفرقت الصفقة عليه، ولم يصر المشتري راضيًا بهذا التفرق؛ لأن الظاهر من حال المالك إذا كان واحدًا أن يجيز في الكل تحرزًا عن تبعيض ملكه الذي هو عيب بخلاف ما إذا كان العبد لا يبين عن قول محمد؛ لأن الإجازة من المالكين ليس بظاهر إذ العيب ثابت في كل واحد منهما أما هي بخلافه.
قال: وإذا باع الرجل جارية من رجل ثم غاب المشتري ولا يدري أين هو فرفع البائع الأمر إلى القاضي وطلب منه أن يبيع الجارية ويوفي ثمنه، فإن القاضي لا يجيبه إلى ذلك قبل إقامة البينة على ذلك.
ذكر أن القاضي يبيع الجارية على المشتري، ونقد الثمن للبائع واستوثق من البائع بكفيل ثقة وهذا الذي ذكر جواب الاستحسان، والقياس: أن لا يسمع هذه البينة ولا يبيع الجارية على المشتري.
نص على هذا القياس، والاستحسان في (الجامع الكبير) في كتاب الإجارات في باب الاختلاف بين اثنين في نظير هذه المسألة وجه القياس في ذلك ظاهر وهو أن هذا بينة قامت على إثبات حق الغائب، وليس عن الغائب خصم حاضر لا قصدي ولا حكمي، فوجب أن لا يقبل قياسًا على ماإذا كان يعرف مكان المشتري، وقياسًا على من أقام بينة على إثبات حق على الغائب الذي لا يعرف مكانه لينزع شيئًا مما في يد الغائب، فإن في هاتين الصورتين لا تقبل هذه البينة، وإنما لا تقبل لما قلنا.
وجه الاستحسان: أن البائع عجز عن الوصول إلى الثمن من جهة المشتري إذا كان لا يعرف مكانه، وعجز عن الانتفاع بالمبيع؛ لأنه مال غيره واحتاج أن ينفق عليه ما لم يحضر المشتري، وربما تأتي النفقة على الثمن وزيادة متى انتظر القاضي حضور المشتري، فمتى لم يسمع هذه البينة من البائع أدى إلى إبطال حقه، والقاضي انتصب خصمًا لإحياء الحقوق، فكان للقاضي أن يسمع هذه البينة ليندفع الضرر والبلية التي ابتلى بها البائع؛ لأن على القاضي دفع البلية عن الناس ما أمكنه بخلاف ما إذا كان يعرف مكان البائع؛ لأنه كان يمكنه دفع الضرر والبلية عن البائع بأن يأمره بالذهاب إلى حيث كان المشتري، وإقامة البينة عليه.
وبخلاف ما إذا ادعى حقًا على غائب لا يعرف مكانه، وأراد أن يقيم البينة على ذلك لينزع شيئًا من مال الغائب، فإن القاضي لا يسمع ذلك منه؛ وذلك لأن القياس في مسألة البيع أن لا يسمع البينة على الغائب؛ لأنه ليس عنه خصم حاضر إلا أنا تركنا القياس فيما إذا كان لا يعرف مكان المشتري لينزع البلية التي ابتلى بها البائع وليس في قبولها إزالة يد البائع الغائب عما في يده؛ لأن حق البائع إنما يستوفى من الجارية التي في يده، لو ادعى أنها له كان القول قوله، وهذا لا يجيز ترك القياس إذا قامت البينة على إنزاع مال في يد الغائب، وفي ذلك إزالة ملك البائع ويده.
حتى لو ادعى المدعي ذلك لنفسه لا يصدق، فيرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، وإنما شرط إقامة البينة في هذه المسألة؛ لأنه ادعى إيجاب الحفظ على القاضي في هذا المال؛ لأنه يزعم أنه مال الغائب وعلى القاضي حفظه؛ لأنه مما يخشى عليه التلف، فكان للقاضي أن لا يلتزم هذا الحفظ إلا بإقامة البينة على ذلك.
وكان كالرجل جاء بدابة إلى القاضي وقال: هذه لقطة فبعها، فإن القاضي لا يبيعها حتى يقيم البينة على ذلك؛ لأنه يدعي إيجاب حفظ على القاضي، فكان للقاضي أن لا يصدق إلا ببينة، فكذلك هاهنا لا يصدقه، ولا يبيع إلا بينة؛ ولأنه يجوز أنه كان غاصبًا لهذه الجارية، واحتال بهذه الحيلة ليبرأ عن ضمانها، ويسقط نفقتها عن نفسه، فكان للقاضي أن لا يتعرض له من غير بينة، ثم إنما يوفيه الثمن من حيث أنه ثبت بما أقام من البينة دين على المشتري من حيث أن في الإيفاء حفظ الثمن على الغائب؛ لأنه يصير مضمونًا على القابض بالمثل، فيكون بمعنى القرض، وللقاضي أن يقرض مال الغائب لما فيه من زيادة حفظ ليس في الإيداع فكذا هذا، والدليل على أن البيع وإيفاء الثمن كان على سبيل الحفظ من القاضي: أنه لو فعل ذلك من غير بينة أقامها الحاضر كان له ذلك بأن يعرف ذلك من الناس، وكذا لو فعل القاضي ذلك بعد إقامة البينة ثم جاء الغائب، وجحد الشراء، وقال: الجارية جاريتي من الأصل يحتاج البائع إلى إقامة البينة ثانيًا، فلو صار البائع مقضيًا عليه بالشراء لكان لا يلتفت إلى إنكاره بعد ذلك، فهذا يبين لك أن ما فعله القاضي فعله على سبيل الحفظ لا على سبيل القضاء على الغائب.
ثم إذا باع القاضي الجارية وأدى الثمن إلى البائع، فإنه يأخذ منه كفيلًا ثقة لجواز أنه أخذ الثمن من المشتري مرة، فمتى حضر المشتري احتاج إلى أن يرجع على البائع بالثمن فيأخذ كفيلًا نظرًا للمشتري، حتى إنه إن تعذر عليه اتباع البائع اتبع الكفيل، فيستوفي من الكفيل، ثم إن كان فيه وضعية فعلى المشتري، وإن كان فضل فللمشتري أن يتبع القاضي وله ولاية البيع على المشتري من الوجه الذي ذكرنا كبيع المشتري.
ولو أن المشتري باع الجارية بنفسه إن كان فيه وضعية تكون على المشتري؛ لأن الدين على المشتري، وقد أدى البعض ولم يؤد البعض فما (لم) يؤد يكون دينًا على المشتري، فكذا إذا باعه القاضي، وإن كان فيه فضل فله؛ لأنه بدل ماله فيكون له، ثم وضع المسألة في الجارية ولم يضع في الدار ويجب أن يقال بأنه في الدار لا يتعرض القاضي لذلك ولا يبيع الدار؛ لأن القياس أن لا يبيع الجارية على المشتري، وإنما يبيعها استحسانًا لدفع البلية عن البائع، وهو إسقاط النفقة عنه، وإنما يحتاج إلى إسقاط النفقة إذا كان المبيع حيوانًا، وإن كان يعرف مكان المشتري، فإنه ليس للقاضي أن يبيع الجارية، وإن أقام البائع على ذلك.
فرق بين هذا وبينما إذا كانت الجارية آبقة، فادعى الذي في يده الجارية أنها آبقة، وأقام البينة على ذلك فطلب من القاضي بيعها أو كانت وديعة أو ضالة كالبعير والبقر، فإن القاضي يبيع ذلك أو يأمره بالنفقة على حسب ما يرى الأصلح للغائب، وإن كان يعرف مكانه إن كان يرجو قدومه عن قريب يأمره بالنفقة حتى لا تزول العين عن ملكه، وإن كان لا يرجو قدومه عن قريب، وخاف أنه متى أمر الذي في يديه الجارية بالنفقة أنها تربو على قيمة الجارية يبيع الجارية، وذلك نفقة الآبقة والوديعة على ربها، فمتى لم يبع إلى النفقة على جميع ما له فيهلك ماله وعلى القاضي أن يدفع الهلاك عن أموال الناس ما أمكنه، فكان النظر للغائب أن يبيع، وهاهنا النظر للغائب في أن لا يبيع حتى لا تزول العين عن ملكه؛ لأن نفقة المبيع على البائع إلى أن يحضر المشتري فيقبض، وإذا هلكت كانت مضمونة عليه، فالنظر للغائب أن لا يبيع إذا كان يعرف مكانه، ولكن يأمره بطلب المشتري، وهذا إذا جاء المشتري وأقر بذلك، فأما إذا أنكر المشتري الشراء احتاج البائع إلى إقامة البينة على المشتري ثانيًا؛ لأن البيع لم يثبت بما أقام من البينة؛ لأنه لم يكن عنه خصم حاضر.
قال في (الزيادات): رجل باع عبدًا من رجل ووهبه عبدًا آخر فنقد المشتري الثمن وقبضهما ثم مات أحدهما، فأراد المشتري أن يرد الباقي بالعيب، فقال البائع: لم أبعك هذا إنما بعتك الميت، فالقول قول (البائع لأن) المشتري يدعي عليه حق الرد بسبب العيب وهو ينكر؛ ولأن الملك في العبدين استفيد من جهة البائع، فكان القول في بيان جهة الملك قول البائع، وهو ادعى أنه ملكه بالهبة، فإذا اعتبر قوله ثبت أن الحي موهوب، فلا يكون له حق الرد بسبب العيب.
ولو أراد البائع أن يرجع في الحي بحكم الهبة والمشتري يقول: الحي مبيع والموهوب هو الميت، فالقول قول البائع وله أن يرجع في الحي؛ لأن الملك في العبدين استفيد من جهة البائع، فكان القول في بيان جهة الملك قول البائع، وهو ادعى أنه ملك الحي بجهة الهبة، فإذا اعتبر قوله ثبت أن الحي موهوب، فكان له حق الرجوع فيه.
ثم يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فإذا حلف وجب على البائع رد الثمن، ووجب (على) المشتري رد قيمة الميت؛ لأنهما لما حلفا لم يثبت ما ادعاه كل واحد منهما فيجب على كل واحد منهما رد ما قبض، إلا أن رد الميت متعذر، فيقام رد قيمته مقام رده.
ولو كان باعه عبدًا بألف درهم وباعه آخر بمئة دينار وتقابضا، ومات أحدهما ورد المشتري العبد الحي بالعيب واختلفا في ثمنه، فالقول في بيان الثمن قول المشتري؛ لأن تمليك الثمن استفيد من جهته، فكان القول في بيان جهة التمليك قوله، فيرجع على البائع بما أنه ثمن المردود، ولو لم يمت واحد منهما ورد المشتري المعيب بالعيب يرجع بالثمن الذي ادعاه ثم يتحالفان في الباقي؛ لأن الاختلاف في ثمن المردود أنه دراهم أو دنانير اختلاف في ثمن الباقي وأنه يوجب التحالف فيتحالفان ويترادان.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): رجل أسلم إلى رجل مئة درهم في كر حنطة، ثم إن المسلم إليه اشترى من رب السلم كر بمئتي درهم إلى أجل فقبض الكر الذي اشترى ولم يدفع الثمن، فلما حل السلم قضاه المسلم إليه بذلك الكر المشترى كر السلم قبل أن ينقده الثمن، فهذا لا يجوز؛ لأن رب السلم يصير مشتريًا من وجه ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، وإنه لا يجوز.
بيانه: أن القبض بحكم الشراء شبيه بالشراء من حيث إنه يستفاد به ملك التصرف، ويتأكد به ملك العين، وفي باب السلم يثبت به ملك العين مع ملك التصرف، فكان شراء من هذا الوجه؛ لأنه ليس بشراء من كل وجه؛ لأن أصل الملك كان ثابتًا قبل القبض ولما كان القبض بحكم الشراء شراء من وجه، صار رب السلم باعتباره مشتريًا من وجه ما باع قبل نقد الثمن، والثابت من وجه في باب الربا احتياطًا، ولا وجه إلى أن يجعل رب السلم مشتريًا هذا الكر بكراء السلم؛ لأن المقبوض في باب السلم في حكم العين ما يتناوله العقد؛ إذ لو لم يجعل كذلك كان هذا استبدالًا بالمسلم فيه، وذلك لا يجوز، فجعل هذا في حكم العين ما يتناوله العقد، ولما كان بدله مئة درهم وقد كان باع عين هذا الكر قبل ذلك بمئتي درهم فيصير مشتريًا عند القبض من وجه ما باع قبل نقد الثمن فلا يجوز.
وهذه المسألة حجة لأبي حنيفة على أبي يوسف في رجل أسلم إلى رجل دراهم في ثوبين بعينين فقبضهما أنه لا يبيع واحد منهما مرابحة من غير بيان عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن المقبوض لما جعل في حكم عين ما يتناوله العقد صار بمنزلة ما لو اشترى ثوبين بعينين، وهناك لا يملك بيع أحدهما مرابحة من غير بيان فهاهنا كذلك، فإن قبض رب السلم الكر الذي باعه من المسلم إليه بكر السلم قبل نقد الثمن مع أنه لا يجوز فطحنه، أو هلك عنده كان على رب السلم للمسلم إليه طعامًا مثل طعامه؛ لأنه مقبوض بحكم القضاء الفاسد، وذلك مضمون بالمثل، فهذا كذلك، فإن قضى القاضي عليه بكر مثله فاصطلحا على أن يكون قضاء من المسلم فيه لم يجز ذلك لوجهين:
أحدهما: أن استيفاء السلم إنما يقع بقبض عين من جنس السلم بعد السلم قبضًا صحيحًا ولم يوجد، ولأن المثل فيما يضمن بالمثل قائم مقام المضمون يجب بالسبب الذي يجب رد المقبوض (به) ثم القضاء إذا لم يقع بالمضمون، فكيف يقع بما هو قائم مقامه؟ فإن قبض المسلم إليه الكر الذي قضى به القاضي ثم قضاه إياه من طعام السلم جاز؛ لأنه وجد قبض عين من جنس السلم بعد السلم قبضًا صحيحًا، فحصل به قضاء السلم، وإنما قلنا بأن هذا القبض صحيح؛ لأنه بهذا القبض لم يصر مشتريًا ما باع قبل نقد الثمن؛ لأن هذا الكر الذي اقتضاه رب السلم ليس هو الكر الذي باعه لا حقيقة ولا حكمًا بل بدل عن ذلك الكر؛ لأن الاستبدال بالكر الذي وجب على رب السلم قبل القبض جائز؛ لأنه دين وجب لا بعقد صرف ولا بعقد صرف سلم.
قال محمد رحمه الله: وهذا كالمسلم إليه اشترى من رب السلم كر حنطة بعينها بمتاع فلم يقبضه قضاء رب السلم عن المسلم فيه كان باطلًا؛ لأنه بمنزلة بيع المبيع قبل القبض، وإن قبضه المسلم إليه ثم قضاه صح وقد وقع في بعض النسخ.
وهذا بمنزلة ما إذا اشترى رب السلم من المسلم إليه كر حنطة بمتاع فقضاه إياه قبل القبض، وهذا وقع غلطًا؛ لأن المسلم فيه على المسلم إليه لرب السلم أيضًا، وما على الإنسان لا يتصور اقتضاؤه بما عليه حتى يكون الفساد بعلة استبدال المبيع قبل القبض، والصحيح ما وقع في عامة النسخ ولو لم يهلك الكر الذي قبضه رب السلم ولم يطحنه ولكن تعيب عنده، فإن شاء المسلم إليه قبضه ولا شيء له، وإن شاء تركه وضمنه حنطة؛ لأنه مضمون على رب السلم بحكم القضاء الفاسد، وهذا الضمان مثل ضمان الغصب.
والجواب في الحنطة المغصوبة إذا تعيبت أن المغصوب منه بالخيار إن شاء ضمنه مثله، وإن شاء أخذه، ولا شيء له إذ الجودة لا قيمة لها بانفرادها في أموال الربا فهاهنا كذلك، فإن ضمنه مثله فجعلاه قصاصًا من السلم لم يجز إلا أن يقبضه المسلم إليه ثم يعطيه بالسلم؛ لأن حق المسلم إليه انتقل إلى كر مثله في الذمة بالتضمين بالمثل كما في الاستهلاك، وهناك الجواب ما قلنا فهاهنا كذلك.
فإن اختار أخذ الكر فلم يأخذه حتى اصطلحا على أن يكون قصاصًا بكر السلم جاز؛ لأن ما مضى من القبض، إن فسد فحالة المقاصة القبض قائم والقبض مستدام وما يكون مستدامًا كان لدوامه حكم الإنشاء، فصار كأن المسلم إليه قبضه ثم سلمه إلى رب السلم عن كر السلم بعد ما دخله عيب ولو كان كذلك كان جائزًا.
فإن اشترى ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن بعد تعيب المبيع صحيح على ما بينا قبل هذا، فإن رضي أحدهما أن يكون قصاصًا، وأبى الآخر لم يكن قصاصًا إلا بتراضيهما، وهذا لا يشكل في حق رب السلم؛ لأن حقه في الجيد فلا يلزمه المعيب إلا برضاه، إنما يشكل في حق المسلم إليه؛ لأن حق رب السلم قبله في الجيد، فإذًا يجوز بالمعيب ينبغي أن يجوز، ألا ترى أن هذا الكر المعيب لو قبضه المسلم إليه ثم قبضه رب السلم بحقه من غير رضا المسلم إليه صح، ولكن الوجه في هذا أن يقال بأن حق المسلم إليه ثابت في الجودة، ولهذا كان له أن يترك هذا الكر المعيب فإذا آل الأمر إلى أن يسلم له لم يكن راضيًا بسقوط حقه عن الجودة، ومع بقاء حقه في الجودة لا تقع المقاصة إلا برضاه.
بخلاف ما إذا قبضه المسلم إليه ثم أخذ منه رب السلم بحقه حيث يصير قصاصًا من غير رضا المسلم إليه؛ لأن هناك الكر المعيب سلم له؛ لأن السلامة بالوصول وقد وصل إليه، أما دوام الوصول ليس بشرط، فلهذا افترقا.
لم يذكر في (الكتاب) ما لو اصطلحا على المقاصة قبل أن يختار المسلم إليه شيئًا قالوا ويجب أن يجوز؛ لأن اصطلاحهما على المقاصة لا تصح إلا بعد أن يختار المسلم إليه أخذ الكر، فيتضمن ذلك اختيار الكر سابقًا على المقاصة.
ثم إن محمدًا رحمه الله أعاد مسألة الأول الباب فقال: لو أن المسلم إليه اشترى من رب السلم كر بمئتي درهم إلى أجل فقبضه، ولم يدفع الثمن حتى حل السلم، ثم إن رب السلم غصب الكر الذي اشتراه المسلم إليه فجعله قصاصًا بكر السلم لا يكون قصاصًا؛ لأنهما لو تراضيا على هذه المقاصة لا يكون قصاصًا لما مر في أول الباب، فإذا رضي به أحدهما وأبى الآخر أولى.
ولو غصبه من المسلم إليه رجل أجنبي فأحالة المسلم إليه رب السلم على الغاصب ليعطيه ذلك من طعام السلم لا يجوز، وكذلك لو أودعه عند رجل ثم أحال رب السلم به لم يجز، لأن المحتال عليه يقتضي بأمر المسلم إليه بأمره لا يجوز فكذا إذا قضاه غيره بأمره قال: إلا إذا أصابه عيب فحينئذ يصح اقتضاؤه من المحتال عليه كما يصح من المسلم إليه.
غير أن بين مسألة الغصب وبين مسألة الوديعة فرقًا من وجه: أن في مسألة الغصب لو هلك الكر عند المحتال عليه ما تعيب حتى صحت الحوالة، وفي مسألة الوديعة تبطل، وإنما جاء الفرق باعتبار أن مسألة الغصب ما يتعلق به الحوالة هلك صورةً لا معنى؛ لأن مثله قد وجب فبقيت الحوالة ببقاء مثله، أما في مسألة الوديعة ما تعلق به الحوالة هلك صورةً ومعنىً، لأنها هلكت أمانة فلهذا افترقا.
ولو كان الغاصب استهلك الكر قبل أن يحدث عيب، ثم إن المسلم إليه أحال رب السلم بكرّه على الغاصب ليعطيه من الكر الذي له في ذمته كان جائزًا؛ لأنه ملك الكر في ذمته بسبب الغصب، وهو بدل عن الطعام المبيع، فلم يكن في قضاء طعام السلم به بيع ما اشترى بأقل مما اشترى.
وإن كانت الحوالة قبل هلاك الكر قد بينا أنها باطلة، فإن هلكت ووجب مثلها لم تعد الحوالة جائزة؛ لأنها وقت وقوعها وقعت باطلة والحوالة متى وقعت باطلة لا تعود جائزة إلا بالتجديد ولو كان رب السلم أخذ الكر المبيع قضاء من طعام السلم مع أنه لا يجوز فحدث به عيب في يده، فلم يسترده المسلم إليه ولم يجعلاه قصاصًا حتى طحنه رب السلم، ثم اصطلحا على أن يجعلاه قصاصًا لم يكن لهما ذلك.
فرق بين هذا وبينما إذا جعلاه قصاصًا بعد العيب قبل الطحن يجوز، والفرق: هو أن بالقبض الأول لم يقع الاستيفاء في الوجهين جميعًا، غير أن الوجه الأول: القبض القائم لا يصلح لاستيفاء الحنطة بالدقيق، لا يكون إلا بطريق الاستبدال، وإنه لا يجوز، أما في الفصل الثاني القبض القائم صالح للاستيفاء؛ لأن الحنطة قائمة بعينها فجاز أن تقع المقاصة إذا جعلاه قصاصًا والله أعلم.
روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف: رجل أسلم إلى رجل مئة درهم في طعام أو غيره سلمًا فاسدًا وقبض المسلم إليه المئة، ثم علما أن السلم فاسد فأرادا أن يصححاه في ذلك المجلس أو بعدما افترقا، قال أبو يوسف: إن كانت المئة قائمة بعينها في يد المسلم إليه فلهما ذلك.
رجل قال لآخر: بعني كر طعام وسط على أن توفيه إلى شهر في موضع، كذا بمئة درهم ودفع إليه مئة قال أبو يوسف: هو سلم صحيح.
بشر في (الإملاء) عن أبي يوسف: إذا أسلم دينًا له على رجل في سلم ثم علم أنه لا يجوز فجعل له رأس المال، ودفعه إليه قبل أن يفترقا جاز له استحسانًا.
قال: إذا اشترى الطعام بالعبد، وهو الثمن وللطعام أجل وموضع يوفيه فيه وكيل معلوم وضرب معلوم فهو سلم إن سماه سلمًا أو كنى عن اسمه، فإن افترقا قبل أن يقبض العبد انتقض.
ذكر أبو سليمان عن أبي يوسف في (الإملاء): رجل أرسل غلامه يجلب عليه ثيابًا ليشتري لرجل ثوبًا فنادى الغلام في السوق من معه ثوب كذا بكذا، فقال رجل: أنا، فقال الغلام: هاته فأعطاه إياه، فإن هذا قد أخذه على سوم وهو ضمان للثمن الذي سماه، فإن أراد الغلام أن يرجع على الذي أرسله (فقال الذي أرسله:) لم آمرك أن تقبض الثوب، وإنما أمرتك أن تجلب علي مع غلمان القوم، فلا ضمان عليه بعد أن يجلب أنه لم يأمره بالمساومة وقبض الثوب، ولو أقر بذلك ضمنه إذا أقر بقبض الغلام، وإن لم يقر بقبضه فلا ضمان عليه، وإن كان الغلام صغيرًا، وقد أذن له الأب في البيع والشراء فهو ضامن عليه من قبل أن رب الثوب سلطه على القبض، وليس يجوز مساومته، ولو أن الغلام حين نادى من معه ثوب كذا بكذا، وقال رجل: أنا قال الغلام: إليّ أريده لفلان، فقال ذلك الرجل: خذه واذهب به، فضاع فلا ضمان عليه هذا رسول من رب الثوب إلى الآمر بالجلب.
ولو دفع إلى الآمر في هذه الصورة وضاع من يد الآمر لم يضمن الآمر؛ لأنه لم يقع في يده على سبيل المساومة.
ولو أن رجلًا أرسل رسولًا إلى بزاز أن ابعث إليّ ثوب كذا وكذا فبعث إليه البزاز مع رسوله أو مع غيره وضاع الثوب قبل أن يصل إلى الآمر فلا ضمان على الرسول، فبعد ذلك ينظر إن كان الذي ضاع منه الثوب رسول الآمر فالآمر ضامن؛ لأن رسوله قبض الثوب على سبيل المساومة وقبض رسوله كقبضه، وإن كان رسول رب الثوب، فلا ضمان على الآمر إلا إذا وصل الثوب إليه فحينئذ يضمنه.
ولو أن (رجلًا) بعث بكتاب إلى رجل مع رسول أن ابعث إليَّ ثوب كذا ففعل، وبعث به مع الذي أتاه بالكتاب ولم يكن يسأل الآمر حتى يصل إليه، إنما الرسول في الكتاب وليس كقوله انطلق فتقاضى انطلق فخذ كذا، ولو بعث رسولًا يجلب عليه ثيابًا فقال الرسول: من معه ثوب كذا بكذا فقال رجل: أنا، فقال صاحب الثوب: علي، فقال الرسول: على أستاذي أو على فلان ولم يقل استاذي أو قال: من يريده فقال: فلان فقال: هاك فأخذه فلا ضمان على الرسول ولا على الآمر إن ضاع في يد الرسول، وإن وصل إلى الآمر فضاع من عنده فهو الضامن المساوم؛ لأن الذي أرسل لا ضمان على الرسول والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.