فصل: الخندق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 الخندق

هذا الموضوع قرية خارج باب الفتوح كانت تعرف أوّلًا بمنية الإصبغ ثم لما اختط القائد جوهر القاهرة أمر المغاربة أن يحفروا خندقًا من جهة الشام من الجبل إلى الإبليز عرضه عشرة أذرع في عمق مثلها فبُديء به يوم السبت حادي عشري شعبان سنة ستين وثلاثمائة وفرغ في أيام يسيرة وحفر خندقًا آخر قدّامه وعمقه ونصب عليه باب يدخل منه وهو الباب الذي كان على ميدان البستان الذي للأخشيد وقصد أن يقاتل القرامطة من وراء هذا الخندق فقيل له من حينئذ الخندق وخندق العبيد والحفرة ثم صاب بستانًا جليلًا من جملة البساتين السلطانية في أيام الخلفاء الفاطميين وأدركناها من منتزهات القاهرة البهجة إلى أن خربت‏.‏

قال ابن عبد الحكم‏:‏ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أقطع ابن سندر منية الأصبغ فحاز لنفسه منها ألف فدّان كما حدّثنا يحيى بن خالد عن الليث بن سعد رضي الله عنه ولم يبلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقطع أحدًا من الناس شيئًا من أرض مصر إلاّ ابن سندر فإنه أقطعه منية الأصبغ فلم تزل له حتى مات فاشتراها الأصبغ بن عبد العزيز من ورثته فليس بمصر قطيعة أقدم منها ولا أفضل وكان سبب إقطاع عمر رضي الله عنه ما أقطعه من ذلك كما حدّثنا عبد الملك بن مسلمة عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيبة عن أبيه عن جدّه أنه كان لزنباع بن روح الجذاميّ غلام يقال له سندر فوجده يقبل جارية له فجبه وجدع أنفه وأذنه فأتى سندر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى زنباع فقال‏:‏ ‏"‏ لا تحملوهم من العمل ما لا يطيقون وأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون فن رضيتم فأمسكوا وإن كرهتم فبيعوا ولا تعذبوا خلق الله ومن مثّل به أو أحرق بالنار فهو حرّ وهو مولى الله ورسوله فأعتق سندر فقال‏:‏ أوص بي يا رسول الله‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أوصي بك كل مسلم ‏"‏ فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سندر أبا بكر رضي الله عنه فقال‏:‏ احفظ فيّ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فعاله أبو بكر رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ نعم إن رضيت أ تقيم عند أجريت عليك ما كان يُجرى عليك أبو بكر رضي الله عنه وإلا فانظر أيّ موضع أكتب لك‏.‏

فقال سندر‏:‏ مصر لأنها أرض ريف فكتب له إلى عمرو بن العاص‏:‏ احفظ فيه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما قدم إلى عمرو رضي الله عنه أقطع له أرضًا واسعة ودارًا فجعل سندر يعيش فيها فلما مات قبضت في مال الله تعالى‏.‏

قال عمرو بن شعيب‏:‏ ثم اقطعها عبد العزيز بن مروان الأصبغ بعد فهي من خير أموالهم‏.‏

قال‏:‏ ويقال سندر وابن سندر وقال ابن يونس مسروح بن سندر الخصيّ مولى زنباع بن روح بن سلامى الجذاميّ يُكنّى أبا الأسود له صحبة قدم مصر بعد الفتح بكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالوصاة فأقطع منية الأصبغ بن عبد العزيز‏.‏

روى عنه أهل مصر حديثين روى عنه مزيد بن عبد الله البرنيّ وربيعة بن لقيط التجيبيّ ويقال سندر الخصيّ وابن سندر أثبت توفي بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان‏.‏

ويقال كان مولاه وَجَدَهُ يقبِّل جارية له فجبه وجدع أنفه وأذني فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا ذلك إليه فارسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زنباع فقال‏:‏ لا تحملوهم يعني العبيد ما لا يطيقون وأطعموهم مما تأكلون‏.‏

فذكر الحديث بطوله وذُكر عن عثمان بن سويد بن سندر أنه أدرك مسروح بن سندر الذي جدعه زنباع بن روح وكان جدّه لأمه فقال‏:‏ كان ربما تغدّى معي بموضوع من قرية عثمان واسمها سمسم وكان لابن سندر إلى جانبها قرية يقال لها قلون قطيعة وكان له مال كثير من رقيق وغير ذلك وكان ذا دهاء منكرًا جسيمًا وعمر حتى أدرك زمان عبد الملك بن مروان وكان لروح بن سلامة الخصيّ ويكنى أبا الأسود له صحبة ويقال له سندر ودخل مصر بعد الفتح سنة اثنتين وعشرين‏.‏

وقال الكنديّ في كتاب الموالي قال‏:‏ أقبل عمرو بن العاص رضي الله عنه يومًا يسير وابن سندر معه فكان ابن سندر ونفر يسيرون بين يدي عمرو بن العاص رضي الله عنه وأثاروا الغبار فجعل عمرو عمامته على طرف أنفه ثم قال‏:‏ اتقوا الغبار فإنه أوشك شيء دخولًا وأبعده خروجًا وإذا وقع على الرثة صار نسمة‏.‏

فقال بعضهم لأولئك النفر تنحوا ففعلوا إلاّ ابن سندر فقيل له ألا تتنحى يا ابن سندر فقال عمرو‏:‏ دعوه فإن غبار الخصي لا يضرّ فسمعها ابن سندر فغضب وقال‏:‏ أما والله لو كنت من المؤمنين ما آذيتني‏.‏

فقال عمرو‏:‏ يغفر الله لك أنا بحمد الله من المؤمنين‏.‏

فقال ابن سندر‏:‏ لقد علمت أني سألت رسول اله صلى الله عليه وسلم أن يوصي بي فقال‏:‏ أوصي بك كل مؤمن‏.‏

وقال ابن يونس‏:‏ اصبغ بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم يكنى أبا ريان حكى عنه أبو حبرة عبد الله بن عباد المغافريّ وعون بن عبد الله وغيره توفي ليلة الجمعة لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وثمانين وقبل أبيه‏.‏

وقال أبو الفجر علي بن الحسين الأصبهانيّ في كتاب الأغاني الكبير عن الرياشيّ أنه قال عن سكينة بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام أن أبا عذرتها عبد الله بن الحسين بن علي ثم خلفه عليها العثماني ثم مصعب بن الزبير ثم الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان‏.‏

قال‏:‏ وكان يتولى مصر فكتبت إلهي سكينة أنّ مصر أرض وخمة فبنى لها مدينى تسمى بمدينة الأصبغ وبلغ عبد الملك تزوّجه أباها فنفس بها عليه وكتب إليه‏:‏ اختصر مصرًا وسكينة فبعث إليه بطلاقها ولم يدخل بها ومتعها بعشرين ألف دينار‏.‏

قلت في هذا الخبر أوهام منها أن الأصبغ لم يل مصر وإنما كان مع أبيه عبد العزيز بن مروان ومنها أنّ الذي بناه الأصبغ لسكينة منية الأصبغ هذه وليست مدينة ومنها أن الأصبغ لم يطلّق سكينة وإنما مات عنها قبل أن يدخل عليها‏.‏

وقال ابن زولاق في كتاب إتمام كتاب الكنديّ في أخبار أمراء مصر‏:‏ وفي شوّال يعني من سنة ستين وثلاثمائة كثر الأرجاف بوصول القرامطة إلى الشام ورئيسهم الحسن بن محمد الأعسم وفي هذا الوقت ورد الخبر بقتل جعفر بن فلاح قتله القرامطة بدمشق ولما قُتل ملكت القرامطة دمشق وصاروا إلى الرملة فانحاز معاذ بن حيان إلى يافا متحصنًا بها وفي هذا الوقت تأهب جوهر القائد لقتال القرامطة وحفر خندقًا وعمل عليه بابًا ونصب عليه بابي الحديد اللذين كانا على ميدان الإخشيد وبنى القنطرة على الخليج وحفر خندق السري بن الحكم وفرّق السلاح على رجال المغاربة والمصريين ووكل بأبي الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات خادمًا يبيت معه في داره ويركب معه حيث كان وأنفذ إلى ناحية الحجاز فتعرّف خبر القرامطة وفي ذي الحجة كبس القرامط القلزم وأخذوا واليها ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائةن وفي المحرّم بلغت الرامطة عين شمس فاستعدّ جوهر للقتال لشعر بقين من صفر غلق أبواب الطابية وضبط الداخل والخارج وأمر الناس بالخروج إليه وأن يخرج الأشراف كلهم فخرج إليه أبو جعفر مسلم وغير المضارب وفي مستهلّ ربيع الأول التحم القتال مع القرامطة على باب القاهرة وكان يوم جمعة فقتل من الفريقين جماعة وأسر جماعة وأصبحوا يوم السبت متكافئين ثم غدوا يوم الأحد للقتال وسار الحسن الأعسم بجميع عساكره ومشى للقتال على الخندق والباب مغلق فلما زالت الشمس فتح جوهر الباب واقتتلوا قتالًا شديدًا وقتل خلق كثير ثم ولى الأعسم منهزمًا ولم يتبعه القائد جوهر ونهب سواد الأعسم بالجب ووجدت صناديقه وكتبه وانصرف في الليل على طريق القلزم ونهب بنو عقيل وبنو طيّ كثيرًا من سواده‏.‏

وهومشغول بالقتال وكان جميع ما جرى على القرمطي بتدبير جوهر وجوائز أنفذها ولو أراد أخذ الأعسم في انهزامه لأخذه ولكن الليل حجز فكره جوهر اتباعه خوفًا من الحيلة والمكيدة وحضر القتال خلق من رعية مصر وأمر جوهر بالنداء في المدينة من جاء بالقرمطيّ أو برأسه فله ثلاثمائة ألف درهم وخمسون خلعة وخمسون سرجًا محلى على دوابها وثلاث جوائز ومدح بعضهم القائد جوهرًا بأبيات منها‏:‏ كأنّ طراز النصرُ فوقَ جبينَهُ يلوحُ وأرواحُ الورى بمينِهِ ولم يتفق على القرامطة منذ ابتداء أمرهم كسرة أقبح من هذه الكسرة ومنها فارقهم من كان قد اجتمع إليهم من الكافورية والإخشيدية فقبض جوهر على نحو الألف منهم وسجنهم مقيدين‏.‏

وقال ابن زولاق في كتاب سيرة الإمام المعز لدين الله ومن خطِّه نقلتُ وفي هذا الشهر يعني المحرّم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة تبسطت المغاربة في نواحي القرافة والمغاير وما قابرها فنزلوا في الدور وأخرجوا الناس من دورهم ونقلوا السكان وشرعوا في السكنى في المدينة وكان المعز قد أمرهم أن يسكنوا أطراف المدينة فخرج الناس واستغاثوا بالمعز فمرهم أن يسكنوا نواحي عين شمس وركب المعز بنفسه حتى شاهد المواضع التي ينزلون فيها وأمر لهم بمال يبنون به وهو الموضع الذي يُعرف اليوم بالخندق والحفرة وخندق العبيد وجعل لهم واليًا وقاضيًا ثم سكن أكثرهم بالمدينة مخالطين لأهل مصر ولم يكن القائد جوهر يبيحهم سكنى المدينة ولا المبيت بها وحظر ذلك عليهم وكان مناديه ينادي كل عشية لا يبيتن أحد في المدينة من المغاربة‏.‏

وقال ياقوت‏:‏ منية الأصبغ تنسب إلى الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان ولا يعرف اليوم بمصر موضع يعرف بهذا الاسم وزعموا أنها القرية المعروفة بالخندق قريبًا من شرقيّ القاهرة‏.‏

وقال ابن عبد الظاهر‏:‏ الخندق هو منية الأصبغ وهو الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان‏.‏

قال مؤلفه رحمه الله‏:‏ وقد وهم ابن عبد الظاهر فجعل أن الخندق احتفره العزيز بالله وإنما احتفره جوهر كما تقدّم وأدركت الخندق قرية لطيفة يبرز الناس من القاهرة إليها ليتنزهوا بها في أيام النيل والربيع ويسكنها طائفة كبيرة وفيها بساتين عامرة بالنخيل الفخر والثمار وبها سوق وجامع تقام به الجمعة وعليه قطعة أرض من أرض الخندق يتولاها خطيبة فلما كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثمانمائة خربت قرية الخندق ورحل أهلها منها ونقلت الخطبة من جامعه إلى جامع بالحسينية وبقي معطلًا من ذكر الله تعالى وإقامة الصلاة مدّة ثم في شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة هدمه الأمير طوغان الدوادار وأخذ عمده وخشبه فلم يبق إلا بقية أطلاله وكانت قرية الخندق كأنها من حسنها ضرّة لكوم الريش وكانت تجاهها من شرقيها فخربتا جميعًا‏.‏

صحراء الأهليلج‏:‏ هذه البقة شرقيّ الخندق في الرمل وإليها كانت تنتهي عمارة الحسينية من جهة باب الفتوح وكان بها شجر الإهليلج الهنديّ فعرفت بذلك وأظن أن هذا الإهليلج كان من جملة بستان ريدان الذي يُعرف اليوم موضعه بالريدانية‏.‏

خارج باب النصر أما خارج القاهرة من جهة باب النصر فإنه عندما وضع القائد جوهر القاهرة كان فضاء ليس فيه سوى مُصلّى العيد الذي بناه جوهر وهذا المُصلى اليوم يُصلّى على من مات فيه وما برح ما بين هذا المصلى وبستان ريدان الذي يُعرف اليوم بالريدانية لا عمارة فيه إلى أن مات أمير الجيوش بد الجماليّ في سنة سبع وثمانين وأربعمائة فدفن خارج باب النصر بحريّ المصلى وبني على قبره تربة جليلة وهي باقية إلى اليوم ناك فتتابع بناء الترب من حينئذٍ خارج باب النصر فيما بين التربة الجيوشية والريدانية وقبر النصر موتاهم هناك لاسيما أهل الحارات التي عُرفت خارج باب الفتوح بالحسينية وهي الريدانية وحارة البزادرة وغيرها ولم تزل هذه الجهة مقبرة إلى ما بعد السبعمائة بمدّة فرغب الأمير سيف الدين الحاج آل ملك في البناء هناك وأنشأ الجامع المعروف به في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وعمر دارًا وحمّامًا فاقتدى الناس به وعمروا هناك وكان قد بنى تجاه المصلى قبل ذلك الأمير سيف الدين كهرداس المنصوري دارًا تُعرف اليوم بدار الحاجب فسكن في هذه الجهة أمراء الدولة وعملوا فيما بين الريدانية والخندق مناخات الجمال وهي باقية هناك فصارت هذه الجهة في غاية العمارة وفيها من باب النصر إلى الريدانية سبعة أسواق جليلة يشتمل كل سوق منها على عدّة حوانيت كثيرة فمنها‏:‏ سوق اللفت وهو تجاه باب بيت الحاجب الآن عند البئر كان فيه من جانبيه حوانيت يباع فيها اللفت ومن هذا السوق يشتري أهل القاهرة هذا الصنف والكرنب وتعرف هذه البئر إلى اليوم ببئر اللفت ويليها سويقة زاوية الخدّام وأدركت بهذه السويقة بقية صالحة ويلي ذلك سوق جامع آل ملك وكان سوقًا عامرًا فيه غالب ما يُحتاج إليه من المآكل والآدوية والفواكه والخضر وغيرها وأدركته عامرًا‏.‏

ويليه سويقة السنابطة عُرفت بقوم من أهل ناحية سنباط سكنوا بها وكانت سوقًا كبيرًا وأدركته عامرًا‏.‏

ويليها سويقة أبي ظهير وأدركتها عامرة ويليها سويقة العرب وكانت تتصل بالريدانية وتشتمل على حوانيت كثيرة جدًّا أدركتها عامرة وليس فيها سكان وكانت كلها من لبن معقدو عقودًا وكان بأوّل سويقة العرب هذه فرن أدركته عامرًا آهلًا بلغني أنه كان يُخبز فيه أيام عمارة هذا السوق وما حوله كل يوم نحو السبعة آلاف رغيف وكان من وراء هذا السوق أحواش فيها قباب معقودة من لبن أدركتها قائمة وليس فيها سكان وكان من جملة هذه الأحواش حوش فيه أربعمائة قبة يسكن فيها البزادرة والمكارية أجرة كل قبة درهمان في كل شهر فيتحصل من هذا الحوش في كل شهر مبلغ ثمانمائة درهم فضة وكان يُعرف بحوض الأحمديّ‏.‏

فلما كان الغلاء في زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين سنة سبع وسبعين وسبعمائة خرب كثير مما كان بالقرب من الريدانية واختلَّت أحوال هذه الجهة إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة فتلاشت وهُدمت دورها وبيعت أنقاضها وفيها بقية آيلة إلى الدثور‏.‏

الريدانية كانت بستانًا لريدان الصقلبيّ أحد خدّم العزيز بالله نزار بن المعز كان يحمل المظلة على رأس الخليفة واختص بالحاكم ثم قتله في يوم الثلاثاء لعشر بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وريدان إن كان إسمًا عربيًا فإنه من قولهم ريحٌ ريدةٌ واردةٌ وريدانةٌ أي لينة الهبوب وقيل ريحٌ ريدة كثيرةُ الهبوب‏.‏

الخلجان التي بظاهر القاهرة اعلن أن الخليج جمعه خلجان وهونهر صغير يختلج من نهر كبير و من بحر وأصل الخلج الانتزاع‏.‏

خلجتُ الشيءَ من الشيء إذا انتزعته وبأرض مصر عدّة خلجان منها بظاهر القاهرة خليج مصر وخليج فم الخور وخليج الذكر والخليج الناصريّ وخليج قنطرة الفخر وسترى من أخبارها ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى‏.‏

هذا الخليج بظاهر مدينة فسطاط مصر ويمرّ من عربيّ القاهرة وهو خليج قديم احتفره بعض قدماء ملوك مصر بسب بهاجر أم إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليهما حين أسكنها وابنها إسماعيل خليل الله إبراهيم عليهما الصلاة والسلام بمكة ثم تمادت الدهور والأعوام فجدّد حفره ثانيًا بعض من ملك مصر من ملوك الروم بعد الإسكندر فلما جاء الله سبحانه بالإسلام وله الحمد والمنة وفتحت أرض مصر في عام الرمادة وكان يصب في بحر القلزم فتسير فيه السفن إلى البحر الملح وتمرّ في البحر إلى الحجاز واليمن والهند ولم يزل على ذلك إلى أن قام محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب بالمدينة النبوية والخيفة حينئذٍ بالعراق أبو جعفر عبد الله بن محمد المنصور فكتب إلى عامله على مصر يأمره بطمّ خليج القلزم حتى لا تُحمل الميرة من مصر إلى المدينة فطمّه وانقطع من حينئذٍ اتصاله ببحر القلزم وصار على ما هو عليه الآن وكان هذا الخليج أولًا يُعرف بخليج مصر فلما أنشأ جوهر القائد القاهرة بجانب هذا الخليج من شرقيه صار يُعرف بخليج القاهرة وكان يُقال له أيضًا خليج أمير المؤمنين يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه الذي أشار بتجديد حفره والآن تسميه العامة بالخليج الحاكميّ وتزعم أن الحاكم بأمر الله أبا عليّ منصورًا احتفره وليس هذا بصحيح‏.‏

فقد كان هذا الخليج قبل الحاكم بمدد متطاولة ومن العامة من يسميه وسأقص عيك من أخبار هذا الخليج ما وقفت عليه من الأنباء‏.‏

قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه في أخبار طيطوس بن ماليا بن كلكن بن خربتا بن ماليف بن تدارس بن صابن مرقونس بن صابن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح وجلس على سرير الملك بعد أبيه ماليا وكان جبارًا جريئًا شديد البأس مهابًا فدخل عليه الأشراف وهنوه ودعوا له فأمرهم بالإقبال على مصالحهم وما يعنيهم ووعدهم بالإحسان والقبط تزعم أنه أوّل الفراعنة بمصر وهو فرعون إبراهيم عليه السلام وأن الفراعنة سبعة هو أوّلهم وأنه استخف بأمر الهياكل والكهنة وكان من خبر إبراهيم عليه السلام معه أن إبراهيم لما فارق قومه أشفق من المقام بالشام لئلا يتبعه قومه ويردّوه إلى النمرود لأنه كان من أهل كونا من سواد العراق فخرج إلى مصر ومعه سارّة امرأته وترك لوطًا بالشام‏.‏

وسار إلى مصر وكانت سارّة أحسن نساء وقتها ويُقال أنّ يوسف عليه السلام ورث جزًا من جمالها فلما سار إلى مصر رأى الحرس المقيمون على أبواب المدينة سارة فعجبوا من حسنها ورفعوا خبرها إلى طيطوس الملك وقالوا‏:‏ خل إلى البلد رجل من أهل الشرق معه امرأة لم يُر أحسن منها ولا أجمل‏.‏

فوجّه الملك إلى وزيره فأحضر إبراهيم صلوات الله عليه وسأله عن بلده فأخبره‏.‏

وقال‏:‏ ما هذه المرأة منك فقال أختي‏.‏

فعرّفَ الملك بذلك فقال‏:‏ مره أن يُجئني بالمرأة حتى أراها‏.‏

فعرّفه ذلك فامتغص منه ولم تمكنه مخالفته وعلم أن الله تعالى لا يسوؤه في أهلهن فقال لسارة‏:‏ قومي إلى الملك فإنه قد طلبك مني‏.‏

قالت‏:‏ وما يصنع بي الملك وما رآني قبل قال‏:‏ أرجوا أن يكون لخير‏.‏

فقامت معه حتى أتوا قصر الملك فأدخلت عليه فنظر منها منظرًا راعه وفتنته فأمر بإخراج إبراهيم عليه السلام فأُخرج وندم على قوله إنها أخته وإنما أراد أنها أخته في الدين ووقع في قلب إبراهيم عليه السلام ما يقع في قلب الرجل على أهله وتمنى أنه لم يدخل مصر فقال‏:‏ اللهم لا تفضح نبيك في أهله‏.‏

فراودها الملك عن نفسها فامتنت عليه فذهب ليمدّ يده إليها فقالت‏:‏ إنك إن وضعت يدك عليّ أهلكت نفسك لأنّ لي ربًا يمنعني منك‏.‏

فلم يلتفت إلى قولها ومدّ يده إليها بجفت يده وبقي حائرًا‏.‏

فقال لها‏:‏ أزيلي عني ما قد أصابني‏.‏

فقالت‏:‏ على أن لا تعاود مثل ما أتيت‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

فدعت الله سبحانه وتعالى فزال عنه ورجعت يده إلى حالها‏.‏

فلما وثق بالصحة راودها ومناها ووعدها بالإحسان فامتنعت وقالت‏:‏ قد عرفت ما جرى‏.‏

ثم مدّ يده إليها فجفت وضربت عليه أعضاؤه وعصبه‏.‏

فاستغاث بها واقسم بالآلهة أنها إن أزالت عنه ذلك فإنها لا يعاودها‏.‏

فسألت الله تعالى فزال عنه ذلك ورجع إلى حاله فقال‏:‏ إنّ لك لربًا عظيمًا لايضيعك فأعظم قدرها وسألها عن إبراهيم فقالت‏:‏ هو قريبي وزوجي‏.‏

قال‏:‏ فإنه قد ذكر أنك أخته‏.‏

قالت‏:‏ صدق ووجه إلى ابنته جوريا وكانت من الكمال والعقل بمكان كبير فألقى الله تعالى محبة سارة في قلبها فكانت تعظمها وأضافتها أحسن ضيافة ووهبت لها جوهرًا ومالًا‏.‏

فأتت به إبراهيم عليه السلام فقا لها‏:‏ ردّيه فلا حاجة لنا به‏.‏

فردّته وذكرت ذلك جوريا لأبيها‏.‏

فعجب منهما وقال‏:‏ هذا كريم من أهل بيت الطهارة فتحيلي في برّها بكل حيلة فوهبت لها جارية قبطية من أ سن الجواري يقال لها آجر وهي هاجر أم إسماعيل عليه السلام وجعلت لها سلالًا من الجلود وجعلت فيها زاد وحلوى وقال‏:‏ يكون هذا الزاد معك وجعلت تحت الحلوى جوهرًا نفيسًا وحليًا مكللًا‏.‏

فقالت سارة‏:‏ أشاور صاحبي‏.‏

فأتت إبراهيم عليه السلام واستأذنته فقال‏:‏ إذا كان مأكولًا فخذيه‏.‏

فقبلته منها‏.‏

وخرج إبراهيم فلما مضى وأمعنوا في السير أخرجت سارة بعض تلك السلال فأصابت الجوهر والحلي فعرّفت إبراهيم عليه السلام ذلك فباع بعضه وحفر من ثمنه البئر التي جعلها للسبيل وفرّق بعضه في وجوه البرّ وكان يُضيف كل من مرّ به وعاش طيطوس إلى أن وجهت هاجر من مكة تعرّفه أنها بمكان جدب وتستغيثه فأمر بحفر نهر في شرقيّ مصر بسفح الجبل حتى ينتهي إلى مرقى السفن في البحر الملح فكان يحمل إليها الحنطة وأصناف الغلات فتصل إلى جدّة وتُحمل من هناك على المطايا فأحيا بلد الحجاز مدّة ويقال إنما حُلّيت الكعبة في ذلك العصر ما أهداه ملك مصر وقيل أنه لكثرة ما كان يحمله طوطيس إلى الحجاز سمته العرب وجرهم الصادوق ويقال أنه سأل إبراهيم عليه السلام أني بارك له في بلده فدعا بالبركة لمصر وعرّفه أن ولده سيملكها ويصير أمرها إليهم قرنًا بعد قرن‏.‏

وطوطيس أوّل فرعون كان بمصر وذلك أنه أكثر من القتل حتى قتل قراباته وأهل بيته وبني عمه وخدمه ونساءه وكثيرًا من الكهنة والحكماء وكان حريصًا على الولد فلم يرزق ولدًا غير ابنته جوريا أو جورياق وكانت حكيمة عاقلة تأخذ على يده كثيرًا وتمنعه من سفك الدماء فأبغضته ابنته أبغضه جميع الخاصة والعامة فلما رأت أمره يزيد خافت على ذهاب ملكهم فسمته وهلك وكان ملكه سبعين سنة واختلفوا فيمن يملك بعده وأرادوا أني قيموا واحدًا من ولد اتريب فقال بعض الوزراء ودعا لجورياق فتمَّ لها الأمر وملكت‏.‏

فهذا كان أوّل أمر هذا الخليج‏.‏

ثم حفره مرّة ثانية أدريان قيصر أحد ملوك الروم ومن الناس من يسميه أندرويانوس ومنهم من يقول هوريانوس قال في تاريخ مدينة رومة وولي الملك أدريان قيصر أحد ملوك الروم وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة وهو الذي درس اليهود مرّة ثانية إذ كانوا راموا النفاق عليه وهو الذي جدّد مدينة يورشالم يني مدينة القدس وأمر بتبديل اسمها وأن تسمى إيليا‏.‏

وقال علماء أهل الكتاب عن أدريان هذا‏:‏ وغزا القدس وأخربه في الثانية من ملكه وكان ملكه في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة من سني الإسكندر وقتل عامة أهل القدس وبنى على باب مدينة القدس منارًا وكتب عليه‏:‏ هذه مدينة إيليا وتُسمى موضع هذا العمود الآن محراب داود‏.‏

ثم سار من القدس إلى باب فحارب ملكها وهزمه وعاد إلى مصر فحفر خليجًا من النيل إلى بحر القلزم وسارت فيه السفن وبقي رسمه عند الفتح الإسلاميّ فحفره عمرو بن العاص وأصاب أهل مصر منه شدائد وألزمهم بعبادة الأصنام ثم عاد إلى بلاده بممالك الروم فابتلي بمرض أعيى الأطباء فخرج يسير في البلاد يبتغي من يداويه فمرّ على بيت المقدس وكان خرابًا ليس فيه غير كنيسة للنصارى فأمر ببناء المدينة وحصنها وأعاد إليها اليهود فأقاموا بها وملّكوا عليهم رجلًا منهم‏.‏

فبلغ ذلك أدريان قيصر فبعث إليهم جيشًا لم يزل يحاصرهم حى مات أكثرهم جوعًا وعطشًا وأخذها عنوة فقتل من اليهود ما لايُحصى كثرة وأخرب المدينة حتى صارت تلالالً عامرة فيها البتة وتبع اليهود يريد أن لايدع منهم على وجه الأرض أحدًا ثم أمر طائفة من اليونايين فتحوّلوا إلى مدينة القدس وسكنوا فيها فكان بين خراب القدس الخراب الثاني على يد طيطوس وبين هذا الخراب ثلاث وخمسون سنة فعمرت القدس باليونان ولم يزل قيصر هذا ملكًا حتى مات فهذا خبر حفر هذا الخليج في المرّة الثانية فلما جاء الإسلام جدّد عمرو بن العاص حفره‏.‏

قال ابن عبد الحكم ذكر حفر خليج أمير المؤمنين رضي الله عنه‏:‏ حدّثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد قال‏:‏ إنّ الناس بالمدينة أصابهم جهد شديد في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة الرمادة فكتب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص وهو بمصر من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي ابن العاصي سلام‏.‏

أما بعد‏:‏ فلعمري يا عمرو ما تبلي إذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معي فيا غوثاه ثم يا غوثاه يردّد ذلك‏.‏

فكتب إليه عمرو‏:‏ من عبد الملك عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين أما بعد‏:‏ فيا لبيك ثم يا لبيك قد بعثتُ إليك بعير أوّلها عندك وآخرها عندي والسلام عليك ورحمة الله وبركاته‏.‏

فبعث إليه بعير عظمة فكان أوّلها بالمدينة وآخرها بمصر يتبع بعضها بعضًا‏.‏

فلما قدمت على عمر رضي الله عنه وسَع بها على الناس ودفع إلى أهل كل بيت بالمدينة وما حولها بعيرًا بما عليه من الطعام وبعث عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوّام وسعد بن أبي وقاص يُقسِّمونها على الناس فدفعوا إلى أهل كل بيت بعيرًا بما عليه من الطعام ليأكلوا الطعام ويأتدموا بلحمه ويحتذوا بجلده وينتفعوا بالوعاء الذي كان فيه الطعام فيما أرادوا من لحاف أو غيره‏.‏

فوسّع الله بذلك على الناس فلما رأى ذلك عمر ري الله عنه حمد الله وكتب إلى عمرو بن العاص أن يقدم عليه هو وجماعة من أهل مصر معه فقدموا عليه‏.‏

فقال عمرك يا عمرو بن العاص إن الله قد فتح على المسلمين مصر وهي كثيرة الخير والطعام وقد ألقى في روعي لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين والتوسعة عليهم حين فتح الله عليهم مصر وجعلها قوّة لهم ولجميع المسلمين أنْ أحفر خليجًا من نيلها حتى يسيل في البحر فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة فإن حمله الطهر يبعد ولا نبلغ به ما نريد فانطلق أنت وأصحابك فتشاوروا في ذلك حتى يعتدل فيه رأيكم فانطلق عمرو فأخبر من كان معه من أهل مصر فثقل ذلك عليهم وقالوا‏:‏ نتخوف أن يجخل من هذا ضرر على مصر فنرى أ تُعظِّمَ ذلك على أمير المؤمنين وتقول له‏:‏ إنّ هذا أمر لا يعتدل ولا يكون ولا نجد إليه سبيلًا‏.‏

فرجع عمرو بذلك إلى عمر فضحك عمر رضي الله عنه حين رآه وقال‏:‏ والذي نفسي بيده لكأني أنظر إليك يا عمرو وإلى أصحابك حين أخبرتهم بما أمرنا به من حفر الخليج فثقل ذلك عليهم وقالوا يدخل من هذا ضرر على أهل مصر فنرى أن تُعظِّم ذلك على أمير المؤمنين وتقول له إنّ هذا أمر لايعتدل ولا يكون ولا نجد إليه سبيلًا‏.‏

فعجب عمرو من قول عمر قال‏:‏ صدقت والله يا أمير المؤمنين لقد كان الأمر على ما ذكرت‏.‏

فقال له عمر رضي الله عنه‏:‏ انطلق بعزيمة مني حتى تجدّ في ذلك فانصرف عمرو ومع لذلك من الفعلة ما بلغ منه ما أراد ثم احتفر الخليج في حاشية الفسطاط الذي يقال له خليج أمير المؤمنين فساقه من النيل إلى القلزم فلم يأت الحول حتى جرت فيه السفن فحمل فيه ما أراد من الطعام حتى حمل فيه بعد مر بن عبد العزيز ثم ضيعه الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرمل فانقطع فصار منتهاه إلى ذنب التمساح من ناحية بطحاء القلزم‏.‏

قال‏:‏ ويقال إنّ عمر رضي الله عنه قال لعمرو حين قدم عليه‏:‏ يا عمرو إنّ العرب قد تشاءمت بي وكادت أن تغلب علي رحلي وقد عرفت الذي أصابها وليس جند من الأجناد أرجى عندي أن يغيث الله بهم أهل الحجاز من جندك فإن استطعت أن تحتال لهم حيلة حتى يغيثهم الله تعالى‏.‏

فقال عمرو‏:‏ ما شئت يا أمير المؤمنين قد عرفت أنه كانت تأتينا سفن فيها تجار من أهل مصر قبل الإسلام فلما فتحنا مصر انقطع ذلك الخليج واستدّ وتركه التجار فإن شئت أن نحفره فننشيء فيه سفنًا يُحمل فيها الطعام إلى الحجاز فعلته‏.‏

فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ نعم فافعل‏.‏

فلما خرج عمر من عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر ذلك لرؤساء أهل أرضه من قبط مصر فقالوا له‏:‏ ماذا جئت به أصلح الله الأمير تريد أن تُخرج طعام أرضك وخصبها إلى الحجاز وتخرب هذه فإن استطعت فاستقل من ذلك‏.‏

فلما ودّع عمر رضي الله عنه قال‏:‏ يا عمرو انظر إلى ذلك الخليج ولا تنسين حفره‏.‏

فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه قد انسدذ وتدخل فيه نفقات عظيمة‏.‏

فقال له‏:‏ أمّا والذي نفسي بيده إني لأظنك حين خرجت من عندي حدّثت بذلك أهل أرضك فعظموه عليك وكرهوا ذلك أعزم عليك إلاّ ما حفرته وجعلت فيه سفنًا‏.‏

فقال عمرو‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه متى ما يجد أهل الحجاز طعام مصر وصبها مع صحة الحجاز لا يخفوا إلى الجهاد‏.‏

قال‏:‏ فإني سأجعل من ذلك أمرًا لا يُحمل في هذا البحر إلاّ رزق أهل المدينة وأهل مكة‏.‏

فحفره عمرو وعالجه وجعل فيه السفن‏.‏

قال‏:‏ ويقال أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عمرو بن العاص‏:‏ إلى العاصي ابن العاصي فإنك لعمري لا تبالي إذا سمنت أنت ومن معك أن أعجف أنا ومن مع فيا غوثاه ويا غوثاه‏.‏

فكتب إليه عمرو‏:‏ أما بعد فيا لبيك ثم يا لبيك أتتك عير أوّلها عندك وآخرها عندي مع أني أرجوا أن أجد السبيل إلى أن أحمل إليك في البحر ثم إن عمرًا ندم على كتابه في الحمل إلى المدينة في البحر‏.‏

وقال‏:‏ إن أمكنت عمر من هذا خرّب مصر ونقلها إلى المدينة‏.‏

فكتب إليه‏:‏ إني نظرت في أمر البحر فإذا هو عسر ولا يلتأم ولا يُستطاع‏.‏

فكتب إليه عمر رضي الله عنه‏:‏ إلى العاصي ابن العاصي قد بلغني كتابك تعتلّ في الذي كنت كتبت إليّ به من أمر البحر وأيم الله لتفعلنّ أو لأفعلن بأذنك ولأبعثن من يفعل ذلك‏.‏

فعرف عمرو أنه الجدّ من عمر رضي الله عنه ففعل‏.‏

فبعث إليه عمر رضي الله عنه أن لا ندع بمصر شيئًا من طعامها وكسوتها وبصلها وعدسها وخلها إلاّ بعثت إليها منه‏.‏

قال‏:‏ ويقال إن الذي دل عمرو بن العاص على الخليج رجل من القبط فقال لعمرو‏:‏ أرأيت إن دللتك على مكان تجري فيه السفن حتى تنتهي إلى مكة والمدينة أتضع عني الجزية وعن أهل بيتي فقال‏:‏ نعم‏.‏

فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

فكتب إليه أن افعل فلما قدمت السفن خرج عمر رضي الله عنه حاجًا أو معتمرًا فقال للناس‏:‏ سيروا بنا ننظر إلى السفن التي سيرها الله تعالى إلينا من أرض فرعون حتى أتتنا‏.‏

فأتى الجار وقال‏:‏ اغتسلوا من مار البحر فإنه مبارك فلما قدمت السفن الجار وفيها الطعام صك عمر رضي الله عنه للناس بذلك الطعام صكوكًا فتبايع التجار الصحوك بينهم قبل أن يقبضوها فلقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه العلاء بن الأسود رضي الله عنه فقال‏:‏ كم ربح حكيم بن حزام فقال‏:‏ ابتاع من صكوك الجار بمائة ألف درهم وربح عليها مائة ألف فلقيه عمر رضي الله عنه فقال له‏:‏ يا حكيم كم ربحت فأخبره بمثل خبر العلاء‏.‏

قال عمر رضي الله عنه‏:‏ فبعته قبل أن تقبضه قال نعم‏.‏

قال عمر رضي الله عنه‏:‏ فإنّ هذا بيع لا يصح فاردده‏.‏

فقال حكيم‏:‏ ما علمت أن هذا بيع لا يصح وما أقدر على ردّه‏.‏

فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا بدّ‏.‏

فقال حكيم‏:‏ والله ما أقدر على ذلك وقد تفرّق وذهب ولكن رأس مالي وربحي صدقة‏.‏

وقال القضاعيّ في ذكر الخليج‏:‏ أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص عام الرمادة بحفر الخليج الذي بحاشية الفسطاط الذي يقال له خليج أمير المؤمنين فساقه من النيل إلى القلزم فلم يأت عليه الحول حتى جرت فيه السفن وحمل فيه ما أراد من الطعام إلى المدينة ومكة فنفع الله تعالى بذلك أهل الحرمين فسُميَ خليج أمير المؤمنين‏.‏

وذكر الكنديّ في كتاب الجند العربيّ أن عمرًا حفره في سنة ثلاث وعشرين وفرغ منه في ستة أشهر وجرت فيه السفن ووصلت إلى الحجاز في الشهر السابع ثم بنى عليه عبد العزيز بن مروان قنطرة في ولايته على مصر‏.‏

قال‏:‏ ولم يزل يُحمل فيه الطعام حتى حمل فيه عمر بن عبد لعزيز ثم أضاعته الولاة بعد ذلك فتُرك وغلب عليه الرمل فانقطع وصار منتهاه إلى ذنب التمساح من ناحية بطحاء القلزم‏.‏