فصل: خزانة البنود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 خزانة البنود

‏:‏ هذه الخزانة بالقاهرة هي الآن زقاق يُعرف بخط خزانة البنود على يُمنة من سلك من رحبة باب العيد يريد درب ملوخيا وغيره وكانت أوّلًا في الدولة الفاطمية خزانة من جملة خزائن القصر يُعمل فيها السلاح يقال أن الخليفة الظاهر بن الحاكم أمر بها ثم أنها احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة فعُملت بعد حريقها سجنًا يُسجن فيه الأمراء والأعيان إلى أن انقرضت الدولة فأقرّها ملوك بني أيوب سجنًا ثم عُملت منزلًا للأمراء من الفرنج يسكون فيها بأهاليهم وأولادهم في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون بعد حضوره من الكرك فلم يزالوا بها إلى أن هدمها الأمير الحاج آل ملك الجوكندار نائب السلطنة بديار مصر في سنة أربع وأربعين وسبعمائة فاختط الناس موضعها دورًا وقد ذكرت في هذا الكتاب عند ذكر خزائن القصر‏.‏

حبس المعونة في القاهرة‏:‏ هذا المكان بالقاهرة موضعه الآن قيسارية العنبر برأس الحريريين كان يُسجن فيه أرباب الجرائم من السرّاق وقطاع الطريق ونحوهم في الدولة الفاطمية وكان حبسًا حرجًا ضيقًا شنيعًا يُشم من قربه رائحة كريهة فلما ولي الملك الناصر محمد بن قلاون مملة مصر هدمه وبناه قيسارية للعنبر وقد ذُكر عند ذكر الأسواق من هذا الكتاب‏.‏

خزانة شمائل‏:‏ هذه الخزانة كانت بجوار باب زويلة على يُسرة من دخل منه بجوار السور عُرفت بالأمير علم الدين شمائل والي القاهرة في أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب وكانت من أشنع السجون وأقبحها منظرًا يُحبس فيها من وجب عليه القتل أو القطع من السرّاق وقطاع الطريق ومن يريد السلطان إهلاكه من المماليك وأصحاب الجرائم العظيمة وكان السجان بها يوظف عليه والي القاهرة شيئًا يحمله من المال له في كل يوم وبلغ ذلك في أيام الناصر فرج مبلغًا كبيرًا وما زالت هذه الخزانة على ذلك إلى أن هدمها الملك المؤيد شيخ المحموديّ في يوم الأحد العاشر من شهر ربيع الأول سنة ثمانمائة وأدخلها في جملة ما هدمه من الدور التي عزم على عمارة أماكنها مدرسة‏.‏

وشمائل هذا‏:‏ هو الأمير علم الدين قدم إلى القاهرة وهو من فلاحي بعض قرى مدينة حماه في أيام الملك الكامل محمد بن العادل فخدم جاندار في الركاب السلطاني إلى أن نزل الفرنج على مدينة دمياط في سنة خمس وعشرة وستمائة وملكوا البرّ وحصروا أهلها وحالوا بينهم وبين من يصل إليهم فكان شمائل هذا يخاطر بنفسه ويسبح في الماء بين المراكز ويردّ على السلطان الخبر فتقدّم عند السلطان وحظي لديه حتى أقامه أمير جاندار وجعله من أكبر أمرائه ونصه سيف نقمته وولاه ولاية القاهرة فباشر ذلك إلى أن مات السلطان وقام من بعده ابنه الملك العادل أبو بكر فلما خلع بأخيه الصالح نجم الدين أيوب نقم على شمائل‏.‏

المقشرة‏:‏ هذا السجن بجوار باب الفتوح فيما بينه وبين الجامع الحاكمي كان يُقشر فيه القمح ومن جملته برج من أبراج السور على يُمنة الخارج من باب الفتوح استجدّ بأعلاه دور لم تزل إلى أن هدمت خزانة شمائل فعين هذا البرج والمقشرة لسجن أرباب الجرائم وهُدمت الدور التي كانت هناك في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وعشرين وثمانمائة وعُمل البرج والمقشرة سجنًا ونقل إليه أرباب الجرائم وهو من أشنع السجون وأضيقها يقاسي فيه المسجونون من الغمذ والكرب ما لا يوصف عافانا الله من جميع بلائه‏.‏

الجب بقلعة الجبل‏:‏ هذا الجب كان بقلعة الجبل يُسجن فيه الأمراء وابتديء عمله في سنة إحدى وثمانين وستمائة والسلطان حينئذٍ الملك المنصور قلاون ولم يزل إلى أن هدمه الملك الناصر محمد بن قلاون في يوم الإثنين سابع عشر جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبعمائة وذلك أنْ شادّ العمائر نزل إليها ليصلح عمارته فشاهد أمرً مهولًا من الظلام وكثرة الوطاويط والروائح الكريهة واتفق مع لك أن الأمير بكتمر الساقي كان عنده شخص يسخر به ويمازحه فبعث به إلى الجب ودليّ فيه ثم أطلعه من بعد ما بات به ليلة فلما حضر أبى بكتمر أخبره بما عاينه من شناعة الجب وذكر ما فيه من القبائح المهولة وكان شادّ العمائر في المجلس فوصف ما فيه الأمراء الذين بالجب من الشدائد فتحدّث بكتمر مع السطلان في ذلك فأمر بإخراج المراء منه ورُدم وعُمّرَ فوقه أطباق المماليك وكان الذي رُدِمَ به هذا الجب النقض الذي هُدم من الإيوان الكبير المجاور للخزانة الكبرى والله أعلم بالصواب‏.‏المواضع المعروفة بالصناعة لفظ الصناعة بكسر الصاد مأخوذ من قولك صنعه يصنعه صنعًا فهو مصنوع وصنيع عمله واصطنعه اتخذه‏.‏

والصناعة ما يُستصنع من أمر هذا أصل الكلمة من حيث اللغة وأمّا في العرف فالصناعة إسما لمكان قد أُعِدّ لإنشاء المراكب البحرية التي يقال لها السفن واحدتها سفينة وهي بمصر على قسمين‏:‏ نيلية وحربية‏.‏

فالحربية هي التي تنشأ لغزو العدوّ وتشحين بالسلاح وآلات الحرب المقاتلة فتمرّ من ثغر الإسكندرية وثغر دمياط وتنيس والفرما إلى جهاد أعداء الله من الروم والفرنج وكانت هذه المراكب الحربية يُقال لها الأسطول ولا أحسب هذا اللفظ عربيًا‏.‏

وأمّا المراكب النيلية فإنها تنشأ لتمرّ في النيل صاعدة إلى أعلى الصعيد ومنحدرة إلى أسفل الأرض لحمل الغلال وغيرها ولما جاء الله تعالى بالإسلام لم يكن البحر يُركب للغزو في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأوّل من ركب البحر في الإسلام للغزو العلاء بن الحضرميّ رضي الله عنه وكان على البحرين من قبل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأحب أن يؤثر في الأعاجم أثرًا يعز الله به الإسلام على يديه فندب أهل البحرين لى فارس فبادروا إلى ذلك وفرّقهم أجنادًا على أحدها الجارود بن المعلي رضي الله عنه وعلى الثاني سوار بن هام رضي الله عنه وعلى الثالث خليد بن المنذر بن سوري رضي الله عنه وجعل خُليدًا على عامة الناس فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان عمر رضي الله عنه لا يأذن لأحد في ركوب البحر غازيًا كراهة للتغرير بجنده اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر رضي الله عنه فعبرت تلك الجنود ن البحرين إلى فارس فخرجوا في اصطخر وبإزائهم أهل فارس عليهم الهربذ فحاولوا بين المسلمين وبين سفنهم فقام خليد في الناس فقال‏:‏ أما بعد فإنّ الله تعالى إذا قضى أمرًا جرت المقادير على مطيته وأنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن عدوكم إلى حربهم وإنما جئتم لمحاربتهم والسفن والأرض بعد الآن لمن غلب فاستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلاّ على الخاشعين‏.‏

فأجابوه إلى القتال وصلوا الظهر ثم ناهزوهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا في موضع يُدعى طاوس فقتل من أهل فارس مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قبلها وخرج المسلمون يريدون البصرة إذ غرقت سفنهم ولم يجدوا في الرجوع إلى البحر سبيلًا فإذا بهم وقد أخذت عليهم الطرق فعسكروا وامتنعوا وبلغ ذلك مر بن الخطاب رضي الله عنه فاشتدّ غضبه على العلاء رضي الله عنه وكتب إليه بعزله وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه وأبغض الوجوه إليه بتأمير سعد بن أبي وقاص عيه وقال‏:‏ الحق بسعد بن أبي وقاص بمن معك فخرج رضي الله عنه من البحرين بمن معه نوحو سعد رضي الله عنه وهو يومئذٍ على الكوفة وكان بينهما تباين وتباعد وكتب عمر رضي الله عنه إلى عتبة بن غزوان بأنّ العلاء بن الحضرميّ حمل جندًا من المسلمين في البحر فأقطعهم إلى فارس وعصاني وأظنه لم يرد الله عز وجلّ بذلك فخشيت عليهم أن لايُنصروا وأن يُغلبوا فاندب لم الناس وضمهم إليك من قبل أن يجتاحوا فندب عتبة رضي الله عنه الناس وأخبرهم بكتاب عمر رضي الله عنه فانتدب عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن ومجراة بن ثور ونهار بن الحارث والترجمان بن فلان والحصين بن أبي الحرّ والأحنف بن قيس وسعد بن أبي العرجاء وعبد الرحمن بن سهل وصعصعة بن معاوية رضي الله تعالى عنهم‏.‏

فساروا من البصرة في اثني عشر ألفًا على البغال يجنبون الخيل وعيهم أبو سبرة بن بن أبي رهم رضي الله عنهم فساحل بهم حتى التقى أبو سبرة وخليد حيث أخذت عليهم الطرق وقد استصرخ أهل اصطخر أهل فارس كلهم فأتوهم من كل وجهة وكورة فالتقوا بهم وأبو سبرة فاقتتلوا ففتح الله على المسلمين وقتل المشركون وعاد المسلمون بالغنائم إلى البصرة ورجع أهل البحرين إلى منازلهم‏.‏

فلما فتح الله تعالى الشأم ألح معاوين بن أبي سفيان وهو يومئذٍ على جند دمشق والأردن على عمر رضي الله عنه في غزو البحر وقرب الروم من حمص‏.‏

وقال‏:‏ إنّ قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر رضي الله عنه اتهم معاوية لأنه المشير وأحب عمر رضي الله عنه أن يردعه فكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر أن يصف لي البحر وراكبه فإنّ نفسي تنازعني إليه وأنا اشتهي خلافها‏.‏

فكتب إليه‏:‏ يا أمير المؤمنين إني رأيت البحر خلقًا كبيرًا يركبه خلق صغير ليس إلاّ السماء والماء إن ركدّ حزّن القلوب وإن زلّ أزاغ العقول يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة هم فيه كدود على عود إن مال غرق وإن نجا برق‏.‏

فلما جاءه كتاب عمرو كتب رضي الله عنه إلى معاوية‏:‏ لا والذي بعث محمدًا بالحق لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا إنّا قد سمعنا أنّ بحر الشأم يُشرف على أطول شيء في الأرض يستأذن الله تعالى في كل يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستصعب وتالله لمسلم واحد أحب إليّ مما حوته الروم فإياك أن تعرض لي وقد تقدّمت إليك وقد علمتّ ما لقي العلاء مني ولم أتقدّم إليه في مثل ذلك‏.‏

وعن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لا يسالني الله عز وجلّ عن ركوب المسلمين البحر أبدًا‏.‏

وروي عنه ابنه عبد الله ري الله عنهما أنه قال‏:‏ لولا آية في كتاب الله تعالى لعلوت راكب البحر بالدرة‏.‏

ثم لما كانت خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه غزا المسلمون في البحر وكان أوّل من غزا فيه معاوية بن أي سفيان وذلك أنه لم يزل بعثمان رضي الله عنه حتى عزم على ذلك فأخره وقال‏:‏ تنتخب الناس ولا تقرع بينهم خيِّرهم فمن اختار الغزو طائعًا فاحمله وأعنه‏.‏

ففعل واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الحاسي خليفة بني فزارة فغزا خمسين غزوة من بين شاتية وصائفة في البرّ والبحر ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب وكان يدعو الله تعالى أن يرزقه العافية في جنده ولا يبتليه بمصاب أحد منهم حتى إذا أراد الله عز وجلّ أن يصيبه في جنده خرج في قارب طليعته فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم فثار به الروم وهجموا عليه فقاتلهم فأصيب وحده ثم قاتل الروم أصحابه فأصيبوا‏.‏

وغزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح في البحر لما أتاه قسطنطين بن هرقل سنة أربع وثلاثين في ألف مركب يريد الإسكندرية فسار عبد الله في مائتي مركب أو تزيد شيئًا وحاربه فكانت وقعة ذات الصواري التي نصر الله تعالى فيها جنده وهزم قسطنطين وقتل جنده وأغزى معاوية أيضًا عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه في البحر وأمره أن يتوجه إلى رودس فسار إليها‏.‏

ونزل الروم على البرلس في سنة ثلاث وخمسين في إمارة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ رضي الله عنه على مصر فخرج إليهم المسلمون في البرّ والبحر فاستشهد وردان مولى عمرو بن العاص في جمع كثير من المسلمين وبعث عبد الملك بن مروان لما ولي الخلافة إلى عامله على إفريقية حسان بن النعمان يأمره باتخاذ صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية‏.‏

ومنها كانت غزوة صقلية في أيام زيادة الله الأوّل بن إبراهيم بن الأغلب على شيخ الفتيا أسد بن الفرات ونزل الروم تنيس في سنة إحدى ومائة في إمارة بشر بن صفوان الكلبيّ على مصر من قبل يزيد بن عبد الملك فاستشهد جماعة من المسلمين وقد ذكر في أخبار الإسكندرية ودمياط وتنيس والفرما من هذا الكتاب جملة من نزلات الروم والفرنج عليها وما كان في زمن الإنشاء فانظره تجده إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد ذكر شيخنا العالم العلامة الأستاذ قاضي القضاة وليّ الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرميّ الإشبيلي تعليل امتناع المسلمين من ركوب البحر للغزو في أوّل الأمر فقال‏:‏ والسبب في ذلك أن العرب لبداوتهم لم يكونوا أوّل الأمر مهرة في ثقافته وركوبه والروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدربة بثقافته فلما استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولًا لهم وتحت أيديهم وتقرّب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أممًا وتكرّرت ممارستهم الحبر وثقافته استحدثوا بصرًا بها فتاقت أنفسهم إلى الجهاد فيه وأنشأوا السفن والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر وعلى ضفته مثل الشام وإفريقية والمغرب والأندلس‏.‏

وأوّل ما أنشيء الأسطول بمصر في خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم عندما نزل الروم دمياط في يوم عرفة سنة ثمان وثلاثين ومائتين وأمير مصر يومئذٍ عنبسة بن إسحق فملكوها وقتلوا بها جمعًا كثيرًا من المسلمين وسبوا النساء والأطفال ومضوا إلى تنيس فأقاموا باشتومها‏.‏

فوقع الاهتمام من ذلك الوقت بأمر الأسطول وصار من أهمّ ما يعمل بمصر وأنشئت الشواني برسم الأسطول وجعلت الأرزاق لغزاة البحر كما هي اغزاة البرّ وانتدب الأمراء له الرماة فاجتهد الناس بمصر في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة وانتخب له القوّاد العارفون بمحاربة العدوّ وكان لا ينزل في رجال الأسطول غشيم ولا جاهل بأمور الحرب هذا وللناس إذ ذاك رغبة في الجهاد أعداء الله وإقامة دينه لا جرم أنه كان لخدّام الأسطول حرمة ومكانة ولكل أحد من الناس رغبة في أنه يعدّ من جملتهم فيسعى بالوسائل حتى يستقرّ فيه وكان من غزو الأسطول بلاد العدوّ ما قد شحنت به كتب التواريخ‏.‏

فكانت الحرب بين المسلمين والروم سجالًا ينال المسلمون من العدوّ وينال العدوّ منهم ويأسر بعضهم بعضًا لكثرة هجوم أساطيل الإسلام بلاد العدوّ فإنها كانت تسير من مصر ومن الشام ومن أفريقية فلذلك احتاج خلفاء الإسلام إلى الفداء وكان أوّل فداء وقع بمال في الإسلام أيام بني العباس ولم يقع في أيام أمية فداء مشهور وإنما كان يفادي بالنفر بعد النفر في سواحل الشأم ومصر والإسكندرية وبلاد ملطية وبقية الثغور الخزرية إلى أن كانت خلافة أمير المؤمنين هارون الرشيد‏.‏

الفداء الأوّل‏:‏ باللامش من سواحل البحر الروميّ قريبًا من طرسوس في سنة تسع وثمانين ومائة ومَلِكُ الروم يومئذٍ تقفور بن اشبراق وكان ذلك على يد القاسم بن الرشيد وهو معسكر بمرج دابق من بلاد قنسرين في أعمال حلب ففودي بكل أسير كان ببلاد الروم من ذكر أو أنثى وحضر هذا الفداء من أهل الثغور وغيرهم من أهل الأمصار نحو من خمسمائة ألف إنسان بأحسن ما يكون من العدد والخيل والسلاح والقوّة قد أخذوا السهل والجبل وضاق بهم الفضاء وحضرت مراكب الروم الحربية بأحسن ما يكون من الزيّ معهم أسارى المسلمين فكان عدّة من فودي به من المسلمين في اثني عشر يومًا ثلاثة آلاف وسبعمائة أسير وأقام ابن الرشيد باللامش أربعين يومًا قبل الأيام التي وقع فيها الفداء وبعدها وقال مروان بن أبي حفصة في الفداء يخاطب الرشيد من أبيات‏:‏ على حين أعيى المسلمينَ فُكاكُها وقالوا سجونَ المشركينَ قبورُها الفداء الثاني‏:‏ كان في خلافة الرشيد أيضًا باللامش في سنة اثنتين وتسعين ومائة وملك الروم تقفور وكان القائم به ثابت بن نصر بن مالك الخزاعيّ أمير الثغور الشامية حضره ألوف من الناس وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفين وخمسمائة من ذكر وأنثى‏.‏

الفداء الثالث‏:‏ وقع في خلافة الواثق باللامش في المحرّم سنة إحدى وثلاثين ومائتين وملك الروم ميخائيل بن نوفيل وكان القائم به خاقان التركي وعدّة من فودي به من المسلمين في عشرة أيام أربعة آلاف وثلاثمائة واثنان وستون من ذكر وأنثى وحضر مع خاقان أبو رملة من قبل قاضي القضاة أحمد بن أبي داود يمتحن الأسرى وقت المفاداة فمن قال منهم بخلق القرآن فودي به وأحسن إليه ومن أبى تُرك بأرض الروم فاختار جماعة من الأسرى الرجوع إلى أرض النصرانية على القول بذلك وكتب مصنفه في أخبار الروم وملوكهم وبلادهم فنالته محن على القول بخلق القرآن ثم تخلص‏.‏

الفداء الرابع‏:‏ في خلافة المتوكل على الله باللامش أيضًا في شوّال سنة إحدى وأربعين ومائتين والملك ميخائيل وكان القائم به سيف خادم المتوكل وحضر معه جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ القاضي وعليّ بن يحيى الأرمنيّ أمير الثغور الشامية وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفي رجل ومائة امرأة وكان مع الروم من الناصارى المأسورين من أرض الإسلام مائة رجل ونيف فعوّضوا مكانهم عدّة أعلاج غذ كان الفداء لا يقع على نصرانيّ ولا ينعقد‏.‏

الفدغء الخامس‏:‏ في خلافة المتوكل وملك الروم ميخائيل أيضًا باللامش مستهل صفر سنة ست وأربعين ومائتين وكان القائم به عليّ بن يحيى الأرمنيّ أمير الثغور ومعه نصر بن الأزهر الشيعيّ من شيعة بني العباس المرسل إلى الملك في أمر الفداء من قبل المتوكل وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفين وثلاثمائة وسبعة وستين من ذكر وأنثى‏.‏

الفداء السادس‏:‏ كان في أيام المعتز والملك على الروم بسيل على يد شفيع الخادم في سنة ثلاث وخمسين ومائتين‏.‏

الفداء السابع‏:‏ في خلافة المعتضد باللامش في سوّال سنة ثلاث وثمانين ومائتين وملك الروم بن بسيل وكان القائم به أحمد بن طغان أمير الثغور الشامية وانطاكية من قبل الأمير أبي الجيش خماوريه بن أحمد بن طولون وكانت الهدنة لهذا الفداء وقعت في سنة اثنتين وثمانين ومائتين فقتل أبو الجيش بدمشق في ذي القعدة من هذه السنة وتم الفداء في إمارة ولده جيش بن خمارويه كانت عدّة من فودي به من المسلمين في عشرة أيام ألفين وأربعمائة وخمسة وتسعين من الفداء الثامن‏:‏ في خلافة المكتفي باللامش في ذي القعدة سنة اثنتين وتسعين ومائتين وملك الروم اليوم أيضًا وكان القائم به رستم بن نزدوي أمير الثغورالشامية وكانت عدة من فودي به من المسلمين في أربعة أيام ألفًا ومائة وخمسة وخمسين من ذكر وأنثى وعرف بفداء الغدر وذلك أن الروم غدروا وانصرفوا ببقية الأساري‏.‏

الفداء التاسع‏:‏ في خلافة المكتفي وملك الروم أليون باللامش أيضًا في شوّال سنة خمس وتسعين ومائتين والقائم به رستم وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ألفين وثمانمائة واثنين وأربعين من ذكر وأنثى‏.‏

الفداء العاشر‏:‏ في خلافة المقتدر باللامش في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثلاثمائة وملك الروم قسطنطين بن اليون بن بسيل وهو صغير في حجر أرمانوس وكان القائم بهذا الفداء مونس الخادم وبشير الخادم الأفشيني أمير الثغور الشامية وانطاكية والمتوسط له والمعاون عليه أبو عمير عدّي بن أحمد بن عبد الباقي التميميّ الأدنيّ من أهل أدنة وعدّة من فودي به من المسلمين في ثمانية أيام ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستة وثلاثون من ذكر وأنثى‏.‏

الفداء الحادي عشر‏:‏ في خلافة المقتدر وملك أرمانوس وقسطنطين على الروم وكان باللامش في شهر رجب سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة والقائم به مفلح الخادم الأسود المقتدري وبشير الخادم خليفة شمل الخادم على الثغور الشامية وعدّة من فودي به من المسلمين في تسعة عشر يومًا ثلاثة آلاف وتسعمائة وثلاثة وثلاثون من ذكر وأنثى‏.‏

الفداء الثاني عشر‏:‏ في خلافة الراضي باللامش في سلخ ذي القعدة وأيام من ذي الحجة سنة ست وعشرين وثلاثمائة والملكان على الروم قسطنطسن وأرمانوس والقائم به ابن ورقاء الشيبانيّ من قبل الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات وبشير الشمليّ أمير الثغور الشامية وعدّة من فودي به من المسلمين في ستة عشر يومًا ستة آلاف وثلاثمائة ونيف من ذكر وأنثى وبقي في أيدي الروم من المسلمين الأسرى ثمانمائة رجل رُدّوا ففودي بهم في عدّة مرار وزيدوا في الهدنة بعد انقضاء الفداء مدّة ستة أشهر لأجل من تخلف في أيدي الروم من المسلمين حتى جمع الأسارى منهم الفداء الثالث عشر‏:‏ في خلافة المطيع باللامش في شهر ربيع الأوّل سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة والملك على الروم قسطنطين والقائم به نصر الشملي من قبل سيف الدولة أبي الحسن عليّ بن حمدان صاحب جند حمس وجند قنسرين وديار بكر وديار مصر والثغور الشامية والخزرية وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ألفين وأربعمائة واثنين وثمانين من ذكر وأنثى وفضل للروم على المسلمين قرضًا مائتان وثلاثون لكثرة من كان في أيديهم فوفاهم سيف الدولة ذلك وحمله إليهم وكان الذي شرع في هذا الفداء الإمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أمير مصر والشام والثغور الشامية وكان أبو عمير عديّ بن أحمد بن عبد الباقي الأدنيّ شيخ الثغور قدم إليه وهو بدمشق ي ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ومعه رسول ملك الروم في إتمام هذا الفداء والإخشيد شديد العلة فتوفي يوم الجمعة لثمان خلون من ذي الحجة منها وسار أبو المسك كافور الإخشيديّ بالجيش راجعًا إلى مصر وحمل معه أبا عُمير ورسول ملك الروم إلى فلسطين فدفع إليهما ثلاثين ألف دينار من مال الفداء فسارا إلى مدينة صور وركبا البحر إلى طرسوس فلما وصلا كاتب نصر اشملي أمير الثغور سيف الدولة بن حمدان ودعا له على منابر الثغور فجدّ في إتمام هذا الفداء فنُسب إليه‏.‏

ووقعت أفدية أخرى ليس لها شهرة‏.‏

فمنها‏:‏ فداء في خلافة المهدي محمد على يد النقاش الأنطاكي وفداء في أيام الرشيد في شوّال سنة إحدى وثمانين ومائة على يد عياض بن سنان أمير الثغور الشامية وفداء في أيام الأمين على يد ثابت بن نصر في ذي القعدة سنة أربع وتسعين ومائة وفداء في أيام الأمين على يد ثابت بن نصر أيضًا في ذي القعدة سنة إحدى ومائتين وفداء في أيام المتوكل سنة سبع وأربعين ومائتين على يد محمد بن علي وفداء في أيام المعتمد على يد شفيع في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين وفداء كان في الإسكندرية في شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة خرج فيه أبو بكر محمد بن عليّ المارداني من مصر ومعه الشريف أبو القاسم الرئيس والقاضي أبو حفص عمر بن الحسين العباسي وحمزة بن محمد الكتاني في جمع كبير وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ستين نفسًا بين ذكر وأنثى‏.‏

فلما سار الروم إلى البلاد الشامية بعد سنة خمسين وثلاثمائة اشتدّ أمرهم بأخذهم البلاد وقويت العناية بالاسطول في مصر من قدم المعز لدين الله وأنشأ المراكب الحربية واقتدى به بنوه وكان لهم اهتمام بأمور الجهاد واعتناء بالأسطول وواصلوا إنشاء المراكب بمدينة مصر واسكندرية ودمياط في الشواني الحربية والشلنديات والمسطحات وتسييرها إلى بلاد الساحل مثل صور وعكا وعسقلان وكانت جريدة قوّاد الأسطول في آخر آمرهم تزيد على خمسة آلاف مدوّنة منهم عشرة أعيان يقال لهم القوّاد واحدهم قائد وتصل جامكية كلّ واحد منهم إلى عشرين دينارًا ثم إلى خمسة عشر دينارًا ثم إلى عشرة دنانير ثم إلى ثمانية ثم إلى دنارين وهي أقلها‏.‏

ولهم إقطاعات تُعرف بأبواب الغزاة بما فيها من النطرون فيصل دينارهم بالمناسبة إلى نصف دينار وكان يعين من القوّاد العشرة واحد فيصير رئيس الأسطول ويكون مه المقدم والقاوش فإذا ساروا إلى الغزو كان هو الذي يقلع بهم وبه يقتضي الجميع فيرسون بإرسائه ويقلعون بإقلاعه ولا بدّ أن يقدم على الأسطول أمير كبير من أعيان أمراء الدولة وأقواهم نفسًا ويتولى النفقة في غزاة الأسطول الخليفة بنفسه بحضور الوزير فإذا أراد أراد النفقة فيما تعين من عدّة المراكب السائرة وكان في أيام المعز لدين الله تزيد على ستمائة قطعة وآخر ما صارت إليه في آخر الدولة نحو الثمانين شونة وعشر مسطحات وعشر حمالة فما تقصر عن مائة قطعة فيتقدّم إلى النقباء بإحضار الرجال وفيهم من كان يتمعش بمصر والقاهرة وفيهم من هو خارج عنهما فيجتمعون‏.‏

وكانت لهم المشاهرة والجرايات في مدّة أيام سفرهم وهم معروفون عند عشرين عريفًا يقال لهم النقباء واحدهم نقيب ولا يُكره أحد على السفر فإذا اجتمعوا أعلم النقباء المقدّم فأعلم بذلك الوزير فطالع الوزير الخليفة بالحال فقرّر يومًا للنفقة فحضر الوزير بالإستدعاء من ديوان الإنشاء على العادة فيجلس الخليفة على هيئته في مجلسه ويجلس الوزير في مكانه ويحضر صاحبا ديوان الجيش وهما المستوفي والكاتب والمستوفي هو أميرهما فيجلس من داخل عتبة المجلس وهذه رتبة له يتميز بها ويجلس بجانبه من وراء العتبة كاتب الجيش في قاعة الدار على حصر مفروشة وشرط هذا المستوفي أن يكون عادلًا ومن أعيان الكتّاب ويسمى اليوم في زمننا ناظر الجيش وأما كاتب الجيش فإنه كان في غالب الأمر يهوديًا وللمجلس الذي فيه الخليفة والوزير انطاع تصب عليها الدراهم ويحضر الوزانون ببيت المال لذلك فذا تهيأ الإنفاق أُدخِلَ الغزاة مائة مائة فيقفون في أخريات من هو واقف في الخدمة من جانب واحد نقابة نقابة وتكون أسماؤهم قد رتبت في أوراق لاستدعائم بين يدي الخليفة فيَستدعي مستوفي الجيش من تلك الأوراق المنفق عليهم واحدًا واحدًا فذا خرج اسمه عبر من الجانب الذي هو فيه إلى الجانب الآخر فإذا تكملت عشرة وزن الوزانون لهم النفقة وكانت مقرّرة لكلّ واحد خمسة دنانير صرف ستة وثلاثين درهمًا بدينار فيسلمها لهم النقيب وتكتب باسمه وبيده وتمضي النفقة هكذا إلى آخرها‏.‏

فإذا تم ذلك ركب الوزير من بين يدي الخليفة وانفضّ ذلك الجمع فيُحمل إلى الوزير من القصر مائدة يُقال لها غداء الوزير وهي سبع مجنقات أوساط إحداها بلحم الدجاج وفستق معمولة بصناعة محكمى والبقية شواء وهي مكمورة بالأزهار‏.‏

فتكون النفقة على ذلك مدّة أيام متوالية مرّة ومتفرّقة مرّة فإذا تكاملت النفقة وتجهزت المراكب وتهيأت للسفر ركب الخليفة والوزير إلى ساحل النيل بالمقس خارج القاهرة وكان هناك على شاطيء النيل بالجامع منظرة يجلس فيها الخليفة برسم وداع الأسطول ولقائه إذا عاد فإذا جلس للوداع جاءت القوّاد بالمراكب من مصر إلى هناك للحركات في البحر بين يديه وهي مزينة بأسلحتها ولبودها وما فيها من المنجنيقات فيرمى بها وتنحدر المراكب وتقلع وتفعل سائر ما تفعله عند لقاء العدوّ ثم يحضر المقدّم والرئيس إلى بين يدي الخليفة فيودّعها ويدعو للجماعة بالنصرة والسلامة ويعطى للمقدم مائة دينار وللرئيس عشرين دينارًا وينحدر الأسطول إلى دمياط ومن هناك يخرج إلى بحر الملح فيكون له ببلاد العدوّ صيت عظيم ومهابة قوية والعادة أنه إذا غنم الأسطول ما عسى أن يغنم لا يتعرّض السلطان منه إلى شيء البتة إلاّ ما كان من الأسرى والسلاح فإنه للسلطان وما عداهما من المال والثياب ونحوهما فإنه لغزة الأسطول لا يشاركهم فيه أحد فإذا قدم الأسطول خرج الخليفة أيضًا إلى منظرة المقس وجلس فيها للقائه وقدم الأسطول مرّة بألف وخمسمائة أسير وكانت العادة أن الأسرى ينزل بهم في المناخ وتضاف الرجال إلى من فيه من الأسرى ويُمضى بالنساء والأطفال إلى القصر بعدما يُعطى منهم الوزير طائفة ويفرّق ما بقي من النساء على الجهات والاقارب فيستخدمونهنّ ويربونهنّ حتى يتقنّ الصنائع ويُدفع الصغار من الأسرى إلى الاستادين فيبرونهم ويتعلمون الكتابة والرماية ويقال لهم الترابي وفيهم من صار أميرًا من صبيان خاص الخليفة من الأسرى من كان يُستراب به فيقتل ومن كان منهم شيخًا لا يُنتفع به ضربت عنقه وألقي في بئر كانت في خرائب مصر تُعرف ببئر المنامة ولم يُعرف قط عن الدولة الفاطمية أنها فادت أسيرًا من الفرنج بمال ولا بأسير مثله وكن المنفق في الأسطول كلّ سنة خارجًا عن العدد والآلات‏.‏

ولم يزل الأسطول على ذلك إلى أن كانت وزارة شاور ونزل مري ملك الفرنج على بركة الحبش فأمر شاور بتحريق مصر وتحريق مراكب الأسطول فحرّقت ونهبها العبيد فيما نهبوا فلما كان زوال الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب اعتنى أيضًا بأمر الأسطول وأفرد فه ديوانًا عرف بديوان الأسطول وعين لهذا الديوان الفيوم بأعمالها والحبس الجيوشي في البرّين الشرقيّ والغربيّ وهو من البرّ الشرقيّ بهتين والأميرية والمنية ومن البرّ الغربيّ ناحية سفط ونهيا ووسيم والبساتين خارج القاهرة وعين له أيضًا الخارج وهو أشجار من سنط لا تحصى كثرة في البهنساوية وسفط رئيسين والأشمونين والأسيوطية والأخميمية والقوصية لم تزل بهذه النواحي لا يُقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منها مائة دينار وقد ذكر خبر هذا الخراج في ذكر أقسام مال مصر من هذا الكتاب وعين له أيضًا النطرون وكان قد بلغ ضمانة ثمانية آلاف دينار ثم أفرد لديوان الأسطول مع ما ذكر الزكاة التي كانت تجبى بمصر وبلغت في سنة زيادة على خمسين ألف دينار وأفرد له المراكب الديوانية وناحية أشناي وطنبدي وسلّم هذا الديوان لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب فأقام في مباشرته وعمالته صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر وتقرّر ديوان الأسطول الذي ينفق في رجاله نصف وربع دينار بعدما كان نصف وثمن دينار‏.‏

فلما مات السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب استمرّ الحال في الأسطول قليلًا ثم قلّ الاهتمام به وصار لا يُفكر في أمره إلا عند الحاجة إليه فإذا دعت الضرورة إلى تجهيزه طُلب له الرجا لو قبض عليهم من الطرقات وقيدوا في السلاسل نهارًا وسجنوا في الليل حتى لا يهربوا ولا يُصرفُ لهم إلاّ شيء قليل من الخبز ونحوه وربما أقاموا الأيام بغير شيء كما يُفعل بالأسرى من العدوّ فصارت خدمة الأسطول عارًا يُسَبُّ به الرجال وإذا قيل لرجل في مصر يا أسطوليّ غضب غضبًا شديدًا بعدما كان خدّام الأسطول يقال لم المجاهدون في سبيل الله والغزاة في أعداء الله ويُتبرّك بدعائهم الناس‏.‏

ثم لما انقرضت دولة بني أيوب وتملك الأتراك المماليك مصر أهملوا أمر الأسطول إلى أن كانت أيام السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري فنظر في أمر الشواني الحربية واستدعى برجال الأسطول وكان الأمراء قد استعملواهم في الحراريق وغيرها وندبهم للسفر وأمر بمدّ الشواني وقطع الأخشاب لعمارتها وإقامتها على ما كانت عليه في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب واحترز على الخراج ومنع الناس من التصرف في أعواد العمل وتقدّم بعمارة الشواني في ثغري الإسكندرية ودمياط وصار ينزل بنفسه إلى الصناعة بمصر ويرتب ما يجب ترتيبه من عمل الشواني ومصالحها واستدعى بشواني الثور إلى مصر فبلغت زيادة على أربعين قطعة سوى الحراريق والطرائد فإنها كانت عدّة حسون رئيس الشواني في أعلامها الصُلبان يريد بذلك أنها تُفى إذا عبرت البحر على الفرنج حتى تطرقَهم على غفلة فكره الناس منه ذلك فلما قاربت قبرس تقدّم ابن حسون في الليل ليهجهم المينا فصدم الشونة المقدّمة شعبًا فانكسرت وتبعتها بقية الشواني فتكسرت الشواني كلها وعلم بذلك متملك قبرس فأسر كلّ من فيها أحاط بما معهم وكتب إلى السلطان يقرّعه ويوبخه وأن شوانيه قد تكسرت وأخذ ما فيها وعدّتها إحدى عشرة شونة وأسر رجالها‏.‏

فحمد السلطان الله تعالى وقال‏:‏ الحمد لله منذ ملكني الله تعالى ما خذل لي عسكر ولا ذُلّت لي راية وما زلت أخشى العين فالحمد الله تعالى بهذا ولا بغيره وأمر بإنشاء عشرين شونة وأحشر خمس شواني كانت على مدينة قوص من صعيد مصر ولازم الركوب إلى صناعة العمارة بمصر كلّ يوم في مدّة شهر المحرّم سنة سبعين وستمائة إلى أن تنجزت فلما كان في نصف المحرّم سنة إحدى وسبعين وستمائة زاد النيل حتى لعبت الشواني بين يديه فكان يومًا مشهودًا في سنة اثنتين وتسعين وستمائة تقدم السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون إلى الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس بتجهيز أمير الشواني فنزل إلى الصناعة واستدعى الرئيس وهيأ جميع ما تحتاج إليه الشواني حتى كملت عدّتها نحو ستين شونة وشحنها بالعدد وآلات الحرب ورتب بها عدّة من المماليك السلطانية وألبسهم السلاح فأقبل الناس لمشاهدتهم من كل أوب قبل ركوب السلطان بثلاثة أيام وصنوعوا لهم قصورًا من خشب وأخصاص القش على شاطىء النيل خارج مدينة مصر وبالروضة واكتروا الساحات التي قدّام الور والزرابي بالمائتي درهم كلّ زريبة ما دونها بحيث لم يبق بيت بالقاهرة ومصر إلا وخرج أهله أو بعضهم لرؤية ذلك فصار جمعًا عظيمًا وركب السلطان من قلعة الجبل بكرة والناس قد ملأ وأما بين المقياس إلى بستان الخشاب إلى بلاق وونف السلطان ونائبه الأمير بيدر وبقية الأمراؤ قدّام دار النحاس ومنع الحاجب من التعرّض لطرد العامذة فبرزت الشواني واحدى بعد واحدة وقد عمل في كل شونة برج وقلعة تحاصر والقتال عليها ملح والنفط يُرمى عليها وعدّة من النقابين في أعمال الحيلة في النقب وما منهم إلا من أظهر في شونته عملًا معجبًا وصناعة غريبة يفوق بها على صاحبه وتقدّم ابن موسى الراعي وهو في مركز نيلية فقرأ قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ بسم الله مجراها ومرساها إنّ ربي لغفور رحيم ‏"‏ هود ثم تلاها بقراءة قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ‏"‏ آل عمران إلى آخر الآية هذا والشواني تتواصل بمحاربة بعضها بعضًا إلى أن أذن لصلاة الظهر فمضى السلطان بعسكره عائدًا إلى القلعة فأقام الناس بقية يومهم وتلك الليلة على ما هم عليه من اللهو في اجتماعهم وكان شيئًا يجلّ وصفه وأنفق فيه مال لا يعدّ بحيث بلغت أجرة المركب في هذا اليوم ستمائة درهم فما دونها وكان الرجل الواحد يؤهذ منه أجرة ركوبه في المركب خمسة دراهم وحصل لعدّة من النواتية أجرة مراكبهم عن سنة في هذا اليوم وكان الخبز يباع اثنا عشر رطلًا بدرهم فلكثرة اجتماع الناس بمصر بيع سبعة أرطال بدرهم فبلغ خبر الشواني إلى بلاد الفرنج فبعثوا رسلهم بالهدايا يطلبون الصلح‏.‏