فصل: مشهد السيدة نفيسة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 مشهد السيدة نفيسة

قال الشريف النقيب النسابة شرف الدين أبو عليّ محمد بن أسعد بن عليّ بن معمر بن عمر الحسيني الجوانيّ المالكيّ في كتاب الروضة الأنيسة بفضل مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها‏:‏ نفيسة ابنة الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام أمّها أمّ ولد وأخوتها القاسم ومحمد وعليّ وإبراهيم وزيد وعبيد الله ويحيى وإسماعيل وإسحاق وأمّ كلثوم أولاد الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ فأمّهم أمّ سلمة واسمها زينب ابنة الحسن بن الحسن بن عليّ وأمّها أمّ ولد تزوّج أمّ كلثوم أخت نفيسة عبد اللّه بن عليّ بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم ثم خلف عليها الحسن بن زيد بن عليّ بن الحسن بن عليّ‏.‏

وأما عليّ وإبراهيم وزيد أخوة نفيسة من أبيها فأمّهم أمّ ولد تدعى أمّ عبد الحميد وأما عبيد اللّه بن الحسن بن زيد فأمّه الزائدة بنت بسطام بن عمير بن قيس الشيبانيّ وأما إسماعيل وإسحاق فهما لأمي ولد وكان إسماعيل من أهل الفضل والخير صاحب صوم ونسك وكان يصوم يوماَ ويفطر يومًا‏.‏

وأما يحيى بن زيد فله مشهد معروف بالمشاهد يأتي ذكره إن شاء الله تعالى وتزوّج بنفيسة رضي الله عنها إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام وكان يقال له إسحاق المؤتمن وكان من أهل الصلاح والخير والفضل والدين رويَ عنه الحديث وكان ابن كاسب إذا حدّث عنه يقول‏:‏ حدّثني الثقة الرضي إسحاق بن جعفر وكان له عقب بمصر منهم بنو الرقي وبحلب بنو زهرة‏.‏

وولدت نفيسة من إسحاق ولدين هما القاسم وأمّ كلثوم لم يعقبا‏.‏

وأما جد نفيسة وهو زيد بن الحسن بن عليّ فروي عن أبيه وعن جابر وابن عباس وروى عنه ابنه وكانت بينه وبين عبد الله بن محمد ابن الحنفية خصومة وفدًا لأجلها على الوليد بن عبد الملك وكان يأتي الجمعة من ثمانية أميال وكان إذا ركب نظر الناس إليه وعجبوا من عظم خلقه وقالوا‏:‏ جده رسول الله‏.‏

وكتب إليه الوليد بن عبد الملك يسأله أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان بن عبد الملك ففَرِقَ منه وأجابه فلما استخلف سليمان وجد كتاب زيد بذلك إلى الوليد فكتب إلى أبي بكر بن حزم أمير المدينة‏:‏ ادع زيد بن الحسن فأقرِهِ الكتاب فإن عرفه فاكتب إليّ وإن هو نكل فقدّمه فأصب يمينه عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏!‏ إنه ما كتبه ولا أمر به فخاف زيدًا لله واعترف‏.‏

فكتب بذلك أبو بكر فكتب سليمان أن يضربه مائة سوط وأن يدرعه عباءة ويمشيه حافيًا فحبس عمر بن عبد العزيز الرسول وقال‏:‏ حتى أكلم أمير المؤمنين فيما كتب به في حق زيد‏.‏

فقال للرسول‏:‏ لا تخرج فإن أمير المؤمنين مريض‏.‏

فمات سليمان وأحرق عمر الكتاب‏.‏

وأما والد نفيسة وهو الحسن بن زيد فهو الذي كان والي المدينة النبوية من قبل أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور وكان فاضلًا أديباٌ عالمًا وأمّه أم ولد‏.‏

توفي أبوه وهو غلام وترك عليه دَينًا أربعة آلاف دينار فحلف الحسن ولده أن لا يُظِلُ رأسه سقف إلا سقف مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو بيت رجل يكلمه في حاجة حتى يقضي دين أبيه فوفاه وقضاه بعد ذلك‏.‏

ومن كرمه أنه أتى بشاب شارب متأدّب وهو عامل على المدينة فقال‏:‏ يا ابن رسول الله لا أعود وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أقيلوا ذوي الهيآت عثراتهم ‏"‏ وأنا ابن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وقد كان أبي مع أبيك كما قد علمت‏.‏

قال‏:‏ صدقت فهل أنت عائد قال‏:‏ لا والله‏.‏

فأقاله وأمر له بخمسين دينارًا وقال له‏:‏ تزوج بها وعد إلي‏.‏

فتاب الشاب وكان الحسن بن زيد يجري عليه النفقة‏.‏

وكانت نفيسة من الصلاح والزهد على الحدّ الذي لا مزيد عليه فيقال أنها حجت ثلاثين حجة وكانت كثيرة البكاء تديم قيام الليل وصيام النهار فقيل لها‏:‏ ألا ترفقين بنفسك فقالت‏:‏ كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون‏.‏

وكانت تحفظ القرآن وتفسيره وكانت لا تأكل إلا في كلّ ثلاث ليال أكلة واحدة ولا تأكل من غير زوجها شيئًا وقد ذُكر أنّ الإمام الشافعيّ محمد بن إدريس كان زارها وهي من وراء الحجاب وقال لها‏:‏ ادعي لي وكان صحبته عبد الله بن عبد الحكم‏.‏

وماتت رضي الله عنها بعد موت الإمام الشافعيّ رحمة الله عليه بأربع سنين لأنّ الشافعيّ توفي سلخ شهر رجب سنة أربع ومائتين‏.‏

وقيل أنها كانت فيمن صلى على الإمام الشافعيّ‏.‏

وتوفيت السيدة نفيسة في شهر رمضان سنة ثمان ومائتين ودفنت في منزلها وهو الموضع الذي به قبرها الآن ويعرف بخط درب السباع ودرب بزرب‏.‏

وأراد إسحاق بن الصادق وهو زوجها أن يحملها ليدفنها بالمدينة فسأله أهل مصر أن يتركها ويدفنها عندهم لأجل البركة وقبر السيدة نفيسة أحد المواضع المعروفة بإجابة الدعاء بمصر وهي أربعة مواضع‏:‏ سجن نبيّ اللّه يوسف الصدّيق عليه السلام ومسجد موسى صلوات اللّه عليه وهو الذي بطرا ومشهد السيدة نفيسة رضي اللّه عنها والمخدع الذي على يسار المصلّى في قبلة مسجد الإقدام بالقرافة‏.‏

فهذه المواضع لم يزل المصريون ممن أصابته مصيبة أو لحقته فاقة أو جائحة يمضون إلى أحدها فيدعون اللّه تعالى فيستجيب لهم مجرّبٌ ذلك‏.‏

انتهى‏.‏

ويقال أنها حفرت قبرها هذا وقرأت فيه تسعين ومائة ختمة وأنها لما احتضرت خرجت من الدنيا وقد انتهت في حزبها إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل لمن ما في السموات والأرض قل للّه كتب على نفسه الرحمة ‏"‏ ‏"‏ الأنعام ‏"‏ ففاضت نفسها رحمها الله تعالى مع قوله الرحمة ويُقال أن الحسن بن زيد والد السيدة نفيسة كان مجاب الدعوة ممدوحًا وأن شخصًا وشى به إلى أبي جعفر المنصور أنه يريد الخلافة لنفسه فإنه كان قد انتهت إليه رياسة بني حسن فأحضره من المدينة وسلبه ماله ثم إنه ظهر له كذب الناقل عنه فمنّ عليه وردّه إلى المدينة مكرّمًا فلما قدمها بعث إلى الذي وشى به بهدية ولم يعتبه على ما كان منه‏.‏

ويقال أنه كان مجاب الدعوة فمرّت به امرأة وهو في الأبطح ومعها ابن لها على يدها فاختطفه عقاب فسألت الحسن بن زيد أن يدعو اللّه لها بردّه فرفع يديه إلى السماء ودعا ربه فإذا بالعقاب قد ألقى الصغير من غير أن يضرّه بشيء فأخذته أمّه‏.‏

وكان يُعدّ بألف من الكرام‏.‏

ولما قدمت السيدة نفيسة إلى مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر نزلت بالمنصوصة وكان بجوارها دار فيها قوم من أهل الذمّة ولهم ابنة مقعدة لم تمش قط فلما كان في يوم من الأيام ذهب أهلها في حاجة من حوائجهم وتركوا المقعدة عند السيدة نفيسة فتوضأت وصبت من فضل وضوئها على الصبية المقعدة وسمت اللّه تعالى فقامت تسعى على قدميها ليس بها بأس البتة فلما قدم أهلها وعاينوها تمشى أتوا إلى السيدة نفيسة وقد تيقنوا أنّ مشيَ ابنتهم كان ببركة دعائها وأسلموا بأجمعهم على يديها فاشتهر ذلك بمصر وعرف أنه من بركاتها‏.‏

وتوقف النيل عن الزيادة في زمنها فحضر الناس إليها وشكوا إليها ما حصل من توقف النيل فدفعت قناعها إليهم وقالت لهم‏:‏ ألقوه في النيل فألقوه فيه فزاد حتى بلغ اللّه به المنافع‏.‏

وأسر ابن لامرأة ذمّية في بلاد الروم فأتت إلى السيدة نفيسة وسألتها الدعاء أن يردّ اللّه ابنها عليها فلما كان الليل لم تشعر الذمّية إلاّ بابنها وقد هجم عليها دارها فسألته عن خبره فقال‏:‏ يا أمّاه لم أشعر إلاّ ويد قد وقعت على القيد الذي كان في رجليَّ وقائل يقول‏:‏ أطلقوه قد شفعت فيه نفيسة بنت الحسن‏.‏

فوالذي يُحلَفُ به يا أمّاه لقد كُسر قيدي وما شعرت بنفسي إلاّ وأنا واقف بباب هذه الدار‏.‏

فلما أصبحت الذمّية أتت إلى السيدة نفيسة وقصت عليها الخبر وأسلمت هي وابنها وحسن إسلامهما‏.‏

وذكر غير واحد من علماء الأخبار بمصر أن هذا قبر السيدة نفيسة بلا خلاف وقد زار قبرها من العلماء والصالحين خلق لا يُحصى عددهم‏.‏

ويقال أن أوّل من بنى على قبر السيدة نفيسة عبيد الله بن السري بن الحكم أمير مصر ومكتوب في اللوح الرخام الذي على باب ضريحها وهو الذي كان مصفحًا بالحديد بعد البسملة ما نصه نصر من الله وفتح قريب لعبد الله ووليه معدّ أبي تميم الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المكرّمين أمر بعمارة هذا الباب السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الأنام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين عضَّد اللّه به الدين وأمتع بطول بقائه المؤمنين وأدام قدرته وأعلى كلمته وشدّ عضده بولده الأجل الأفضل سيف الأمام جلال الإسلام شرف الأنام ناصر الدين خليل أمير المؤمنين زاد اللّه في علائه وأمتع المؤمنين بطول بقائه في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة والقبة التي على الضريح جدّدها الخليفة الحافظ لدين الله في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة وأمر بعمل الرخام الذي بالمحراب‏.‏

مشهد السيدة كلثوم هي كلثوم بنت القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب موضعه بمقابر قريش بمصر بجوار الخندق وهي أمّ جعفر بن موسى بن إسماعيل بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق كانت من الزاهدات العابدات‏.‏

سنا وثنا يقال أنهما من أولاد جعفر بن محمد الصادق كانتا تتلوان القرآن الكريم في كلّ ليلة فماتت مقابر مصر والقاهرة المشهورة القبر مدفن الإنسان وجمعه قبور والمقبرة موضع القبر‏.‏

قال سيبويه‏:‏ المقبرة ليس على الفعل ولكنه اسم وقَبَرَهُ يَقْبَره‏:‏ دفنه‏.‏

وأقبره جعل له قبرًا‏.‏

واعلم أنّ لأهل مدينة مصر ولأهل القاهرة عدّة مقابر وهي‏:‏ القرافة فما كان منها في سفح الجبل يقال له القرافة الصغرى وما كان منها في شرقيّ مصر بجوار المساكن يقال له القرافة الكبرى وفي القرافة الكبرى كانت مدافن أموات المسلمين منذ افتتحت أرض مصر واختط العرب مدينة الفسطاط ولم يكن لهم مقبرة سواها فلما قدم القائد جوهر من قبل المعز لدين الله وبنى القاهرة وسكنها الخلفاء اتخذوا بها تربة عَرفت بتربة الزعفران قبروا فيها أمواتهم ودفن رعيتهم من مات منهم في القرافة إلى أن اختطت الحارات خارج باب زويلة فقبر سكانها موتاهم خارج باب زويلة مما يلي الجامع فيما بين جامع الصالح وقلعة الجبل وكثرت المقابر بها عند حدوث الشدّة العظمى أيام الخليفة المستنصر ثم لما مات أمير الجيوش بدر الجمالي دُفن خارج باب النصر فاتخذ الناس هنالك مقابر موتاهم وكثرت مقابر أهل الحسينية في هذه الجهة ثم دفن الناس الأموات خارج القاهرة في الموضع الذي عرف بميدان القبق فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر وبنوا هناك الترب الجليلة ودفن الناس أيضًا خارج القاهرة فيما بين باب الفتوح والخندق ولكل مقبرة من هذه المقابر أخبار سوف أقص عليك من أنبائها ما انتهت إلى معرفته قدرتي إن شاء اللّه تعالى‏.‏

ويذكر أهل العناية بالأمور المتقادمة أن الناس في الدهر الأوّل لم يكونوا يدفنون موتاهم إلى أن كان زمن دوناي الذي يُدعى سيد البشر لكثرة ما علم الناس من المنافع فشكا إليه أهل زمانه ما يأتذون به من خبث موتاهم فأمرهم أن يدفنوهم في خوابي ويسدّوا رؤوسها ففعلوا ذلك فكان دوناي أوّل من دفن الموتى وذُكر أن دوناي هذا كان قبل آدم بدهر طويل مبلغه عشرون ألف سنة وهي دعوى لا تصح وفي القرآن الكريم ما يقتضي أن قابيل ابن آدم أوّل من دفن الموتى والله أصدق القائلين‏.‏

وقد قال الشافعيّ رحمه اللّه‏:‏ وأكره أن يُعالَمَ مخلوق حتى يُجعل قبره مسجداَ مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده‏.‏

القرافة روى الترمذي من حديث أبي طيبة عبد اللّه بن مسلم عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه رفعه‏:‏ من مات من أصحابي بأرض بُعِثَ قائدًا ونورًا لهم يوم القيامة‏.‏

قال‏:‏ وهذا حديث غريب‏.‏

وقد روي عن أبي طيبة عن ابن بريدة مرسلًا وهذا أصح قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر‏:‏ حدثنا عبد اللّه بن صالح حدّثنا الليث ابن سعد قال‏:‏ سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار فعجب عمرو من ذلك وقال‏:‏ أكتب في ذلك إلى أمير المؤمنين فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزدرع ولا يستنبط بها ماء‏.‏

ولا ينتفع بها‏.‏

فسأله فقال‏:‏ إنا لنجد صفتها في الكتب أنّ فيها غراس الجنة فكتب بذلك إلى عمر رضي اللّه عنه فكتب إليه عمر إنّا لا نعلم غراس الجنة إلاّ المؤمنين فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشيء‏.‏

فكان أوّل من دُفن فيها رجل من المغافر يُقال له عامر فقيل عمرت‏.‏

فقال المقوقس لعمرو‏:‏ وما ذلك ولا على هذا عاهدتنا فقطع لهم الحدّ الذي بين المقبرة وبينهم‏.‏

وعن ابن لهيعة أن المقوقس قال لعمرو‏:‏ إنا لنجد في كتابنا أن ما بين هذا الجبل وحيث نزلتم ينبت فيه شجر الجنة‏.‏

فكتب بقوله إلى عمر بن الحطاب رصي الله عنه فقال‏:‏ صدق فاجعلها مقبرة للمسلمين فقبر فيها ممن عُرف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة نفر عمرو بن العاص السهميّ وعبد الله بن حذاقة السهمي وعبد الله بن جزء الزبيديّ وأبو بصيرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهنيّ‏.‏

ويقال ومسلمة بن مخلد الأنصاريّ انتهى‏.‏

ويقال أن عامرًا هو الذي كان أوّل من دفن بالقرافة قبره الآن تحت حائط مسجد الفتح الشرقي‏.‏

وقالت فيه امرأة من العرب‏:‏ قامَت بواكيهِ على قبرِهِ مَنْ لي من بعدِكَ يا عامِرُ تركتني في الدار ذا غربَة قد ذل من ليسَ له ناصرُ وروى أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر من حديث حرملة بن عمران قال‏:‏ حدّثني عمير بن أبي مدرك الخولانيّ عن سفيان بن وهب الخولاني قال‏:‏ بينما نحن نسير مع عمرو بن العاص في سفح هذا الجبل ومعنا المقوقس فقال له عمرو‏:‏ يا مقوقس ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات ولا شجر على نحو بلاد الشام فقال‏:‏ لا أدري ولكن الله أغنى أهله بهذا النيل عن ذلك ولكنه نجد تحته ما هو خير من ذلك‏.‏

قال‏:‏ وما هو قال ليدفنن تحته أو ليقبرنّ تحته قوم يبعثهم اللّه يوم القيامة لا حساب عليهم قال عمرو‏:‏ اللهم اجعلني منهم‏.‏

قال حرملة بن عمران‏:‏ فرأيت قبر عمرو بن العاص وقبر أبي بصيرة وقبر عقبة بن عامر فيه‏.‏

وخرج أبو عيسى الترمذي من حديث أبي طيبة عبد الله بن مسلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه‏:‏ ‏"‏ من مات من أصحابي بأرض بُعث قائدًا لهم ونورًا يوم القيامة ‏"‏ وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي‏:‏ القرافة هم بنو غض بن سيف بن وائل بن المغافر وفي نسخة بنو غصن‏.‏

وقال أبو عمرو الكندي‏:‏ بنو جحض بن سيف بن وائل بن الجيزيّ بن شراحيل بن المغافر بن يغفر‏.‏

وقيل أن قرافة اسم أم عزافر وجحض ابني سيف بن وائل بن الجيزيّ‏.‏

قد صحف القضاعي في قوله غصن بالغين المعجمة والأقرب ما قاله الكنديّ لأنه أقعد بذلك‏.‏

وقال ياقوت والقرافة - بفتح القات وراء مخففة وألف خفيفة وفاء - الأوّل مقبرة بمصر مشهورة مسماة بقبيلة من المغافر يقال لهم بنو قرافة الثاني القرافة محلة بالإسكندرية منسوبة إلى القبيلة أيضًا‏.‏

وقال الشريف محمد بن أسعد الجواني في كتاب النقط‏:‏ وقد ذكر جامع القرافة الذي يقال له اليوم جامع الأولياء وكان جماعة من الرؤساء يلزمون النوم بهذا الجامع ويجلسون في ليالي الصيف يتحدثون في القمر في صحنه وفي الشتاء ينامون عند المنبر وكان يحصل لقيمه الأشربة والحلوى والجرايات وكان الناس يحبون هذا الموضع ويلزمونه لأجل من يحضر من الرؤساء وكانت الطفيلية يلزمون المبيت فيه ليالي الجمع وكذلك كثر المساجد التي بالقرافة والجبل والمشاهد لأجل ما يُحمل إليها ويعمل فيها من الحلاوات واللحومات والأطعمة وقال موسى بن محمد بن سعيد في كتاب المعرب عن أخبار المغرب‏:‏ وبت ليالي كثيرة بقرافة الفسطاط وهي في شرقيها بها منازل الأعيان بالفسطاط والقاهرة وقبور عليها مبان معتنى بها وفيها القبة العالية العظيمة المزخرفة التي فيها قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه وبها مسجد جامع وترب كثيرة عليها أوقاف للقوّاء ومدرسة كبيرة للشافعية ولا تكاد تخلو من طرب ولا سيما في الليالي المقمرة وهي معظم مجتمعات أهل مصر وأشهر منتزهاتهم وفيها أقول‏:‏ إن القرافَةَ قد حوت ضدينِ من دنيا وأخرى فهي نِعمَ المنزلُ يغشى الخليعُ بها السماعَ مواصلًا ويطوفُ حولَ قبورها المتبتلُ كم ليلة بتنا بها ونديمنا لحن يكادُ يذوب منه الجندلُ والبدرُ قد ملا البسيطةَ نورُهُ فكأنما قد فاضَ منهُ جدولُ وبدا يضاحِكُ أوجهًا حاكَينَهُ لما تكامَلَ وجهُهُ المتهلِلُ وفوق القرافة من شرقيها جبل المقطم وليس له علوّ ولا عليه اخضرار وإنما يُقصد اللبركة وهو نبيه الذكر في الكتب وفي سفحه مقابر أهل الفسطاط والقاهرة والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحجرها ولا أعجب تربة منها كأنها الكافور والزعفران مقدسة في جميع الكتب وحين تشرف عليها تراها كأنها مدينة بيضاء والمقطم عال عليها كأنه حائط من ورائها وقال شافع بن علي‏:‏ تعجبتُ من أمر القرافةِ إذ غدت على وحشَةِ الموتى لها قلبنا يصبو فألفيتُها مأوى الأحبة كلهم ومستوطنُ الأحبابِ يصبو له القلبُ وقال الأديب أبو سعيد محمد بن أحمد العميديّ‏:‏ إذا ما ضاقَ صدري لم أجد لي مقر عبادة إلاّ القرافهْ لئِن لم يرحَمِ المولى اجتهادي وقلة ناصري لم ألف رأفهْ واعلم أن الناس في القديم إنما كانوا يقبرون موتاهم فيما بين مسجد الفتح وسفح المقطم واتخذوا الترب الجليلة أيضًا فيما بين مصلّى خولان وخط المغافر التي موضعها الآن كيمان تراب وتُعرف الآن بالقرافة الكبرى‏.‏

فلما دفن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ابنه في سنة ثمان وستمائة بجوار قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ وبنى القبة العظيمة على قبر الشافعيّ وأجرى لها الماء من بركة الحبش بقناطر متصلة منها نقل الناس الأبنية من القرافة الكبرى إلى ما حول الشافعيّ وأنشأوا هناك الترب فعرفت بالقرافة الصغرى وأخذت عمائرها في الزيادة وتلاشى أمر تلك وأما القطعة التي تلي قلعة الجبل فتجدّدت بعد السبعمائة من سني الهجرة وكان ما بين قبة الإمام الشافعيّ رحمة اللّه عليه وباب القرافة ميدانًا واحدًا تتسابق فيه الأمراء والأجناد ويجتمع الناس هنالك للتفرج على السباق فتصير الأمراء تسابق على حدة والأجناد تسابق في جهة وهم منفردون عن الأمراء والشرط في السباقّ من تربة الأمير بيدرا إلى باب القرافة ثم استجد أمراء دولة الناصر محمد بن قلاون في هذه الجهة الترب فبنى الأمير يلبغا التركمانيّ والأمير طقتمر الدمشقيّ والأمير قوصون وغيرهم من الأمراء وتبعهم الجند وسائر الناس فبنوا الترب والخوانك والأسواق والطواحين والحمامات حتى صارت العمارة من بركة الحبش إلى باب القرافة ومن حدّ مساكن مصر إلى الجبل وانقسمت الطرق في القرافة وتعدّدت بها الشوارع وركب كثير من الناس في سكناها العظم القصور التي أنشأت بها وسميت بالترب ولكثرة تعاهد أصحاب الترب لها وتواتر صدقاتهم ومبرّأتهم لأهل القرافة وقد صنف الناس فيمن قبر بالقرافة وكثروا من التأليف في ذلك ولست بصدد شيء مما صنفوا في ذلك وإنما غرضي أن أذكر ما تشتمل عليه القرافة‏.‏

وفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ظهر بالقرافة شيء يقال له القطربة تنزل من جبل المقطم فاختطفت جماعة من أولاد سكانها حتى رحل أكئرهم خوفًا منها وكان شخص من أهل كبارة مصر يُعرف بحميد الفوّال خرج من أطفيح على حماره فلما وصل إلى حلوان عشاءَ رأى امرأة جالسة على الطريق فشكت إليه ضعفًا وعجزًا فحملها خلفه فلم يشعر بالحمار إلاّ وقد سقط فنظر إلى المرأة فإذا بها قد أخرجت جوف الحمار بمخاليبها ففرّ وهو يعدو إلى والي مصر وذكر له الخبر فخرج بجماعته إلى الموضع فوجد الدابة تدلل جوفها ثم صارت بعد ذلك تتبع الموتى بالقرافة وتنبش قبورهم وتأكل أجوافهم وتتركهم مطروحين فامتنع الناس من الدفن في القرافة زمنًا حتى انقطعت تلك الصورة‏.‏

 المساجد الشهيرة بالقرافة الكبيرة

اعلم أن القرافة بمصر اسم لموضعين القرافة الكبيرة حيث الجامع الذي يُقال له جامع الأولياء والقرافة الصغيرة وبها قبر الإمام الشافعيّ وكانتا في أوّل الأمر خطتين لقبيلة من اليمن هم من المغافر بن يغفر يُقال لهم بنو قرافة‏.‏

ثم صارت القرافة الكبيرة جبانة وهي حيث مصلّى خولان والبقعة وما هو حول جامع الأولياء فإنه كان يشتمل على مساجد وربط وسوق وعدّة مساكن منها ما خرب ومنها ما هو باق وسترى من ذلك ما يتيسر ذكره‏.‏

مسجد الأقدام هذا المسجد بالقرافة بخط المغافر‏.‏

قال القضاعيّ‏:‏ ذكر الكنديّ أن الجند بنوع وليس من الخطط وسمي بالأقدام لأنّ مروان بن الحكم لما دخل مصر وصالح أهلها وبايعوه امتنع من بيعته ثمانون رجلًا من المغافر سوى غيرهم وقالوا لا ننكث بيعة ابن الزبير فأمر مروان بقطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم على بئر بالمغافر في هذا الموضع فسمي المسجد بهم لأنه بنى على آثارهم‏.‏

والآثار الأقدام يُقال جئت على قَدَمِ فلانٍ أي على أثره وقيل بل أمرهم بالبراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلم يتبرؤوا منه فقتلهم هناك‏.‏

وقيل إنما سُميَ مسجد الأقدام لأنّ قبيلتين اختلفتا فيه كلّ تدّعي أنه من خطتها فقيس ما بينه وبين كل قبيلة بالأقدام وجعل لأقربهما منه‏.‏

والقديم من هذا المسجد هو محرابه والأروقة المحيطة به وأما خارجه فزيادة الاخشيد والزيادة الجديدة التي في بحريه لسمعون الملقب بسهم الدولة متولى الستارة وكان من أهل السنة والخير‏.‏

ويُقال إنما سمي مسجد الأقدام لأنه كان يتداوله العباد وكانت حجارته كذانا فأثر فيها موضع أقدامهم فسمي لذلك مسجد الأقدام‏.‏

مسجد الرصد هذا المسجد بناه الأفضل أبو القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ بعد بنائه للجامع المعروف بجامع الفيلة لأجل رصد الكواكب بالآلة التي يقال لها ذات الحلق كما ذكر فيما تقدّم‏.‏

مسجد شقيق الملك هذا المسجد بجوار مسجد الرصد بناه شقيق الملك خسروان صاحب بيت المال أحد خدام القصر في أيام الخليفة الحافظ لدين اللّه في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وعمل فيه للحافظ ضيافة عظيمة حضر فيها بنفسه ومعه الأمراء والأستاذون وكافة الرؤساء وكان فيه كرم وسموّ همة وكان لمساجد القرافة والجبل عنده روزنامج بأسماء أربابها فيُنفِدُ إليهم في أيام العنب والتين لكلّ مسجد قفص رطب ويرسل في كلّ ليلة من ليالي الوقود لكلّ مسجد خروف شواء وسطل جوذآب وجام حلوى ولا سيما إذا كان بائتًا‏.‏

في هذا المسجد فإنه لا يكل حتى يسير ذلك لمن اسمه عنده وكان يعمل جفان القطائف المحشوّة باللوز والسكر والكافور والمسك وفيها ما فيه بدل اللوز الفستق ويستدعى من لا يقدر على ذلك من أهل الجبل والقرافة وذوي البيوت المنقطعين ويأمر إذا حضروا بسكب الحلو والشيرج عليه بالجرار ويأمرهم بأكل منه والحمل معهم وكان أحبهم إليه من يأكل طعامه ويستدعي برّه وأنعامه رحمه مسجد الأنطاكيّ هذا المسجد كان أيضًا بالرصد وما برحت هذه المساجد الثلاثة بالرصد يسكنها الناس إلى ما بعد سنة ثمانين وسبعمائة ثم خربت وصار الرصد من الأماكن المخوفة بعدما أدركته منتزها للعامّة‏.‏

مسجد النارنج هذا المسجد عامر إلى يومنا هذا فيما بين الرصد والقرافة الكبرى بجانب سقاية ابن طولون المعروفة بعفصة الكبرى غربيها إلى البحريّ قليلًا وهو المطلّ على بركة الحبش شرقي الكتفي وقبليّ القرافة‏.‏

بنته الجهة الآمرية المعروفة بجبهة الدار الجديدة في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة أخرجت له اثني عشر ألف دينار على يد الأستاذين افتخار الدولة يمن ومعز الدولة الطويل المعروف بالوحش‏.‏

وتولى العمارة والإنفاق عليه الشريف أبو طالب موسى بن عبد الله بن هاشم بن مشرف بن جعفر بن المسلم بن عبيد الله بن جعفر بن محمد بن إبراهيم بن محمد اليمانيّ بن عبيد اللّه بن موسى الكاظم الحسينيّ الموسويّ المعروف بابن أخي الطيب بن أبي طالب الورّاق وسمي مسجد النارنج لانّ نارنجه لا ينقطع أبدًا‏.‏

هذا المسجد في شرقيّ القرافة الصغرى بجانب مسجد الفتح في الموضع الذي يُعرف عند الزوّار بالبقعة وهو مصلَّى المغافر على الجنائز‏.‏

ويقال أنه بني عند فتح مصر وقيل بني في خلافة معاوية بن أبي سفيان ثم بنته جهة مكنون واسمها علم الآمرية أمّ ابنة الآمر التي يقال لها ست القصور في سنة ست وعشرين وخمسمائة على يد المعروف بالشيخ أبي تراب‏.‏

وجهة مكنون هذه‏:‏ كان الخليفة الآمر بأحكام اللّه كتب صداقها وجعل المقدّم منه أربعة عشر ألف دينار وكان لها صدقات وبرّ وخير وفضل وعندها خوف من اللّه وكانت تبعث إلى الأشراف بصلات جزيلة وترسل إلى أرباب البيوت والمستورين أموالًا كثيرة ولما وهب الآمر لهزار الملوك ولبرغش في كلّ يوم مائتي ألف دينار عينًا لكل منهما مائة ألف دينار حضر إليها عشاء على عادته فأغلقت باب مقصورتها قبل دخوله وقالت له‏:‏ والله ما تدخل إليّ أو تهب لي مثل ما وهبت لواحد من غلاميك‏.‏

فقال‏:‏ الساعة‏:‏ ثم استدعي بالفرّاشين فحضروا فقال‏:‏ هاتوا مائة ألف دينار الساعة ولم يزل واقفًا إلى أن حضرت عشرة كيسة في كل كيس عشرة آلاف دينار ويحمل عشرة من الفرّاشين‏.‏

ففتحت له الباب ودخل إليها‏.‏

ومكنون هذا هو الأستاذ الذي كان برسم خدمتها ويُقال له مكنون القاضي لسكونه وهدئه وكان فيه خبر وبرّ كبير وبجانب مسجد الأندلس هذا رباط من غربيه بنته جهة مكنون هذه في سنة ست وعشرين وخمسمائة برسم العجائز الأرامل‏.‏

فلما كان في سنة أربع وسبعين وخمسمائة بنى الحاجب لؤلؤ العادليّ برحبة الأندلس والرباط بستانًا وأحواضًا ومقعدًا وجمع بين مصلى الأندلس وبين الرباط بحائط بينهما وعمل ذلك لحلول العفيف حاتم بن مسلم المقدسيّ الشافعيّ به ولما مات السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري بدمشق في المحرم سنة ست وسبعين وستمائة وقام من بعده في السلطنة ابنه الملك السعيد محمد بركة خان عمل لأبيه عزاء بالأندلس هذا فاجتمع هناك القرّاء والفقهاء وأقيمت المطابخ وهيئت المطاعم الكثيرة وفرّقت على الزوايا ومدّت أسمطة عظيمة بالخيام التي ضربت حول الأندلس فأكل الناس على اختلاف طبقاتهم وقرأ القرّاء ختمة شريفة وعدّ هذا الوقت من المهمات العظيمة المشهورة بديار مصر وكان ذلك في المحرّم سنة سبع وسبعين وستمائة على رأس سنة من موت الملك الظاهر فقال في ذلك القاضي محيي الدين عبد اللّه بن عبد الظاهر‏.‏

يا أيها الناسُ اسمعوا قولًا بصدق قد كُسي إنّ عزا السلطان في غربِ وشرق ما نُسي أليسَ ذا مأتمُهُ يُعملُ في الأندلُسِ ثم عمل بعد ذلك مجتمع في المدرسة الناصرية بجوار قبة الشافعيّ من القرافة ومجتمع بجامع ابن طولون ومجتمع بجامع الظاهر من الحسينية خارج القاهرة ومجتمع بالمدرسة الظاهرية بين القصرين ومجتمع بالمدرسة الصالحية ومجتمع بدار الحديث الكاملية ومجتمع بالخانقاه الصلاحية لسعيد السعداء ومجتمع بالجامع الحاكميّ وأقيم في كل واحد من هذه المجتمعات الأطعمة الكثيرة وعمل للتكاررة خوان وللفقراء خوان حضره كثير من أهل الخيل والصلاح فقيل في ذلك‏:‏ فشكرًا لها أوقات بر نقبلت لقد كان فيها الخيرُ والبر أجمعا لقد عمَّتِ النعِمى بها كل موطِنٍ سقتها الغوادي مربعًا ثم مربعا ولمّا مضى السلطان لما يمضِ جودُهُ وخلفَ فينا بوهُ متنرّعًا فتى عيشَ في معروفِهِ بعد موتِهِ كما كان بعد السيل مجراه مُرتعا فدام لهُ منّا الدعاءُ مكرّرًا مدى دهرِنا واللهُ يسمعُ مَن دعا مسجد البقعة هذا المسجد مجاور لمسجد الفتح من غربيه بناه الأمير أبو منصور صافي الأفضلي‏.‏

هذا المسجد مشهور بجوار قبر الناطق بناه شرف الإسلام سيف الإمام يانس الرومي وزير مصر وسمي بالفتح لأن منه كان انهزام الروم إلى قصر الشمع حين قدم الزبير بن العوّام والمقداد بن الأسود فيمن سواهما مَدَدًا لعمرو بن العاص وكان الفتح ويُقال أنّ محرابه اللطيف الذي بجانبه الشرقيّ قديم وأن تحت حائطه الشرقيّ قبر عامر الذي كان أوّل من دفن بالقرافة ومحراب مسجد الفتح منحرف عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب انحرافًا كثيرًا كما ذُكر عند ذكر محاريب مصر من هذا الكتاب واستشهد يومئذ جماعة دفنوا في مجرى الحصا فكان يُرى على قبورهم في الليل نور‏.‏

مسجد أم عباس جهة العادل بن السلار هذا المسجد كان بجوار مصلّى خولان بالمغافر غربيّ المقابر بنته بلاوة زوج العادل بن السلار سلطان مصر في خلافة الظافر سنة سبع وأربعين وخمسمائة على يد المعروف بالشريف عز الدولة الرضويّ بن القفاص وكانت بلاوة مغربية وهي أمّ الوزير عباس الصنهاجيّ الباديسيّ وقد دُثر هذا المسجد‏.‏

هذا المسجد كان بخط جامع القرافة المعروف بجامع الأولياء عُرف بمسجد بني عبيد الله وبمسجد القبة وبمسجد العزاء والذي بناه الصالح طلائع بن رزيك وزير مصر وكان في أعلاه مناظر وعمارته متقنة الزي وأدرَكتُهُ عامرًا إلى ما بعد سنة ثمانمائة‏.‏

مسجد وليّ عهد أمير المؤمنين هو الأمير أبو هاشم العباس بن شعيب بن داود المهديّ أحد الأقارب في الأيام الحاكمية كان إلى جانب مسجد الصالح وبجانبه تربته وكان المسجد من حجر وبابه محمول على أربع حنايا وتحت الحنايا باب المسجد وفي شرقيه أيضًا أربع حنايا وكانت دار أبي هاشم هذا بمصر دار الأفراح ومن ولده الشريف الأمير الكبير أبو الحسن عليّ ابن الأمير عباس بن شعيب بن أبي هاشم المذكور ويُعرف بالشريف الطويل وبالنباش‏.‏

مسجد الرحمة هذا المسجد كان في صدر القرافة الكبرى بالقرب من تربة ركن الإسلام محمود ابن أخت الملك الصالح طلائع بن رزيك‏.‏

قال الكندي‏:‏ ومنها مسجد القرافة وهم بنو محصن بن سيف بن وائل بن الجيزيّ قبليّ القرافة على يمينك إذا أممت مسجد الأقدام مقابله فسقية صغيرة وله منارة يُعرف بمسجد الرحمة وعُرف هذا المسجد بأبي تراب الصوّاف وكيل الجهة التي بنت مجسد الأندلس ورباطه ومسجد رقية‏.‏

وأبو تراب هذا تولى بناءه وكان يقوم بخدمته الشيخ نسيم وأبو تراب هو الذي أخرج إليه ولد الآمر في قفة من خوص فيها حوائج طبيخ من كراث وبصل وجزر وهو طفل في القماط في أسفل القفة والحوائج فوقه ووصل به إلى القرافة وأرضعته المرضعة بهذا المسجد وخفي أمره عن الحافظ حتى كبر وصار يُسمى قفيفة‏.‏

فلما حان نفعه نمّ عليه أبو عبد الله الحسين بن أبي الفضل عبد اللّه بن الحسين الجوهريّ الواعظ بعدما مات الشيخ أبو تراب عند الحافظ‏.‏

فأخذ الصبيّ وقصده فمات‏.‏

وخلع على ابن الجوهريّ ثم نفي إلى دمياط فمات بها في جمادى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة‏.‏

مسجد مكنون هو بجانب مسجد الرحمة بناه الأستاذ مكنون القاضي الذي تقدّم ذكره في مجسد الأندلس‏.‏

مسجد جهة ريحان هذا المسجد كان في وجه مسجد أبي تراب قبالة دار البقر من القرافة الكبرى وجدّده أستاذ الجهة الحافظية واسمه ريحان في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة‏.‏

هذا المسجد كان في بطحاء مسجد الأقدام بجوار ترب المادرانيين بنته الجهة الحافظية المعروفة بجهة بيان الحساميّ على يد أبي الفضل الصعيديّ المعروف بابن الموفق وحكى الخليفة عن هذه الجهة خبرًا عجيبًا‏.‏

قال القاضي المكين أبو الطاهر إسماعيل بن سلامة‏:‏ قال لي أمير المؤمنين الحافظ يومًا‏:‏ يا قاضي أبا الطاهر‏.‏

قلت لبيك يا أمير المزمنين‏.‏

قال‏:‏ أحدّثك بحديث عجيب قلت نعم‏.‏

قال لما جرى من أبي عليّ بن الأفضل ما جرى بينما أنا في الموضع الذي كنت معتقلًا فيه رأيت كأني قد جلست في مجلس من مجالس القصر أعرفه وكأن الخلافة قد أعيدت إليّ وكأنَّ المغنيات قد دخلن يهنينني ويغنين بين يدي وفي جملتهنّ جارية معها عود يعني هذه الجارية المذكورة فأنشأت تغني قول أبي العتاهية‏:‏ أتته الخلافةُ منقادةً إليه تجرّر أذيالها فلم تكُ تصلُحُ إلاّ لهُ ولم يَكُ يصلُحُ إلاّ لها ولو نالها أحد غيرَهُ لزلزلتِ الأرضُ زلزالها وكأني قمت إلى خزانة بالمجلس أخذتُ منها حقة فيها جوهر‏.‏

فملأت فمها منه ثم استيقظت‏.‏

فواللّه يا قاضي ما كان إلاّ يومان حتى كسر عليّ الحبس لما قُتل أبو عليّ بن الأفضل وقيل لي السلامُ على أمير المؤمنين فلما خرجت وأقمت أيامًا جلستُ في ذلك المجلس الذي رأيته في النوم ودخل الجواري يهنينني فغنت إحداهنّ وهي ذات عود ذلك الصوت بعينه فقلت لها‏:‏ على رسلك حتى نقضي نحن أيضًا من حقك ما يجب علينا وقمت إلى الخزانة وأخذت الحُق الذي فيه الجوهر ثم جئت إليها وقلت لها افتحي فاك ففتحته وحشرته جوهرًا وقلت لها إنّ لك علينا في كلّ سنة في مثل هذا اليوم مثل ذلك‏.‏

مسجد توبة هو ابن ميسرة الكتاميّ مغني المستنصر كان في شرقيّ الأقهوب وقبالته تربة تنسب إلى الطبالة صاحبة أرض الطبالة وكلاهما في القرافة الكبرى‏.‏

مسجد دري هذا المسجد كان في القرافة الكبرى في رحبة الأقهوب بناه شهاب الدولة دري كلام المظفر أخي الأفضل ابن أمير الجيوش في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة وكان أرمنيًا فأسلم وصار من المتشدّدين في مذهب الإمامية وقرأ الجمل للزجاجيّ في النحو واللمع لابن جني وكانت له خرائط من القطن الأبيض يلبسها في يديه ورجليه وكان يتولى خزائن الكسوات ولا يدخل على بسط السلاطين ولا على بسط الخليفة الحافظ لدين اللّه ولا يدخل مجلسه إلاّ بالخرائط في رجليه ولا يأخذ من أحد رقعة إلاّ وفي يده خريطة يظنُّ أنّ من لمسه نجسه وَسوَسَةً منه‏.‏

فإن اتفق أنه صافح أحدًا أو أمسك رقعة بيده من غير خريطة لا يمس ثوبه ولا بدنه حتى يغسلها فإن مس ثوبه غسل الثوب‏.‏

وكان الأستاذون يعبثون به ويرمون في بساط الخليفة الحافظ العنب فإذا مشى عليه وانفجر ووصل ماؤه إلى رجليه سبهم وحرد فيضحك الخليفة ولا يؤاخذه وعمل مرّة الوزير رضوان بن ولخشيّ دواة حليتها ألف دينار مرصعة فدخل عليه شهاب الدولة دري الصغير هذا وقد أحضرت الدواة المذكورة فقال له‏:‏ يا مولانا أحسن من مداد هذه الدواة ووقع على هذه فيكون ذلك زكاتها إذ لله فيه رضى ولنبيه وناوله رقعة الشريف القاضي سنا الملك أسعد الجوّاني النحويّ يطلب فيها راتبًا لابنه الشريف أبي عبد الله محمد في الشهر ثلاثة دنانير فوقع عليها‏.‏

فلما كان في الليل رأى في نومه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عته وهو يقول‏:‏ جزاك الله خيرًا على فعلك اليوم‏.‏

مسجد ست غزال هذا المسجد كان في القرافة الكبرى بجوار تربة النعمان بنته ست غزال في سنة ست وثلاثين وخمسمائة وكانت غزال هذه صاحبة دواة الخليفة لا تعرف شيئًا إلاّ أحكام الدوى والليق مسجد رياض هو لوقافة الحافظ لدين الله كانت تقف بين يديه بالقصر وكان بجرار المصنعة الصغرى الطولونية التي يجيء الماء إليها من عفصة الكبرى وكان فيه حوش به عدّة بيوت للنساء المنقطعات‏.‏

مسجد عظيم الدولة هذا المسجد كان معلقًا بخط سوق القرافة الكبرى واكن عظيم الدولة هذا صقلبيًا صاحب الستر وحامل المظلة وكان بجوار هذا المسجد مسجد التمساح ومسجد السدرة ومسجد جهة مراد وكان القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي الفرج هبة اللّه بن الميسر لما عمل قدامة منارة النحاس الرومية ذات السواعد واجتاز بها من تحت سدرة المسجد في ليلة الوقود نصف شهر رجب سنة ثلاثين وخمسمائة عاقتها السدرة فأمر بقطع بعضها فقيل له‏:‏ لا تفعل فإنّ قطع السدر محذور‏.‏

وقد روى أبو داود في كتاب السنن له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من قطع سدرة صوّب الله رأسه في النار ‏"‏ فقطعها على ركوب نصف شعبان فما أسنى وصرف فيّ المحرّم وفني إلى تنيس وقتل‏.‏

هذا المسجد كان غربي مسجد الأقدام بناه ابن سعدون أبو الحسن عليّ بن محمد البغدادي بعد سنة عشرين وأربعمائة وجدّده أخوه أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن بن سعدون البغداديّ سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة وهو مسجد أبي صادق مرشد المديني المالكيّ المحدّث وكان قارئ المصحف بالجامع ومصليًا به ومصدّرًا فيه للقراء السبع وكان فيه حنة على الحيوانات لا سيما على القطط والكلاب وكان مشارف الجامع وجعل عليه جاريًا من الغدد كلّ يوم لأجل القطط وكان عند داره بزقاق الأقفال من مصر كلاب يطعمها ويسقيها وربما تبع دابته منها شيء يمشي معه في الأسواق قال الشريف محمد بن أسعد الجوّاني النسابة في كتاب النقط على الخطط‏:‏ حدّثني الشيخ منجب غلام أبي صادق قال‏:‏ كان لمولاي الشيخ أبي صادق كلب لا يفارقه أبدًا إذا كان راكبًا يمشي خلفه فإذا وقفت بغلته قام تحت يديها فإذا رآه الناس قالوا هذا أبو صادق وكلبه‏.‏

وحدّثني قال‏:‏ ولدت كلبة في مستوقد حمّام وكان المؤذن يأتي خلف مولاي سحرًا كل يوم لقراءة المصحف وكان مولاي يأخذ في كمه كلّ يوم رغيفًا فإذا حاذى موضع الكلبة قلع طيلسانه وقطع الخبز للكلبة ويرمي لها بنفسه إلى أن تأكل ثم يستدعي الومّاد ويعطيه قيراطًا ويقول له‏:‏ اغسل قدحها واملأه ماء حلوًا ويستحلفه على ذلك‏.‏

فلما كبر أولادها صار يأخذ بعد رغيفين إلى أن كبروا وتفرّقوا‏.‏

وحدثني قال‏:‏ كان قد جعل كراء حانوت برسم القطاط بالجامع العتيق من الأحباس وكان يؤتي بالغدد مقطعة فيجلس ويقسم عليها وإن قطة كانت تحمل شيئاَ من ذلك وتمضي به وفعلت ذلك مرارًا فقال مولاي للشيخ أبي الحسن بن فرج امض خلف هذه القطة وانظر إلى أين تؤدّي ذلك فمضى ابن فرج فإذا بها تؤدبه إلى أولادها فعاد إليه وأخبره فكان بعد ذلك يقطع غددًا صغارًا على قدر مساغ القطط الصغار وغددًا كبار للكبار ويرسل بجزء الصغار إليهم إلى أن كبروا‏.‏

مسجد الفرّاش هذا المسجد كان بالقرافة الكبرى بناه أحمد فرّاش الأفضل بن أمير الجيوش وبجواره مجسد بناء زيد بن حسام ومسجد الإجابة القديم وتربة العطار ودار البقر وقناطر الأطفيحيّ كلّ ذلك بالقرب من جامع القرافة‏.‏

مسجد تاج الملوك هذا المسجد قدّام دار النعمان وتربته من القرافة الكبرى بناه تاج الملوك بدران بن أبي الهيجاء الكرديّ المارداني وهو أخو سيف الدين حسين بن أبي الهيجاء صهر بني رزيك وكان مجتمع أهل مصر عنده في الأعياد والمواسم وليالي الوقود‏.‏

هذا المسجد كان ملاصقًا للزيادة التي في بحري مسجد الأقدام وفيه قبور بني الثمار‏.‏

مسجد الحجر هذا المسجد كان بحري مسجد عمار بن يونس مولى المغافر وشرقيّ قصر الزجاج من القرافة الكبرى بنته مولاة علي بن يحيى بن طاهر المعروف بابن أبي الخارجيّ الموصليّ في ربيع الأوّل سنة ثلاثين وأربعمائة‏.‏

مسجد القاضي يونس هذا المسجد كان غربي مسجد الحجر المذكور بناه الشيخ عُدي الملك بن عثمان صاحب دار الضيافة ثم صار بيد قاضي القضاة بمصر الموفق كمال الدين أبي الفضائل يونس بن محمد بن الحسن المعروف بجوامرد خطيب القدس القرشيّ وكان من الأعيان ولم يشرب قط من ماء النيل بل من ماء الآبار ولم يأكل قط للسلطان خبزًا وكان يروى الحديث عن جده‏.‏

مسجد الوزيرية هذا المسجد كان بالقرافة الكبرى وله منارة بجوار باب رباط الحجازية وكانت الحجازية واعظة زمانها وكانت من الخيرات لها القبول التام وتدعى أمّ الخير وكان لها من الصيت كما كان لابن الجوهري وكانت على غاية من الكرم وحسن الأخلاق والشيم ومن مكارم أخلاقها وحسن طباعها وكياسة انطباعها ما حكاه الجوّانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط قال‏:‏ حدّثني الشيخ أبو الحسن بن السراج المؤذن بالجامع بمصر قال‏:‏ كان قدام الباب الأوّل من أبواب جامع مصر بياع رطب يقعد على الأرض وبين يديه أقفاص رطب من أحسن الأرطاب فبينما الحجازية الواعظة هذه ذات يوم قد قاربت الخروج من باب الجامع وهي في حفدتها وجواريها وإذا ذلك الرطاب ينادي على قفص رطب قدّامه معاشر الناس اشتروا الطيبة الحجازية على أربعة على أربعة‏.‏

يريد على أربعة أرطال رطب بدرهم‏.‏

فلما سمعته الحجازية وقفت قبل أن تخرج من باب الجامع وأنفذت إليه بعض الجواري فصاحت به فلما أتاها قالت له‏:‏ يا أخي قولك الحجازية على أربعة مشكل لا ترجع تنادي كذا وهذا رباعي هدية مني لك ربح هذا القفص ولا تناد كذا فأخذه وقبل يدهل وقال السمع والطاعة‏.‏

مسجد ابن العكر هذا المسجد غربيّ مسجد أبي صادق بحضرة مسجد الأقدام قبالة قصر الكتفي وبحذاء مسجد النارنج‏.‏

بناه القاضي العادل بن العكر‏.‏

هذا المسجد كان مجاور للقناطر الأطفيحية على يسار من أمّ طريق الجامع بناه القاضي ابن كباس‏.‏

مسجد الشهمية هذا المسجد كان شرقيّ مسجد الأقدام وغربيّ قناطر ابن طولون مجاورًا لتربة القاضي ابن قابوس كان يُعرف بمسجد الفقاعة من الكلاع ويُعرف أيضًا بمسجد شادن الفضليّ غلام الوزير جعفر بن الفضل بن الفرات‏.‏

مسجد زنكادة هذا المسجد كان غربيّ مسجد عمار بن يونس بناه زنكادة المخنث بعدما تاب في سنة خمس وثلاثين وخمسمائة‏.‏

جامع القرافة هذا الجامع يُعرف اليوم بجامع الأولياء وهو مسجد بني عبد اله بن مانع بن مزروع ويُعرف بمسجد القبة وقد ذكر عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب‏.‏

مسجد الأطفيحيّ هذا المسجد كان في البطحاء بحريّ مجرى جامع الفيلة إلى الشرق مخالطًا لخطط الكلاع ورعين والأكنوع والأكحول‏.‏

ويقال له مسجد وحاطة بن سعد الأطفيحي من أهل أطفيح شيخ له سمت وكتب الحديث في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وما قبلها وسمع من الحباك وهو في طبقته وهو رفيق الفراء وابن مشرف وابن الحظية وأبي صادق وسلك طريق أهل القناعة والزهد والعزلة كأبي العباس ابن الحظية وكان الأفضل الكبير شاهنشاه صاحب مصر قد لزمه واتخذ السعي إليه مفرتضًا والحديث معه شهوة‏.‏

وغرضًا لا ينقطع عنه‏.‏

وكان فكِهُ الحديث قد وقف من أخبار الناس والدول على القديم والحديث وقصده الناس لأجل حلول السلطان عنده لقضاء حوائجهم فقضاها وصار مسجده موئلًا للحاضر والبادي وصدى لإجابة صوت النادي وشكا الشيخ إلى الأفضل تعذر الماء ووصوله إليه فأمر ببناء القناطر التي كانت في عرض القرافة من المجرى الكبيرة الطولونية فبنيت إلى المسجد الذي به الأطفيحيّ ومضى عليها من النفقة خمسة آلاف دينار وعمل الأطفيحي صهريج ماء شرقيّ المسجد عظيمًا محكم الصنعة وحمّامًا وبستانًا كان به نخلة سقطت بعد سنة خمسين وخمسمائة‏.‏

وعمل الأفضل له مقعدًا بحذاء المسجد إلى الشرق علو زيادة في المسجد شرقيه وقاعة صغيرة مرخمة إذا جاء عنده جلس فيها وخلا بنفسه واجتمع معه وحادثه وكان هذا المقعد على هيئة المنظرة بغير ستائر كل من قصد الأطفيحيّ من الكتفي يراه وكان الأفضل لا يأخذه عنه القرار يخرج في أكثر الأوقات من دار الملك باكرًا أو ظهرًا أو عصرًا بغتة فيترجل ويدق الباب وقارًا للشيخ كما كان الصحابة رضي الله عنهم يقرعون أبواب النبي صلى الله عليه وسلم بظفر الإبهام والمسبحة كما يحصب بهما الحاصب فإن كان الشيخ يصلي لا يزال واقفًا حتى يخرج من الصلاة ويقول من فيقول ولدك شاهنشاه‏.‏

فيقول نعم‏.‏

ثم يفتح فيصافحه الأفضل ويمرّ بيده التي لمس بها يد الشيخ على وجهه ويدخل فيقول الشيخ‏:‏ نصرك الله أيدك الله سدّدك الله هذه الدعوات الثلاثة لا غير أبدًا‏.‏

فيقول الأفضل آمين وبنى له الأفضل المصلّى ذات المحاريب الثلاثة شرقيّ المسجد إلى القبلي قليلًا ويُعرف بمصلّى الأطفيحيّ كان يُصلّي فيه على جنائز موتى القرافة وكان سبب اختصاص الأفضل بهذا الشيخ أنه لما كان محاصرًا نزار بن المستنصر بالإسكندرية وناصر الدولة أفتكين الأرمنيّ أحد مماليك أمير الجيوش بدر وكانت أمّ الأفضل إذ ذاك وهي عجوز لها سمت ووقار تطوف كلّ يوم وفي الجمعة الجوامع والمساجد والرباطات والأسواق وتستقص الأخبار وتعلم محب ولدها الأفضل من مبغضه وكان الأطفيحي قد سمع بخبرها فجاءت يوم جمعة إلى مسجده وقالت له‏:‏ يا سيدي ولدي في العسكر مع الأفضل الله يأخذ لي الحق منه فإني خائفة على ولدي فادع الله لي أن يسلمه‏.‏

فقال لها الشيخ‏:‏ يا أمة الله أما تستحيين تدعين على سلطان اللّه في أرضه المجاهد عن دينه الله تعالى ينصره ويظفره ويسلّمه ويسلم ولدك ما هو إن شاء اللّه إلاّ منصور مؤيد مظفر كأنك به وفد فتح الإسكندرية وأسر أعداءه وأتى على أحسن قضية وأجمل طوية فلا تشغلي لك سرًّا فما يكون إلاّ خيرًا إن شاء اللّه تعالى ثم إنها اجتازت بعد ذلك بالفار الصيرفيّ بالقاهرة بالسرّاجين وهو والد الأمير عبد الكريم الآمريّ صاحب السيف وكان عبد الكريم قد ولي مصر بعد ذلك في الأيام الحافظية وكان عبد الكريم هذا له في أيام الآمر وجاهة عظيمة وصولة ثم افتقر‏.‏

فوقفت أمّ الأفضل على الصيرفيّ تصرف دينارًا وتسمع ما يقول لأنه كان إسماعيليًا متغاليًا فقالت له‏:‏ ولدي مع الأفضل وما أدرى ما خبره‏.‏

فقال لها الفار المذكور لعن الله المذكور الأرمنيّ الكلب العبد السوء ابن العبد السوء مضى يُقاتل مولاه ومولى الخلق كأنك واللّه يا عجوز برأسه جائزًا من هاهنا على رمح قدّام مولاه نزار ومولاي ناصر الدولة إن شاء اللّه تعالى والله يلطف بولدك من قال لك تخليه يمضي مع هذا الكلب المنافق وهو لا يعرف من هي‏.‏

ثم وقفت على ابن بابان الحلبيّ وكان بزازًا بسوق القاهرة فقالت له مثل ما قالت للفار الصيرفيّ‏.‏

‏.‏

وقال لها مثل ما قال لها‏.‏

فلما أخذ الأفضل نزارًا وناصر الدولة وفتح الإسكندرية حدّثته والدته الحديث وقالت‏:‏ إن كان لك أب بعد أمير الجيوش فهذا الشيخ الأطفيحي‏.‏

فلما خلع عليه المستعلي بالقصر وعاد إلى دار الملك بمصر اجتاز بالبزازين يومًا فلما نظر إلى ابن بابان الحلبيّ قال‏:‏ انزلوا بهذا فنزلوا به فقال‏:‏ رأسه‏.‏

فضربت عنقه تحت دكانه‏.‏

ثم قال لعبد على أحد مقدّمي ركابه‏:‏ قف هاهنا لا يضيع له شيء إلى أن يأتي أهله فيتسلموا قماشه ثم وصل إلى دكان الفار الصيرفيّ فقال‏:‏ انزلوا بهذا فنزلوا به فقال‏:‏ رأسه‏.‏

فضربت عنقه تحت دكانه‏.‏

وقال ليوسف الأصغر أحد مقدّمي الركاب اجلس على حانوته إلى أن يأتي أهله ويتسلموا موجوده وإياك وماله وصندوقه وإن ضاع منه درهم ضربت عنقك مكانه كان لنا خصم أخذناه وقد فعلنا به ما يردع غيره عن فعله وما لنا ماله ولا فقر أهله ثم أتى الأفضل إلى الشيخ أبي طاهر الأطفيحيّ وقرّبه وخصصه إلى أن كان من أمره مما شرحناه