فصل: ذكر الحصن المعروف بقصر الشمع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


وقال القضاعي‏:‏

 ذكر الحصن المعروف بقصر الشمع

يقال‏:‏ إن فارس لما ظهرت على الروم وملكت عليهم الشام وملكت مصر بدأت ببناء هذا القصر وبنت فيه هيكلًا لبيت النار ولم يتم بناؤه على أيديهم إلى أن ظهرت الروم عليهم فتممت بناءه وحصنته ولم تزل فيه إلى حين الفتح وهيكل الناس هو القبة المعروفة اليوم بقبة الدخان وبحضرتها مسجد معلق أحدثه وقال أبو عبيد البكري‏:‏ باب اليون بمصر إن كان عربيًا فإنه مثل يوم ويوح مما فاؤه ياء وعينه واو وقد يجوز أن يكون فعلًا من بين وهو اسم موضع على مذهب أبي الحسن في فعل من البيع بوع قال‏:‏ وليست الألف واللام فيه للتعريف فعلى هذا يجب أن تثبت في الرسم وقال أبو صخر‏:‏ وحلوا تهامي أرضنا وتبدلوا بمكة باب اليون والربط بالعصب والرواية في شعر كثير عزة في قوله‏:‏ جرى بين باب اليون والعصب دونه رياح أشفت بانقي وأشمت بالباء وبفتح النون غير مجرور للعجمة على أن همزته مقطوعة وصلها للضرورة‏.‏

وقال الحازمي‏:‏ باب البون بالباء اسم مدينة مصر فتحها المسلمون وسموها الفسطاط وقال عبد الملك بن هشام بابليون المنسوب إليه مصر هو‏:‏ بابليون بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان وأن من ولده عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن سبا وهو الملك على مصر لما قدم إليها إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه والقبط تسمي عمرًا هذا‏:‏ طوطيس ومن ولده حلوان بن بابليون بن عمرو بن امرئ القيس وبه سميت حلوان‏.‏

وقال القاضي القضاعي‏:‏ في ظاهر الفسطاط القصر المعروف بباب ليون بالشرف ليون اسم بلد مصر بلغة السودان والروم وقد بقيت من بنائه بقية مبنية بالحجارة على طرف الجبل بالشرف وعليه اليوم مسجد‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فهذا كما ترى صريح في أن قصر باب اليون غير قصر الشمع فإن قصر الشمع في داخل الفسطاط وقصر باب اليون هذا عند القضاعي على الجبل المعروف بالشرف والشرف خارج الفسطاط وهو خلاف ما قاله ابن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر والله أعلم‏:‏ ويقال‏:‏ إن في زمن ناحور بن شاروع وهو الثامن عشر من آدم ملك مصر رجل اسمه‏:‏ أفطوطس مدة اثنتين وثلاثين سنة وأنه أول من أظهر علم الحساب والسحر وحمل كتب ذلك من بلاد الكلدانيين إلى مصر وفي ذلك الزمان بنيت بابليون على بحر النيل بمصر وذلك لتمام ثلاثة آلاف وثلثمائة وتسعين للعالم وقال ابن سعيد في كتاب المعرب‏:‏ وأما فسطاط مصر فإن مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني مدينة عين شمس وجاء الإسلام وبها بناء يعرف‏:‏ بالقصر حوله مساكن وعليه نزل عمرو بن العاص وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه وهذا وهم من ابن سعيد فإن فسطاط عمرو إنما كان مضروبًا عند درب حمام شموط بخط الجامع هكذا هو بخط الشريف محمد بن أسعد الجواني النسابة وهو أقعد بخطط مصر وأعرف من ابن سعيد وأما موضع الجامع فكان كرومًا وجنانًا وحاز موضعه قيسبة التجيبي ثم تصدق به على المسلمين فعمل المسجد وستقف على هذا إن شاء الله تعالى في ذكر جامع عمرو عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب‏.‏

وقال ابن المتوج‏:‏ خط قصر الشمع هذا الخط يعرف بقصر الشمع وفيه قصر الروم وفيه أزقة ودروب قال‏:‏ وكنيسة المعلقة بباب بمصر بباب القصر وهو قصر الروم‏.‏

وقال ابن عبد الحكم‏:‏ وأقر عمرو بن العاص القصر لم يقسمه ووقفه‏.‏

وقال أبو عمرو الكندي في كتاب الأمراء‏:‏ وقد ذكر علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب وطروق المسجد في إمارة يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة على مصر وورد كتاب أبي جعفر المنصور على يزيد بن حاتم يأمره بالتحول من العسكر إلى الفسطاط وأن يجعل الديوان في كنائس القصر وذلك في سنة ست وأربعين ومائة والله أعلم‏.‏

ذكر حصار المسلمين للقصر وفتح مصر اختلف الناس في فتح مصر فقال محمد بن إسحاق وأبو معشر ومحمد بن عمرو الواقدي ويزيد بن أبي حبيب وأبو عمرو الكندي‏:‏ فتحت سنة ست وعشرين وقيل‏:‏ سنة إحدى وعشرين وقيل‏:‏ سنة اثنتين وعشرين والأول أصح وأشهر‏.‏

قال ابن عبد الحكيم‏:‏ لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية قام إليه عمرو بن العاص فخلا به فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ائذن لي أن أسير إلى مصر وحرضه عليها وقال‏:‏ إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونًا لهم وهي أكثر الأرض أموالًا وأعجز عن القتال والحرب‏.‏

فتخوف عمر بن الخطاب وكره ذلك فلم يزل عمرو يعظم أمرها عند عمر بن الخطاب ويخبره بحالها ويهون عليه فتحها حتى ركن لذلك فعقد له على أربعة آلاف رجل كلهم من عك ويقال‏:‏ بل ثلاثة آلاف وخمسمائة وقال له عمر‏:‏ سر وأنا مستخير الله في مسيرك وسيأتيك كتابي سريعًا إن شاء الله تعالى فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئًا من أرضها فانصرف وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك فسار عمرو بن العاص من جوف الليل ولم يشعر به أحد من الناس واستخار عمر الله فكأنه تخوف على المسلمين في وجههم ذلك فكتب إلى عمرو بن العاص أن ينصرف بمن معه من المسلمين فأدرك عمرًا الكتاب إذ هو برفج فتخوف عمرو إن هو أخذ الكتاب وفتحه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر فلم يأخذ الكتاب من الرسول ودافعه وسار كما هو حتى نزل قرية فيما بين رفج والعريش فسأل عنها فقيل‏:‏ إنها من مصر فدعا بالكتاب فقرأه على المسلمين فقال عمرو لمن معه‏:‏ ألستم تعلمون أن هذه القرية من مصر قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ فإن أمير المؤمنين عهد إلي وأمرني إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر فسيروا وامضوا على بركة الله‏.‏

ويقال‏:‏ بل كان عمرو بفلسطين فتقدم عمرو بأصحابه إلى مصر بغير إذن فكتب فيه إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر وهو دون العريش فحبس الكتاب فلم يقرأه حتى بلغ العريش فقرأه فإذا فيه من عمر بن الخطاب إلى العاصي ابن العاصي‏:‏ أما بعد فإنك سرت إلى مصر ومن معك وبها جموع الروم وإنما معك نفر يسير ولعمري لو نكل بك ما سرت بهم فإن لم تكن بلغت مصر فارجع‏.‏

فقال عمرو‏:‏ الحمد لله أية أرض هذه قالوا‏:‏ من مصر فتقدم كما هو ويقال‏:‏ بل كان عمرو في جنده على قيسارية مع من كان بها من أجناد المسلمين وعمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ ذاك بالجابية فكتب سرًا فاستأذن أن يسير إلى مصر وأمر أصحابه فتنحوا كالقوم الذين يريدون أن يتنحوا من منزل إلى منزل قريب ثم سار بهم ليلًا فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذي فعل ورأوا أن قد غدر فرفعوا ذلك إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر إلى العاصي ابن العاصي‏:‏ أما بعد فإنك قد غررت بمن معك فإن أدركك كتابي ولم تدخل مصر فارجع وإن أدركك وقد دخلت فامض واعلم أني ممدك‏.‏

ويقال‏:‏ إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عمرو بن العاص بعدما فتح الشام‏:‏ أن اندب الناس إلى المسير معك إلى مصر فمن خف معك فسر به وبعث به مع شريك بن عبدة فندبهم عمرو فأسرعوا إلى الخروج مع عمرو ثم إن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على عمر بن الخطاب فقال عمر‏:‏ كتبت إلى عمرو بن العاص يسير إلى مصر من الشام فقال عثمان‏:‏ يا أمير المؤمنين إن عمر لجريء وفيه إقدام وحب للإمارة فأخشى أن يخرج في غير ثقة ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا فندم عمر على كتابه إلى عمرو وأشفق مما قال عثمان فكتب إليه‏:‏ إن أدركك كتابي قبل أن تدخل إلى مصر فارجع إلى موضعك وإن كنت دخلت فامض لوجهك‏.‏

فلما بلغ المقوقس قدوم عمرو بن العاص إلى مصر توجه إلى موضع الفسطاط فكان يجهز على عمرو الجيوش وكان على القصر رجل من الروم يقال له‏:‏ الأعيرج واليًا عليه وكان تحت المقوقس وأقبل عمرو حتى إذا كان بجبل الجلال نفرت معه راشدة وقبائل من لخم فتوجه عمرو حتى إذا كان بالعريش أدركه النحر فضحى عن أصحابه يومئذ بكبش وتقدم فكان أول موضع قوتل فيه الفرما قاتلته الروم قتالًا شديدًا نحوًا من شهر ثم فتح الله عليه وكان عبد الله بن سعد على ميمنة عمرو منذ توجه من قيسارية إلى أن فرغ من حربه وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له‏:‏ أبو ميامين فلما بلغه قدوم عمرو إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا يكون للروم دولة وإن ملكهم قد انقطع ويأمرهم بتلقي عمرو‏.‏

فيقال‏:‏ إن القبط الذين كانوا يومئذ لعمرو أعوانًا ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى نزل القواصر فسمع رجل من لخم نفرًا من القبط يقول بعضهم لبعض‏:‏ ألا تعجبون من هؤلاء القوم يقدمون على جموع الروم وإنما هم في قلة من الناس فأجابه رجل منهم فقال‏:‏ إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه حتى يقتلوا خيرهم وتقدم عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس فقاتلوه بها نحوًا من الشهر حتى فتح الله عليه ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى أم دنين فقاتلوه قتالًا شديدًا وأبطأ عليه الفتح فكتب إلى عمر يستمده فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف وقيل‏:‏ بل أمده باثني عشر ألفًا فوصلوا إليه فكان فيهم أربعة آلاف عليهم أربعة‏:‏ الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد‏.‏

وقيل‏:‏ إن الرابع‏:‏ خارجة بن حذافة دون مسلمة ثم أحاط المسلمون بالحصن وأميره يومئذ المندقور الذي يقال له‏:‏ الأعيرج من قبل المقوقس بن قرقت اليوناني وكن المقوقس ينزل الإسكندرية وهو في سلطان هرقل غير أنه كان حاضرًا لحصن حين حاصره المسلمون فقاتل عمرو بن العاص من بالحصن وجاء رجل إلى عمرو فقال‏:‏ اندب معي خيلًا حتى آتي من دياراتهم عند القتال فأخرج معه خمسمائة فارس عليهم‏:‏ خارجة بن حذافة في قول فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بني وائل قبل الصبح وكانت الروم قد خندقوا خندقًا وجعلوا له أبوابًا وبنوا في أفنيتها حسك الحديد فالتقى القوم حين أصبحوا وخرج خارجة من ورائهم فانهزموا حتى دخلوا الحصن وكانوا قد خندقوا حوله فنزل عمرو على الحصن وقاتلهم قتالًا شديدًا يصبحهم ويمسيهم وقيل‏:‏ إنه لما أبطأ الفتح على عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب يستمده ويعلمه بذلك فأمده بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم مقام الألف الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد وقيل‏:‏ بل خارجة بن حذافة لا يعدون مسلمة وقال عمر‏:‏ اعلم أن معك اثني عشر ألفًا ولا تغلب اثنا عشر ألفًا من قلة‏.‏

وقيل قدم الزبير في اثني عشر ألفًا وإن عمرًا لما قدم من الشام كان في عدة قليلة فكان يفرق أصحابه ليرى العدو أنهم أكثر مما هم فلما انتهى إلى الخندق نادوه أن قد رأينا ما صنعت وإنما معك من أصحابك كذا وكذا فلم يخطئوا برجل واحد فأقام عمرو على ذلك أيامًا يغدو في السحر فيصف أصحابه على أفواه الخندق عليهم السلاح فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير بن العوام أنه قدم في اثني عشر ألفًا فتلقاه عمرو ثم أقبلا يسيران ثم لم يلبث الزبير أن ركب ثم طاف بالخندق ثم فرق الرجال حول الخندق وألح عمرو على القصر ووضع عليه المنجنيق ودخل عمرو إلى صاحب الحصن فتناظرا في شيء مما هم فيه فقال عمرو‏:‏ أخرج وأستشير أصحابي وقد كان صاحب الحصن أوصى الذي على الباب إذا مر به عمرو أن يلقي عليه صخرة فيقتله فمر عمرو وهو يريد الخروج برجل من العرب فقال له‏:‏ قد دخلت فانظر كيف تخرج فرجع عمرو إلى صاحب الحصن فقال له‏:‏ إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت فقال العلج في نفسه‏:‏ قتل جماعة أحب إلي من قتل واحد‏.‏

وأرسل إلى الذي كان أمره بما أمره به من قتل من قتل عمرو أن لا يتعرض له رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم فخرج عمرو وعبادة بن الصامت في ناحية يصلي وفرسه عنده فرآه قوم من الروم فخرجوا إليه وعليهم حلية وبزة فلما دنوا منه سلم من صلاته ووثب على فرسه ثم حمل عليهم فلما رأوه ولوا راجعين فأتبعهم فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم وهو لا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن ورمى عبادة من فوق الحصن بالحجارة فرجع ولم يتعرض لشيء مما طرحوه من متاعهم حتى رجع إلى موضعه الذي كان به فاستقبل الصلاة وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه فلما أبطأ الفتح على عمرو قال الزبير‏:‏ إني أهب الله نفسي أرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين فوضع سلمًا إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام ثم صعد فأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعًا فما شعروا إلا والزبير على رأس الحسن يكبر ومعه السيف وتحامل الناس على السلم حتى نهاهم عمرو خوفًا من أن ينكسر وكبر الزبير فكبرت الناس معه وأجابهم المسلمون من خارج فلم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جميعًا فهربوا وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه واقتحم المسلمون الحصن فخاف المقوقس على نفسه ومن معه‏.‏

فحينئذ سأل عمرو بن العاص الصلح ودعاه إليه على أن يفرض للعرب على القبط دينارين على كل رجل منهم فأجابه عمرو إلى ذلك وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر قال‏:‏ وقد سمعت في فتح القصر وجهًا آخر هو أن المسلمين لما حصروا باب اليون كان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم وعليهم المقوقس فقاتلوهم شهرًا فلما رأى القوم الجد من العرب على فتحه والحرص ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط وخرجوا من باب القصر القبلي ودونهم جماعة يقاتلون العرب فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة وأمروا بقطع الجسر وذلك في جري النيل‏.‏

ويقال‏:‏ إن الأعيرج تخلف في الحصن بعد المقوقس وقيل‏:‏ خرج معهم فلما خاف فتح الحصن ركب هو وأهل القوة والشرف وكانت سفنهم ملصقة بالحصن ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة فأرسل المقوقس إلى عمرو‏:‏ إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا وألححتم على قتالنا وطال مقامكم في أرضنا وإنما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح وقد أحاط بكم هذا النيل وإنما أنتم أسارى في أيدينا فابعثوا إلينا رجالًا منكم نسمع من كلامهم فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفًا لطلبتكم ورجائكم فابعثوا إلينا رجالًا من أصحابكم نعاملهم على ما نرضي نحن وهو به من شيء‏.‏

فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس فقال لأصحابه‏:‏ أترون أنهم يقتلون الرسل ويستحلون ذلك في دينهم وإنما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين فرد عليهم عمرو مع رسله أنه ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال‏:‏ إما أن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين فلما جاءت رسل المقوقس إليه قال‏:‏ كيف رأيتم هؤلاء قالوا‏:‏ رأينا قومًا الموت أحب إلى أحدهم من الحياة والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة إنما جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم وأميرهم كواحد منهم ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ولا السيد منهم من العبد وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد يغسلون إطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم فقال عند ذلك المقوقس‏:‏ والذي يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبوا بعد اليوم إذ أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم فرد إليهم المقوقس رسله‏:‏ ابعثوا إلينا رسلًا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم‏.‏

فبعث عمرو بن العاص‏:‏ عشرة نفر أحدهم‏:‏ عبادة بن الصامت وكان طوله عشرة أشبار وأمره أن يكون متكلم القوم ولا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الثلاث خصال فأن أمير المؤمنين قد تقدم إلي في ذلك وأمرني أن لا أقبل شيئًا سوى خصلة من هذه الثلاث خصال وكان عبادة أسود فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ودخلوا عليه تقدم عبادة فهابه المقوقس لسواده وقال‏:‏ نحوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني فقالوا جميعًا‏:‏ إن هذا الأسود أفضلنا رأيًا وعلمًا وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا وإنما نرجع جميعًا إلأى قوله ورأيه وقد أمره الأمير دوننا بما أمره وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله وقال‏:‏ وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم قالوا‏:‏ كلا إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعًا وأفضلنا سابقة وعقلًا ورأيًا وليس ينكر السواد فينا فقال المقوقس لعبادة‏:‏ تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادكم وإن اشتد كلامك علي ازددت لك هيبة فتقدم عليه عبادة فقال‏:‏ قد سمعت مقالتك وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سوادًا مني وأفظع منظرًا ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي وأنا قد وليت وأدبر شبابي وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعًا وكذلك أصحابي وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله وإتباع رضوانه وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ولا طلب للاستكثار منها إلا أن الله عز وجل قد أحل لنا ذلك وجعل ما غنمنا من ذلك حلالًا وما يبالي أحدنا إن كان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلا درهمًا لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعه لليله ونهاره وشملة يلتحفها فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله واقتصر على هذا الذي بيده ويبلغه ما كان في الدنيا لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء إنما النعيم والرخاء في الآخرة وبذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته تكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه‏.‏

فلما سمع المقوقس ذلك منه قال لمن حوله‏:‏ هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط لقد هبت منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت فقال له‏:‏ أيها الرجل الصالح قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا تحصى عدده قوم معروفون بالنجدة والشدة ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل وإنا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرًا وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بين أيديكم ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به‏.‏

فقال عبادة بن الصامت‏:‏ يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه وإن كان ما قلتم حقًا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته وما شيء أقر لأعيننا ولا أحب لنا من ذلك و إنا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنين‏:‏ إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا ولأنها أحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه‏:‏ ‏"‏ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ‏"‏ ‏"‏ البقرة 249 ‏"‏ وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحًا ومساءً أن يرزقه الشهادة وأن لا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده وليس لأحد منا هم فيمات خلفه وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وإنما همنا ما أمامنا وأما قولك‏:‏ إنا في ضيق وشده من معاشنا وحالنا فنحن في أوسع السعة لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه فانظر الذي تريد فيه فبينه لنا فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث فاختر أيتها شئت ولا تطمع نفسك في الباطل بذلك أمرني الأمير وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا إما إن أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين القيم الذي لا يقبل الله غيره وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته أمرنا الله تعالى أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا وكان أخانا في دين الله فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم في الدنيا والآخرة ورجعنا عن قتالكم ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم وإن أبيتم إلا الجزية فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون وأن نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدًا ما بقينا وبقيتم ونقاتل عنكم من ناواكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم في ذمتنا وكان لكم به عهد علينا وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا أو نصيب ما نريد منكم هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به ولا يجوز لنا فيما فقال المقوقس‏:‏ هذا ما لا يكون أبدًا ما تريدون إلا أ تتخذونا عبيدًا ما كانت الدنيا فقال له عبادة‏:‏ هو ذاك فاختر لنفسك ما شئت‏.‏

فقال المقوقس‏:‏ أفلا تجيبونا إلى خصلة غير هذه الثلاث خصال فرفع عبادة يديه إلى السماء فقال‏:‏ لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ما لكم عندنا خصلة غيرها فاختاروا لأنفسكم‏.‏

فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه فقال‏:‏ قد فرغ القوم فما ترون فقالوا‏:‏ أو يرضى أحد بهذا الذل‏!‏ أما ما أرادوا من دخولنا في دينهم فهذا لا يكون أبدًا أن نترك دين المسيح ابن مريم وندخل في دين غيره لا نعرفه وأما ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدًا فالموت أيسر من ذلك لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارًا كان أهون علينا‏.‏

فقال المقوقس لعبادة‏:‏ قد أبى القوم فما ترى فراجع صاحبك على أن نعطيكم في مرتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفون فقال عبادة وأصحابه‏:‏ لا فقال المقوقس عند ذلك‏:‏ أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث فوالله ما لكم بهم طاقة ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين فقالوا‏:‏ وأي خصلة تجيبهم إليها قال‏:‏ إذًا أخبركم أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم ولا بد من الثالثة قالوا‏:‏ فنكون لهم عبيدًا أبدًا قال‏:‏ نعم تكونون عبيدًا مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا من آخركم وتكونوا عبيدًا تباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبدًا أنتم وأهليكم وذراريكم قالوا‏:‏ فالموت أهون علينا وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط وبالجزيرة وبالقصر من جمع القبط والروم كثير‏.‏

فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من بالقصر حتى ظفروا بهم وأمكن الله منهم فقتل منهم خلق كثير وأسر من أسر وانجرت السفن كلها إلى الجزيرة وصار المسلمون يراقبونهم وقد أحدق بهم الماء من كل وجه لا يقدرون على أن ينفذوا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدن والقرى والمقوقس يقول لأصحابه‏:‏ ألم أعلمكم وأخافه عليكم‏!‏ ما تنتظرون‏!‏ فوالله لتجيبنهم إلى ما أرادوا طوعًا أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منه كرهًا فأطيعوني من قبل أ تندموا فلما رأوا منهم ما رأوا وقال لهم المقوقس ما قال أذعنوا بالجزية ورضوا بذلك على صلح يكون بينهم يعرفونه‏.‏

وأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص‏:‏ إني لم أزل حريصًا على إجابتكم إلى خصلة من تلك الخصال التي أرسلت إلي بها فأبى علي من حضرني من الروم والقبط فلم يكن لي أن أفتات عليهم في أموالهم وقد عرفوا نصحي لهم وحبي صلاحهم ورجعوا إلى قولي فأعطني أمانًا أجتمع أنا وأنت أنا في نفر من أصحابي وأنت في نفر من أصحابك فإن استقام الأمر بيننا تم فاستشار عمرو أصحابه في ذلك فقالوا‏:‏ لا نجيبهم إلى شيء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا وتصير الأرض كلها لنا فيئًا وغنيمة كما صار لنا القصر وما فيه فقال عمرو‏:‏ قد علمتم ما عهد إلي أمير المؤمنين في عهده فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إلي فيها أجتبهم إليها وقلبت منهم مع ما قد حال هذا هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم فاجتمعوا على عهد بينهم واصطلحوا على أن يفرض لهم على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط ديناران ديناران عن كل نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ منهم الحلم ليس علي الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء وعلى أن للمسلمين عليهم لنزل بجماعتهم حيث نزلوا ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم وأن لهم أرضهم وأموالهم لا تعرض لهم في شيء منها فشرط ذلك كله على القبط خاصة وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصة كم بلغ منهم الجزية وفرض عليهم الديناران رفع ذلك عرفاؤهم بالإيمان المؤكد فكان جميع من أحصى يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط فيما أحصوا وكتبوا ورفعوا أكثر من ستة آلاف ألف نفس فكانت فريضتهم يومئذ اثني عشر ألف ألف دينار في كل سنة‏.‏