فصل: الجزء الثالث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


  الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

قال ابن سيدة‏:‏ والحارة كلّ محلّة دنت منازلها قال‏:‏ والحملّة منزل القوم‏.‏

وبالقاهرة وظواهرها عدّة حارات وهي‏:‏ حارة بهاء الدين هذه الحارة كانت قديمًا خارج باب الفتوح الذي وضعه القائد جوهر عندما اختطّ أساس القاهرة من الطوب النيء وقد بقي من هذا الباب عقدة برأس حارة بهاء الدين وصارت هذه الحارة اليوم من داخل باب الفتوح الذي وضعه أمير الجيوش بدر الجمالي وهو الموجود الآن‏.‏

وحدُّ هذه الحارة عرضًا من خطّ باب الفتوح الآن إلى خطّ حارة الورّاقة بسوق المرحلين وحدّها طولًا فيما وراء ذلك لى خطّ باب القنطرة‏.‏

وكانت هذه الحارة تعرف بحارة الريحانية والوزيرية وهما طائفتان من طوائف عسكر الخلفاء الفاطميين فإنّ بها كانت مساكنهم وكان فيها لهاتين الطائفتين دور عظيمة وحوانيت عديدة وقيل لها أيضًا بين الحارتَيْن واتصلت العمارة إلى السور ولم تزل الريحانية والوزيرية بهذه الحارة إلى أن كانت واقعة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب بالعبيد‏.‏

 واقعة العبيد

وسببها أنّ مؤتمن الخلافة جوهرًا أحد الأستاذين المحنكين بالقصر تحدّث في إزالة صلاح الدين يوسف بن أيوب من وزارة الخليفة العاضد لدين الله عندم ضايق أهل القصر وشدّد عليهم واستبدّ بأمور الدولة وأضعف جانب الخلافة وقبض على أكابر أهل الدولة فصار مع جوهر عدّة من الأمراء المصريين والجند‏.‏

واتفق رأيهم أن يبعثوا إلى الفرنج ببلاد الساحل يستدعونهم إلى القاهرة حتّى إذا خرج صلاح الدين لقتالهم بعسكر ثاروا وهم بالقاهرة واجتمعوا مع الفرنج ببلاد الساحل يستدعونهم إلى القاهرة حتّى إذا خرج صلاح الدين لقتالهم بعسكر ثاروا وهم بالقاهرة واجتمعوا مع الفرنج على إخراجه من مصر‏.‏

فسيروا رجلًا إلى الفرنج وجعلوا كتبهم التي معه في نعل وحفظت بالجلد مخافة أن يفطن بها فسار الرجل إلى البئر البيضاء قريبًا من بلبيس فإذا بعض أصحاب صلاح الدين هناك فأنكروا أمر الرجل من أجل أنّه جعل النعلين في يده ورآهما وليس فيهما أثر المشي والرجل رثّ الهيئة فارتاب وأخذ النعلين وشقّهما فوجد الكتب ببطنهما فحمل الرجلَ والكتب إلى صلاح الدين فتتّبع خطوط الكتب حتّى عرفت فإذا الذي كتبها من اليهود الكتّاب فأمر بقتله فاعتصم بالإسلام وأسلم وحدّثه الخبر‏.‏

فبلغ ذلك مؤتمنّ الخلافة فاستشعر الشرَّ وخاف على نفسه ولزم القصر وامتنع من الخروج منه فأعرض صلاح الدين عن ذلك جملة وطال الأمد فظنّ الخصيّ أنه قد أُهمل أمره وشرع يخرج من القصر‏.‏

وكانت له منظرة بناها بناحية الخرقانية في بستان فخرج إليها في جماعة‏.‏

وبلغ ذلك صلاح الدين فأنهض إليه عدّة هجموا عليه وقتلوه في يوم الأربعاء لخميس بقين من ذي القعدة سنة أربع وستّين وخمسمائة واحتزوا رأسه وأتوا بها إلى صلاح الدين فاشتهر ذلك بالقاهرة وأشيع فغضب العسكر المصريّ وثاروا بأجمعهم في سادس عشريّة وقد أنضمّ إليهم عالم عظيم من الأمراء والعامّة حتّى صاروا ما ينيف عن خمسين ألفًا وساروا إلى دار الوزارة - وفيها يومئذٍ ساكنًا بها صلاح الدين - وقد استعدّوا بالأسلحة فبادر شمس الدولة فخر الدين توران شاه أخو صلاح الدين وصرخ في عساكر الغزّ وركب صلاح الدين وقد اجتمع إلهي طوائف من أهله وأقاربه وجميع الغزّ ورتبهم ووقفت الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية والطائفة الفرحية وغيرهم من الطوائف السودانية ومن انظمّ إليهم بين القصرين فثارت الحروب بينهم وبين صلاح الدين واشتدّ الأمر وعظم الخطب حتىّ لم يبق إلى هزيمة صلاح الدين وأصحابه‏.‏

فعند ذلك أمر توران شاه بالحملة على السودان فقُتل فيها أحد مُقدَّميهم فانكفّ بأسهم قليلًا وعظمت حملة الغزّ عليهم فانكسروا إلى باب الذهب ثمّ إلى باب الزُهومة وقتل حينئذٍ عدّة من الأمراء المصريين وكثير ممّن عداهم‏.‏

وكان العاضد في هذه الواقعة يشرف من المنظرة فلمّا رأى أهلُ القصر كسرة السودان وعساكر مصر راموا على الغزّ من أعلى القصر بالنشّاب والحجارة حتّى أنكوا فيهم وكفّوهم عن القتال وكادوا ينهزمون فأمر حينئذٍ صلاح الدين النفّطين بإحراق المنظرة فاحضر شمس الدين النفّاطين وأخذوا في تطييب قارورة النفط وصوَّبوا بها على المنظرة التي فيها العاضد فخاف العاضد على نفسه وفتح بابَ المنظرة زعيم الخلافة أحدُ الأستاذين وقال بصوت عالٍ‏:‏ أمير المؤمنين يسلّم على شمس الدولة ويقول‏:‏ دونكم والعبيد الكلاب أخرجوهم من بلادكم‏.‏

فلمّا سمع السودان ذلك ضعفت قلوبهم وتخاذلوا فحمل عليهم الغزُّ فانكسروا وركب القوم أقفيتهم إلى أن وصولا إلى السيوفيين فقتل منهم كثير وأسر منهم كثير وامتنعوا هناك على الغزّ بمكان فأحرق عليهم‏.‏

وكان في دار الأرمن التي كانت قريبًا من بين القصرين خلق عظيم من الأرمن كلّهم رماة لهم جار في الدولة يجري عليهم فعندما قرب منهم الغزّ رموهم عن يد واحة حتّى امتنعوا عن أن يسيروا إلى العبيد فأحرق شمس الدولة دارهم حتّى هلكوا حرقًا وقتلًا ومرّوا إلى العبيد فصاروا كلّما دخلوا مكانًا أحرق عليهم وقتلوا فيه إلى أن وصلوا إلى باب زُوَيْلة فإذا هو مغلوق فحصروا هناك واستمرّ فيهم القتل مدّة يومين‏.‏

ثمّ بلغهم أنّ صلاح الدين أحرق المنصورة التي كانت أعظم حاراتهم وأخذت عليهم أفواه السكك فأيقنوا أنّهم قد أُخذوا لا محالة فصاحوا الأمان فأمنوا - وذلك يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة - وفتح لهم باب زويلة فخرجوا إلى الجيزة فعدا عليهم شمس الدولة في العسكر وقد قووا بأموال المهزومين وأسلحتهم وحكّموا فيهم السيف حتى لم يبقَ منهم إلا الشريد وتلاشى من هذه الواقعة أمر العاضد‏.‏

وكان

 من غرائب الاتّفاقات

أن الدولة الفاطمية كان الذي افتتح لها بلاد مصر وبنى القاهرة جوهر القائد والذي كان سببًا في إزالة الدولة وخراب القاهرة جوهر المنعوت بمؤتمن الخِلافة هذا‏.‏

ثمّ لم استبدّ صلاح الدين يوسف بسلطنة الديار المصرّية بعد موت الخليفة العاضد لدين الله سكن هذه الحارة الأمير الطواشيّ الخصيّ بهاء الدين قراقوش بن عبد الله الأسدي فعرفت به‏.‏

حارة بَرَجَوَان منسوبة إلى الأستاذ أبي الفتوح برجوان الخادم وكان خصيًّا أبيض تامّ الخلقة رُبّي في دار الخليفة العزيز بالله وولاه أمر القصور‏.‏

فلمّا حضرته الوفاة وصّاه على ابنه الأمير أبي عليّ منصور فلمّا مات العزيز بالله أقيم ابنه منصور في الخلافة من بعده وقام بتدبير الدولة أبو محمد الحسن بن عمّار الكتامي فدبّر الأمور وبرجوان يناكده فيما يصدر عنه ويختصّ بطوائف من العسكر دونه إلى أن أفسد أمر ابن عمّار فنظر برجوان في تدبير الأمور يوم الجمعة لثلاث بقين من رمضان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وصار الواسطة بين الحاكم وبين الناس فأمر بجمع الغلمان ونهاهم عن التعرّض لأحد من الكتاميين والمغاربة ووجّه إلى جار ابن عمّار فمنع الناس عنها بعد أن كانوا قد أحاطوا بها وانتبهوا منها وأمر أن يُجري لأصحاب الرسوم الرواتب جميع ما كان ابن عمّار قطعه وأجرى لابن عمّار ما كان يُجري له في أيام العزيز بالله من الجرايات لنفسه ولأهله وحرمه ومبلغ ذلك من اللحم والتوابل خمسمائة دنيار في كلّ شهر يزيد عن ذلك أو ينقص عنه على قدر الأسعار مع ما كان له من الفاكهة وهو في كلّ يوم سلّة بدينار وعشرة أرطال شمع بدينار ونصف وحمل بلح‏.‏

وجعل كاتبه أبا العلاء فهد بن إبراهيم النصراني يوقّع عنه وينظر في قصص الرافعين وظلاماتهم فجلس لذلك في القصر وصار يطالعه بجميع ما يحتاج إليه ورتّب الغلمان في القصر وأمرهم بملازمة الخدمة وتفقّد أحوالهم وأزال علل أولياء الدولة وتفقّد أمور الناس وأزال ضروراتهم ومنع الناس كافة من الترجّل له فكان الناس يلقونه في داره فإذا تكامل لقاؤهم ركبوا بين يديه إلى القصر ما عدا الحسين بن جوهر والقاضي ابن النعمان فقط فإنهما كانا يتقدّمانه من دورهما إلى القصر حتّى أنّه لقّب كاتبه فهدًا بالرئيس فصار يخاطب بذلك ويكاتب به‏.‏

وكان برجوان يجلس في دهاليز القصر ويجلس الرئيس فهد بالدهليز الأول يوقّع وينظر ويطالع برجوان ما يحتاج إليه ممّا يطالع به الحاكم فيخرج الأمر بما يكون العمل به‏.‏

وترقّت أحوال برجوان إلى أن بلغ النهاية فقصر عن الخدمة وتشاغل بلذّاته وأقبل على سماع الغناء وأكثر من الطرب وكان شديد المحبّة في الغناء فكان المغنّون من الرجال والنساء يحضرون داره فيكون معهم كأحدهم ثمّ يجلس في داره حتّى يمضي صدر النهار ويتكامل جميع أهل الدولة وأرباب الأشغال على بابه فيخرج راكبًا ويمضي إلى القصر فيمشي من الأمور ما يختار بغير مشاورة‏.‏

فلما تزايد المر وكثر استبداده تحرّد له الحاكم ونقم عليه أشياء من تجرّئه عليه ومعاملته له بالإذلال وعمد الامتثال ومنها أنّه استدعاه يومًا وهو راكب معه فصار إلهي وقد ثنى رجله على عنق فرسهوصار باطن قدمه وفيه الخفّ قبالة وجه الحاكم ونحو ذلك من سوء الأدب‏.‏

فلما كان يوم الخميس سادس عشري شهر ربيع الآخر سنة تسعين وثلاثمائة أنفذ إليه الحاكم عشيّة للركوب معه إلى المقياس فجاء بعدما تباطأ وقد ضاق الوقت فلم يكن بأسرع من خروج عقيق الخادم باكيًا يصيح‏:‏ قتل مولاي‏.‏

وكان هذا الخادم عينًا لبرجوان في القصر فاضطرب الناس وأشرف عليهم الحاكم وقام زيدان صاحب المظّلة فصاح بهم‏:‏ من كان في الطاعة فلينصرف ويتكامل جميع أهل الدولة وأرباب الأشغال على بابه فيخرج راكبًا ويمضي إلى القصر فيمشي من الأمور ما يختار بغير مشاورة‏.‏

فلما تزايد المر وكثر استبداده تحرّد له الحاكم ونقم عليه أشياء من تجرّئه عليه ومعاملته له بالإذلال وعمد الامتثال ومنها أنّه استدعاه يومًا وهو راكب معه فصار إلهي وقد ثنى رجله على عنق فرسه وصار باطن قدمه وفيه الخفّ قبالة وجه الحاكم ونحو ذلك من سوء الأدب‏.‏

فلما كان يوم الخميس سادس عشري شهر ربيع الآخر سنة تسعين وثلاثمائة أنفذ إليه الحاكم عشيّة للركوب معه إلى المقياس فجاء بعدما تباطأ وقد ضاق الوقت فلم يكن بأسرع من خروج عقيق الخادم باكيًا يصيح‏:‏ قتل مولاي‏.‏

وكان هذا الخادم عينًا لبرجوان في القصر فاضطرب الناس وأشرف عليهم الحاكم وقام زيدان صاحب المظّلة فصاح بهم‏:‏ من كان في الطاعة فلينصرف إلى منزله ويكبر إلى القصر المعمور‏.‏

فانصرف الجميع‏.‏

فكان من خبر قتل برجوان أنّه لما دخل إلى القصر كان الحاكم في بستان يعرف بدّويرة التين والعنّاب ومعه زيدان فوافاه برجوان بها وهو قائم فسلّم ووقف فسار الحاكم إلى أنخرج من باب الدويرة فوثب زيدان على برجوان وضربه بسكّين كانت معه في عنقه وابتدره قوم كانوا قد أعدّوا للفتك به فأثخنوه جراحة بالخناجر واحتزّوا رأسه ودفنوه هناك‏.‏

ثمّ إنَّ الحاكم أحضر إليه الرئيس فهدأ بعد العشاء الأخيرة وقال له‏:‏ أنت كابني وأمّنه وطمّنه فكانت مدّة نظر برجوان في الوساطة سنتين وثمانية أشهر تنقص يومًا واحدًا ووجد الحاكم في تركته مائة منديل يعني عمامة كلّها شروب ملوّنة معمّمة على مائة شاشية وألف سراويل دبيقية بألف تكّة حرير أرمنيّ ومن الثياب المخيطة والصحاح والحليّ والمصاغ والطيب والفرش والصياغات الذهب والفضّة ما لا يحصى كثرة ومن العين ثلاثة وثلاثين ألف دينار ومن الخيل الركابيّة مائة وخمسين فرسًا وخمسين بغلة ومن بغال النقل ودواب الغلمان نحو ثلثمائة راس ومائة وخمسين سرجًا منها عشرون ذهبًا ومن الكتب شيء كثير‏.‏

وحمل لجاريته من مصر إلى القاهرة رحل على ثمانين حمارًا‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وبَرْجُوان بفتح الباب الموحدة وسكون الراء وفتح الجيم والواو وبعد الألف نون هكذا وجدته مقيّدًا بخطّ بعض الفضلاء‏.‏

وقال ابن عبد الظاهر‏:‏ ويسّمى الوزغ سماه به حارة زَوِيلة قال ابن عبد الظاهر‏:‏ لما نظل القائد جوهر بالقاهرة اختطت كلّ قبيلة خطة عرفت بها فزويلة بنتِ الحارةَ المعروفةض بها والبئر التي تعرف ببئر زويلة في المكان الذي يعمل فيه الأن الروايا والبابان المعروفان بِبابَيْ زويلة‏.‏

وقال ياقوت‏:‏ زَوِيلة بفتح الزي وكسر الوار وياء ساكنة وفتح اللام‏:‏ أربعة مواضع‏:‏ الأوّل زويلة السودان وهي قصبة أعمال فزّان في جنوب إفريقية مدينة كثيرة النخل والزرع‏.‏

الثاني زويلة المهديّة بلد كالربض للمهديّة اختطّه عبد الله الملقّب بالمهدي وأسكنه الرعيّة وسكن هو بالمهديّة التي استجدّها فكانت دكاكين الرعية وامتعتهم بالمهديّة ومنازلهم وحرمهم بزويلة فكانوا يظلّون بالنهار في المهدية ويبيتون ليلًا وبينهم وبين نسائهم نهارًا‏.‏

الثالث باب زويلة بالقاهرة من جهة الفسطاط الرابع حارة زويلة محلّة كبيرة بالقاهرة بينها وبين باب زويلة عدّة محال سمّيت بذلك لأنّ جوهرًا غلام المعزّ لما اختطّ محلّه بالقاهرة أنزل أهل زويلة بهذا المكان فتسمّة بهم‏.‏

الحارة المحمودية الصواب في هذه الحارة أن يقال حارة المحمودية على الإضافة فإنّها عرفت بطائفة من طوائف عسكر الدولة الفاطمية كان يقال لها الطائفة المحمودية وقد ذكرها المسبِّحي في تاريخه مرارًا قال‏:‏ في سنة أربع وتسعين وخمسمائة وفيها اقتتلت الطائفة المحمودية واليانسية‏.‏

واشتبه أمر هذه الحارة على ابن عبد الظاهر فلم يعرف نسبتها لمن وقال‏:‏ لا أعلم في الدولة المصريّة من اسمه محمود غلا ركن الإسلام محمود بن أخت الصالح بن رزّيك صاحب التربة بالقرافة اللهم إلا أن يكون محمود بن مصال الملكيّ الوزير‏.‏

فقد ذكر ابن القفطيّ أنّ اسمه محمود ومحمد صاحب المسجد بالقرافة وكان في زمان السرّي ابن الحكم قبل ذلك‏.‏

وهذا وهم آخر فإنّ ابن مصال الوزير اسمه سليمان وينعت بنجم الدين‏.‏

ووقعت في هذه الحارة نكتة قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة أربع وتسعين وخمسمائة والسلطان يومئذٍ بمصر الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين وكان في شعبان قد تتابع أهل مصر والقاهرة في إظهار المنكرات وترك الإنكار لها وإباحة أهل الأمر والنهي فعلها وتفاحش الأمر فيها إلى أن غلا سعر العنب لكثرة من يعصره وأقيمت طاحون بالمحموديّة لطحن حشيشة للبزر وأفردت برسمه وحميت بيوت المِزْر وأقيمت عليها الضرائب الثقيلة فمنها ما انتهاى أمره في كلّ يوم إلى ستّة عشر دينارًا ومنع المِزْر البيوتي ليتوفر الشراء من مواضع الحَمي وحُملت أواني الخمر على رؤوس الأشهاد وفي الأسواق من غير منكر وظهر من عاجل عقوبة حارة الجودرية هذه الحارة عرفت أيضًا بالطائفة الجودرية إحدى طوائف العسكر في أيام الحاكم بأمر الله على ما ذكره المسبّحي وقال ابن عبد الظاهر‏:‏ الجودريّة منسوبة إلى جماعة تعرف بالجودريّة اختطّوها وكانوا أربعمائة منهم أبو علي منصور الجودريّ الذي كان في أيام العزيز بالله وزادت مكانته في الأيام الحاكمية فأضيفت إليه مع الأحباس الحِسْبة وسوق الرقيق والسواحل وغير ذلك ولها حكاية سمعت جماعة يحكونها وهي أنّها كانت سكن اليهود والمعروفة بهم فبلغ الخليفة الحاكم أنّهم يجتمعون بها في أوقات خلواتها ويغنّون‏:‏ وأمّة قد ضلّوا ودينهم معتلّ قال لهم نبيّهم‏:‏ نِعْمَ الأدامُ الخلُّ ويسخرون من هذا القول ويتعرّضون إلى ما لا ينبغي سماعه فأتى إلى أبوابها وسدّها عليهم ليلًا وأحرقها فإلى هذا الوقت لايبيت بها يهوديّ ولا يسكنها أبدًا‏.‏

وقد كان في الأيام العزيزية جودر الصقلبيّ أيضًا ضرب عنقه ونهب ما له في سنة ستّ وثمانين وثلثمائة‏.‏

حارة الوزيرية هي أيضًا تنسب إلى طائفة يقال لها الوزيرية من جملة طوائف العسكر وكانت أوّلًا تعرف بحارة بستان المصمودي وعرفت وعرفت أيضًا بحارة الأكراد‏.‏

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ الوزيرية منسوبة إلى الوزير يعقوب بن يوسف بن كِلِّس وقال ابن الصيرفيّ والطائفة المنعوتة بالوزيرية إلى الآن منسوبة إليه يعني الوزير يعقوب بن يوسف بن كلِّس أبو الفرج‏.‏

كان يهوديًا من أهل بغداد فخرج منها إلى بلاد الشام ونزل بمدينة الرملة وأقام بها فصار فيها وكيلًا للتجّار بها واجتمع في قبله مال عجز عن أدائه ففرّ إلى مصر في أيّام كافور الإخشيديّ فتعلّق بخدمته‏.‏

ووثب إليه بالمتجر فباع إليه أمتعة أُحيل بثمنها على ضياع مصر فكثر لذلك تردّده على الريف وعرفت أخبار القرى وكان صاحب حيل ودهاء ومكر ومعرفة مع ذكاء مفرط وفطنة فمهر في معرفة الضياع حتّى كان إذا سئل عن أمر غِلالها ومبلغ ارتفاعها وسائر أحوالها الظاهرة والباطنة أتى من ذلك بالغرض فكثرت أمواله واتسعت أحواله وأعجب به كافور لما خبر فيه من الفطنة وحسن السياسة فقال‏:‏ لو كان هذا مسلمًا لصالح أن يكون وزيرًا‏.‏

فلمّا بلغه هذا عن كافور تاقت نفسه إلى الولاية وأحضر مَنْ عَلَّمه شرائح الإسلام سرًا لمّا كان في شعبان سنة ستّ وخمسين وثلثمائة دخل إلى الجامع بمصر وصلّى وصلاة الصبح وركب إلى كافور ومعه محمد بن عبد الله بن الخازن في خلق كثير فخلع عليه كافور ونزل إلى داره ومعه جمع كثير وركب إليه أهل الدولة يهنئونه ولم يتأخّر عن الحضور إليه أحد فغصّ بمكانه الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات وقلق بسببه وأخذ في التدبير عليه ونصب الحبائل له حتّى خافه يعقوب فخرج من مصر فارًّا منه يريد بلاد المغرب في شوّال سنة سبع وخمسين وثلاثمائة‏.‏

وقد مات كاوفر فلحق بالمعزّ لدين الله أبي تميم معدّ فوقع منه موقعًا حسنًا وشاهد منه معرفة وتدبيرًا فلم يزل في خدمته حتّى قدم من انلمغرب إلى القاهرة في شهر رمضان سنة اثنين وستّين وثلثمائة فقلّده في رابع عشر المحرّم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة الخراجّ وجميع وجوه الأموال والحِسبة والسواحل والأعشار والجوالي والأحباس والمواريث والشرطتين وجميع ما يضاف إل ذلك وما يطرأ في مصر وسائر الأعمال‏.‏

وأشرك معه في ذلك كله عسلوج في جار الإمارة في جامع أحمد بن طولون فقبضت أيدي سائر العمّال والمتضمّنين وجلس يعقوب وعسلوج في دار الإمارة في جامع أحمد بن طولون للنداء على الضياع وسائر وجوه الأموال وحضر الناس للقبالات وطالبا بالبقايا من الأموال ممّا على الناس من المالكين والمتقبّلين والعمّال واستقصيا في الطلب ونظرا في المظالم فتوفّرت الأموال وزيدي في الضياع وتزايد الناس وتكاشفوا أو امتنعا أن يأخذا إلا دينارًا مُعِّزيًا فاتضّع الدينار الراضي وانحطّ ونقص من صرفه أكثر من ربع دينار فخسر الناس كثيرًا من أموالهم في الدينار الأبيض والدينار الراضي وكان صرف المعّزيّ خمسة عشر درهمًا ونصفًا واشتدّ الاستخراج فكان يُستخرد في اليوم نيّف وخمسين ألف دينار معزّية واستخرج في يوم واحد مائة وعشرون ألف دينار معزّية وحصل في يوم واحد من مال تنَيسٍ ودمياط الأشمونين أكثر من مائتين ألف دينار وعشرين ألف دينار وهذا شيء لم يسمعْ قطّ بمثله في بلد‏.‏

فاستمرّ الأمر على ذلك إلى المحرّم سنة خمس وستّين وثلثمائة‏.‏

فتشاغل يعقوب عن حضور ديوان الخراج وانفرد بالنظر في أمور المعزّ لدين الله في قصره وفي الدور الموافق حضور ديوان الخراج وانفرج بالنظر في أمور المعزّ لدين الله في قصره وفي الدور الموافق عليها وبعد ذلك بقليل مات المعزّ لدين الله في شهر ربيع الآخر منها وقام من بعده في الخلافة ابنه العزيز بالله أبو منصور نزار ففوّض ليعقوب النظر في سائر أموره وجعله وزيرًا له في أوّل المحرّم سنة سبع وستّين وثلثمائة‏.‏

وفي شهر رمضان سنة ثمان وستّين لقبه بالوزير الأجلّ وأمر أن لا يخاطبه أحد ولا يكاتبه إلاّ به وخلع عليه وحمل ورسم له في محرّم سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة أن يبدأ له في مكاتباته باسمه على عنوانات الكتب النافذة عنه وخرج توقيع العزيز بذلك‏.‏

وفي هذه السنة اعتقل في القصر وردّ الأمر إلى خير بن القاسم فأقام معتقلًا عدّة شهور ثم أطلق في سنة أربع وسبعين وحمل على عدّة خيول وقرىء سجلّ بردّه إلى تدبير الدولة‏.‏

ووهبه خمسمائة غلام من الناشئة وألف غلام من المغاربة ملّكه العزيز رقابهم فكان يعقوب أوّل وزراء الخلفاء الفاطميين بديار مصر‏.‏

فدبّر أمور مصر والشام والحرمّيْن وبلاد المغرب وأعمال هذه الأقاليم كلّها من الرجال والأموال والقضاء والتدبر وعمل له إقطاعًا في كلّ سنة بمصر والشام مبلغها ثلثمائة ألف دينار واتسعت دائرته وعظمت مكانته حتّى كتب اسمه على الطُرُز في الكتب وكان يجلس كلّ يوم ي داره يأمرن وينهي ولا تُرفع إليه رقعة إلا وقَع فيها ولا يُسأل في حاجة إلا قضاها ورتب في داره الحجّاب نوبًا وأجلسهم على مراتب وألبسهم الديباج وقلّدهم السيوف وجعل لهم المناطق ورتب فرسَيْن في داره للنوبة لا تبرح واقفة بسروجها ولجمها لهم بُرْد ونصب في داره الدواوين فجعل ديوانًا للعزيزية فيه عدّة كتّاب وديوانًا للجيش فيه عدّة كتاب وديوانًا للأموال فيه عدّة كتّاب وعدّة جهابذة وديوانًا للخراج وديوانًا للسجلات والإنشاء وديوانًا للمستغلات وأقام على هذه الدواوين زمانًا وجعل في داره خزانة للكسوة وخزانة للمال وخزانة للدفاتر وخزانة للأشربة وعمل على كلّ خزانة ناظرًا وكان يجلس عنده في كلّ يوم الأطبّاء لينظروا في حال الغلمان ومن يحتاج منهم إلى علاج أو إعطاء دواء ورتّب في دار الكتّاب والأطبّاء يقفون بين يديه وجعل فيها العلماء والأدباء والشعراء والفقهاء والمتكلّمين وأرباب والأطبّاء يقفون بين يديه وجعل فيها العلماء والأدباء والشعراء والفقهاء والمتكلّمين وأرباب الصنائع لكلّ طائفة مكان مفرد وأجرى على كلّ واحد منهم الأرزاق والّف كتبًا في الفقه والقراءات ونصب له مجلسًا في داره يحضره في كلّ يوم ثلاثاء ويحضر إليه الفقهاء والمتكلّمون وأهل الجدل يتناظرون بين يديه‏.‏

من تأليفه‏:‏ كتاب في القراءات وكتاب في الأديان - وهو كتاب الفِقه واختصره - وكتاب في آداب رسول الله ‏)‏وكتاب في علم الأبدان وصلاحها في ألف ورقة وكتاب في الفقه ممّا سمعه من الإمام المعزّ لدين الله والإمام العزيز بالله‏.‏

وكان يجلس في يوم الجمعة أيضًا ويقرأ مصنّفاته على الناس بنفسه وفي حضرته القضاة والفقهاء والقرّاء وأصحاب الحديث والنّجاة والشهود فإذا فرغ من قراءة ما يقرأ من مصنّفاته قام الشعراء ينشدون مدائحهم فيه‏.‏

وكان في داره عدّة كتّاب ينسخون القرآن الكريم والفقه والطبّ وتب الأدب وغيرها من العلوم فإذا فرغوا من نسخها قُوبِلت وضَبطت وجعل في داره قرّاء وأئمة يصلّون في مسجد داره وأقام بداره عدّة مطابخ لنفسه ولجلسائه ولغلمانه وحواشيه وكان ينصب مائدة لخاصّته يأكل هو وخواصّه من أهل العلم ووجوه كتّابه وخواصّ غلمانه ومن يستدعيه عليها وينصب عدّة موائد لبقيّة الحجّاب والكتّاب والحواشي‏.‏

وكان إذا جلس يقرأ كتابه في الفقه الذي سمعه من المعزّ والعزيز لا يُمنع أحد من مجلسه فيجتمع عنده الخاص والعامّ ورتّب عند العزيز بالله جماعة لا يخاطبون إلا بالقائد وأنشأ عدّة مساجد ومساكن بمصر والقاهرة وكان يقيم في شهر رمضان الأطعمة للفقهاء ووجوه الناس وأهل الستر والتعفّف ولجماعة كثيرة من الفقراء وكان إذا فرغ الفقهاء والوجوه من الأكل معه يُطاف عليهم بالطِّيب‏.‏

ومرض مرّة من علّة أصابت يده فقال فيه عبد الله بن محمد بن أبي الجرع‏:‏ يد الوزير هي الدنيا فإن ألمت رأيت في كلّ شيء ذلك الألما تأمّل الملك وانظرْ فرط علّته من أجله واسأل القرطاسَ والقلما وشاهدِ البِيضَ في الأغماد حائمة إلى العدا وكثيرًا ما روينَ دما وأنفس الناس بالشكوى قد اتّصلت كأنّما أشعرت من أجله سقما هل ينهض المجد إلا أن يؤيّده ساق يقدِّم في إنهاضه قَدَما لولا العزيز آراء الوزير معًا تحيّفتنا خطوبٌ تشعِبُ الأُمَما فقل لهذا وهذا أنتما شرف لا أوهَنَ اللهُ ركنَيْه ولا أنهدما كِلاكُما لم يزلْ في الصالحات يدًا مبسوطة ولسانًا ناطقًا وفما ولا أصابكما أحداثُ دهرِكما ولا طوى لكما ما عشتما عَلَما ولا انمحتْ عنك يا مولاي عافيةٌ فقد محوتَ بما أوليتني العدما وكان الناس يفتون بكتابه في الفقه ودرّس فيه الفقهاء بجامع مصر وأجرى العزيز بالله لجماعة في رقاع المرافق عين والمتظلّمين ويوقع بيده في الرقاع ويخاطب الخصومَ بنفسه‏.‏

وأراد العزيز بالله أن يسافر إلى الشام في زمن ابتداء الفاكهة فأمر الوزير أن يأخذ الأهبة لذلك فقال‏:‏ يا مولاي لكلّ سفر أهبة على مقداره فما الغرض من السفر فقال‏:‏ إنّي أريد التفرّج بدمشق لأكل القَراصِيا‏.‏

فقال‏:‏ السمع والطاعة‏.‏

وخرج فاستدعى جميع أرباب الحَمام وسألهم عمّا بدمشق من طيور مصر وأسماء من من هي عنده وكانت مائة ونيّفًا وعشرين طائرًا ثمّ التمس من طيور دمشق التي هي في مصر عدّة فأحضرها وكتب إلى نائبه بدمشق يقول‏:‏ إن بمشق كذا وكذا طائرًا وعرّفه أسماء مَن هي عنده وأمره بإحضارها إليه جميعها وأن يصيب من القراصيا في كلّ كاغِدة ويشدّها على كلّ طائر منها ويسرْحها في يوم واحد فلم يمضِ إلا ثلاثة أيّام أو أربعة حتّى وصلت الحمائم كلّها ولم يتأخر منها إلا نحو عشر وعلى جناحها القَراصِيا فاستخرجها من الكواغد وعلمها في طبق من ذهب وغطّاها وبعض بها إلى العزيز بالله مع خادم وركب إليه وقدّم ذلك وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد حضّرنا قبالك القراصيا ههنا فإنْ أغناك هذا القدر وإلا استدعينا شيئًا آخر فعجب العزيز بالوزير وقال‏:‏ مثلك يخدم الملوك يا وزير واتفق أنه سابق العزيز بين الطوير فسبق طائر الوزير يعقوب طائرَ العزيز فشقّ ذلك على العزيز ووجد أعداء الوزير سبيلًا إلى الطعن فيه فكتبوا إلى العزيز أنه قد أختار من كلّ قل لأمير المؤمنين الذي له العلي والمثل الثاقب طائرك السابق لكنّه لم يأتِ إلاّ وله حاجب فأعجب العزيز ذلك وأعرض عما وشي به ولم يزل على حال رفيعة وكلمة نافذة إلى أن ابتدأت به علّته يوم الأحد الحادي والعشرين من شوّال سنة ثمانين وثلثمائة ونزل إليه العزيز بالله يعوده وقال له‏:‏ وددت أنّك تُباع فابتاعك بمالي أو تفدي فأفديك بولدي فهل من حاجة توصي بها يا يعقوب فبكى وقبّل يده وقال‏:‏ أمّا فيما يخصّني فأنت أرعى بحقّي من أن أسترعيك إياه وأرأفُ على من أن أوصيك به ولكنّي أنصح لك فيما يتعلّق بك وبدولتك سالِمِ الروم ما سالموك واقنع من الحمدانية بالدعوة والشكر ولا تُبقِ على مفرج بن دعقل إنْ عرضت لك فيه فرصة‏.‏

وانصرف العزيز فأخذته السكتة وان في سياق الموت يقول‏:‏ لا يغلب اللهَ غالبٌ ثمّ قضى نحبه ليلة الأحد لخمس خلون من ذي الحجّة فأرسل العزيز بالله إلى داره الكفن والحوط وتولّى غسله القاضي محمد بن النعمان وقال‏:‏ كنت واللهِ اغسلُ لحيته وأنا أرفق به خوفًا أن يفتح عينه في وجهي‏.‏

وكفّن في خمسين ثوبًا ثلاثين مثقلًا يعني‏:‏ منسوجًا بالذهب ووشي مذهبًا وشرب ديبقي مذهبًا وحقّة كافورًا وقاروري مسكِ وخمسين مِنًا ماء ورد وبلغت قيمة الكفن والحنوط عشرة آلاف دينار‏.‏