فصل: المدرسة الصاحبية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 المدرسة الصاحبية

هذه المدرسة بالقاهرة في سويقة الصاحب كان موضعها من جملة دار الوزير يعقوب بن كلس ومن جملة دار الديباج أنشأها الصاحب صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر وجعلها وقفًا على المالكية وبها درس نحو وخزانة كتب وما زالت بيد أولاده‏.‏

فلما كان في شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة جدّد عمارتها القاضي علم الدين إبراهيم بن عبد اللطيف بن إبراهيم المعروف بابن الزبير ناظر الدولة في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون واستجد فيها منبرًا فصار يُصلّى بها الجمعة إلى يومنا هذا ولم يكن قبل ذلك بها منبرولا تصلى فيها الجمعة‏.‏

عبد الله بن علي بن الحسين بن عبد الخالق بن الحسين بن الحسن بن منصوربن إبراهيم بن عمار بن منصور بن عليّ صفيّ الدين أبو محمد الشنيبيّ الدميريّ المالكيّ المعروف بابن شكر ولد بناحية دميرة إحدى قرى مصر البحرية في تاسع صفر سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ومات أبوه فتزوجت أمه بالقاضي الوزير الأعز فخر الدين مقدام ابن القاضي الأجل أبي العباس أحمد بن شكر المالكيّ فرباه ونوّه باسمه لأنه كان ابن عمه فعرف به وقيل له ابن شكر وسمع صفيّ الدين من الفقيه أبي الظاهر إسماعيل بن مكيّ بن عوف وأبي الطيب عبد المنعم بن يحيى وغيره وحدّث بالقاهرة ودمشق وتفقه على مذهب مالك وبرع فيه وصنف كتابًا في الفقه كان كلّ من حفظه نال منه خطأ وافرًا وقصد بذلك أن يتشبه بالوزير عون الدين بن هبيرة كانت بداية أمره أنه لما سلم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر الأسطول لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب وأفرد له من الأبواب الديوانية الزكاة بمصر والجبس الجيوشي بالبرّين والنطرون والخراج وما معه من ثمن القرظ وساحل السنط والمراكب الديوانية واسنا وطنبدى استخدم العادل في مباشرة ديوان هذه المعاملة الصفي بن شكر هذا وكان ذلك في سنة سبع وثمانين وخمسمائة ومن حينئذِ اشتهر ذكره وتخصص بالملك العادل فلما استقل بمملكة مصر في سنة ست وتسعين وخمسمائة عظم قدره ثم استوزره بعد الصنيعة بن النجار فحل عنده محل الوزراء الكبار والعلماء المشاورين وباشر الوزارة بسطوة وجبروت وتعاظم وصادر كتاب الدولة واستصفى أموالهم ففرّ منه القاضي الأشرف ابن القاضي الفاضل إلى بغداد واستشفع بالخليفة الناصر وأحضر كتابه إلى الملك العادل يشفع فيه وهرب منه القاضي علم الدين إسماعيل بن أبي الحجاج صاحب ديوان الجيش والقاضي الأسعد أسعد بن مماتي صاحب ديوان المال والتجآ إلى الملك الظاهر بحلب فأقاما عنده حتى ماتا وصادر بني حمدان وبني الحباب وبني الجليس وأكابر الكتاب والسلطان لا يعارضه في شيء ومع ذلك فكان يكثر التغضب على السلطان ويتجنى عليه وهو يحتمله إلى أن غضب في سنة سبع وستمائة وحلف أنه ما بقي يخدم فلم يحتمله وولى الوزارة عوضًا عنه القاضي الأعز فخر الدين مقدام بن شكر وأخرجه من مصر بجميع أمواله وحرمه وغلمانه وكان نقله على ثلاثين جملًا وأخذ أعداؤه في إغراء السلطان به وحسنوا له أن يأخذ ماله فأبى عليهم ولم يأخذ منه شيئًا وسار إلى آمد فأقام بها عند ابن أرتق إلى أن مات الملك العادل في سنة خمسين وستمائة فطلبه الملك الكامل محمد بن الملك العادل لما استبدّ بسلطنة ديار مصر بعد أبيه وهو في نوبة قتال الفرنج على دمياط حين رأى أن الضرورة داعية لحضوره بعدما كان يعاديه فقدم عليه في ذي القعدة منها وهو بالمنزلة العادلية قريبًا من دمياط فتلقاه وأكرمه وحادثه فيما نزل به من موت أبيه ومحاربة الفرنج ومخالفة الأمير عماد الدين أحمد بن المشطوب واضطراب أرض مصر بثورة العربان وكثرة خلافهم فشجعه وتكفل له بتحصيل المال وتدبير الأمور وسار إلى القاهرة فوضع يده في مصادرات أرباب الأموال بمصر والقاهرة من الكتاب والتجار وقرّر على الأملاك مالًا وأحدث حوادث كثيرة وجمع مالًا عظيمًا أمدّ به السلطان فكثر تمكنه منه وقويت يده وتوفرت مهابته بحيث أنه لما انقضت نوبة دمياط وعاد الملك الكامل إلى قلعة الجبل كان ينزل إليه ويجلس عنده بمنظرته التي كانت على الخليج ويتحدث معه في مهمات الدولة ولم يزل على ذلك إلى أن مات بالقاهرة وهووزيرفي يوم الجمعة ثامن شعبان سنة اثنتين وعشرين وستمائة وكان بعيد الغور جماعًا للمال ضابطًا له من الإنفاق في غير واجب قد ملأت هيبته الصدور وانقاد له على الرغم والرضي الجمهور وأخمد جمرات الرجال وأضرم رمادًالم يخطر إيقاده على بال وبلغ عند الملك الكامل بحيث أنه بعث إليه بابنيه الملك الصالح نجم الدين أيوب والملك العادل أبي بكر ليزوراه في يوم عيد فقاما على رأسه قيامًا وأنشد زكيّ الدين أبوالقاسم عبد الرحمن بن وهيب القوصيّ قصيدة لولم تُقم للهِ حق قيامِه ماكُنتَ تقعُدُ والملوكُ قيام‏.‏

وقطع في وزارته الأرزاق وكانت جملتها أربعمائة ألف دينار في السنة وتسارع أرباب الحوائج والأطماع ومن كان يخافه إلى بابه وملؤا طرقاته وهو يهينهم ولا يحفل بشيخ منهم وهو عالم وأوقع بالرؤساء وأرباب البيوت حتى استأصل شأفتهم عن اَخرهم وقدّم الأراذل في مناصبهم وكان جلدًا قويًا حل به مرة دوسطاريا قوية وأزمنت فيئس منه الأطباء وعندما اشتدّ به الوجع وأشرف على الهلاك استدعى بعشرة من وجوه الكتاب كانوا في حبسه وقال‏:‏ أنتم في راحة وأنا في الألم كلاّ واللّه واستحضر المعاصير وآلات العذاب وعذبهم فصاروا يصرخون من العذاب وهو يصرخ من الألم طول الليل إلى الصبح وبعد ثلاثة أيام ركب وكان يقول كثيرًا‏:‏ لم يبق في قلبي حسرة إلاّ كون البيسانيّ لم تتمرّغ شيبته على عتباتي يعني القاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ فإنه مات قبل وزارته وكان دري اللون تعلوه حمرة ومع ذلك فكان طلق المحيا حلو اللسان حسن الهيئة صاحب دهاء مع هوج وخبث في طيش ورعونة مفرطة وحقد لا تخبو ناره ينتقم ويظنّ أنه لم ينتقم فيعود وكان لا ينام عن عدوّه ولا يقبل معذرة أحد ويتخذ الرؤساء كلهم أعداءه ولا يرضى لعدوه بدون الهلاك والاستئصال ولا يرحم أحدًا إذا انتقم منه ولا يبالي بعاقبة وكان له ولأهله كلمة يرونها ويعملون بها‏.‏

كما يُعمل بالأقوال الإلهية وهي إذا كنت دقماقًا فلا تكن وتدًا وكان الواحد منهم يعيدها في اليوم مرّات ويجعلها حجة عند انتقامه وكان قد استولى على الملك العادل ظاهرًا وباطنًا ولايمكن أحدًا الوصول إليه حتّى الطبيب والحاجب والفراش عليهم عيون له لا يتكلم أحد منهم فضل كلمة خوفًا منه وكان أكبر أغراضه إبادة أرباب البيوت ومحو اَثارهم وهدم ديارهم وتقريب الأسقاط وشرار الفقهاء وكان لا يأخذ من مال السلطان فلسًا ولا ألف دينار ويظهرأمانة مفرطة فإذا لاح له مال عظيم احتجنه وبلغ إقطاعه في السنة مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وكان قد عمي فأخذ يظهر جلدًا عظيمًا وعدم استكانة وإذا حضر إليه الأمراء والأكابر وجلسوا على خوانه يقول‏:‏ قدّموا اللون الفلاني للأمير فلان والصدر فلان والقاضي فلان وهو يبني أموره في معرفة مكان المشار إليه برموز ومقدّمات يكابر فيها دوائر الزمان وكان يتشبه في ترسله بالقاضي الفاضل وفي محاضراته بالوزير عون الدين بن هبيرة حتى اشتهر عنه ذلك ولم يكن فيه أهلية هذا لكنه كان من دهاة الرجال وكان إذا لحظ شخصًا لا يقنع له إلا بكثرة الغنى ونهاية الرفعة وإذا غضب على أحد لا يقنع في شأنه إلا لمحو أثره من الوجود وكان كثيرًا ما ينشد‏:‏ إذا حقرتَ امرًِا فاحذَز عداوَتَهُ مَنْ يزرعِ الشوكَ لم يحصِدْ به عنبا‏.‏

تَود عدوّي ثم تزعُمُ أنني صديقُكَ إن الرأيَ عنكَ لعازِبُ‏.‏

وأخذه مرّة مرض من حمى قوية وحدث به النافض وهو في مجلس السلطان ينفذ الأشغال فما تأثر ولا ألقى جنبه إلىالأرض حتى ذهبت وهو كذلك وكان يتعزز علىالملوك الجبابرة وتقف الرؤساء على بابه من نصف الليل ومعهم المشاعل والشمع وعندالصباح يركب فلا يراهم ولا يرونه لأنه إمّا أن يرفع رأسه إلى السماء تيهًا وإمّا أن يعرّج إلى طريق غير التي هم بها وإما أن يأمر الجنادرة التي في ركابه بضرب الناس وطردهم من طريقه‏.‏

ويكون الرجل قدوقف على بابه طول الليل إمّا من أوّله أو من نصفه بغلمانه ودوابه فيُطرَدُ عنه ولا يراه وكان له بواب يأخذ من الناس مالًا كثيرًا ومع ذلك يهينهم إهانة مفرطة وعليه للصاحب في كل يوم خمسة دنانير منها ديناران برسم الفقاع وثلاثة دنانير برسم الحلوى وكسوة غلمانه ونفقاته عليه أيضًا ومع ذلك افتنى عقارًا وقرى ولما كان بعد موت الصاحب قدم من بغداد رسول الخليفة الظاهر وهو محيي الدين أبو المظفر بن الجوزيّ ومعه خلعة الخليفة للملك الكامل وخلع لأولاده وخلعة للصاحب صفيّ الدين فلبسها فخر الدين سليمان كاتب الإنشاء وقبض الملك الكامل على أولاده تاج الدين يوسف وعز الدين محمد وحبسهما وأوقع الحوطة على سائر موجوده رحمه اللّه وعفا عنه‏.‏

المدرسة الشريفية هذه المدرسة بدرب كركامة على رأس حارة الجودرية من القاهرة وقفها الأميرالكبيرا لشريف فخر الدين أبو نصر إسماعيل بن حصن الدولة فخر العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم بن أبي جميل دحية بن جعفربن موسى بن إبراهيم بن إسماعيل بن جعفربن محمد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه الجعفريّ الزينبيّ أمير الحاج والزائرين وأحد أمراء مصر في الدولة الأيوبية وتمت في سنة اثنتي عشرة وستمائة وهي من مدارس الفقهاء الشافعية‏.‏

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ وجرى له في وقفها حكاية مع الفقيه ضياء الدين بن الورّاق وذلك أن الملك العادل سيف الدين أبا بكر يعني ابن أيوب لما ملك مصر وكان قد دخلها على أنه نائب للملك المنصور محمد بن العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف فقوى عليه وقصد الاستبداد بالمُلك فأحضر الناس للحلف وكان من جملتهم الفقيه ضياء الدين بن الورّاق فقوى عليه وقصد الاستبداد بالمُلك فأحضر الناس للحلف وكان من جملتهم الفقيه ضياء الدين بن الورّاق فلما شرع الناس في الحلف قال الفقيه ضياء الدين‏:‏ ما هذا الحلف بالأمس حلفتم للمنصور فإن كانت تلك الأيمان باطلة فهذه باطلة وإن كانت تلك صحيحة فهذه باطلة فقال الصاحب صفي الدين بن شكر للعادل‏:‏ أفسد عليك الأمور هذا الفقيه‏.‏

وكان الفقيه لم يحضر إلى ابن شكر ولا سلم عليه فأمر العادل بالحوطة على جميع موجود الفقيه وماله وأملاكه واعتقاله بالرصد مرسمًا عليه فيه لأنه كان مسجده فأقام مدة سنين على هذه الصورة فلما كان في بعض الأيام وجدغرة من المترسمين فحضر إلى دار الوزارة بالقاهرة فبلغ العادل حضوره فخرج إليه فقال له الفقيه‏:‏ اعلم واللّه أني لا حاللتك ولا أبرأتك أنت تتقدّمني إلى اللّه فيِ هذه المدة وأنا بعدك أطالبك بين يدي الله تعالى‏.‏

وتركه وعاد إلى مكانه فحضر الشريف فخرالدين بن ثعلب إلى الملك العادل فوجده متألمًا حزينًا فسأله فعرفه‏.‏

فقال‏:‏ يا مولانا ولم تجرّد السم في نفسك فقال‏:‏ خذ كل ما وقعت الحوطة عليه وكلّ ما استخرج من أجرة أملاكه وطيب خاطره وأما الفقيه ضياء الدين فإنه أصبح وحضرت إليه جماعة من الطلبة للقراءة عليه‏.‏

فقال لهم‏:‏ رأيت البارحة النبيّ وهو يقول‏:‏ يكون فَرَجكَ على يِد رجل من أهل بيتي صحيح النسب فبينما هم في الحديث وإذابغبرة ثارت من جهة القرافة فانكشفت عن الشريف ابن ثعلب ومعه الموجود كله فلما حضرعرّفه الجماعة المنام فقال‏:‏ يا سيدي اشهد على أن جميع ما أملكه وقف وصدقة شكرًا لهذه الرؤيا‏.‏

وخرج عن كل ما يملكه وكان من جملة ذلك المدرسة الشريفية لأنها‏.‏

كانت مسكنه ووقف عليها أملاكه وكذلك فعل في غيرها ولم يحالل الفقيه الملك العادل ومات الملك العادل بعد ذلك ومات الفقيه بعده بمدّة ومات الشريف إسماعيل بن ثعلب بالقاهرة في سابع عشررجب سنة ثلاث عشرة وستمائة‏.‏

المدرسة الصالحية هذه المدرسة بخط بين القصرين من القاهرة كان موضعها من جملة القصر الكبير الشرقيّ فبنى فيه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب هاتين المدرستين فابتدأ بهدم موضع هذه المدارس في قطعة من القصر في ثالث عشر ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة ودك أساس المدارس في رابع عشر ربيع الآخر سنة أربعين ورتب فيها دروسًا أربعة للفقهاء المنتمين إلى المذاهب الأربعة في سنة إحدى وأربعين ستمائة وهو أول من عمل بديار مصر دروسًا أربعة في مكان ودخل في هذه المدارس باب القصر المعروف بباب الزهومة وموضعه قاعة شيخ الحنابلة الاَن ثم اختط ما وراء هذه المدارس في سنة بضع وخمسين وستمائة وجعل حكر ذلك للمدرسة الصالحية وأوّل من درّس بها من الحنابلة قاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمد بن العماد إبراهيم بن عبد الواحد بن عليّ بن سرورالمقدسيّ الحنبليّ الصالحيّ وفي يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وأربعين وستمائة أقام الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ الصالحيّ في نيابة السلطنة بديار مصر فواظب الجلوس بالمدارس الصالحية هذه مع نوّاب دار العدل وانتصب لكشف المظالم واستمرجلوسه بها مدّة‏.‏

ثم إن الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس وقف الصاغة التي تجاهها وأماكن بالقاهرة وبمدينة المحلة الغربية وقطع أراضي جزائر بالأعمال الجيزية والأطفيحية على مدرسين أربعة عند كل مدرّس معيدان وعدّة طلبة‏.‏

وما يحتاج إليه من أئمة ومؤذنين وقومة وغير ذلك وثبت وقف ذلك على يدقاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعي ونفذه قاضي القضاة شمس الدين أبوالبركات محمدبن هبة الله بن شكر المالكيّ وذلك في سنة سبع وسبعين وستمائة وهي جارية في وقفها إلى اليوم‏.‏

فلما كان في يوم الجمعة حادي عشري ربيع الأول سنة ثلاثين وسبعمائة رتب الأميرجمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك جمال الدين الغزاويّ خطيبًا بإيوان الشافعية من هذه المدرسة وجعل له في كل شهر خمسين درهمًا ووقفّ عليه وعلى مؤذنين وقفًاجاريًا فاستمرّت الخطبة هناك إلى يومنا هذا‏.‏

قبة الصالح‏:‏ هذه القبة بجوار المدرسة الصالحية كان موضعها قاعة شيخ المالكية بنتها عصمهّ الدين والدة خليل شجرة الدر لأجل مولاها الملك الصالح نجم الدين أيوب عندما مات وهو على مقاتلة الفرنج بناحية المنصورة في ليلة النصف من شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة فكتمت زوجته شجرة الدر موته خوفًا من الفرنج ولم تعلم بذلك أحدًا سوى الأمير فخر الدين بن يوسف بن شيخ الشيوخ والطواشي جمال الدين محسن فقط فكتما موته عن كلّ أحد وبقيت أمور الدولة على حالها وشجرة الدر تخرج المناشير والتواقيع والكتب وعليها علامة بخط خادم يقال له سهيل فلا يشك أحد في أنه خط السلطان وأشاعت أن السلطان مستمرّ المرض ولا يمكن الوصول إليه فلم يجسر أحد أن يتفوّه بموت السلطان إلى أن أنفذت إلى حصن كيفا وأحضرت الملك المعظم توران شاه بن الصالح وأما الملك الصالح فإن شجرة الدرّ أحضرته في حراقة من المنصورة إلى قلعة الروضة تجاه مدينة مصرمن غير أن يشعر به أحد إلاّ من أيتمنته على ذلك فوضع في قاعة من قاعات قلعة الروضة إلى يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر رجب سنة ثمان وأربعين وستمائهّ فنُقل إلى هذه القبة بعدما كانت شجرة الدرّ قد عمرتها على ما هي عليه وخلعت نفسها من سلطنة مصر ونزلت عنها لزوجها عز الدين أيبك قبل نقّله فنفله الملك المعز أيبك ونزل ومعه الملك الأشرف موسى ابن الملك المسعود وسائر المماليك البحرية والجمدارية والأمراء من قلعة الجبل إلى قلعة الروضة وأخرج الملك الصالح في تابوت وصلى عليه بعد صلاة الجمعة وسائرالأمراء وأهل الدولة قد لبسوا البياض حزنًا عليه وقطع المماليك شعور رؤوسهم وساروا به إلى هذه القبة فدفن ليلة السبت فأصبح السلطانان ونزلا إلى القبة وحضر القضاة وسائر المماليك وأهل الدولة وكافة الناس وغلقت الأسواق بالقاهرة ومصر وعمل عزاء للملك الصالح بين القصرين بالدفوف مدّة ثلاثة أيام اَخرها يوم الاثنين‏.‏

ووضع عند القبر سناجق السلطان وبقجته وتركاشه وقوسه ورتب عنده القرّاء على ما شرطت شجرة الدرّ في كتاب وقفها وجعلت النظرفيها للصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا وذريته وهي بيدهم إلى اليوم وما أحسن قول الأديب جمال الدين أبي المظفر عبد الرحمن بن أبي سعيد محمدبن محمدبن عمربن أبي القاسم بن تخمش الواسطيّ المعروف بابن السنيرة الشاعر لما مرّ هو والأمير نور الدين تكريت بالقاهرة بين القصرين ونظر إلى تربة الملك الصالح هذه وقد دفن بقاعة شيخ المالكية فأنشد‏:‏ بنيتَ لأربابِ العلوم مدارسًا لتنجو بها مِن هولِ يوم المهالِكِ‏.‏

وضاقَت عليكَ الأرضُ لم تلق منزلًا تحلُّ به إلاّ إلى جنبِ مالِكِ‏.‏

وذلك أن هذه القبة التي فيها قبر الملك الصالح مجاورة لإيوان الفقهاء المالكية المنتمين إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه فقصد التورية بمالك الإمام المشهور ومالك خازن النار أعاذنا اللّه منها‏.‏

هذه المدرسة بخط بين القصرين من القاهرة وتعرف بدارالحديث الكاملية أنشأها السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي بن مروان في سنة اثنتين وعشرين وستمائة وهي ثاني دار عُملت للحديث‏.‏

فإن أوّل من بنى دارًا على وجه الأرض الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق ثم بنى الكامل هذه الدار ووقفها على المشتغلين بالحديث النبويّ ثم من بعدهم على الفقهاء الشافعية ووقف عليها الربع الذي بجوارها على باب الخرنشف ويمتد إلى الدرب المقابل للجامع الأقمر وهذا الربع من إنشاء الملك الكامل وكان موضعه من جملة القصر الغربيّ ثم صار موضعًا يسكنه القماحون‏.‏

وكان موضع المدرسة سوقًا للرقيق ودارًا تُعرف بابن كستول‏.‏

وأوّل من ولي تدريس الكاملية الحافظ أبو الخطاب عمربن الحسن بن عليّ بن دحية ثم أخوه أبوعمروعثمان بن الحسن بن عليّ بن دحية ثم الحافظ عبد العظيم المندريّ ثم الرشيد العطار‏.‏

ومابرحت بيد أعيان الفقهاء إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ست وثمانمائة فتلاشت كما تلاشى غيرها وولى تدريسها صبيّ لا يُشارك الأناسيّ إلا بالصورة ولا يمتاز عن البهيمة إلاّبالنطق واستمرّ فيها دهرًا لا يُدرَّسُ بها حتى نُسيت أو كادت تُنسى دروسها ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه‏.‏

الملك الكامل‏:‏ ناصر الدين أبو المعالي محمد بن الملك العادل سيف الدين أبي بكرمحمد بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان الكرديّ الأيوبيّ خامس ملوك بني أيوب الأكرادبديار مصر ولد في خامس عشري ربيع الأوّل سنة ست وسبعين وخمسمائة وخلف أباه الملك العادل على بلاد الشرق فلما استولى على مملكة مصر قدم الملك الكامل إلى القاهرة في سنة ست وتسعين وخمسمائة ونصبه أبوه نائبًا عنه بديار مصر وأقطعه الشرقية وجعله وليّ عهده وحلف له الأمراء وأسكنه قلعة الجبل وسكن العادل في دار الوزارة بالقاهرة وصار يحكم بديارمصر مدّة غيبة الملك العادل ببلاد الشام وغيرها بمفرده‏.‏

فلما مات الملك العادل ببلاد الشام استقل الملك الكامل بمملكة مصر في جمادى الاّخرة سنة خمس عشرة وستمائة وهو على محاربة الفرنج بالمنزلة العادلية قريبًا من دمياط وقد ملكوا البرّ الغربي‏.‏

فثبت لقتالهم مع ما حدث من الوهن بموت السلطان وثارت العربان بنواحي أرض مصر وكثرخلافهم واشتدّ ضررهم وقام الأمير عماد الدين أحمد ابن الأمير سيف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد الهكاريّ المعروف بابن المشطوب وكان أجلّ الأمراءالأكابر وله لفيف من الأكراد الهكارية يريد خلع الملك الكامل وتمليك أخيه الملك الفائز إبراهيم بن العادل ووافقه على ذلك كثير من الأمراء فلم يجد الكامل بدًا من الرحيل في الليل جريدة وسار من العادلية إلى أشموم طناح ونزل بها وأصبح العسكر بغير سلطان فركب كل واحد هواه ولم يعرج واحد منهم على آخر وتركوا أثقالهم وسائر ما معهم فاغتنّم الفرنج الفرصة وعبروا إلى برّ دمياط واستولوا على جميع ما تركه المسلمون وكان شيئًا عظيمًا وهمّ الملك الكامل بمفارقة أرض مصر ثم إن الله تعالى ثبته وتلاحقت العساكر وبعد يومين قدم عليه أخوه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق باشموم فاشتدّ عضده بأخيه وأخرج ابن المشطوب من العسكر إلى الشام ثم أخرج الفائز إبراهيم إلى الملوك الأيوبية بالشام والشرق يستنفرهم لجهاد الفرنج وكتب الملك الكامل إلى أخيه الملك الأشرف موسى شاه يستحثه على الحضور وصدر المكاتبة بهذه الأبيات‏:‏ يا مسعدي أن كنت حقًا مُسعفي فانهض بغيرتلبثٍ وتوقفٍ‏.‏

واحثِث قَلوصَك َمرقلًا أو موجفًا بتجشم في سيرها وتعسف‏.‏

واطو المنازٍ لَ ما استطعتَ ولا تنخ إلاّ على بابِ المليكِ الأشرفِ‏.‏

واقر السلامَ عليه من عبدٍ له متوقعٍ لقدومِهِ متشوِّف‏.‏

وإذا وصلتَ إلى حماه فقل له عني بحسنِ توصل وتلطفِ‏.‏

إن تأت عبدُكَ عن قليل تلقَّهُ مابين كل مهندٍ ومثقفِ‏.‏

أو تبطِ عن إنجادِهٍ فلقاؤه بكِ في القيامَةٍ في عراصِ الموقفِ‏.‏

وجدّ الكامل في قتال الفرنج وأمر بالنفير في ديار مصرِ وأتته الملوك من الأطراف فقدّر الله أخذ الفرنج لدمياط بعدما حماصروها ستهّ عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا ووضعوا السيف في أهلها فرحل الكامل من أشموم ونزل بالمنصورة وبعث يستنفر الناس وقوي الفرنج حتى بلغت عدتهم نحو المائتي ألف راجل وعشرة آلاف فارس وقدم عامّة أهل أرض مصر وأتت النجدات من البلاد الشامية وغيرها فصارالمسلمون في جمع عظيم إلى الغاية بلغت عدّة فرسانهم خاصة نحو الأربعين ألفًا وكانت بين الفريقين خطوب آلت إلىوقوع الصلح وتسلم المسلمون مدينة دمياط في تاسع عشري رجب سنة ثمان عشرة وستمائة بعدما أقامت بيد الفرنج سنة وأحد عشر شهرًا تنقص ستة أيام وسار الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى قلعة الجبل‏.‏

وأخرج كثيرًا من الأمراء الذين وافقوا ابن المشطوب من القاهرة إلى الشام وفرّق أخبارهم على مماليكه ثم تخوف من أمرائه في سنة إحدى وعشرين بميلهم إلى أخيه الملك المعظم فقبض على جماعة منهم وكاتب أخاه الملك الأشرف في موافقته على المعظم فقويت الوحشة بين الكامل والمعظم واشتدٌ خوف الكامل من عسكره وهمّ أن يخرج من القاهرة لقتال المعظم فلم يجسر على ذلك وقدم الأشرف إلى القاهرة فسرّ بذلك سرورًا كثيرًا وتحالفًا على المعاضدة وسافر من القاهرة فمال مع المعظم فتحير الكامل في أمره وبعث إلى ملك الفرنج يستدعيه إلى عكا ووعده بأن يمكنه من بلاد الساحل وقصد بذلك أن يشغل سرّ أخيه فلما بلغ ذلك المعظم خطب للسلطان جلال الدين الخوارزميّ وبعث يستنجد به على الكامل وأبطل الخطبة للكامل فخرج الكامل من القاهرة يريد محاربته في رمضان سنة أربع وعشرين وسار إلى العباسة ثم عاد إلى قلعة الجبل وقبض على عدّة من الأمراء ومماليك أبيه لمكاتبتهم المعظم وأنفق في العسكر فاتفق موت الملك المعظم في سلخ ذي القعدة وقيام ابنه الملك الناصر داود بسلطنة دمشق وطلبه من الكامل الموادعة فبعث إليه خلعة سنية وسنجقًا سلطانيًا وطلب منه أن ينزل له عن قلعة الشوبك فامتنع الناصر من ذلك فوقعت المنافرة بينهما وعهد الملك الكامل إلى ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب وأركبه بشعار السلطنة وأنزله بدار الوزارة وخرج من القاهرة في العساكر يريد دمشق فأخذنا بلس والقدس فخرج الناصر داود من دمشق ومعه عمه الأشرف وسارا إلى الكامل يطلبان منه الصلح فلما بلغ ذلك الكامل رحل من نابلس يريد القاهرة فقدمها الناصر والأشرف وأقام بها الناصر وسار الأشرف والمجاهد إلى الكامل فأدركاه بتل العجوز فأكرمهما وقرّر مع الأشرف انتزاع دمشق من الناصر وإعطاءها للأشرف على أن يكون للكامل ما بين عقبة أفيق إلى القاهرة وللأشرف من دمشق إلى عقبة أفيق وأن يعين بجماعة من ملوك بني أيوب فاتفق قدوم الملك الأنبرطور إلى عكا باستدعاء الملك الكامل له فتحير الكامل في أمره لعجزه عن محاربته وأخذ يلاطفه وشرع الفرنج في عمارة صيدا وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج وسورها خراب فلما بلغ الناصر موافقة الأشرف للكامل عاد من نابلس إلى دمشق واستعدّ للحرب فسار إليه الأشرف من تل العجوز وحاصره بدمشق وأقام الكامل بتل العجوز وقد تورط مع الفرنج فلم يجد بدًّا من إعطائهم القدس على أن لا يجدّد سوره وأن تبقى الصخرة والأقصى مع المسلمين ويكون حكم قرى القدس إلى المسلمين وأن القرى التي فيما بين عكا ويافا وبين لد والقدس للفرنج وانعقدت الهدنة على ذلك لمدّة عشرسنين وخمسة أشهر وأربعين يومًا أولها ثامن ربيع الأوّل سنة ست وعشرين ونودي في القدس بخروج المسلمين منه وتسليمه إلى الفرنج فكان أمرًا مهولًا من شدّهَ البكاء والصراخ وخرجوا بأجمعهم فصاروا إلى مخيم الكامل وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان فشق عليه ذلك وأخذ منهم الستور وقناديل الفضة والاَلات وزجرهم وقيل لهم امضوا حيث شئتم فعظم على المسلمين هذا وكثر الإنكار على الملك الكامل وشنعت المقالة فيه وعاد الأنبرطور إلى بلاده بعدما دخل القدس وكان مسيره في آخر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين‏.‏

وسير الكامل إلى الاَفاق بتسكين قلوب المسلمين وانزعاجهم لأخذ الفرنج القدس ورحل من تل العجوز يريد دمشق والأشرف على محاصرتها فجدّ في القتال واشتد الأمر على الناصر إلى أن ترامى في الليل على الملك الكامل فأكرمه وأعاده إلى قلعة دمشق وبعث من تسلمها منه وعوّضه عن دمشق الكرك والشوبك والصلت والبلقاء والأغوار ونابلس وأعمال القدس ثم ترك الشوبك للكامل مع عدّة مما ذكر وتسلم الكامل دمشق في أوّل شعبان وأعطاها للأشرف وأخذ منه ما معه من بلاد الشرق وهي حران والرها وسروج وغير ذلك ثم سار الكامل فأخذ حماه وتوجه منها فقطع الفرات ثم سارإلى جعبروالرقة ودخل حران والرّها ورتب أمورها وأتته الرسل من ماردين وآمد والموصل وأربل وغير ذلك وأقيمت له الخطبة بماردين وبعث يستدعي عساكر الشام لقتال الخوارزميّ وهو بخلاط ثم رحل الكامل من حرّان لأمور حدثت وسار إلى مصر فدخلها في شهر رجب سنة سبع وعشرين وقد تغير على ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب وخلعه من ولاية العهد وعهد إلى ابنه الملك العادل أبي بكر ثم سار إلى الإسكندرية في سنة ثمان وعشرين ثم عاد إلى مصر وحفر بحر النيل فيما بين المقياس وبرّ مصر وعمل فيه بنفسه واستعمل فيه الملوك من أهله والأمراء والجند فصار الماء دائمًا فيما بين مصر والمقياس وانكشف البرّ فيما بين المقياس والجيزة في أيام احتراق النيل وخرج من القاهرهّ إلى بلاد الشام في آخر جمادى الاَخرة سنة تسع وعشرين واستخلف على ديار مصر ابنه العادل وأسكنه قلعة الجبل وأخذ الصالح معه فدخل دمشق من طريق الكرك وخرج منها لقتال التتر وجعل ابنه الصالح على مقدّمته فسار إلى حران فرحل التترعن خلاط ثم رحل إلى الرها وسار إلى آمد ونازلها حتى أخذها وأنعم على ابنه الصالح بحصن كيفا وبعثه إليه وعاد إلى مصر في سنة ثلاثين فقبض على عدّة من الأمراء‏.‏

ثم خرج في سنة إحدى وثلاثين إلى دمشق وسار منها ودخل الدربند وقد أعجبته كثرة عساكره فإنه اجتمع معه ثمانية عشر طلبًا لثمانية عشر ملكًا‏.‏

وقال هذه العساكر لم تجتمع لأحد من ملوك الإسلام ونزل على النهر الأزرق بأوّل بلد الروم وقد نزلت عساكر الروم وأخذت عليه رأس الدربند ومنعوه فتحير لقلة الأقوات عنده ولاختلاف ملوك بني أيوب عليه ورحل إلى مصر وقد فسد ما بينه وبين الأشرف وغيره وأخذ ملك الروم الرها وحران بالسيف فتجهز الكامل وخرج بعساكره من القاهرة في سنة ثلاث وثلاثين وسار إلى الرها ونازلها حتى أخذها وهدم قلعتها وأخذ حران بعد قتال شديد وبعث بمن كان فيها من الروم إلى القاهرة في القيود وكانوا زيادة على ثلاثة آلاف نفس ثم خرج إلى دنيسر وعاد إلى دمشق وسار منها إلى القاهرة فدخلها في سنة أربع وثلاثين ثم خرج في سنة خمس وثلاثين ونزل على دمشق وقد امتنعت عليه فضايقها حتى أخذها من أخيه الملك الصالح إسماعيل وعوضه عنها بعلبك وبصرى وغيرهما في تاسع عشر جمادى الأولى ونزل بالقلعة وأخذ يتجهزلأخذ حلب وقد نزل به زكام فدخل في ابتدائه الحقام فاندفعت الموادّ إلى معدته فتورم وثارت فيه حمى فنهاه الأطباء عن القيء وحذروه منه فلم يصبر وتقيأ فمات لوقته في آخر نهار الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة عن ستين سنة منها ملكه أرض مصر نحو أربعين سنة استبدّ فيها بعد موت أبيه مدّة عشرين سنة وخمسة وأربعين يومًا‏.‏

وكان يحب العلم وأهله ويؤثر مجالستهم وشغف بسماع الحديث النبويّ وحدث وبنى دار الحديث الكاملية بالقاهرة وكان يناظر العلماء ويمتحنهم بمسائل غريبة من فقه ونحو فمن أجاب عنها حظي عنده وكان يبيت عنده بقلعة الجبل عدّة من أهل العلم على أسرّة بجانب سريره ليسامروه وكان للعلم والأدب عنده نفاق فقصده الناس لذلك وصار يُطلق الأرزاق الدارة لمن يقصده لهذا وكان مهابًا حازمًا سديد الرأي حسن التدبير عفيفًا عن الدماء وكان يباشر أمور مملكته بنفسه من غير اعتماد على وزير ولا غيره ولم يستوزر بعد الصاحب صفيّ الدين عبد اللّه بن عليّ بن شكر أحدًا وإنما كان ينتدب من يختاره لتدبير الأشغال ويحضر عنده الدواوين ويحاسبهم بنفسه وإذا ابتدأت زيادة النيل خرج وكشف الجسور ورتب الأمراء لعملها فإذا انتهى عمل الجسور خرج ثانيًا وتفقدها بنفسه فإن وقف فيها على خلل عاقب متوليها أشدّ العقوبة فعمرت أرض مصر في أيامه عمارة جيدة وكان يخرج من زكوات الأموال التي تجبى من الناس سهمي الفقراء والمساكين ويعين مصرف ذلك لمستحقيه شرعًا ويفرز منه معاليم الفقهاء والصلحاء وكان يجلس كلّ ليلة جمعة مجلسًا لأهل العلم فيجتمعون عنده للمناظرة وكان كثير السياسة حسن المداراة وأقام على كل طريق خفراء لحفظ المسافرين إلاّ أنه كان مغرمًا بجمع المال مجتهدًا في تحصيله وأحدث في البلاد حوادث سماها الحقوق لم تعرف قبله ومن شعره قوله رحمه اللّه تعالى‏:‏ إذا تحققتُمْ ما عند صاحبَكُمْ من الغرامِ فداكَ القدرُ يكفيهِ‏.‏

أنتمْ سكنتُمْ فؤادي وهو منزلُكُمْ وصاحبُ البيتِ أدرى بالذي فيه‏.‏

وقال له الطبيب علم الدين أبو النصر جرجس بن أبي حليقة في اليوم الذي مات فيه كيف نوم السلطان في ليلته فأنشد‏:‏ ياخليلي خبراني بصدق كيفَ طعمُ الكرى فإني نسيتُ‏.‏

ودُفن أولًا بقلعة دمشق ثم نقل إلى جوار جامع بني أمية وقبره هناك رحمه اللّه تعالى‏.‏

 المدرسة الصيرمية

هذه المدرسة من داخل باب الجملون الصغير بالقرب من رأس سويقة أمير الجيوش فيما بينها وبين الجامع الحاكميّ بجوار الزيادة بناها الأمير جمال الدين شويخ بن صيرم أحد أمراء الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب وتوفي في تاسع عشر صفر سنة ست وثلاثين وستمائة‏.‏

المدرسة المسرورية هذه المدرسة بالقاهرة داخل درب شمس الدولة كانت دار شمس الخواص مسرور أحد خدّام القصر فجُعلت مدرسة بعد وفاته بوصيته وأن يوقف الفندق الصغير عليها وكان بناؤها من ثمن ضيعة بالشام كانت بيده بيعت بعد موته وتولى ذلك القاضي كمال الدين خضر ودرس فيها وكان مسرور ممن اختص بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فقدّمه على حلقته ولم يزل مقدّمًا إلى الأيام الكاملية فانقطع إلى اللّه تعالى ولزم داره إلى أن مات ودفن بالقرافة إلى جانب مسجده وكان له بر وإحسان ومعروف ومن آثاره بالقاهرة فندق يُعرف اليوم بخان مسرورالصفدي وله ربع بالشارع‏.‏

المدرسة القوصية هذه المدرسة بالقاهرة في درب سيف الدولة بالقرب من درب ملوخيا أنشأها الأمير الكردي والي قوص‏.‏

مدرسة بحارة الديلم المدرسة الظاهرية هذه المدرسة بالقاهرة من جملة خط بين القصرين كان موضعها من القصر الكبير يُعرف بقاعة الخيم وقد تقدّم ذكرها في أخبار القصر‏.‏

ومما دخل في هذه المدرسة باب الذهب المذكور في أبواب القصر فلما أوقع الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ الحوطة علىالقصور والمناظر كما تقدّم ذكره نزل القاضي كمال الدين ظاهر ابن الفقيه نصر وكيل بيت المال وقوّم قاعة الخيم هذه وابتاعها الشيخ شمس الدين محمد بن العماد إبراهيم المقدسي شيخ الحنابلة ومدرّس المدرسة الصالحية النجمية ثم باعها المذكور للسلطان فأمر بهدمها وبناء موضعها مدرسة فابتديء بعمارتها في ثاني ربيع الآخر سنة ستين وستمائة وفرغ منها في سنة اثنتين وستين وستمائة ولم يقع الشروع في بنائها حتى رتب السلطان وقفها وكان بالشام فكتب بمارتبه إلى الأمير جمال الدين بن يغمور وأن لا يستعمل فيها أحدًا بغير أجرة ولا ينقص من أجرته شيئًا فلما كان يوم الأحد خامس صفر سنة اثنتين وستين وستمائة اجتمع أهل العلم بها وقد فرغ منها وحضر القرّاء وجلس أهل الدروس كلّ طائفة في إيوان منها الشافعية بالإيوان القبليّ ومدرّسهم الشيخ تقيّ الدين محمد بن الحسن بن رزين الحمويّ والحنفية بالإيوان البحريّ ومدرّسهم الصدر مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم الحلبيّ وأهل الحديث بالإيوان الشرقيّ ومدرسهم الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطيّ والقرّاء بالقراءآت السبع بالإيوان الغربيّ وشيخهم الفقيه كمال الدين المحليّ وقرّروا كلهم الدروس وتناظروا في علومهم ثم مدّت الأسمطة لهم فأكلوا وقام الأديب أبو الحسين الجزار فأنشد‏:‏ ألا هكذا يبني المدارس من بنى ومن يتغالى في الثوابِ وفي الثنا لقد ظهَرَتْ للظاهر الملك همةٌ بها اليومَ في الدارين قد بلغَ المنا تجمَّعَ فيها كلُّ حسن مفرقِ فراقت قلوبًا للأنامِ وأعينا ومذ جاورت قبرَ الشهيدِ فنفسُهُ الن فيسَةُ منها في سرورٍ وفي هَنَا وماهي إلاجنةُ الخلد أ زلفَت له في غدٍ فاختارَ تعجيلها هُنَا وقال السراج الورّاق أيضًا قصيدة منها‏:‏ مليك لهُ في العلمِ حب وأهلُه فللهِ حب ليسَ فيهِ ملامُ‏.‏

فشيدها للعلم مدرسةً غدا عراق إليها شيِّقٌ وشآم‏.‏

ولا تذكُرن يومًا نَظّاميّة لها فليس يضاهي ذا النظَام نِظَّامُ‏.‏

ولا تذكرنَ ملكًا فبيبرسُ مالِكٌ وكل مليكِ في يديهِ كلامُ‏.‏

وقدبرزتْ كالروضِ في الحُسن انبأتْ بأنّ يديهِ في النواالِ غُمامُ‏.‏

الم تر محرابًا كأن أزاهِرًا تفتحَ عنهنَّ الغداةُ كمامُ‏.‏

وقال الشيخ جمال الدين يوسف بن الخشاب‏:‏ قصد الملوكَ حِماكَ والخلفاءُ فافخرْ فإن محلُكَ الجوزاء‏.‏

أنت الذي أمراؤه بين الورى مثل الملوكِ وجندهَ أمراء‏.‏

ملك تزينتِ الممالِكُ باسمِهِ وتجملَت بمديحِهِ الفُصحاءُ‏.‏

وترفعت لعلاهِ خيرُ مدارس حلت بها العلماءُ والفضلاءُ‏.‏

يبقى كما يبقى الزمان وملكُهُ باق لهُ ولحاسديهِ فناءُ‏.‏

كم للفرنجِ وللتتارِ ببابه رسل مُناها العفو والإعفاءُ‏.‏

وطريقُهُ لبلادِهم موطوءَة وطريقُهم لبلادِهِ عذراءُ‏.‏

دامت له الدنيا ودام خلدًا ما أقبلَ الإ صباحُ والإمساءُ‏.‏

فلما فرغ هؤلاء الثلاثة من إنشادهم أفيضت عليهم الخلع وكان يومًا مشهودًا وجعل بها خزانة كتب تشتمل على أمهات الكتب في سائر العلوم وبني بجانبها مكتبًا لتعليم أيتام المسلمين كتاب باب زويلة وباب الفرج وُيعرف ذلك الخط اليوم به فيقال خط تحت الربع وكان ربعًا كبيرًا لكنه خرب منه عدّة دور فلم تُعمر وتحت هذا الربع عدّة حوانيت هي الآن من أجلّ الأسواق وللناس في سكناها رغبة عظيمة ويتنافسون فيها تنافسًا يرتفعون فيه إلى الحاكم وهذه المدرسة من أجلِّ مدارس القاهرة إلا أنها قد تقادم عهدها فرثت وبها إلى الاَن بقية صالحة ونظرها تارة يكون بيد الحنفية وأحيانًا بيد الشافعية وينازع في نظرها أولاد الظاهر فيدفعون عنه ولله عاقبة الأمور‏.‏

المدرسة المنصورية هذه المدرسة من داخل باب المارستان الكبير المنصوري بخط بين القصرين بالقاهرة أنشأها هي والقبة التي تجاهها والمارستان الملك المنصور قلاون الألفيّ الصالحيّ على يد الأمير علم الدين سنجر الشجاعي ورتب بها دروسًا أربعة لطوائف الفقهاء الأربعة ودرسًا للطب ورتب بالقبةدرسًا للحديث النبويّ ودرسًا لتفسيرالقرآن الكريم وميعادًا وكانت هذه التداريس لا يليها إلاّ أجل الفقهاء المعتبرين ثم هي اليوم كما قيل‏:‏ تصدّرَ للتدريسِ كل مهوّس بليسدٍ يُسمى بالفقيهِ المدرسِ‏.‏

فحُقَّ لأهل العلم أن يتمثلوا ببيتِ قديم شاعَ في كلِّ مجلِسِ‏.‏

لقد هَزُلَتْ حتى بدا من هُزالِها كِلاها وحتّى سامَهَا كل مفلِسِ‏.‏

القبة المنصورية‏:‏ هذه القبة تجاه المدرسة المنصورية وهما جميعًا من داخل باب المارستان المنصوريّ وهي من أعظم المباني الملوكية وأجلّها قدرًا وبها قبر تضمن الملك المنصور سيف الدين قلاون وابنه الملك الناصر محمد بن قلاون والملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون‏.‏

وبها قاعة جليلة في وسطها فسقية يصل إليها الماء من قوّارة بديعة الزي وسائر هذه القاعة مفروش بالرخام الملوّن وهذه القاعة معدّة لإقامةالخدام الملوكية الذين يعرفون اليوم في الدولة التركية بالطواشية وأحدهم طواشي وهذه لفظة تركية أصلها بلغتهم طابوشي فتلاعبت بها العامة وقالت طواشي وهو الخصيّ ولهؤلاء الخدام في كلّ يوم ما يكفيهم من الخبز النقي واللحم المطبوخ وفي كل شهر من المعاليم الوافرة ما فيه غنية لهم وأدركتهم ولهم حرمة وافرة وكلمة نافذة وجانب مرعيّ ويعد شيخهم من أعيان الناس يجلس على مرتبة وبقية الخدّام في مجالسهم لا يبرحون في عبادة وكان يستقرّ في وظائف هذه الخدمة أكابر خدّام السلطان ويقيمون عنهم نوّابًا يواظبون الإقامة بالقبة ويرون مع سعة أحوالهم وكثرة أموالهم من تمام فخرهم وكمال سيادتهم انتماءهم إلى خدمة القبة المنصورية ثم تلاشى الحال بالنسبة إلى ما كان والخدّام بهذه القاعة إلى اليوم وقصد الملوك بإقامة الخدّام في هذه القاعة التي يتوصل إلى القبة منها إقامة ناموس الملك بعد الموت كما كان في مدّة الحياة وهم إلى اليوم لا يمكنون أحدًا من الدخول إلى القبة إلاّ من كان من أهلها ولله دريحي بن حكم البكريّ الجياني المغربي الملقب بالغزال لجماله حيث يقول‏:‏ أرى أهل الثراء إذا توفوا بنوا تلك المقابِرِ بالصخورِ‏.‏

أبو إلا مباهاةً وتيهًا على الفقراء حتى في القبورِ‏.‏

وفي هذه القبة دروس للفقهاء على المذاهب الأربعة وتُعرف بدروس وقف الصالح وذلك أنّ الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون قصد عمارة مدرسة فاخترمته المنية دون بلوغ غرضه فقام الأمير ارغون العلائيّ زوج أمه في وقف قرية تعرف بدهمشا الحمام من الأعمال الشرقية عن أمّ الملك الصالح فاثبته بطريق الوكالة عنها ورتب ما كان الملك الصالح إسماعيل قرّره في حياته لو أنشأ مدرسة وجعل ذلك الأمير أرغون مرتبًا لمن يقوم به في القبة المنصورية وهو وقف جليل يتحصل منه في كل سنة نحو الأربعة آلاف دينار ذهبًا ثم لما كانت الحوادث وخربت الناحية المذكورة تلاشى أمر وقف الصالح وفيه إلى اليوم بقية وكان لا يلي تدريس درسه إلا قضاة القضاة فوليه الآن الصبيان ومن لا يؤهل لو كان الإنصاف له‏.‏

وفي هذه القبة أيضًا قرّاء يتناوبون القراءة بالشبابيك المطلة على الشارع طول الليل والنهار وهم من جهة ثلاثة أوقاف فطائفة من جهة وقف الملك الصالح إسماعيل وطائفة من جهة الوقف السيفيّ وهو منسوب إلى الملك المنصور سيف الدين أبي بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاون‏.‏

وبهذه القبة إمام راتب يُصلّى بالخدّام والقرّاء وغيرهم الصلوات الخمس ويفتح له باب فيما بين القبة والمحراب يدخل منه من يُصلّي من الناس ثم يغلق بعد انقضاء الصلاة‏.‏

وبهذه القبة خزانة جليلة كان فيها عدّة أحمال من الكتب في أنواع العلوم مما وقفه الملك المنصور وغيره وقد ذهب معظم هذه الكتب وتفرق في أيدي الناس‏.‏

وفي هذه القبة خزانة بها ثياب المقبورين بها ولهم فرّاش معلوم بمعلوم لتعهدهم ويوضع ما يتحصل من مال أوقاف المارستان بهذه القبة تحت أيدي الخدّام وكانت العادة أنه إذا أمّر السلطان أحدًا من أمراءمصر والشام فإنه ينزل من قلعة الجبل وعليه التشريف والشر بوش وتوقد له القاهرة فيمرّ إلى المدرسة الصالحية بين القصرين وعمل ذلك من عهد سلطنة المعز أيبك ومن بعده فنقل ذلك إلى القبة المنصورية وصار الأمير يحلف عند القبر المذكور ويحضر تحليفه صاحب الحجاب وتمدّ أسمطة جليلة بهذه القبة ثم ينصرف الأمير ويجلس له في طول شارع القاهرة إلى القلعة أهل الأغاني لتزفه في نزوله وصعوده وكان هذا من جملة منتزهات القاهرة وقد بطل ذلك منذ انقرضت دولة بني قلاون‏.‏

ومن جملة أخبار هذه القبة‏:‏ أنه لما كان في يوم الخميس مستهل المحرّم سنة تسعين وستمائة بعث الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون بجملة مال تصدّق به في هذه القبة ثم أمر بنقل أبيه من القلعة فخرج سائر الأمراء ونائب السلطنة الأمير بيدرا بدر الدين والوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس التنوخي وحضروا بعد صلاة العشاء الاَخرة ومشوا بأجمعهم قدّام تابوت الملك المنصور إلى الجامع الأزهر وحضر فيه القضاة ومشايخ الصوفية فتقدّم قاضي القضاة تقيّ الدين بن دقيق العيد وصلى على الجنازة وخرج الجميع أمامها إلى القبة المنصورية حتى دفن فيها وذلك في ليلة الجمعة ثاني المحرّم وقيل عاشره ثم عاد الوزير والنائب من الدهليز خارج القاهرة إلى القبة المنصورية لعمل مجتمع بسبب قراءة ختمه كريمة في ليلة الجمعة ثامن عشري صفر منها وحضر المشايخ والقرّاء والقضاة في جمع موفور وفرّق في الفقراء صدقات جزيلة ومدّت أسمطة كثيرة وتفرّقت الناس أطعمتهاحتى امتلأت الأيدي بها وكانت إحدى الليالي الغرّ كثر الدعاء فيها للسلطان وعساكر الإسلام بالنصر على أعداء الملة وحضر الملك الأشرف بكرة يوم الجمعة إلى القبة المنصورية وفرّق مالًا كثيرًا وكان الملك الأشرف قد برز يريد المسير لجهاد الفرنج وأخذ مدينة عكا فسار لذلك وعاد في العشرين من شعبان وقد فتح الله له مدينة عكا عنوة بالسيف وخرّب أسوارها وكان عبوره إلى القاهرة من باب النصر وقد زينت القاهرة زينة عظيمة فعندما حاذى باب المارستان نزل إلى القبة المنصورية وقد غصت بالقضاة والأعيان والقرّاء والمشايخ والفقهاء فتلقوة كلهم بالدعاء حتى جلس فأخذ القرّاء في القراءة وقام نجم الدين محمد بن فتح الدين محمد بن عبد الله بن مهلهل بن غياث بن نصر المعروف بابن العنبريّ الواعظ وصعد منبرًا نصب له فجلس عليه وافتتح ينشد قصيدة تشتمل على ذكر الجهاد وما فيه من الأجر فلم يسعد فيها بحظ وذلك أنه افتتحها بقوله‏:‏ فعندما سمع الأشرف هذا البيت تطير منه ونهض قائمًا وهو يسب الأمير بيدرا نائب السلطنة لشدة حنقه وقال‏:‏ ما وجد هذا شيأ يقوله سوى هذا البيت فاخذ بيدرًا في تسكين حنقه والاعتذار له عن ابن العنبريّ بأنه قد انفرد في هذا الوقت بحسن الوعظ ولا نظير له فيه إلاأنه لم يرزق سعادة في هذا الوقت فلم يَصغ السلطان إلى قوله وسار فانفض المجلس على غير شيء وصعد السلطان إلى قلعة الجبل ثم بعد أيام سأل السلطان عن وقف المارستان وأحب أن يجدد له وقفًا من بلاد عكا التي افتتحها بسيفه فاستدعى القضاة وشاورهم فيما همّ به من ذلك فرغبوه فيه وحثوه على المبادرة إليه فعين أربع ضياع من ضياع عكار وصور ليقفها على مصالح المدرسة والقبة المنصورية ما تحتاج إليه من ثمن زيت وشمع ومصابيح وبسط وكلفة الساقية وعلى خمسين مقرئًا يرتبون لقراءة القرآن الكريم بالقبة وإمام راتب يُصلّى بالناس الصلوات الخمس في محراب القبة وستة خدّام يقيمون بالقبة وهي الكابرة وتل الشيوخ وكردانة وضواحيها من عكا ومن ساحل صور معركة وصدفين وكتب بذلك كتاب وَقْفٍ وجعل النظر في ذلك لوزيره الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس‏.‏

فلما تمّ ذلك تقدّم بعمل مجتمع بالقبة لقراءة ختمة كريمة‏.‏

وذلك ليلة الاثنين رابع ذي القعدة سنة تسعين وستمائة فاجتمع القراء والوعاظ والمشايخ والفقراء والقضاة لذلك وخلع على عامة أرباب الوظائف والوعاظ وفرقت في الناس صدقات جمة وعمل مهم عظيم احتفل فيه الوزير احتفالًا زائدًا وبات الأمير بدر الدين بيدرًا نائب السلطنة والأمير الوزير شمس الدين محمد بن السلعوس بالقبة وحضر السلطان ومعه الخليفة الحاكم بأمر اللّه أحمد وعليه سواده فخطب الخليفة خطبة بليغة حرّض فيها على أخذ العراق من التتار فلما فرغ من المهمّ أفاض السلطان على الوزير تشريفًا سنيًا وفي يوم الخميس حادي عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وتسعين وستمائة اجتمع القرّاء والوعاظ والفقهاء والأعيان بالقبة المنصورية لقراءة ختمة شريفة ونزل السلطان الملك الأشرف وتصدّق بمال كثير وآخر من نزل إلى القبة المنصورية من ملوك بني قلاون السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في سنة إحدى وستين وسبعمائة وحضر عنده بالقبة مشايخ العلم وبحثوا في العلم وزار قبر أبيه وجدّه ثم خرج فنظر في أمر المرضى بالمارستان وتوجه إلى قلعة الجبل ‏.‏

هذه المدرسة بجوار القبة المنصورية من شرقيها كان موضعها حمّامًا فأمر السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري بإنشاء مدرسة موضعها فابتدىء في عملها ووضع أساسها وارتفع بناؤها عن الأرض إلى نحو الطراز المذهب الذي بظاهرها فكان من خلعه ما كان فلما عاد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إلى مملكة مصر في سنة ثمان وتسعين وستمائة أمر بإتمامها فكملت في سنة ثلاث وسبعمائة وهي من أجلّ مباني القاهرة وبابها من أعجب ما عملته أيدي بني آدم فإنه من الرخام الأبيض البديع الزيّ‏.‏

الفائق الصناعة ونقل إلى القاهرة من مدينة عكا وذلك أن الملك الأشرف خليل بن قلاون لما فتح عكا عنوة في سابع عشر جمادى الأولى سنة تسعين وستمائة أقام الأمير علم الدين سنجر الشجاعي لهدم أسوارها وتخريب كنائسها فوجد هذه البوّابة على باب كنيسة من كنائس عكا وهي من رخام قواعدها وأعضادها وعمدها كل ذلك متصل بعضه ببعض فحمل الجميع إلى القاهرة وأقام عنده إلى أن قُتل الملك الأشرف وتمادى الحال على هذا أيام سلطنة الملك الناصر محمد الأولى فلما خُلع وتملك كتبغا أخذ دار الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي ليعملها مدرسة فدل على هذه البوّابة فأخذها من ورثة الأمير بيدرا فإنها كانت قد انتقلت إليه وعملها كتبغا على باب هذه المدرسة‏.‏

فلما خُلع من المُلك وأقيم الناصر محمد اشترى هذه المدرسة قبل إتمامها والإشهاد بوقفها وولى شراءها وصيه قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف المالكيّ وأنشأ بجوار هذه المدرسة من داخل بابها قبة جليلة لكنها دون قبة أبيه ولما كملت نقل إليها أمّه بنت سكباي بن قراجين ووقف على هذه المدرسة قيسارية أمير على بخط الشرابشيين من القاهرة والربع الذي يعلوها وكان يُعرف بالدهيشة ووقف عليها أيضًاحوانيت بخط باب الزهومة من القاهرة ودار الطعم خارج مدينة دمشق فلما مات ابنه انوك من الخاتون طغاي في يوم الجمعة سابع عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وعمره ثماني عشرة سنة دفنه بهذه القبة وعمل عليها وقفًا يختص بها وهو باق إلى اليوم يصرف لقرّاء وغير ذلك‏.‏

وأول من رتبَ في تدريس المدرسة الناصرية من المدرسين قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ ليدرّس فقه المالكية بالإيوان الكبير القبلي وقاضي القضاة شرف الدين عبد الغنيّ الحرّاني ليدرّس فقه الحنابلة بالإيوان الغربيّ وقاضي القضاة أحمد بن السروجيّ الحنفيّ ليدرّس فقه الحنفية بالإيوان الشرقيّ والشيخ صدر الدين محمد بن المرحل المعروف بابن الوكيل الشافعي ليدرّس فقه الشافعية بالإيوان البحريّ‏.‏

وقرّر عند كل مدرس منهم عدّة من الطلبة وأجرى عليهم المعاليم ورتب بها إمامًا يؤم بالناس في الصلوات الخمس وجعل بها خزانة كتب جليلة وأدرَكْتُ هذه المدرسة وهي محترمة إلى الغاية يجلس بدهليزها عدّة من الطواشية ولا يمكن غريب أن يصعد إليها وكان يفرّق بها على الطلبة والقرّاء وسائر أرباب الوظائف بها السكر في كلّ شهر لكل أحد منهم نصيب ويفرّق عليهم لحوم الأضاحي في كل سنة وقد بطل ذلك وذهب ما كان لها من الناموس وهي اليوم عامرة من أجلِّ المدارس‏.‏