فصل: جامع صاروجا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 جامع آق سنقر

هذا الجامع بسويقة السباعين على البركة الناصرية عمره الأمير اَق سنقر شادّ العمائر السلطانية وإليه تنسب قنطرة آق سنقر التي على الخليج الكبير بخط قبو الكرمانيّ قبالة الحبانية وأنشأ أيضًا دارًا جليلة وحمامين بخط البركة الناصرية وكان من جملة الأوشاقية في أوّل أيام الملك الناصر محمد بن قلاون ثم عمله أمير أخور ونقله منها فجعله شادّ العمائر السلطانية وأقام فيها مدة فأثرى ثراء كبيرًا وعمر ما ذكر وجعل على الجامع عدة أوقاف فعُزل وصودر والخرج من مصر إلى حلب ثم نقل منها إلى دمشق فمات بها في سنة أربعين وسبعمائة‏.‏

جامع آق سنقر هذا الجامع قريب من قلعة الجبل فيما بين باب الوزير والتبانة كان موضعه في القديم مقابر أهل القاهرة وأنشأه الأمير آق سنقر الناصريّ وبناه بالحجر وجعل سقوفه عقودًا من حجارة ورخمه واهتم في ثنائه اهتمامًا زائدًا حتى كان يقعد على عمارته بنفسه ويشيل التراب مع الفعلة بيده ويتأخر عن غدائه اشتغالًا بذلك وأنشأ بجانبه مكتبًا لإقراء أيتام المسلمين القرآن وحانوتًا لسقي الناس الماء العذب ووجد عند حفر أساس هذا الجامع كثيرًا من الأموات وجعل عليه ضيعة من قرى حلب تغلّ في السنة مائة وخمسين ألف درهم فضة عنها نحو سبعة اَلاف دينار وقرّر فيه درسًا فيه عدة من الفقهاء وولى الشيخ شمس الدين محمد بن اللبان الشافعيّ خطابته وأقام له سائر ما يحتاج إليه من أرباب الوظائف وبنى بجواره مكانًا ليدفن فيه ونقل إليه ابنه فدفنه هناك وهذا الجامع من أجلّ جوامع مصر إلاّ أنه لما حدثت الفتن ببلاد الشام وخرجت النوّاب عن طاعة سلطان مصر منذ مات الملك الظاهر برقوق امتنع حضور مغل وقف هذا الجامع لكونه في بلاد حلب فتعطل الجامع من أرباب وظائفه إلا الآذان والصلاة‏.‏

وإقامة الخطبة في الجمع والأعياد ولما كانت سنة خمس عشرة وثمانمائة أنشأ في وسطه الأمير طوغان الدوادار بكرة ماء وسقفها ونصب عليها عمدًا من رخام لحمل السقف أخذها من جامع الخندق فهدم الجامع بالخندق من أجل ذلك وصار الماء ينقل إلى هذه البركة من ساقية الجامع التي كانت للميضأة فلما قبض الملك المؤيد شيخ الظاهريّ على طوغان في يوم الخميس تاسع عشر جمادى الأولى سنة ست عشرة وثمانمائة وأخرجه إلى الإسكندرية واعتقله بها أخذ شخصٌ الثور الذي كان يدير الساقية فإن طوغان كان أخذه منه بغير ثمن كما هي عادة أمرائنا فبطل الماء من البركة‏.‏

آق سنقر‏:‏ السلاريّ الأمير شمس الدين أحد مماليك السلطان الملك المنصور قلاون ولما فرّقت المماليك في نيابة كتبغا على الأمراء صار الأمير آق سنقر إلى الأمير سلار فقيل له السلاريّ لذلك ولما عاد الملك الناصر محمد بن قلاون من الكرك اختص به ورقاه في الخدم حتى صار أحد الأمراء المقدّمين وزوّجه بابنته وأخرجه لنيابة صفد فباشرها بعفة إلى الغاية ثم نقله من نيابة صفد إلى نيابة غزة فلما مات الناصر وأقيم من بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر وخلع بالأشرف كجك وجاء الفخريّ لحصار الكرك قام آق سنقر بنصرة أحمد ابن السلطان في الباطن وتوجه الفخريّ إلى دمشق لما توجه الطنبغا إلى حلب ليطرد طشتمر نائب حلب فاجتمع به وقوّي عزمه وقال له توجه أنت إلى دمشق واملكها وأنا أحفظ لك غزة وقام في هذه الواقعة قيامًا عظيمًا وأمسك الدروب فلم يحضر أحد من الشام أو مصر من البريد وغيره إلاّ وقبض عليه وحمل إلى الكرك وحلف الناس للناصر أحمد وقام بأمره ظاهرًا وباطنًا ثم جاء إلى الفخريّ وهو على خان لاجين وقوّي عزمه وعضده وما زال عنده بدمشق إلى أن جاء الطنبغا من حلب والتقوا وهرب الطنبغا فاتبعه آق سنقر إلى غزة وأقام بها ووصلت العساكر الشامية إلى مصر فلما أمسك الناصر أحمد طشتمر النائب وتوجه به إلى الكرك أعطى نيابة ديار مصر لآق سنقر فباشر النيابة وأحمد في الكرك إلى أن ملك الملك الصالح إسماعيل بن محمد فأقرّه على النيابة وسار فيها سيرة مشكورة فكان لا يمنع أحدًا شيئًا طلبه كائنًا من كان ولا يردّ سائلًا يسأل ولو كان ذلك غير ممكن فارتزق الناس في أيامه واتسعت أحوالهم وتقدّم من كان متأخرًا حتى كان الناس يطلبون ما لا حاجة لهم به ثم إن الصالح أمسكه هو وبيغرا أمير جاندار وأولاجا الحاجب وقراجا الحاجب من أجل أنهم نسبوا إلى الممالاة والمداجاة مع الناصر أحمد وذلك يوم الخميس رابع المحرّم سنة أربع وأربعين وسبعمائة وكان ذلك آخر العهد به واستقرّ بعده في النيابة الحاج آل ملك ثم أفرج عن بيغرا وأولاجا وقراجا في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة‏.‏

جامع آل ملك هذا الجامع فْي الحسينية خارج باب النصر أنشأه الأمير سيف الدين الحاج آل ملك وكمل وأقيمت فيه الخطبة يوم الجمعة تاسع جمادى الأول سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وهو من الجوامع المليحة وكانت خطته عامرة بالمساكن وقد خربت‏.‏

آل ملك‏:‏ الأمير سيف الدين أصله مما أخذ في أيام الملك الظاهر من كسب الأبلستين لما دخل إلى بلاد الروم في سنة ست وسبعين وستمائة وصار إلى الأمير سيف الدين قلاون وهو أمير قبل سلطنته فأعطاه لابنه الأمير عليّ وما زال يترقى في الخدم إلى أن صار من كبار الأمراء المشايخ رؤوس المشورة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون وكان لما خُلع الناصر وتسلطن بيبرس يتردّد بينهما من مصر إلى الكرك فأعجب الناصر عقله وتأنيه وسُير من الكرك يقول للمظفر لا يعود يجيء إليّ رسولًا غير هذا فلما قدم الناصر إلى مصر عظمه ولم يزل كبيرًا موقرًا مبجلًا فلما ولى الناصر أحمد السلطنة أخرجه إلى نيابة خماه فأقام بها إلى أن تولى الصالح إسماعيل فأقدمه إلى مصر وأقام بها على حاله إلى أن أمسك الأمير آق سنقر السلاريّ نائب السلطنة بديار مصر فولاه النيابة مكانه فشدّد في الخمر إلى الغاية وحدّ شاربها وهدم خزانة البنود وأراق خمورها وبنى بها مسجدًا وسكرها للناس فسكنت إلى اليوم كما تقدّم ذكره وأمسك الزمام زمانًا وكان يجلس للحكم في الشباك بدار النيابة من قلعة الجبل طول نهاره لا يملّ ذلك ولا يسأم وتروح أرباب الوظائف ولا يبقى عنده إلا النقباء البطالة وكان له في قلوب الناس مهابة وحرمة إلى أن تولى الكامل شعبان فأخرجه أوّل سلطنته إلى دمشق نائبًا بها عوضًا عن الأمير طقزدمر فلما كان في أوّل الطريق حضر إليه من أخذه وتوجه به إلى صفد نائبًا بها فدخلها آخر ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وسبعمائة ثم سأل الحضور إلى مصر فرسم له بذلك فلما توجه ووصل إلى غزة أمسكه نائبها ووجهه إلى الإسكندرية في سنة سبع وأربعين فخنق بها‏.‏

وكان خيرًا فيه دين وعبادة يميل إلى أهل الخير والصلاح وتعتقد بركته وخرّج له أحمد بن أيبك الدمياطيّ مشيخة وحدّث بها وقرئت عليه مرّات وهو جالس في شباك النيابة بقلعة الجبل وعمر هذا الجامع ودارًا مليحة عند المشهد الحسيني من القاهرة ومدرسة بالقرب منها وكان بركة من أحسن ما يكون وخيله مشهورة موصوفة وكان يقول كل أمير لا يقوّم رمحه ويسكب الذهب إلى أن يساوي السنان ما هو أمير رحمة اللّه عليه‏.‏

جامع الفخر في ثلاثة مواضع في بولاق خارج القاهرة وفي الروضة تجاه مدينة مصر وفي جزيرة الفيل على النيل ما بين بولاق ومنية السيرج‏.‏

أمّا جامع الفخر بناحية بولاق فإنه موجود تقام فيه الجمعة إلى اليوم وكان أوّلًا عند ابتداء بنائه يُعرف موضعه بخط خص الكيالة وهو مكان كان يؤخذ فيه مكس الغلال المبتاعة وقد ذكر ذلك عند ذكر أقسام مال مصر من هذا الكاتب‏.‏

وجامع الروضة باق تقام فيه الجمعة‏.‏

وأما الجامع بجزيرة الفيل فإنه كان باقيًا إلى نحو سنة تسعين وسبعمائة وصليت فيه الجمعة غير مرّة ثم خرب وموضعه باق بجوار دار تشرف على النيل تُعرف بدار الأمير شهاب الدين أحمد بن عمر بن قطينة قريبًا من الدار الحجازية‏.‏

والفخر‏:‏ هذا هو محمد بن فضل الله القاضي فخر الدين ناظر الجيش المعروف بالفخر كان في نصرانيته متألهًا ثم أكره على الإسلام فامتنع وهمّ بقتل نفسه وتغيب أيامًا ثم أسلم وحسن إسلامه وأبعد النصارى ولم يقرّب أحدًا منهم وحج غير مرّة وتصدّق في اَخر عمره مدّة في كل شهر بثلاثة آلاف درهم نقرة وبنى عدّة مساجد بديار مصر وأنشاء عدّة أحواض ماء للسبيل في الطرقات وبنى مارستانًا بمدينة الرملة ومارستانًا بمدينة بلبس وفعل أنواعًا من الخير وكان حنفيّ المذهب وزار القدس عدّة مرار وأحرم مرّة من القدس بالحج وسار إلى مكة محرمًا وكان إذا خدمه أحد مرّة واحدة صار صاحبه طول عمره وكان كثير الإحسان لا يزال في قضاء حوائج الناس مع عصبية شديدة لأصحابه وانتفع به خلق كثير لوجاهته عند السلطان إقدامه عليه بحيث لم يكن لأحد من أمراء الدولة عند الملك الناصر محمد بن قلاون ماله من الإقدام ولقد قال السلطان مرّة لجندي طلب منه إقطاعًا‏:‏ لا تطوّل والله لو أنك ابن قلاون ما أعطاك القاضي فخر الدين حيزًا يغلّ كثر من ثلاثة آلاف درهم وقال له السلطان في يوم من الأيام وهو بدار العدل‏:‏ يا فخر الدين تلك القضية طلعت فاشوش‏.‏

فقال له‏:‏ ما قلت لك أنها عجوز نحس‏.‏

يريد بذلك بنت كوكاي امرأة السلطان عندما ادّعت أنها حبلى وله من الأخبار كثير‏.‏

وكان أولًا كاتب المماليك السلطانية ثم صار من كتابة المماليك إلى وظيفة نظر الجيش ونال من الوجاهة ما لم ينله غيره في زمانه وكان الأمير أرغون نائب السلطنة بديار مصر يكرهه وإذا جلس للحكم يعرض عنه ويدير كتفه إلى وجه الفخر فعمل عليه الفخر حتى سار للحج فقال للسلطان‏:‏ يا خوند ما يقتل الملوك إلاّ النوّاب بيدرًا قتل أخاك الملك الأشرف ولاجين قُتل بسبب نائبه منكوتمر وخيل للسلطان إلى أن أمر بمسير الأمير أرغون من طريق الحجاز إلى نيابة حلب وحسن للسلطان أن لا يستوزر أحدًا بعد الأمير الجماليّ فلم يول أحدًا بعده الوزارة وصارت المملكة كلها من أحوال الجيوش وأمور الأموال وغيرها متعلقة بالفخر إلى أن غضب عليه السلطان ونكبه وصادره على أربعمائة ألف درهم نقرة وولى وظيفة نظر الشيخ قطب الدين موسى بن شيخ السلامية ثم رضي عن الفخر وأمر بإعادة ما أخذ منه من المال إليه وهو أربعمائة ألف درهم نقرة فامتنع وقال‏:‏ أنا خرجت عنها للسلطان فليبين بها جامعًا وبنى بها الجامع الناصريّ المعروف الآن بالجامع الجديد خارج مدينة مصر بموردة الحلفاء وزار مرّة القدس وعبر كنيسة قمامة فسمع وهو يقول عندما رأى الضوء بها‏:‏ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا‏.‏

وباشر آخر عمره بغير معلوم وكان لا يأخذ من ديوان السلطان معلومًا سوى كماجة ويقول أتبركَ بها ولما مات في رابع عشر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وله من العمر ما ينيف على سبعين سنة وترك موجودًاعظيمًا إلى الغاية‏.‏

قال‏:‏ السلطان لعنه الله خمس عشرة سنة ما يدعني أعمل ما أريد وأوصي للسلطان بمبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة فاخذ من تركته أكثر من ألف ألف درهم نقرة ومن حين مات الفخر كثر تسلط السلطان الملك الناصر وأخذُه أموال الناس وإلى الفخر تنسب قنطرة الفخر التي على فم الخليج الناصريّ المجاور لميدان السلطان بموردة الجبس وقنطرة الفخر التي على الخليج المجاور للخليج الناصرىلم وأدركت ولده فقيرًا يتكفف الناس بعد مال لا يحدّ كثرة‏.‏

جامع نائب الكرك هذا الجامع بظاهر الحسينية مما يلي الخليج كان عامرًا وعمر ما حوله عمارة كبيرة ثم خرب بخراب ما حوله من عهد الحوادث في سنة ست وثمانمائة عمره الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك وقد تقدم ذكره عند ذكر الدور من هذا الكتاب‏.‏

جامع الخطيريّ ببولاق هذا الجامع موضعه الآن بناحية بولاق خارج القاهرة كان موضعه قديمًا مغمورًا بماء النيل إلى نحو سنة سبعمائة فلما انحسر ماء النيل عن ساحل المقس صار ما قدّام المقس رمالًا لا يعلوها ماء النيل إلاّ أيام الزيادة ثم صارت بحيث لا يعلوها الماء البتة فزرع موضع هذا الجامع بعد سنة سبعمائة وصار منتزهًا يجتمع عنده الناس ثم بنى هناك شرف الدين بن زنبور ساقية وعمر بجوارها رجل يُعرف بالحاج محمد بن عز الفرّاش دارًا تشرف على النيل وتردّد إليها فلما مات أخذها شخص يُقال له تاج الدين بن الأزرق ناظر الجهات وسكنها فعُرفت بدار الفاسقين لكثرة ما يجري فيها من أنواع المحرّمات فاتفق أن النشو ناظر الخاص قبض على ابن الأزرق وصادره فباع هذه الدار في جملة ما باعه من موجوده فاشتراها منه الأمير عز الدين أيدمر الخطيريّ وهدمها وبنى مكانها هذا الجامع وسماه جامع التوبة وبالغ في عمارته وتأنق في رخامه فجاء من أجلّ جوامع مصر وأحسنها وعمل له منبرًا من رخام في غاية الحسن وركب فيه عدّة شبابيك من حديد تشرف على النيل الأعظم وجعل فيه خزانة كتب جليلة نفيسة ورتب فيه درسًا للفقهاء الشافعية ووقف عليه عدّة أوقاف منها‏:‏ دار العظيمة التي هي في الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس وكان جملة ما أنفق في هذا الجامع أربعمائة ألف درهم نقرة وكملت عمارته في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وأقيمت به الجمعة في يوم الجمعة عشري جمادى الآخرة فلما خلص ابن الأزرق من المصادرة حضر إلى الأمير الخطيريّ وادّعى أنه باع داره وهو مكره فدفع إليه ثمنها مرّة ثانية ثم إن البحر قوي على هذا الجامع وهدمه فأعاد بناءه بجملة كثيرة من المال ورمى قدام زريبته ألف مركب مملوءة بالحجارة ثم انهدم بعد موته وأعيدت زريبته‏.‏

ايدمر الخطيريّ‏:‏ الأمير عز الدين مملوك شرف الدين أوحد بن الخطيريّ الأمير مسعود بن خطير انتقل إلى الملك الناصر محمد بن قلاون فرقاه حتى صار أحد أمراء الألوف بعدما حبسه بعد مجيئه من الكرك إلى مصر مدّة ثم أطلقه وعظم مقداره إلى أن بقي يجلس رأس الميسرة ومعه أمرة مائة وعشرين فارسًا وكان لا يمكنه السلطان من المبيت في داره بالقاهرة فينزل إليها بكرة ويطلع إلى القلعة بعد العصر كذا أبدًا فكانوا يرون ذلك تعظيمًا له وكان منوّر الشيبة كريمًا يحب التزوّج الكثير والفخر بحيث أنه لما زوّج السلطان ابنته بالأمير قوصون ضرب دينارين وزنهما أربعمائة مثقال ذهبًا وعشرة آلاف درهم فضةً برسم نقوط امرأته في العرس إذا طلعت إلى زفاف ابنة السلطان على قوصون وقيل له مرّة هذا السكَّر الذي يعمل في الطعام ما يضرّ إن يعمل غير مكرّر فقال لا يُعمل إلاّ مكرّرًا فإنه يبقى في نفسي أنه غير مكرّر وكان لا يلبس قباء مطرّزًا ولا مصقولًا ولايدع أحدًا عنده يلبس ذلك وكان يخرج الزكاة وانشأ بجانب هذا الجامع ربعًا كبيرًا تنافس الناس في سكناه ولم يزل على حاله حتى مات يوم الثلاثاء مستهلّ شهر رجب سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ودفن بتربته خارج باب النصر ولم يزل هذا الجامع مجمعًا يقصده سائر الناس للتنزه فيه على النيل ويرغب كل أحد في السكنى بجواره وبلغت الأماكن التي بجواره من الأسواق والدور الغاية في العمارة حتى صار ذلك الخط أعمر أخطاط مصر وأحسنها فلما كانت سنة ست وثمانمائة انحسر ماء النيل عما تجاه جامع الخطيريّ وصار رملة لا يعلوها الماء إلاّ في أيام الزيادة وتكاثر الرمل تحت شبابيك الجامع وقربت من الأرض بعدما كان الماء تحته لا يكاد يدرك قراره وهو الاَن عامر إلاّ أن الاجتماعات التي كانت فيه قبل انحسار النيل عما قبالته قلت واتضع حال ما يجاوره من السوق والدور وللّه عاقبة الأمور‏.‏

جامع قيدان هذا الجامع خارج القاهرة على جانب الخليج الشرقيّ ظاهر باب الفتوح مما يلي قناطر الإوز تجاه أرض البعل كان مسجدًا قديم البناء فجدّده الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي فيّ محرّم سنة سبع وتسعين وخمسمائة وجدّد حوض السبيل الذي فيه ثم إن الأمير مظفر الدّين قيدان الروميّ عمل به منبرًا لإقامة الخطبة يوم الجمعة وكان عامرًا بعمارة ما حوله فلما حدث الغلاء في سنة ست وسبعين وسبعمائة أيام الملك الأْشرف شعبان بن حسين خرب كثير من تلك النواحي وبيعت أنقاضها وكانت الغرقة أيضًا فصار ما بين القنطرة الجديدة المجاورة لسوق جامع الظاهر وبين قناطر الأوز المقابلة لأرض البعل يبابًا لا عامر له ولا ساكن فيه وخرب أيضًا ما وراء ذلك من شرقيه إلى جامع نائب الكرك وتعطل هذا الجامع ولم يبق منه غير جدر آيلة إلى العدم ثم جدّده مقدّم بعض المماليك السلطانية في حدود الثلاثين والثمانمائة‏.‏

ثم وسع فيه الشيخ احمد بن محمد الأنصاري العماد الشهير بالأزراريّ ومات في ثاني عشر ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة‏.‏

جامع الست حدق هذا الجامع بخط المريس في جانب الخليج الكبير مما يلي الغرب بالقرب من قنطرةالسدّ التي خارج مدينة مصر أنشأته الست حدق داعة الملك الناصر محمد بن قلاون وأقيمت فيه الخطبة يوم الجمعة لعشرين من جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وإلى حدق هذه ينسب حكر الست حدق الذي ذُكر عند ذكر الأحكار من هذا الكتاب‏.‏

جامع ابن غازي هذا الجامع خارج باب البحر من القاهرة بطريق بولاق أنشأه نجم الدين بن غازي دلال المماليك وأقيمت فيه الخطبة في يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وإلى اليوم تقام فيه الجمعة وبقية الأيام لا يزال مغلق الأبواب لقلة السكان حوله‏.‏

جامع التركمانيّ هذا الجامع في المقس وهو من الجوامع المليحة البناء أنشأه الأمير بدر الدين محمدالتركمانيّ وكان ما حوله عامرًا عمارة زائدة ثم تلاشى من الوقت الذي كان فيه الغلاء زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين وما برح حاله يختل إلى أن كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثمانمائة فخرب معظم ما هنالك وفيه إلى اليوم بقايا عامر لا سيما بجوار هذا الجامع‏.‏

التركمانيّ محمد وينعت بالأمير بدر الدين محمد بن الأمير فخر الدين عيسى التركمانيّ كان أوّلًا شادًّا ثم ترقى في الخدم حتى ولي الجيزة وتقدّم في الدولة الناصرية فولاه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون شادّ الدواوين والدولة حينئذ ليس فيها وزير فاستقلّ بتدبير الدولة مدّة أعوام وكان يلي نظر الدولة تلك الأيام كريم الدين الصغير فغص به وما زال يدبر عليه حتى أخرجه السلطان من ديار مصر وعمله شادّ الدواوين بطرابلس فأقام هناك مدّة سنتين ثم عاد إلى القاهرة بشفاعة الأمير تنكز نائب الشام وولي كشف الوجه البحريّ مدّة ثم أعطي أمرة طبلخاناه وأُعطي أخوه عليّ أمرة عشرة وولده إبراهيم أيضًا أمرة عشرة وكان مهابًا صاحب حرمة باسطة وكلمة نافذة ومات عن سعادة طائلة بالمقس في ربيع الأوّل سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وهو أمير‏.‏

جامع شيخو هذا الجامع بسويقة منعم فيما بين الصليبة والرميلة تحت قلعة الجبل أنشأه الأمير الكبير سيف الدين شيخو الناصري رأس نوبة الأمراء في سنة ست وخمسين وسبعمائة ورفق بالناس في العمل فيه وأعطاهم أجورهم وجعل فيه خطبة وعشرين صوفيًا وأقام الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود الروميّ الحنفيّ شيخهم ثم لما عمر الخانقاه تجاه الجامع نقل حضور أكمل والصوفية إليها وزاد عدّتهم وهذا الجامع من أجلّ جوامع ديار مصر‏.‏

شيخو‏:‏ الأمير الكبير سيف الدين أحد مماليك الناصر محمد بن قلاون حظي عند الملك المظفر حاجي بن محمد بن قلاون وزادت وجاهته حتى شفع في الأمراء وأخرجهم من سجن الإسكندرية ثم إنه استقر في أوّل دولة الملك الناصر حسن أحد أمراء المشورة وفي آخر الأمر كانت القصص تقرأ عليه بحضرة السلطان في أيام الخدمة وصار زمام الدولة بيده فساسها أحسن سياسة بسكون وعدم شر وكان يمنع كل حزب من الوثوب على الآخر فعظم شأنه إلى أن رسم السلطان بإمساك الأمير يلبغاروس نائب السلطنة بديار مصر وهو مسافر بالحجاز وكان شيخو قد خرج متصيدًا إلى ناحية طنان بالغربية فلما كان يوم السبت رابع عشري شوّال سنة إحدى وخمسين وسبعمائة أمسك السلطان الأمير منجك الوزير وحلّف الأمراء لنفسه وكتب تقليد شيخو بنيابة طرابلس وجهزه إليه مع الأمير سيف الدين طينال الجاشنكير فسار إليه وسفره من برًا فوصل إلى دمشق ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة فظهر مرسوم السلطان بإقامة شيخو في دمشق على إقطاع الأمير بيلبك السالميّ وبتجهيز بيلبك إلى القاهرة فخرج بيلبك من دمشق وأقام شيخو على إقطاعه بها فما وصل بيلبك إلى القاهرة إلاّ وقد وصل إلى دمشق مرسوم بإمساك شيخو وتجهيزه إلى السلطان وتقييد مماليكه وأعمالهم بقلعة دمشق فأمسك وجهّز مقيدًا فلما وصل إلى قطيا توجهوا به إلى الإسكندرية فلم يزل معتقلًا بها إلى أن خُلع السلطان الملك الناصر حسن وتولى أخوه الملك الصالح صالح فأفرج عن شيخو ومنجك الوزير وعدّة من الأمراء فوصلوا إلى القاهرة في رابع شهر رجب سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة وأنزل في الأشرفية بقلعة الجبل واستمرّ على عادته وخرج مع الملك الصالح إلي الشام في واقعة يلبغاروس وتوجه إلى حلب هو والأمير طازوأرغون الكاملي خلف يبلغاروس وعاد مع السلطان إلى القاهرة وصمم حتى أمسك يلبغاروس ومن معه من الأمراء بعدما وصلوا إلى بلاد الروم وحُزت رؤسهم وأمسك أيضًا ابن دلغار وأحضر إلى القاهرة ووسِّطَ وعَلِّقَ على باب زويلة ثم خرج بنفسه في طلب الأحدب الذي خرج بالصعيد وتجاوز في سفره قوص وأمسك عدّة كثيرة ووسَّطهم حتى سكنت الفتن بأرض مصر وذلك في آخر سنة أربع وخمسين وأول سنة خمس وخمسين‏.‏

ثم خلع الملك الصالح وأقام بدله الملك الناصر حسنًافي ثاني شوّال وأخرج الأمير طاز من مصر إلى حلب نائبًا بها ومعه إخوته وصارت الأمور كلها راجعة إليه وزادت عظمته وكثرت أمواله وأملاكه ومستأجراته حتى كاد يكاثر أمواج البحر بما ملك وقيل له قارون عصره‏.‏

وعزيز مصره وأنشأ خلقًا كثيرًا فقوى بذلك حزبه وجعل في كل مملكة من جهته عدة أمراء وصارت نوابه بالشام وفي كل مدينة أمراء كبار وخدموه حتى قيل كان يدخل كل يوم ديوانه من إقطاعه وأملاكه ومستأجراته بالشام وديار مصر مبلغ مائتي ألف درهم نقرة وأكثر وهذا شيء لم يُسمع بمثله في الدولة التركية وذلك سوى الإنعامات السلطانية والتقادم التي ترد إليه من الشام ومصر وما كان يأخذ من البراطيل على ولاية الأعمال وجامعه هذا وخانقاهه التي بخط الصليبة لم يعمر مثلهما قبلهما ولا عُمل في الدولة التركية مثل أوقافهما وحسن ترتيب المعاليم بهما ولم يزل على حاله إلى أن كان يوم الخميس ثامن شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة فخرج عليه شخص من المماليك السلطانية المرتجعة عن الأمير منجك الوزير يقال له باي فجاء وهوجالس بدار العدل وضربه بالسيف في وجهه وفي يده فارتجت القلعة كلها وكثر هرج الناس حتى مات من الناس جماعة من الزحمة وركب من الأمراء الكبار عشرة وهم بالسلاح عليهم إلى قبة النصر خارج القاهرة ثم أمسك باي فجاء وقرر فلم يعترف بشيء على أحد وقال‏:‏ أنا قدّمت إليه قصة لينقلني من الجامكية إلى الإقطاع فما قضى شغلي فأخذت في نفسي من ذلك فسجن مدّة ثم سُمِّر وطيف به الشوارع وبقي شيخو عليلًا من تلك الجراحة لم يركب إلى أن مات ليلة الجمعة سادس عشري ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وسبعمائة ودفن بالخانقاه الشيخونية وقبره بها يُقرأ عنده القرآن دائمًا‏.‏

جامع الجاكيّ هذا الجامع كان بدرب الجاكي عند سويقة الريش من الحكر في برّ الخليج الغربيّ أصله مسجد من مساجد الحكر ثم زاد فيه الأمير بدر الدين محمد بن إبراهيم المهمندار وجعله جامعًا وأقام فيه منبرًا في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فصار أهل الحكر يصلون فيه الجمعة إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة فخرب الحكر وبيعت أنقاض معظم الدور التي هناك وتعطل هذا الجامع من ذكر الله وإقامة الصلاة لخراب ما حوله فحكم بعض قضاة الحنفية ببيع هذا الجامع فاشتراه شخص من الوعاظ بُعرف بالشيخ أحمد الواعظ الزاهد صاحب جامع الزاهد بخط المقس وهدمه وأخذ أنقاضه فعملها في جامعه الذي بالمقس في أوّل سنة سبع عشرة وثمانمائة‏.‏

جامع التوبة هذا الجامع بجوار باب البرقية في خط بين السورين كان موضعه مساكن أهل الفساد وأصحاب الرأي فلما أنشأ الأمير الوزير علاء الدين مغلطاي الجماليّ خانقاهه المعروفة بالجمالية قريبًا من خزانة البنود بالقاهرة كره مجاورة هذه الأماكن لداره وخانقاهه فأخذها وهدمها وبنى هذا الجامع في مكانها وسماه جامع التوبة فعُرف بذلك إلى اليوم وهو الاَن تقام فيه الجمعة غير أنه لا يزال طول الأيام مغلق الأبواب لخلوّه من ساكن وقد خرب كثير مما يجاوره وهناك بقايا من أماكن‏.‏

 جامع صاروجا

هذا الجامع مطلّ على الخليج الناصريّ بالقرب من بركة الحاجب التي تعرف ببركة الرطلي كان خطة تُعرف بجامع العرب فأنشأ بها هذا الجامع ناصر الدين محمد أخو الأمير صار وجانقيب الجيش بعد سنة ثلاثين وسبعمائة وكانت تلك الخطة قد عمرت عمارة زائدة وأدركتُ منها بقية جيدة إلى أن دثُرت فصارت كيمانًا وتقام الجمعة إلى اليوم في هذا الجامع أيام النيل‏.‏

جامع الطباخ هذا الجامع خارج القاهرة بخط باب اللوق بجوار بركة الشقاف كان موضعه وموضع بركة الشقاف من جملة الزهريّ أنشأه الأمير جمال الدين أقوش وجدّده الحاج علي الطباخ في المطبخ السلطانيّ أيام الملك الناصر محمد بن قلاون ولم يكن له وقف فقام بمصالحه من ماله مدّة ثم إنه صودر في سنة ست وأربعين وسبعمائة فتعطل مدّة نزول الشدّة بالطباخ ولم تقم فيه تلك المدّة الصلاة‏.‏

عليّ بن الطباخ‏:‏ نشأ بمصر وخدم الملك الناصر محمد بن قلاون‏.‏

وهو بمدينة الكرك فلما قدم إلى مصر جعله خوان سلار وسلمه المطبخ السلطانيّ فكثر ماله لطول مدّته‏.‏

وكثرة تمكنه ولم يتفق لأحد من نظرائه ما اتفق له من السعادة الطائلة وذلك أن الأفراح وما كان يصنع من المهمات والأعراس ونحوها مما كان يُعمل في الدور السلطانية وعند الأمراء والمماليك والحواشي مع كثرة ذلك في طول تلك الأعوام كانت كلها إنما يتولى أمرها هو بمفرده فما اتفق له في عمل مهم ابن بكتمر الساقي على ابنة الأمير تنكز نائب الشام أن السلطان‏.‏

الملك الناصر استدعاه آخر النهار الذي عمل فيه المهم المذكور وقال له‏:‏ يا حاج عليّ اعمل لي الساعة لونًا من طعام الفلاحين وهو خروج رميس يكون ملهوج فولى ووجهه معبس فصاح به السلطان ويلك مالك معبس الوجه‏.‏

فقال‏:‏ كيف ما أعبس وقد حرمتني الساعة عشرين ألف درهم نقرة فقال‏:‏ كيف حرمتك قال‏:‏ قد تجمع عندي رؤس غنم وبقر وأكارع وكروش وأعضاد وسقط دجاج وأوز وغير ذلك مما سرقته من المهمّ وأريد أقعد وأبيعه وقد قلت لي أطبخ وبينما أفرغ من الطبيخ تلف الجميع فتبسم السلطان وقال له‏:‏ رح أطبخ وضمان الذي ذكرت عليّ وأمر بإحضار والي القاهرة ومصر فلما حضرا ألزمهما بطلب أرباب الزفر إلى القلعة وتفرقة ما ناب الطباخ من المهمّ عليهم واستخراج ثمنه فللحال حضر المذكورون وبيع عليهم ذلك فبلغ ثمنه ثلاثة وعشرين ألف درهم نقرة وهذا مهم واحد من ألوف مع الذي كان له من المعاليم والجرايات ومنافع المطبخ‏.‏

ويقال أنه كان يتحصل له من المطبخ السلطاني في كل يوم على الدوام والإستمرار مبلغ خمسمائة درهم نقرة ولولده أحمد مبلغ ثلاثمائة درهم نقرة فلما تحدّث النشو في الدولة خرّج عليه تخاريج وأغرى به السلطان فلم يسمع فيه كلامًا وما زال على حاله إلى أن مات الملك الناصر وقام من بعده أولاده الملك المنصور أبو بكر والملك الأشرف كجك والملك الناصر أحمد والملك الصالح إسماعيل والملك الكامل شعبان فصادره في سنة ست وأربعين وسبعمائة وأخذ منه مالًا كثيرًا ومما وجد له خمس وعشرون دارًا مشرفة على النيل وغيره فتفرقت حواشي الملك الكامل أملامه فأخذت أم السلطان ملكه الذي كان على البحر وكانت داراَ عظيمة جدًّا وأخذت أنقاض داره التي بالمحمودية من القاهرة وأقيم عوضه بالمطبخ السلطانيّ وضرب ابنه أحمد‏.‏

جامع الأسيوطيّ هذا الجامع بطرف جزيرة الفيل مما يلي ناحية بولاق كان موضعه في القديم غامرًا بماء النيل فلما انحسر عن جزيرة الفيل وعمرت ناحية بولاق أنشأ هذا الجامع القاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عمر السيوطيّ ناظر بيت المال ومات في سنة تسع وأربعين وسبعمائة ثم جدّد عمارته بعدما تهدّم وزاد فيه ناصر الدين محمد بن محمد بن عثمان بن محمد المعروف بابن البارزيّ الحمويّ كاتب السر وأجرى فيه الماء وأقام فيه الخطبة يوم الجمعة سادس عشري جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة فجاء في أحسن هندام وأبدع زيّ وصلى فيه السلطان الملك المؤيد شيخ الجمعة في أول جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة‏.‏

جامع الملك الناصر حسن هذا الجامع يُعرف بمدرسة السلطان حسن وهو تجاه قلعة الجبل فيما بين القلعة وبركة الفيل وكان موضعه بيت الأمير يلبغا اليحياوي الذي تقدّم ذكره عند ذكر الدور وابتدأ السلطان عمارته في سنة سبع وخمسين وسبعمائة وأوسع دوره وعمله في أْكبر قالب وأحسن هندام وأضخم شكل فلا يُعرف في بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكي هذا الجامع أقامت العمارة فيه مدّة ثلاث سنين لا تبطل يومًا واحدًا وأرصد لمصروفها في كل يوم عشرون ألف درهم عنها نحو ألف مثقال ذهبًا‏.‏

ولقد أخبرني الطواشي مقبل الشاميّ‏:‏ أنه سمع السلطان حسنًا يقول‏:‏ انصرف على القالب الذي بني عْليه عقد الإيوان الكبير مائة ألف درهم نقرة وهذاالقالب مما رمي محلى الكيمان بعد فراغ العقد المذكور‏.‏

قال‏:‏ وسمعت السلطان يقول لولا أن يُقال ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما صُرف عليه وفي هذا الجامع عجائب من البنيان منها‏:‏ أن ذراع إيوانه الكبير خمسة وستون ذراعًا في مثلها ويقال أنه أكبر من إيوان كسرى الذي بالمدائن من العراق بخمسة أذرع ومنه القبة العظيمة التي لم يبن بديار مصر والشام والعراق والمغرب واليمن مثلها ومنها المنبر الرخام الذي لا نظير له ومنها البوابة العظيمهّ ومنها المدارس الأربع التي بدور قاعة الجامع إلى غير ذلك‏.‏

وكان السلطان قد عزم على أن يبني أربع منابر يؤذن عليها فتمت ثلاث منابر إلى أن كان يوم السبت سادس شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبعمائة فسقطت المنارة التي على الباب فهلك تحتها نحو ثلاثمائة نفس من الأيتام الذين كانوا قد رتبوا بمكتب السبيل الذي هناك ومن غير الأيتام وسلم من الأيتام ستة أطفال فأبطل السلطان بناء هذه المنارة وبناء نظيرتها وتأخر هناك منارتان هما قائمتان إلى اليوم ولما سقطت المنارة المذكورة لهجت عامّة مصر والقاهرة بأن ذلك منذر بزوال الدولة فقال الشيخ بهاء الدين أبوحامد أحمد بن علي بن محمد السبكيّ في سقوطها‏:‏ أبشِرْ فسعدُكَ يا سلطانُ مصرَ أتى بشيرُهُ بمقالٍ سارَكالمثل‏.‏

إن المنارةَ لمْ تَسْقُط لمنقَصة لكن لسرخفيّ قدتبينَ لي‏.‏

من تحتها قُرىء القرآن فاستمَعَت فالوجدُ في الحالِ أدّها إلى الميل‏.‏

لو أنزلَ اللهُ قرآنًا على جبل تصدعت رأسُهُ من شدّةِ الوجل‏.‏

تلكَ الحجارةُ لم تنقَضُّ بل هبطَت من خشيةِ الله للضعفِ والخلل‏.‏

وغابَ سلطانُها فاستوحشت ورمَت بنفسها لجوى في القلبِ مشتعل‏.‏

فالحمدُ للهِ حظُ العينٍ زاالَ بما قد كان قدّرَهُ الرحمنُ في الأزلِ‏.‏

لا يعتري البؤسَ بعد اليوم مدرسةً شيدَت بنيانها بالعلمِ والعمل‏.‏

ودمتَ حتى ترى الدنيا بها امتلأت علمًا فليسَ بمصرَ غيرُ مشتغل‏.‏

رخام هذا الجامع فأتمه من بعده الطواشي بشير الجمدار وكان قد جعل السلطان على هذا الجامع أوقافًا عظيمة جدًّا فلم يترك منها إلاّ شيء يسير وأقطع أكثر البلاد التي وقفت عليه بديار مصر والشام لجماعة من الأمراء وغيرهم وصار هذا الجامع ضدًّا لقلعة الجبل قلما تكون فتنة بين أهل الدولة إلاّ ويصعد عدّة من الأمراء وغيرهم إلى أعلاه ويصير الرمي منه على القلعة فلم يحتمل ذلك الملك الظاهر برقوق وأمر فهدمت المرج التي كان يُصعد منها‏.‏

إلى المنارتين والبيوت التي كان يسكنها الفقهاء ويتوصل من هذه الدرج إلى السطح الذي كان يُرمى منه على القلعة وهدمت البسطة العظيمة والدرج التي كانت بجانبي هذه البسطة التي كانت قدّام باب الجامع حتى لا يمكن الصعود إلى الجامع وسدّ من وراء الباب النحاس الذي لم يعمل فيما عهد باب مثله وفتح شباك من شبابيك أحد مدارس هذا الجامع ليتوصل منه إلى داخل الجامع عوضًا عن الباب المسدود فصار هذا الجامع تجاه باب القلعة المعروف بباب السلسلة وامتنع صعود المؤذنين إلى المنارتين وبقي الأذان على درج هذا الباب وكان ابتداء هدم ما ذكر في يوم الأحد ثامن صفر سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة ثم لما شرع السلطان الملك المؤيد شيخ في عمارة الجامع بجوار باب زويلة اشترى هذا الباب النحاس والتنور النحاس الذي كان معلقًا هناك بخمسمائة دينار ونقلًا في يوم الخميس سابع عشري شوال سنة تسع عشرة وثمانمائة فركب الباب على البوابة وعلق التنور تجاه المحراب فلما كان في يوم الخميس تاسع شهر رمضان سنة خمس وعشرين وثمانمائة أعيد الأذان في المئذنتين كما كان وأعيد بناء المرج والبسطة وركب باب بدل الباب الذي أخذه المؤيد واستمرّ الأمر على ذلك‏.‏

الملك الناصر أبو المعالي الحسن بن محمد بن قلاون‏:‏ جلس على تخت الملك وعمره ثلاث عشرة سنة في يوم الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة بعد أخيه الملك المظفر حاجي وأركب من باب الستارة بقلعة الجبل وعليه شعار السلطنة وفي ركابه الأمراء إلى أن نزل بالإيوان السلطانيّ ومدبر والحولة يومئذ الأمير يلبغاروس والأمير ألجيبغا المظفري والأمير شيخو والأمير طاز وأحمد شادّ الشرابخاناه وأرغون الإسماعيليّ فخلع على يلبغاروس واستقرّ في نيابة السلطنة بديار مصر عوضًا عن الحاج أرقطاي وقرّر أرقطاي في نيابة السلطنة بحلب وخلع على الأمير سيف الدين منجك اليوسفيّ واستقرّ في الوزارة والاستادارية وقرر الأمير أرغون شاه في نيابة السلطنة بدمشق‏.‏

فلما دخلت سنة تسع وأربعين كثر انكشاف الأراضي من ماء النيل بالبرّ الشرقيّ فيما يلي بولاق إلى مصر فاهتم الأمراء بسدّ البحر مما يلي الجيزة وفوض ذلك للأمير منجك فجمع مالًا كثيرًا وأنفقه على ذلك فلم يُفد فقبض على منجك في ربيع الأوّل وحدث الوباء العظيم في هذه السنة وأخرج أحمد شادّ الشرابخاناه لنيابة صفد وألجيبغا لنيابة طرابلس فاستمرّ أجليبغا بها إلى شهر ربيع الأوّل سنة خمسين فركب إلى دمشق وقتل أرغون شاه بغير مرسوم فأنكر عليه وأمسك وقتل بدمشق‏.‏

وفي سنة إحدى وخمسين سار من دمشق عسكر عدّته أربعة اَلاف فارس ومن حلب ألفا فارس إلى مدينة سنجار ومعهم عدّة كثيرة من التركمان فحصروها حتى طلب أهلها الأمان ثم عادوا‏.‏

وترشد السلطان واستبدّ بأمره وقبض على منحكُ ويلبغاروس وقبض بمكة على الملك المجاهد صاحب اليمن وقيد وحمل إلى القاهرة فأطلق ثم سجن بقلعة الكرك‏.‏

فلما كان يوم الأحد سابع عشر جمادى الاَخرة ركب الأمراء على السلطان وهم‏:‏ طاز وإخوته ويلبغا الشمسيّ وبيغوا ووقفوا تحت القلعة وصعد الأمير طاز وهولابس إلى القلعة في عدّة وافرة وقبض على السلطان وسجنه بالدور فكانت مدّة ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر وأقيم بدله أخوه الملك الصالح صالح فأقام السلطان حسن مجمعًا على الاشتغال بالعلم وكتب بخطه نسخة من كتاب دلائل النبوّة للبيهقيّ إلى يوم الإثنين ثاني شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة فأقامه الأمير شيخو العمريّ في السلطنة وقبض على الصالح وكانت مدّة سجنه ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا فرسم بإمساك الأمير طاز وإخراجه لنيابة حلب‏.‏

وفي ربيع الأول سنة سبع خمسين هبت ريح عاصفة من ناحية الغرب من أوّل النهار إلى آخر الليل اصفرّ منها الجوّ ثم احمرّ ثم اسودّ فتلف منها شيء كثير‏.‏

وفي شعبان سنة تسع وخمسين ضرب الأمير شيخو بعض المماليك بسيف فلم يزل عليلًا حتى مات‏.‏

وفي سنة تسع وخمسين كان ضرب الفلوس الجدد فعُمل كلّ فلس زنة مثقال وقبض على الأمير طاز نائب حلب وسجن بالإسكندرية وقرّر مكانه في نيابة حلب الأمير منجك اليوسفيّ وأمسك الأمير صرغتمش في شهر رمضان منها وكانت حرب بين مماليكه ومماليك السلطان انتصر فيها المماليك السلطانية وقُبض على عدّة أمراء فأنعم السلطان على مملوكه يلبغا العمريّ الخاصكيّ بتقدمة ألف عوضًا عن تنكر بغا الماردانيّ أمير مجلس بحكم وفاته‏.‏

وفي سنة ستين فر منجك من حلب فلم يوقف له على خبر فأقرّ على نيابة حلب الأمير بيدمر الخوارزميّ وسار لغزو سيس فأخذ أدنه بأمان وأخذ طرسوس والمصيصة وعدة بلاد وأقام بها نوّابًا وعاد فلما كانت سنة اثنتين وستين عدّى السلطان إلى برّ الجيزة وأقام بناحية كوم برًامدّة طويلة لوباء كان بالقاهرة فتنكر الحال بينه وبني الأمير يلبغا إلى ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى فركب السلطان في جماعة ليكبس على الأمير يلبغا وكان قد أحسن بذلك وخرج عن الخيام وكمن بمكان وهولابس في جماعته فلم يظفر السلطان به ورجع فثار به يلبغا فانكسر بمن معه ومرّ يريد قلعة الجبل فتبعه يلبغا وقد انضم إليه جمع كثير ودخل السلطان إلى القلعة فلم يثبت وركب معه أيدمر الدوادار ليتوجه إلى بلاد الشام ونزل إلى بيت الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشيّ أمير حاجب فبعث في الحال إلى الأمير يبلغا يعلمه بمجيء السلطان إليه فبعث من قبضه هو والأمير أيدمر ومن حينئذ لم يوقف له على خبر البتة مع كثرة فحص أتباعه وحواشيه عن قبره وما اَل إليه أمره فكانت مدّة ولايته هذه ثانيهّ ست سنين وسبعة أشهر وأيامًا وكان ملكًا حازمًا مهابًا شجاعًا صاحب حرمة وافرة وكلمة نافذة ودين متين حلف غير مرّة أنه ما لاط‏.‏

ولا شرب خمرًا ولا زنى إلاّ أنه كان يبخل ويعجب بالنساء ولا يكاد يصبر عنهنّ ويبالغ في إعطائهنّ المال وعادى في دولته أقباط مصر وقصد اجتثاث أصلهم وكره المماليك وشرع في إقامة أولاد الناس أمراء وترك عشرة بنين وست بنات وكان أشقر أنمش وقتل وله من العمر بضع وعشرون سنة ولم يكن قبله ولا بعده في الدولة التركية مثله‏.‏

جامع القرافة هذا الجامع يُعرف الاَن بجامع الأولياء وهو القرافة الكبرى وكان موضعه يُعرف في القديم عند فتح مصر بخطة المغافر وهو مسجد بني عبد اللّه بن مانع بن مورع يُعرف بمسجد القبة‏.‏

قال القضاعيّ‏:‏ كان القرّاء يحضرون فيه ثم بني عليه المسجد الجامع الجديد بنته السيدة المعزية في سنة ست وستين وثلاثمائة وهي أمّ العزيز باللّه نزار ولد المعز لدين اللّه أمّ ولد من العرب يقال لها تغريد وتدعى درزان وبنته على يد الحسن بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب في شهر رمضان من السنة المذكورة وهو على نحو بناء الجامع الأزهر بالقاهرة وكان بهذا الجامع بستان لطيف في غربيه وصهريج وبابه الذي يُدخل منه ذو المصاطب الكبير الأوسط تحت المنار العالي الذي عليه مصفح بالحديد إلى حضرة المحراب والمقصورة من عدّة أبواب وعدّتها أربعة عشر بابًا مربعة مطوّبة الأبواب قدّام كلّ باب قنطرة قوس على عمودي رخام ثلاثة صفوف وهو مكندج مزوّق باللازورد والزنجفر والزنجار وأنواع الأصباغ وفيه مواضع مدهونة والسقوف مزوقة ملوّنة كلها والحنايا والعقود التي على العمد مزوّقة بأنواع الأصباغ من صنعة البصريين وبني المعلم المزوّقين شيوخ الكتاميّ والنازوك وكان قبالة الباب السابع من هذه الأبواب قنطرة قوس مزوّقة في منحنى حافتيها شاذوران مدرّج بدرج وآلات سود وبيض وحمر وخضر وزرق وصفر إذا تطلع إليها من وقف في سهم قوسها شائلًارأسه إليها ظنّ أن المدرّج المزوّق كأنه خشب كالمقرنص وإذا أتى إلى أحد قطري القوس نصف الدائرة ووقف عند أوّل القوس منها ورفع رأسه رأى ذلك الذي توهمه مسطحًا لا نتوء فيه وهذه من أفخر الصنائع عند المزوّقين وكانت هذه القنطرة من صنعة بني المعلم وكان الصناع يأتون إليها ليعملوا مثلها فما يقدرون وقد جرى مثل ذلك للقصير وابن عزيز في أيام البازوريّ سيد الوزراء الحسن بن عليّ بن عبد الرحمن وكان كثيرًا ما يحرّض بينهما ويغري بعضهما على بعض لأنه كان أحبّ ما إليه كتابٌ مصوّرًا أو النظر إلى صورة أو تزويق‏.‏

ولما استدعي ابن عزيز من العراق فأفسده وكان قد أتى به في محاربة القصير لأنّ القصير كان يشتط في أجرته ويلحق عجب فيه صنعته وهو حقيق بذلك لأنه في عمل الصورة كابن مقلة في الخط وابن عزيز كابن البوّاب وقد أمعن شرح ذلك في الكتاب المؤلف فيه وهو طبقات المصوّرين المنعوت بضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس وكان البازوريّ قد أحضر بمجلسه القصير وابن عزيز فقال ابن عزيز‏:‏ أنا أصوّر صورة إذا رآها الناظر طنّ أنها خارجة من الحائط‏.‏

فقال القصير‏:‏ لكن أنا أصوّرها فإذا نظرها الناظر ظنّ أنها داخلة في الحائط فقالوا هذا أعجب فأمرهما أن يصنعا ما وعدا به فصوّرا صورة راقصتين في صورة حنيتين مدهونتين متقابلتين هذه تُرى كأنها داخلة في الحائط وتلك ترى كأنها خارجه من الحائط فصوّر القصير راقصة بثياب بيض في صورة حنية دهنها أسود كأنها داخلة في صورة الحنية وصوّر ابن عزيز راقصة بثياب حمر في صورة جنية صفراء كأنها بارزة من الحنية فاستحسن البازوريّ ذلك وخلع عليهما ووهبهما كثيرًا من الذهب‏.‏

وكان بدار النعمان بالقرافة من عمل الكتاميّ صورة يوسف عليه السلام في الجب وهو عريان والجب كله أسود إذا نظره الإنسان ظنّ أن جسمه باب من دهن لون الجبّ وكان هذا الجامع من محاسن البناء وكان بنو الجوهريّ يعظمون بهذا الجامع على كرسيّ في الثلاثة أشهر فتمرّ لهم مجالس مبجلة تروق وتشوق ويقوم خادمهم وزهر البان وهو شيخ كبير ومعه زنجلة إذا توسط أحدهم في الوعظ ويقول‏:‏ وتصدّقي لا تأمني أن تسألي فإذا سالتِ عرفتِ ذَلّ السائِل‏.‏

ويدور على الرجال والنساء فيُلقى له في الزنجلة ما يسره اللّه تعالى فإذا فرغ من التطواف وضع الزنجلة أمام الشيخ فإذا فرغ من وعظه فرّق على الفقراء ما قسم لهم وأخذ الشيخ ما قُسم له وهو الباقي ونزل عن الكرسيّ‏.‏

وكان جماعة من الرؤساء يلزمون النوم بهذا الجامع ويجلسون به في ليالي الصيف للحديث في القمر في صحنه وفي الشتاء ينامون عند المنبر وكان يحصل لقيمه القاضي أبي حفص الأشربة والحلوى وغير ذلك‏.‏

قال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة‏:‏ حدّثني الأمير أبو عليّ تاج الملك جوهر المعروف بالشمس الجيوشيّ قال‏:‏ اجتمعنا ليلة جمعة جماعة من الأمراء بنو معز الدولة وصالح وحاتم وراجح وأولادهم وغلمانهم وجماعة ممن يلوذ بنا كابن الموفق والقاضي ابن داود وأبي المجد بن الصيرفيّ وأبي الفضل روزبة وأبي الحسن الرضيع فعملنا سماطًا وجلسنا واستدعينا بمن في الجامع وأبي حفص فأكلنا ورفعنا الباقي إلى بيت الشيخ أبي حفص قيم الجامع ثم تحدّثنا ونمنا وكانت ليلة باردة فنمنا عند المنبر وإذا إنسان نصف الليل ممن نام في هذا الجامع من عابري السبيل قد قام قائمًا وهو يلطم على رأسه ويصيح وامالاه وامالاه فقلنا له‏:‏ ويلك ما شأنك وما الذي دهاك ومن سرقك وما سرق لك فقال‏:‏ يا سيدي أنا رجل من أهل طرا يُقال لي أبو كريت الحاوي أمسى عليّ الليل ونمت عندكم وأكلت من خيركم وسع اللّه عليكم ولي جمعة أجمع في سلتي من نواحي طرا والحيّ الكبير والجبل كل غريبة من الحيات والأفاعي ما لم يقدر عليه قط حاو غيري وقد انفتحت الساعة السلة وخرجت الأفاعي وأنا نائم لم أشعر‏.‏

فقلت له‏:‏ إيش تقول‏:‏ فقال‏:‏ أي والله يا للنجدات فقلنا‏:‏ يا عدوّ اللّه أهلكتنا ومعنا صبيان وأطفال ثم إنّا نبهنا الناس وهربنا إلى المنبر وطلعنا وازدحمنا فيه ومنا من طلع على قواعد العمد فتسلق وبقي واقفًا وأخذ ذلك الحاوي يحسس وفي يده كنف الحيات ويقول‏:‏ قبضت الرقطاء ثم يفتح السلة ويضع فيها ثم يقول قبضت أم قرنين ويفتح ويضع فيها ويقول قبضت الفلانيّ والفلانية من الثعابين والحيات وهي معه بأسماء ويقول أبو تليس وأبو زعيرونحن ونقول ايه إلى أن قال‏:‏ بس انزلوا ما بقي عليّ همّ ما بقي يهمكم كبير شيء قلنا كيف‏.‏

قال ما بقي إلاّ البتراء وأم رأسين انزلوا فما عليكم منهما‏.‏

قلنا كذا عليك لعنة الله يا عدوّ الله لا نزلنا للصبح فالمغرور من تغرّه‏.‏

وصحنا بالقاضي أبي حفص القيم فأوقد الشمعة ولبس صباغات الخطيب خوفًا على رجليه وجاء فنزلنا في الضوء وطلعنا المئذنة فنمنا إلى بكرة وتفرّق شملنا بعد تلك الليلة وجمع القاضي القيم عياله ثاني يوم وأدخلوا عصيًا تحث المنبر وسعفا وشالوا الحصر فلم يظهر لهم شيء وبلغ الحديث والي القرافة ابن شعلة الكتاميّ فأخذ الحاوي فلم يزل به حتى جمع ما قدر عليه وقال‏:‏ ما أخليه إلاّ إلى السلطان وكان الوزير إذ ذاك يانس الأرمني‏.‏

وهذه القضية تشبه قضية جرت لجعفر بن الفضل بن الفرات وزير مصر المعروف بابن جرابة وذلك أنه كان يهوى النظر إلى الحيات والأفاعي والعقارب وأم أربعة وأربعين وما يجري هذا المجرى من الحشرات وكان في داره قاعة لطيفة مرخمة فيها سلل الحيات ولها قيم فرّاش حاو من الحواة ومعه مستخدمون برسم الخدمة ونقل السلال وحطها وكان كلّ حاو في مصر وأعمالها يصيد ما يقدر عليه من الحيات ويتباهون في ذوات العجب من أجناسها وفي الكبار وفي الغريبة المنظر وكان الوزير يثبهم على ذلك أو في ثواب ويبذل لهم الجمل حتى يجتهدوا في تحصيلها وكان له وقت يجلس فيه على دكه مرتفعة ويدخل المستخدمون والحواة فيخرجون ما في السلل ويطرحونه على ذلك الرخام ويحرّشون بين الهوام وهو يتعجب من ذلك ويستحسنه فلما كان ذات يوم أنفذ رقعة إلى الشيخ الجليل ابن المدبر الكاتب وكان من أعيان كتاب أيامه وديوانه وكان عزيزًا عنده وكان يسكن إلى جوار دار ابن الفرات يقول له فيها‏:‏ نشعر الشيخ الجليل أدام الله سلامته أنه لما كان البارحة عرض علينا الحواة الحشرات الجاري بها العادات انساب إلى داره منها الحية البتراء وذات القرنين والعقربان الكبير وأبو صوفة وما حصلوا لنا إلاّ بعد عناء ومشقة وبجملة بذلناها للحواة ونحن نأمر الشيخ وفقه الله بالتقدّم إلى حاشيته وصبيته بصون ما وجد منها إلى أن تنفذ الحواة لأخذها وردّها إلى سللها فلما وقف ابن المدبر على الرقعة قلبها وكتب في ذيلها أتاني أمر سيدنا الوزير خلد اللّه نعمته وحرس مدّته بما أشار إليه في أمر الحشرات والذي يعتمد عليه في ذلك أن الطلاق يلزمه ثلاثًا إن بات هو وأحد من أهله في الدار والسلام‏.‏

وفي سنة ست عشرة وخمسمائة أمر الوزير أبو عبد اللّه محمد بن فاتك المنعوت بالأجلّ المأمون البطايحيّ وكيله أبا البركات محمد بن عثمان برمّ شعث هذا الجامع وأن يعمر بجانبه طاحونًا للسبيل ويبتاع لها الدواب ويتخير من الصالحين الساكنين بالقرافة من يجعله أمينًا عليها ويطلق له ما يكفيه مع علف الدواب وجميع المؤن ويشترط عليه أن يواسي بين الضعفاء ويحمل عنهم كلفة طحن أقواتهم ويؤدي الأمانة فيها ولم يزل هذا الجامع على عمارته إلى أن احترق في السنة التي احترق فيها جامع عمرو بن العاص سنة أربع وستين وخمسمائة عند نزول مرى ملك الفرنج على القاهرة وحصارها كما تقدّم ذكره عند ذكر خراب الفسطاط من هذا الكتاب وكان الذي تولى إحراق هذا الجامع ابن سماقة بإشارة الأستاذ مؤتمن الخلافة جوهر وهو الذي أمر المذكور بحريق جامع عمرو بمصر وسئل عن ذلك فقال‏:‏ لئلا يخطب فيه لبني العباس‏.‏

ولم يبق من هذا الجامع بعد حريقه سوى المحراب الأخضر وكان مؤذن هذا الجامع في أيام المستنصر ابن بقاء المحدّث ابن بنت عبد الغنيّ بن سعيد الحافظ ثم جددت عمارة هذا الجامع في أيام المستنصر بعد حريقه وأدركته لما كانت القرافة الكبرى عامرة بسكنى السودان التكاررة وهو مقصود للبَرَكَة‏.‏

فلما كانت الحوادث والمحن في سنة ست وثمانمائة قلّ الساكن بالقرافة وصار هذا الجامع طول الأيام مغلوقًا وربما أقيمت فيه الجمعة‏.‏

جامع الجيزة بناه محمد بن عبد اللّه الخازن في المحرّم سنة خمسين وثلاثمائة بأمر الأمير عليّ بن عبد الله بن الأخشيد فتقدّم كافور إلى الخازن ببنائه فإنه كان قد هدمه النيل وسقط في سنة أربعين وثلاثمائة وعمل له مستغلًا وكان الناس قبل ذلك بالجيزه يصلون الجمعة في مسجد جامع همدان وهو مسجد مزاحف بن عامر بن بكتل وقيل أن عقبة بن عامر في إمرته على مصر أمرهم أن يجمعوا فيه‏.‏

قال التميميّ‏:‏ وشارف بناء جامع الجيزة مع أبي بكر الخازن أبو الحسن بن جعفر الطحاويّ واحتاجوا إلى عمد للجامع فمضى الخازن في الليل إلى كنيسة بأعمال الجيزة فقلع عمدها ونصب بدلها أركانًا وحمل العمد إلى الجامع فترك أبو الحسن بن الطحاويّ الصلاة فيه مذ ذاك تورّعًا‏.‏

قال التميمي‏:‏ وقد كان يعني ابن الطحاويّ يُصلي في جامع الفسطاط القديم وبعض عمده أو أكثرها ورخامه من كنائس الإسكندرية وأرياف مصر وبعضه بناء قرّة بن شريك عامل الوليد بن عبد الملك‏.‏