فصل: كنيسة دموه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 مسجد الزيات

هذا المسجد مجاور بيت الخوّاص غربيه‏.‏

ومسجد ابن أبي الرداد يُعرف بمسجد الإنطاكيّ ومسجد الفاخوريّ‏.‏

يُعرف بمسجد البطحاء ومسجد ابن أبي الصغير قبلي مسجد بني مانع وهو جامع القرافة ومسجد الشريفة بُني في سنة إحدى وخمسمائة ومسجد ابن أبي كامل الطرابلسيّ كان بحارة الفرن بناه الأعز بن أبي كامل والمعبد الذي كان على رأس العقبة التي يتوصل منها إلى الرصد بناه أبو محمد عبد اللّه الطباخ ويقال أنه كان بالقرافة الكبرى إثنا عشر ألف مسجد‏.‏

القصر المعروف بباب ليون بالشرف‏:‏ هذا القصر كان على طرف الجبل بالشرف الذي يُعرف اليوم‏.‏

وجاء الفتح وهو مبنيّ بالحجارة ثم صار في موضعه مسجد عُرف بمسجد المقس والمقس ضيعة كانت تعرف بأمّ دنين سميت المقس لأنّ العاشر كان يقعد بها وصاحب المكس فقُلب فقيل المقس وليون اسم بلد بمصر بلغة السودان والروم وقد ذكر المقس عند ذكر ظواهر القاهرة من هذا الكتاب والله تعالى أعلم‏.‏

الجواسيق التي بالقرافة قال ابن سيده‏:‏ الجوسق الحصن‏.‏

وقيل هو شبيه بالحصن معرّب وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط‏:‏ الجواسق بالقرافة والجبانة كانت تُسمى القصور وكان بالقرافة قصر الكتفيّ وقصر بني كعب وقصر بني عقبة وقصر أبي قبيل وقصر العزيز وقصر البغدادي وقصر يشب وقصر ابن كرامة‏.‏

جوسق بني عبد الحكم‏:‏ كان جوسقًا كبيرًا له حوش وكان في وسط القرافة بحضرة مسجد بني سريع الذي يُقال له الجامع العتيق وهو أحد الجواسق الثلاثة وهو جوسق عبد الله بن عبد الحكم الفقيه الإمام وجدّد هذا الجوسق ابن اللهيب المغربي‏.‏

جوسق بني غالب ويُعرف ببني بابشاد‏:‏ كان بالمغافر بُني في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وإلى جانبه قبر الشيخ أبي الحسن طاهر بن بابشاد‏.‏

جوسق ابن ميسر‏:‏ كان بجوار جوسق بني غالب بناه أبو عبد اللّه محمد ابن القاضي أبي الفرج هبة الله وكان أبو الفرج هو الخطيب بجامع مصر ويوم الغدير وهو شافعيّ المذهب وهو هبة الله بن الميسر‏.‏

وذلك في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وخمسمائة وأبو عبد الله هذا هو الذي كان بعد ذلك قاضي القضاة بمصر وهو الذي حبس القياسر التي كانت في القشاشين بمصر وكان يحمل قدامه المنارة الرومية النحاس ذات السواعد التي عليها الشمع ليالي الوقودات وكان فيه كرم سمع بأن المادرانيّ عمل في أيامه الكعك الصغير المحشو بالسكر المسمى أفطن له فأمر هو بعمل لب الفستق الملبس بالسكَر الأبيض الفانيذ المطيب بالمسك وعمل منه في أول الحال شيئًا عوّض لبه لب ذهب في صحن واحد فمضى فيه جملة وخطف قدّامه تخاطفه الحاضرون‏.‏

ولم يعد لعمله بل الفستق الملبس‏.‏

وهو أوّل من أخرجه بمصر وكان قد سمع في سيرة أبي بكر المادرانيّ أنه عمل هذا الأفطن له وجعل في كلّ واحد خمسة دنانير ووقف أستاذ على السماط فقال لأحد الجلساء‏:‏ افطن له‏.‏

وكان على السماط عدّة صحون من ذلك الجنس لكن ما فيها ما فيه دنانير إلاّ صحن واحد فلما رمز الأستاذ لأحد الجلساء على سماط المادرانيّ بقوله افطن له وأشار إلى الصحن تناول الرجل منه فأصاب لك فاعتمد له جملة وراَه الناس وهو إذا أكل يخرج شيئًا من فمه ويجمع بيده ويحط في حجره فتنبهوا وتزاحموا عليه‏.‏

فقيل لذلك المعمول من ذلك الوقت أفطن له وقُتل هذا القاضي في تنيس في أيام بهرام الوزير النصرانيّ الأرمني سنة ست وعشرين وخمسمائة‏.‏

جوسق ابن مقشر‏:‏ كان جوسقًا طويلًا ذا تربة إلى جانبه‏.‏

جوسق الشيخ أبي محمد‏:‏ عامل ديوان الأشراف الطالبيين وجوسق ابن عبد المحسن بخط الأكحول وجوسق البغداديّ الجرجراي كان قبره إلى جانبه خرب في سنة عشرين وخمسمائة وجوسق الشريف أبي إسماعيل إبراهيم بن نسيب الدولة الكلتميّ الموسوي نقيب مصر‏.‏

جوسق المادرانيّ‏:‏ هذا الجوسق لم يبق من جواسق القرافة غيره وهو جوسق كبير جدًا على هيئة الكعبة بالقرب من مصلى خولان في بحريه على جانبه الممرّ من مقطع الحجارة بناه أبو بكر محمد بن عليّ المادرانيّ في وسط قبورهم من الجبانة وكان الناس يجتمعون عند هذا الجوسق في الأعياد ويوقد جميعه في ليلة النصف من شعبان كل سنة وقودًا عظيمًا ويتحلق القرّاء حوله لقراءة القرآن فيمرّ للناس هنالك أوقات في تلك الليلة وفي الأعياد بديعة حسنة‏.‏

جوسق حب الورقة‏:‏ كان هذا الجوسق بحضرة تربة ابن طباطبا أدركته عامراَ وقد خرب فيما خرّبه السفهاء من ترب القرافة وجواسقها زعمًا منهم أن فيها خبايا وكان أكابر أمراء المغافر ومن بعدهم ومن يجري مجراهم لكل منهم جوسق بالقرافة يتنزه فيه ويعبد اللّه تعالى هناك وكان من هذه الجواسق ما تحته حوض ماء لشرب الدواب وفسقية وبستان وكان بالقرافة عدة قصور وهي التي تسمى بالجواسق لها مناظر وبساتين إلاّ أن الجواسق أكثرها بغير بساتين ولا بئر بل مناظر مرتفعة ويُقال لها كلها قصور‏.‏

قصر القرافة‏:‏ بنته السيدة تغريد أمّ العزيز بالله في سنة ست وستين وثلاثمائة على يد الحسن بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب هو والحمّام الذي كان في غربيه وَبَنَتْ البئر والبستان المعروف بالتاج المعروف بحصن أبي المعلوم وبنت جامع القرافة ثُم جدّده الآمر بأحكام الله وبيضه في سنة عشرين وخمسمائة وعمل شرقيّ بابه مصطبة للصوفية وكان مقدمهم الشيخ أبو إسحاق إبراهيم المعروف بالمادح وكان الآمر يجلس في الطاق بالمنظر الذي بناه بأعلى القصر ويرقص أهل الطريقة قدّامه وقد ذكر هذا القصر عند ذكر مناظر الخلفاء من هذا الكتاب ولم الرباطات التي كانت بالقرافة كان بالقرافة الكبيرة عدّة دور يُقال للدار منها رباط على هيئة ما كانت عليه بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيها العجائز والأرامل العابدات وكانت لها الجرايات والفتوحات وكان لها المقامات المشهورة من مجالس الوعظ‏.‏

رباط بنت الخوّاص‏:‏ كان تجاه مسجد بيد الفقيه مجلي بن جُميع بن نجا الشافعيّ مؤلف كتاب الذخائر وقاضي القضاة بمصر‏.‏

رباط الأشراف‏:‏ كان برحبة جامع القرافة يُعرف بالقراء وببني عبد الله وبمسجد القبة وهو شرقيّ بستان ابن نصر بناه أبو بكر محمد بن عليّ المادرانيّ ووقفه على نساء الأشراف‏.‏

رباط الأندلس‏:‏ بنته الجهة المعروفة بجهة مكنون الآمرية كما تقدّم‏.‏

رباط ابن العكاريّ‏:‏ كان بحضرة مسجد بني سريع المعروف بالجامع العتيق‏.‏

رباط الحجازية‏:‏ بنته وحبسته على الحجازية فوز جارية عليّ بن أحمد الجرجراي الوزير هو والمسجد الذي تقدّم ذكره‏.‏

رباط رياض‏:‏ كان بجوار مسجد الحاجة رياض‏.‏

وكان في القرافة عدّة مصلّيات وعدّة محاريب‏.‏

منها‏:‏ مصلّى الشريفة‏:‏ كان بدرب القرافة بحدرة الجباسين وخطة الصدف بناه أبو محمد عبد الله بن الأرسوفيّ الشامي التاجر سنة سبع وسبعين وخمسمائة‏.‏

مصلى المغافر‏:‏ وهو الأندلس جدده ابن برك الإخشيدي ثم بنته جهة مكنون الآمرية في سنة ست وعشرين وخمسمائة‏.‏

مصلى عقبة القرافة يعرف بمصلى الأندلسي‏:‏ كان ذا مصطبة مربعة على يسره الطالع إلى القرافة بناه يوسف بن أحمد الأندلسيّ الأنصاريّ في شهر رمضان سنة خمس عشرة وخمسمائة‏.‏

مصلّى القرافة‏:‏ جدّده الفقيه ابن الصباغ المالكيّ في سنة عشرين وخمسمائة وكان بحضرة مسجد أبي تراب تجاه دار التبر‏.‏

مصلّى الفتح‏:‏ كان ملاصقًا لمسجد الفتح بناه أبو محمد القلعيّ المغربيّ المنجم الحافظيّ‏.‏

مصلّى جهة العادل‏:‏ أبي الحسن بن السلار وزير مصر‏.‏

مصلّى الأطفيحيّ‏:‏ بجوار مسجد الأطفيحي الذي تقدّم ذكره‏.‏

مصلّى الجرجانيّ‏:‏ بناه الوزير علي بن أحمد الجرجانيّ وكانت بالقرافة الكبرى والجبانة عدّة مصلّى خولان‏:‏ هذه المصلّى عرفت بطائفة من العرب الذين شهدوا فتح مصر يقال لهم خولان وهم من قبائل اليمن واسمه نكل بن عمرو بن مالك بن زيد بن عُريب وفي هذه المصلّى مشهد الأعياد ويؤمّ الناس ويُخطب لهم بها في يوم العيد خطيب جامع عمرو بن العاص وليست هذه المصلّى هي التي أنشأها المسلمون عند فتح أرض مصر وإنما كانت مصلّى العيد في أوّل الإسلام غير هذه‏.‏

قال القضاعي‏:‏ مصلّى العيد كان مصلى عمرو بن العاص مقابل اليحموم وهو الجبل المطلّ على القاهرة‏.‏

فلما ولي عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح مصر أمر بتحويله‏.‏

فحوّل إلى موضعه المعروف اليوم بالمصلّى القديم عند درب السباع ثم زاد فيه عبد الله بن طاهر سنة عشر ومائتين ثم بناه أحمد بن طولون في سنة ست وخمسين ومائتين واسمه باق عليه إلى اليوم‏.‏

قال الكنديّ‏:‏ ولما قدم شفي الأصبحيّ إلى مصر وأهل مصر قد اتخذوا مصلّى بحذاء ساقية أبي عون عند العسكر قال‏:‏ ما لهم وضعوا مصلاّهم في الجبل الملعون وتركوا الجبل المقدس يعني المقطم‏.‏

قال‏:‏ فقدِّموا مصلاّهم إلى موضعه الذي هو به اليوم يعني المصلّى القديم المذكور‏.‏

وقال الكنديّ‏:‏ ثم ضاق المصلّى بالناس في إمارة عنبسة بن إسحاق الضبيّ على مصر في أيام المتوكل على اللّه فأمر عنبسة بابتناء المصلّى الجديد فابتدئ ببنائه في العشر وعنبسة هو آخر عربيّ ولي مصر وآخر أمير صلّى بالناس في المسجد وهو المصلّى الذي بالصحراء عند الجارودي ثم جدّده الحاكم وزاد فيه وجعل له قبة وذلك في سنة ثلاث وأربعمائة وكان أمراء مصر إذا خرجوا إلى صلاة العيد بالمصلّى أوقفوا جيشًا في سفح الجبل مما يلي بركة الحبش ليراعي الناس حتى ينصرفوا من الصلاة خوفًا من البجة‏.‏

فإنهم قدموا غير مرّة ركبانًا على النجب حتى كبسوا الناس في مصلاهم وقتلوا ونهبوا ثم رجعوا من حيث أتوا فخرج عبد الحميد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب غضبًا لله وللمسلمين مما أصابهم من البجة فكمن لهم بالصعيد في طريقهم حتى أقبلوا كعادتهم في أخذ الناس في مصلّى العيد فكبسهم وقتل الأعور رئيسهم بعد ما أقبلوا إلى المصلّى في العيد في سنة ست وخمسين ومائتين وأميره مصر أحمد بن طولون على النجب وكبسوا الناس في مصلاهم وقتلوا ونهبوا منهم وعادوا سالمين ثم دخل العمريّ إلى بلاد البجة غازيًا فقتل منهم مقتلة عظيمة وضايقهم في بلادهم إلى أن أعطوه الجزية ولم يكونوا أعطوا أحدًا قبله الجزية وسار في المسلمين وأهل الذمّة سيرة حسنة وسالم النوبة إلى أن بدأ النوبة بالغدر في الموضع المعروف بالمريس فمال عليهم وحاربهم وخرّب ديارهم وسبى منهم عالمًا كثيرًا حتى كان الرجل من أصحابه يبتاع الحاجة من الزيات والبقال بنوبيّ أو نوبية لكثرتهم معهم فجاؤوا إلى أحمد بن طولون وشكوا له من العمريّ فبعث إليه جيشًا ليحاربه فأوقع بالجيش وهزمهم وكانت لهم أنباء وقصص إلى أن قتله غلامان من أصحابه وأحضرا رأسه إلى أحمد بن طولون فأنكر فعلهما وضرب أعناقهما وغسل الرأس ودفنه‏.‏

المساجد والمعابد التي بالجبل والصحراء وكان بجبل المقطم وبالصحراء التي تُعرف اليوم بالقرافة الصغرى عدّة مساجد وعدّة مغاير ينقطع العباد بها ومنها ما قد دُثر ومنه شيء قد بقي أثره‏.‏

مسجد التنور‏:‏ هذا المسجد في أعلى جبل المقطم من وراء قلعة الجبل في شرقيها أدركتُهُ عامرًا وفيه من يقيم به‏.‏

قال القضاعيّ‏:‏ المسجد المعروف بالتنور بالجبل هو موضع تنور فرعون كان يوقد له عليه فإذا رأوا النار عملوا بركوبه فاتخذوا له ما يريد وكذلك إذا ركب منصرفًا من عين شمس‏.‏

ثم بناه أحمد بن طولون مسجدًا في صفو سنة تسع وخمسين ومائتين ووجدتُ في كتاب قديم أنّ يهودا بن يعقوب أخا يوسف عليه السلام لما دخل مع إخوته على يوسف وجرى من أمر الصواع ما جرى تأخر عن إخوته وأقام في ذروة الجبل المقطم في هذا المكان وكان مقابلًا لتنور فرعون الذي كان يوقد له فيه النار‏.‏

ثم خلا ذلك الموضع إلى زمن أحمد بن طولون فأخبر بفضل الموضع وبمقام يهودا فيه فابتنى فيه هذا المسجد والمنارة التي فيه وجعل فيه صهريجًا فيه الماء وجعل الإنفاق عليه مما وقفه على البيمارستان بمصر والعين التي بالمغافر وغير ذلك‏.‏

ويقال أنّ تنور فرعون لم يزل في هذا الموضع بحاله إلى أن خرج إليه قائد من قوّاد أحمد بن طولون يقال له وصيف قاطرميز فهدمه وحفر تحته وقدّر أن تحته مالًا فلم يجد فيه شيئًا وزال رسم التنور وذهب وأنشد أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر من أبيات لسعيد القاضي‏:‏ وتنور فرعون الذي فوقَ قِلةٍ على جبل عالٍ على شاهق وعرِ بنى مسجدًا فيه يروقُ بناءَهُ ويُهدى به في الليل إن ضلّ من يسري تخالُ سُنا قنديلهِ وضياءُهُ سُهيلًا إذا ما لاحَ في الليل للسفَرِ القرقوبيّ‏:‏ قال القضاعيّ المسجد المعروف بالقرقوبي هو على قرنة الجبل المطل على كهف السودان بناه أبو الحسن القرقوبيّ الشاهد وكيل التجار بمصر في سنة خمس عشرة وأربعمائة وكان في موضعه محراب حجارة يُعرف بمحراب ابن الفقاعيّ الرجل الصالح وهو على يسار المحراب‏.‏

مسجد أمير الأمراء‏:‏ رفق المستنصريّ على قرنة الجبل البحرية المطلة على وادي مسجد موسى عليه السلام‏.‏

كهف السودان‏:‏ مغار في الجبل لا يُعلم من أحدثه ويقال أن قومًا من السودان نقروه فنسب إليهم وكان صغيرًا مظلمًا فبناه الأحدب الأندلسيّ القزاز وزاد في سفله مواضع نقرها وبنى علوه‏.‏

ويُقال أنه أنفق فيه أكثر من ألف دينار ووسع المجاز الذي يُسلك منه إليه وعمل الدرج النقر التي يُصعد عليها إليه وبدأ في بنيانه مستهل سنة إحدى وعشرين وأربعمائة وفرغ منه في شعبان من هذه السنة‏.‏

العارض‏:‏ هذا المكان مغارة في الجبل عُرفت بأبي بكر محمد جدّ مسلم القاري لأنه نقرها ثم عمرت بأمر الحاكم بأمر الله وأنشئت فيها منارة هي باقية إلى اليوم وتحت العارض قبر الشيخ العارف عمر بن الفارض رحمه الله ولله در القائل‏:‏ جِزبا لقرافة تحتَ ذيل العارِضِ وَقُل السلامَ عليكَ يا ابنَ الفارِضِ وقد ذكر القضاعي أربع عشرة مغارة في الجبل منها ما هو باق وليس في ذكرها فائدة‏.‏

اللؤلؤة‏:‏ هذا المكان مسجد في سفح الجبل باق إلى يومنا هذا كان مسجدًا خرابًا فبناه الحاكم بأمر الله وسماه اللؤلؤة قيل كان بناؤه في سنة ست وأربعمائة وهو بناء حسن‏.‏

مسجد الهرعاء‏:‏ فيما بين اللؤلؤة ومسجد محمود وهو مسجد قديم يتبرّك بالصلاة فيه وقد ذكر مسجد محمود عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب لأنه تُقام فيه الجمعة‏.‏

دكة القضاة‏:‏ قال القضاعي‏:‏ هي دكة مرتفعة عن المساجد في الجبل كان القضاة بمصر يخرجون إليها لنظر الأهلّةِ كل سنة ثم بني عليها مسجد‏.‏

مسجد فائق‏:‏ مولى خمارويه بن أحمد بن طولون كان في سفح الجبل مما يلي طريق مسجد موسى عليه السلام‏.‏

مسجد موسى‏:‏ بناه الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات‏.‏

مسجد زهرون بالصحراء‏:‏ هو مسجد أبي محمد الحسن بن عمر الخولانيّ ثم عرف بابن المبيض وكان زهرون قيمه فنسب إليه‏.‏

مسجد الفقاعيّ‏:‏ هو أبو الحسن عليّ بن الحسن بن عبد الله كان أبوه فقاعيًا بمصر وهو مسجد كبير بناه كافور الإخشيديّ ثم جدّده وزاد فيه مسعود بن محمد صاحب الوزير أبي القاسم عليّ بن أحمد الجرجرايّ وكان في وسط هذا المسجد محراب مبني بطوب يقال أنه من بناء حاطب بن أبي بلتعة رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ويُقال أنه أول محراب اختط في مصر وكان أبو الحسن التميميّ قد زاد فيه ببناء قبل ذلك‏.‏

مسجد الكنز‏:‏ هذا المسجد كان شرقيّ الخندق وبحريّ قبر ذي النون المصريّ وكان مسجدًا صغيرًا يُعرف بالزمام ومات قبل تمامه فهدمه أبو طاهر محمد بن عليّ القرشيّ القرقوبي ووسعه وبناه وحكي أنه لما هدمه رأى قائلًا يقول في المنام‏:‏ على أذرع من هذا المسجد كنز فاستيقظ وقال‏:‏ هذا من الشيطان فرأى هذا القائل ثلاث مرّات فلما أصبح أمر بحفر الموضع فإذا فيه قبر وظهر له لوح كبير تحته ميت في لحد كأعظم ما يكون من الناس جثة ورأسًا وأكفانه طرية لم يبل منها إلا ما يلي جمجمة الرأس فإنه رأى شعر رأسه قد خرج من الكفن وإذا له جمة فراعه ما رأى وقال‏:‏ هذا هو الكنز بلا شك وأمر بإعادة اللوح والتراب كما كان وأخرج القبر عن سائر الحيطان وأبرزه للناس فصار يزار ويتبرّك به‏.‏

مسجد في غربيّ الخندق‏:‏ أنشأه أبو الحسن بن النجار الزيات في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة‏.‏

مسجد لؤلؤ الحاجب‏:‏ بالقرافة الصغرى بنى بجانبه مقبرة وحَفر عندها بئرًا حتى انتهى الحفار إلى قرب الماء فقال الحفار‏:‏ إني أجد في البئر شيئًا كأنه حجر‏.‏

فقال له لؤلؤ تسبب في قلعه فلما قلعه فار الماء وأخرجه وإذا هو اسطام مركب وهو الخشبة التي تبنى عليها السفينة وهذا يُصدّقُ ما قاله أرسطاطاليس في كتاب الآثار العلوية قال‏:‏ إن أهل مصر يسكنون فيما انحسر عنه البحر الأحمر يعني بحر الشام وقد ذكر خبر لؤلؤ هذا عند ذكر حمام لؤلؤ‏.‏

مقام المؤمن‏:‏ قيل أنه مؤمن آل فرعون لأنه أقام فيه وهذا بعيد من الصحة‏.‏

قناطر ابن طولون وبئره‏:‏ هذه القناطر قائمة إلى اليوم من بئر أحمد بن طولون التي عند بركة الحبش وتُعرف هذه البئر عندنا ببئر عفصة ولا تزال هذه القناطر إلى أثناء القرافة الكبرى ومن هناك خفيت لتهدّمها وهي من أعظم المباني‏.‏

قال القضاعيّ‏:‏ قناطر أحمد بن طولون وبئره بظاهر المغافر كان السبب في بنائها هذه القناطر أن أحمد بن طولون ركب فمرّ بمسجد الأقدام وحده وتقدّم عسكره وقد كدّه العطش وكان في المسجد خياط فقال‏:‏ يا خياط أعندك ماء فقال‏:‏ نعم‏.‏

فأخرج له كوزًا فيه ماء وقال‏:‏ اشرب ولا تمدّ يعني لا تشرب كثيرًا فتبسم أحمد بن طولون وشرب فمدّ فيه حتى شرب أكثره ثم ناوله إياه وقال‏:‏ يا فتى سقيتنا وقلت لا تمدّ‏.‏

فقال‏:‏ نعم أعزك الله موضعنا هاهنا منقطع وإنما أخيط جمعتي حتى أجمع ثمن راوية‏.‏

فقال له‏:‏ والماء عندكم هاهنا معوز فقال‏:‏ نعم‏.‏

فمضى أحمد بن طولون فلما حصل في داره قال‏:‏ جيؤني بخياط في مسجد الأقدام‏.‏

فما كان بأسرع من أن جاؤوا به فلما رآه قال‏:‏ سر مع المهندسين حتى يخطّوا عندك موضع سقاية ويجروا الماء وهذه ألف دينار خذها وابتدأ في الأنفاق وأجرى على الخياط في كلّ شهر عشرة دنانير وقال له‏:‏ بشرني ساعة يجري الماء فيها فجدّوا في العمل فلمّا جرى الماء أتاه مبشرًا فخلع عليه وحمله واشترى له دارًا يسكنها وأجرى عليه الرزق السنيّ الدارّ وكان قد أشير عليه بأن يجري الماء من عين أبي خليد المعروفة بالنعش‏.‏

فقال‏:‏ هذه العين لا تُعرف أبدًا إلاّ بأبي خُليد وإني أريد أن أستنبط بئرًا فعدل عن العين إلى الشرق فاستنبط بتره هذه وبنى عليها القناطر وأجرى الماء إلى الفسقية التي بقرب درب سالم‏.‏

وقال جامع السيرة الطولونية‏:‏ وأما رغبته في أبواب الخير فكانت ظاهرة بينة واضحة فمن ذلك بناء الجامع والبيمارستان ثم العين التي بناها بالمغافر وبناها بُنْيَةً صحيحة ورغبة قوية حتى أنها ليس لها نظير ولهذا اجتهد المادرانيون وأنفقوا الأموال الخطيرة ليحكوها فأعجزهم ذلك لأنها وقعت في موضع جيرانه كلهم محتاجون إليها وهي مفتوحة طول النهار لمن كشف وجهه للأخذ منها ولمن كان له غلام أو جارية والليل للفقراء والمساكين فهي حياة ومعونة‏.‏

واتخذ لها مستغلًا فيه فضل وكفاية لمصالحها والذي تولى لأحمد بن طولون بناء هذه العين رجل نصرانيّ حسن الهندسة حاذق بها وإنه دخل إلى أحمد بن طولون في عشية من العشايا فقال له‏:‏ إذا فرغت مما تحتاج إليه فأعلمني لنركب إليها فنراها فقال‏:‏ يركب الأمير إليها في غد فقد فرغت وتقدّم النصرانيّ فرأى موضعًا بها يحتاج إلى قصرية جير وأربع طوبات فبادر إلى عمل ذلك وأقبل أحمد بن طولون يتأمل العين فاستحسن جميع ما شاهده فيها ثم أقبل إلى الموضع الذي فيه قصرية الجير فوقف بالاتفاق عليها فلرطوبة الجير غاصت يد الفرس فيه فكبا بأحمد ولسوء ظنه قدر أن ذلك لمكروه أراده به النصراني فأمر به فشق عنه ما عليه من الثياب وضربه خمسمائة سوط وأمر به إلى المطبق وكان المسكين يتوقع من الجائزة مثل ذلك دنانير فاتفق له اتفاق سوء‏.‏

وانصرف أحمد بن طولون وأقام النصرانيّ إلى أن أراد أحمد بن طولون بناء الجامع فقدّر له ثلاثمائة عمود فقيل له ما تجدها أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب فتحمل ذلك‏.‏

فأنكره ولم يختره وتعذب قلبه بالفكر في أمره وبلغ النصرانيّ وهو في المطبق الخبر فكتب إليه‏:‏ أنا أبنيه لك كما تُحب وتختار بلا عمد إلاّ عمودي القبلة فأحضره وقد طال شعره حتى تدلى على وجهه فبناه‏.‏

قال‏:‏ ولما بنى أحمد بن طولون هذه السقاية بلغه أن قومًا لا يستحلون شرب مائها قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم الفقيه‏:‏ كنت ليلةَ في داري إذ طُرِقَتْ بخادم من خدّام أحمد بن طولون فقال لي‏:‏ الأمير يدعوك فركبت مذعورًا مرعوبًا فعدل بي عن الطريق فقلت‏:‏ أين تذهب بي فقال‏:‏ إلى الصحراء والأمير فيها‏.‏

فأيقنت بالهلاك وقلت للخادم‏:‏ الله اللّه فيّ فإني شيخ كبير ضعيف مسنّ فتدري ما يُراد مني فارحمني‏.‏

فقال لي‏:‏ احذر أن يكون لك في السقاية قول‏.‏

وسرت معه وإذا بالمشاعل في الصحراء وأحمد بن طولون راكب على باب السقاية وبين يديه الشمع فنزلت وسلمت عليه فلم يردّ عليّ فقلت‏:‏ أيّها الأمير إنّ الرسول أعنتني وكدني وقد عطشت فيأذن لي الأمير في الشرب فأراد الغلمان أن يسقوني فقلت‏:‏ أنا آخذ لنفسي فاستقيت وهو يراني وشربت وازددت في الشرب حتى كدت أنشق ثم قلت‏:‏ أيها الأمير سقاك الله من أنهار الجنة فلقد أرويت وأغنيت ولا أدري ما أصف أطيب الماء في حلاوته وبرده أم صفاءه أم طيب ريح السقاية قال‏:‏ فنظر إليّ وقال‏:‏ أريدك لأمر وليس هذا وقته فاصرفوه‏.‏

فصُرِفتُ‏.‏

فقال لي الخادم‏:‏ أصبت‏.‏

فقلت‏:‏ أحسن اللّه جزاءك فلولاك لهلكت‏.‏

وكان مبلغ النفقة على هذه العين في بنائها ومستغلها أربعين ألف دينار وأنشد أبو عمرو الكنديّ في كتاب الأمراء لسعيد القاص أبياتًا في رثاء دولة بني طولون منها في العين والسقاية‏:‏ وعينُ معينِ الشُربِ عينٌ زكيةٌ وعينُ أجاجٍ للرّواةِ وللطُهْرِ كأنّ وفودُ النيل في جنباتِها تروحُ وتغدو بينَ مد إلى جزرِ فأرك بها مستنبطًا لمعينها من الأرضِ من بطنٍ عميق إلى ظهرِ يمرُّ على أرضِ المغافِرِ كلها وشعبانُ والأحمورُ والحيّ من بشرِ قبائلُ لا نوءُ السحابِ يمدُّها ولا النيلُ يرويها ولا جدولٌ يجري وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب الجوهر المكنون في ذكر القبائل والبطون‏:‏ سريع فخذ من الأشعريين هم ولد سريع بن ماتع من بني الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وهم رهط أبي قبيل التابعيّ الذي خطف اليوم الكوم شرقيّ قناطر سقاية أحمد بن طولون المعروفة بعفصة الكبيرة بالقرافة‏.‏

الخندق‏:‏ هذا الخندق كان بقرافة مصر قد دثر وعلى شفيره الغربيّ قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه وكان من النيل إلى الجبل حُفر مرّتين مرّة في زمن مروان بن الحكم ومرّة في خلافة الأمين صمد بن هارون الرشيد‏.‏

ثم حفره أيضًا القائد جوهر‏.‏

قال القضاعيّ‏:‏ الخندق هو الخندق الذي في شرقيّ الفسطاط في المقابر كان الذي أثار حفره مسير مروان بن الحكم إلى مصر وذلك في سنة خمس وستين وعلى مصر يومئذٍ عبد الرحمن بن عقبة بن جحدم الفهريّ من قبل عبد الله بن الزبير رضي اللّه عنه‏.‏

فلما بلحه مسير مروان إلى مصر أعد واستعد وشاور الجند في أمره فأشاروا عليه بحفر الخندق والذي أشار به عليه ربيعة بن حبيش الصدفيّ فأمر ابن جحدم بإحضار المحاريث من الكور لحفر الخندق على الفسطاط فلم تبق قرية من قرى مصر إلا حفر من أهلها النفر وكان ابتداء حفره غُرّة المحرّم سنة خمس وستين فما كان شيء أسرع من فراغهم منه حفروه في شهر واحد‏.‏

وكانت الحرب من ورائه يغدون إليها ويروحون فسميت تلك الأيام أيام الخندق والتراويح لرواحهم إلى القتال وكانت المغافر أكثر قبائل أهل مصر عددًا كانوا عشرين ألفًا ونزل مروان عين شمس لعشر خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين فيِ اثني عشر ألفاَ وقيل في عشرين ألفًا فخرج أهل مصر إلى مروان فحاربوه يومًا واحدًا بعين شمس ثم تحاجزوا ورجع أهل صر إلى خندقهم فتحصنوا به وصحبتهم جيوش مروان على باب الخندق فاصطف أهل مصر على الخندق فكانوا يخرجون إلى أصحاب مروان فيقاتلونهم نوبًا نوبًا وأقاموا على ذلك عشرة أيام ومروان مقيم بعين شمس وكتبْ مروان إلى شيعته من أهل مصر كريب بن أبرهة بن الصباح الحميريّ وزياد بن حناطة التجيبيّ وعابس بن سعيما المراديّ يقول‏:‏ إنكم ضمنتم لي ضمانًا لم تقوموا به وقد طالت الأيام والممانعة فقام كريب وزياد وعابس إلى ابن جحدم فقالوا له‏:‏ أيّها الأمير إنه لا قوام لنا بما ترى وقد رأينا أن نسعى في الصلح بينك وبين مروان وقد مل الناس الحرب وكرهوها وقد خفنا أن يُسلمك الناس إلى مروان فيكون محكمًا فيك فقال‏:‏ ومن لي بذلك فقال كريب‏:‏ أنا لك به فسعى كريب وصاحباه في الصلح على أمان كتبه مروان لأهل مصر وغيرهم ممن شرب ماء النيل وعلى أن يُسلم لابن جحدم من بيت المال عشرة آلاف دينار وثلاثمائة ثوب بقطرية ومائة ريطة وعشرة أفراس وعشرين بغلًا وخمسين بعيرًا‏.‏

فتم الصم على ذلك ودخل مروان الفسطاط مستهل جمادى الأولى سنة خمس وستين فنزل دار الفلفل ودفع إلى ابن جحدم جميع ما صالحه عليه وسار ابن جحدم إلى الحجاز ولم يلق كلّ واحد منهما الآخر وتفرّق المصريون وأخذوا في دفن قتلاهم والبكاء عليهم فسمع مروان البكاء فقال‏:‏ ما هذه النوادب فقيل‏:‏ على القتلى‏.‏

قال‏:‏ لا أسمع نائحة تنوح إلاّ أحللت بمن هي في داره العقوبة‏.‏

فسكتن عند ذلك ودفن أهل مصر قتلاهم فيما بين الخندق والمقطم وهي المقابر التي يسميها المصريون مقابر الشهداء ودفن أهل الشام قتلاهم فيما بين الخندق ومنية الأصبغ وكان قتلى أهل مصر ما بين الستمائة إلى السبعمائة وقتلى أهل الشام نحو الثلاثمائة ولما برز مروان من الفسطاط سائرًا إلى الشام سمع وجبة النساء يندبن قتلاهنّ قال‏:‏ ويحهن ما هذا قالوا‏:‏ النساء على مقابرهنّ يندبن قتلاهنّ فعرّج عليهنّ فأمر بالانصراف‏.‏

قالوا‏:‏ كذا هنّ كلّ يوم‏.‏

قال‏:‏ فامنعوهنّ إلاّ من سبب وخرج مروان من مصر إلى الشام لهلال رجب سنة خمس وستين وكان مقامه بالفسطاط شهرين واستخلف ابنه عبد العزيز على مصر وضم إليه بشر بن مروان وكان حدثًا ثم ولي عبد الملك بشرًا بعد ذلك البصرة قال‏:‏ ثم دثر هذا الخندق إلى أيام خلع الأمين بمصر وبيعة المأمون وولى البلد عباد بن محمد بن حبان مولى كندة من قبل المأمون فكتب الأمين بمصر إلى أهل الحوفين في القيام ببيعته وقتال‏:‏ عباد وأهل مصر‏.‏

فتجمع أهل الحوف لذلك واستعدّوا وبلغ أهل مصر فأشاروا على عباد بحفر الخندق فحفروا خندقًا من النيل إلى الجبل واحتفروا هذا الخندق العتيق فكان القتال عليه أيامًا متفرّقة إلى أن قُتل الأمين وتمت بيعة المأمون ثم لم يحفر بعد ذلك إلى يومنا هذا‏.‏

وذكر ابن زولاق أن القائد جوهرًا لما اختط القاهرة وكثر الإرجاف بمسير القرامطة إلى مصر حفر خندق السريّ بن الحكم بباب مدينة مصر وعمل عليه بابًا في ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة وحفر خندقًا في وسط مقبرة مصر وهو الخندق الذي حفره ابن جحدم ابتدأ حفره من بركة الحبش حتى وصله بخندق عبد الرحمن بن جحدم حتى بلغ به قبر محمد بن إدريس الشافعيّ ثم حفر من الجبل إلى أن وصل الخندق ابن جحدم وسط المقابر وبدأ به يوم السبت التاسع من شوّال سنة إحدى وستين وثلاثمائة وفرغ منه في مدّة يسيرة‏.‏

 القباب السبع

‏:‏ هذه القباب بآخر القرافة الكبرى مما يلي مدينة مصر‏.‏

قال ابن سعيد في كتاب المغرب‏:‏ والقباب السبع المشهورة بظاهر الفسطاط هي مشاهد على سبعة من بني المغربيّ قتلهم الخليفة الحاكم بعد فرار الوزير أبي القاسم الحسين بن عليّ بن المغربيّ إلى أبي الفتوح حسن بن جعفر بمكة وفي ذلك يقول أبو القاسم بن المغربيّ‏:‏ إذا شئتَ أنْ ترنو إلى الطَفِ باكيًا فدونَكَ فانظر نحو أرضِ المُقطَّمِ تجد من رجالِ المغربي عصابهّ مضمَّخَةَ الأجسام مِن حلل الدَّمِ فكمْ تركوا محرابَ آي معطَل وكم تركوا من سورةِ لم تُخْتَمِ وقد ذكرت أخبار بني المغربيّ عند ذكر بساتين الوزير من بركة الحبش ويتعلق بهذا الموضع من خبرهم أن أبا الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ بن محمد بن المغربيّ لما خرج من بغداد وصار إلى مصر في أيام العزيز بالله بن المعز لدين الله في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة رتب له في كلّ سنة ستة آلاف دينار وصار من شيوخ الدولة‏.‏

فقال يومًا لمؤدب ولده أبي القاسم حسين وهو عليّ بن منصور بن طالب المعروف بأبي الحسن دوخلة بن القادح سرًّا‏:‏ أنا أخاف همة ابني أبي القاسم أن تنزو به إلى أن يوردنا مورد الأصدر عنه فإن كانت الأنفاس مما تحفظ وتكتب فاكتبها واحفظها وطالعني بها‏.‏

ففال أبو القاسم في بعض الأيام لمؤدّبه هذا‏:‏ إلى متى نرضى بالخمول الذي نحن فيه فقال له‏:‏ وأيّ خمول هذا تأخذون من مولانا في كل سنة ستة آلاف دينار وأبوكم من شيوخ الدولة فقال‏:‏ أريد أن تصار إلى أبوابنا الكتائب والمواكب والمقانب ولا أرضى بأن يُجرى علينا كالولدان والنسوان فأعاد ذلك على أبيه فقال‏:‏ ما أخوفني أن يخضب أبو القاسم هذه من هذه وقبض على لحيته وهامته وعلم ذلك أبو القاسم فصارت بينه وبين مؤدّبه وحشة وكان ذلك في خلافة الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز وتحدّث القائد أبي عبد اللّه الحسين بن جوهر وكان الحاكم قد أكثر من قتل رؤساء دولته وصار يبعث إلى القائد كلما قتل رئيساَ برأسه ويقول‏:‏ هذا عدوّي وعدوّك فقبض على أبي الحسن عليّ بن الحسين المغربيّ والد الوزير أبي القاسم الحسين وعلى أخيه أبي عبد الله محمد بن الحسين وعلى محسن ومحمد أخوي الوزير المذكور لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربعمائة وفرّ الوزير أبو القاسم الحسين بن المغربيّ من مصر في زيّ حمّال لليال من ذي القعدة ولحق بحسان بن الجرّاح وكان من أمره ما كان‏.‏

الأحواض والآبار التي بالقرافة حوض القرافة‏:‏ أمر ببنائه السيدة ست الملك عمة الحاكم بأمر اللّه ابنة المعز لدين اللّه في شعبان سنة ست وستين وثلاثمائة واختلّ في أيام العادل أبي الحسن بن السلار وزير مصر فْي سنْة ست وأربعين وخمسمائة فأمر بعمارته ثم انشق في سنة ثمانين وخمسمائة فجدّده القاضي السعيد ثقة الثقات ذو الرّياستين أبو الحسن عليّ بن عثمان بن يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن أحمد بن يعقوب بن مسلم بن منبه أحد بني عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزوميّ صاحب النظر في ديوان مصر ومصنف كتاب المنهاج في أحكام الخراج‏.‏

وهو كتاب جليل الفائدة ولم تزل آثار هذا القاضي حميدة ومقاصده سديدة وعنده نخوة قرشية ومروءة وعصبية وهو وإن طاب أصولًا فقد زكا فروعًا وإن تفرّقت في سواه فضائل فقد جمعها اللّه فيه جميعًا ولم يزل مذ كان يسعى في الأمانة على صراط مستقيم آخذًا بقوله تعالى أخبارًا عن الكريم ابن الكريم اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم‏.‏

الحوض بجوار قصر القرافة‏:‏ في ظهر الحمّام العزيزي بحضرة فرن القرافة أمرت ببنائه أم الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله واسمها السيدة رصد على يد وكيلها الشريف المحدث أبي إبراهيم أحمد بن القاسم بن الميمون بن حمزة الحسين‏!‏ العبدليّ شيخ الفرّاء وابن الخطاب والفلكيّ‏.‏

حوض بحضرة الأشعوب‏:‏ وهو قصر بش عقيب‏.‏

حوض في داخل قصر أبي المعلوم‏:‏ مجاور للبئر الكبيرة ذات الدواليب بناه المحتسب الفارسي مع عمارة البئر والميضأة في أيام السيدة أمّ العزيز ويقال أن الحوض والبئر من بناء المادراني وإنما جدّدته عمة الحاكم‏.‏

حوض‏:‏ بقصر بني كعب وبجانبه بئر أنشأه الحاجب لؤلؤ وهو من حقوق قصر بني كعب وقد خربت هذه الأحواض ودثرت‏.‏

الآبار التي ببركة الحبش والقرافة بئر أبي سلامة‏:‏ وتعرف ببئر الغنم وهي قبليّ النوبية وموضعها أحسن موضع في البركة وهي التي عنى أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بقوله‏:‏ للَّهِ يومي ببركةِ الحبشِ والأفقُ بينَ الضياء والغَبَشِ والنيلُ تحتَ الرياحِ مضطرب كصارام في يمينِ مرتَعِشِ ونحنُ في روضَة مفوّفة دبْجَ بالنور عطفها ووشي قد نسجتها يدُ الغمام لنا فنحنُ من نسجها على فرشِ وأثقلُ الناسِ كلهم رجل دعاهُ داعي الهوى فلم يَطِشِ فعاطني الراحَ إنّ تارِكَهَا من سَورة الهم غيرَ منتعِشِ واسقني بالكبارِ مترعةً فهن أشفى لشدّةِ العطشِ بئر غربيّ دير مرحنا وبستان العبيديّ‏:‏ ودير مرحنا يُعرف اليوم في زماننا بدير الطين وهو عامر بالنصارى‏.‏

بئر الدرج‏:‏ شرقيّ بساتين الوزير لها درج يُنزل به إليها عملها الحاكم بأمر اللّه وشرقيها قبور النصارى وبعدهم إلى جهة الجبل قبور اليهود والبستان المجاور لعفصة الصغرى أول بركة الحبش على لسان الجبل الخارج إلى البركة مجاورة لبئر النعش وبئر السقايين وهي المعروفة ببئر أبي موسى خُليد وقد صار هذا البستان إلى المهذب بن الوزير‏.‏

بئر الزقاق‏:‏ شرقيّ بئر عفصة الصغرى والزقاق معروف إذ ذاك في الجبل وفي أوّله بئر مربعة كان يُسقى منها البقر والغنم‏.‏

السبعة التي تزار بالقرافة اعلم أن زيارة القرافة كانت أوّلاَ يوم الأربعاء ثم صارت ليلة الجمعة وأمّا زيارة يوم السبت فقيل إِنها قديمة وقيل متأخرة وأوّل من زار يوم الأربعاء وابتدأ بالزيارة من مشهد السيدة نفيسة الشيخ الصالح أبو محمد عبد اللّه بن رافع بن يزحم بن رافع السارعيّ الشافعيّ المغافريّ الزوّار المعروف بعابد ومولده سنة إحدى وستين وخمسمائة ووفاته بالهلالية خارج باب زويلة في ليلة الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وثلاثين وستمائة‏.‏

ودفن بسفح المقطم على تربة بني نهار بحريّ تربة الردينيّ‏.‏

وأوّل من زار ليلة الجمعة الشيخ الصالح المقري أبو الحسن عليّ بن أحمد بن جوشن المعروف بابن الجباس والد شرف الدين محمد بن عليّ بن أحمد بن الجباس فجمع الناس وزار بهم في ليلة الجمعة في كلّ أسبوع وزار معه في بعض الليالي السلطان الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ومشى معه أكابر العلماء‏.‏

وكان سبب تجرّد أبي الحسن بن الجباس وانقطاعه إلى اللّه تعالى أنه دولب مطبخ سكّر شركة رجل فوقف عليهما مال للديوان فسجنا بالقصر فقرأ ابن الجباس في بعض الليالي سورة الرعد فسمعه السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب فقام حتى وقف عليه وسأله عن خبره فأعلمه بأنه سُجن على مبلغ كذا فأمر بالإفراج عنه فأبى إلاّ أن بُفرج عن رفيقه أيضًا فأفرج عنهما جميعًا‏.‏

واتفق أنه مرّ في بعض ليالي الزيارة بزاوية الفخر الفارسيّ فخرج وقال له‏:‏ ما هذه البدعة في غد أبطلها‏.‏

ثم دخل الزاوية وخرج بعد ساعة وأمر بردّ ابن الجباس فلما جاءه قال‏:‏ دُمْ على ما أنت عليه فإني رأيت الساعة قومًا فقالوا‏:‏ هل تعطينا ما يعطينا ابن الجباس في ليالي الجمع فعلمت أن ذلك هو الدعاء والقراءة‏.‏

وأمّا زيارة يوم السبت فقد تقدّم أنه اختلف فيها وحكى الموفق بن عثمان عن القضاعيّ أنه كان يحث على زيارة سبعة قبور وأن رجلًا شكا إليه ضيق حاله‏.‏

والدين‏.‏

فقال له‏:‏ عليك بزيارة سبعة قبور‏.‏

أوّلهم‏:‏ الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن سهل بن الصائغ الدينوريّ وتوفي ليلة الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من شهر رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة‏.‏

والثاني‏:‏ عبد الصمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن إبراهيم البغداديّ صاحب الخلفاء وتوفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة‏.‏

والثالث‏:‏ أبو إبراهيم إسماعيل بن‏.‏

‏.‏

‏.‏

المزنيّ وتوفي سنة أربع وستين ومائتين‏.‏

والرابع‏:‏ القاضي بكار بن قتيبة وتوفي سنة سبعين ومائتين‏.‏

والخامس‏:‏ القاضي المفضل بن فضالة وتوفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين‏.‏

والسادس‏:‏ الماضي أبو بكر عبد الملك بن الحسن القمنيّ وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة‏.‏

والسابع‏:‏ أبو الفيض ذو النون ثوبان بن وكانوا أوّلًا يزورون بعد صلاة الصبح وهم مشاة على أقدامهم إلى أن كانت أيام شيخ الزوّار محمد العجميّ السعودي فزار راكبًا لي يوم السبت بعد طلوع الشمس لأن رجليه كانتا معوجتين لا يستطيع المشي عليهما وذلك في أواخر سنة ثمانمائة وتوفي في عاشر شهر رمضان‏.‏

سنة تسع وثمانمائة‏.‏

فجاء بعده الزائر شمس الدين محمد بن عيسى المرجوشيّ السعوديّ ومحيي الدين عبد القادر بن علاء الدين محمد بن علم الدين بن عبد الرحمن الشهير بابن عثمان ففعلا ذلك ومات ابن عثمان في سابع شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وثمانمائة فاستمرّت الزيارة على ذلك‏.‏

وقد حكى صاحب كتاب محاسن الأبرار ومجالس الأخيار سبعة غير من ذكرنا وسماهم المحققين وهم‏:‏ صلة بن مؤمّل وأبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن عليّ بن جعفر الخوارزميّ وسالم العفيف وأبو الفضل بن الجوهريّ وأبو عبد الله محمد بن عبد اللّه بن الحسين عُرف بالبزار وأبو الحسن عليّ عُرف بطير الوحش وأبو الحسن عليّ بن صالح الأندلسيّ الكحال وذكر أيضاَ سبعة أخر وهم‏:‏ عقبة بن عامر الجهنيّ والإمام أبو عبد اللّه محمد بن إدريس الشافعيّ وأبو بكر الدقاق وأبو إبراهيم إسماعيل المزنيّ وأبو العباس أحمد الجزار والفقيه ابن دحية والفقيه ابن فارس اللخميّ وزيارتهم يوم الجمعة بعد صلاة الصبح والعمل عليها في الزيارة الآن إلاّ أنهم يجتمعون طوائف لكلّ طائفة شيخ ويقيمون مناور كبارًا وصغارًا ويخرجون في ليالي الجمع وفي كلّ سبت بكرة النهار وفي كلّ يوم أربعاء بعد الظهر وهم يذكرون اللّه فيزورون‏.‏

ويجتمع معهم من الرجال والنساء خلائق لا تحصى ومنهم من يعمل ميعاد وعظ ويقال لشيخ كل طائفة الشيخ الزائر فتمرّ لهم في الزيارة أمور منها ما يستحسن ومنها ما ينكر ولكلّ عبد ما نوى‏.‏

فمن أشهر مزارات القرافة‏:‏ قبر الإمام أبي عبد اللّه محمد بن إدريس الشافعيّ‏.‏

رحمة اللّه ورضوانه عليه وتوفي يوم الجمعة آخر يوم من شهر رجب سنة أربع ومائتين بفسطاط مصر وحُمل على الأعناق حتى دفن في مقبرة بني زهرة أولاد عبد اللّه بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ رضي اللّه عنه وعُرفت أيضًا بتربة أولاد ابن عبد الحكم‏.‏

قال القضاعيّ‏:‏ وقد جرّب الناس خير هذه التربة المباركة والقبر المبارك وينقل عن المزنيّ أنه قال فيه‏:‏ سقى اللّه هدْا القبرَ مِنْ وبل مزنِهِ من العفو ما يُغنيهِ عن طلل المزنِ لقد كان كفؤا للعداةِ ومعقلًا وركنًا لهذا الدينِ بل أيّما ركنِ هكذا وقفت عليه ثم رأيت بعد ذلك أن المزنيّ رحمه الله لما دُفن مرّ رجل على قبره وإذا بهاتف يقول‏:‏ فذكر البيتين‏.‏

وقال آخر‏:‏ يا جوهرَ الجوهرِ المكنونِ من مُضَرٍ ومِن قريشٍ ومِن ساداتها الأخَرِ لما توليتَ ولى العلم مكتئبًا وضر موتُكَ أهل البدو والحضَرِ ولآخر‏:‏ أكرمْ به رجلًا ما مثلُهُ رجل مشاركٌ لرسولِ اللهِ في نسبهْ أضحى بمصرَ دفينًا في مقطمها نعمَ المقطمِ والمدفونِ في تربهْ ومناقب الشافعيّ رحمه اللّه كثيرة قد صنف الأئمة فيها عدّة مصنفات وله في تاريخي الكبير المقفى ترجمة كبيرة ومن أبدع ما حُكي من مناقبه‏:‏ أنّ الوزير نظام الملك أبا علي الحسن بن عليّ بن إسحاق لما بنى المدرسة النظامية ببغداد في سنة أربع وسبعين وأربعمائة أحب أن ينقل الإمام الشافعيّ من مقبرته بمصر إلى مدرسته وكتب إلى أمير الجيوش بدر الجماليّ وزير الإمام المستنصر باللّه معدّ يسأله في ذلك وجهز له هدية جليلة فركب أمير الجيوش في موكبه ومعه أعيان الدولة ووجوه المصريين من العلماء وغيرهم وقد اجتمع الناس لرؤيته فلما نُبش القبر شق ذلك على الناس وماجوا وكثر اللغط وارتفعت الأصوات وهموا برجم أمير الجيوش والثورة به فسكتهم وبعث يعلم الخليفة أمير المؤمنين المستنصر بصورة الحال فأعاد جوابه بإمضاء ما أراد نظام الملك فقرئ كتابه بذلك على الناس عند القبر وطردت العامّة والغوغاء من حوله ووقع الحفر حتى انتهوا إلى اللحد فعندما أرادوا قلع ما عليه من اللبن خرج من اللحد رائحة عطرة أسكرت من حضر فوق القبر حتى وقعوا صرعى فما أفاقوا إلاّ بعد ساعة فاستغفروا مما كان منهم وأعادوا ردم القبر كما كان وانصرفوا وكان يومًا من الأيام المذكورة وتزاحم الناس على قبر الشافعيّ يزورونه مدّة أربعين يومًا بلياليها حتى كان من شدّة الازدحام لا يتوصل إليه إلاّ بعناء ومشقة زائدة وكتب أمير الجيوش محضرًا بما وقع وبعث به وبهدية عظيمة مع كتابه إلى نظام الملك فقرئ هذا المحضر والكتاب بالنظامية ببغداد وقد اجتمع العالم على اختلاف طبقاتهم لسماع ذلك فكان يومًا مشهودًا ببغداد وكتب نظام الملك إلى عامّة بلدان المشرق من حدود الفرات إلى ما وراء النهر بذلك وبعث مع كتبه بالمحضر وكتاب أمير الجيوش فقُرئت في تلك الممالك بأسرها فزاد قدر الإمام الشافعيّ عند كافة أهل الأقطار وعامة جميع أهل الأمصار بذلك‏.‏

وقد أوردت في كتاب إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع صلى الله عليه وسلم نظير هذه الواقعة وقع لضريح رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل قبر الشافعيّ يُزار ويتبرّك به إلى أن كان يوم الأحد لسبع خلت من جمادى الأولى سنة ثمان وستمائة فانتهى بناء هذه القبة التي على ضريحه وقد أنشأها الملك الكامل المظفر المنصور أبو المعالي ناصر الدين محمد ظهير أمير المؤمنين ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب وبلغت النفقة عليها خمسين ألف دينار مصرية وأخرج في وقت بنائها بعظام كثيرة من مقابر كانت هناك ودفنت في موضع من القرافة وبهذه القبة أيضًا قبر السلطان الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وقبر أمّه شمسة وقيل فيها عدّة أشعار منها قول الأديب الكاتب ضياء الدين أبي الفتح موسى بن ملهم‏:‏ مررتُ على قبةِ الشافعي فعاين طرفي عليها العشاري فقلتُ لصحبي لا تعجبوا فإنّ المراكِبَ فوقَ البحارِ وقال علاء الدين أبو عليّ عثمان بن إبراهيم النابلسي‏:‏ لقد أصبح الشافعيّ الإما مُ فينا له مذهبَ مذهبُ ولو لم يكن بحرُ علمٍ لما غدا وعلى قبره مركبُ وقال آخر‏:‏ أتيتُ لقبرِ الشافعيّ أزورُهُ تعرّضنا فُلْك وما عندهُ بحرُ فقلتُ تعالى الله تِلكَ إشارة تشيرُ بأن البحرَ قد ضمَّهُ القبرُ وقال شرف الدين أبو عبد اللّه محمد بن سعيد بن حماد البوصيريّ صاحب البردة‏:‏ ومذ غاضَ طوفانُ العلوم بِقبره استوى الفُلْكُ من ذاك الضريحِ على الجودي ومنها قبر الإمام الليث بن سعد‏:‏ رحمه الله قد اشتهر قبره عند المتأخرين وأوّل ما عرفته من خبر هذا القبر أنه وجدت مصطبة في آخر قباب الصدف وكانت قباب الصدف أربعمائة قبة فيما يقال عليها مكتوب الإمام الفقيه الزاهد العالم الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث المصريّ مفتي أهل مصر كما ذكر في كتاب هادي الراكبين في زيارة قبور الصالحين لأبي محمد عبد الكريم بن عبد اللّه بن عبد الكريم بن عليّ بن محمد بن عليّ بن طلحة وفي كتاب مرشد الزوّار للموفق ابن عثمان‏.‏

وذكر الشيخ محمد الأزهريّ في كتابه فأي الزيارة‏:‏ أن أوّل من بنى عليه وحيز كبير التجار أبو زيد المصريّ بعد سنة أربعين وستمائة ولم يزل البناء يتزايد إلى أنْ جَدّد الحاج سيف الدين المقدّم عليه قبته في أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون قبيل سنهّ ثمانين وسبعمائة ثم جُدّدت في أيام الناصر فرج بن الظاهر برقوق على يد الشيخ أبي الخير محمد ابن الشيخ سليمان المادح في محرّم سنة إحدى عشرة وثمانمائة‏.‏

ثم جدّدت في سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة على يد امرأة قدمت من دمشق في أيام المؤيد شيخ عُرفت بمرحبا بنت إبراهيم بن عبد الرحمن أخت عبد الباسط‏.‏

وكان لها معروف وبرّ توفيت في تاسع عشري ذي القعدة سنة أربعين وثمانمائة ويجتمع بهذه القبة في ليلة كلّ سبت جماعة من القرّاء فيتلون القرآن الكريم تلاوة حسنة حتى يختموا ختمة كاملة عند السحر ويقصد المبيت عندهم للتبرّك بقراءة القرآن عدّة من الناس ثم تفاحش الجمع وأقبل النساء والأحداث والغوغاء فصار أمرًا منكرًا لا ينصتون لقراءة ولا يتعظون بمواعظ بل يحدث منهم على القبور ما لا يجوز‏.‏

ثم زادوا في التعدّي حتى حفروا ما هنالك خارج القبة من القبور وبنوا مباني اتخذوها مراحيض وسقايات ماء ويزعم من لا علم عنده أن هذه القراءة في كل ليلة سبت عند قبر الليث بزعمهم قديمة من عهد الإمام الشافعيّ وليس ذلك بصحيح وإنما حدثت بعد السبعمائة من سني الهجرة بمنام ذكر بعضهم أنه رآه وكانوا إذ ذاك يجتمعون للقراءة عند قبر أبي بكر الأدفويّ‏.‏

المقابر خارج باب النصر اعلم أن المقابر التي هي الآن خارج باب النصر إنما حدثت بعد سنة ثمانين وأربعمائة وأوّل تربة بنيت هناك تربة أمير الجيوش بدر الجمالي لما مات ودفن فيها وكان خطها يُعرف برأس الطابية قال الشريف أمين الدولة أبو جعفر محمد بن هبة اللّه العلويّ الأفطسيّ وقد مرّ بتربة الأفضل‏:‏ أجرى دمًا أجفانيهْ جَدَثٌ برأسِ الطابيَهْ بالٍ وما بليت أيا ديهِ عليّ الباقيَهْ وبخارج باب النصر في أوائل المقابر قبر زينب بنت أحمد بن محمد بن عبد اللّه بن جعفر ابن الحنفية يُزار وتسميه العامّة مشهد الست زينب ثم تتابع دفن الناس موتاهم في الجهة التي هي اليوم من بحري مصلّى الأموات إلى نحو الريدانية وكان ما في شرقيّ هذه المقبرة إلى الجبل براحًا واسعًا يُعرف بميدانِ القبَق وميدانِ العيد والميدان الأسود وهو ما بين قلعة الجبل إلى قبة النصر تحت الجبل الأحمر‏.‏

فلما كان بعد سنة عشرين وسبعمائة ترك الملك الناصر محمد بن قلاون النزول إلى هذا الميدان وهجره فأوّل من ابتدأ فيه بالعمارة الأمير شمس الدين قراسنقر فاختط تربته التي تجاور اليوم تربة الصوفية وبنى حوض ماء للسبيل وجعل فوقه مسجدًا وهذا الحوض بجوار باب تربة الصوفية أدركتهُ عامرًا هو وما فوقه وقد تهدّم وبقيت منه بقية‏.‏

ثم عمر بعده نظام الدين آدم أخو الأمير سيف الدين سلار تجاه تربة قراسنقر مدفنًا وحوض ماء للسبيل ومسجدًا معلقًا وتتابع الأمراء والأجناد وسكان الحسينية في عمارة الترب هناك حتى انسدّت طريق الميدان وعمروا الجوّانية أيضًا وأخذ صوفية الخانقاه الصلاحية لسعيد السعداء قطعة قدر فدّانين وأداروا عليها سورًا من حجر وجعلوها مقبرة لمن يموت منهم وهي باقية إلى يومنا هذا وقد وسعوا فيها بعد سنة تسعين وسبعمائة بقطعة من تربة قراسنقر وما برح الناس يقصدون تربة الصوفية هذه لزيارة من فيها من الأموات ويرغبون في الدفن بها إلى أن تولى مشيخة الخانقاه الشيخ شمس الدين محمد البلاليّ فسمح لكلّ أحد أن يقبر ميته بها على مال يأخذه منه فقبر بها كثير من أعوان الظلمة ومن لم تشكر طريقته فصارت مجمع نسوان ومجلس لعب‏.‏

وعمر أيضاَ بجوار تربة الصوفية الأمير مسعود بن خطير تربة وعمل لها منارة من حجارة لا نظير لها في هيئتها وهي باقية‏.‏

وعمر أيضًا مجد الدين السلاميّ تربة وعمر الأمير سيف الدين كوكاي تربة وعمر الأمير طاجاي الدوادار على رأس القبق مقابل قبة النصر تربة وعمر الأمير سيف الدين طشتمر الساقي على الطريق تربة وبنى الأمراء إلى جانبه عدّة ترب وبنى الطواشي محسن البهاء تربة عظيمة وبنت خوند طغاي تربة تجاه تربة طشتمر الساقي وجعلت لها وقفًا‏.‏

وبنى الأمير طغاي تمر النجميّ الدوادار تربة وجعلها خانقاه وأنشأ بجوارها حمّامًا وحوانيت وأسكنها للصوفية والقرّاء وبنى الأمير منكلي بغا الفخريّ تربة والأمير طشتمر طلليه تربة والأمير أرنان تربة وبنى كثير من الأمراء وغيرهم الترب حتى اتصلت العمارة من ميدان القبق إلى تربة الروضة خارج باب البرقية‏.‏

وما مات الملك الناصر حتى بطل من الميدان السباق بالخيل ومنعت طريقه من كثرة العمائر وأدركتُ بعد سنة ثمانين وسبعمائة عدّة عواميد من رخام منصوبة يُقال لها عواميد السباق فيما بين قبة النصر وقريب من القلعة‏.‏

وأوّل من عمر في البراح الذي كان فيه عواميد السباق الأمير يونس الدوادار في أيام الملك الظاهر تربته الموجودة هناك‏.‏

ثم عمر الأمير فجماس ابن عمّ الملك الظاهر برقوق تربة بجانب تربة يونس وأحيط على قطعة كبيرة حائط وقبر فيها من ماسّ من مماليك السلطان وقبر فيها الشيخ علاء الدين السيراميّ شيخ الخانقاه‏.‏

الظاهرية والشيخ المعتقد طلحة والشيخ المعتقد أبو بكر البجاءي‏.‏

فلما مرض الملك الظاهر برقوف أوصى أن يدفن تحت أرجل هؤلاء الفقراء وأن يبنى على قبره تربة فدفن حيث أوصى وأخذت قطعة مساحتها عشرة آلاف ذراع وجعلت خانقاه وجعل فيها قبة على قبر السلطان وقبور الفقراء المذكورين وتجدّد من حينئذ هناك عدّة ترب جليلة حتى صار الميدان شوارع وأزقة ونقل الملك الناصر فرج بن برقوق سوق الجمال وسوق الحمير من تحت القلعة إلى تجاه التربة التي عمرها على قبر أبيه فاستمرّ ذلك أيامًا في سنة أربع عشرة وثمانمائة ثم أعيدت الأسواق إلى مكانها وكان قصده أن يبني هناك خانًا كبيرًا ينزل فيه المسافرون ويجعل بجانبه سوقًا وبنى طاحونًا وحمّامًا وفرنًا لتعمر تلك الجهة بالناس فمات قبل بناء الخان وخلت الحمّام والطاحون والفرن بعد قتله‏.‏

كنائس اليهود قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيرًا ‏"‏ ‏"‏ الحج ‏"‏ قال المفسرون‏:‏ الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات كنائس اليهود والمساجد للمسلمين‏.‏

قاله ابن قتيبة‏:‏ والكنيس كلمة عبرانية معناها بالعربية الموضع الذي يُجتمع فيه للصلاة ولهم بديار مصر عدّة كنائس منها كنيسة دموة بالجيزة وكنيسة جوجر من القرى الغربية وبمصر الفسطاط كنيسة بخط المصاصة في درب الكرمة وكنيستان بخط قصر الشمع وبالقاهرة كنيسة بالجودرية وفي حارة زويلة خمس كنائس‏.‏

 كنيسة دموه

هذه الكنيسة أعظم معبد لليهود بأرض مصر فإنهم لا يختلفون في أنها الموضع الذي كان يأوي إليه موسى بن عمران صلوات الله عليه حين كان يبلغ رسالات اللّه عز وجلّ إلى فرعون مدّة مقامة بمصر منذ قدم من مدين إلى أن خرج ببني إسرائيل من مصر‏.‏

ويزعم يهود أنها بنيت هذا البناء الموجود بعد خراب بيت المقدس الخراب الثاني على يد طيطش ببضع وأربعين سنة وذلك قبل ظهور الملة الإسلامية بما ينيف على خمسمائة سنة وبهذه الكنيسة شجرة زيزلخت في غاية الكبر لا يشكوّن في أنها من زمن موسى عليه السلام ويقولون أنّ موسى عليه السلام غرس عصاه في موضعها فأنبت اللّه هناك هذه الشجرة وأنها لم تزل ذات أغصان نصرة وساق صاعد في السماء مع حسن استواء وثخن في استقامة إلى أن أنشأ الملك الأشرف شعبان بن حسين مدرسته تحت القلعة فذُكر له حًسن هذه الشجرة فتقدم بقطعها لينتفع بها في العمارة فمضوا إلى ما أُمروا به من ذلك فأصبحت وقد تكوّرت وتعقلت وصارت شنيعة المنظر فتركوها واستمرّت كذلك مدّة فاتفق أن زني يهودي بيهودية تحتها فتهدّلت أغصانها وتحات ورقها وجفت حتى لم يبق بها ورقة خضراء وهي باقية كذلك إلى يومنا هذا ولهذه الكنيسة عيد يرحل اليهود بأهاليهم إليها في عيد الخطاب وهو في شهر سيوان ويجعلون ذلك بدل حجهم إلى القدس وقد كان لموسى عليه السلام أنباء قد قصها الله تعالى في القرآن الكريم وفي التوراة وروى أهل الكتاب وعلماء الأخبار من المسلمين كثيرًا منها وسأقص عليك في هذا الموضع منها ما فيه كفاية إذ كان ذلك من شرط هذا الكتاب‏.‏

موسى بن عمران‏:‏ وفي التوراة عمرام بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليهم أمه يوحانذ بنت لاوي فهي عمة عمران والد موسى ولد بمصر في اليوم السابع من شهر آذار سنة ثلاثين ومائة لدخول يعقوب على يوسف عليهما السلام بمصر وكان بنو إسرائيل منذ مات لاوي بن يعقوب في سنة أربع وتسعين لدخول يعقوب مصر في البلاء مع القبط وذلك أن يوسف عليه السلام لما مات في سنة ثمانين من قدوم يعقوب مصر كان الملك إذ ذاك بمصر دارم بن الريان وهو الفرعون الرابع عندهم وتسميه القبط دريموس فاستوزر بعده رجلاَ من الكهنة يقال له بلاطس فحمله على أذى الناس وخالف ما كان عليه يوسف وساءت سيرة الملك حتى اغتصب كلّ امرأة جميلة بمدينة منف وغيرها من النواحي فشق ذلك من فعله على الناس وهمّوا بخلعه من المُلك فقام الوزير بلاطس في الوساطة بينه وبين الناس وأسقط عنهم الخراج لثلاث سنين وفرق فيهم مالًا حتى سكنوا واتفق أن رجلاَ من الإسرائيليين ضرب بعض سدنة الهياكل فأدماه وعاب دين الكهنة فغضب القبط وسألوا الوزير أن يُخرج بنى إسرائيل من مصر فأبى‏.‏

وكان دارم الملك قد خرج إلى الصعيد فبعث إليه يخبره بأمر الإسرائيليّ وما كان من القبط في طلبهم إخراج بني إسرائيل من مصر فأرسل إليه أن لا يحدث في القوم حدثًا دون موافاته فشغب القبط وأجمعوا على خلع الملك وإقامة غيره فسار إليهم الملك وكانت بينه وبينهم حروب قتل فيها خلق كثير ظفر فيها الملك وصلب ممن خالفه بحافتي النيل طوائف لا تحصى وعاد إلى أكثر مما كان عليه من ابتزاز النساء وأخذ الأموال واستخدام الأشراف الوجوه من القبط ومن بنى إسرائيل فأجمع الكلّ على ذمّه‏.‏

واتفق فأقام الوزير من بعده فبم الملك ابنه معاديوش وكان صبيًا ويسميه بعضهم معدان فاستقام الأمر له وردّ النساء اللاتي اغتصبهنّ أبوه وهو خامس الفراعنة فكثر بنو إسرائيل في زمنه ولهجوا بسب الأصنام وذمّها وهلك بلاطس الوزير وقام من بعده في الوزارة كاهن يُقال له أملاده فأمر بإفراد بني إسرائيل ناحية في البلد بحيث لا يختلط بهم غيرهم فاقطعوا موضعًا في قلبيّ مدينة منف صاروا إليه وبنوا فيه معبدًا كانوا يتلون به صحف إبراهيم عليه السلام فخطب رجل من القبط بعض نسائهم فأبوا أن يُنكحوه وقد كان هويَها‏.‏

فأكبر القبط فعلهم وصاروا إلى الوزير وشكوا من بني إسرائيل وقالوا‏:‏ هؤلاء قوم يعيبوننا ويرغبون عن مناكحتنا ولا نُحب أن يجاورونا ما لم يدينوا بديننا‏.‏

فقال لهم الوزير‏:‏ قد علمتم إكرام طوطيس الملك لجدّهم ونهر اوش من بعده وقد علمتم بركة يوسف حتى جعلتم قبره وسط النيل فأخصب جانبا مصر بمكانه وأمرهم بالكف عن بني اسرائيل فأمسكوا إلى أن احتجب معدان وقام من بعده في الفلك ابنه اكسامس الذي يسميه بعضهم كاسم ابن معدان بن الريان بن الوليد بن دومع العمليقيّ وهو السادس من فراعنة مصر وكان أوّلهم يقال له فرعان فصار اسمًا لكلّ من تجبر وعلا أمره وطالت أيام كاسم ومات وزير أبيه فأقام من بعده رجلًا من بيت المملكة يقال له ظلما بن قومس وكان شجاعًا ساحرًا كاهنًا كاتبًا حكيمًا دهيًا متصرّفًا في كل فنّ وكانت نفسه تنازعه المَلك ويُقال أنه من ولد أشمون الملك وقيل من ولد صا‏.‏

فأحبه الناس وعمر الخراب وبني مدنًا من الجانبين ورأى في نجومه أته سيكون حدث وشدّة وسكا القبط إليه من الإسرائيليين فقال‏:‏ هم عبيدكم‏.‏

فكان القبطيّ إذا أراد حاجة سخَّر الإسرائيليّ وضربه فلا يغير عليه أحد ولا ينكر عليه ذلك‏.‏

فإن ضرب الإسرائيليّ أحدا من القبط قُتِلَ البتة وكذلك كانت تفعل نساء القبط بالنساء الإسرائيليات فكانت أوّل شدّة وذلّ أصاب بني إسرائيل وكثر ظلمهم وأذاهم من القبط واستبدّ الوزير ظلمًا بأمر البلد كما كان العزيز مع نهر اوش‏.‏

وتوفي اكسامس الملك فاتُّهم ظلمان بأنه سمّه تركب في سلاحه وأقام لاطس الملك مكان أبيه وكان ابنه جريئًا معجبًا فصرف ظلما بن قومس عما كان عليه من خلافته واستخلف رجلًا يُقال له لا هوق من ولد صا وأنفذ ظلما عاملًا على الصعيد وسير معه جماعة من الإسرائيليين وزاد تجبره وعتوّه وأمر الناس جميعًا أن يقوموا على أرجلهم في مجلسه ومدّيده إلى الأموال ومنع الناس من فضول ما بأيديهم وقصرهم على القوت وابتز كثيرًا من النساء وفعل أكثر مما فعله ملك تقدّمه واستعبد بني إسرائيل فأبغضه الخاص والعام وكان ظلما لما صرف عن الوزارة وخرج إلى الصعيد أراد إزالة الملك والخروج عن طاعته فجبى المال وامتنع من حمله وأخذ المعادن لنفسه وهمّ أن يُقيم ملكًا من ولد قبطرين ويدعو الناس إلى طاعته ثم انصرف عن ذلك ودعا لنفسه وكاتب الوجوه والأعيان فافترق الناس وتطاول كل واحد من أبناء الملوك إلى الملك وطمع فيه ويقال أنَّ روحانيًا ظهر لظلما وقال له‏:‏ إن أطعتني قلدتك مصر زمانًا طويلًا فأجابه وقرّب إليه أشياء منها غلام من بني إسرائيل فصار عوناٌ له وبلغ الملك خبر خروج ظلما عن طاعته فوجّه إليه قائدًا قلده مكانه وأمره أن يقبض على ظلما‏.‏

ويبعث به إليه موثقًا فسار إليه وخرج ظلما للقائه وحاربه فظفر به واستولى على ما معه فجهز إليه الملك قائدًا آخر فهزمه وسار في إثره وقد كثف جمعه فبرز إليه الملك واحتربا فكانت لظلما على الملك فقتله واستولى على مدينة منف ونزل قصر المملكة‏.‏

وهذا هو فرعون موسى عليه السلام وبعضهم ئسميه الوليد بن مصعب وقيل هو من العمالقة وهو سابع الفراعنة‏.‏

ويقال أنه كان قصيرًا طويل اللحية أشهل العينين صغير العين اليسرى في جبينه شامة وكان أعرج وقيل أنه كان يُكنّى بأبي مرّة وأن اسمه الوليد بن مصعب وأنه أوّل من خضب بالسواد لما شاب دله عليه إبليس‏.‏

وقيل أنه كان عن القبط وقيل أنه دخل منف على أتان يحمل النطرون ليبيعه وكان الناس فد اضطربوا في تولية الملك فحكموه ورضوا بتولية من يوليه عليهم وذلك أنهم خرجوا إلى ظاهر مدينة منف ينتظرون أوّل من بظهر عليهم ليحكِّموه فكان هو أوّل من أقبل بحماره فلما حكموه ورضوا بحكمه أقام نفسه ملكًا عليهم وأنكر قوم هذا وقالوا‏:‏ كان القوم أدهى من أن يقلدوا ملكهم من هذه سبيله فلمّا جلس في المُلك اختلف الناس عليه فبذل لهم الأموال وقتل من خالفه بمن أطاعه حتى اعتدل أمره ورتب المراتب وشيد الأعمال وبنى المدن وخندق الخنادق وبنى بناحية العريش حصنًا وكذلك على جميع حدود مصر واستخلف هامان وكان يقرب منه في نسبه وأثار الكنوز وصرفها في بناء المدائن والعمارات وحفر خليج سردوس وغيره وبلغ الخراج بمصر في زمنه سبعة وتسعين ألف ألف دينار بالدينار الفرعونيّ وهو ثلاثة مثاقيل‏.‏

وفرعون هو أوّل من عرّف العرفاء على الناس وكان ممن صحبه من بني إسرانيل رجل يُقال له أمري وهو الذي يقال له بالعبرانية عمرام وبالعربية عمران بن قاهث بن لاوي وكان قدم مصر مع يعقوب عليه السلام فجعله حرسًا لقصره يتولى حفظه وعنده مفاتيحه وأغلاقه بالليل وكان فرعون قد رأى في كهانته ونجومه أنه يجري هلاكه على يد مولود من الإسرائيليين فمنعهم من المناكحة ثلاث سنين التي رأى أن ذلك المولود يولد فيها فأتت امرأة أمري إليه في بعض الليالي بشيء قد أصلحته له فواقعها فاشتملت منه على هارون وولدته لثلاث وسبعين من عمره في سنة سبع وعشرين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر ثم أتته مرّة أخرى فحملت بموسى لثمانين سنة من عمره ورأى فرعون في نجومه أنه قد حُمل بذلك المولود فأمر بذبح الذكران من بني إسرائيل وتقدم إلى القوابل بذلك فولد موسى عليه السلام في سنة ثلاثين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر وفي سنة أربع وعشرين وأربعمائة لولادة إبراهيم الخليل عليه السلام ولمضيّ ألف وخمسمائة وست سنين من الطوفان وكان من أمره ما قصه اللّه سبحانه من قذف أمّه له في التابوت فألقاه النيل إلى تحت قصر الملك وقد أرصدت أمّه أخته على بعد لتنظر من يلتقّطه فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته واستخرجته من التابوت فرحمته وقالت‏:‏ هذا من العبرانيين من لنا بظئر ترضعه فقالت لها أخته أنا آتيك بها وجاءت بأمّه فاسترضعتها له ابنة فرعون إلى أن فُصل فاتت به إلى ابنة فرعون وسمته موسى وتبنته ونشأ عندها وقيل بل أخذته امرأة فرعون واسترضعت أمّه ومنعت فرعون من قتله إلى أن كبر وعظم شأنه فردّ إليه فرعون كثيرًا من أمره وجعله من قواده وكانت له سطوة ثم وجهه لغزو اليونانيين وقد عاثوا في أطراف مصر فخرج في جيش كثيف وأوقع بهم فأظفره اللّه وقتل منهم كثيرًا وأسر كثيرًا وعاد غانمًا فسر ذلك فرعون وأعجب به هو وامرأته واستولى موسى وهو غلام على كثير من أمر فرعون فأراد فرعون أن يستخلفه حتى قتل رجلًا من أشراف القبط له قرابة من فرعون فطلبه وذلك أنه خرج يومًا يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى والرضاع فرأى عبرانيًا يُضرب فقتل المصريّ الذي ضربه ودفنه وخرج يومًا آخر فإذا برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر فزجره‏.‏

فقال له‏:‏ ومن جعل لك هذا أتريد أن تقتلني كما قتلت المصريّ بالأمس ونما الخبر إلى فرعون فطلبه وألقى الله في نفسه الخوف لما يريد من كرامته فخرج من منف ولحق بمدين عند عقبة أيلة وبنو مدين أمة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام كانوا ساكنين هناك وكان فراره وله من العمر أربعون سنة فنزل عند بيرون وهو شعيب عليه السلام من ولد مدين بن إبراهيم وكان من تزويجه ابنته ورعايته غنمه ما كان فأقام هنالك تسعًا وثلاثين سنة نكح فيها صفوراء ابنة شعيب وبنو إسرائيل مع فرعون وأهل مصر كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ يسوموهم سوء العذاب ‏"‏ فلما مضى من سنة الثمانين لموسى شهر وأسبوع كلمه اللّه جلّ اسمه وكان ذلك في اليوم الخامس عشر من شهر نيسان وأمره أن يذهب إلى فرعون وشدّ عضده بأخيه هارون وأيده بآيات منها قلب العصا حية وبياض يده من غير سوء وغير ذلك من الآيات العشر التي أحلها الله بفرعون وقومه وكان مجيء الوحي من اللّه تعالى إليه وهو ابن ثمانين سنة ثم قدم مصر في شهر أيار ولقي أخاه هارون فسرّ به وأطعمه جلبانًا فيه ثريد وتنبأ هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة وغدا به إلى فرعون وقد أوحي إليهما أن يأتيا إلى فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذ أنهم من هلكة القبط وجور الفراعنة ويخرجون إلى الأرض المقدسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب فأبلغا ذلك بني إسرائيل عن الله فآمنوا بموسى واتبعوه ثم حضرا إلى فرعون فأقاما ببابه أيامًا وعلى كل منهما جبة صوف ومع موسى عصاه وهما لا يصلان إلى فرعون لشدّة حجابه حتى دخل عليه مضحك كان يلهو به فعرّفه أن بالباب رجلين يطلبان الإذن عليك بزعمان أن إلههما قد أرسلهما إليك فأمر بإدخالهما‏.‏

فلما دخلا عليه خاطبه موسى بما قصه الله في كتابه وأراه آية العصا وآيته في بياض اليد فغاظ فرعون ما قاله موسى وهمّ بقتله فمنعه الله سبحانه بأن رأى صورة قد أقبلت ومسحت على أعينهم فعموا ثم أنه لما فتح عن عينيه أمر قومًا آخرين بقتل موسى فأتتهم نار أحرقتهم فازداد غيظه وقال لموسى‏:‏ من أين ذلك هذه النواميس العظام أسحرة بلدي علموك هذا أم تعلمته بعد خروجك من عندنا فقال‏:‏ هذا ناموس السماء وليس من نواميس الأرض‏.‏

قال فرعون‏:‏ ومن صاحبه قال‏:‏ صاحب البنية العليا‏.‏

قال‏:‏ بل تعلمتَها من بلدي وأمر بجمع السحرة والكهنة وأصحاب النواميس وقال‏:‏ اعرضوا عليّ أرفع أعمالكم فإني أرى نواميس هذا الساحر رفيعة جدًا‏.‏

فعرضوا عليه أعمالهم فسرّه ذلك وأحضر موسى وقال له‏:‏ لقد وقفت على سحرك وعندي من يفوق عليك‏.‏

فواعدهم يوم الزينة وكان جماعة من البلد قد اتبعوا موسى فقتلهم فرعون ثم إنه جمع بين موسى وبين سحرته وكانوا مائتي ألف وأربعين ألفًا يعملون من الأعمال ما يحير العقول ويأخذ القلوب من دخن ملوّنات ترى الوجوه مقلوبة مشوّهة منها الطويل والعريض والمقلوب جبهته إلى أسفل‏.‏

ولحيته إلى فوق ومنها ما له قرون ومنها ما له خرطوم وأنياب ظاهرة كأنياب الفيلة ومنها ما هو عظيم في قدر الترس الكبير ومنها ما له آذان عظام وشبه وجوه القرود بأجساد عظيمة تبلغ السحاب وأجنحة مركبة على حيات عظيمة تطير في الهواء ويرجع بعضها على بعض فيبتلعه وحيات يخرج من أفواهها نار تنتشر في الناس وحيات تطير وترجع في الهواء وتنحدر على كلّ من حضر لتبتلعه‏.‏

فيتهارب الناس منها وعصى تحلق في الهواء فتصير حيات برؤوس وشعور وأذناب تهمّ بالناس أن تنهشهم ومنها ما له قوائم ومنها تماثيل مهولة وعملوا له دخنًا تُغشي أبصار الناس عن النظر فلا يرى بعضهم بعضًا ودخنا تُطهر صورًا كهيئة النيران في الجوّ على دواب يصدم بعضها بعضًا ويسمع لها ضجيج وصورًا خضرًا على دواب خضر وصورًا سودًا على دواب سود هائلة‏.‏

فلما رأى فرعون ذلك سره ما رأى هو ومن حضره واعْتم موسى ومن آمن به حتى أوحى الله إليه لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا‏.‏

وكان للحسرة ثلاثة رؤساء ويُقال بل كانوا سبعين رئيسًا فأسرّ إليهم موسى‏:‏ ‏"‏ قد رأيت ما صنعتم فإن قُهرتكم أتؤمنون بالله ‏"‏ فقالوا نفعل‏.‏

فغاظ فرعون مسارّة موسى لرؤساء السحرة هذا والناس يسخرون من موسى وأخيه ويهزؤون بهما وعليهما دراعتان من صوف وقد احتز ما بليف فلوّح موسى بعصاه حتى كابت عن الأعين وأقبلت في هيئة تنين عظيم له عينان يتوقدان والنار تخرج من فيه ومنخريه فلا يقع على أحد إلا بَرُص ووقع من ذلك على ابنة فرعون فبرصت وصار التنين فاغرًا فاه فالتقط جميع ما عملته السحرة ومائتي مركب كانت مملوءة حبالًا وعصيًا وسائر من فيها من الملاحين وكانت في النهر الذي يتصل بدار فرعون وابتلع عمدًا كثيرة وحجارة قد كانت حُملت إلى هناك ليبنى بها ومرّ التنين إلى قصر فرعون ليبتلعه وكان فرعون جالسًا في قبة على جانب القصر ليشرف على عمل السحرة فوضع نابه تحت القصر ورفع نابه الآخر إلى أعلاه ولهب النار يخرج من فيه حتى أحرق مواضع من القصر فصاح فرعون مستغيثًا بموسى عليه السلام فزجر موسى التنين فانعطف ليبتلع الناس ففرّوا كلهم من بين يديه وانساب يريدهم‏.‏

فأمسكه موسى وعاد في يده عصا كما كان ولم ير الناس من تلك المراكب وما كان فيها من الحبال والعصيّ والناس ولا من العمد والحجارة وما شربه من ماء النهر حتى بانت أضه أثرًا‏.‏

فعند ذلك قالت السحرة‏:‏ ما هذه من عمل الآدميين وإنّما هو من فعل جبار قدير على الأشياء‏.‏

فقال لهم موسى‏:‏ أوفوا بعهدكم وإلاَ سلطته عليكم يبتلعكم كما ابتلع غيركم فآمنوا بموسى وجاهروا فرعون وقالوا‏:‏ هذا من فعل إله السماء وليس هذا من فعل أهل الأرض‏.‏

فقال‏:‏ قد عرفت أنكم قد واطأتموه عليّ وعلى ملكي حسدًا منكم لي وأمر فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وصُلبوا وجاهرته امرأته والمؤمن الذي كان يكتم إيمانه وانصرف موسى فأقام بمصر يدعو فرعون أحد عشر شهرًا من شهر أيار إلى شهر نيسان المستقبل وفرعون لا يجيبه بل اشتدّ جوره على بني إسرائيل واستعبادهم واتخاذهم سخريًا في مهنة الأعمال فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشر واحدة بعد أخرى وهو يثبت لهم عند وقوعها ويفزع إلى موسى في الدعاء بانجلائها ثم يلح عند انكشافها فإنها كانت عذابًا من الله عز وجلّ عذّب الله بها فرعون وقومه‏.‏

فمنها أنّ ماء مصر صار دمًا حتى هلك أكثر أهل مصر عطشًا وكثرت عليهم الضفادع حتى وسخت جميع مواضعهم وقذرت عليهم عيشهم وجميع مآكلهم وكثر البعوض حتى حبس الهواء ومنع النسيم وكثر عليهم ذباب الكلاب حتى جرّح أبدانهم ونغص عليهم حياتهم وماتت دوابهم وأغنامهم فجأة وعمّ الناس الجرب والجدريّ حتى زاد منظرهم قبحًا على مناظر الجذمي ونزل من السماء بَرَدٌ مخلوط بصواعق أهلك كل ما أدركه من الناس والحيوانات‏.‏

وذهب بجميع الثمار وكثر الجراد والجنادب التي أكلت الأشجار واستقصت أصول النبات وأظلمت الدنيا ظلمة سوداء غليظة حتى كانت من غلظها تحسُّ بالأجسام وبعد ذلك كله نزل الموت فجأة على بكور أولادهم بحيث لم يبق لأحد منهم ولد بكر إلاّ فجع به في تلك الليلة ليكون لهم في ذلك شغل عن بني إسرائيل وكانت الليلة الخامسة عشر من شهر نيسان سنة إحدى وثمانين لموسى فعند ذلك سارع فرعون إلى ترك بني إسرائيل فخرج موسى عليه السلام من ليلته هذه ومعه بنو إسرائيل من عين شمس وفي التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملًا من الغنم إن كان كفايتهم أو يشتركون مع جيرانهم إن كان أكثر وأن ينضحوا من دمه على أبوابهم ليكون علامة وأن يأكلوا شواه رأسه وأطرافه ومعاه ولا يكسروا منه عظمًا ولا يدعوا منه شيئًا خارج البيوت وليكن خبزهم فطيرًا‏.‏

وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة وخفافهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم ويخرجوا ليلًا‏.‏

وما فضل من عشائهم ذلك أحرقوه بالنار وشرعَ هذا عيدًا لهم ولأعقابهم ويسمى هذا عيد الفصح وفيها أنهم أمروا أن يستعيروا منهم حليًا كثيرًا يخرجون به فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام استخرجه موسى من المدفن الذي كان فيه بإلهام من الله تعالى وكانت عدّتهم ستمائة ألف رجل محارب سوى النساء والصبيان والغرباء وشغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم فساروا ثلاث مراحل ليلًا ونهارًا حتى وافوا إلى فوهة الجبروت وتُسمى نار موسى وهو ساحل البحر بجانب الطور فانتهى خبرهم إلى فرعون في يومين وليلة فندم بعد خروجهم وجمع قومه وخرج في كثرة كفاك عن مقدارها قول اللّه عز وجل أخبارًا عن فرعون أنه قال عن بني إسرائيل وعدّتهم ما قد ذكر على ما جاء في التوراة أن هؤلاء لشرذمة قليلون وأنهم لنا لغائطون ولحق بهم في اليوم الحادي والعشرين من نيسان فأقام العسكران ليلة الواحد والعشرين على شاطئ البحر وفي صبيحة ذلك اليوم أمر موسى أن يَضرب البحر بعصاه ويقتحمه ففلق اللّه لبني إسرائيل البحر اثني عشر طريقًا عبر كلّ سبط من طريق وصارت المياه قائمة عن جانبهم كأمثال الجبال وصير قاع البحر طريقًا مسلوكًا لموسى ومن معه وتبعهم فرعون وجنوده فلما خاض بنو إسرائيل إلى عدوة الطور انطبق البحر على فرعون وقومه فأغرقهم اللّه جميعًا ونجا موسى وقومه ونزل بنو إسرائيل جميعًا في الطور وسجوا مع موسى بتسبيح طويل قد ذكر في التوراة وكانت مريم أخت موسى وهارون تأخذ الدف بيديها ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول وهي ترتل التسبيح لهنّ‏.‏

ثم ساروا في البرّ ثلاثة أيام وأقفرت مصر من أهلها ومرّ موسى بقومه ففنيَ زادهم في اليوم الخامس من أيار فضجوا إلى موسى فدعا ربه فنزل لهم المنّ من السماء فلما كان اليوم الثالث والعشرون من أيار عطشوا وضجوا إلى موسى فدعا ربه ففجر له عينًا من الصخرة ولم يزل يسير بهم حتى وافوا طور سينين غزة الشهر الثالث لخروجهم من مصر فأمر اللّه موسى بتطهير قومه واستعدادهم لسماع كلام الله سبحانه فطهرهم ثلاثة أيام فلما كان في اليوم الثالث وهو السادس من الشهر رفع اللّه الطور وأسكنه نوره وظلل حواليه بالغمام وأظهر في الآفاق الرعود والبروق والصواعق وأسمع القوم من كلامه عشر كلمات وهي‏:‏ أنا اللّه ربكم واحد لا يكم لكم معبود من دوني لا تحلف باسم ربُك كاذبًا اذكر يوم السبت واحفظه برّ والديك وأكرمهما لا تقتل النفس لا تزن لا تسرق لا تشهد بشهادة زور لا تحسد أخاك فيما رزقه‏.‏

فصاح القوم وارتعدوا وقالوا لموسى‏:‏ لا طاقة لنا باستماع هذا الصوت العظيم كن السفير بيننا وبين ربنا وجميع ما يأمرنا به سمعنا وأطعنا فأمرهم بالانصراف وصعد موسى إلى الجبل في اليوم الثاني عشر فأقام فيه أربعين يومًا ودفع اللّه إليه اللوحين الجوهر المكتوب عليهما العشر كلمات ونزل في اليوم الثاني والعشرين من شهر تموز فرأى العجل فارتفع الكتاب وثقلا على يديه فألقاهما وكسرهما ثم برد العجل وذرّاه على الماء وقتل من القوم من استحق القتل وصعد إلى الجبل في اليوم الثالث والعشرين من تموز ليشفع في الباقين من القوم ونزل في اليوم الثاني من أيلول بعد الوعد من الله له بتعويضه لوحين آخرين مكتوبًا عليهما ما كان في اللوحين الأوّلين فصعد إلى الجبل وأقام أربعين ليلة أخرى وذلك من ثالث أيلول إلى اليوم الثاني عشر من تشرين ثم أمره الله بإطلاح القبة وكان طولها ثلاثين ذراعًا في عرض عشرة أذرع وارتفاع عشرة أذرع ولها سرادق مضروب حواليها مائة ذراع في خمسين ذراعًا وارتفاع خمسة أذرع‏.‏

فأخذ القوم في إصلاحها وما تزين به من الستور من الذهب والفضة والجواهر ستة أشهر الشتاء كله ولما فرغ منها نصبت في اليوم الأوّل من نيسان في أوّل السنة الثانية ويُقال أنّ موسى عليه السلام حارب هنالك العرب مثل طسم وجديس والعماليق وجَرْهَم وأهل مدين حتى أفناهم جميعًا وأنه وصل إلى جبل فاران وهو مكة فلم ينج منهم إلاّ من اعتصم بملك اليمن أو انتمى إلى بنى إسماعيل عليه السلام وفي ثلثي الشهر الباقي من هذه السنة ظعن القوم في برّية الطور بعد أن نزلت عليهم التوراة وجملة شرائعها ستمائة وثلاث عشرة شريعة وفي آخر الشهر الثالث حُرّمت عليهم أرض الشام أن يدخلوها وحكم اللّه تعالى عليهم أن يتيهوا في البرّية أربعين سنة لقولهم نخاف أهلها لأنهم جبارون فأقاموا تسع عشرة سنة في رقيم وتسع عشرة سنة في أحد وأربعين موضعًا مشروحة في التوراة وفي اليوم السابع من شهر أيلول من السنة الثانية خسف اللّه بقارون وبأوليائه بدعاء موسى عليه السلام عليهم لما كذبوا وفي شهر نيسان من السنة الأربعين وفي شهر آب منها مات هارون عليه السلام وله مائة وثلاث وعشرون سنة ثم كان حرب الكنعانيين وسيحون والعوج صاحب البثنية من أرض حوران‏.‏

في الشهور التي بعد ذلك إلى شهر شباط فلما أهلّ شباط أخذ موسى في إعادة التوراة على القوم وأمرهم بكتب نسختها وقراءتها وحفظ ما شاهدوه من آثاره وما أخذوه عنه من الفقه وكان نهاية ذلك في اليوم السادس من آذار وقال لهم في اليوم السابع منه‏:‏ إني في يومي هذا استوفيت عشرين ومائة سنة وإنّ اللّه قد عرّفني أنه يقبضني فيه وقد أمرني أن أستخلف عليكم يوشع بن نون ومعه السبعون رجلًا الذين اخترتهم قبل هذا الوقت ومعهم العازر بن هارون أخي فاسمعوا له وأطيعوا وأنا أشهد عليكم الله الذي لا إله إلاّ هو والأرض والسموات أن تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئًا ولا تبذلوا شرائع التوراة بغيرها ثم فارقهم وصعد الجبل فقبضه اللّه تعالى هناك وأخفاه ولم يعلم أحد منهم قبره ولا شاهده وكان بين وفاة موسى وبين الطوفان ألف وستمائة وست وعشرون سنة وذلك في أيام منوجهر ملك الفرس وزعم قوم أن موسى كان ألثغ فمنهم من جعل ذلك خلقة ومنهم من زعم أنه إنما اعتراه حين قالت امرأة فرعون لفرعون لا تقتل طفلًا لا يعرف الجمر من التمر‏.‏

فلما دعا له فرعون بهما جميعًا تناول جمرة فأهوى بها إلى فيه فاعتراه من ذلك ما اعتراه وذكر محمد بن عمر الواقديّ‏:‏ أن لسان موسى كانت عليه شامة فيها شعرات ولا يدل القرآن على شيء من ذلك فليس في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واحلل عقدة من لساني ‏"‏ ‏"‏ طه ‏"‏ دليل على شيء من ذلك دون شيء فأقاموا بعده ثلاثين يومًا يبكون عليه إلى أن أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون بترحيلهم فقادهم وعبر بهم الأردن في اليوم العاشر من نيسان فوافوا أريحا فكان منهم ما هو مذكور في مواضعه فهذه جملة خبر موسى عليه السلام‏.‏