فصل: حريق مصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 قال‏:‏ وحدثني بعض نسائنا الصالحات قالت‏:‏ كانت لنا من الجارات امرأة ترينا أفخاذها وفيها كالحفر فكنا نسألها فتقول‏:‏ أنا ممن خطفني أكلة الناس في الشدة فأخذني إنسان وكنت ذات جسم وسمن فأدخلني إلى بيت فيه سكاكين وآثار الدماء وزفرة القتلى فأضجعني على وجهي وربط في يدي ورجلي سلبًا إلى أوتاد حديد عريانة ثم شرح من أفخاذي شرائح وأنا أستغيث ولا أحد يجيبني ثم أضرم الفحم وشوي من لحمي وأكل أكلًا كثيرًا ثم سكر حتى وقع على جنبه لايعرف أين هو فأخذت في الحركة إلى أن انحل أحد الأوتاط وأعان الله على الخلاص وتخلصت وحللت الرباط وأخذت خرقًا من داره ولففت بها أفخاذي وزحفت إلى باب الدار وخرجت أزحف إلى أن وقعت إلى المأمن وجئت إلى بيتي وعرفتهم بموضعه فمضوا إلى الوالي فكبس عليه وضرب عنقه وأقا الدواء في أفخاذي سنة إلى أن ختم الجرح وبقي كذا حفرًا وبسبب هذا الغلاء خرب الفسطاط وخلا موضع العسكر والقطائع وظاهر مصر مما يلي القرافة حيث الكيمان الآن إلى بركة الحبش فلما قدم أمير الجيوش بدر الجمالى إلى مصر وقام بتدبير أمرها نقلت أنقاض ظاهر مصر مما يلي القاهرة حيث كان العسكر والقطائع وصار قضاء وكيمانًا فيما بين مصر والقاهرة وفيما بين مصر والقرافة وتراجعت أحوال الفسطاط بعد ذلك حتى قارب ما كان عليه قبل الشدة‏.‏

وأما

 

حريق مصر

‏:‏ فكان سببه‏:‏ أن الفرنج لما تغلبوا على ممالك الشام واستولوا على الساحل حتى صار بأيديهم ما بين ملطية إلى بلبيس إلا مدينة دمشق فقط وصار أمر الوزارة بديار مصر‏:‏ لشاور بن مجير السعدي والخليفة يومئذ العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف اسم لا معنى له وقام في منصب الوزارة بالقوة في صفر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وتلقب بأمير الجيوش وأخذ ا ل بني رزيك وزراء مصر وملوكها من قبله فلما استبد بالأمرة حسده ضرغام صاحب الباب وجمع جموعًا كثيرة وغلب شاور على الوزارة في شهر رمضان منها فسار شاور إلى الشام واستقل ضرغام بسلطنة مصر فكان بمصر في هذه السنة ثلاثة وزراء هم‏:‏ العادل بن رزيك بن طلائع بن رزيك وشاور بن مجير وضرغام فأساء ضرغام السيرة في قتل أمراء الدولة وضعفت من أجل ذلك دولة الفاطميين بذهاب رجالها الأكابر ثم إن شاور استنجد بالسلطان‏:‏ نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام فانجده وبعث معه عسكرًا كثيرًا في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وقد عليه أسد الدين شيركوه على أن يكون لنور الدين إذا عاد شاور إلى منصب الوزارة ثلث خراج مصر بعد إقطاعات العساكر وأن يكون شيركوه عنده بعساكره في مصر ولا يتصرف إلا بأمر نور الدين فخرج ضرغام بالعسكر وحاربه في بلبيس فانهزم وعاد إلى مصر فنزل شاور بمن معه عند التاج خارج القاهرة وانتشر عسكره في البلاد وبعث ضرغام إلى أهل البلاد فأتوه خوفًا من الترك القادمين معه وأتته الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية فامتنعوا بالقاهرة وتطاردوا مع طلائع شاور بأرض الطبالة فنزل شاور في المقس وحارب أهل القاهرة فغلبوه حتى ارتفع إلى بركة الحبش فنزل على الرصد واستولى على مدينة مصر وأقام أيامًا فمال الناس إليه وانحرفوا عن ضرغام لأمور فنزل شاور باللوق وكانت بينه وبين ضرغام حروب آل إلى إحراق الدور من باب سعادة إلى باب القنطرة خارج القاهرة وقتل كثير من الفريقين واختل امر ضرغام وانهزم فملك شاور القاهرة وقتل ضرغام آخر جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين فأخلف شيركوه ما وعد به السلطان نور الدين وأمر بالخروج عن مصر فأبى عليه واقتتلا‏.‏

وكان شيركوه قد بعث بابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بلبيس ليجمع له الغلال وغيرها من الأموال فحشد شاور وقاتل الشاميين فجرت وقائع واحترق وجه الخليج خارج القاهرة بأسره وقطعة من حارة زويلة فبعث شاور إلى الفرنج واستنجد بهم فطمعوا في البلاد وخرج ملكهم مري من عسقلان بجموعه فبلغ ذلك شيركوه فرحل عن القاهرة بعد طول محاصرتها ونزل بلبيس فاجتمع على قتاله بها شاور وملك الفرنج وحصروه بها وكانت إذ ذاك حصينة ذات أسوار فأقام محصورًا مدة ثلاثة أشهر وبلغ ذلك نور الدين فأغار على ما قرب منه من بلاد الفرنج وأخذها من أيديهم فخافوه ووقع الصلح مع شيركوه على عوده إلى الشام فخرج في ذي الحجة ولحق بنور الدين فأقام وفي نفسه من مصر أمر عظيم إلى أن دخلت سنة اثنتين وستين فجهزه نور الدين إلى مصر في جيش قوي في ربيع الأول وسيره فبلغ ذلك شاور فبعث إلى مري ملك الفرنج مستنجدًا به فسار بجموع الفرنجن حتى نزل بلبيس فوافاه شاور وأقام حتى قدم شيركوه إلى أطراف مصر فلم يطق لقاء القوم فسار حتى خرج من إطفيح إلى جهة بلاد الصعيد من ناحية بحر القلزم فبلغ شاور أن شيركوه قد ملك بلاد الصعيد فسقط في يده ونهض للفور من بلبيس ومعه الفرنج فكان من حروبه مع شيركوه ما كان حتى انهزم بالإشمونين وسار منها بعد الهزيمة إلى الإسكندرية فملكها وأقر بها ابن أخيه صلاح الدين وخرج إلى الصعيد فخرج شاور بالفرنج وحصر الإسكندرية أشد حصار فسار شيركوه من قوص ونزل على القاهرة وحاصرها فرحل إليه شاور وكانت أمور آلت إلى الصلح وسار شيركوه بمن معه إلى الشام في شوال فطمع مري في البلاد وجعل له شحنة بالقاهرة وصارت أسوارها بيد فرسان الفرنج وتقرر لهم في كل سنة مائة ألف دينار ثم رحل إلى بلاده وترك بالقاهرة من يثق به من الفرنج وشار شيركوه إلى الشام فتحكم الفرنج في القاهرة حكمًا جائرًا وركبوا المسلمين بالأذى العظيم وتيقنوا عجز الدولة عن مقاومتهم وانكشفت لهم عورات الناس إلى أن تدخلت سنة أربع وستين فجمع مري جمعًا عظيمًا من أجناس الفرنج وأقطعهم بلاد مصر وسار يريد أخذ مصر فبعث إليه شاور يسأله عن سبب مسيره فاعتل بأن الفرنج غلبوه على قصد ديار مصر وأنه يريد ألفي ألف دينار يرضيهم بها وسار فنزل على بلبيس وحاصرها حتى أخذها عنوة في صفر فسبي أهلها وقصد القاهرة فسير العاضد كتبه إلى نور الدين وفيها شعور نسائه وبناته يسأله إنقاذ المسلمين من الفرنج وسار مري من بلبيس فنزل على بركة الحبش وقد انضم من الأعمال إلى القاهرة فنادى شاور بمصر أن لا يقيم بها أحد وأزعج الناس في النقلة منها فتركوا أموالهم وأثقالهم ونجوا بأنفسهم وأولادهم وقد ماج الناس واضطربوا كأنما خرجوا من قبورهم إلى المحشر لا يعبأ والد بولده ولا يلتفت أخ إلى أخيه وبلغ كراء الدابة من مصر إلى القاهرة بضعة عشر دينارًا وكراء الحمل إلى ثلاثين دينارًا ونزلوا بالقاهرة في المساجد والحمامات والأزقة وعلى الطرقات فصاروا مطروحين بعيالهم وأولادهم وقد سلبوا سائر أموالهم وينتظرون هجوم العدو على القاهرة بالسيف كما فعل بمدينة بلبيس وبعث شاور إلى مصر بعشرين ألف قارورة نفط وعشرة آلاف مشعل نار فرق ذلك فيها فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء فصار منظرًا مهولًا فاستمرت النار بأتي على مسكن مصر من اليوم التاسع والعشرين من صفر لتمام أربعة وخمسين يومًا والنهابة من العبيد ورجال الأسطول وغيرهم بهذه المنازل في طلب الخبايا فلما وقع الحريق بمصر رحل مري من بركة الحبش ونزل بظاهر القاهرة مما يلي باب البرقية وقاتل أهلها قتالًا كثيرًا حتى زلزلوا زلزالًا شديدًا وضعفت نفوسهم وكادوا يؤخذون عنوة فعاد شاور إلى مقاتلة الفرنج وجرت أمور آلت إلى الصلح على مال فبينا هم في جبايته إذ بلغ الفرنج مجيء أسد الدين شيركوه بعساكر الشام من عند السلطان نور الدين محمود فرحلوا في سابع ربيع الآخر إلى بلبيس وساروا منها إلأى فاقوس فصاروا إلى بلادهم بالساحل ونزل شيركوه بالمقس خارج القاهرة وكان من قتل شاور واستيلاء شيركوه على مصر ما كان فمن حينئذ خربت مصر الفسطاط هذا الخراب الذي هو الآن‏:‏ كيمان مصر وتلاشى أمرها وافتقر أهلها وذهبت أموالهم وزالت نعمهم فلما استبد شيركوه بوزارة العاضد أمر بإحضار إعيان أهل مصر الذين خلوا عن ديارهم في الفتنة وصاروا بالقاهرة وتغمم لمصابهم وسفه رأي شاور في إحراق المدينة وأمرهم بالعود إليها فشكوا إليه ما بهم من الفقر والفاقة وخراب المنازل وقالوا‏:‏ إلى أي مكن نرجع وفي أي مكان ننزل ونأوي وقد صارت كما ترى وبكوا وأبكوا فوعدهم جميلًا وترفق بهم وأمر فنودي في الناس بالرجوع إلى مصر فتراجع إليها الناس قليلًا وعمروا ما حول الجامع إلى أن كانت المحنة من الغلاء والوباء العظيم في سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب لسنتي خمس وخمسمائة فخرب من مصر جانب كبير ثم تحايا الناس بها وأكثروا من العمارة بجانب مصر الغربي على شاطئ النيل لما عمر الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة وصار بمصر عدة آدار جلية وأسواق ضخمة فلما كان غلاء مصر والوباء الكائن في سلطنة الملك العادل‏:‏ كتبغا سنة ست وتسعين وستمائة خرب كثير من مساكن مصر وتراجع الناس بعد ذلك في العمارة إلى سنة تسع وأربعين وسبعمائة فحدث الفناء الكبير الذي أقفر منه معظم دور مصر وخربت ثم تحايا الناس من بعد الوباء وصار ما يحيط بالجامع العتيق وما على شط النيل عامرًا إلى سنة ست وسبعين وسبعمائة فشرقت بلاد مصر وحدث الوباء بعد الغلاء فخرب كثير من عامر مصر ولم يزل يخرب شيئًا بعد شيء إلى سنة تسعين وسبعمائة فعظم الخراب في خط زقاق القناديل وخط النحاسين وشرع الناس في هدم دور مصرن وبيع أنقاضها حتى صارت على ما هي عليه الآن وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدًا‏.‏

ما قيل في مدينة فسطاط مصر قال ابن رضوان‏:‏ والمدينة الكبرى اليوم بأرض مصر ذات أربعة أجزاء‏:‏ الفسطاط والقاهرة والجزيرة والجيزة وبعد هذه المدينة عن خط الاستواء ثلاثون درجة والجبل المقطم في شرقيها وبينها وبين مقابر المدينة‏.‏

وقد قالت الأطباء‏:‏ إن أردأ المواضع ما كان الجبل في شرقيه ويعوق ريح الصبا عنه وأعظم أجزائها‏:‏ هو الفسطاط ويلي الفسطاط من الغرب‏:‏ النيل وعلى شط النيل الغربي أشجار طوال وقصار وأعظم أجزاء الفسطاط‏:‏ موضع في غور فإنه يعلوه من المشرق المقطم ومن الجنوب الشرف ومن الشمال الموضع العالي من عمل فوق أعني الموقف والعسكر وجامع ابن طولون ومتى نظرت إلى الفسطاط من الشرق أو من مكان آخر عال‏:‏ رأيت وضعها في غور‏.‏

وقد بين أبقراط أن المواضع المتسفلة‏:‏ أسخن من المواضع المرتفعة وأردأ هواء لاحتقان البخار فيها ولأن ما حولها من المواضع العالية يعوق تحليل الرياح لها وأزقة الفسطاط وشوارعها ضيقة وأبنيتها عالية وقد قال روفس‏:‏ إذا دخلت مدينة فرأيتها ضيقة الأزقة مرتفعة البناء فاهرب منها لأنها وبيئة أراد أن البخار لا ينحل منها كما ينبغي لضيق الأزقة وارتفاع البناء‏.‏

ومن شأن أهل الفسطاط أن يرموا ما يموت في دورهم من السنانير والكلاب ونحوها من الحيوان الذي يخالط الناس فس شوارعهم وأزقتهم فتعفن وتخالط عفونتها الهواء ومن شأنهم أيضًا‏:‏ أن يرموا في النيل الذي يشربون منه فضول حيواناتهم وجيفها وخرارا كنفهم تصب فيه وربما انقطع جري الماء فيشربون هذه العفونة باختلاطها بالماء وفي خلال الفسطاط مستوقدات عظيمة يصعد منها في الهواء دخان مفرط وهي أيضًا كثيرة الغبار لسخانة أرضها حتى أنك ترى الهواء في أيام الصيف كدرًا يأخذ بالنفس ويتسخ الثوب النظيف في اليوم الواحد وإذا مر الإنسان في حاجة لم يرجع إلا وقد اجتمع في وجهه ولحيته غبار كثير ويعلوها في العشيات خاصة في أيام الصيف بخار كدر أسود وأغبر وسيما إذا كان الهواء سليمًا من الرياح وإذا كانت هذه الأشياء كما وصفنا فمن البين أنه يصير الروح الحيوااني الذي فيها حالة كهذه الحال فيتولد إذًا في البدن من هذه الأعراض فضول كثيرة واستعدادات نحو العفن إلا أن ألف أهل الفسطاط لهذه الحال وأنسهم بها يعوق عنهم أكثر شرها وإن كانوا على كل حال أسرع أهل مصر وقوعًا في الأمراض وما يلي النيل من الفسطاط يجب أن يكون أرطب مما يلي الصحراء وأهل الشرق أصلح حالًا لتخرق الرياح لدورهم وكذلك عمل فوق والحمراء إلا أن أهل الشرف الذي يشربونه أجود لأنه يستقى قبل أن تخالطه عفونة الفسطاط فأما القرافة فأجود هذه المواضع لأن المقطم يعوق بخار الفسطاط من المرور بها وإذا هبت ريح الشمال مرت بأجزاء كثيرة من بخار الفسطاط والقاهرة على الشرف فغيرت حاله وظاهر أن المواضع المكشوفة في هذه المدينة هي أصح هواء وكذلك حال المواضع المرتفعة وأردأ موضع في المدينة الكبرى هو ما كان من الفسطاط حول الجامع العتيق إلى ما يلي النيل والسواحل وإذا كان في الشتاء وأول الربيع حمل من بحر الملح سمك كثير فيصل إلى هذه المدينة وقد عفن وصارت له رائحة منكرة جدًا فساغ في القاهرة ويأكله أهلها وأهل الفسطاط فيجتمع في أبدانهم منه فضول كثيرة عفنة فلولا الأعتدال أمزجتهم وصحة أبدانهم في هذا الزمان لكان ذلك يولد في أبدانهم أمراضًا كثيرة قاتلة إلا أن قوة الستمرار تعوق عن ذلك وربما انقطع النيل في آخر الربيع وأول الصيف من جهة الفسطاط فيعفن بكثرة ما يلقي فيه إلى أن يبلغ عفنه إلى أن تصير له رائحة منكرة محسوسة‏.‏

وظاهر أن هذا الماء إذا صار على هذه الحال غير مزاج الناس تغيرًا محسوسًا‏.‏

قال‏:‏ فمن البين أن أهل هذه المدينة الكبرى بأرض مصر أسرع وقوعًا في الأمراض من جميع أهل هذه الأرض ما خلا أهل الفيوم فإنها أيضًا قريبة وأردأ ما في المدينة‏:‏ الموضع الغائر من الفسطاط ولذلك غلب على أهلها الحين وقلة الكرم وأنه ليس أحد منهم يغيث ولا يضيف الغريب إلا في النادر وصاروا من السعاية والاغتياب على أمر عظيم ولقد بلغ بهم الجبن إلى أن خمسة أعوان تسوق منهم مائة رجل وأكثر ويسوق الأعوان المذكورين‏:‏ رجل واحد من أهل البلدان الأخر وممن قد تدرب في الحرب فقد استبان إذًا العلة والسبب في أن صار أهل المدينة الكبرى بأرض مصر أسرع وقوعًا في الأمراض من جميع أهل هذه الأرض وأضعف أنفسًا ولعل لهذا السبب اختار القدماء‏:‏ اتخاذ المدينة في غير هذا الموضع فمنهم من جعلها بمنف وهي‏:‏ مصر القديمة ومنهم من جعلها بالإسكندرية ومنهم من جعلها بغير هذه المواضع ويدل على ذلك آثارهم‏.‏

وقال ابن سعيد عن كتاب الكمائم وأما فسطاط مصر فإن مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني مدينة عين شمس وجاء الإسلام وبها بناء يعرف بالقصر حوله مساكن وعليه نزل عمرو بن العاص وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه ثم لما فتحها‏:‏ قسم المنازل على القبائل ونسبت المدينة إليه فقيل‏:‏ فسطاط عمرو وتداولت عليها بعد ذلك ولاة مصر فاتخذوها سريرًا للسلطنة وتضاعفت عمارتها فأقبل الناس من كل جانب إليها وقصروا أمانيهم عليها إلى أن رسخت بها دولة بني طولون فبنوا إلى جانبها المنازل المعروفة بالقطائع وبها كان مسجد ابن طولون الذي هو الآن إلى جانب القاهرة وهي مدينة مستطيلة يمر النيل مع طولها ويحط في ساحلها المراكب الآتية من شمال النيل وجنوبه بأنواع الفوائد ولها منتزهات وهي في الإقليم الثالث ولا ينزل فيها مطر إلا في النار وترابها تثيره الأرجل وهو قبيح اللون تتكدر منه أرجاؤها ويسوء بسببه هواؤها ولها أسواق ضخمة إلا أنها ضيقة ومبانيها بالقصب والطوب طبقة على طبقة ومذ بنيت القاهرة ضعفت مدينة الفسطاط وفرط في الاغتباط بها بعد الإفراط وبينهما بحو ميلين وأنشد فيها الشريف العقيلي‏:‏ أحن إلى الفسطاط شوقًا وإنني لأدعو لها أن لا يحل بها القطر وهل في الحيا من حاجة لجنابها وفي كل قطر من جوانبها نهر تبدت عروسًا والمقطم تاجها ومن نيلها عقد كما انتظم الدر وقال عن كتاب آخر‏:‏ فالفسطاط هي قصبة مصر والجب المقطم شرقها وهو متصل بجبل الزمرد‏.‏

وقال عن كتاب ابن حوقل‏:‏ والفسطاط مدينة حسنة ينقسم النيل لديها وهي كبيرة نحو ثلث بغداد ومقدارها نحو فرسخ على غاية العمارة والطيبة واللذة ذات رحاب في محالها وأسواق عظام فيها ضيق ومتاجر فخام ولها ظاهر أنيق وبساتين نضرة ومنتزهات على ممر الأيام خضرة وفي الفسطاط قبائل وخطط للعرب تنسب إليها كالبصرة والكوفة إلا أنها أقل من ذلك وهي سبخة الأرض غير نقية التربة وتكون بها الدار سبع طبقات وستًا وخمسًا وربما يسكن في الدار المائتان من الناس ومعظم بنيانهم بالطوب وأسفل دورهم غير مسكون وبها مسجدان للجمعة بنى أحدهما عمرو بن العاص في وسط الفسطاط والآخر علىالموقف بناص أحمد بن طولون وكان خارج الفسطاط أبنية بناها أحمد بن طولون ميلًا في ميل يسكنها جنده تعرف بالقطائع كما بنى بنو الأغلب خارج القيروان وقادة وقد خربتا في وقتنا هذا وأخلف الله بدل القطائع بظاهر مدينة الفسطاط القاهرة‏.‏

قال ابن سعيد‏:‏ ولما استقررت بالقاهرة تشوقت إلى معاينة الفسطاط فسار معي أحد أصحاب العزمة فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدة لركوب من يسير إلى الفسطاط جملة عظيمة لا عهد لي بمثلها في بلد فركب منها حمارًا وأشار إلي أن اركب حمارًا آخر فأنفت من ذلك جريًا على عادة ما خلفته في بلاد المغرب فأعلمني أنه غير معيب على أعيان مصر وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والسادة الظاهرة يركبونها فركبت وعندما استويت راكبًا أشار المكاري على الحمار فطار بي وأثار من الغبار الأسود ما أعمى عيني ودنس ثيابي وعاينت ما كرهته ولقلة معرفتي بركوب الحمار وشدة عدوه على قانون لم أعهده وقلة رفق المكاري وقفت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج فقلت‏:‏ لقيت بمصر أشد البوار ركوب الحمار وكحل الغبار أناديه مهلًا فلا يرعوي إلى أن سجدت سجود العثار وقد مد فوقي رواق الثرى وألحد فيه ضياء النهار فدفعت إلى المكاري أجرته وقلت له‏:‏ إحسانك إلي أن تتركني أمشي على رجلي ومشيت إلى أن بلغتها وقدرت الطريق بين القاهرة والفسطاط وحققت بعد ذلك نحو الميلين ولما أقبلت على الفسطاط أدبرت عنى المسرة وتأملت أسوار مثلمة سوداء وآفاقًا مغبرة ودخلت من بابها وهو دون غلق مفض إلى خراب معمور بمبان سيئة الوضع غير مستقيمة الشوارع قد بنيت من الطوب الأدكن والقصب والنخيل طبقة فوق طبقة وحول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف ويغض طرف الطريف فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال إلى أن سرت في أسواقها الضيقة فقاسيت من ازدحام الناس فيها بحوائج السوق والروايا التي على الجمال ما لا يفي به إلا مشاهدته ومقاساته إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت به ضده في جامع أشبيلية وجامع مراكش ثم دخلت إليه فعاينت جامعًا كبيرًا قديم البناء غير مزخرف ولا محتفل في حصره التي بدور مع بعض حيطانه وتبسط فيه وأبصرت العامة رجالًا ونساء قد جعلوه معبرًا بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق والبياعون يبيعون فيه أصناف المكسرات والكعك وما جرى مجرى ذلك والناس يأكلون منه في أمكنة عديدة غير محتشمين لجري العادة عندهم بذلك وعدة صبيان بأواني ماء يطوفون على من يأكل قد جعلوا ما يحصل لهم منهم رزقًا وفضلات مآكلهم مطروحة في صحن الجامع وفي زواياه والعنكبوت قد عظم نسجه في السقوف والأركان والحيطان والصبيان يلعبون في صحنه وحيطانه مكتوبة بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتب فقراء العامة إلا أن مع هذا كله على الجامع المذكور من الرونق وحسن القبول وانبساط النفس ما لا تجده في جامع إشبيلية مع زخرفته والبستان الذي في صحنه وقد تأملت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس دون منظر يوجب ذلك فعلمت أنه سر مودع من وقوف الصحابة رضوان الله عليهم في ساحته عند بنائه واستحسنت ما أبصرته فيه من حلق المصدرين لإقراء القرآن والفقه والنحو في عدة أماكن وسألت عن موارد أرزاقهم فأخبرت أنها من فروض الزكاة وما أشبه ذلك ثم أخبرت أن اقتضائها يصعب إلا بالجاه والتعب ثم انفصلنا من هنالك إلى ساحل النيل فرأيت ساحلًا كدر التربة غير نظيف ولا متسع الساحة ولا مستقيم الاستطالة ولا عليه سور أبيض إلا أنه مع ذلك كثير العمارة بالمراكب وأصناف الأرزاق التي تصل من جميع أقطار الأرض والنيل ولئن قلت إني لم أبصر على نهر ما أبصرته على ذلك الساحل فإني أقول حقًا والنيل هنالك ضيق لكون الجزيرة التي بنى فيها سلطان الديار المصرية الآن قلعته قد توسطت الماء ومالت إلى جهة الفسطاط وبحسن سورها المبيض الشامخ‏:‏ حسن منظر الفرجة في ذلك الساحل وقد ذكر ابن حوقل الجسر الذي يكون ممتدًا من الفسطاط إلى الجزيرة وهو غير طويل ومن الجانب الآخر إلى البر الغربي المعروف ببر الجيزة جسر آخر من الجزيرة إليه وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب لأن هذين الجسرين قد احترما بحصولهما في حيز قلعة السلطان ولا يجوز أحد على على الجسر الذي بين الجزيرة والفسطاط راكبًا احترامًا لموضع السلطان ويتنافي ليلة ذلك اليوم بطيارة مرتفعة على جانب النيل فقلت‏:‏ نزلنا من الفسطاط أحسن منزل بحيث امتداد النيل قد دار كالعقد وقد جمعت فيه المراكب سحرة كسرب قطا أضحى يزف على ورد وأصبح يطغى الموج فيه ويرتمي ويطغو حنانًا وهو يلعب بالنرد غدا ماؤه كالريق ممن أحبه فمدت عليه حلية من حلي الخد وقد كان مثل الزهر من قبل مدة فأصبح لما زاده المد كالورد قلت‏:‏ هذا لأني لم أذق في المياه أحلى من مائه وأنه يكون قبل المد الذي يزي به ويفيض على أقطاره أبيض فإذا كان عباب النيل صار أحمر‏.‏

وأنشدني علم الدين فخر الترك أيدمر عتيق حبذا الفسطاط من والدة جنبت أولادها در الجفا يرد النيل إليها كدرًا فإذا مازج أهليها صفا لطفوا فالمزن لا يألفهم خجلًا لما رآهم ألطفا ولم أر في أهل البلاد ألطف من أهل الفسطاط حتى أنهم ألطف من أهل القاهرة وبينهما نحو ميلين وجملة الحال أن أهل الفسطاط في نهاية من اللطافة واللين في الكلام وتحت ذلك من الملق وقلة المبالاة برعاية قدم الصحبة وكثرة الممازجة والألفة ما يطول ذكره وأما ما يرد على الفسطاط من متاجر البحر الإسكندراني والبحر الحجازي فإنه فوق ما يوصف وبها مجمع ذلك لا بالقاهرة ومنها تجهز إلى القاهرة وسائر البلاد وبالفسطاط مطابخ السكر والصابون ومعظم ما يجري هذا المجرى لأن القاهرة بنيت للاختصاص بالجند كما أن جميع زي الجند بالقاهرة أعظم منه بالفسطاط وكذلك ما ينسج ويصاغ وسائر ما يعمل من الأشياء الرفيعة السلطانية والخراب في الفسطاط كثير والقاهرة أجد وأعمر وأكثر زحمة بسبب انتقال السلطان إليها وسكنى الأجناد فيها وقد نفخ روح الاعتناء والنمو في مدينة الفسطاط الآن لمجاورتها للجزيرة الصالحية وكثير من الجند قد انتقل إليها للقرب من الخدمة وبنى على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر يعني ابن سعيد‏:‏ ما بني على شقة مصر من جهة النيل‏.‏

ما عليه مدينة مصر الآن وصفتها قد تقدم من الأخبار جملة تدل على عظم ما كان بمدينة فسطاط مصر من المباني وكثرتها ثم الأسباب التي أوجبت خرابها وآخر ما رأيت من الكتب التي صيفت في خطط مصر كتاب إيقاظ المتغفل وأتعاظ المتأمل تأليف‏:‏ القاضي الرئيس تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوج الزبيري رحمه الله وقطع على سنة خمس وعشرين وسبعمائة فذكر من الأخطاط المشهورة بذاتها لعهده اثنين وخمسين خطًا ومن الحارات ثنتي عشرة حارة ومن الأزقة المشهورة‏:‏ ستة وثمانين زقاقًا ومن الدروب المشهورة‏:‏ ثلاثة وخمسين دربًا ومن الخوخ المشهورة‏:‏ خمسًا وعسشرين خوخة ومن الأسواق المشهورة‏:‏ تسعة عشر سوقًا ومن الخطط المشهورة بالدور‏:‏ ثلاثة عشر خطًا ومن الرحاب المشهورة‏:‏ خمس عشرة رحبة ومن العقبات المشهورة‏:‏ إحدى عشرة عقبة ومن الكيمان المسماة‏:‏ ستة كيمان ومن الأقباء‏:‏ عشرة أقباء ومن البرك‏:‏ خمس برك ومن السقائف‏:‏ خمسًا وستين سقيفة ومن القياسر‏:‏ سبع قياسر ومن مطابخ السكر العامرة‏:‏ ستة وستين مطبخًا ومن الشوارع‏:‏ ستة شوارع ومن المحارس‏:‏ عشرين محرسًا ومن الجوامع التي تقام فيها الجمعة بمصر وظاهرها من الجزيرة والقرافة‏:‏ أربعة عشر جامعًا ومن السماجد‏:‏ أربعمائة وثمانين مسجدًا ومن المدارس‏:‏ سبع عشرة مدرةسة ومن الزوايا‏:‏ ثماني زوايا ومن الربط التي بمصر والقرافة‏:‏ بضعًا وأربعين رباطًا ومن الأحباس والأوقاف كثيرًا ومن الحمامات‏:‏ بضعًا وسبعين حمامًا ومن الكنائس وديارات النصارى‏:‏ ثلاثين ما بين دير وكنيسة وقد باد أكثر ما ذكره ودثر وسيرد ما قاله من ذلك في مواضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى‏.‏