فصل: وذكر محمد بن عبد الرحيم في كتاب تحفة الألباب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 وكان بصنعاء قصر غمدان من بناء الضحاك وكان هيكل الزهرة وهدم في خلافة عثمان بن عفان‏.‏

وكان بالأندلس‏:‏ في الجبل الفارق بين جزيرة الأندلس والأرض الكبيرة هيكل المشتري من بناء كلوبطرة بنت بطليموس‏.‏

وكان بفرعانة بيت يقال له‏:‏ كلوسان هيكل للشمس بناه بعض ملوك الفرس الأول خرّبه المعتصم وقد اختلف فيمن بنى هيكل عين شمس وسأقص من أخباره ما لم أره مجموعًا في قال ابن وصيف شاه‏:‏ وقد كان الملك منقاوس إذا ركب عملوا بين يديه التخاييل العجيبة فيجتمع الناس ويعجبون من أعمالهم وأمر أن يُبنى له هيكل للعبادة يكون له خصوصًا ويجعل فيه قبة فيها صورة الشمس والكواكب وجعل حولها أصنامًا وعجائب فكان الملك يركب إليه ويقيم فيه سبعة أيام وجعل فيه عمودين زبر عليهما تاريخ الوقت الذي عمله فيه وهما باقيان إلى اليوم وهو الموضع الذي يقال له عين شمس ونقل إلى عين شمس كنوزًا وجواهر وطلسمات وعقاقير وعجائب ودفنها بها وبنواحيها وأقام ملكًا بإحدى وتسعين سنة ومات من الطاعون وقيل‏:‏ من سئم وعمل له ناوس في صحراء الغرب وقيل‏:‏ في غربيّ قوص ودفن معه مصاحف الحكمة والصنعة وتماثيل الذهب والجوهر ومن الذهب المضروب شيء كثير ودفن معه تمثال روحانيّ الشمس من ذهب يلمع وله جناحان من زبرجد وصنم على صورة امرأته وكان يحبها‏.‏

فلما ماتت أمر أن تعمل صورتها في الهياكل كلها وعمل صورتها من ذهب بذؤابتين سوداوين وعليها حلة من جواهر منظومة وهي جالسة على كرسيّ وكان يجعلها بين يديه في كل موضع يجلس فيه يتسلى بذلك عنها فدفنت هذه الصورة معه تحت رجليه كأنها تخاطبه‏.‏

وقال الحكيم الفاضل أحمد بن خليفة في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء‏:‏ واشتاق فيثاغورس إلى الاجتماع بالكهنة الذين كانوا بمصر فورد على أهل مدينة الشمس المعروفة في زماننا بعين شمس فقبلوه قبولًا كريمًا وامتحنوه زمانًا فلم يجدوا عليه نقصًا ولا تقصيرًا فوجهوا به إلى كهنة منف كي يبالغوا في امتحانه فقبلوه على كراهة واستقصوا امتحانه فلم يجدوا عليه معيبًا ولا أصابوا له عثرةً فبعثوا به إلى أهل ديوسوس ليمتحنوه فلم يجدوا عليه طريقًا ولا إلى إدحاضه سبيلًا ففرضوا عليه فرائض صعبة كيما يمتنع من قبولها فيدحضوه ويحرموه طلبته مخالفة لفرائض اليونانين فقبل ذلك وقام به فاشتدّ إعجابهم به وفشا بمصر ورعه حتى بلغ ذكره إلى أماسيس ملك مصر فأعطاه سلطانًا على ضحايا الرب وعلى سائر قرابينهم ولم يعطِ ذلك لغريب قط‏.‏

ويقال‏:‏ إنه كان للكواكب السبعة السيارة هياكل تحج الناس إليها من سائر أقطار الدنيا وضعها القدماء فجعلوا على اسم كل كوكب هيكلًا في ناحية من نواحي الأرض وزعموا أن البيت الأوّل هو الكعبة وأنه مما أوصى إدريس الذي يسمونه هرمس الأوّل المثلث أن يحج إليه وزعموا أنه منسوب لزحل والبيت الثاني بيت المرّيخ وكان بمدينة صور من الساحل الشاميّ والبيت الثالث للمشتري وكان بدمشق بناه جيرون بن سعد بن عاد وموضعه الآن جامع بني أمية والبيت الرابع بيت الشمس بمصر ويقال‏:‏ إنه من بناء هرشيك أحد ملوك الطبقة الأولى من ملوك الفرس وهو المسمى بعين شمس والبيت الخامس بيت الزهرة وكان بمنتيح والبيت السادس بيت عطارد وهو بصيدا من ساحل البحر الشاميّ والبيت السابع بيت القمر وكان بحرّان ويقال‏:‏ إنه قلعتها ويسمى المدوّر ولم يزل عامرًا إلى أن خرّبه التتر ويقال‏:‏ إنه كان هو هيكل الصابئة الأعظم‏.‏

وقال شافع بن عليّ في كتاب عجائب البلدان‏:‏ وعين شمس مدينة صغيرة تشاهد سورها محدقًا بها مهدومًا ويظهر من أمرها أنها كانت بيت عبادة وفيها من الأصنام الهائلة العظيمة الشكل من نحيت الحجارة ما يكون طول الصنم بقدر ثلاثين ذراعًا وأعضاؤه في تلك النسبة من العظم وكل هذه الأصنام قائمة على قواعد وبعضها قاعد على نصبات عجيبة وإتقانات محكمة وباب المدينة موجود إلى الآن وعلى معظم تلك الحجارة تصاوير على شكل الإنسان وغيره من الحيوان وكتابة كثيرة بالقلم المجهول وقلما ترى حجرًا خلا عن كتابة أو نقش أو صورة‏.‏

وفي هذه المدينة المسلتان المشهورتان وتسميان مسلتي فرعون وصفة المسلة قاعدة مربعة طولها عشرة أذرع في مثلها عرضًا في نحوها سمكًا قد وضعت على أساس ثابت في الأرض ثم أقيم عليها عمود مثلث مخروط ينيف طوله على مائة ذراع يبتدئ من القاعدة ببسطة قطرها خمسة أذرع وينتهي إلى نقطة وقد لبس رأسها بقلنسوة نحاس إلى نحو ثلاثة أذرع منها كالقمع وقد تَزَنْجَر بالمطر وطول المدة واخضرَّ وسال من خضرته على بسيط المسلة وكلها عليها كتابات بذلك القلم وكانت المسلتان قائمتين ثم خربت إحداهما وانصدعت من نصفها العظم الثقل وأخذ النحاس من رأسها ثم إنّ حولها من الأصنام شيئًا كثيرًا لا يحصى عدده على نصف تلك العظمى أو يليها وقلما يوجد في هذه المسال الصغار ما هو قطعة واحدة بل فصوصها بعضها على بعض وقد تهدّم أكثرها وإنما بقيت قواعدها‏.‏

وقال محمد بن إبراهيم الجزريّ في تاريخه‏:‏ وفي رابع شهر رمضان يعني من سنة ست وخمسين وستمائة‏:‏ وقعت إحدى مسلتي فرعون التي بأراضي المطرية من ضواحي القاهرة فوجدوا داخلها مائتي قنطار من نحاس وأخذ من رأسها عشرة آلاف دينار‏.‏

ويقال‏:‏ إنّ عين شمس بناها الوليد بن دومع من الملوك العماليق وقيل‏:‏ بناها الريان بن الوليد وكانت سرير ملكه‏.‏

والفرس تزعم‏:‏ أنّ هرشيك بناها‏.‏

ويقال‏:‏ طول العمودين مائة ذراع وقيل‏:‏ أربعة وثمانون ذراعًا وقيل‏:‏ خمسون ذراعًا‏.‏

ويقال‏:‏ إنّ بخت نصر هو الذي خرّب عين شمس لما دخل إلى مصر‏.‏

وقال القضاعيّ‏:‏ وعين شمس وهي هيكل الشمس بها العمودان اللذان لم يُرَ أعجب منهما ولا من شأنهما طولهما في السماء نحو من خمسين ذراعًا وهما محمولان على وجه الأرض وبينهما صورة إنسان على دابة وعلى رأسهما شبه الصومعتين من نحاس فإذا جاء النيل قطر من رأسيهما ما تستبينه وتراه منهما واضحًا ينبع حتى يجري من أسافلهما فينبت في أصلهما العوسج وغيره وإذا دخلت الشمس دقيقة من الجدي وهو أقصر يوم في السنة انتهت إلى الجنوبيّ منهما فطلعت عليه على قمة رأسه وهما منتهى الميلين وخط الاستواء في الواسطة منهما ثم خطرت بينهما ذاهبة وجائية سائر السنة كذا يقول أهل العلم بذلك‏.‏

وقال ابن سعيد في كتاب المغرب‏:‏ وكانت عين شمس في قديم الزمان عظيمة الطول والعرض متصلة البناء بمصر القديمة حيث مدينة الفسطاط الآن ولما قدم عمرو بن العاص نازل عين شمس وكان جمع القوم حتى فتحها‏.‏

وقال جامع السيرة الطولونية‏:‏ كان بعين شمس صنم بمقدار الرجل المعتدل الخلق من كدَّان أبيض محكم الصنعة يتخيل من استعرضه أنه ناطق فوُصف لأحمد بن طولون فاشتاق إلى تأمّله فنهاه ندوسة عنه وقال‏:‏ ما رآه والٍ قط إلا عُزل فركب إليه وكان هذا في سنة ثمان وخمسين ومائتين وتأمَّله ثم دعا بالقطاعين وأمرهم باجتثاثه من الأرض ولم يترك منه شيئًا ثم قال لندوسة خازنه‏:‏ يا ندوسة من صرف منا صاحبه‏.‏

فقال‏:‏ أنت أيها الأمير وعاش وقال أبو عبيد البكريّ‏:‏ عين شَمْس بفتح الشين وإسكان ثانيه بعده سين مهملة عين ماء معروفة‏.‏

قال محمد بن حبيب‏:‏ عين شمس حيث بنى فرعون الصرح وزعم قوم‏:‏ أنّ عين شمس إلى هذا الماء أضيف وأوّل من سمى هذا الاسم سبا بن يشجب‏.‏

وذكر الكلبيّ‏:‏ أن شمسًا الذي تسموا به صنم قديم‏.‏

وقال ابن خرداذبه‏:‏ وأسطوانتين بعين شمس من أرض مصر ومن بقايا أساطين كانت هناك في رأس كل أسطوانة‏:‏ طوق من نحاس يقطر من إحداهما ماء من تحت الطوق إلى نصف الأسطوانة لا يجاوزه ولا ينقطع قطره ليلًا ولا نهارًا فموضعه من الأسطوانة أخضب رطب ولا يصل الماء إلى الأرض وهو من بناء أوسهنك‏.‏

 

وذكر محمد بن عبد الرحيم في كتاب تحفة الألباب

أنّ هذا المنار مربع علوه‏:‏ مائة ذراع قطعة واحدة محدّد الرأس على قاعدة من حجر وعلى رأس المنار غشاء من صفر كالذهب فيه صورة إنسان على كرسيّ قد استقبل المشرق ويخرج من تحت ذلك الغشاء الصفر ماء يسيل مقدار عشرة أذرع وقد نبت منه شيء كالطحلب فلا يبرح لمعان الماء على تلك الخفرة أبدًا صيفًا وشتاءَ لا ينقطع ولا يصل إلى الأرض منه شيء وبعين شمس نبت يزرع كالقضبان يسمى البلسم يُتخذ منه دهن البلسان لا يعرف بمكان من الأرض إلا هناك وتؤكل لحى هذه القضبان فيكون له طعم وفيه حرارة وحرافة لذيذة‏.‏

وبناحية المطرية من حاضرة عين شمس البلسان وهو شجر قصار يُسقى من ماء بئر هناك وهذه البئر تعظمها النصارى وتقصدها وتغتسل بمائها وتستشفي به ويخرج لاعتصار البلسان أوان إدراكه من قبل السلطان من يتولى ذلك ويحفظه ويحمل إلى الخزانة السلطانية ثم ينقل منه إلى قلاع الشام والمارستانات لمعالجة المبرودين ولا يؤخذ منه شيء إلا من خزانة السلطان بعد أخذ مرسوم بذلك ولملوك النصارى من الحبشة والروم والفرنج فيه غلوّ عظيم وهم يتهادونه من صاحب مصر ويرون أنهم لا يصح عندهم لأحد أن يتنصر إلا أن ينغمس في ماء المعمودية ويعتقدون أنه لا بدّ أن يكون في ماء المعمودية شيء من دهن البلسان ويسمونه‏:‏ الميرون‏.‏

وكان في القديم إذا وصل من الشام خبر انتهى إلى صاحب عين شمس ثم يرد من عين شمس إلى الحصن الذي عرف بقصر الشمع حيث الآن مدينة مصر ثم يرد من الحصر إلى مدينة منف حيث كانت منف تحت الملك‏.‏

وسبب تعظيم النصارى لدهن البلسان ما ذكره في كتاب السنكسار وهو يشتمل على أخبار النصارى‏:‏ أنّ المسيح لما خرجت به أمّه ومعهما يوسف النجار من بيت المقدس فرارًا من هيرودس ملك اليهود نزلت به أول موضع من أرض مصر مدينة بسطة في رابع عشري بشنس فلم يقبلهم أهلها فنزلوا بظاهرها وأقاموا أيامًا ثم ساروا إلى مدينة سمنود وعدّوا النيل إلى الغربية ومشوا إلى مدينة الأشمونين وكان بأعلاها إذ ذاك شكل فرس من نحاس قائم على أربعة أعمدة فإذا قدم إليها غريب صهل فجاءوا ونظروا في أمر القادم فعندما وصلت مريم بالمسيح عليه السلام إلى المدينة سقط الفرس المذكور وتكسر فدخلت به أمّه وظهرت له عليه السلام في الأشمونين آية وهو أنَّ‏:‏ خمسة جمال محملة زاحمتهم في مرورهم فصرخ فيها المسيح في الأشمونين فصارت حجارة ثم إنهم ساروا من الأشمونين وأقاموا بقرية تسمى‏:‏ فيلس مدّة أيام ثم مضوا إلى مدينة تسمى‏:‏ قس وقام وهي التي يقال لها اليوم‏:‏ القوصية فنطق الشيطان من أجواف الأصنام التي بها وقال‏:‏ إنّ امرأة أتت ومعها ولدها يريدون أن يخربوا بيوت معابدكم فخرج إليهم مائة رجل بسلاحهم وطردوهم عن المدينة فمضوا إلى ناحية ميرة في غربيّ القوصية ونزلوا في الموضع الذي يعرف اليوم بدير المحرق وأقاموا به ستة أشهر وأيامًا فرأى يوسف النجار في منامه قائلًا يخبره بموت هيرودس ويأمره أن يرجع بالمسيح إلى القدس فعادوا من ميرة حتى نزلوا حيث الموضع الذي يعرف اليوم في مدينة مصر بقصر الشمع وأقاموا بمغارة تعرف اليوم بكنيسة بوسرجة ثم خرجوا منها إلى عين شمس فاستراحوا هناك بجوار ماء فغسلت مريم من ذلك الماء ثياب المسيح وقد اتسخت وصبت غسالتها بتلك الأراضي فأنبت الله هنالك البلسان وكان إذ ذاك بالأردن فانقطع من هناك وبقي بهذه الأرض وغمرت هذه البئر التي هي الآن موجودة هناك على ذلك الماء الذي غسلت منه مريم وبلغني أنها إلى الآن إذا اعتبرت يوجد ماؤها عينًا جارية في أسفلها فهذا سبب تعظيم النصارى لهذه البئر وللبلسان فإنه إنما سقي منها واللّه أعلم‏.‏

المنصورة هذه البلدة على رأس بحر أشموم تجاه ناحية طلخا بناها‏:‏ السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في سنة ست عشرة وستمائة عندما ملك الفرنج مدينة دمياط فنزل في موضع هذه البلدة وخيم به وبنى قصرًا لسكناه وأمر من معه من الأمراء والعساكر بالبناء فبنى هناك عدّة دور ونصبت الأسواق وأدار عليها سورًا مما يلي البحر وستره بالآلات الحربية والستائر وتسمى هذه المنزلة المنصورة ولم يزل بها حتى استرجع مدينة دمياط كما تقدّم ذكره عند ذكر مدينة دمياط من كتابنا هذا فصارت مدينة كبيرة بها الحمامات والفنادق والأسواق ولما استنقذ الملك الكامل دمياط من الفرنج ورحل الفرنج إلى بلادهم جلس بقصره في المنصورة وبين يديه إخوته الملك المعظم عيسى صاحب دمشق والملك الأشرف موسى صاحب بلاد الشرق وغيرهما من أهله وخواصه فأمر الملك الأشرف جاريته فغنت على عودها‏:‏ ولما طغى فرعون عكا وقومه وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض أتى نحوهم موسى وفي يده العصا فأغرقهم في اليم بعضًا على بعض فطرب الأشرف وقال لها‏:‏ بالله كرّري فشق ذلك على الملك الكامل وأسكتها وقال لجاريته‏:‏ غني أنت فأخذت العود وغنت‏:‏ أيا أهل دين الكفرة قوموا لتنظروا لما قد جرى في وقتنا وتجددا أعباد عيسى إن عيسى وحزبه وموسى جميعًا ينصران محمدا وهذا البيت من قصيدة لشرف الدين بن حبارة أوّلها‏:‏ أبى الوجد إلا أن أبيت مسهدًا فأعجب ذلك الملك الكامل وأمر لكل من الجاريتين بخمسمائة دينار فنهض القاضي الصدر الأجل الرئيس هبة الله بن محاسن قاضي غزة وكان من جملة الجلساء على قدميه وأنشد يقول‏:‏ هنيئًا فإن السعد جاء مخلدًا وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا حبانا إله الخلق فتحًا لنا بدًا مبينًا وإنعامًا وعزًا مؤبدا تهلل وجه الأرض بعد قطوبه وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا ولما طغى البحر الخضمّ بأهله ال طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا أقام لهذا الدين من سلّ عزمه صقيلًا كما سلّ الحسام المهندا فلم ينج إلا كل شلو مجدّل ثوى منهم أو من تراه مقيدا ونادى لسان الكون في الأرض رافعًا عقيرته في الخافقين ومنشدا فكانت هذه الليلة بالمنصورة من أحسن ليلة مرّت لملكٍ من الملوك وكان عند إنشاده يشير إذا قال عيسى إلى عيسى المعظم وإذا قال موسى إلى موسى الأشرف وإذا قال محمدًا إلى السلطان الملك الكامل وقد قيل‏:‏ إنّ الذي أنشد هذه الأبيات إنما هو راجح المحلي الشاعر‏.‏

العباسة هذه القرية فيما بين بلبيس والصالحية من أرض السدير لم يزل منتزهًا لملوك مصر وبها وُلد العباس بن أحمد بن طولون فسماه لذلك أبوه العباس وولد بها أيضًا الملك الأمجد تقيّ الدين عباس بن العادل أبي بكر بن أيوب وكان الملك الكامل محمد بن العادل يقيم بها كثيرًا ويقول‏:‏ هذه تعلو مصر إذا أقمتُ بها أصطاد الطير من السماء والسمك من الماء والوحش من الفضاء ويصل الخبز من قلعة الجبل إليّ بها في قلعتي وهو سخن وبنى بها آدرًا ومناظر وبساتين وبنى أمراؤه بها أيضًا عدّة مساكن في البساتين ولم تزل العباسة على ذلك حتى أنشأ الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل المنزلة الصالحية فتلاشى حينئذِ أمر العباسة وخربت المناظر في سلطنة الملك المعز أيبك‏.‏

فلما كانت سلطنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس مرّ على السدير وهو فم الوادي فأعجب به وبنى في موضع اختاره منه قرية سماها الظاهرية وأنشأ بها جامعًا وذلك في سنة ست وستين وستمائة‏.‏

وسُميت‏:‏ بالعباسة بنت أحمد بن طولون فإنها خرجت إلى هذا الموضع مُودّعة لبنت أخيها قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون لما حُملت إلى المعتضد وضربت هناك فساطيطها ثم بنت قرية فسميت باسمها‏.‏

ذكر مدينة قفط بصعيد مصر هذه المدينة عُرفت‏:‏ بقفطريم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام وكانت في الدهر الأوّل مدينة الإقليم وإنما بدا خرابها بعد الأربعمائة من تاريخ الهجرة النبوية وآخر ما كان فيها بعد السبعمائة من سني الهجرة أربعون مسبكًا للسكر وست معاصر للقصب ويقال‏:‏ كان فيها قباب بأعالي دورها وكانت إشارة مَنْ ملك من أهلها عشرة آلاف دينار أن يجعل في داره قبة وبالقرب منها معدن الزمرذ ولم يبطل إلا من قريب فإن قفطريم ولي الملك بعد أبيه قبطيم‏.‏

قال ابن وصيف شاه‏:‏ كان أكبر ولد أبيه وكان جبارًا عظيم الخلق وهو الذي وضع أساسات الأهرام الدهشورية وغيرها وهو الذي بنى مدينة دندرة ومدينة الأصنام وهلكت عاد بالريح في آخر أيامه وأثار من المعادن ما لم يثره غيره وكان يتخذ من الذهب مثل حجر الرحى ومن الزبرجد مثل الأسطوانة ومن الإسبادشم في صحراء الغرب كالقلة وعمل من العجائب شيئًا وبنى منارًا عاليًا على جبل قفط يُرى منه البحر الشرقيّ ووجد هناك معدن زئبق فعمل منه تمثالًا كالعمود لا ينحلّ ولا يذوب‏.‏

وعمل البركة التي سماها صيادة الطير إذا مرّ عليها طائر سقط فيها ولم يقدر على الحركة حتى يؤخذ وهذه البركة يقال‏:‏ إنها هناك إلى الآن وأما المنار فسقط وعمل عجائب كثيرة وفي أيامه أثار عبادة الأصنام التي كان الطوفان غرّقها وزين الشيطان أمرها وعبادتها ويقال‏:‏ إنه بنى المدائن الداخلة وعمل فيها عجائب وبنى غربيّ النيل وخلف الواحات الداخلة مدنًا عمل فيها عجائب كثيرة ووكل بها الروحانيين الذين يمنعون منها فما يستطيع أحد أن يدنو إليها ولا يدخلها إلا أن يعمل قرابين لأولئك الروحانيين وأقام قفطريم ملكًا أربعمائة وثمانين سنة وأكثر العجائب عملت في وقته ووقت ابنه البودسير ولذلك كان الصعيد أكثر عجائب من أسفل لأن حيز قفطريم فيه‏.‏

ولما حضر قفطريم الوفاة عمل ناوسًا في الجبل الغربيّ قرب مدينة الكهان في سرب تحت الأرض معقود على آزاج إلى الأرض ونقر تحت الجبل دارًا واسعة وجعل دورها خزائن منقورة وفي سقفها مسارب للرياح وبلط السرب وجميع الدار بالمرمر وجعل في وسط الدار مجلسًا على ثمانية أركان مصفحًا بالزجاج الملوّن المسبوك وجعل في سقفه جواهر تسرج وجعل في كل ركن من أركان المجلس تمثالًا من الذهب بيده كالبوق الذي يبوق به وتحت القبة دكة مصفحة بذهب ولها حواف من زبرجد وفوق الدكة فرش من حرير وجعل عليها جسد بعد أن لطخ بالأدوية المجففة ووضع في جانبه آلات كافور وسدلت عليه ثياب منسوجة بالذهب ووجهه مكشوف وعلى رأسه تاج مكلل وعن جوانب الدكة أربعة تماثيل مجوّفات من زجاج مسبوك في صور النساء بأيديهنّ مراوح من ذهب وعلى صدره من فوق الثياب سيف فاخر قائمته من زبرجد وجعل في تلك الخزائن من الذخائر وسبائك الذهب والتيجان والجوهر وبرابي الحكم وأصناف العقاقير والطلسمات ومصاحف العلوم ما لا يحصى كثرة وجعل على باب المجلس‏:‏ ديكًا من ذهب على قاعدة من زجاج أخضر منشور الجناحين مزبورًا عليه آيات مانعة وجعل على كل مدخل أزج صورتين من نحاس بأيديهما سيفان وقدّامهما بلاطة تحتها لوالب من وطئها ضرباه بأسيافهما فقتلاه وفي سقف كل أزج كرة وعليها الطوخ مدبر يسرج فيقد طول الزمان وسَد باب الأزج بالأساطين المرصصة ورصوا على سقفه البلاط العظام وردموا فوقها الرمال وزبروا على باب الأزج هذا المدخل إلى جسد الملك المعظم المهيب الكريم الشديد قفطريم في الأيد والفخر والغلبة والقهر وأفل نجمه وبقي ذكره وعلمه فلا يصل أحد إليه ولا يقدر بحيلة عليه وذلك بعد سبعمائة وسبعين ودورات مضت من السنين‏.‏

وقال المسعوديّ‏:‏ ومعدن الزمرّذ في عمل الصعيد الأعلى من مدينة قفط ومنها يخرج إلى هذا المعدن والموضع الذي هو فيه يعرف‏:‏ بالخربة وهي مفازة وجبال والبجة تحمي هذا المكان المعروف بالخربة وإليها يؤدي الخفارات من يرد إلى حفر الزمرذ ووجدت جماعة من صعيد مصر من ذوي الدراية ممن اتصلت معرفته بهذا المعدن وعرف هذا النوع من الجوهر يخبرون أنه يكثر ويقلّ في فصول السنة فيكثر في قوّة موادّ الهواء وهبوب نوع من الرياح الأربع وتقوى الخضرة فيه والشعاع النوريّ في أوائل الشهر والزيادة في نور القمر وبين الموضع المعروف بالخربة الذي فيه معدن الزمرّذ وبين ما اتصل من العمارة وقرب منه من الديار مسيرة سبعة أيام وهي قفط وقوص وغيرهما من صعيد مصر وقوص راكبة النيل وبين النيل وقفط نحو من ميلين‏.‏

ولمدينتي قفط وقوص أخبار عجيبة في بدء عمارتهما وما كان في أيام القبط من أخبارهما إلا أنّ مدينة قفط في هذا الوقت متداعية للخراب وقوص أعمر والناس فيها أكثر وكان بقفط بربا موكل بها روحانيّ في صورة جارية سوداء تحمل صبيًا أسود صغيرًا حُكي أنها رُئيت بها مرارًا ومعدن الزمرّذ في البرّ المتصل بأسوان وكان له ديوان فيه شهود وكتاب وينفق على العمال به وتنال لهم المؤن لحفره واستخراج الزمرّذ منه وهو في جبال مرملة يحفر فيه وربما سقط على الجماعة به فماتوا‏.‏

وكان يجمع ما يخرج منه ويحمل إلى الفسطاط ومنه يحمل إلى البلاد وقد كان الناس يسيرون من قوص إلى معدن الزمرّذ في ثمانية أيام بالسير المعتدل‏.‏

وكانت البجاه تنزل حوله وقريبًا منه لأجل القيام بحفره وحفظه وهذا المعدن في الجبل الآخذ على شرقيّ النيل في بحريّ قطعة عظيمة من هذا الجبل تسمى‏:‏ اقرشندة وليس هناك من الجبال أعلى منها وهو في منقطع من البرّ لا عمارة عنده ولا حوله ولا قريبًا منه والماء عنه مسيرة نصف يوم أو أزيد وهو ما يتحصل من المطر ويُعرف بغدير أعين يكثر بكثرة المطر ويقلّ بقلته وهذا المعدن في صدر مفازة طويلة في حجر أبيض يستخرج منه الزمرّذ وهذا الحجر الأبيض ثلاثة أنواع أحدها يقال له‏:‏ طلق كافوريّ والثاني يقال له‏:‏ طلق فضيّ والثالث يقال له‏:‏ حجر جرويّ ويضرب في هذه الحجارة حتى يخرج الزمرّذ وهو كالغريق فيه وأنواعه الريانيّ وهو أقلّ من القليل لا يخرج إلا في النادر وإذا استخرج ألقي في الزيت الحار ثم يُحط في قطن ويصرّ ذلك القطن في خرق خام أو نحوها وكان الاحتراز على هذا المعدن كثير جدًّا ويفتش الفعلة عند الخروج منه كل يوم حتى تفتش عوراتهم ومع ذلك فيختلسون منه بصناعات لهم في ذلك ولم يزل هذا المعدن يُستخرج منه الزمرّذ إلى أن أبطل العمل منه الوزير الصاحب علم الدين عبد الله بن زنبور في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في سنة وفي سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة كانت فتنة كبيرة بمدينة قفط سببها أنَّ داعيًا من بني عبد القوي ادّعى أنه داود بن العاضد فاجتمع الناس عليه فبعث السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أخاه الملك العادل أبا بكر بن أيوب على جيش فقتل من أهل قفط نحو ثلاثة آلاف وصلبهم على شجرها ظاهر قفط بعمائمهم وطيالستهم‏.‏

ذكر مدينة دندرة هي إحدى مدن الصعيد الأعلى القديمة بناها قفطريم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام وكا فيها بربًا عظيمة فيها‏:‏ مائة وثمانون كوّة تدخل الشمس في كل يوم من كوّة حتى تأتي على آخرها ثم تكرّ راجعة إلى حيث بدأت وكانت روحانيتها الموكلة بها تظهر في هيئة إنسان له رأس أسد بقرنين وكان بها أيضًا شجرة تعرف بشجرة العباس متوسطة وأوراقها خضر مستديرة إذا قال الإنسان عندها‏:‏ يا شجرة العباس جاءك الفاس تجتمع أوراقها وتحزن لوقتها ثم تعود كما كانت وبين دندرة وبين قوص بريد واحد وكانت بربا دندرة أعظم من بربا إخميم‏.‏

ذكر الواحات الداخلة الواحات منقطعة وراء الوجه القبليّ في مغاربه ولا تعدّ في الولايات ولا في الأعمال ولا يحكم عليها من قبل السلطان والٍ وإنما يحكم عليها من قبل مقطعها‏.‏

وبلاد الواحات بين مصر والإسكندرية والصعيد والنوبة والحبشة بعضها داخل ببعض وهو بلد قائم بنفسه غير متصل بغيره ولا يفتقر إلى سواه وأرضها شبية وزاجية وعيون حامضة الطعم تستعمل كاستعمال الخل وعيون مختلفة الطعوم من الحامض والقابض والمالح ولكل نوع منها خاصية ومنفعة وهي على قسمين واحات داخلة وواحات خارجة جملتها أربع واحات‏.‏

ويقال‏:‏ إنّ الواحات وُلدوا حويلا بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح وإنّ أخر سبا بن كوش أبو الحبش وأبو شنبا بن كوش أبو زغاوة وأبو شفحيا بن كوش‏:‏ أبو الحبش الرمرم‏.‏

قال ابن وصيف شاه ويقال‏:‏ إنّ قفطريم بنى المدائن الداخلة وعمل فيها عجائب منها الماء القائم كالعمود لا ينحلّ ولا يذوب والبركة التي تسمى فلسطين أي صيادة الطير إذا مرّ عليها الطير سقط فيها ولم يمكنه الخروج منها حتى يؤخذ وعمل أيضًا عمودًا من نحاس عليه صورة طائر إذا قرب الأسد أو الحيات أو غيرها من الأشياء المضرّة من تلك المدينة صفر تصفيرًا عاليًا فترجع تلك الدواب هاربة وعمل على أربعة أبواب هذه المدينة أربعة أصنام من نحاس لا يقرب منها غريب إلا ألقي عليه النوم والسبات فينام عندها ولا يبرح حتى يأتيه أهل المدينة وينفخون في وجهه ليقوم وإن لم يفعلوا ذلك لا يزال نائمًا عند الأصنام حتى يهلك‏.‏

وعمل منارًا لطيفًا من زجاج ملوّن على قاعدة من نحاس وعمل على رأس المنار صورة صنم من أخلاط كثيرة وفي يده كالقوس كأنه يرمي عنها فإن عاينه غريب وقف في موضعه ولم يبرح حتى يُنحيه أهل المدينة وكان ذلك الصنم يتوجه إلى مهب الرياح الأربع من نفسه وقيل‏:‏ إن هذا الصنم على حاله إلى الآن وإنّ الناس تحاموا تلك المدينة على كثرة ما فيها من الكنوز والعجائب الظاهرة خوفًا من ذلك الصنم أن تقع عين إنسان عليه فلا يزال قائمًا حتى يتلف وكان بعض الملوك عمل على قلعه فما أمكنه وهلك لذلك خلق كثير‏.‏

ويقال‏:‏ إنه عمل في بعض المدائن الداخلة مرآة يرى فيها جميع ما يسأل الإنسان عنه وبنى غربيّ النيل وخلف الواحات الداخلة مدنًا عمل فيها عجائب كثيرة ووكل الروحانيين بها الذين يمنعون منها فما يستطيع أحد أن يدنو إليها ولا يدخلها أو يعمل قرابين أولئك الروحانيين فيصل إليها حينئذٍ ويأخذ من كنوزها ما أب من غير مشقة ولا ضرر وبنى الملك صا بن الساد وقيل‏:‏ صا بن مرقونس بداخل الواحات مدينة وغرس حولها نخلًا كثيرًا وكان يسكن منف وملك الأحياز كلها وعمل عجائب وطلسمات وردّ الكهنة إلى مراتبهم ونفى الملهيين وأهل الشرّ ممن كان يصحب الساد بن مرقونس وجعل على أطراف مصر أصحاب أخبار يرفعون إليه ما يجري في حدودهم وعمل على غربيّ النيل مناير يوقد عليها إذا حزبهم أمر أو قصدهم قاصد‏.‏

وكان لما ملك البلد بأسره جمع الحكماء إليه ونظر في نجومه وكان بها حاذقًا فرأى أن بلده لا بدّ أن تغرق بالطوفان من نيلها ورأى أنها تخرب على يد رجل يأتي من ناحية الشام فجمع كل فاعل بمصر وبنى في ألواح الأقصى مدينة جعل طول حصنها في الارتفاع خمسين ذراعًا وأودعها جميع الحكم والأموال وهي المدينة التي وقع عليها موسى بن نصير في زمن بني أمية لما قدم من المغرب فلما دخل مصر أخذ على ألواح الأقصى وكان عنده علم منها فأقام سبعة أيام يسير في رمال بين الغرب والجنوب فظهرت له مدينة عليها حصن وأبواب من حديد فلم يمكنه فتح الأبواب وكان إذا صعد إليها الرجال وعلوا الحصن وأشرفوا على المدينة ألقوا أنفسهم فيها فلما أعياه أمرها مضى وهلك من أصحابه عدّة‏.‏

قال‏:‏ وفي تلك الصحارى كانت منتزهات القوم ومدنهم العجيبة وكنوزهم إلا أنّ الرمال غلبت عليها ولم يبق يملك ملك إلا وقد عمل للرمل طلسمًا لدفعه ففسدت طلسماتها لقدم الزمان قال‏:‏ ولا ينبغي لأحد أن ينكر كثرة بنيانهم ولا مدائنهم ولا ما نصبوه من الأعلام العظام فقد كان للقوم بطش لم يكن لغيرهم وإنّ آثارهم لبينة مثل الأهرام والأعلام والإسكندرية وما في صحارى الشرق والجبال المنحوتة التي جعلوا كنوزهم فيها والأودية المنحوتة ومثل ما بالصعيد من البرابي وما نقشوه عليها من حكمتهم فلو تعاطى جميع ملوك الأرض أن يبنوا مثل الهرمين ما تهيأ لهم وكذلك أن ينقشوا بربا لطال بهم الأمد ولم يمكنهم‏.‏

وحكي عن قوم من البنائين في ضياع الغرب أنّ عاملًا عندهم عنف بهم ففرّوا في صحراء الغرب ومعهم زاد إلى أن تنصلح أحوالهم ويرجعوا فلما كانوا على مسيرة يوم وبعض آخر قدموا إلى سفح جبل فوجدوا عيرًا أهليًا قد خرج من بعض الشعاب فتبعه بعضهم فانتهى إلى مساكن وأشجار ونخل ومياه تطرد وقوم هناك يرعون ولهم مساكن وكلمهم وأعجب بهم فجاء إلى أصحابه وقدم بهم على أولئك القوم فسألوهم عن حالهم فأخبروهم وأقاموا عندهم حتى صلحت أحوالهم وخرجوا ليأتوا بأهاليهم ومواشيهم ويقيموا عندهم فساروا مدّة وهم لا يعرفون الطريق ولا يتأتى لهم العود فأسفوا على ما فاتهم‏.‏

وضلّ آخرون عن الطريق في الغرب فوقعوا على مدينة عامرة كثيرة الناس والمواشي والنخل والشجر فأضافوهم وأطعموهم وسقوهم وباتوا في طاحونة فسكروا من الشراب وناموا فلم ينتبهوا إلا من حرّ الشمس فإذا هم في مدينة خراب ليس فيها أحد فخافوا وخرجوا وظلوا يومهم سائرين إلى المساء فظهرت لهم مدينة أكبر من الأولى وأعمر وأكثر أهلًا وشجرًا ومواشي فأنسوا بهم وأخبروهم بخبر المدينة الأولى فجعلوا يعجبون منهم ويضحكون وانطلقوا بهم إلى وليمة لبعض أهل المدينة فأكلوا وشربوا وعنوا بهم حتى سَكِرُوا فلما كان من الغد انتبهوا فإذا هم في مدينة عظيمة ليس فيها أحد وحولها نخل قد تساقط ثمره وتكدس فخرجوا وهم يجدون ريح الشراب ومبادي الخمار فساروا يومًا إلى المساء وإذا راع يرعى غنمًا فسألوه عن الطريق‏.‏

فدلهم فساروا بعض يوم من الغد فوصلوا مدينة الأشمونين بالصعيد‏.‏

قال‏:‏ وهذه مدائن القوم الداخلة القديمة قد غلب عليها الجان ومنها ما سترته عن العيون فلا ينظر إليها أحد وقال‏:‏ إنّ البودسير بن قفطريم بن قبطيم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام في أيامه بنيت بصحراء الغرب مناير ومنتزهات وحوّل إليها جماعة من أهل بيته فعمروا تلك النواحي وبنوا فيها حتى صارت أرض الغرب عامرة كلها وأقامت على ذلك مدّة كثيرة فخالطهم البربر ونكحوا منهم ثم تحاسدوا فكانت بينهم حروب خربت فيها تلك الجهات وبادت إلا بقية منازل تُسمى‏:‏ الواحات‏.‏