فصل: حكر المساح

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 حكر المساح

‏:‏ عُرف بالأمير شمس الدين سنقر المساح أحد أمراء الظاهر بيبرس قبض عليه في عدّة من الأمراء في ذي الحجة سنة تسع وستين وستمائة‏.‏

الدكة‏:‏ هذا المكان كان بستانًا من أعظم بساتين القاهرة فيما بين أراضي اللوق والمقس وبه منظرة للخلفاء الفاطميين تشرف طاقاتها على بحر النيل الأعظيم ولا يحول بينها وبني برّ الجيزة شيء فلما زالت الدولة الفاطمية تلاشى أمر هذا البستان وخرب فحكر موضعه وبنى الناس فيه فصار خطة كبيرة كأنه بلد جليل وصار به سوق عظيم وسكنه الكتاب وغيرهم من الناس وأدركته عامرًا ثم إنه خرب منذ سنة ست وثمانمائة وبه الآن بقية عما قليل تدثر كما دثر ما هنالك وصار كيمانًا‏.‏

المقس وفيه الكلام على المكس وكيف كان أصله في أوّل الإسلام اعلم أن المقس قديم وكان في الجاهلية قرية تعرف بأمّ دنين وهي الآن محلة بظاهر القاهرة في برّ الخليج الغربيّ وكان عند وضع القاهرة هو ساحل النيل وبه أنشأ الإمام المعز لدين الله أبو معدّ الصناعة التي ذكرت عند ذكر الصناعات من هذا الكتاب وبه أيضًا أنشأ الإمام الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور جامع المقس الذي تسميه عامّة أهل مصر في زمننا بجامع المقسيّ وهو الآن يطلّ على الخليج الناصريّ‏.‏

قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر وقد ذكر مسير عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى فتح مصر‏:‏ فتقدّم عمرو بن العاص رضي الله عنه ولا يدافع إلاّ بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس فقاتلوه بها نحوًا من شهر حتى فتح الله سبحانه وتعالى عليه ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى أمّ دنين فقاتلوه بها قتالًا شديدًا وأبطأ عليه الفتح فكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يستمدّ فأمدّه بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف فقاتلهم وذكر تمام الخبر‏.‏

وقال القاضي أبو عبد الله القضاعيّ‏:‏ المقس كانت ضيعة تعرف بأمّ دنين وإما سُمّيَت المقس لأنّ العاشر كان يقعد بها وصاحب المكس فقيل المكس فقُلب فقيل المقس‏.‏

قال المؤلف رحمه الله‏:‏ الماكس هو العشار وأصل المكس في اللغة الجباية‏.‏

قال ابن سيدة في كتاب المحكم‏:‏ المكس الجباية مكسه يمكسه مكسًا والمكسُ دراهِمُ كانت تُؤخذ من بائع السلع في الأسواق في الجاهلية ويقال للعشار صاحب مكس والمكس انتقاصُ الثمن في البياعة‏.‏قال الشاعر‏:‏ أفي كلِّ أسواقِ العراقِ أتاوةٌ وفي كلِّ ما باب أمرؤ مكسُ درهمِ ألا ينتهي عنا رجالٌ وتُتَّقى محارمنا لا يَدرأ الدّمُّ بالدَّمِّ الأتاوة الخراج ومِكسُ درهم أي نقص درهم في بيع ونحوه‏.‏

قال‏:‏ وعشر القوم يعشرهم عشرًا وعشورًا وعشرهم أخذ عِشْرَ أموالهم وعِشْرُ المال نفسه وعشره كذلك والعشّار قابض العِشر‏.‏

ومنه قول عيسى بن عمرو لابن هبيرة وهو يُضرب بين يديه بالسياط‏:‏ تالله إن كانت إلاّ ثيابًا في أسفاط قبضها عشَّاروك‏.‏

وقال الجاحظ‏:‏ ترك الناس مما كان مستعملًا في الجاهلية أمورًا كثيرة فمن ذلك تسميتهم للأتاوة بالخراج وتسميتهم لما يأخذه السلطان من الحلوان والمكس بالرشوة وقال الخارجيّ‏:‏ أفي كلّ أسواق العراقِ أتاوة‏:‏ البيت وكما قال العبديّ في الجارود‏:‏ اكابن المعلي خلتنا أما حسبتنا صواريّ نُعطي الماكسينّ مكوسا الصواريّ‏:‏ الملاحون والمكس‏:‏ ما يأخذ العشار انتهى‏.‏

ويقال أن قوم شُعيب عليه السلام كانوا مكاسين ولا يَدَعون شيئًا إلا مكّسوه‏.‏

ومنه قيل للمكس النجس لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ‏"‏ وذكر أحمد بن يحيى البلاذريّ عن سفيان الثوريّ عن إبراهيم بن مهاجر قال‏:‏ سمعت زياد بن جرير يقول‏:‏ أنا أوّل من عشَّر في الإسلام‏.‏

وكان سفيان عن عبد الله بن خالد عن عبد الرحمن بن معقل قال سألت زياد بن جرير من كنتم تعشرون فقال‏:‏ ما كنا نعشر مسلمًا ولا معاهدًا بل كنا نعشر تجار أهل الحرب كما كانوا يعشرونا إذا أتيناهم‏.‏

وقال عبد الملك بن حبيب السلميّ في كتاب سيرة الإمام العدل‏.‏

في مال الله عن السائب بن يزيد أنه قال‏:‏ كنت على سوق المدينة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكنا نأخذ من القبط العشر‏.‏

وقال ابن شهاب‏:‏ كان ذلك يؤخذ منهم في الجاهلية فألزمهم ذلك عمر بن الخطاب وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال‏:‏ إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأخذ بالمدينة من القبط من الحنطة والزبيب نصف العشر يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة من الحنطة والزبيب وكان يأخذ من القطنية العشر‏.‏

وقال مالك رحمه الله‏:‏ والسِّنَّة أنَّ ما أقام الذمّة في بلادهم التي صالحوا عليها فليس عليهم فيما إلاّ الجزية إلاّ أنْ يتجروا في بلاد المسلمين ويختلفوا فيها فيؤخذ منهم العشر فيما يديرون من التجارة وإن اختلفوا في بلاد المسلمين ويختلفوا فيها فيؤخذ منهم العشر فيما يديرون من التجارة وإن اختلفوا في العام الواحد مرارًا إلى بلاد المسلمين فعليهم كلما اختلفوا العشر وإذا اتجر الذميّ في بلاده من اعلاها إلى اسفلها ولم يخرج منها إلى غيرها فليس عليه شيء مثل أن يتجر الذميّ الشامي في جميع الشام أو الذميّ المصريّ في جميع مصر أو الذميّ العراقيّ في جميع العراق وليس العمل عندنا على قول عمر بن عبد العزيز لزريق بن حيان‏:‏ واكتب لهم بما يؤخذ منهم كتابًا إلى مثله من الحول ومن مرّ بك من أهل الذمّة فخذ ما يديرون من التجارات من كل عشرين دينارًا دينارًا فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرة دنانير فإن نقص منها ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئًا والعمل على أن يأخذ منهم العشر وإن خرجوا في السنة مرارًا من كلّ ما أتجروا به قل أو كثر وهذا قول ربيعة وابن هرمز‏.‏

وقال القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الحضرميّ أحد أصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في كتاب الرسالة إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد وهو كتاب جليل القدر حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر قال‏:‏ سمعت أبي يذكر قال‏:‏ سمعت زياد بن جرير قال‏:‏ أوّل من بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه منا على العشور أنا فأمرني أن لا أفتش أحدًا وما مرّ عليّ من شيء أخذتُ من حساب أربعين درهمًا درهمًا من المسلمين وأخذت من أهل الذمّة من عشرين واحدًا وممن لا ذمّة له العشر وأمرني أن أغُلّطَ على نصارى بني تغلب قال‏:‏ إنهم قوم من العرب وليسوا من أهل الكتاب فلعلهم يُسلمون‏.‏

قال‏:‏ وكان عمر رضي الله عنه قد اشترط على نصارى بني تغلب أن لا يُنَصِّروا أولادهم‏.‏

وحدّثنا أبو حنيفة عن الهيثم عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ بعثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على العشور وكتب لي عهدًا أن آخذ من المسلمين مما اختلفوا به لتجاراتهم ربع العشر ومن أهل الذمّة نصف العشر ومن أهل الحرب العشر‏.‏

وحدّثنا عاصم بن سلميان الأحول عن الحسن قال‏:‏ كتب أبو موسى الأشعريّ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنّ تجارًا من قبلنا من المسلمين يأتون أهل الحرب فيأخذون منهم العشر فكتب إليه عمر رضي الله عنه فخذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين وخذ من أهل الذمّة نصف العشر ومن المسلمين من كلّ أربعين درهمًا درهمًا وليس فيما دون المائتين شيء فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم فما زاد فبحسابه‏.‏

وحدّثنا عبد الملك بن جريج عن عمرو بن شعيب قال‏:‏ إنّ أهل منبج قومًا من أهل الشرك وراء البحر كتبوا إلى عمر بالخطاب رضي الله عنه دعنا ندخل أرضك تجارًا وتعشرنا قال فشاور عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأشاروا عليه به فكانوا أول من عشره من أهل الحرب‏.‏

وحدّثنا السدّيّ بن إسماعيل عن عامر الشعبيّ عن زياد بن جرير الأسديّ قال‏:‏ إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه إلى عشور العراق والشام وأمره أن يأخذ من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمّة نصف العشر ومن أهل الحرب العشر فمرّ عليه رجل من بني تغلب من نصارى العرب ومعه فرس فقوّمها بعشرين ألفًا فقال أمسك الفرس وأعطني ألفًا أو خذ مني تسعة عشر ألفًا وأعطني الفرس‏.‏

قال‏:‏ فأعطاه الفًا وأمسك الفرس‏.‏

قال‏:‏ ثم مرّ عليه راجعًا في سنته فقال‏:‏ أعطني ألفًا أخرى فقال له التغلبيّ‏:‏ كلّما مررتُ بك تأخذ مني ألفاّ قال نعم فرجع التغلبيّ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فوافها بمكة وهو في بيت له فاستأذن عليه فقال‏:‏ من أنت فقال‏:‏ أنا رجل من نصارى العرب وقصّ عليه قصته‏.‏

فقال له عمر رضي علله عنه كفيتَ ولم يزده على ذلك‏.‏

قال‏:‏ فرجع الرجل إلى زياد بن جرير وقد وطن نفسه على أن يعطيه ألفًا فوجد كتاب عمر رضي الله عنه قد سبق إليه‏:‏ من مرّ عليك فأخذت منه صدقة فلا تأخذ منه شيئًا إلى مثل ذلك اليوم من قابل إلاّ أن تجد فضلًا‏.‏

قال‏:‏ فقال الرجل قد والله كانت نفسي طيبة أن أعطيك ألفًا وأني أشهد الله تعالى أني بريء من النصرانية وأني على دين الرجل الذي كتب إليك هذا الكتاب‏.‏

وحدّثني يحيى بن سعيد عن زريق بن حيان وكان على مكس مصر فذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه أن أنظر من مرّ عليك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم وما ظهر لك من التجارات من كلّ أربعين دينارًا دينارًا فما نقص فبحسابه حتى تبلغ عشرين دينارًا فإن نقصت فدعها ولا تأخذ منها وإذا مرّ عليك أهل الذمة فخذ مما يديرون من تجاراتهم من كل عشرين دينارًا دينارًا فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرة دنانير ثم دعها لا تأخذ منها شيئًا واكبت لهم كتابا بما تأخذ منهم إلى مثلها من الحول‏.‏

وحدّثني أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه قال‏:‏ إذا مرّ أهل الذمّة بالخمر للتجارة أُخذ من قيمتها نصف العشر ولا يقبل قول الذميّ في قيمتها حتى يؤتى برجلين من أهل الذمّة يقوّمانها عليه فيؤخذ نصف العشر من الذميّ‏.‏

وحدّثنا قيس بن الربيع عن أبي فزارة عن يزيد بن الأصم عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ إن هذه المعاصر والقناطر سُحْت لا يحلّ أخذها‏.‏

فبعثَ عمالًا إلى اليمن ونهاهم أن يأخذوا من عاصر أو قنطرة أو طريق شيئًا‏.‏

فقدموا فاستقلّ المال فقالوا‏:‏ نهيتنا‏.‏

فقال‏:‏ خذوا كما كنتم تأخذون‏.‏

وحدّثنا محمد بن عبيد الله عن أنس بن سيرين قال‏:‏ أرادوا أن يستعملوني على عشور الأبلة فأبيت فلقيني أنس بن مالك رضي الله عنه فقال‏:‏ ما يمنعك قلت العشور أخبث ما عَمِلَ عليه الناس‏.‏

قال‏:‏ فقال لي لم لا تفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه صنعه فجعل على أهل الإسلام ربع العشر وعلى أهل الذمّة نصف العشر وعلى أهل المنزل ممن ليس له ذمة العشر‏.‏

وقال أبو الحسن المسعوديّ أنّ كيقباذ أحد ملوك الفرس أوّل من أخذ العشر من الأرض وعمر بلاد بابل ومملكة الفرس ورأيت في التوراة التي في يد اليهود أنّ أوّل من أخرج العشر من مواشيه وزروعه وجميع ما له خليل الله إبراهيم عليه السلام وكان يدفع ذلك إلى ملك أورشليم التي هي أرض القدس واسمه ملكي صادق فلما مات الخليل إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه اقتدى به بنوه في ذلك من بعده وصاروا يدفعون العشر من أموالهم إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام فأوجب على بني إسرائيل إخراج العشر في كل ما ملكت أيمانهم من جميع أموالهم بأنواعها وجعل ذلك حقًا لسبط لاوي الذين هم قربة موسى عليه السلام‏.‏

وقال ابن يونس في تاريخ مصر‏:‏ كان ربيعة بن شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه أحد من شهد فتح مصر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واليًا لعمر بن العاص رضي الله عنه على المكس وكان زريق بن حيان على مكس إبلة في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه‏.‏

قال مؤلفه رحمه الله‏:‏ ومع ذلك فقد كان أهل الورع من السلف يكرهون هذا العمل‏.‏

روى ابن قتيبة في كتاب الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لعن الله سهيلًا كان وروى ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن ميمون عن أبي إبراهيم المعافريُّ عن خالد بن ثابت‏:‏ أنّ كعبًا أوصاه وتقدّم إليه حين مخرجه مع عمرو بن العاص أن لا يقرب المكس‏.‏

فهذا أعزَّك الله معنى المكس عند هل الإسلام لا ما أحدثه الظالم هبة الله بن صاعد الفائزيّ وزير الملك المعز ايبك التركمانيّ أوّل من أقام من ملوك الترك بقلعة الجبل من المظالم التي سمّاها الحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية وتعرف اليوم بالمكوس فذلك الرجس النجس الذي هو أقبح المعاصي والذنوب والموبقات لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده وتكرّر ذلك منه وانهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقها وصرفها في غير وجهها وذلك الذي لا يُقِرُّ به متقِ‏.‏

وعلى آخذه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏.‏

ولنرجع إلى الكلام في المقس فنقول‏:‏ من الناس من يسميه المقسم بالميم بعد السين‏.‏

قال ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة‏:‏ وسمعت من يقول أنه المقسم قيل لأن قسمة الغنائم عند الفتوح كانت به ولم أره مسطورًا‏.‏

وقال العماد محمد بن أبي الفرج محمد بن حامد الكاتب الأصفهانيّ في كتاب سنا البرق الشاميّ‏:‏ وجلس الملك الكامل محمد بن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب في البرج الذي بجوار جامع المقس في السابع والعشرين من شوال سنة ست وتسعين وخمسمائة وهذا المقسم على شاطىء النيل يُزار وهناك مسجد يتبرّك به الأبرار وهو المكان الذي قسمت فيه الغنائم عند استيلاء الصحابة وهناك مسجد يتبرّك به الأبرار وهو المكان الذي قسمت فيه الغنائم عند استيلاء الصحابة رضي الله عنهم على مصر فلما أمر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بإدارة السور على مصر والقاهرة تولى ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش وجعل نهايته التي تلي القاهرة عند المقسم وبنى فيه برجًا مشرفًا على النيل وبنى مسجدًا جامعًا واتصلت العمارة منه إلى البلد وجامعه تقام فيه الجمعة والجماعات وهذا البرج عُرف بقلعة قراقوش وما برح هنالك إلى أن هدمه الصاحب الوزير شمس الدين عبد الله المقسيّ وزير الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون في سنة بضع وسبعين وسبعمائة عندما جُدِّدَ جامع المقس الذي أنشأه الخليفة الحاكم بأمر الله فصار يُعرف بجامع المقسيّ هذا إلى اليوم وما برح جامع المقس هذا يُشرف على النيل الأعظم إلى ما بعد سنة سبعمائة بعدّة أعوام‏.‏

قال جامع السيرة الطولونية‏:‏ وركب أحمد بن طولون في غداة باردة إلى المقس فأصاب بشاطىء النيل صيادًا عليه خلق لا يواريه منه شيء ومعه صبيّ له في مثل حاله وقد ألقى شبكته في البحر فلما رآه رقّ لحاله وقال‏:‏ يا نسيم ادفع إلى هذا عشرين دينارًا فدفعها إليه ولحق ابن طولون فسار أحمد بن طولون ولم يبعد ورجع فوجد الصياد ميتًا والصبيّ يبكي ويصيح فظن ابن طولون أن بعض سودانه قتله وأخذ الدنانير منه فوقف بنفسه عليه وسأل الصبيّ عن أبيه فقال له‏:‏ هذا الغلام وأشار إلى نسيم الخادم دفع إلى أبي شيئًا فلم يزل يقلِّبه حتى وقع ميتًا‏.‏

فقال‏:‏ فتشه يا نسيم فنزل وفتشه فوجد الدنانير معه بحالها فحرّض الصبيّ أن يأخذها فأبى وقال‏:‏ هذه قتلت أبي وإن أخذتها قتلتني فأحضر ابن طولون قاضي المقس وشيوخه وأمرهم أن يشتروا للصبيّ دارًا بخمسمائة دينار تكون لها غلة وأن تحبس عليه وكتب اسمه في أصحاب الجرايات وقال‏:‏ أنا قتلت أباه لأنّ الغني يحتاد إلى تدريج وإلاّ قتل صاحبه هذا كان يجب أن يُدفع إليه دينارًا بعد دينار حتى تأتيه هذه الحملة على تفرقة فلا تكثر في عينه‏.‏

وقال القاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ رحمه الله في تعليق المتجدّدات لسنة سبع وسبعين وخمسمائة وفيه يعني يوم الثلاثاء لستٍ بقين من المحرّم ركب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أعز الله نصره لمشاهدة ساحل النيل وكان قد انحسر وتشمر عن المقس وما يليه وبعد عن السور والقلعة المستجدّين بالمقس وأحضر أرباب الخبرة واستشارهم فأشير عليه بإقامة الجراريف لرفع الرمال التي قد عارضت جزائرها طريق الماء وسدّته ووقفت فيه وكان الأفضل بن أمير الجيوش لما تربى قدّام دار الملك جزيرة رمل كما هي اليوم أراد أن يقرب البحر وينقل الجزيرة فأشير عليه بأن يبني مما يلي الجزيرة أنفًا خارجًا في البحر ليلقى التيار وينقل الرمل فعسر هذا وعظمت غرامته فأشار عليه ابن سيد بأن يأخذ قصاري فخار تثقب ويعمل تحتها رؤوس برابخ وتلطخ بالزفت وتُكّبُّ القصاري عليها وتدفن في الرمل فإذا أراد النيل وركبها نزل من خروق القصاري إلى الرؤوس فأدارها الماء ومنعتها القاصري أن تنحدر ودامت حركة الرمل بتحريك الماء للرؤوس فانتقل الرمل وذكر أنّ للزفت خاصية في تحويل الرمل قال‏:‏ وفي هذا الوقت احترق النيل وصار البحر مخايض يقطعها الراجل وتوحل فيه المراكب وتشمر الماء على ساحل المقس ومصر وربّى جزائر رملية أشفق منها على المقياس لئلا يتقلص النيل عنه ويحتاج إلى عمل غيره وخشي منها أيضًا على ساحل المقس لكون بنيان السور كان اتصل بالماء وقد تباعد الآن عن السور وصار المدّقوّتة من برّ الغرب ووقع النظر في إقامة جراريف لقطع الجزائر التي رباها البحر وعمر أنوف خارجة في بر الجيزة ليميل بها الماء إلى هذا الجانب ولم يتم شيء من ذلك‏.‏

وقال ابن المتوّج في سنة خمسين وستمائة‏:‏ انتهى النيل في احتراق إلى أربعة أذرع وسبعة عشر أصبعًا وانتهى في زيادته إلى ثمانية عشر ذراعًا وكان مثل ذلك في دولة الملك الأشرف خليل بن قلاون وكان نيلًا عظيمًا سدّ فيه باب المقس يعني الباب الذي يعرف اليوم بباب البحر عند المقس وفي سنة اثنتين وستين وستمائة أحضر إلى الملك الأشرف خليل بن قلاون وكان نيلًا عظيمًا سدّ فيه باب المقس يعني الباب الذي يعرف اليوم بباب البحر عند المقس وفي سنة اثنتين وستين وستمائة أحضر إلى الملك الظاهر بيبرس طفل وجد ميتًا بساحل المقس له رأسان وأربعة أعين وأربعة أرجل وأربعة أيد وأخبرني وكيل أبي الشيخ المعمر حسام الدين حسن بن عمر السهروديّ رحمه الله ومولده سنة اثنتين وسبعمائة بالمقس أنه يعَرِفُ باب البحر هذا إذا خرج منه الإنسان فأنه يرى برّ الجيزة لا يحول بينه وبينها حال فإذا زاد ماء النيل صار الماء عند الوكالة التي هي الآن خارج باب البحر المعروفة بوكالة الجبن وإذا كان أيام احتراق النيل بقيت الرمال تجاه باب البحر وذلك قبل أن يحفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ فلما حفر الخليج المذكور أنشأ الناس البساتين والدور كما يجيء إن شاء الله تعالى ذكره وأدركنا المقس خطة في غاية العمارة بها عدّة أسواق ويسكنها أمم من الأكراد والأجناد والكتاب وغيرهم وقد تلاشت من بعد سنة سبع وسبعين وسبعمائة عند حدوث الغلاء بمصر في ايام الملك الأشرف شعبان بن حسين فلما كانت المحن منذ سنة ست وثمانمائة خربت الأحكار والمقس وغيره وفيه إلى الآن بقية صالحة وبه خمسة جوامع تقام بها الجمعة وعدّة أسواق ومعظمه خراب‏.‏

ميدان القمح هذا المكان خارج باب القنطرة يتصل من شرقية بعدوة الخليج ومن غربيه بالمقس وبعضهم يسميه ميدان الغلة وكان موضعًا للغلال أيام كان المقس ساحل القاهرة وكانت صبر القمح وغيره من الغلال توضع من جانب المقس إلى باب القنطرة عرضًا وتقف المراكب من جامع المقس إلى منية الشيرج طولًا ويصير عند باب القنطرة في أيام النيل من مراكب الغلة وغيرها ما يستر الساحل كله‏.‏

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ المكان المعروف بميدان الغلة وما جاوره إلى ما وراء الخليج لما ضعف أمر الخلافة وهجرت الرسوم القديمة من التفرّج في اللؤلؤة وغيرها بنت الطائفة الفرحية الساكنون بالمقس لأنهم ضاق بهم المقس قبالة اللؤلؤة حارة سُميت بحارة اللصوص بسبب تعدّيهم فيها مع غيرهم إلى أن غيروا تلك المعالم وقد كان ذلك قديمًا بستانًا سلطانيًا يُسمّى بالمقسي أمر الظاهر بن الحاكم بنقل أنشابه وحفره وجعله بركة قدّام اللؤلؤة مختلطة بالخليج وكان للبستان المقدّم ذكره ترعة من البحر يدخل منها الماء إليه وهو خليج الذكر الآن فأمر بإبقائها على حالها مسلطة على البركة والخليج يستنقع الماء فيها فلما نسى ذلك على ما ذكرناه عمد المذكورون وغيرهم إلى اقتطاع البركة من الخليج وجعلوا بينها وبين الخليج جسرًا وصار الماء يصل إليها من الترعة دن الخليج وصارت منتزهًا للسودان المذكورين في أيام النيل والربيع ولما كانت الأيام الآمرية أحبّ إعادة النزهة فتقدّم وزيره المأمون بن البطائحيّ بإحضار عرفاء السودان المذكورين وأنكر عليهم ذلك فاعتذروا بكثرة الرمال فأمر بنقل ذلك وأعطاهم أنعامًا فبنوا حارة بالقرب من دار كافور التي أسكنت بها الطائفة المأمونية قبالة بستان الوزير ومن المساجد الثلاثة المعلقة في شرقيها ثم أحضر الأبقار من البساتين والعدد والآلات ونقض الجسر الذي بين البركة والخليج وعمّق البرة إلى أن صار الخليج مسلطًا عليها‏.‏

قال مؤلفه رحمه الله تعالى هذه البركة عُرفت ببطن البقرة وقد ذكر خبرها عند ذكر البرك من هذا الكتاب وقد صار هذا الميدان اليوم سوقًا تباع فيه القشة من النحاس العتيق والحصر وغير ذلك وفي بعضه سوق الغزل وبه جامع يُشرف على الخليج وسكن هناك طائفة من المشارقة الحياك وفيه سوق عامر بالمعايش‏.‏

ذكر أرض الطبالة هذه الأرض على جانب الخليج الغربيّ بجوار المقس كانت من أحسن منتزهات القاهرة يمرّ النيل الأعظم من غربيها عندما يندفع من ساحل المقس حيث جامع المقس الآن إلى أن ينتهي إلى الموضع الذي يعرف بالجرف على جانب الخليج الناصريّ بالقرب من بركة الرطليّ ويمرّ من الجرف إلى غربيّ البعل فتصير أرض الطبالة نقطة وسط من غربيها النيل الأعظم ومن شرقيها الخليج ومن قبالتها البركة المعروفة ببطن البقرة والبساتين التي آخرها حيث الآن باب مصر بجوار الكبارة وحيث المشهد النفيسيّ ومن بحريها أرض البعل ومنظرة البعل ومنظرة التاج والخمس وجوه وقبة الهواء فكانت رؤية هذه الأرض شيئًا عجيبًا أيام الربيع وفيها يقول يوسف الدين علي بن قزل المشدّ‏:‏ إلى طبالةٍ يُعزون أرضًا لها من سندسِ الريحان بُسْطُ وقد كتب الشقيق بها سطورًا وأحسنَ شكلها للطلِ نِقْطُ رياض كالعرائس حين تُجلى يزينُ وجهها تاجٌ وقرْطُ وإنما قيل لها أرض الطبالة‏:‏ لأنّ الأمير أبا الحارث أرسلان البساسيري لما غاضب الخليفة القائم بأمر الله العباسيّ وخرج من بغداد يريد الانتماء إلى الدولة الفاطمية بالقاهرة أمدّه الخليفة المستنصر بالله ووزيره الناصر لدين الله عبد الرحمن البازوريّ حتى استولى على بغداد وأخذ قصر الخلافة وأزال دولة بني العباس منها وأقام الدولة الفاطمية هناك وسيّر عمامة القائم وثيابه وشباكه الذي كان إذا جلس يستند إليه وغير ذلك من الأموال والتحف إلى القاهرة في سنة خمسين وأربعمائة فلما وصل ذلك إلى القاهرة سرّ الخليفة المستنصر سرورًا عظيمًا وزُينت القاهرة والقصور ومدينة مصر والجزيرة فوقفت نسب طبالة المستنصر وكانت امرأة مرجلة تقف تحت القصر في المواسم والأعياد وتسير أيام الموكب وحولها طائفتها وهي تضرب بالطبل وتنشد فأنشدت وهي واقفة تحت القصر‏:‏ يا بني العباس ردّوا ملك الأمر معدُّ مِلَّكُكُم مِلكُ مُعارٌ والعواري تُستردُّ فأعجب المستنصر ذلك منها وقال لها تمني فسألت ان تقطع الأرض المجاورة للمقس فأقطعها هذه الأرض‏.‏

وقيل لها من حينئذ أرض الطبالة وأنشأت هذه الطبالة تربة بالقرافة الكبرى تعرف بتربة نسب مغنية المستنصر‏.‏

قال‏:‏ أرض الطبالة منسوبة إلى امرأة مغنية تعرف بنسب وقيل بطرب مغنية المستنصر‏.‏

قال‏:‏ فوهبها هذه الأرض المعروفة بأرض الطبالة وحكرت وبنيت آدارًا وبيوتًا وكانت من ملح القاهرة وبهجتها انتهى‏.‏

ثم أن أرض الطباة خربت في سنة ست وتسعين وستمائة عند حدوث الغلاء والوباء في سلطنة الملك العادل كتبغا حتى لم يبق فيها إنسان يلوح وبقيت خرابًا إلى ما بعد سنة إحدى عشرة وسبعمائة فشرع الناس في سكناها قليلًا قليلًا فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليج الناصريّ في سنة خمس وعشرين وسبعمائة كانت هذه الأرض بيد الأمير بكتمر الحاجب فما زال بالمهندسين حتى مرّوا بالخليج من عند الجرف على بركة الطوّابين التي تعرف اليوم ببركة الحاجب وببركة الرطليّ فمرّوا به من هناك حتى صبّ في الخليج الكبير من آخر أرض الطبالة فعمر الأمير بكتمر المذكور هناك القنطرة التي تعرف بقنطرة الحاجب على الخليج الناصريّ وأقام جسرًا من القنطرة المذكورة إلى قريب من الجرفن فصار هذا الجسر فاصلًا بين بركة الحاجب والخليج الناصريّ وأذن للناس في تحكيره فبنوا عليه وعلى البركة الدور وعمرت بسبب ذلك أرض الطبالة وصار بها عدّة حارات منها‏:‏ حارة العرب وحارة الأراد وحارة البزازرة وحارة العياطين وغير ذلك‏.‏

وبقي فيها عدّة اسواق وحمّام وجوامع تقام بها الجمعة وأقبل الناس على التنزه بها ايام النيل والربيع وكثرت الرغبات فيها لقربها من القاهرة وما برحت على غاية من العمارة إلى أن حدث الغلاء في سنة سبع وسبعين وسبعمائة ايام الأشرف شعبان بن حسينن فخرب كثير من حارات ارض الطبالة وبقيت منها إلى أن دُثرت منذ سنة ست وثمانمائة وصارت كيمانًا وبقي فيها من العامر الآن الاملاك المطلة على البركة التي ذكرت عند ذكر البرك من هذا الكتاب وفيها بقعة تعرف بالجنينة تصغير جنة من أخبث بقاع الأرض يُعمل فيها بمعاصي الله عز وجلّ وتعرف ببيع الحشيشة التي يبتلعها اراذل الناس وقد فشت هذه الشجرة الخبيثة في وقتنا هذا فشوًّا زائدًا وولع بها أهل الخلاعة والسخف ولعًا كثيرًا وتظاهروا بها من غير احتشام بعدما أدركنا تعدّ من أرذل الخبائث وأقبح القاذورات وما شيء في الحقيقة افسد لطباع البشر منها ولاشتهارها في وقتنا هذا عند الخاص والعام بمصر والشام والعراق والروم تعين ذكرها والله تعالى أعلم‏.‏