فصل: دخول قبط مصر في دين النصرانية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 فرق اليهود الآن

اعلم أن اليهود الذين قطعهم الله في الأرض أممًا أربع فرق كلّ فرقة تخطّيء الطوائف الأخر وهي طائفة الربانيين وطائفة القرّائين وطائفة العانانية وطائفة السمرة‏.‏

وهذا الاختلاف حدث لهم بعد تخريب بخت نصر بيت المقدس وعودهم من أرض بابل بعد الجلاية إلى القدس وعمارة البيت ثانيًا‏.‏

وذلك أنهم في إقامتهم بالقدس أيام العمارة الثانية افترقوا في دينهم وصاروا شيعًا‏.‏

فلما ملكهم اليونان بعد الإسكندر بن فيلبش وقام بأمرهم في القدس هورقانوس بن شمعون بن مشيثا واستقام أمره فسُميَ ملكًا وكان قبل ذلك هو وجميع من تقدّمه ممن ولي أمر اليهود في القدس بعد عودهم من الجلاية إنما يُقال له الكوهن الأكبر فاجتمع لهورقانوس منزلة الملك ومنزلة الكهونية واطمأنّ اليهود في أيامه وأمنوا سائر أعدائهم من الأمم فبطروا معيشتهم واختلفوا في دينهم وتعادوا بسبب الاختلاف وكان من جملة فرقهم إذ ذاك طائفة يُقال لهم الفروشيم ومعناه المعتزلة ومن مذهبهم القول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم‏.‏

وطائفة يُقال لهم الصدوفية بفاء نسبوا إلى كبير لهم يقال له صدوف ومذهبهم القول بنص التوراة وما دل عليه القول الإلهيّ فيها دون ما عداه من الأقوال وطائفة يُقال لهم الجسديم ومعناه الصلحاء ومذهبهم الاشتغال بالنسك وعبادة اللّه سبحانه والأخذ بالأفضل والأسلم في الدين وكانت الصدوفية تعادي المعتزلة عداوة شديدة وكان الملك هورقانوس أوّلًا على رأي المعتزلة وهو مذهب آبائه ثم إنه رجع إلى مذهب الصدوفية وباين المعتزلة وعاداهم ونادى في سائر مملكته بمنع الناس جملة من تعلم رأي المعتزلة والأخذ عن أحد منهم وتتبعهم وقتل منهم كثيرًا‏.‏

وكانت العامّة بأسرها مع المعتزلة فثارت الشرور بين اليهود واتصلت الحروب بينهم وقتل بعضهم بعضًا إلى أن خرب البيت على يد طيطش الخراب الثاني بعد رفع عيسى صلوات الله عليه وتفرّق اليهود من حينئذٍ في أقطار الدنيا وصاروا ذمّة والنصارى تقتلهم حيثما ظفرت بهم إلى أن جاء الله بالملة الإسلامية وهم في تفرّقهم ثلاث فرق الربانيون والقراء والسمرة‏.‏

فأما الربانية‏:‏ فيقال هم بنو مشنو ومعنى مشنو الثاني وقيل لهم ذلك لأنهم يعتبرون أمر البيت الذي بني ثانيًا بعد عودهم من الجلاية وخرّبه طيطش وينزلونه في الاحترام والإكرام والتعظيم منزلة البيت الأوّل الذي ابتدأ عمارته داود وأتمه ابنه سليمان عليهما السلام وخرّبه بخت نصر‏.‏

فصار كأنه يقال لهم أصحاب الدعوة الثانية وهذه الفرقة هي التي كانت تعمل بما في المشنا الذي كُتب بطبرية بعد تخريب طيطش القدس وتعوّل في أحكام الشريعة على ما في التلمود إلى هذا الوقت الذي نحن فيه وهي بعيدة عن العمل بالنصوص الإلهية متبعة لآراء من تقدّمها من الأحبار ومن اطلع على حقيقة دينها تبين له أن الذي ذمّهم الله به في القرآن الكريم حق لا مرية فيه وأنه لا يصح لهم من اسم اليهودية إلاّ مجرّد الانتماء فقط لا إنهم في الإتباع على الملة الموسوية لا سيما منذ ظهر فيهم موسى بن ميمون القرطبيّ بعد الخمسمائة من سني الهجرة المحمدية فإنه ردّهم مع ذلك معطلة فصاروا في أصول دينهم وفروعه أبعد الناس عما جاء به أنبياء اللّه تعالى من الشرائع الإلهية‏.‏

وأما القرّاء‏:‏ فإنهم بنو مقرا ومعنى مقرا الدعوة وهم لا يعوّلون على البيت الثاني جملة ودعوتهم إنما هي لما كان عليه العمل مدّة البيت الأوّل وكان يُقال لهم أصحاب الدعوة الأولى وهم يحكمون نصوص التوراة ولا يلتفتون إلى قول من خالفها ويقفون مع النص دون تقليد من سلف وهم مع الربانيين من العداوة بحيث لا يتناكحون ولا يتجاورون ولا يدخل بعضهم كنيسة بعض ويقال للقرّائين أيضًا المبادية لأنهم كانوا يعملون مبادي الشهور من الاجتماع الكائن بين الشمس والقمر ويقال لهم أيضًا الأسمعية لأنهم يراعون العمل بنصوص التوراة دون العمل بالقياس والتقليد‏.‏

وأما العانانية‏:‏ فإنهم ينسبون إلى عانان رأس الجالوت الذي قدم من المشرق في أيام الخليفة أبي جعفر المنصور ومعه نسخ المشنا الذي كتب من الخط الذي كتب من خط النبيّ موسى وأنه رأى ما عليه اليهود من الربانيين والقرّائين يخالف ما معه فتجرّد لخلافهم وطعن عليهم في دينهم وازدرى بهم وكان عظيمًا عندهم يرون أنه من ولد داود عليه السلام وعلى طريق فاضلة من النسك على مقتضى ملتهم بحيث يرون أنه لو ظهر في أيام عمارة البيت لكان نبيًا فلم يقدروا على مناظرته لما أوتيَ مع ما ذكرنا من تقريب الخليفة له وإكرامه وكان مما خالف فيه اليهود استعمال الشهور برؤية الأهلة على مثل ما شرع في الملة الإسلامية ولم يبال في أيّ يوم وقع من الأسبوع وترك حساب الربانيين وكبس الشهور وخطأهم في العمل بذلك واعتمد على كشف زرع الشعير وأجمل القول في المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وأثبت نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ هو نبيّ أرسل إلى العرب إلا أن التوراة لم تنسخ والحق أنه أرسل إلى الناس كافة صلى الله عليه وسلم‏.‏

ذكر السمرة‏:‏ اعلم أن طائفة السمرة ليسوا من بني إسرائيل البتة وإنما هم قوم قدموا من بلاد المشرق وسكنوا بلاد الشام وتهوّدوا ويُقال أنهم من بني سامرك بن كفركا بن رمي وهو شعب من شعوب الفرس خرجوا إلى الشام ومعهم الخيل والغنم والإبل والقسيّ والنشاب والسيوف والمواشي ومنهم السمرة الذين تفرّقوا في البلاد‏.‏

ويُقال أن سليمان بن داود لما مات افترق ملك بني إسرائيل من بعده فصار رحبعم بن سليمان على سبط يهودا بالقدس وملك يربعم بن نياط على عشرة أسباط من بني إسرائيل وسكن خارجاَ عن القدس واتخذ عجلين دعا الأسباط العشرة إلى عبادتهما من دون الله إلى أن مات فوليّ ملك بني إسرائيل من بعده عدة ملوك على مثل طريقته في الكفر بالله وعبادة الأوثان إلى أن ملكهم عمري بن نوذب من سبط منشا بن يوسف فاشترى مكانًا من رجل اسمه شامر بقنطار فضة وبنى فيه قصرًا وسماه باسم اشتقه من اسم شامر الذي اشترى منه المكان وصير حول هذا القصر مدينة وسماها مدينة شمرون وجعلها كرسيّ ملكه إلى أن مات فاتخذها ملوك بني إسرائيل من بعده مدينة للملك وما زالوا فيها إلى أن ولي هوشاع بن إيلا وهم على الكفر بالله وعبادة وثن بعل وغيره من الأوثان مع قتل الأنبياء إلى أن سلط الله عليهم سنجاريب ملك الموصل فحاصرهم بمدينة شمرون ثلاث سنين وأخذ هوشاع أسيرًا وجلاه ومعه جميع من في شمرون من بني إسرائيل وأنزلهم بهراه وبلخ ونهاوند وحلوان فانقطع من حينئذٍ ملك بني إسرائيل من مدينة شمرون بعدما ملكوا من بعد سليمان عليه السلام مدّة مائتي سنة وإحدى وخمسين سنة ثم إن سنجاريب ملك الموصل نقل إلى شمرون كثيرًا من أهل كوشا وبابل وحماه وأنزلهم فيها ليعمروها فبعثوا إليه يشكون من كثرة هجوم الوحش عليهم يشمرون فسير إليهم من علمهم التوراة فتعلموها على غير ما يجب وصاروا يقرؤونها ناقصة أربعة أحرف الألف والهاء والخاء والعين فلا ينطقون بشيء من هذه الأحرف في قراءتهم التوراة وعرفوا بين الأمم بالسامرة لسكناهم بمدينة شمرون‏.‏

وشمرون هذه هي مدينة نابلس وقيل لها سمرون بسين مهملة ولسكانها سامرة ويُقال معنى السمرة حفظة ونواطير فلم تزل السمرة بنابلس إلى أن غزا بخت نصر القدس وأجلى اليهود منه إلى بابل ثم عادوا بعد سبعين سنة وعمروا البيت ثانيًا إلى أن قام الإسكندر من بلاد اليونان وخرج يريد غزو الفرس فمرّ على القدس وخرج منه يريد عمان فاجتاز على نابلس وخرج إليه كبير السمرة بها وهو سنبلاط السامريّ فأنزله وصنع له ولقوّاده وعظماء أصحابه صنيعاُ عظيمًا وحمل إليه أموالًا جمة وهدايا جليلة واستأذنه في بناء هيكل لله على الجبل الذي يُسمى عندهم طوربريك فأذن له وسار عنه إلى محاربة دارا ملك الفرس فبنى سنبلاط هيكلاَ شبيهًا بهيكل القدس ليستميل به اليهود وموّه عليهم بأن طوربريك هو الموضع الذي اختاره اللّه تعالى وذكره في التوراة بقوله فيها‏:‏ اجعل البركة على طوربريك وكان سنبلاط قد زوّج ابنته بكاهن من كهان بيت المقدس يقال له منشا فمقت اليهود منشا على ذلك وأبعدوه وحطوه عن مرتبته عقوبة له على مصاهرة سنبلاط فأقام سنبلاط منشا زوج ابنته كاهنًا في هيكل طوربريك وآتته طوائف من اليهود وضلوا به وصاروا يحجون إلى هيكله في الأعياد ويقرّبون قرابينهم إليه ويحملون إليه نذورهم وأعشارهم وتركوا قدس اللّه وعدلوا عنه فكثرت الأموال في هذا الهيكل وصار ضدّ البيت المقدس واستغنى كهنته وخدّامه وعظم أمر منشا وكبرت حالته‏.‏

فلم تزل هذه الطائفة تحج إلى طور بريك حتى كان زمن هورقانوس بن شمعون الكوهن من بني حثمتاي في بيت المقدس فسار إلى بلاد السمرة ونزل على مدينة نابلس وحصرها مدّة وأخذها عنوة وخرّب هيكل طور بريك إلى أساسه وكانت مدّة عمارته مائتي سنة وقتل من كان هناك من الكهنة فلم تزل السمرة بعد ذلك إلى يومنا هذا تستقبل في صلاتها حيثما كانت من الأرض طور بريك بجبل نابلس ولهم عبادات تخالف ما عليه اليهود ولهم كنائس في كل بلد تخصهم والسمرة ينكرون نبوّة داود ومن تلاه من الأنبياء وأبوا أن يكون بعد موسى عليه السلام نبيّ وجعلوا رؤساءهم من ولد هارون عليه السلام وأكثرهم يسكن في مدنية نابلس وهم كثير في مدائن الشام ويذكر أنهم الذين يقولون لا مساس ويزعمون أن نابلس هي بيت المقدس وهي مدينة يعقوب عليه السلام وهناك مراعيه‏.‏

وذكر المسعودي أن السمرة صنفان متباينان أحدهما يُقال له الكوشان والآخر الروشان أحد الصنفين يقول بقِدَم العالم‏.‏

والسامرة تزعم أن التوراة التي في أيدي اليهود ليست التوراة التي أوردها موسى عليه السلام ويقولون توراة موسى حُرّفت وغُيّرت وبُدّلت وأن التوراة هي ما بأيديهم دون غيرهم‏.‏

وذكر أبو الريحان محمد بن أحمد البيروتيّ أنّ السامرة تُعرف بالأمساسية‏.‏

قال‏:‏ وهم الأبدال الذين بدّلهم بخت نصر بالشام حين أسر اليهود وأجلاها وكانت السامرة أعانوه ودلوه على عورات بني إسرائيل فلم يحاربهم ولم يقتلهم ولم يسبهم وأنزلهم فلسطين من تحت يده ومذاهبهم ممتزجة من اليهودية والمجوسية وعامّتهم يكونون بموضع من فلسطين يُسمى نابلس وبها كنائسهم ولا يدخلون حدّ بيت المقدس منذ أيام داود النبي عليه السلام لأنهم يدّعون إنه ظلم واعتدى وحوّل الهيكل المقدس من نابلس إلى إيليا وهو بيت المقدس ولا يمسون الناس وإذا مسوهم اغتسلوا ولا يقرّون بنبوّة من كان بعد موسى عليه السلام من أنبياء بني إسرائيل‏.‏

وفي شرح الإنجيل‏:‏ إنّ اليهود انقسمت بعد أيام داود إلى سبع فرق‏.‏

الكتاب‏:‏ وكانوا يحافظون على العادات التي أجمع عليها المشايخ مما ليس في التوراة‏.‏

والمعتزلة‏:‏ وهم الفريسيون وكانوا يظهرون الزهد ويصومون يومين في الأسبوع ويخرجون العشر من أموالهم ويجعلون خيوط القرمز في رؤوس ثيابهم ويغسلون جميع أوانيهم ويبالغون في إظهار والزنادقة‏:‏ وهم من جنس السامرة وهم من الصدوفية فيكفرون بالملائكة والبعث بعد الموت وبجميع الأنبياء ما خلا موسى فقط فإنهم يقرّون بنبوّته‏.‏

والمتظهرون‏:‏ وكانوا يغتسلون كلّ يوم ويقولون لا يستحق حياة الأبد إلاّ من يتطهر كلّ يوم‏.‏

والإسابيون‏:‏ ومعناه الغلاظ الطباع وكانوا يوجبون جميع الأوامر الإلهية وينكرون جميع الأنبياء سوى موسى عليه السلام ويتعبدون بكتب غير الأنبياء‏.‏

والمتقشفون‏:‏ وكانوا يمنعون أكثر المآكل وخاصة اللحم ويمنعون من التزوّج بحسب الطاقة ويقولون بأن التوراة ليست كلها لموسى ويتمسكون بصحف منسوبة إلى أخنوخ وإبراهيم عليه السلام وينظرون في علم النجوم ويعملون بها‏.‏

والهيرذوسيون‏:‏ سموا أنفسهم بذلك لموالاتهم هيرذوس ملكهم وكانوا يتبعون التوراة ويعملون بما فيها انتهى‏.‏

وذكر يوسف بن كريون في تاريخه أن اليهود كانوا في زمن ملكهم هورقانوس يعني في زمن بناء البيت بعد عودهم من الجلاية ثلاث فرق‏:‏ الفروشيم‏:‏ ومعناه المعتزلة ومذهبهم القول بما في التوراة وما فسره الحكماء من سلفهم‏.‏

والصدوفية‏:‏ أصحاب رجل من العلماء يقال له صدوف ومذهبهم القول بنص التوراة وما دلت عليه دون غيره‏.‏

والجسديم ومعناه الصلحاء وهم المشتغلون بالعبادة والنسك الآخذون في كل أمر بالأفضل والأسلم في الدين انتهى‏.‏

وهذه الفرقة أصل فرقتي الربانيين والقرّاء‏.‏

فصل‏:‏ زعم بعضهم أن اليهود عانانية وشمعونية نسبة إلى شمعون الصديق ولي القدس عند قدوم أبي الإسكندر وجالوتية وفيومية وسامرية وعكبرية وأصبهانية وعراقية ومغاربة وشرشتانية وفلسطينية ومالكية وربانية‏.‏

فالعانانية تقول بالتوحيد والعدل ونفي التشبيه والشمعونية تشبه وتبالغ الجالوتية في التشبيه وأما الفيومية فإنها تنسب إلى أبي سعيد الفيوميّ وهم يفسرون التوراة على الحروف المقطعة‏.‏

والسامرية ينكرون كثيرًا من شرائعهم ولا يقرّون بنبوّة من جاء بعد يوشع والعكبرية أصحاب أبي موسى البغداديّ العكبريّ وإسماعيل العكبريّ يخالفون أشياء من السبت وتفسير التوراة والأصبهانية أصحاب أبي عيسى الأصبهاني وادعى النبوّة وأنه عرج به إلى السماء فمسح الرب على رأسه وإنه رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم فآمن به ويزعم يهود أصبهان أنه الدجال وأنه يخرج من ناحيتهم والعراقية تخالف الخراسانية في أوقات أعيادهم ومدد أيامهم والشرشتانية أصحاب شرشتان زعم أنه ذهب من التوراة ثمانون سوقة أي آية وادّعى أن للتوراة تأويلًا باطنًا مخالفًا للظاهر وأما يهود فلسطين فزعموا أن العزير ابن الله تعالى وأنكر أكثر اليهود هذا القول والمالكية تزعم أن الله تعالى لا يحيى يوم القيامة من الموتى إلاّ من احتج عليه بالرسل والكتب ومالك هذا هو تلميذ عانان‏.‏

والربانية تزعم أن الحائض إذا مست ثوبًا بين ثياب وجب غسل جميعها والعراقية تعمل رؤس الشهور بالأهلة وآخرون بالحساب يعملون والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ وهم يوجبون الإيمان بالله وحده وبموسى عليه السلام وبالتوراة ولا بدّ لهم من درسها وتعلمها ويغتسلون ويتوضؤون ولا يمسحون رؤوسهم في وضوئهم ويبدؤون بالرجل اليسرى وفي شيء منه خلاف بينهم وعانان يرى أن الاستنجاء قبل الوضوء ويرى أشمعث أن الاستنجاء بعد الوضوء ولا يتوضؤون بما تغير لونه أو طعمه أو ريحه ولا يجيزون الطهارة من غدير ما لم يكن عشرة أذرع في مثلها والنوم قاعدًا لا ينقض الوضوء عندهم ما لم يضع جنبه الأرض إلا العانانية فإن مطلق النوم عندهم ينقض ومن أحدث في صلاته من قيء أو رعاف أو ريح انصرف وتوضأ وبنى على صلاته ولا تجوز صلاة الرجل في أقلّ من ثلاثة أثواب قميص وسراويل وملاءة يتردّى بها فإن لم يجد الملاءة صلى جالسًا فإن لم يجد القميص والسراويل صلى بقلبه ولا تجوز صلاة المرأة في أقل من أربعة أثواب وعليهم فريضة ثلاث صلوات في اليوم والليلة عند الصبح وبعد الزوال إلى غروب الشمس ووقت العتمة إلى ثلث الليل ويسجدون في دبر كل صلاة سجدة طويلة وفي يوم السبت وأيام الأعياد يزيدون خمس صلوات على تلك الثلاث‏.‏

ولهم خمسة أعياد‏:‏ عيد الفطر‏:‏ وهو الخامس عشر من نيسن يقيمون سبعة أيام لا يأكلون سوى الفطير وهي الأيام التي تخلصوا فيها من فرعون وأغرقه الله‏.‏

وعيد الأسابيع‏:‏ بعد الفطير بسبعة أسابيع وهو اليوم الذي كلم اللّه تعالى فيه بني إسرائيل من طور سيناء‏.‏

وعيد رأس الشهر‏:‏ وهو أوّل تشري وهو الذي فدى فيه إسحاق عليه السلام من الذبح ويسمونه عيد رأس هشايا أي رأى الشهر‏.‏

وعيد صوماريا‏:‏ يعني الصوم العظيم‏.‏

وعيد المظلة‏:‏ يستظلون سبعة أيام بقضبان الآس والخلاف‏.‏

ويجب عليهم الحج في كل سنة ثلاث مرّات لما كان الهيكل عامرًا ويوجبون صوم أربعة أيام‏.‏

أوّلها‏:‏ سابع عشر تموز من الغروب إلى الغروب وعند العانانية هو اليوم الذي أخذ فيه بخت نصر البيت‏.‏

والثاني‏:‏ عشر آب‏.‏

والثالث‏:‏ عاشر كانون الأول‏.‏

والرابع‏:‏ ثالث عشر آذار‏.‏

ويتشدّدون في أمر الحائض بحيث يعتزلونها وثيابها وأوانيها وما مسته من شيء فإنه يُنجسُ ويجب غسله فإن مست لحم القربان أحرق بالنار ومن مسها أو شيئًا من ثيابها وجب عليه الغسل وما عجنته أو خبزته أو طبخته أو كسلته فكله نجس حرام على الطاهرين حلّ للحيض ومن غسل ميتًا نجس سبعة أيام لا يصلي فيها وهم يغسلون موتاهم ولا يصلون عليهم ويوجبون إخراج العشر من جميع ما يملك ولا يجب حتى يبلغ وزنه أو عدده مائة ولا يخرج العشر إلا مرّة واحدة ثم لا يعاد إخراجه ولا يصح النكاح عندهم إلاّ بوليّ وخطبة وثلاثة شهود ومهر مائتي درهم للبكر ومائة للثيب لا أقل من ذلك ويحضر عند عقد النكاح كأس خمر وباقة مرسين فيأخذ الإمام الكأس ويبارك عليه ويخطب خطبة النكاح ثم يدفعه إلى الختن ويقول‏:‏ قد تزوّجت فلانة بهذه الفضة أو بهذا الذهب وهو خاتم في يده وبهذا الكأس من الخمر وبمهر كذا ويشرب جرعة من الخمر ثم يَنهضون إلى المرأة ويأمرونها أن تأخذ الخاتم والمرسين والكأس من يد الختن فإذا أخذت وشربت جرعة وجب عقد النكاح ويضمن أولياء المرأة البكارة فإذا زفت إليه وكَّل الوليّ من يقف بباب الخلوة وقد فرشت ثياب بيض حتى يشاهد الوكيل الدم فإن لم توجد بكرًا رُجمت ولا يجوز عندهم نكاح الإماء حتى يُعتقن ثم ينكحن والعبد يُعتق بعد خدمته لسنين معلومة وهي ست سنين ومنهم من يجوّز بيع صغار أولاده إذا احتاج ولا يجوّزون الطلاق إلا بفاحشة أو سحر أو رجوع عن الدين وعلى من طلق خمسة وعشرون درهمًا للبكر ونصف ذلك للثيب وينزل في كتابها طلاقها بعد أن يقول الزوج أنت طالق مني مائة مرّة ومختلعة مني وفي سعة أن تتزوِّجي من شئت ولا يقع طلاق الحامل أبدًا نعم إلاّ أن يجوّزوه ويراجع الرجل امرأته ما لم تتزوج فإن تزوّجت حومَت عليه إلى الأبد‏.‏

والخيار بين المتبايعين ما لم يُنقل المبيع إلى البائع‏.‏

والحدود عندهم على خمسة أوجه حرق ورجم وقتل وتعزير وتغريم فالحرق على من زنى بأمّ امرأته أو ربيبته أو بامرأة أبيه أو امرأة ابنه والقتل على من قَتَل‏.‏

والرجم على المحصن إذا زنى أو لاط وعلى المرأة إذا مكنت من نفسها بهيمة‏.‏

والتعزير على من قذف والتغريم على من سرق ويرون أن البينة على المدّعي واليمين على من أنكر‏.‏

وعندهم أن من أتى بشيء من سبعة وثلاثين عملًا في يوم السبت أو ليلته استحق القتل وهي‏:‏ كرب الأرض وزرعها وحصاد الزرع وسياقة الماء إلى الزرع وحلب اللبن وكسر الحطب وإشعال النار وعجن العجين وخبزه وخياطة الثوب وغسله ونسج سلكين وكتابة حرفين أو نحوهما وأخذ الصيد وذبح الحيوان والخروج من القرية والانتقال من بيت إلى آخر والبيع والشراء والدف والطحن والاحتطاب وقطع الخبز ودق اللحم وإصلاح النعل إذا انقطعت وخلط علف الدابة ولا يجوز للكاتب أن يخرج يوم السبت من منزله ومعه قلمه ولا الخياط ومعه إبرته وكل من عمل شيئًا استحق به القتل فلم يسلم نفسه فهو ملعون‏.‏

قبط مصر ودياناتهم القديمة وكيف تنصروا ثم صاروا ذمّة للمسلمين وما كان لهم في ذلك من القصص والأنباء وذكر الخبر عن كنائسهم ودياراتهم وكيف كان ابتداؤها ومصير أمرها اعلم أن جميع أهل الشرائع اتباع الأنبياء عليهم السلام من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحًا عليه السلام هو الأب الثاني للبشر وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه ومنه ذرأ الله تعالى جميع أولاد آدم فليس أحد من بني آدم إلاّ وهو من أولاد نوح وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك فأنكروا الطوفان وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط وأن أولاد كيومرت الذي هو عندهم الإنسان الأوّل كانوا بالبلاد الشرقية من بابل فلم يصل الطوفان إليهم ولا إلى الهند والصين‏.‏

والحق ما عليه أهل الشرائع وأن نوحًا عليه السلام لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة نزل بهم وهم ثمانون رجلًا سوى أولاده فماتوا بعد ذلك ولم يعقبوا وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة ويؤيد هذا قول اللّه تعالى عن نوح‏:‏ ‏"‏ وجعلنا ذريته هم الباقين ‏"‏ ‏"‏ الصافات ‏"‏ وكان من خبر ذلك أن أولاد نوح الثلاثة وهم سام وحام ويافث اقتسموا الأرض‏.‏

فصار لبني سام بن نوح أرض العراق وفارس إلى الهند ثم إلى حضرموت وعمان والبحرين‏.‏

وعالج ويبرين ووبار والدو والد هنا وجميع أرض اليمن وأرض الحجاز‏.‏

وصار لبني حام بن نوح جنوب الأرض مما يلي أرض مصر مغربًا إلى بلاد المغرب الأقصى‏.‏

وصار لبني يافث بن نوح بحر الخزر مشرقًا إلى الصين‏.‏

فكان من ذرية سام بن نوح القضاعيون والفرس والسريانيون والعبرانيون والعرب المستعربة والنبط وعاد وثمود والأمورانيون والعماليق وأمم الهند وأهل السند وعدّة أمم قد بادت‏.‏

وكانت ذرية حام بن نوح من أربعة أولاده الذين هم‏:‏ كوش ومصرايم وقفط وكنعان فمن كوش الحبشة والزنج ومن مصرايم قبط مصر والنوبة ومن قفط الأفارقة أهل إفريقية ومن جاورهم إلى المغرب الأقصى ومن كنعان أمم كانت بالشام حاربهم موسى بن عمران عليه السلام وقومه من بني إسرائيل ومنهم أجناس عديدة من البربر درجوا‏.‏

وكانت مساكن بني حام من صيدا إلى أرض مصر ثم إلى آخر إفريقية نحو البحر المحيط وانتشروا فيما بين ذلك إلى الجنوب وهم ثلاثون جنسًا‏.‏

وكان من ذرية يافث بن نوح‏:‏ الصقلب والفرنجة والغالليون من قبائل الروم والغوط وأهل الصين وقوم عرفوا بالمادنيين واليونانيون والروم الفريقيون وقبائل الأتراك ويأجوج ومأجوج وأهل قبرس ورودس وعدّة بني يافث خمسة عشر جنسًا سكنوا القطر الشماليّ إلى البحر المحيط فضاقت بهم بلادهم ولم تسعهم لكثرتهم فخرجوا منها وتغلبوا على كثير من بلاد بني سام بن نوح‏.‏

وذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب أنّ القبط تنسب إلى قبطيم بن مصرايم بن مصر بن حام بن نوح وأن قبطيم أوّل من عمل العجائب بمصر وأثار بها المعادن وشق الأنهار لما ولي أرض مصر بعد أبيه مصرايم وأنه لحق بلبلة الألسن وخرج منها وهو يعرف اللغة القبطية وأنه ملك مدّة ثمانين سنة ومات فاغتمّ لموته بنوه وأهله ودفنوه في الجانب الشرقيّ من النيل بسرب تحت الجبل الكبير فقام من بعده في ملك مصر ابنه قفطيم بن قبطيم وزعم بعض النسابة أن مصر بن حام بن نوح ويُقال له مصرايم ويقال بل مصريم بن هرمس بن هردوس جدّ الإسكندر وقيل بل قفط بن حام بن نوح نكح بخت بنت يتاويل بن ترسل بن يافث بن نوح فولدت له بوقير وقبط أبا قبط مصر‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ومن هاهنا قالوا إن مصر بن حام بن نوح وإنما هو مصر بن هرمس بن هردوس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان وبه سميت مصر فهي مقدونية وقيل القبط من ولد قبط بن مصر بن قفط بن حام بن نوح وبمصر هذا سميت مصر‏.‏

ديانة القبط قبل تنصرهم اعلم أن قبط مصر كانوا في غابر الدهر أهل شرك باللّه يعبدون الكواكب ويقرّبون قرابينهم ويقيمون على أسمائها التماثيل كما هي أفعال الصابئة‏.‏

وذكر ابن وصيف شاه‏:‏ أن عبادة الأصنام أوّل ما عُرفت بمصر أيام قفطريم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح وذلك أن إبليس أثار الأصنام التي غرّقها الطوفان وزين للقبط عبادتها وأن البودشير بن قبطيم أول من تكهن وعمل بالسحر وأن مناوش بن منقاوش أوّل من عبد البقر من أهل مصر‏.‏

وذكر الموفق أحمد بن أبي القاسم بن خليفة المعروف بابن أبي أصيبعة أنه كان للقبط مذهب مشهور من مذاهب الصابئة ولهم هياكل على أسماء الكواكب يحج إليها الناس من أقطار الأرض وكانت الحكماء والفلاسفة ممن سواهم تتهافت عليهم وتريد التقرّب إليهم لما كان عندهم من علوم السحر والطلسمات والهندسة والنجوم والطب والحساب والكيمياء ولهم في ذلك أخبار كثيرة وكانت لهم لغة يختصون بها وكانت خطوطهم ثلاثة أصناف‏:‏ خط العامّة وخط الخاصة وهو خط الكهنة المختصر وخط الملوك‏.‏

وقال ابن وصيف شاه‏:‏ كانت كهنة مصر أعظم الكهان قدرًا وأجلها علمًا بالكهانة وكانت حكماء اليونانيين تصفهم بذلك وتشهد لهم به فيقولون اختبرنا حكماء مصر بكذا وكذا وكانوا ينحون بكهانتهم نحو الكواكب ويزعمون أنها هي التي تفيض عليهم العلوم وتخبرهم بالغيوب وهي التي تعلمهم أسرار الطوالع وصفة الطلاسم وتدلهم على العلوم المكتومة والأسماء الجليلة المخزونة فعملوا الطلسمات المشهورة والنواميس الجليلة وولدوا الأشكال الناطقة وصوّروا الصور المتحرّكة وبنوا العالي من البنيان وزبروا علومهم في الحجارة وعملوا من الطلسمات ما دفعوا به الأعداء عن بلادهم فحِكَمُهُم باهرة وعجائبهم ظاهرة وكانت أرض مصر خمسًا وثمانين كورة منها‏:‏ أسفل الأرض خمس وأربعون كورة ومنها بالصعيد أربعون كورة وكان في كل كورة رئيس من الكهنة وهم السحرة وكان الذي يتعبد منهم للكواكب السبعة السيارة سبع سنين يسمونه باهر والذي يتعبد منهم لها تسعًا وأربعين سنة لكلّ كوكب سبع سنين يسمونه قاطر وهذا يقوم له الملك إجلالًا ويجلسه معه إلى جانبه ولا يتصرّف إلاّ برأيه وتدخل الكهنة ومعهم أصحاب الصنائع فيقفون حذاء القاطر وكان كلّ كاهن منهم ينفرد بخدمة كوكب من الكواكب السبعة السيارة لا يتعدّاه إلى سواه ويدعي بعبد ذلك الكوكب فيقال‏:‏ عبد القمر عبد عطارد عبد الزهرة عبد الشمس عبد المريخ عبد المشتري عبد زحل‏.‏

فإذا وقفوا جميعًا قال القاطر لأحدهم‏:‏ أين صاحبك اليوم فيقول في برج كذا ودرجة كذا ودقيقة كذا‏.‏

ثم يقول للآخر كذلك فيجيبه حتى يأتي على جميعهم ويعرف أماكن الكواكب من فلك البروج ثم يقول للملك ينبغي أن تعمل اليوم كذا أو تأكل كذا أو تجامع في وقت كذا أو تركب وقت كذا إلى آخر ما يحتاج إليه والكاتب قائم بين يديه يكتب ما يقول ثم يلتفت القاطر إلى أهل الصناعات ويخرجهم إلى دار الحكمة فيضعون أيديهم في الأعمال التي يصلح عملها في ذلك اليوم ثم يؤرخ ما جرى في ذلك اليوم في صحيفة وتخزن في خزائن الملك وكان الملك إذا همه أمر جمع الكهان خارج مدينة منف وقد اصطف الناس لهم بشارع المدينة ثم يدخل الكهان ركبانًا على قدر مراتبهم والطبل بين أيديهم وما منهم إلاّ من أظهر أعجوبة قد عملها فمنهم من يعلو وجهه نور كهيئة نور الشمس لا يقدر أحد على النظر إليه ومنهم من على بدنه جواهر مختلفة الألوان قد نسجت على ثوب ومنهم من يتوشح بحيات عظيمة ومنهم من يعقد فوقه قبة من نور إلى غير ذلك من بديع أعمالهم ويصيرون كذلك إلى حضرة الملك فيخبرهم بما نزل به فيجيلون رأيهم فيه حتى يتفقوا على ما يصرفونه به وهذا أعزك الله من خبرهم لما كان الملك فيهم فلما استولت العماليق على ملك مصر وملكتها الفراعنة ثم تداولتها من بعدهم أجناس أخر تناقصت علوم القبط شيئًا بعد شيء إلى أن تنصروا فغادروا عوائد أهل الشرك واتبعوا ما أمروا به من دين النصرانية كما ستقف عليه تلو هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

 دخول قبط مصر في دين النصرانية

اعلم أن النصارى أتباع عيسى نبيّ الله ابن مريم عليه السلام سموا نصارى لأنهم ينتسبون إلى قرية الناصرة من جبل الجليل بالجيم ويعرفُ هذا الجبل بجبل كنعان وهو الآن في زمننا من جملة معاملة صفد والأصل في تسميتهم نصارى‏:‏ أنّ عيسى ابن مريم عليه السلام لما ولدته أمّه مريم ابنة عمران ببيت لحم خارج مدينة بيت المقدس ثم سارت به إلى أرض مصر وسكنتها زمانًا ثم عادت به إلى أرض بني إسرائيل قومها نزلت قرية الناصرة فنشأ عيسى بها وقيل له يسوع الناصريّ فلما بعثه الله تعالى رسولًا إلى بني إسرائيل وكان من شأنه ما ستراه إلى أن رفعه الله إليه تفرّق الحواريون وهم الذين آمنوا به في أقطار الأرض يدعون الناس إلى دينه فنسبوا إلى ما نسب إليه نبيهم عيسى ابن مريم وقيل لهم الناصرية ثم تلاعب العرب بهذه الكلمة وقالوا نصارى‏.‏

قال ابن سيده‏:‏ ونصرى وناصرة ونصورية‏:‏ قرية بالشام والنصارى منسوبون إليها هذا قول أهل اللغة وهو ضعيف‏.‏

إلاّ أن نادر النسب يسيغه وأما سيبويه فقال‏:‏ أما النصارى فذهب الخليل إلى أنه جمع نصري ونصران كما قالوا ندمان وندامى ولكنهم حذفوا إحدى اليائين كما حذفوا من أثقية وأبدلوا مكانها ألفًا‏.‏

قال‏:‏ وأما الذي نوجهه نحن عليه فإنه جاء على نصران لأنه قد تكلم به فكأنك جمعت وقلت نصارى كما قلت نداهى فإذا أقيس والأوّل مَذْهَبٌ وإنما كان أقيس لأنا لم نسمعهم قالوا نصرى والتنصر الدخول في دين النصرانية ونصره جعله كذلك والأنصر الأقلف وهو من ذلك لأنّ النصارى قُلف وفي شرح الإنجيل أن معنى قرية ناصرة الجديدة والنصرانية التجدّد والنصرانيّ المجدّد وقيل نسبوا إلى نصران وهو من أبنية المبالغة ومعناه أن هذا الدين في غير عصابة صاحبه فهو دين من ينصره من أتباعه‏.‏

وإذا تقرّر هذا فاعلم ‏"‏ أنّ المسيح روح اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم ‏"‏ ‏"‏ عيسى ‏"‏ وأصل اسمه بالعبرانية التي هي لغة أمّه وآبائها إنما هو ياشوع وسمته النصارى يسوع وسماه الله تعالى وهو أصدق القائلين عيسى ومعنى يسوع في اللغة السريانية المخلّص قاله في شرح الإنجيل ونعته بالمسيح وهو الصدّيق وقيل لأنه كان لا يمسَح بيده صاحب عاهة إلاّ برأ وقيل لأنه كان يمسح رؤوس اليتامى وقيل لأنه خرج بطن أمه ممسوحًا بالدهن وقيل لأن جبريل عليه السلام مسحه بجناحه عند ولادته صونًا له من مس الشيطان وقيل المسيح اسم مشتق من المسح أي الدهن لأنّ روح القدس قام بجسد عيسى مقام الدهن الذي كان عند بني إسرائيل يُمسح به الملك ويُمسح به الكهنوت وقيل لأنه مُسِحَ بالبركة وقيل لأنه أمسَحَ الرِجْلَينِ ليس لرجليه أخمص وقيل لأنه يَمْسحُ الأرض بسياحته لا يستوطن مكانًا وقيل هي كلمة عبرانية أصلها ماسيح فتلاعبت بها العرب وقالت مسيح‏.‏

وكان من خبره عليه السلام أن مريم ابنة عمران بينما هي في محرابها إذ بشرها اللّه تعالى بعيسى فخرجت من بيت المقدس وقد اغتسلت من المحيض فتمثل لها الملك بشرًا في صورة يوسف بن يعقوب النجار أحد خدّام القدس فنفخ في جيبها فسرت النفخة إلى جوفها فحملت بعيسى كما تحمل النساء بغير ذكر بل حلت نفخة الملك منها محل اللقاح ثم وضعت بعد تسعة أشهر وقيل بل وضعت في يوم حملها بقرية بيت لحم من عمل مدينة القدس في يوم الأربعاء خامس عشري كانون الأوّل وتاسع عشري كيهك سنة تسع عشرة وثلاثمائة للإسكندر فقدمت رسل ملك فارس في طلبه ومعهم هدية لها فيها ذهب ومرّ ولبان فطلبه هيرودس ملك اليهود بالقدس ليقتله وقد أنذر به فسارت أمه مريم به وعمره سنتان على حمار ومعها يوسف النجار حتى قدموا إلى أرض مصر فسكنوها مدّة أربع سنين ثم عادوا وعمر عيسى ست سنين فنزلت به مريم قرية الناصرة من جبل الجليل فاستوطنتها فنشأ بها عيسى حتى بلغ ثلاثين سنة فسار هو وابن خالته يحيى بن زكريا عليهما السلام إلى نهر الأردن فاغتسل عيسى فيه فحلت عليه النبوّة فمضى إلى البرّية وأقام بها أربعين يومًا لا يتناول طعامًا ولا شرابًا فأوحى الله إليه بأن يدعو بني إسرائيل إلى عبادة الله تعالى فطاف القرى ودعا الناس إلى اللّه تعالى وأبرأ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله وبكَّت اليهود وأمرهم بالزهد في الدنيا والتوبة من المعاصي فآمن به الحواريون وكانوا قومًا صيادين وقيل قصارين وقيل ملاحين وعددهم اثنا عشر رجلًا وصدقوا بالإنجيل الذي أنزله اللّه تعالى عليه وكذّبه عامّة اليهود وضللوه واتهموه بما هو بريء منه فكانت له ولهم عدة مناظرات آلت بهم إلى أن اتفق أحبارهم على قتله وطرقوه ليلة الجمعة فقيل أنه رُفع عند ذلك وقيل بل أخذوه وأتوا به إلى بلاطس النبطيّ شحنة القدس من قبل الملك طيباريوس قيصر وراودوه على قتله وهو يدفعهم عنه حتى غلبوه على رأيه بأن دينهم اقتضى قتله فأمكنهم منه وعندما أدنوه من الخشبة ليصلبوه رفعه اللّه إليه وذلك في الساعة السادسة من يوم الجمعة خامس عشر شهر نيسن وتاسع عشري شهر برمهات وخامس عشر شهر آذار وسابع عشر شهر ذي القعدة وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة وثلاثة أشهر فصلبوا الذي شبه لهم وصلبوا معه لصين وسمروهم بمسامير الحديد واقتسم الجند ثياب المصلوب فغشيت الأرض ظلمة دامت ثلاث ساعات حتى صار النهار شبه الليل ورؤيت النجوم وكان مع ذلك هزة وزلزلة ثم أنزل المصلوب عن الخشبة بكرة يوم السبت ودفن تحت صخرة في قبر جديد ووكل بالقبر من يحرسه لئلا يأخذ المقبور أصحابه فزعم النصارى أن المقبور قام من قبره ليلة الأحد سحرًا ودخل عشية ذلك اليوم على الحواريين وحادثهم ووصاهم ثم بعد الأربعين يومًا من قيامه صعد إلى السماء والحواريون يشاهدونه فاجتمعوا بعد رفعه بعشرة أيام في علية صيون التي يقال لها اليوم صهيون خارج القدس وظهرت لهم خوارق فتكلموا بجميع الألسن فآمن بهم فيما يذكر زيادة على ثلاثة آلاف إنسان‏.‏

فأخذهم اليهود وحبسوهم فظهرت كرامتهم وفتح اللّه لهم باب السجن ليلًا فخرجوا إلى الهيكل وطفقوا يدعون الناس فهمّ اليهود بقتلهم وقد آمن بهم نحو الخمسة آلاف إنسان فلم يتمكنوا من قتلهم فتفرّق الحواريون في أقطار الأرض يدعون إلى دين المسيح فسار بطرس رأس الحواريين ومعه شمعون الصفا إلى أنطاكية ورومية فاستجاب لهم بشر كثير وقُتل في خامس أبيب وهو عيد القصرية‏.‏

وسار أندراوس أخوه إلى نيقية وما حولها فآمن به كثير ومات في بزنطية في رابع كيهك وسار يعقوب بن زبدي أخو يوحنا الإنجيليّ إلى بلد ابدينية فتبعه جماعة وقتل في سابع عشر برمودة وسار يوحنا الإنجيليّ إلى آسيا وأفسيس وكتب انجيله باليونانيّ بعدما كتب متى ومرقص ولوقا أناجيلهم فوجدهم قد قصروا في أمور فتكلم عليها وكان ذلك بعد رفع المسيح بثلاثين سنة وكتب ثلاث رسائل ومات وقد أناف على مائة سنهّ وسار فيلبس إلى قيسارية وما حولها وقتل بها في ثامن هاتور وقد اتبعه جماعات من الناس‏.‏

وسار برتولوماوس إلى أرمينية وبلاد البربر وواحات مصر فآمن به كثير وقتل وسار توما إلى الهند فقتل هناك‏.‏

وسار متى العشار إلى فلسطين وصور وصيدا ومدينة بصرى وكتب إنجيله بالعبرانيّ بعد رفع المسيح بتسع سنين ونقله يوحنا إلى اللغة الرومية وقتل متى بقرطاجنة في ثامن عشر بابه بعدما استجاب له بشر كثير‏.‏

وسار يعقوب بن حلفا إلى بلاد الهند ورجع إلى القدس وقتل في عاشر امشير‏.‏

وسار يهوذا بن يعقوب من أنطاكية إلى الجزيرة فآمن به كثير من الناس ومات في ثاني أبيب‏.‏

وسار شمعون إلى سميساط وحلب ومنبج وبزنطية وقتل في سابع أبيب‏.‏

وسار ميتاس إلى بلاد الشرق وقتل في ثامن عشر برمهات‏.‏

وسار بولص الطرسوسي إلى دمشق وبلاد الروم وروميه فقتل في خامس أبيب‏.‏

وتفرّق أيضًا سبعون رسولًا أخر في البلاد فآمن بهم الخلائق ومن هؤلاء السبعين‏:‏ مرقص الإنجيليّ وكان اسمه أوّلًا يوحنا فعرف ثلاثة ألسن الفرنجيّ والعبراني واليونانيّ ومض إلى بطرس برومية وصحبه وكتب الإنجيل عنده بالفرنجية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة ودعا الناس برومية ومصر والحبشة والنوبة وأقام حنانيا أسقفًا على الإسكندرية وخرج إلى برقة فكثرت النصارى في أيامه وقتل في ثاني عيد الفسح بالإسكندرية‏.‏

ومن السبعين أيضاَ لوقا الإنجيليّ الطبيب تلميذ بولص كتب الإنجيل باليونانية عن بولص بالإسكندرية بعد رفع المسيح بعشرين سنة وقيل باثنتين وعشرين سنة ولما فر بطرس رأس الحواريين من حبس رومية ونزل بأنطاكية أقام بها داريوس بطركًا وأنطاكية أحد الكراسي الأربعة التي للنصارى وهي‏:‏ رومية والإسكندرية والقدس وأنطاكية فأقام داريوس بطرك أنطاكية سبعًا وعشرين سنة وهو أوّل بطاركتها وتوارث من بعده البطاركة بها البطركية واحدًا بعد واحد‏.‏

ودعا شمعون الصفا برومية خمسًا وعشرين سنة فآمنت به بطركية وسارت إلى القدس وكشفت عن خشبات الصليب وسلمتها إلى يعقوب بن يوسف الأسقف وبنت هناك كنيسة وعادت إلى رومية وقد اشتدّت على دين النصرانية فآمن معها عدّة من أهلها‏.‏

واجتمع الرسل بمدينة رومية ووضعوا القوانين وأرسلوها على يد قليموس تلميذ بطرس فكتبوا فيها عدد الكتب التي يجب قبولها من العتيقة والجديدة فأمّا العتيقة فالتوراة وكتاب يوشع بن نون وكتاب القضاة وكتاب راغون وكتاب يهوديت وسير الملوك وسفر بنيامين وكتب المقانين وكتاب عزرة وكتاب أستير وقصة هامان وكتاب أيوب وكتاب مزامير داود وكتب سليمان بن داود وكتب الأنبياء وهي ستة عشر كتابًا وكتاب يوشع بن شيراخ وأما الكتب الحديثة‏:‏ فالأناجيل الأربعة وكتاب القليتليقون وكتاب بولص وكتاب الأبركسيس وهو قصص الحواريين وكتاب قليموس وفيه ما أمر به الحواريون وما نهوا عنه‏.‏

ولما قتل الملك نيرون قيصر بطرس رأس الحواريين برومية أقيم من بعده أريوس بطرك رومية وهو أول بطرك صار على رومية فأقام في البطركية اثنتي عشرة سنة وقام من بعده البطاركة بها واحدًا بعد واحد إلى يومنا هذا الذي نحن فيه‏.‏

ولما قتل يعقوب أسقف القدس على يد اليهود هدموا بعده البيعة وأخذوا خشبة الصليب والخشبتين معها ودفنوها وألقوا على موضعها ترابًا كثيرًا فصار كومًا عظيمًا حتى أخرجتها هيلانة أم قسطنطين كما ستراه قريبًا إن شاء اللّه تعالى‏.‏

وأقيم بعد قتل يعقوب سمعان ابن عمه أسقف القدس فمكث اثنتين وأربعين سنه أسقفًا‏.‏

ومات فتداول الأساقفة بعده الأسقفية بالقدس واحدًا بعد آخر‏.‏

ولما أقام مرقص حناينا ويقال أناينو بطرك الإسكندرية جعل معه اثني عشر قسًا وأمرهم إذا مات البطرك أن يجعلوا عوضه واحدًا منهم ويقيموا بدل ذلك القس واحدًا من النصارى حتى لا يزالوا أبدًا اثني عشر قسًا فلم تزل البطاركة تُعمل من القسوس إلى أن اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر كما ستراه إن شاء الله تعالى وكان بطرك الإسكندرية يُقال له البابا من عهد حنانيا هذا أوّل بطاركة الإسكندرية إلى أن أقيم ديمتريوس وهو الحادي عشر من بطاركة الإسكندرية ولم يكن بأرض مصر أساقفة فنصب الأساقفة بها وكثروا فغزاها في بطركيته هرقل وصار الأساقفة يسمون البطرك الأب والقسوس وسائر النصارى يسمون الأسقف الأب ويجعلون لفظة البابا تختص ببطرك الإسكندرية ومعناها أبو الآباء ثم انتقل هذا الاسم عن كرسي الإسكندرية إلى كرسي رومية من أجل أنه كرسي بطرس رأس الحواريين فصار بطرك رومية يُقال له البابا واستمرّ على ذلك إلى زمننا الذي نحن فيه وأقام أناينو وهو حناينا في بطركية الإسكندرية اثنتين وعشرين سنة ومات في عشري هاتور سنة سبع وثمانين لظهور المسيح فأقيم بعده مينيو فأقام اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر ومات وفي أثناء ذلك ثار اليهود على النصارى وأخرجوهم من القدس فعبروا الأردن وسكنوا تلك الأماكن فكان بعد هذا بقليل خراب القدس وجلاية اليهود وقتلهم على يد طيطش‏.‏

ويقال طيطوس بعد رفع المسيح بنحو أربع وأربعين سنة فكثرت النصارى في أيام بطركية مينيو وعاد كثير منهم إلى مدينة القدس بعد تخريب طيطش لها وبنوا بها كنيسة وأقاموا عليها سمعان أسقفًا ثم أقيم بعد مينيو في الإسكندرية في البطركية كرتيانو وفي أيام الملك انديانوس قيصر أصاب النصارى منه بلاءً كثير وقتل منهم جماعة كثيرة واستعبد باقيهم فنزل بهم بلاء لا يوصف في العبودية حتى رحمهم الوزراء وكابر الروم وشفعوا فيهم فمنّ عليهم قيصر وأعتقهم ومات كرتيانو بطرك الإسكندرية في حادي عشر برمودة بعدما دبر الكرسيّ إحدى عشرة سنة وكان حميد السيرة فقدم بعده ايريمو فأقام اثنتي عشرة سنة ومات في ثالث مسرى واشتدّ الأمر على النصارى في أيام الملك أريدويانوس وقتل منهم خلائق لا يحصى عددهم وقدم مصر فأفنى من بها من النصارى وخرّب ما بني في مدينة القدس من كنيسة النصارى ومنعهم من التردّد إليها وأنزل عوضهم بالقدس اليونانيين وسمى القدس إيليا فلم يتجاسر نصراني أن يدنو من القدس وأقيم بعد موت ايريمو بطرك الإسكندرية بسطس فأقام إحدى عشرة سنة ومات في ثاني عشر بؤنة فخلف بعده أرمانيون فأقام عشر سنين وأربعة أشهر ومات في عاشر بابة فأقيم بعده موقيانو بطرك الإسكندرية تسع سنين وستة أشهر ومات في سادس طوبه فقدم بعده على الإسكندرية كلوتيانو فأقام أربع عشرة سنة ومات في تاسع أبيب وفي أيامه اشتدّ الملك أوليانوس قيصر على النصارى وقتل منهم خلقًا كثيرًا وقدّم على كرسيّ الإسكندرية بعد كلوتيانو غرنبو بطركًا فأقام اثنتي عشرة سنة ومات في خامس أمشير وفي أيام بطركيته اتفق رأي البطاركة بجميع الأمصار على حساب فصح النصارى وصومهم ورتبوا كيف يستخرج ووضعوا حساب الأبقطي وبه يستخرجون معرفة وقت صومهم وفصحهم واستمرّ الأمر على ما رتبوه فيما بعد وكانوا قبل ذلك يصومون بعد الغطاس أربعين يومًا كما صام المسيح عليه السلام ويفطرون‏.‏

وفي عيد الفسح يعملون الفسح مع اليهود فنقل هؤلاء البطاركة الصوم وأوصلوه بعيد الفسح لأنّ عيد الفسح كانت فيه قيامة المسيح من الأموات بزعمهم وكان الحواريون قد أمروا أن لا يغير عن وقته وأن يعملوه كلّ سنة في ذلك الوقت ثم أقيم بكرسي الإسكندرية بعد غرنبو في البطركية بوليانوس فأقام عشر سنين ومات في ثامن برمهات فاستخلف بعده ديمتريوس فأقام بعده في البطركية ثلاثًا وثلاثين سنة ومات وكان فلاحًا أميًّا وله زوجة ذكر عنه أنه لم يجامعها قط وفي أيامه أثار الملك سوريانوس قيصر على النصارى بلاءً كبيرًا في جميع مملكته وقتل منهم خلقًا كثيرًا وقدم مصر وقتل جميع من فيها من النصارى وهدم كنائسهم وبنى بالإسكندرية هكيلًا لأصنامه ثم أقيم بعده في بطركية الإسكندرية باركلًا فأقام ست عشرة سنة ومات في ثامن كيهك فلقي النصارى من الملك مكسيموس قيصر شدّة عظيمة وقتل منهم خلقًا كثيرًا فلما ملك فيلبش قيصر أكرم النصارى وقدّم على بطركية الإسكندرية ديوسيوس فأقام تسع عشرة سنة ومات في ثالث توت وفي أيامه كان الراهب انطونيوس المصريّ وهو أوّل من ابتدأ بلبس الصوف وابتدأ بعمارة الديارات في البراري وأنزل بها الرهبان ولقي النصارى من الملك داقيوس قيصر شدّة فإنه أمرهم أن يسجدوا لأصنامه فأبوا من السجود لها فقتلهم أبرح قتلة وفرّ منه الفتية أصحاب الكهف من مدينة أفسس واختفوا في مغارة في جبل شرقيّ المدينة وناموا فضرب اللّه على آذانهم فلم يزالوا نائمين ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا فقام من بعده بالإسكندرية مكسيموس وأقام بطركًا اثنتي عشرة سنة ومات في رابع عشر برمودة فأقيم بعده تؤوبا بطركًا مدّة سبع سنين وتسعة أشهر ومات وكانت النصارى قبله تصلّي بالإسكندرية خفية من الروم خوفًا من القتل فلاطف تؤوبا الروم وأهدى إليهم تحفًا جليلة حتى بنى كنيسة مريم بالإسكندرية فصلى بها النصارى جهرًا واشتدّ الأمر على النصارى في أيام الملك طيباريوس قيصر وفتل منهم خلقًا كثيرًا فلما كانت أيام دقلطيانوس قيصر خالف عليه أهل مصر والإسكندرية فقتل منهم خلقًا كثيرًا وكتب بغلق كنائس النصارى وأمر بعبادة الأصنام وقتل من امتنع منها فارتدّ خلائق كثيرة جدًّا وأقام في البطركية بعد تؤوبابطرس فأقام إحدى عشرة سنة وقُتل في الإسكندرية بالسيف وقُتل معه امرأته وابنتاه لامتناعهم من السجود للأصنام فقام بعده تلميذه ارشلاوش فأقام ستة أشهر ومات وبدقلطيانوس هذا وقتله لنصارى مصر يؤرحْ قبط مصر إلى يومنا هذا كما قد ذكرناه في تاريخ القبط عند ذكر التواريخ من هذا الكتاب فراجعه‏.‏

ثم قام من بعده مكسيمانوس قيصر فاشتدّ على النصارى وقتل منهم خلقًا كثيرًا حتى كانت القتلى منهم تحمل على العجل وترمى في البحر ثم قام بعد أرشلاوش في بطركية الإسكندرية اسكندروس تلميذ بطرس الشهيد فأقام ثلاثًا وعشرين سنة ومات في ثاني عشري برمودة وفي بطركيته كان مجمع النصارى بمدينة نيقية وفي أيامه كتب النصارى وغيرهم من أهل رومية إلى قسطنطين وكان على مدينة بزنطية يحثونه على أن ينقذهم من جور مكسيمانوس وشكوا إليه عتوّه فأجمع على المسير لذلك وكانت أمّه هيلاني من أهل قرى مدينة الرها قد تنصرت على يد أسقف الرها وتعلمت الكتب فلما مرّ بقريتها قسطس صاحب شرطة دقلطيانوس رآها فأعجبته فتزوّجها وحملها إلى بزنطية مدينته فولدت له قسطنطين وكان جميلًا فأنذر دقلطيانوس منجموه بأن هذا الغلام قسطنطين سيملك الروم ويبدّل دينهم فأراد قتله ففرّ منه إلى الرها وتعلم بها الحكمة اليونانية حتى مات دقلطيانوس فعاد إلى بزنطية فسلمها له أبوه قسطس ومات فقام بأمرها بعد أبيه إلى أن استدعاه أهل رومية فأخذ يدبر في مسيره فرأى في منامه كواكب في السماء على هيئة الصليب وصوت من السماء يقول له احمل هذه العلامة تنتصر على عدوّك فقص رؤياه على أعوانه وعمل شكل الصليب على أعلامه وبنوده وسار لحرب مكسيمانوس برومية فبرز إليه وحاربه فانتصر قسطنطين عليه وملك رومية وتحوّل منها فجعل دار ملكه قسطنطينية فكان هذا ابتداء رفع الصليب وظهوره في الناس فاتخذه النصارى من حينئذٍ وعظموه حتى عبدوه وأكرم قسطنطين النصارى ودخل في دينهم بمدينة نيقومديا في السنة الثانية عشرة من ملكه على الروم وأمر ببناء الكنائس في جميع ممالكه وكسر الأصنام وهدم بيوتها وعُمل المجمع بمدينة نيقية وسببه أن الإسكندروس بطرك الإسكندرية منع آريوس من دخول الكنيسة وحرمه لمقاتلته ونقل عن بطرس الشهيد بطرك إسكندرية أنه قال عن آريوس أنَّ إيمانه فاسد وكتب بذلك إلى جميع البطاركة فمضى آريوس إلى الملك قسطنطين ومعه أسقفان فاستغاثوا به وشكوا الإسكندروس فأمر بإحضاره من الإسكندرية فحضر هو واريوس وجمع له الأعيان من النصارى ليناظروه فقال آريوس كان الأب إذ لم يكن الابن ثم أحدث الابن فصار كلمة له فهو محدث مخلوق فوّض إليه الأب كلّ شيء فخلق الابن المسمى بالكلمة كلّ شيء من السموات والأرض وما فيهما فكان هو الخالق بما أعطاه الأب ثم إن تلك الكلمة تجسدت من مريم وروح القدس فصار ذلك مسيحًا فإذا المسيحِ معنيان كلمة وجسد وهما جميعًا مخلوقان‏.‏

فقال الأسكندروس أيما أوجب عبادة من خَلقَنا أو عبادة من لم يخلقنا فقال اريوس بل عبادة من خلقنا أوجب‏.‏

فقال الأسكندروس‏:‏ فإن كان الابن خلقنا كما وصفت وهو مخلوق فعبادته أوجب من عبادة الأب الذي ليس بمخلوق بل تكون عبادة الخالق كفرًا وعبادة المخلوق إيمانًا وهذا أقبح القبيح فاستحسن الملك قسطنطين كلام اسكندروس وأمره أن يحرم آريوس فحرمه‏.‏

وسأل اسكندروس الملك أن يحضر الأساقفة فأمر بهم فأتوه من جميع ممالكه واجتمعوا بعد ستة أشهر بمدينة نيقية وعدّتهم ألفان وثلاثمائة وأربعون أسقفًا مختلفون في المسيح فمنهم من يقول الابن من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة أخرى فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية عنها وهذه مقالة سيليوس الصعيديّ ومن تبعه ومنهم من قال إن مريم لم تحمل بالمسيح تسعة أشهر بل مرّ بأحشائها كمرور الماء بالميزاب وهذا قول إليان ومن تّبعه ومنهم من قال المسيح بشر مخلوق وأن ابتداء الابن من مريم ثم إنه اصطفي فصحبته النعمة الإلهية بالمحبة والمشيئة ولذلك سمي ابن الله تعالى عن ذلك ومع ذلك فاللّه واحد قيوم وأنكر هؤلاء الكلمة والروح فلم يؤمنوا بهما وهذا قول بولص السميساطيّ بطرك أنطاكية وأصحابه ومنهم من قال الآلهة ثلاثة صالح وطالح وعدل بينهما وهذا قول مرقيون وأتباعه ومنهم من قال المسيح وأمه إلهان من دون الله وهذا قول المرايمة من فرق النصارى ومنهم من قال بل الله خلق الابن وهو الكلمة في الأزل كما خلق الملائكة روحًا طاهرة مقدسة بسيطة مجردة عن المادّة ثم خلق المسيح في آخر الزمان من أحشاء مريم البتول الطاهرة فاتحد الابن المخلوق في الأزل بإنسان المسيح فصارا واحدًا ومنهم من قال الابن مولود من الأب قبل كل الدهور غير مخلوق وهو جوهر من جوهره ونور من نوره وأن الابن اتحد بالإنسان المأخوذ من مريم فصارا واحدًا وهو المسيح وهذا قول الثلاثمائة وثمانية عشر فتحير قسطنطين في اختلافهم وكثر تعجبه من ذلك وأمر بهم فأنزلوا في أماكن وأجرى لهم الأرزاق وأمرهم أن يتناظروا حتى يتبين له صوابهم من خطأهم فثبت الثلاثمائة وثمانية عشر على قولهم المذكور واختلف وباقيهم فمال قسطنطين إلى قول الأكثر وأعرض عما سواه وأقبل على الثلاثمائة وأمر لهم بكراسي وأجلسهم عليها ودفع إليهم سيفه وخاتمه وبسط أيديهم في جميع مملكته فباركوا عليه ووضعوا له كتاب قوانين الملوك وقوانين الكنيسة وفيه ما يتعلق بالمحاكمات والمعاملات والمناكحات وكتبوا بذلك إلى سائر الممالك وكان رئيس هذا المجمع الأسكندروس بطرك الإسكندرية واسطارس بطرك أنطاكية ومقاريوس أسقف القدس ووجه سلطوس بطرك رومية بقسيسين اتفقا معهم على حرمان آريوس فحرموه ونفوه ووضع الثلاثمائة وثمانية عشر الأمانة المشهورة عندهم وأوجبوا أن يكون الصوم متصلًا بعيد الفسح على ما رتبه البطاركة في أيام الملك أوراليانوس قيصر كما تقدّم ومنعوا أن يكون للأسقف زوجة وكان الأساقفة قبل ذلك إذا كان مع أحدهم زوجهّ لا يمنع منها إذا عُمل أسقفًا بخلاف البطرك فإنه لا يكون له امرأة البتة وانصرفوا من مجلس قسطنطين بكرامة جليلة والاسكندروس هذا هو الذي كسر الصنم النحاس الذي كان في هيكل زحل بالإسكندرية وكانوا يعبدونه ويجعلون له عيدًا في ثاني عشر هتور ويذبحون له الذبائح الكثيرة فأراد الإسكنمروس كسر هذا الصنم فمنعه أهل الإسكنحرية فاحتال عليهم وتلطف في حيلته إلى أن قرب العيد فجمع الناس ووعظهم وقبح عندهم عبالحة الصنم وحثهم على تركه وأن يعمل هذا العيد لميكائيل رئيس الملائكة الفي يشفع فيهم عند الإله ف‏!‏ ن ذلك خير من عمل العيد للصنم فلا يتغير عمل العيد الفي جرت عالحة أهل البلد بعمله ولا تبطل فبائحهم فيه فرضي الناس بهذا ووافقوه على كسر الصنم فكسره وأحرقه وعمل بيته كنيسة على اسم ميكائيل فلم تزل هفه الكنيسة بالإسكنمرية إلى أن حرّقها جيوش الإمام المعز لدين الله أبي تميم معذ لما قدموا في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة واستمرّ عيد ميكائيل عند النصارى بديار مصر باقيًا يُعمل في كل سنة‏.‏

وفي السنة الثانية والعشرين من ملك قسطنطين سارت أث هيلاني إلى القمس وبنت به كنائس للنصارى فدلها مقاريوس الأسقف على الصليب وعرّفها ما عملته اليهود فعاقبت كهنة اليهود حتى دلوها على الموضع فحفرته ف‏!‏ ذا قبر وثلاث خشبات زعموا أنهم لم يعرفوا الصليب المطلوب من الثلاث خشبات إلاّ بأن وضعت كل واحدة منها على ميت قد بلي فقام حيًا عندما وضعت عليه خشبة منها فعملوا لذلك عيداَ ممّة ثلاثة أيام عرف عندهم بعيد الصليب ومن حيئمذِ عبد النصارى الصليب وعملت له هيلاني غلافاَ من ف‏!‏ ب وبنت كنيسة القيامة التي تعرف اليوم بكنيسة قمامة وأقامت مقاريوس الأسقف على بناء بقية الكنائس وعادت إلى بلادها فكانت ممّة ما بين ولالحة المسيح وظهور الصليب ثلاثمائة وثمان وعشرين سنة ثم قام في بطركية الاسكن‏!‏ رية بعد اسكنحروس تلميفه ايناسيوس الرسوليّ فأقام ممتاَ وأربعين سنة ومات بعد ما ابتلى بشدائد وغاب عن كرسيه ثلاث مزات وفي أيامه جرت مناظرات طويلة مع أوسانيوس للأسقف آلت إلى ضربه وفراره ف‏!‏ نه تعصب لاريوس وقال‏:‏ إنه لم يقل إن المسيح خلق الأشياء صانما قال به خلق كل شيء لأنه كلمة الله التي بها خلق السموات والأراض وءإنما خلق الله تعالى جميع الأشياء بكلمثه فالأشياء به كوّنت لا أنه كوّنها وإنما الثلاثمانة وثمانية عشر تعدّوا عليه وفي أيامه تنصر جماعة من اليهود وطعن بعضهم في التوراة التي بأيمي اليهود وأنهم نقصوا منها وأن الصحيحة هي التي فسرها السبعون فأمر قسطنطين اليهود ب‏!‏ حضارها وعاقبهم على ذلك حتى دلوه على موضعها بمصر فكتب ب‏!‏ حضارها فحملت إليه ف‏!‏ ذا بينها وبين توراة اليهود نقص ألف وثلاثمائة وتسع وستين سنة زعموا أنهم نقصوها من مواليد من ذكر فيها لأجل المسيح وفي أيامه بعثت هيلاني بمال عظيم إلى مدينة الرها فبني به كنائسها العظيمة وأمر قسطنطين ب‏!‏ خراج اليهود من القحس وألزمهم بالدخول في دين النصرانية ومن امتنع منهم قُتل فتنصر كثير منهم وامتنع كثرهم فقتلوا ثم امتحن من تنصر منهم بأن جمعهم يوم الفسح في الكنيسة وأمرهم بثل لحم الخنزير فأبى كثرهم أن يأكل منه فقتل منهم في ذلك اليوم خلائق كثيرة جدّأ‏.‏

ولما قام قسطنطين بن قسطنطين في الملك بعد أبيه غلبت مقالة آريوسيين على القسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية وصار أكثر أهل الإسكندرية وأرض مصر اَريوسيين ومنانيين واستولوا على ما بها من الكنائس ومال الملك إلى رأيهم وحمل الناس عليه ثم رجع عنه وزعم ابريس أسقف القدس أنه ظهر من السماء على القبر الذي بكنيسة القيامة شبه صليب من نور في يوم عيد العنصرة لعشرة أيام من شهر أيار في الساعة الثالثة من النهار حتى غلب نوره على نور الشمس ورآه جميع أهل القدس عيانًا فأقام فوق القبر عدة ساعات والناس تشاهده فآمن يومئذٍ من اليهود وغيرهم عدّة آلاف كثيرة‏.‏

ثم لما ملك موليهانوس ابن عم قسطنطين اشتدّت نكايته للنصارى وقتل منهم خلقًا كثيرًا ومنعهم من النظر في شيء من الكتب وأخذ أواني الكنائس والديارات ونصب مائدة كبيرة عليها أطعمة مما ذبحه لأصنامه ونادى من أراد المال فليضع البخور على النار وليأكل من ذبائح الحنفاء ويأخذ ما يريد من المال فامتنع كثير من الروم وقالوا نحن نصارى فقتل منهم خلائق ومحا الصليب من أعلامه وبنوده وفي أيامه سكن القدّيس أريانوس برّية الأردن وبني بها الديارات وهو أوّل من سكن برّية الأردن من النصارى‏.‏

فلما ملك يوسيانوس على الروم وكان متنصرًا عاد كل من كان فرّ من الأساقفة إلى كرسيه وكتب إلى أبناسيوس بطرك الإسكندرية أن يشرح له الأمانة المستقيمة فجمع الأساقفة وكتبوا له أن يلزم أمانة الثلاثمائة وثمانية عشر‏.‏

فثار أهل الإسكندرية على إيناسيوس ليقتلوه ففرّ‏.‏

وأقاموا بدله لوقيوس وكان آريوسيًا فاجتمع مع الأساقفة بعد خمسة أشهر وحرموه ونفوه وأعادوا ايناسيوس إلى كرسيه فأقام بطركًا إلى أن مات فخلفه بطرس ثم وثب الآريسيون عليه بعد سنتين ففرّ منهم وأعادوا لوقيوس فأقام بطركًا ثلاث سنين ووثب عليه أعداؤه ففرّ منهم فردّوا بطرس في العشرين من أمشير فأقام سنة‏.‏

وقدم في أيام واليس ملك الروم آريوس أسقف أنطاكية إلى الإسكندرية بإذن الملك وأخرج منها جماعة من الروم وحبس بطرس بطركها ونصب بدله اريوس السميساطيّ ففرّ بطرس من الحبس إلى رومية واستجار ببطركها وكان واليس اريوسيًا فسار إلى زيارة كنيسة مارتوما بمدينة الرها ونفي أسقفها وجماعة معه إلى جزيرة رودس ونفي سائر الأساقفة لمخالفتهم لرأيه ما عدا اثنين وأقام في بطركية الإسكندرية طيماتاوس فأقام سبع سنين ومات‏.‏

وفي أيامه كان المجمع الثاني من مجامع النصارى بقسطنطينية في سنة اثنتي عشرة ومائة لدقلطيانوس فاجتمع مائة وخمسون أسقفًا وحرموا مقدينون عدوّ روح القُدُس وكلّ من قال بقوله‏.‏

وسبب ذلك أنه قال أنّ روح القُدُس مخلوق وحرموا معه غير واحد لعقائد شنيعة تظاهروا بها في المسيح وزاد الأساقفة في الأمانة التي رتبها الثلاثمائة وثمانية عشر‏:‏ ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب قلت تعالى اللّه عما يقولون علوًّا كبيرًا وحرّموا أن يزاد فيها بعد ذلك شيء أو ينقص منها شيء وكان هذا المجمع بعد مجمع نيقية بثمان وخمسين سنة وفي أيامه بنيت عدّة كنائس بالإسكندرية واستتيب جماعة كثيرة من مقالة آريوس وفي أيامه أطلق للأساقفة والرهبان أكل اللحم يوم الفسح ليخالفوا الطائفة المنانية فإنهم كانوا يحرّمون أكل اللحم مطلقًا وردّ الملك أغراديانوس كلّ من نفاه واليس من الأساقفة وأمر أن يلزم كلّ واحد دينه ما خلا المنانية ثم أقيم بكرسي الإسكندرية تاوفيلا فأقام سبعًا وعشرين سنة ومات في ثامن عشر بابه وفي أيامه ظهر الفتية أهل الكهف وكان تاوداسيوس إذ ذاك ملكًا على الروم فبنى عليهم كنيسة وجعل لهم عيدًا في كل سنة واشتدّ الملك تاوداسيوس على الأريسيين وضيق عليهم وأمر فأخذت منهم كنائس النصارى بعدما حكموها نحو أربعين سنة وأسقط من جيشه من كان آريوسيًا وطرد من كان في ديوانه وخدمه منهم وقتل من الحنفاء كثيرًا وهدم بيوت الأصنام بكلّ موضع وفي أيامه بنيت كنيسة مريم بالقدس وفي أيام الملك ارغاديوس بنى دير القصر المعروف الآن بدير البغل في جبل المقطم شرقيّ طرا خارج مدينة فسطاط مصر‏.‏

ثم أقيم في بطركية الإسكندرية كرلص فأقام اثنتين وثلاثين سنة ومات في ثالث أبيب وهو أوّل من أقام القومة في كنائس الإسكندرية وأرض مصر‏.‏

وفي أيامه كان المجمع الثالث من مجامع النصارى بسبب نسطورس بطرك قسطنطين فإنه منع أن تكون مريم أمّ عيسى وقال‏:‏ إنما ولدت مريم إنسانًا اتحد بمشيئة الإله يعني عيسى فصار الاتحاد بالمشيئة خاصة لا بالذات وأن إطلاق الإله على عيسى ليس هو بالحقيقة بل بالموهبة والكرامة وقال‏:‏ إن المسيح حلّ فيه الابن الأزليّ وإني أعبده لأنّ الإله حلّ فيه وإنه جوهران وأقنومان ومشيئة واحدة وقال في خطبته يوم الميلاد‏:‏ أن مريم ولدت إنسانًا وأنا لا أعتقد في ابن شهرين وثلاثة الإلهية ولا أسجد له سجودي للإله وكان هذا هو اعتقاد تادروس وديوادارس الأسقفين وكان من قولهما أن المولود من مريم هو المسيح والمولود من الآب هو الابن الأزليّ وأنه حلّ في المسيح فسمي ابن الله بالموهبة والكرامة وأن الاتحاد بالمشيئة والإرادة وأثبتوا للّه تعالى عن قولهم ولدين أحدهما بالجوهر والآخر بالنعمة فلما بلغ كرلص بطرك الإسكندرية مقالة نسطورس كتب إليه يرجعه عنها فلم يرجع فكتب إلى أكليمس بطرك رومية وإلى يوحنا بطرك إنطاكية وإلى يوناليوس أسقف القدس يُعرّفهم بذلك فكتبوا بأجمعهم إلى نسطورس ليرجع عن مقالته فلم يرجع فتواعد البطاركة على الاجتماع بمدينة أفسس فاجتمع بها مائتا أسقف ولم يحضر يوحنا بطرك أنطاكية وامتنع نسطورس من المجيء إليهم بعدما كرّروا الإرسال في طلبه غير مرّة فنظروا في مقالته وحرموه ونفوه فحضر بعد ذلك يوحنا فعز عليه فصل الأمر قبل قدومه وانتصر لنسطورس وقال قد حرموه بغير حق وتفرّقوا من أفسس على شرّ ثم اصطلحوا وكتب المشرقيون صحيفة بأمانتهم وبحرمان نسطورس وبعثوا بها إلى كرلص فقبلها وكتب إليهم بأن أمانته على ما كتبوا فكان بين المجمع الثاني وبين هذا المجمع خمسون وقيل خمس وخمسون سنة وأما نسطورس فإنه نُفي إلى صعيد مصر فنزل مدينة اخميم وأقام بها سبع سنين ومات فدفن بها وظهرت مقالته فقبلها برصوما أسقف نصيبين ودان بها نصارى أرض فارس والعراق والموصل والجزيرة إلى الفرات وعرفوا إلى اليوم بالنسطورية‏.‏

ثم قدم تاوداسيوس ملك الروم في الثانية من ملكه ديسقورس بطركًا بالإسكندرية فظهر في أيامه مذهب أوطاخي أحد القنوميين بالقسطنطينية وزعم أن جسد المسيح لطيف غير مساو لأجسادنا وأن الابن لم يأخذ من مريم شيئًا فاجتمع عليه مائة وثلاثون أسقفًا وحرموه واجتمع بالإسكندرية كثير من اليهود في يوم الفسح وصلبوا صنمًا على مثال المسيح وعبثوا به فثار بينهم وبين النصارى شرّ قتل فيه بين الفريقين خلق كثير فبعث إليهم ملك الروم جيشًا قتل كثر يهود الإسكندرية وكان المجمع الرابع من مجامع النصارى بمدينة خلقدونية وسببه أن ديسقورس بطرك الإسكندرية قال أن المسيح جوهر من جوهرين وقنوم من قنومين وطبيعة من طبيعتين ومشيئة من مشيئتين وكان رأي مرقيانوس ملك الروم أنه جسد وأهل مملكته أنه جوهران وطبيعتان ومشيئتان وقنوم واحد فلما رأى الأساقفة أن هذا رأي الملك خافوه فوافقوه على رأيه ما خلا ديسقورس وستة أساقفة فإنهم لم يوافقوا الملك وكتب من عداهم من الأساقفة خطوطهم بما اتفقوا عليه فبعث ديسقورس يطلب منهم الكتاب ليكتب فيه فلما وصل إليه كتابهم كتب فيه أمانته هو وحرمهم وكل من يخرج عنها فغضب الملك مرقيانوس وهمّ بقتله فأشير عليه بإحضاره ومناظرته فأمر به فحضر وحضر ستمائة وأربعة وثلاثون أسقفًا فأشار الأساقفة والبطاركة على ديسقورس بموافقة رأي الملك واستمراره على رياسته فدعا للملك وقال لهم‏:‏ الملك لا يلزمه البحث في هذه الأمور الدقيقة بل ينبغي له أن يشتغل بأمور مملكته وتدبيرها ويدع الكهنة يبحثون عن الأمانة المستقيمة فإنهم يعرفون الكتب ولا يكون له هوى مع أحد ويتبع الحق فقالت بلخارية زوجة الملك مرقيانوس وكانت جالسة بإزائه ياديسقورس قد كان في زمان أمي إنسان قويّ الرأس مثلك وحرموه ونفوه عن كرسيه تعني يوحنا فم الذهب بطرك - قسطنطينية فقال لها قد عملت ما جرى لأمّك وكيف ابتليت بالمرض الذي تعرفينه إلى أن مضت إلى جسد يوحنا فم الذهب واستغفرت فعوفيت فحنقت من قوله ولكمته فانقلع له ضرسان وتناولته أيدي الرجال فنتفوا أكثر لحيته وأمر الملك بحرمانه ونفيه عن كرسيه فاجتمعوا عليه وحرموه ونفوه وأقيم عوضه برطاوس ومن هذا المجمع افترق النصارى وصاروا ملكية على مذهب مرقيانوس الملك ويعقوبية على رأي ديسقورس وذلك في سنة ثلاث وتسعين ومائة لدقلطيانوس وكتب مرقيانوس إلى جميع مملكته أن كل من لا يقول بقوله يُقتل فكان بين المجمع الثالث وبين هذا المجمع إحدى وعشرون سنة وأما ديسقورس فإنه أخذ ضرسيه وشعر لحيته وأرسلها إلى الإسكندرية وقال‏:‏ هذه ثمرة تعبي على الأمانة مْتبعه أهل إسكندرية ومصر وتوجه في نفيه فعبر على القدس وفلسطين وعرّفهم مقالته فتبعوه وقالوا بقوله وقدّم عدّة أساقفة يعقوبية ومات وهو منفيّ في رابع توت فكانت مدّة بطركيته أربع عشرة سنة وبقي كرسي المملكة بغير بطرك مدّة مملكة مرقيانوس وقيل بل قدم برطاوس وقد اختلف في تسمية اليعقوبية بهذا فقيل إن ديسقورس كان يُسمي قبل بطركيته يعقوب وأنه كان يكتب وهو منفيّ إلى أصحابه بأن يثبتوا على أمانة المسكين المنفيّ يعقوب وقيل بل كان له تلميذ اسمه يعقوب وكان يرسله وهو منفيّ إلى أصحابه فنسبوا إليه وقيل بل كان يعقوب تلميذ ساويرس بطرك أنطاكية وكان على رأي ديسقورس فكان ساويرس يبعث يعقوب إلى النصارى ويثبتهم على أمانة ديسقورس فنسبوا إليه وقيل بل كان يعقوب كثير العبادة والزهد يلبس خرق البراذع فسمي يعقوب البراذعيّ من أجل ذلك وأنه كان يطوف البلاد ويردّ الناس إلى مقالة ديسقورس فنسب من اتبع رأيه إليه وسموا يعقوبية‏.‏

ويقال ليعقوب أيضًا يعقوب السروجيّ‏.‏

وفي أيام مرقيانوس كان سمعان الحبيس صاحب العمود وهو أوّل راهب سكن صومعة وكان مقامه بمغارة في جبل إنطاكية ولما مات مرقيانوس وثب أهل الإسكندرية على برطاوس البطرك وقتلوه في الكنيسة وحملوا جسده إلى الملعب الذي بناه بطليموس وأحرقوه بالنار من أجل أنه ملكيّ الاعتقاد فكانت مدّة بطركيته ست سنين وأقاموا عوضه طيماتاوس وكان يعقوبيًا فأقام ثلاث سنين وقَدِمَ قائد من قسطنطينية فنفاه وأقام عوضه ساويرس وكان ملكيًا فأقام اثنتين وعشرين سنة ومات في سابع مسري‏.‏

فلما ملك زنبون بن لاون الروم أكرم اليعقوبية وأعزهم لأنه كان يعقوبيًا وكان يحمل إلى دير يوقنا كلّ سنة ما يحتاج إليه من القمح والزيت وهرب ساويرس من كرسيّ الإسكندرية إلى وادي هيب ورجع طيماتاوس من نفيه فأقام بطركًا سنتين ومات‏.‏

فأقيم بعده بطرس فأقام ثماني سنين وسبعة أشهر وستة أيام ومات في رابع هتور فأقيم بعده اثناسيوس فأقام سبع سنين ومات في العشرين من توت وفي أيامه احترق الملعب الذي بناه بطليموس‏.‏

وأقيم يوحنا في بطركية الإسكندرية وكان يعقوبيًا فأقام تسع سنين ومات في رابع بشنس فخلا الكرسي بعده سنة ثم أقيم يوحنا الحبيس فأقام إحدى وعشرين سنة ومات في سابع عشري بشنس‏.‏

فأقيم بعده ديسقورس الجديد فأقام سنتين وخمسة أشهر ومات في سابع عشر بابه وكتب إيليا بطرك القدس إلى نسطاس ملك الروم بأن يرجع عن مقالة اليعقوبية إلى مقالة الملكية وبعث إليه جماعة من الرهبان بهدية سنية فقبل هديته وأجاز الرهبان بجوائز جليلة وجهز له مالًا جزيلًا لعمارة الكنائس والديارات والصدقات فتوجه ساويرس إلى نسطاس وعزفه أن الحق هو اعتقاد اليعوقبية فأمر أن يكتب إلى جميع مملكته بقبول قول ديسقورس وترك المجمع الخلقدونى فبعث إليه بطرك إنطاكية بأن هذا الذي فعلته غير واجب وأن المجمع الخلقدونيّ هو الْحق فغضب الملك ونفاه وأقام بدله فأمر إيليا بطرك القدس بجمع الرهبان ورؤساء الديارات فاجتمع له منهم عشرة آلاف نفس وحرموا نسطاس الملك ومن يقول بقوله فأمر نسطاس بنفي إيليا إلى مدينة إيلة فاجتمع بطاركة الملكية وأساقفتهم وحرموا الملك نسطاس ومن يقول بقوله وفي أيام نسطايوس الملك ألزم الحنفاء أهل حرّان وهم الصابئة بالتنصر فتنصر كثير منهم وقتل أكثرهم على امتناعهم من دين النصرانية وردّ جميع من نفاه نسطاس من الملكية فإنه كان ملكيًا وأقيم طيماتاوس في بطركية الإسكندرية وكان يعقوبيًا فأقام ثلاث سنين ونفي وأقيم بدله أبوليناريوس وكان ملكيًا فجدّ في رجوع النصارى بأجمعهم إلى رأي الملكية وبذل جهده في ذلك وألزم نصارى مصر بقبول الأمانة المحدثة‏.‏

فوافقوه ووافقه رهبان ديارات بومقار بوادي هبيب هذا ويعقوب البراذعيّ يدور في كلّ موضع ويثبت أصحابه على الأمانة التي زعم أنها مستقيمة وأمر الملك جميع الأساقفة بعمل الميلاد في خامس عشري كانون الأوّل وبعمل الغطاس لست تخلو من كانون الثاني وكان كثير منهم يعمل الميلاد والغطاس في يوم واحد وهو سادس كانون الثاني وعلى هذا الرأي الأرمن إلى يومنا هذا وفي هذه الأيام ظهر يوحنا النحويّ بالإسكندرية وزعم أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة وثلاث طبائع وجوهر واحد وظهر يوليان وزعم أن جسد المسيح نزل من السماء وأنه لطيف روحانيّ لا يقبل الآلام إلاّ عند مقارفة الخطيئة والمسيح لم يقارف خطيئته فلذلك لم يُصلب حقيقة ولم يتألم ولم يمت وإنما ذلك كله خيال فأمر الملك البطرك طيماتاوس أن يرجع إلى مذهب الملكية فلم يفعل فأمر بقتله‏.‏

ثم شفع فيه ونفي وأقيم بدله بولص وكان ملكيًا فأقام سنتين فلم يرضه اليعاقبة وقيل أنهم قتلوه وصيروا عوضه بطركًا ديلوس وكان ملكيًا فأقام خمس سنين في شدّة من التعب وأرادوا قتله فهرب وأقام في هربه خمس سنين ومات فبلغ ملك الروم يوسطيانوس أن اليعقوبية قد غلبوا على الإسكندرية ومصر وأنهم لا يقبلون بطاركته فبعث أثوليناريوس أحد قوّاده وضم إليه عسكرًا كبيرًا إلى الإسكندرية فلما قدمها ودخل الكنيسة نزع عنه ثياب الجند ولبس ثياب البطاركة وقدّس فهمّ ذلك الجمع برجمه فانصرف‏.‏

وجمع عساكره وأظهر أنه قد أتاه كتاب الملك ليقرأه على الناس وضرب الجرس في الإسكندرية يوم الأحد فاجتمع الناس إلى الكنيسة حتى لم يبق أحد فطلع المنبر وقال‏:‏ يا أهل الإسكندرية إن تركتم مقالة اليعقوبية وإلاّ أخاف أن يرسل الملك فيقتلكم ويستبيح أموالكم وحريمكم فهموا برجمه فأشار إلى الجند فوضعوا السيف فيهم فقُتل من الناس ما لا يُحصى عدده حتى خاض الجند في الدماء وقيل إنّ الذي قُتل يومئذٍ مائتا ألف إنسان وفرّ منهم خلق إلى الديارات بوادي هبيب وأخذ الملكية كنائس اليعاقبة ومن يومئذٍ صار كرسيّ اليعقوبية في دير بومقار بوادي هبيب‏.‏

وفي أيامه ثارت السامرة على أرض فلسطين وهدموا كنائس النصارى وأحرقوا ما فيها وقتلوا جماعة من النصارى فبعث الملك جيشًا قتلوا من السامرة خلقًا كثيرًا ووضع من خراج فلسطين جمله وجدد بناء الكنائس وأنشأ مارستانًا ببيت المقدس للمرضى ووسع في بناء كنيسة بيت لحم وبنى ديرًا بطور سيناء وعمل عليه حصنًا حوله عدة قلالي ورتب فيها حرسًا لحفظ الرهبان‏.‏

وفي أيامه كان المجمع الخامس من مجامع النصارى وسببه أن أريحانس أسقف مدينة منبج قال بتناسخ الأرواح وقال كلّ من أسقف أنقرة وأسقف المصيصة وأسقف الرها أن جسد المسيح خيال لا حقيقيّ فحملوا إلى القسطنطينية وجمع بينهم وبين بطركها أوطس وناظرهم وأوقع عليهم الحرمان فأمر الملك أن يجمع لهم مجمع وأمر بإحضار البطاركة والأساقفة فاجتمع مائة وأربعون أسقفًا وحرموا هؤلاء الأساقفة ومن يقول بقولهم فكان بين المجمع الرابع الخلقدونيّ وبين هذا المجمع مائة وثلاث وستون سنة‏.‏

ولما مات القائد الذي عمل بطرك الإسكندرية بعد سبع عشرة سنة أقيم بعده يوحنا وكان منانيًا فأقام ثلاث سنين ومات وقدّم اليعاقبة بطركًا اسمه تاوداسيوس أقام مدّة اثنتين وثلاثين سنة وقدّم الملكية بطركا اسمه داقيوس فكتب الملك إلى متولي الإسكندرية أن يعرض على بطرك اليعاقبة أمانة المجمع الخلقدونيّ فإن لم يقبلها أخرجه فعرض عليه ذلك فلم يقبله فأخرجه وأقام بعده بولص التنيسيّ فلم يقبله أهل الإسكندرية ومات فغلقت كنائس القبط اليعاقبة وأصابهم من الملكية شدائد كثيرة واستجد اليعاقبة بالإسكندرية كنيستين في سنة ثمان وأربعين ومائتين لدقلطيانوس ومات تاوداسيرس ثامن عشري بؤنة بعد اثنتين وثلاثين سنة من بطركيته منها مدة أربع سنين مدة نفيه في صعيد مصر وأقيم بعده بطرس وكان يعقوبيًا في خفية بدير الزجاج بالإسكندرية قدّمه ثلاثة أساقفة فأقام سنتين ومات في خامر عشري بؤنة‏.‏

من اليعاقبه سنة واحدة‏.‏