فصل: ذكر حدود مصر وجهاتها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 ذكر محل مصر من الأرض وموضعها من الأقاليم السبعة

وإذ يسر الله سبحانه بذكر جمل أحوال الأرض ومعرفة ما في كل إقليم من أقاليم الأرض فلنذكر محل مصر من ذلك فنقول‏:‏ ديار مصر بعضها واقع في الإقليم الثاني وبعضها واقع في الإقليم الثالث فما كان منها في الصعيد الأعلى كقوص واخميم وأسنى وأنصنا وأسوان فإنَّ ذلك واقع في أقسام الإقليم الثاني وما كان من ديار مصر في جهة الشمال من أنصنا وهو الصعيد الأدنى من أسيوط إلى فسطاط مصر والفيوم والقاهرة والإسكندرية والفرما وتنيس ودمياط فإن ذلك من أقسام الإقليم الثالث وطول مدينة مصر الفسطاط والقاهرة وهو بعدهما من أوّل العمارة في جهة المغرب‏:‏ خمس وخمسون درجة والعرض وهو البعد من خط الاستواء ثلاثون درجة وطول النهار الأطول أربع عشرة ساعة وغاية ارتفاع الشمس في الفلك بها ثلاث وثمانون درجة وثلث وربع درجة وفسطاط مصر مع القاهرة من مكة شرّفها اللّه تعالى واقعان في الربع الجنوبي الشرقيّ والصعيد الأعلى أشدٌ تشريقًا لبعده عن مدينة الفسطاط بأيام عديدة في جهة الجنوب فيكون على ذلك مقابلًا لمكة من غربيها ومصر لا يتوصل إليها إلا من مفازة ففي شرقيها بحر القلزم من وراء الجبل الشرقي وفي غربيها صحراء المغرب وفي جنوبها مفازة النوبة والحبشة وفي شمالها البحر الشامي والرمال التي فيها بين بحر الروم وبحر القلزم وبين مصر وبغداد على ما ذكره ابن خرداذبه في كتاب الممالك والمسالك‏:‏ ألف وسبعمائة وعشرة أميال يكون خمسمائة وسبعين فرسخًا ومائة وبضعًا وأربعين بريدًا وبين مصر والشام أعني دمشق‏:‏ ثلاثمائة وخمسة وستون ميلًا تكون من الفراسخ مائة وإحدى وعشرين فرسخًا وثلثي فرسخ عنها ثلاثون بريدًا وكسر‏.‏

وقال ابن خرداذبه‏:‏ أرض الحبشة والسودان مسيرة سبع سنين وأرض مصر جزءًا واحد من ستين جزءًا من أرض السودان وأرض السودان جزء واحد من الأرض كلها‏.‏

وفي كتاب هردوشيش‏:‏ بلد مصر الأدنى شرقه فلسطين وغربه أرض ليبية وأرض مصر الأعلى تمتدّ إلى ناحية الشوق وحده في الشمال خليج الغرب وفي الجنوب البحر المحيط وفي الغرب مصر الأدنى وفي الشرق بحر القلزم وفيه من الأجناس ثمانية وعشرون جنسًا‏.‏

 ذكر حدود مصر وجهاتها

اعلم أن التحديد هو صفة المحدود على ما هو عليه والحدّ هو نهاية الشيء والحدود تكثر وتقل بحسب المحدود والجهات التي تحدّ بها المساكن‏.‏

والبقاع أربع جهات وهي‏:‏ جهة الشمال‏:‏ التي هي إشارة إلى موضع قطب الفلك الشماليّ المعروف من كواكبه الجدي والفرقدان ويقابل جهة الشمال الجهة الجنوبية والجنوب عبارة‏:‏ عن موضع قطب الفلك الجنوبيّ الذي يقرب منه سهيل وما يتبعه من كواكب السفينة والجهة الثالثة‏:‏ جهة المشرق وهو مشرق الشمس في الاعتدالين اللذين هما رأس الحمل أوّل فصل الربيع ورأس الميزان أوّل فصل الخريف والجهة الرابعة‏:‏ جهة المغرب وهو مغرب الشمس في الاعتدالين المذكورين فهذه الجهات الأربع ثابتة بثبوت الفلك غير متغيرة بتغير الأوقات وبها تحدّ الأراضي ونحوها من المساكن وبها يهتدي الناس في أسفارهم وبها يستخرجون سمت محاريبهم‏.‏

فالمشرق والمغرب معروفان والشمال والجنوب جهتان مقاطعتان لجهتي المشرق والمغرب على تربيع الفلك فالخط المار بنقطتي الشمال والجنوب يُسمى‏:‏ خط نصف النهار وهو مقاطع للخط المار بنقطتي المشرق والمغرب المُسمى‏:‏ بخط الاستواء على زوايا قائمة وأبعاد ما بين هذين الخطين متساوية فالمستقبل للجنوب يكون أبدًا مستدبرًا للشمال ويصير المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره وهذه الجهات الأربع هي التي يُنسب إليها ما يحد من البلاد والأراضي والدور إلا أن أهل مصر يستعملون في تحديدهم بدلًا من الجهة الجنوبية لفظة القبلية فيقولون الحدّ القبليّ ينتهي إلى كذا ولا يقولون الحدّ الجنوبيّ وكذلك يقولون الحدّ البحريّ ينتهي إلى كذا ويريدون بالبحريّ الحدّ الشماليّ وقد يقع في هاتين الجهتين الغلط في بعض البلاد وذلك أن البلاد التي توافق عروضها عرض مكة إذا كانت أطوالها أقل من طول مكة فإن القبلة تكون في هذه البلاد نفس الشرق بخلاف التي توافق عروضها عرض مكة إلا أن أطوالها أطول من طول مكة فإنَّ القبلة في هذه البلاد تكون نفس الغرب فمن حدّد في شيء من هذه البلاد أرضًا أو مسكنًا بحدود أربعة فإنه يصير حدّان منها حدًّا واحدًا وكذلك جهة البحر لما جعلوها قبالة جهة القبلة وحدّدوا ما بينهما من الأراضي والدور بما يسامتها منه فإنهم أيضًا ربما غلطوا وذلك أن القبلة والبحر يكونان في بعض البلاد في جهة واحدة فإذا عرفت ذلك فاعلم أن أرض مصر‏:‏ لها حدّ يأخذ من بحر الروم ومن الإسكندرية وزعم قوم من برقة في البرّ حتى ينتهي إلى ظهر الواحات ويمتدّ إلى بلد النوبة ثم يعطف على حدود النوبة في حد أسوان على حدّ أرض السبخة في قبليّ أسوان حتى ينتهي إلى بحر القلزم ثم يمتدّ على بحر القلزم ويجاوز القلزم إلى طور سينا ويعطف على تيه بني إسرائيل مارًا إلى بحر الروم في الجفار خلف العريش ورفح ويرجع إلى الساحل مارًا على بحر الروم إلى الإسكندرية ويتصل بالحدّ الذي قدمت ذكره من نوحي برقة‏.‏

وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في رسالته المصرية‏:‏ أرض مصر بأسرها واقعة في المعمورة في قسمي الإقليم الثاني والإقليم الثالث ومعظمها في الثالث وحكى المعتنون بأخبارها وتواريخها أنَّ حدها في الطول من مدينة برقة التي في جنوب البحر الرومي إلى أيلة من ساحل الخليج الخارج من بحر الحبشة والزيج والهند والصين ومسافة ذلك قريب من أربعين يومًا وحدها في العرض من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى المتآخم لأرض النوبة إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الروميّ ومسافة ذلك قريب من ثلاثين يومًا ويكتنفها في العرض إلى منتهاها جبلان أحدهما في الضفة الشرقية من النيل وهو المقطم والآخر في الضفة الغربية منه والنيل متسرب فيما بينهما وهما جبلان أجردان غير شامخين يتقاربان جدًا في وضعهما من لدن أسوان إلى أن ينتهيا إلى الفسطاط ثم يتسع ما بينهما وينفرج قليلًا ويأخذ المقطم منهما مشرّقًا والآخر مُغرّبًا على وراب في مأخذيهما وتفريج في مسلكيهما فتتسع أرض مصر من الفسطاط إلى ساحل البحر الرومي الذي عليه الفرماء وتنيس ودمياط ورشيد والإسكندرية فهناك تتقطع في عرضها الذي هو مسافة ما بين أوغلها في الجنوب وأوغلها في الشمال وإذا نظرنا بالطريق البرهانية في مقدار هذه المسافة من الأميال لم تبلغ ثلاثين ميلًا بل تنقص عنها نقصانًا ما له قدر وذلك لأن فضل ما بين عرض مدينة أسوان التي هي أوغلها في الجنوب وعرض مدينة تنيس التي هي أوغلها في الشمال تسعة أجزاء ونحو سدس جزء وليس بين طوليها فضل له قدر يعتدّ به وينوب ذلك نحو خمسمائة وعشرين ميلًا بالتقريب وذلك مسافة عشرين يومًا أو قريب منها وفي هذه المدة من الزمان تقطع السفار ما بين البلدين بالسير المعتدل أو كثر من ذلك لما في الطريق من التعويج وعدم الاستقامة‏.‏

وقال القضاعي‏:‏ الذي يقع عليه اسم مصر من العريش إلى آخر لوبية ومراقيه وفي آخر أرض مراقيه تلقى أرض انطابلس وهي برقة ومن العريش فصاعدًا يكون ذلك مسيرة أربعين ليلة وهو ساحل كله على البحر الرومي وهو بحريّ أرض مصر وهو مهب الشمال منها إلى القبلة شيئًا ما فإذا بلغت آخر أرض مراقيه عدّت ذات الشمال واستقبلت الجنوب وتسير في الرمل وأنت متوجه إلى القبلة يكون الرمل من مصبه عن يمينك إلى إفريقية وعن يسارك من أرض مصر إلى أرض الفيوم منها وأرض الواحات الأربعة فذلك غربيّ مصر وهو ما استقبلته منه ثم تعوج من آخر أرض الواحات وتستقبل المشرق سائرًا إلى النيل تسير ثماني مراحل إلى النيل ثم على النيل فصاعدًا وهي آخر أرض الإسلام هناك ويليها بلاد النوبة ثم ينقطع النيل فتأخذ من أسوان في المشرق منكبًا عن بلد أسوان إلى عيداب ساحل البحر الحجازي فمن أسوان إلى عيداب خمس عشرة مرحلة وذلك كله قبليّ أرض مصر ومهب الجنوب منها ثم ينقطع البحر الملح من عيداب إلى أرض الحجاز فينزل الحوراء أوّل أرض مصر وهي متصلة بأعراض مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا البحر المحدود‏:‏ هو بحر القلزم وهو داخل في أرض مصر بشرقيه وغربيه وبحريه فالشرقيّ منه أرض الحوراء وطنسه والنبك وأرض مدين وأرض أيلة فصاعدًا إلى المقطم بمصر والغربيّ منه ساحل عيداب إلى بحر النعام إلى المقطم والبحريّ منه مدينة القلزم وجبل الطور ومن القلزم إلى الفرماء مسيرة يوم وليلة وهو الحاجز فيما بين البحرين طحر الحجاز وبحر الروم وهذا كله شرقيّ أرض مصر من الحوراء إلى العريش وهو مهب الصبا منها فهذا المحدود من أرض مصر وما كان بعد هذا من الحدّ الغربيّ فمن فتوح أهل مصر وثغورهم من البرقة إلى الأندلس‏.‏

 ذكر بحر القلزم

القلازم‏:‏ الدواهي والمضايقة ومنه بحر القلزم لأنه مضيق بين جبال ولما كانت أرض مصر منحصرة بين بحرين هما بحر القلزم من شرقيها وبحر الروم من شماليها وكان بحر القلزم داخلًا في أرض مصر كما تقدّم صار من شرط هذا الكتاب التعريف به‏.‏

فنقول‏:‏ هذا البحر إنما عرف في ناحية ديار مصر‏:‏ بالقلزم لأنه كان بساحله الغربيّ في شرقيّ أرض مصر مدينة تسمى‏:‏ القلزم وقد خربت كما ستقف عليه إن شاء اللّه تعالى في موضعه من هذا الكتاب عند ذكرى قرى مصر ومدنها فسُمى هذا البحر باسم تلك المدينة وقيل له‏:‏ بحر القلزم على الإضافة ويقال له بالعبرانية‏:‏ ثم تسوب وهذا البحر إنما هو خليج يخرج من البحر الكبير المحيط بالأرض الذي يقال له‏:‏ بحر اقيانس ويعرف أيضًا‏:‏ ببحر الظلمات لتكاثف البخار المتصاعد منه وضعف الشمس عن حله فيغلظ وتشتدّ الظلمة ويعظم موج هذا البحر وتكثر أهواله ولم يوقف من خبره إلا على ما عرف من بعض سواحله وما قرب من جزائره وفي جانب هذا البحر الغربيّ الذي يخرج منه البحر الرومي الآتي ذكره إن شاء الله‏.‏

الجزائر الخالدات وهي فيما يقال‏:‏ ست جزائر يسكنها قوم متوحشون وفي جانب هذا البحر الشرقيّ مما يلي الصين ست جزائر أيضًا تعرف‏:‏ بجزائر السبلي نزلها بعض العلويين في أوّل الإسلام خوفًا على أنفسهم من القتل ويخرج من هذا المحيط ستة أبحر أعظمها اثنان‏:‏ وهما اللذان عناهما اللّه تعالى بقوله‏:‏ ‏"‏ مرج البحرين يلتقيان ‏"‏ الرحمن 19 وقوله‏:‏ ‏"‏ وجعل بين البحرين حاجزًا ‏"‏ النمل 61 فأحدهما‏:‏ من جهة الشرق والآخر‏:‏ من جهة الغرب‏.‏

فالخارج من جهة الشرق يقال له‏:‏ البحر الصينيّ والبحر الهنديّ والبحر الفارسيّ والبحر اليمنيّ والبحر الحبشيّ بحسب ما يمرّ عليه من البلدان‏.‏

وأما الخارج من الغرب فيقال له‏:‏ البحر الروميّ‏.‏

فأما البحر الهنديّ الخارج من جهة الشرق فإن مبدأ خروجه من مشرق الصين وراء خط الاستواء بثلاثة عشر درجة ويجري إلى ناحية الغرب فيمرّ على بلاد الصين وبلاد الهند إلى مدينة كنبانة وإلى التبير من بلاد كمران فإذا صار إلى بلاد كمران ينقسم هناك قسمين‏:‏ أحدهما يسمى‏:‏ بحر فارس والآخر يُسمى‏:‏ بحر اليمن فيخرج بحر اليمن من ركن جبل خارج في البر يُسمى هذا الركن‏:‏ رأس الجمجمة فيمتد من هناك إلى مدينة ظفار ويسير إلى المسجر وساحل بلاد حضرموت إلى عدن وإلى باب المندب وطول هذا البحر الهنديّ ثمانية آلاف ميل في عرض ألف وسبعمائة ميل عند بعض المواضع وربما ضاق عن هذا القدر من العرض فإذا انتهى إلى باب المندب يخرج إلى بحر القلزم والمندب جبل طوله اثنا عشر ميلًا وسعة فوهته قدر ما يرى الرجل الآخر من البرّ تجاهه فإذا فارق باب المندب مرّ في جهة الشمال بساحلي زبيد والحرون إلى عثر وكانت عثر مقر الملك في القديم ويمرّ من هناك على حلى إلى عسفان وأنمار وهي فرضة المدينة النبوية على الحال بها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام ومنها على ما يقابل الجحفة حيث يسمى اليوم رابغ إلى الحوراء ومدين وأيلة والطور وفاران ومدينة القلزم فإذا وصل إلى القلزم انعطف من جهة الجنوب ومرّ إلى القصير وهي فرضة قوص ومن القصير إلى عيداب وهي فرضة البجه ويمتدّ من عيداب إلى بلد الزيلع وهو ساحل بلاد الحبشة ويتصل ببربر وطول هذا البحر ألف وخمسمائة ميل وعرضه من أربعمائة ميل إلى ما دونها وهو بحر كريه المنظر والرائحة وفي هذا البحر مصب دجلة والفرات وعلى أطرافه بلاد السند وبلاد اليمن كأنها جزائر أحاط بها الماء من جهاتها الثلاث وهو‏:‏ يردع نهر مهران كردع البحر الرومي لنيل مصر وفيه فيما بين مدينة القلزم ومدينة أيلة مكان يعرف‏:‏ بمدينة قاران وعندها جبل لا يكاد ينجو منه مركب لشدّة اختلاف الريح وقوّة ممرّها من بين شعبتي جبلين وهي بركة سعتها ستة أميال تعرف‏:‏ ببركة الغرندل يقال‏:‏ إن فرعون غرق فيها فإذا هبت ريح الجنوب لا يمكن سلوك هذه البركة ويُقال‏:‏ إن الغرندل اسم صنم كان في القديم هناك قد وضع ليحبس من خرج من أرض مصر مغاضبًا للملك أو فارًا منه وأنَّ موسى عليه السلام لما خرج ببني إسرائيل من مصر وسمار بهم مشرِقًا أمره اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ أن ينزل تجاه هذا الصنم فلما بلغ ذلك فرعون ظنّ أنَّ الصنم قد حبس موسى ومن معه ومنعهم من المسير كما يعهدونه منه فخرج بجنوده في طلب موسى وقومه ليأخذهم بزعمه فكان من غرقه ما قصه اللّه تعالى وسيرد خبر موسى عليه السلام عند ذكر كنيسة دموة من هذا الكتاب في ذكر كنائس اليهود‏.‏

وفي بحر القلزم هذا خمس عشرة جزيرة منها‏:‏ أربع عامرات وهي‏:‏ جزيرة دهلك وجزيرة سواكن وجزيرة النعمان وجزيرة السامريّ ويخرج من هذا البحر خلجان‏:‏ خليج لطيف ببلاد الهند المتصلة بالبحر الأعظم وخليج يحول بين بلاد السودان وبلاد اليمن عرض دقاقه نحو من فرسخين ويقرب هذا البحر من البحر الرومي في أعمال بلاد الشام وديار مصر حتى يكون بينهما نحو يوم‏.‏

ذكر البحر الرومي ولما كانت عدة بلاد من أرض مصر مطلة على البحر الرومي كمدينة الإسكندرية ودمياط وتنيس والفرماء والعريش وغير ذلك وكان حد أرض مصر ينتهي في الجهة الشمالية إلى هذا البحر وهو نهاية مصب النيل حسن التعريف بشيء من أخباره وقد تقدّم أن مخرج البحر الرومي هذا من جهة الغرب وهو يخرج في الإقليم الرابع بين الأندلس والغرب سائرًا إلى القسطنطينية ويقال‏:‏ إن إسكندر الجبار حفره وأجراه من البحر المحيط الغربيّ وأن جزيرة الأندلس وبلاد البربر كانت أرضًا واحدة يسكنها البربر والأشبان فكان بعضهم يغير على بعض إلى أن ملك إسكندر الجباربن سلقوس بن اعريقس بن دوبان فرغب إليه الأشبان في أن يجعل بينهم وبين البربر خليجًا من البحر يمكن به احتراز كل طائفة عن الأخرى فحفر زقاقًا طوله ثمانية عشر ميلًا في عرض اثني عشر ميلًا وبنى بجانبيه سكرين وعقد بينهما قنطرة يجاز عليها وجعل عندها حرسًا يمنعون البربر من الجواز عليها إلا بإذن وكان قاموس البحر أعلى من أرض هذا الزقاق فطما الماء حتى غطى السكرين مع القنطرة وساق بين يديه بلادًا كثيرة وطغى على عدّة بلاد ويقال‏:‏ إن المسافرين في هذا الزقاق بالبحر يخبرون أن المراكب في بعض الأوقات يتوقف سيرها مع وجود الريح فيجدون المانع لها كونها قد سلكت بين شرافات السور وبين حائطين ثم عظم هذا الزقاق في الطول والعرض حتى صار بحرًا عرضه ثمانية عشر ميلًا ويذكرون أن البحر إذا جزر ترى القنطرة حينئذ وهذا الخبر أظنه غير صحيح فإن أخبار هذا البحر وكونه بسواحل مصر لم يزل ذكره في الدهر الأوّل قبل إسكندر بزمان طويل فإما أن يكون ذلك قد كان في أوّل الدهر مما عمله بعض الأوائل وإما أن يكون خبرًا واهيًا وإلا فزمان إسكندر حادث وهذا الزقاق صعب السلوك شديد الهول متلاطم الأمواج وإذا خرج البحر من هذا الزقاق مرّ مُشرقًا في بلاد البربر وشمال الغرب الأقصى إلى وسط بلاد المغرب على إفريقية وبرقة والإسكندرية وشمال التيه وأرض فلسطين والسواحل من بلاد الشام ثم يعطف من هناك إلى العلايا وأنطاكية إلى ظهر بلاد القسطنطينية حتى ينتهي إلى البحر المحيط الذي خرج منه وطول هذا البحر خمسة آلاف ميل وقيل‏:‏ ستة آلاف ميل وعرضه من سبعمائة ميل إلى ثلاثمائة ميل وفيه مائة وسبعون جزيرة عامرة فيها أمم كثيرة معروفة إلا أنه ليس من شرط هذا الكتاب منها صقلية وصورقة وأقريطش وقبالة البحر الهنديّ من جهة المغرب بحر خارج من المحيط في مغرب بلاد الزنج ينتهي إلى قريب من جبل القمر وفيه مصب النيل المار على بلاد الحبشة وفي أسفله جزائر الخالدات التي هي منتهى الطول في المغرب ويقابل البحر الشاميّ من نحية المشرق بحر جرجان وقيل‏:‏ إنه يتصل بالبحر المحيط من بين جبال شامخة وبحر الصقلب بحر يخرج من جهة المغرب بين الإقليم السادس والإقليم السابع وهو متسع وفيه جزائر كثيرة ومنها جزيرة الأندلس إلا أنها تتصل بالبرّ الكبير وهو جبل كالذراع يتصل بهذا البرّ عند برشلونة ولهم بحر يُعرف يأجوج ومأجوج غزير وفيه عجائب إلا أنه ليس من شرط هذا الكتاب ذكرها ويقال‏:‏ إن مسافة هذا البحر الروميّ نحو أربعة أشهر‏.‏

وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيرونيّ في كتاب تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن‏:‏ وقد كان حرّض بعض ملوك الفرس في بعض استيلائهم على مصر على أن يحفروا ما بين البحرين القلزم والروميّ ويرفعوا من بينهما البرزخ وكان أوّلهم شاسيس بن طراطس الملك ثم من بعده دارنوش الملك فلم يتمكن لهم ذلك لارتفاع ماء القلزم على أرض مصر‏.‏

فلما كانت دولة اليونانيين‏:‏ جاء بطليموس الثالث ففعل ذلك على يد أرسمدس بحيث يحصل الغرض بلا ضرر‏.‏

فلما كانت دولة الروم القياصرة طموه منعًا لمن يصل إليهم من أعدائهم وذكر بعض أصحاب السير من الفلاسفة أن ما بين الإسكندرية وبلادها وبين القسطنطينية كان في قديم الزمان أرضًا تنبت الجميز وكانت مسكونة وخمة وكان أهلها من اليونانية وأن الإسكندر خرق إليها البحر فغلب على تلك الأرض وكان بها فيما يزعمون‏:‏ الطائر الذي يُقال له قفنس وهو طائر حسن الصوت وإذا حان موته زاد حسن صوته قبل ذلك بسبعة أيام حتى لا يمكن أحد يسمع صوته لأنه يغلب على قلبه من حسن صوته ما يميت السامع وأنه يدركه قبل موته بأيام طرب عظيم وسرور فلا يهدأ من الصياح وزعموا أن عامل الموسيقى من الفلاسفة أراد أن يسمع صوت قفنس في تلك الحال فخشي إن هجم عليه أن يقتله حسن صوته فسدّ أذنيه سدًّا محكمًا ثم قرب إليه فجعل يفتح من أذنيه شيئًا بعد شيء حتى استكمل فتح الأذنين في ثلاثة أيام يريد أن يتوصل إلى سماعه رتبة بعد رتبة فلا يبغته حسنه في أوّل مرّة فيأتي عليه وزعموا‏:‏ أن ذلك الطائر هلك ولم يبق منه ولا من فراخه شيء بسبب هجوم ماء البحر عليه وعلى رهطه بالليل في الأوكار فلم يبق له بقية ويقال‏:‏ إن بعض الفلاسفة أراد ملك من الملوك قتله فأعطاه قدحًا فيه سمّ ليشربه فأعلمه بذلك فظهر منه مسرّة وفرح فقال له‏:‏ ما هذا أيها الحكيم فقال‏:‏ هل أعجز أن أكون مثل قفنس‏.‏