فصل: المدرسة الأقبغاوية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 المدرسة الحجازية

هذه المدرسة برحبة باب العيد من القاهرة بجوار قصر الحجازية كان موضعها بابًامن أبواب القصر يُعرف بباب الزمرد أنشأتها الست الجليلة الكبرى خوند تتر الحجازية ابنة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون زوجة الأمير بكتمر الحجازيّ وبه عرفت‏.‏

وجعلت بهذه المدرسة درسًا للفقهاء الشافعية قررت فيه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ ودرسًا للفقهار المالكية وجعلت بها منبرًا يخطب عليه يوم الجمعة ورتبت لها إماما راتبًا يقيم بالناس الصلوات الخمس وجعلت بها خزانة كتب وأنشأت بجوارها قبة من داخلها لتدفن تحتها ورتبت بشباك هذه القبة عدة قرّاء يتناوبون قراءة القرآن الكريم ليلًا ونهارًا وأنشأت بها منارًا عاليًا من حجارة ليؤذن عليه وجعلت بجوار المدرسة مكتبًا للسبيل فيه عدة من أيتام المسلمين ولهم مؤدّب يعملهم القرآن الكريم ويُجري عليهم في كل يوم لكل منهم من الخبز النقي خمسة أرغفة ومبلغ من الفلوس ويقام لكل منهم بكسوتي الشتاء والصيف وجعلت على هذه الجهات عدة أوقاف جليلة يُصرف منها لأرباب الوظائف المعاليم السنية وكان يُفرّق فيهم كل سنة أيام عيد الفطر الكعك والخشكنانك وفي عيد الأضحى اللحم وفي شهر رمضان يطبخ لهم الطعام وقد بطل ذلك ولم يبق غير المعلوم في كل شهر وهي من المدارس الكبسة وعهدي بها محترمة إلى الغاية يجلس عدّة من الطواشية ولا يمكنون أحدًامن عبور القبة التي فيها قبر خوند الحجازية إلاّ القراء فقط وقت قراءتهم خاصة‏.‏

واتفق مرّة أن شخصا من القرّاء كان في نفسه شيء من أحد رفقائه فأتى إلى كبير الطواشية بهذه القبة وقال له‏:‏ أن فلانًا دخل اليوم إلى القبة وهو بغير سراويل فغضب الطواشي من هذا القول وعدّ ذلك ذنبًا عظيمًا وفعلًا محذورًا وطلب ذلك المقريء وأمر به فضُرِبَ بين يديه وصار يقول له‏:‏ تدخل على خوند بغير سراويل وهمّ بإخراجه من وظيفة القراءة لولا ما حصل من شفاعة الناس فيه وكان لا يلي نظر هذه المدرسة إلاّ الأمراء الأكابر ثم صار يليها الخدّام وغيرهم وكان إنشاؤها في سنة إحدى وستين وسبعمائة ولما ولي الأمير جمال الدين يوسف البحاسيّ وظيفة أستادارية السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق وعمر بجانب هذه المدرسة داره ثم مدرسته صار يحبس في المدرسة الحجازية من يصادره أو يعاقبه حتى امتلأت بالمسجونين والأعوان المرسمين عليهم فزالت تلك الأبهة وذهب ذلك الناموس واقتدى بجمال الدين من سكن بعده من الأستادارية في داره وجعلوا هذه المرسة سجنًا ومع ذلك فهي من أبهج مدارس القاهرة إلى الاَن‏.‏

المدرسة الطيبرسية هذه المدرسة بجوار الجامع الأزهر من القاهرة وهي غريبة مما يلي الجهة البحرية أنشأها الأمير علاء الدين طيبرس الخازنداريّ نقيب الجيوش وجعلها مسجدًا للّه تعالى زيادة في الجامع الأزهر وقرّر بها درسًا للفقهاء الشافعية وأنشأ بجوارها ميضأة وحوض ماء سبيل ترده الدواب وتأنق في رخامها وتذهيب سقوفها حتى جاءت في أبدع زي وأحسن قالب وأبهج ترتيب لما فيها من إتقان العمل وجودة الصناعة بحيث أنه لم يقدر أحد على محاكاة ما فيها من صناعة الرخام فان جميعه أشكال المحاريب وبلغت النفقة عليها جملة كثيرة وانتهت عمارتها في سنة تسع وسبعمائة ولها بسط تفرش في يوم الجمعة كلهامنقوشه بأشكال المحاريب أيضًا وفيها خزانه كتب ولها إمام راتب‏.‏

طيبرس‏:‏ بن عبد الله الوزيريّ كان في ملك الأمير بدر الدين بيلبك مملوك الخازندار الظاهري نائب السلطنة ثم انتقل إلى الأمير بدر الدين بيدرا وتنقل في خدمته حتى صار نائب الصبيبة ورأى منامًا للمنصور لاجين يدل على أنه يصير سلطان مصر وذلك قبل أن يتقلد السلطنة وهو نائب الشام فوعده إن صارت إليه السلطنة أن يقدّمه وينوّه به فلما تملك لاجين استدعاه وولاه نقابة الجيش بديار مصر عوضًا عن بلبان الفاخريّ في سنة سبع وتسعين وستمائة فباشر النقابة مباشرة مشكورة إلى الغاية من إقامة الحرمة وأداء الأمانة والعفة المفرطة بحيث أنه ما عُرف عنه أنه قَبِلَ من أحد هدية البتة مع التزام الديانة والمواظبة على فعل الخير والغنى الواسع وله من الآثار الجميلة الجامعَ والخانقاه بأراضي بستان الخشاب المطلة على النيل خارج القاهرة فيما بينها وبين مصر بجوار المنشأة وهو أوّل من عمر في أراضي بستان الخشاب وقد تقدّم ذكر ذلك ومن آثاره أيضًا هذه المدرسة البديعة الزي وله على كل من هذه الأماكن أوقاف جليلة ولم يزل في نقابة الجيش إلى أن مات في العشرين من شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وسبعمائة ودفن في مكان بمدرسته هذه وقبره بها إلى وقتنا هذا ووجد له من بعده مال كثير جدًّا وأوصى إلى الأمير علاء الدين عليّ الكوارني وجعل الناظر على وصيته الأمير أرغون نائب السلطنة واتفق انه لما فرغ من بناء هذه المدرسة أحضر إليه مباشروه حساب مصروفها فلما قُدّم إليه استدعى بطشت فيه ماء وغسل أوراق الحساب بأسرها من غير أن يقف على شيء منها وقال‏:‏ شيء خرجنا عنه لله تعالى لا نحاسب عليه ولهذه المدرسة شبابيك في جدار الجامع تشرف عليه ويتوصل من بعضها إليه وما عمل ذلك حتى استفتى الفقهاء فيه فأفتوه بجواز فعله وقد تداولت أيدي نظار السوء على أوقاف طيبرس هذا فخرب أكثرها وخرب الجامع والخانقاه

 المدرسة الأقبغاوية

هذه المدرسة بجوار الجامع الأزهر على يُسرة من يدخل إليه من بابه الكبير البحريّ وهي تُشرف بشبابيك على الجامع مركبة في جداره فصارت تجاة المدرسة الطيبرسية‏.‏

كان موضعها دار الأمير الكبير عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة في أيام الملك الظاهر بيبرس وميضأة للجامع فأنشأها الأمير علاء الدين أقبغا عبد الواحد أستادار الملك الناصر محمد بن قلاون وجعل بجوارها قبة ومنارة من حجارة منحوتة وهي أوّل مئذنة عُملت بديار مصر من الحجر بعد المنصورية وإنما كانت قبل ذلك تُبنى بالآجر بناها هي والمدرسة المعلم ابن السيوفيّ رئيس المهندسين في الأيام الناصرية وهو الذي تولى بناء جامع الماردينيّ خارج باب زويلة وبنى مئذنته أيضًا‏.‏

وهي مدرسة مظلمة ليس عليها من بهجة المساجد ولا أنس بيوت العبادات شيء البتة وذلك أن أقبغا عبد الواحد اغتصب أرض هذه المدرسة بأن أقرض ورثة أيدمر الحليّ مالًا وأمهل حتى تصرّفوا فيه ثم أعسفهم في الطلب وألجأهم إلى أن أعطوه دارهم فهدمها وبنى موضعها هذه المدرسة وأضاف إلى اغتصاب البقعة أمثال ذلك من الظلم فبناها بأنواع من الغصب والعسف وأخذ قطعة من سور الجامع حتى ساوى بها المدرسة الطيبرسية وحشر لعملها الصناع من البنائين والنجارين والحجارين والمرخمين والفعلة وقرّر مع الجميع أن يعمل كل منهم فيها يومًا في كل أسبوع بغير أجرة فكان يجتمع فيها في كل أسبوع سائر الصناع الموجودين بالقاهرة ومصر فيجدّون في العمل نهارهم كله بغير أجرة وعليهم مملوك من مماليكه ولاه شدّ العمارة لم ير الناس أظلم منه ولا أعتى ولا أشد بأسًاولا أقسى قلبًا ولا أكثر عنتًا فلقي العمال منه مشقات لا توصف وجاء مناسبًا مولاه‏.‏

وحمل مع هذا إلى هذه العمارة سائر ما يحتاج إليه من الأمتعة وأصناف الآلات وأنواع الاحتياجات من الحجر والخشب والرخام والدهان وغيره من غير أن يدفع في شيء منه ثمنًا البتة وإنما كان يأخذ ذلك إما بطريق الغصب من الناس أوعلى سبيل الخيانة من عمائر السلطان‏.‏

فإنه كان من جملة ما بيده شد العمائر السلطانية وناسب هذه الأفعال أنه ما عرف عنه قط أنه نزل إلى هذه العمارة إلا وضرب فيها من الصناع عدّة ضربًا مؤلمًا فيصير ذلك الضرب زيادة على عمله بغير أجرة فيُقال فيه‏:‏ كَمُلَتْ خصالك هذه بعماري‏.‏

فلما فرغ من بنائها جمع فيها سائر الفقهاء وجميع القضاة وكان الشريف شرف الدين عليّ بن شهاب الدين الحسين بن محمد بن الحسين نقيب الأشراف ومحتسب القاهرة حينئذٍ يؤمّل أن يكون مدرّسها وسعى عنده في ذلك فعمل بُسطًا على قياسها بلغ ثمنها ستة اَلاف درهم فضة ورشاه بها ففرشت هناك ولما تكامل حضور الناس بالمدرسة وفي الذهن أنّ الشريف يلي التدريس وعُرف أنه هو الذي أحضر البسط التي قد فُرشت قال الأمير أقبغا لمن حضر‏:‏ لا أولي في هذه الأيام أحدًا وقام فتفرّق الناس وقرّر فيها درسًا للشافعية ولي تدريسه ودرسًا للحنفية ولي تدريسه وجعل فيها عدّة من الصوفية ولهم شيخ وقرّر بها طائفة من القراء يقرؤون القرآن بشباكها وجعل لها إمامًا راتبًا ومؤذنًا وفرّاشين وقومة ومباشرين وجعل النظر للقاضي الشافعيّ بديار مصر وشرط في كتاب وقفه أن لا يلي النظرأحد من ذريته ووقف على هذه الجهات حوانيت خارج باب زويلة بخط تحت الربع وقرية بالوجه القبلي‏.‏

وهذه المدرسة عامرة إلى يومنا هذا إلاّ أنه تعطل منها الميضأة وأضيفت إلى ميضأة الجامع لتغلُبِ بعض الأمراء بمواطأة بعض النظار على بئر الساقية التي كانت برسمها‏.‏

اقبغا عبد الواحد‏:‏ الأمير علاء الدين أحضره إلى القاهرة التاجر عبد الواحد بن بدال فاشتراه منه الملك الناصر محمد بن قلاون ولقبه باسم تاجره الذي أحضره فحظي عنده وعمله شادّ العمائر فنهض فيها نهضة أعجب منه السلطان وعظمه حتى عمله أستادار السلطان بعد الأمير مغلطاي الجمالي في المحرّم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وولاه مقدّم المماليك فقويت حرمته وعظمت مهابته حتى صار سائر من في بيت السلطان يخافه ويخشاه وما برح على ذلك إلى أن مات الملك الناصر وقام من بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر فقبض عليه في يوم الإثنين سلخ المحرم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة وأمسك أيضًاولديه وأحيط بماله وسائر أملاكه ورسم عليه الأمير طيبغا المجديّ وبيع موجوده من الخيل والجمال والجواري والقماش والأسلحة والأواني فظهر له شيء عظيم إلى الغاية من ذلك أنه بيع بقلعة الجبل وبها كانت تُعمل حلقات مبيَعَةِ سراويل امرأته بمبلغ مائتي ألف درهم فضة عنها نحو عشرة آلاف دينار ذهب وبيع له أيضًا قبقاب وشرموزة وخف نسائي بمبلغ خمسة وسبعين ألف درهم فضة عنها زيادة على ثلاثة اَلاف دينار وبيعت بدلة مقانع بمائة ألف درهم وكثرت المرافعات عليه من التجار وغيرهم فبعث السلطان إليه شادّ الدواوين يُعرفه أنه أقسم بتربة الشهيد يعني أباه أنه متى لم يعط هؤلاء حقهم وإلاّ سمرتُكَ على جمل وطفتُ بك المدينة فشرع أقبغا في استرضائهم وأعطاهم نحو المائتي ألف درهم فضة ثم نزل إليه الوزير نجم الدين محمود بن سرور المعروف بوزير بغداد ومعه الحاج إبراهيم بن صابر مقدّم الدولة لمطالبته بالمال فأخذا منه لؤلؤًا وجواهر نفيسة وصعدا بها إلى السلطان وكان سبب هذه النكبة أنه كان قد تحكم في أمور الدولة السلطانية وأرباب الأشغال أعلاهم وأدناهم بما اجتمع له من الوظائف وكان عنده فرّاش غضب عليه وأوجعه ضربًا فانصرف من عنده وخدم في دار الأمير أبي بكر ولد السلطان فبعث أقبغا يستدعي بالفرّاش إليه فمنعه منه أبو بكر وأرسل إليه مع أحد مماليكه يقول له‏:‏ إني أريد أن تهبني هذا الغلام ولا تشوّش عليه فلما بلغه المملوك الرسالة اشتدّ حنقه وسبه سبًا فاحشًا وقال له‏:‏ قل لأستاذك يُسيِّر الفرّاش وهو جيد له‏.‏

وكان قبل ذلك اتفق أن الأمير أبا بكر خرج من خدمة السلطان إلى بيته فإذا الأمير أقبغا قد بطح مملوكًا وضربه فوقف أبو بكر بنفسه وسأل أقبغا في العفو عن المملوك وشفع فيه فلم يلتفت أقبغا إليه ولا نظر إلى وجهه فخجل أبو بكر من الناس لكونه وقف قائمًا بين يدي أقبغا وشفع عنده فلم يقم من مجلسه لوقوفه بل استمرّ قاعدًا وأبو بكر واقف على رجليه ولا قبل مع ذلك شفاعته ومضى وفي نفسه منه حنق كبير‏.‏

فلما عاد إليه مملوكه وبلّغه كلام أقبغا بسبب هذا الفراش أكد ذلك عنده ما كان من الأحنة وأخذ في نفسه إلى أن مات أبوه الملك الناصر وعهد إليه من بعده وكان قد التزم أنه إن ملَّكه الله ليصادرن أقبغا وليضربنّه بالمقارع‏.‏

وقال للفراش‏:‏ اقعد في بيتي وإذا حضرأحد لأخذك عرفت ما أعمل معه‏.‏

وأخذ أقبغا يترقب الفراش وأقام أناسًا للقبض عليه فلم يتهيأ له مسكه‏.‏

فلما أفضى الأمر إلى أبي بكر استدعى الأمير قوصون وكان هو القائم حينئذٍ بتدبيرأمور الدولة وعرّفه ما التزمه من القبض على أقبغا وأخذ ماله وضربه بالمقارع وذكر له ولعدة من الأمراء ما جرى له منه وكان لقوصون بأقبغا عناية فقال للسلطان‏:‏ السمع والطاعة يرسم السلطان بالقبض عليه ومطالبته بالمال فإذا فرغ ماله يفعل السلطان ما يختاره‏.‏

وأراد بذلك تطاول المدة في أمر أقبغا فقبض عليه ووكل به رسل ابن صابر حتى أنه بات ليلة قبض عليه من غير أن يكل شيئًا وفي صبيحة تلك الليلة تحدّث الأمراء مع السلطان في نزوله إلى داره محتفظًا به حتى يتصرّف في ماله ويحمله شيئًا بعد شيء فنزل مع المجدي وباع ما يملكه وأورد المال‏.‏

فلما قُبض على الحاج إبراهيم بن صار وأقيم ابن شمس موضعه أرسله السلطان إلى بيت أقبغا ليعصره ويضربه بالمقارع ويعذبه فبلغ ذلك الأمير قوصون فمنع منه وشنّع على السلطان كونه أمر بضربه بالمقارع وأمر بمراجعته فحنق من ذلك وأطلق لسانه على الأمير قوصون فلم يزل به من حضره من الأمراء حتى سكت على مضض‏.‏

وكان قوصون يدبر في انتقاض دولة أبي بكر إلى أن خلعه وأقام بعده أخاه الملك الأشرف كجك بن محمد بن قلاون وعمره نحو السبع سنين وتحكم في الدولة‏.‏

فأخرج أقبغا هو وولده من القاهرة وجعله من جملة أمراء الدولة بالشام فسار من القاهرة في تاسع ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة على حيز الأمير مسعود بن خطير بدمشق ومعه عياله فأقام بها إلى أن كانت فتنة الملك الناصر أحمد بن محمد بن قلاون وعصيانه بالكرك على أخيه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون فاتهم أقبغا بأنه بعث مملوكًا من مماليكه إلى الكرك وأن الناصر أحمد خلع عليه وضربت البشائر بقلعة الكرك وأشاع أن أمراء الشام قد دخلوا في طاعته وحلفوا له وأن أقبغا قد بعث إليه مع مملوكه يبشره بذلك فلما وصل إلى الملك الصالح كتاب عساف أخى شطي بذلك وصل في وقت وروده كتاب نائب الشام الأمير طقزدمر يخبر فيه بأن جماعة من أمراء الشام قد كاتبوا أحمد بالكرك وكاتبهم وقد قبض عليهم ومن جملتهم أقبغا عبدالواحد فرسم بحمله مقيدًا فخمل من دمشق إلى الإسكندرية وقتل بها في آخر سنة أربع وأربعين وسبعمائة‏.‏

وكان من الظلم والطمع والتعاظم على جانب كبير وجمع من الأموال شيئًا كثيرًا وأقام جماعة من أهل الشرٌ لتتبع أولاد الأمراء وتعرّف أحوال من افتقر منهم أو احتاج إلى شيء فلا يزالون به حتى يعطوه مالًا على سبيل القرض بفائدة جزيلة إلى أجل فإذا استحق المال أعسفه في الطلب وألجأه إلى بيع ماله من الأملاك وحلها إن كانت وقفًا بعنايته به وعين لعمل هذه الحيل شخص يُعرف بابن القاهريّ وكان إذا دخل لأحد من القضاة في شراء ملك أو حل وقف لا يقدر على مخالفته ولا يجد بدًا من موافقته‏.‏

ومن غريب ما يُحكى عن طمع أقبغا أن مشدّ الحاشية دخل عليه وفي إصبعه خاتم بفص أحمر من زجاج له بريق فقال له أقبغا‏:‏ إيش هو هذا الخاتم فأخذ يُعظمه وذكر أنه من تركة أبيه‏.‏

فقال‏:‏ بكم حسبوه عليك فقال‏:‏ بأربعمائة درهم‏.‏

فقال‏:‏ أرنيه‏.‏

فناوله إياه فأخذه وتشاغل عنه ساعة ثم قال له‏:‏ والله فضيحة أن نأخذ خاتمك ولكن خذه أنت وهات ثمنه ودفعه إليه وألزمه بإحضار الأربعمائة درهم فما وسعه إلاّ أن أحضرها إليه فعاقبه اللّه بذهاب ماله وغيره وموته غريبًا‏.‏

المدرسة الحسامية هذه المدرسة بخط المسطاح من القاهرة قريبًا من حارة الوزيرية بناها الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوريّ نائب السلطنة بديار مصر إلى جانب داره وجعلها برسم الفقهاء الشافعية وهي في وقتنا هذا تجاه سوق الرقيق ويُسلك منها إلى درب العدّاس وإلى حارة الوزيرية وإلى سويقة الصاحب وباب الخوخة وغير ذلك وكان بجانبها طبقة لخياط فطلبت منه بثلاثة أمثال ثمنها فلم يبعها وقيل لطرنطاي لو طلبته لاستحيى منك فلم يطلبه وتركه وطبقته وقال‏:‏ لا أشوّش عليه‏.‏

طرنطاي‏:‏ بن عبد الله الأمير حسام الدين المنصوريّ رباه الملك المنصور قلاون صغيرًا ورقاه في خدمه إلى أن تقلد سلطنة مصر فجعله نائب السلطنة بديار مصر عوضًا عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ وخلع عليه في يوم الخميس رابع عشر رمضان سنة ثمان وسبعين وستمائة فباشر ذلك مباشرة حسنة إلى أن كانْت سنة خمس وثمانين فخرج من القاهرة بالعساكر إلى الكرك وفيها الملك المسعود نجم الدين خضر وأخوه بدر الدين سلامش ابنا الملك الظاهر بيبرس في رابع المحرّم وسار إليها فوافاه الأمير بدر الدين الصوّانيّ بعساكر دمشق في ألفي فارس ونازلا الكرك وقطعا الميرة عنها واستفسدا رجال الكرك حتى أخذا خضرًا وسلامش بالأمان في خامس صفر وتسلم الأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب الشوبك مدينة الكرك واستقرّ في نيابة السلطنة بها وبعث الأمير طرنطاي بالبشارة إلى قلعة الجبل فوصل البريد بذلك في ثامن صفر ثم قدم بابني الظاهر فخرج السلطان إلى لقائه في ثاني عشر ربيع الأوّل وأكرم الأمير طرنطاي ورفع قدره ثم بعثه إلى أخذ صهيون وبها سنقر الأشقر فسار بالعساكرمن القاهرة في سنة ست وثمانين ونازلها وحصرها حتى نزل إليه سنقر بالأمان وسلم إليه قلعة صهيون وسار به إلى القاهرة فخرج السلطان إلى لقائه وأكرمه‏.‏

ولم يزل على مكانته إلى أن مات الملك المنصور وقام في السلطنة بعده ابنه الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون فقبض عليه في يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة تسع وثمانين وعوقب حتى مات يوم الإثنين خامس عشرة بقلعة الجبل وبقي ثمانية أيام بعد قتله مطروحًا بحبس القلعة ثم أخرج في ليلة الجمعة سادس عشري ذي القعدة وقد لف في حصير وحمل على جنوية إلى زاوية الشيخ أبي السعود بالقرافة فغسله الشيخ عمر السعودفي شيخ الزاوية وكفنه من ماله ودفنه خارج الزاوية ليلًا وبقي هناك إلى سلطنة العادل كتبغا فأمر بنقل جثته إلى تربته التي أنشأها بمدرسته هذه‏.‏

وكان سبب القبض عليه وقتله أن الملك الأشرف كان يكرهه كراهة شديدة فإنه كان يطرح جانبه في أيام أبيه ويغض منه ويهين نوّابه ويؤذي من يخدمه لأنه كان يميل إلى أخيه الملك الصالح علاء الدين عليّ بن قلاون فلما مات الصالح عليّ وانتقلت ولاية العهد إلى الأشرف خليل بن قلاون مال إليه من كان ينحرف عنه في حياة أخيه إلاّ طرنطاي فإنه ازداد تماديًا في الإعراض عنه وجرى على عادته في أذى من ينسب إليه وأغرى الملك المنصور بشمس الدين محمد بن السلعوس ناظر ديوان الأشرف حتى ضربه وصرفه عن مباشرة ديوانه والأشرف مع ذلك يتأكد حنقه عليه ولا يجد بدًّا من الصبر إلى أن صار له الأمر بعد أبيه ووقف الأمير طرنطاي بين يديه في نيابة السلطنة على عادته وهو منحرف عنه لما أسلفه من الإساءة عليه وأخذ الأشرف في التدبير عليه إلى أن نقل له عنه أنه يتحدّث سرًّا في إفساد نظام المملكة وإخراج المُلك عنه وأنه قصد أن يقتل السلطان وهو راكب في الميدان الأسود الذي تحت قلعة الجبل عندما يقرب من باب الإصطبل فلم يحتمل ذلك‏.‏

وعندها سير أربعة ميادين والأمير طرنطاي ومن وافقه عند باب سارية حتى انتهى إلى رأس الميدان وقرب من باب الإصطبل وفي الظنّ أنه يعطف إلى باب سارية ليكمل التسيير على العادة فعطف إلى جهة القلعة وأسرع ودخل من باب الإصطبل فبادر الأمير طرنطاي عندما عطف السلطان وساق فيمن معه ليدركوه ففاتهم وصار بالإصطبل فيمن خف معه من خواصه وما هو إلاّ أن نزل الأشرف من الركوب فاستدعى بالأمير طرنطاي فمنعه الأمير زين الدين كتبغا المنصوريّ عن الدخول إليه وحذره منه وقال له‏:‏ والله إني أخاف عليك منه فلا تدخل عليه إلا في عصبة تعلم أنهم يمنعونك منه إن وقع أمر تكرهه فلم يرجع إليه وغرّه أن أحدًا لا يجسر عليه لمهابته في القلوب ومكانته من الدولة وأن الأشرف لا يبادره بالقبض عليه وقال لكتبغا‏:‏ والله لو كنت نائمًا ما جسر خليل ينبهني‏.‏

وقام ومشى إلى السلطان ودخل ومعه كتبغا فلما وقف على عادته بادر إليه جماعة قد أعدّهم السلطان وقبضوا عليه فأخذه اللكْمُ من كلّ جانب والسلطان يعدّد ذنوبه ويذكر له إساءته ويسبه‏.‏

فقال له يا خوند‏:‏ هذا جميعه قد عملته معك وقدّمت الموت بين يديّ ولكن واللّه لتندمنّ من بعدي‏.‏

هذا والأيدي تتناوب عليه حتى أنّ بعض الخاصكية قلع عينه وسُحب إلى السجن فخرج كتبغا وهو يقول‏:‏ إيش أعمل ويكرّرها فأدركه الطلب وقبض عليه أيضًا ثم آل آمر كتبغا بعد ذلك إلى أن ولي سلطنة مصر وأوقع الأشرف الحوطة على أموال طرنطاي وبعث إلى داره الأمير علم الدين سنجر الشجاعي فوجدله من العين ستمائه ألف دينار ومن الفضة سبعة عشر ألف رطل ومائة رطل مصري عنها زيادة على مائة وسبعين قنطارًا فضة سوى الأواني ومن العدد والأسلحة والأقمشة والآلات والخيول والمماليك ما يتعذر إحصاء قيمته ومن الغلات والأملاك شيء كثير جدًّا ووجد له من البضائع والأموال المسفرة على إسمه والودائع والمقارضات والقنود والأعسال والأبقار والأغنام والرقيق وغير ذلك شيء يجل وصفه هذا سوى ما أخفاه مباشروه بمصر والشام فلما حُملت أمواله إلى الأشرف جعل يقلبها ويقول‏:‏ من عاشَ بعدَعدوِّهِ يومًا فقد بلغَ المُنى‏.‏

واتفق بعد موت طرنطاي أن ابنه سأل الدخول على السلطان الأشرف فأذن له فلماوقف بين يديه جعل المنديل على وجهه وكان أعمى ثم مد يده وبكى وقال‏:‏ شيء لله وذكر أن لأهله أيامًا ما عندهم ما يأكلونه فرق له وأفرج عن أملاك طرنطاي وقال‏:‏ تبلغوا بريعها فسبحان من بيده القبض والبسط‏.‏

المدرسة المنكوتمرية هذه المدرسة بحارة بهاء الدين من القاهرة بناها بجوار داره الأمير سيف الدين منكوتمر الحساميّ نائب السلطنة بديار مصر فكملت في صفر سنة ثمان وتسعين وستمائة وعمل بها درسًا للمالكية قرر فيه الشيخ شمس الدين محمدبن أبي القاسم بن عبد السلام بن جميل التونسيّ المالكيّ ودرسًا للحنفية درّس فيه وجعل فيها خزانة كتب وجعل عليها وقفًا ببلادالشام وهي اليوم بيد قضاة الحنفية يتولون نظرها وأمرها متلاش وهي من المدارس الحسنة‏.‏

منكوتمر‏:‏ هو أحد مماليك الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوريّ ترقى في خدمته واختص به اختصاصًا زائدًا إلى أن ولي مملكة مصر بعد كتبغا في سنة ست وتسعين وستمائة فجعله أحد الأمراء بديار مصر ثم خلع عليه خلع نيابة السلطنة عوضًا عن الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوريّ يوم الأربعاء النصف من ذي القعدة فخرج سائر الأمراء في خدمته إلى دار النيابة وباشر النيابة بتعاظم كثير وأعطى المنصًب حقه من الحرمة الوافرة والمهابة التي تخرج عن الحدّ وتصرف في سائر أمور الدولة من غير أن يعارضه السلطان في شيء البتة وبلغت عبرهّ إقطاعه في السنة زيادة على مائة ألف دينار‏.‏

ولما عمل الملك المنصور الروك المعروف بالروك الحساميّ فوّض تفرقة منالات إقطاعات الأجناد له فجلس في شباك دار النيابة بقلعة الجبل ووقف الحجاب بين يديه وأعطى لكل تقدمة منالات فلم يجسر أحد أن يتحدّث في زيادة ولا نقصان خوفًا من سوء خلقه وشدة حمقه وبقي أيامًا في تفرقة المنالات والناس على خوف شديد‏.‏

فإن أقلّ الإقطاعات كان في أيام الملك المنصور قلاون عشرة آلاف درهم في السنة وأكثره ثلاثين ألف درهم‏.‏

فرجع في الروك الحسامي أكثر إقطاعات الحلقة إلى مبلغ عشرين ألف درهم وما دونها فشق ذلك على الأجناد وتقدّم طائفة منهم ورموا منالاتهم التي فرّقت عليهم لأن الواحد منهم وجد مناله بحق النصف مما كان له قبل الروك وقالوا لمنكوتمر‏:‏ إما أن تعطونا ما يقوم بكلفنا وإلاّ فخذوا أخبازكم ونحن نخدم الأمراء أو نصير بطالين‏.‏

فغضب منكوتمر وأخرق بهم وتقدّم إلى الحجاب فضربوهم وأخذوا سيوفهم وأودعوهم السجون وأخذ يخاطب الأمراء بفحش ويقول‏:‏ أيما قوّاد شكا من خبزه ويقول نقول للسلطان فعلت به وفعلت إيش يقول للسلطان إن رضي يخدم وإلاّ إلى لعنة الله فشق ذلك على الأمراء وأسرّوا له الشرّ ثم إنه لم يزل بالسلطان حتى قبض على الأمير بدر الدين بيسرى وحسن له إخراج أكابر الأمراء من مصر فجرّدهم إلى سيس وأصبح وقد خلا له الجوّ فلم يرض بذلك حتى تحدث مع خوشداشيته بأنه لا بدّ أن يُنشيء له دولة جديدة ويخرج طفجي وكرجي من مصر ثم إنه جهز حمدان بن صلغاي إلى حلب في صورة أنه يستعجل العساكر من سيس وقرّر معه القبض على عدّة من الأمراء وأمر عدّة أمراء جعلهم له عدّة وذخرًا وتقدّم إلى الصاحب فخر الدين الخليليّ بأن يعمل أوراقًا تتضمن أسماء أرباب الرواتب ليقطع أكثرها فلم تدخل سنة ثمان وتسعين حتى استوحشت خواطر الناس بمصر والشام من منكوتمر وزاد حتى أراد السلطان أن يبعث بالأمير طغا إلى نيابة طرابلس فتنصل طغا من ذلك فلم يعفه السلطان منه وألح منكوتمر في إخراجه وأغلظ للأمير كرجي في القول وحط على سلار وبيبرس الجاشنكير وأنظارهم وغض منهم وكان كرجي شرس الأخلاق ضيق العطن سريع الغضب فهم غير مرّة بالفتك بمنكوتمر وطفجي يسكن غضبه فبلغ السلطان فساد قلوب الأمراء والعسكر فبعث قاضي القضاة حسام الدين الحسن بن أحمد بن الحسن الروميّ الحنفيّ إلى منكوتمر يحدّثه في ذلك ويرجعه عما هو فيه فلم يلتفت إلى قوله وقال‏:‏ أنا مالي حاجة بالنيابة أريد أخرج مع الفقراء فلما بلغ السلطان عنه ذلك استدعاه وطيب خاطره ووعده بسفو طفجي بعد أيام ثم القبض على كرجي بعده فنُقل هذا للأمراء فتحالفوا وقتلوا السلطان كما قد ذكر في خبره وأول من بلغه خبر مقتل السلطان الأمير منكوتمر فقام إلى شباك النيابة بالقلعة فرأى باب القلة وقد انفتح وخرج الأمراء والشموع تقد والضجة قد ارتفعت فقال‏:‏ والله قد فعلوها وأمر فغُلقت أبواب دار النيابة وألبس مماليكه آلة الحرب فبعث الأمراء إليه بالأمير الحسام أستادار فعرّفه بمقتل السلطان وتلطف به حتى نزل وهو مشدود الوسط بمنديل وسار به إلى باب القلة والأمير طفجي قدجلس في مرتبة النيابة فتقدم إلى طفجي وقبل يده فقام إليه وأجلسه بجانبه وقام الأمراء في أمر منكوتمر يشفعون فيه فأمر به إلى الجب وأنزلوه فيه وعندما استقرّ به أدليت له القفة التي نزل فيها وتصايحوا عليه بالصعود فطلع عليهم وإذا كرجي قد وقف على رأس الجبّ في عدة من المماليك السلطانية فأخذ يسب منكوتمر ويهينه وضربه بلت ألقاه وذبحه بيده على الجبّ وتركه وانصرف فكان بين قتل أستاذه وقتله ساعة من الليل وذلك في ليلة الجمعة عاشر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين‏.‏

المدرسة القراسنقرية هذه المدرسة تجاه خانقاه الصلاح سعيد السعداء فيما بين رحبة باب العيد وباب النصر كان موضعها وموضع الربع الذي بجانبها الغربيّ مع خانقاه بيبرس وما في صفها إلى حمام الأعسر وباب الجوّانية كلّ ذلك من دار الوزارة الكبرى التي تقدّم ذكرها أنشأها الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوريّ نائب السلطنة سنة سبعمائة‏.‏

وبنى بجوار بابها مسجدًا معلقًا ومكتبًا لإقراء أيتام المسلمين كتاب اللّه العزيز وجعل بهذه المدرسة درسًا للفقهاء ووقف على ذلك داره التي بحارة بهاء الدين وغيرها ولم يزل نظر هذه المدرسة بيد ذرّية الواقف إلى سنة خمس عشرة وثمانمائة ثم انقرضوا‏.‏

وهي من المدارس المليحة وكنا نعهد البريدية إذا قدموا من الشام وغيرها لا ينزلون إلا في هذه المدرسة حتى يتهيأ سفرهم وقد بطل ذلك من سنة تسعين وسبعمائة قراسنقر بن عبد الله‏:‏ الأمير شمس الدين الجوكندار المنصوريّ صار إلى الملك المنصور قلاون وترقى في خدمته إلى أن ولاه نيابة السلطنة بحلب في شعبان سنة اثنتين وثمانين وستمائة عوضًا عن الأمير علم الدين سنجر الباشقرديّ فلم يزل فيها إلى أن مات الملك المنصور وقام من بعده ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاون فلما توجه الأشرف إلى فتح قلعة الروم عاد بعد فتحها إلى حلب وعزل قراسنقر عن نيابتها وولى عوضه الأمير سيف الدين بلبان الطناحيّ وذلك في أوائل شعبان سنة إحدى وتسعين وكانت ولايته على حلب تسع سنين‏.‏

فلما خرج السلطان من مدينة حلب خرج في خدمته وتوجه مع الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة بديار مصر في عدة من الأمراء لقتال أهل جبال كسروان فلما عاد سار مع السلطان من دمشق إلى القاهرة ولم يزل بها إلى أن ثار الأمير بيدرا على الأشرف فتوجه معه وأعان على قتله فلما قُتِل بيدرا فرّ قراسنقر ولاجين في نصف المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة‏.‏

واختفيا بالقاهرة إلى أن استقرّ الأمر للملك الناصر محمد بن قلاون وقام في نيابة السلطنة وتدبير الدولة الأمير زين الدين كتبغا فظهرا في يوم عيد الفطر وكانا عند فرارهما يوم قتل بيدرا أطلعا الأمير بيحاص الزينيّ مملوك الأمير كتبغا نائب السلطنة على حالهما فأعلم استاذه بأمرهما وتلطف به حتى تحدّث في شأنهما مع السلطان فعفا عنهما ثم تحدّث مع الأمير بكتاش الفخريّ إلى أن ضمن له التحدّث مع الأمراء وسعى في الصلح بينهما وبين الأمراء والمماليك حتى زالت الوحشة وظهرا من بيت الأمير كتبغا فأحضرهما بين يدي السلطان وقبلا الأرض وأفيضت عليهما التشاريف وجعلهما أمراء على عادتهما ونزلا إلى دورهما فحمل إليهما الأمراء ما جرت العادة به من التقادم فلم يزل قراسنقر على إمرته إلى أن خُلع الملك الناصر محمد بن قلاون من السلطنة وقام من بعده الملك العادل زين الدين كتبغا فاستمرّ على حاله إلى أن ثار الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بديار مصر على الملك العادل كتبغا بمنزلة العوجاء من طريق دمشق فركب معه قراسنقر وغيره من الأمراء إلى أن فرّ كتبغا واستمرّ الأمر لحسام الدين لاجين وتلقب بالملك المنصور فلما استقرّ بقلعة الجبل خلع على الأمير قراسنقر وجعله نائب السلطنة بديار مصر في صفر سنة ست وتسعين وستمائة فباشر النيابة إلى يوم الثلاثاء للنصف من ذي القعدة فقبض عليه وأحيط بموجوده وحواصله ونوّابه ودواوينه بديار مصر والشام وضيق عليه واستقر في نيابة السلطنة بعده الأمير منكوتمر وعدّ السلطان من أسباب القبض عليه إسرافه في الطمع وكثرة الحمايات وتحصيل الأموال على سائر الوجوه مع كثرة ما وقع من شكاية الناس من مماليكه ومن كاتبه شرف الدين يعقوب فإنه كان قد تحكم في بيته تحكمًا زائدًا وعظمت نعمته وكثرت سعادته وأسرف في اتخاذ المماليك والخدم وانهمك في اللعب الكثير وتعدّى طوره وقراسنقر لا يسمع فيه كلامًا وحدثه السلطان بسببه وأغلظ في القول وألزمه بضربه وتأديبه أو إخراجه من عنده فلم يعبأ بذلك‏.‏

وما زال قراسنقر في الاعتقّال إلى أن قتل الملك المنصور لاجين وأعيد الملك الناصر محمد بن قلاون إلى السلطنة فأفرج عنه وعن غيره من الأمراء ورسم له بنيابة الصبيبة فخرج إليها ثم نقل منها إلى نيابة حماه بعد موت صاحبها الملك المظفر تقيّ الدين محمود بسفارة الأمير بيبرس الجاشنكير والأمير سلار ثم نقل من نيابة حماه بعد ملاقاة التتر إلى نيابة حلب واستقرعوضه في نيابة حماه الأمير زين الدين كتبغا الذي تولى سلطنة مصر والشام وذلك في سنة تسع وتسعين وستمائة وشهد وقعة شقحب مع الملك الناصر محمد بن قلاون ولم يزل على نيابة حلب إلى أن خلع الملك الناصر وتسلطن الملك المظفر بيبرس الجاشنكير وصاحب الناصر في الكرك فلما تحرّك لطلب الملك واستدعى نوّاب الممالك أجابه قراسنقر وأعانه برأيه وتدبيره ثم حضر إليه وهو بدمشق وقدم له شيئًا كثيرًا وسار معه إلى مصر حتى جلس على تخت ملكه بقلعة الجبل فولاه نيابة دمشق عوضًا عن الأمير عز الدين الأفرم في شوّال سنة تسع وسبعمائة وخرج إليها فسار إلى غزة في عدّة من النوّاب وقبضوا على المظفر بيبرس الجاشنكير وسار به هو والأمير سيف الدين الحاج بهادر إلى الخطارة فتلقاهم الأمير استدمر كرجي فتسلم منهم بيبرس وقيده وأركبه بغلًا وأمر قراسنقر والحاج بهادر بالسيرإلى مصر فشق على قراسنقر تقييد بيبرس وتوهم الشر من الناصر وانزعج لذلك انزعاجًا كثيرًا وألقى كلوتته عن رأسه إلى الأرض وقال لفرّاشه‏:‏ الدنيا فانية يا ليتنا متنا ولا رأينا هذا اليوم فترجل من حضر من الأمراء ورفعوا كلوتته ووضعوها على رأسه ورجع من فوره ومعه الحاج بهادر إلى ناحية الشام وقد ندم على تشييع المظفر بيبرس فجدّ في سيره إلى أن عبر دمشق وفي نفس السلطان منه كونه لم يحضر مع بيبرس وكان قد أراد القبض عليه فبعث الأمير نوغاي القبجاقي أميرًا بالشام ليكون له عينًا على الأمير قراسنقر ففطن قراسنقر لذلك وشرع نوغاي يتحدث في حق قراسنقر بما لا يليق حتى ثقل عليه مقامه فقبض عليه بأمر السلطنة وسجن بقلعة دمشق ثم إن السلطان صرفه عن نيابة دمشق وولاه نيابة حلب بسؤاله وذلك في المحرّم سنة إحدى عشرة وسبعمائة وكتب السلطان إلى عدّة من الأمراء بالقبض عليه مع الأمير أرغون الدوادار فلم يتمكن من التحدّث في ذلك لكثرة ما ضبط قراسنقر أموره ولازمه عند قدومه عليه بتقليد نيابة حلب بحيث لم يتمكن أرغون من الحركة إلى مكان إلا وقراسنقر معه فكثر الحديث بدمشق أن أرغون إنما حضر لمسك قراسنقر حتى بلغ ذلك الأمراء وسمعه قراسنقر فاستدعى بالأمراء وحضر الأمير أرغون فقال قراسنقر‏:‏ بلغني كذا وها أنا أقول إن كان حضر معك مرسوم بالقبض عليّ فلا حاجة إلى فتنة أنا طائع السلطان وهذا سيفي خذه ومدّ يده وحل سيفه من وسطه‏.‏

فقال أرغون وقد علم أن هذا الكلام مكيدة وأن قراسنقر لا يمكن من نفسه‏:‏ إني لم أحضر إلا بتقليد الأمير نيابة حلب بمرسوم السلطان وسؤال الأمير وحاشا لله أن السلطان يذكر في حق الأمير شيئًا من هذا‏.‏

فقال قراسنقر‏:‏ غدًا نركب ونسافر‏.‏

وانفض المجلس فبعث إلى الأمراء أن لايركب أحد منهم لوداعه ولا يخرج من بيته وفرّق ما عنده من الحوائص ومن الدراهم على مماليكه ليتحملوا به على أوساطهم وأمرهم بالإحتراس وقدم غلمانه وحواشيه في الليل وركب وقت الصباح في طلب عظيم وكانت عدة مماليكه ستمائة مملوك قد جعلهم حوله ثلاث حلقات وأركب أرغون إلى جانبه وسار على غير الجادّة حتى قارب حلب ثم عبرها في العشرين من المحرم وأعاد أرغون بعدما أنعم عليه بألف دينار وخلعة وخيل وتحف وأقام بمدينة حلب خائفًا يترقب وشرع يعمل الحيلة في الخلاص وصادق العربان واختص بالأمير حسام الدين مهنا أمير العرب وبابنه موسى وأقدمه إلى حلب وأوقفه على كتب السلطان إليه بالقبض عليه وأنه لم يفعل ذلك ولم يزل به حتى أفسد ما بينه وبين السلطان ثم أنه بعث يستأذن السلطان في الحج فأعجب السلطان ذلك وظنّ أنه بسفره يتم له التدبير عليه لما كان فيه من الاحتراز الكبير وأذن له في السفر وبعث إليه بألفي دينار مصرية فخرج من حلب ومعه أربعمائة مملوك معدّة بالفرس والجنيب والهجن وسار حتى قارب الكرك فبلغه أن السلطان كتب إلى النوّاب وأخرج عسكرًا من مصر إليه فرجع من طريق السماوة إلى حلب وبها الأمير سيف الدين قرطاي نائب الغيبة فمنعه من العبور إلى المدينة ولم يمكن أحدًا من مماليك قراسنقر أن يخرج إليه وكانت مكاتبة السلطان قد قدمت عليه بذلك فرحل حينئذِ إلى مهنا أمير العرب واستجار به فاكرمه وبعث إلى السلطان يشفع فيه فلم يجد السلطان بدًّا من قبول شفاعة مهنا وخير قراسنقر فيما يريد ثم أخرج عسكرًا من مصر والشام لقتال مهنا وأخذ قراسنقر فبلغه ذلك فاحترس على نفسه وكتب إلى السلطان يسأله في صرخد وقصد بذلك المطاولة فأجابه إلى ذلك ومكنه من أخذ حواصله التي بحلب وأعطى مملوكه ألف دينار فلما قدم عليه لم يطمئن وعبر إلى بلاد الشرق في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة في عدة من الأمراء يريد خربندا فلما وصل إلى الرحبة بعث‏.‏

بابنه فرج ومعه شيء من أثقاله وخيوله وأمواله إلى السلطان بمصر ليعتذر من قصده خربندا ورحل بمن معه إلى ماردين فتلقاه المغل وقام له نوّاب خربندا بالإقامات إلى أن قرب الأردوا فركب خربندا إليه وتلقاه وأكرمه ومن معه وأنزلهم منزلًا يليق بهم وأعطى قراسنقر المراغة من عمل أذربيجان وأعطى الأمير جمال الدين أقوش الأفرم همدان وذلك في أوائل سنة اثنتي عشرة وسبعمائة فلم يزل هناك إلى أن مات خربندا وقام من بعده أبو سعيد بركة بن خربندا فشق ذلك على السلطان وأعمل الحيلة في قتل قراسنقر والأفرم وسير إليهما الفداوية فجرت بينهم خطوب كثيرة ومات قراسنقر بالإسهال ببلد المراغة في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة يوم السبت سابع عشري شوّال قبل موت السلطان بيسير فلما بلغ السلطان موته في حادي عشر ذي القعدة عند ورود الخبر إليه قال‏:‏ ما كنت أشتهي يموت إلاّ من تحت سيفي وأكون قد قدرت عليه وبلغت مقصودي منه وذلك أنه كان قد جهز إليه عددًا كثيرًا من الفداوية قُتِل منهم بسببه مائة وعشرون فداريًا بالسيف سوى من فقد ولم يوقف له على خير وكان قراسنقر جسيمًا جليلًا صاحب رأي وتدبير ومعرفة وبشاشة وجه وسماحة نفس وكرم زائد بحيث لا يستكثر على أحد شيئًا مع حسن الشاكلة وعظم المهابة والسعادة الطائلة وبلغت عدّة مماليكه ستمائة مملوك ما منهم إلا من له نعمة ظاهرة وسعادة وافرة وله من الآثار بالقاهرة هذه المدرسة ودار جليلة بحارة بهاء الدين فيها كان سكنه‏.‏

 المدرسة الغزنوية

هذه المدرسة برأس الموضع المعروف بسويقة أمير الجيوش تجاه المدرسة اليازكوجية بناها الأمير حسام الدين قايماز النجمي مملوك نجم الدين أيوب والد الملوك وأقام بها الشيخ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن يوسف بن عليّ بن محمد الغزنوي البغداديّ المقريء الفقيه الحنفي ودرس بها فعرفت به وكان إمامًا في الفقه وسمع على الحافظ السلفيّ وغيره وقرأ بنفسه وسكن مصر آخر عمره وكان فاضلًا حسن الطريقة متدينًا وحدّث بالقاهرة بكتاب الجامع لعبد الرزاق بن همام فرواه عنه جماعة وجمع كتابًا في الشيب والعمر وقرأ عليه أبو الحسن السخاويّ وأبو عمرو بن الحاجب ومولده ببغداد في ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة وتوفي بالقاهرة يوم الإثنين النصف من ربيع الأول سنة تسع وتسعين وخمسمائة وهي من مدارس الحنفية‏.‏

المدرسة البوبكرية هذه المدرسة بجوار درب العباسي قريبًا من حارة الوزيرية بالقاهرة بناها الأمير سيف الدين اسنبغا بن الأمير سيف الدين بكتمر البوبكري الناصريّ ووقفها على الفقهاء الحنفية وبنى بجانبها حوض ماء للسبيل وسقاية ومكتبًا للأيتام وذلك في سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة وبنى قبالتها جامعًا فمات قبل إتمامه وكان يسكن دار بدر الدين الأمير طرنطاي المجاورة للمدرسة الحسامية تجاه سوق الجواري فلذلك أنشأ هذه المدرسة بهذا المكان لقربه منه ثم لما كانت سنة خمس عشرة وثمانمائة جدّد بهذه المدرسة منبرًا وصار يقام بها الجمعة‏.‏

اسنبغا بن بكتمر الأمير‏.‏

المدرسة البقرية هذه المدرسة في الزقاق الذي تجاه باب الجامع الحاكمي المجاور للمنبر ويتوصل من هذا الزقاق إلى ناحية العطوف بناها الرئيس شمس الدين شاكر بن غُزيل تصغير غزال المعروف بابن البقري أحد مسالمة القبط وناظر الذخيرة في أيام الملك الناصر الحسن بن محمد بن قلاون وهو خال الوزير الصاحب سعد الدين نصر اللّه بن البقريّ وأصله من قرية تعرف بدار البقر إحدى قرى الغربية نشأ على دين النصارى وعرف الحساب وباشر الخراج إلى أن أقدمه الأمير شرف الدين بن الأزكشيّ استادار السلطان ومشير الدولة في أيام الناصر حسن فاسلم على يديه وخاطبه بالقاضي شمس الدين وخلع عليه واستقرّ به في نظر الذخيرة السلطانية وكان نظرها حينئذٍ من الرتب الجليلة وأضاف إليه نظر الأوقاف والأملاك السلطانية ورتبه مستوفيًا بمدرسة الناصر حسن فشكرت طريقته وحمدت سيرته وأظهر سيادة وحشمة وقرب أهل العلم من الفقهاء وتفضل بأنواع من البرّ وأنشأ هذه المدرسة في أبدع قالب وأبهج ترتيب وجعل بها درسًا للفقهاء الشافعية وقرّر في تدريسها شيخنا سراج الدين عمر بن علي الأنصاريّ المعروف بابن الملقن الشافعيّ ورتب فيها ميعادًا وجعل شيخه صاحبنا الشيخ كمال الدين بن موسى الدميريّ الشافعيّ وجعل إمام الصلوات بها المقريء الفاضل زين الدين أبا بكر بن الشهاب أحمد النحويّ وكان الناس يرحلون إليه في شهر رمضان لسماع قراءته في صلاة التراويح لشجا صوته وطيب نغمته وحسن أدائه ومعرفته بالقراءات السبع والعشر والشواذ ولم يزل ابن البقريّ على حال السيادة والكرامة إلى أن مرض مرض موته فأبعد عنه من يلوذ به من النصارى وأحضر الكمال الدميرقي وغيره من أهل الخير فما زالوا عنده حتى مات وهو يشهد شهادة الإسلام في سنة ست وسبعين وسبعمائة ودفن بمدرسته هذه وقبره بها تحت قبة في غاية الحسن وولي نظر الذخيرة بعده أبو غالب ثم استجدّ في هذه المدرسة منبر وأقيمت بها الجمعة في تاسع جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وثمانمائة بإشارة علم الدين داود الكوبر كاتب السر‏.‏

المدرسة القطبية هذه المدرسة بأول حارة زويلة مما يلي الخرنشف في رحبة كوكاي عُرفت بالست الجليلة عصمة الدين خاتون مؤنسة القطبية المعروفة بدار إقبال العلائي ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكربن أيوب بن شادي وكان وقفها في سنة خمس وستمائة وبها درس للفقهاء الشافعية وتصدير قراءات وفقهاء يقرؤون‏.‏

مدرسة ابن المغربيّ هذه المدرسة آخر درب الصقالبة فيما بين سويقة المسعوديّ وحارة زويلة بناها صلاح الدين يوسف بن ابن المغربي رئيس الأطباء تجاه داره ومات قبل إكمالها فدفن بعد موته في قبة تجاه جامعه المطل على الخليج الناصريّ بقرب بركة قرموط وصارت هذه المدرسة قائمة بغير إكمال إلى أن هدمها بعض ذريته في سنة أربع عشرة وثمانمائة وباع أنقاضها فصار موضعها طاحونة‏.‏

المدرسة البيدرية هذه المدرسة برحبة الأيدمريّ بالقرب من باب قصر الشوك فيما بينه وبين المشهد الحسينيّ بناها الأمير بيدر الأيدمريّ‏.‏

 المدرسة البديرية

هذه المدرسة بجوار باب سرّ المدرسة الصالحية النجمية كان موضعها من جملة تربة القصر التي تقدم ذكرها فنبش شخص من الناس يعرف بناصر الدين محمد بن محمد بن بدير العباسي ما هنالك من قبور الخلفاء وأنشأ هذه المدرسة في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة وعمل فيها درس فقه للفقهاء الشافعية درس فيه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن نصير بن رسلان البلقينيّ وهي مدرسة صغيرة لا يكاد يصعد إليها أحد والعباسيّ هذا من قرية بطرف الرمل يقال لها العباسية وله في مدينة بلبيس مدرسة وقد تلاشت بعدما كانت المدرسة الملكية هذه المدرسة بخط المشهد الحسين من القاهرة بناها الأمير الحاج سيف الدين آل ملك الجوكندار تجاه داره وعمل فيها درسًا للفقهاء الشافعية وخزانة كتب معتبرة وجعل لها عدة أوقاف وهي إلى الآن من المدارس المشهورة وموضعها من جملة رحبة قصر الشوك وقد تقدّم ذكرها عند ذكر الرحاب من هذا الكتاب ثم صار موضع هذه المدرسة دارًا تعرف بدار ابن كرمون صهر الملك الصالح‏.‏

المدرسة الجمالية هذه المدرسة بجوار درب راشد من القاهرة على باب الزقاق المعروف قديمًا بدرب سيف الدولة نادر بناها الأمير الوزير علاء الدين مغلطاي الجماليّ وجعلها مدرسة للحنفية وخانقاه للصوفية وولى تدريسها ومشيخة التصوّف بها الشيخ علاء الدين عليّ بن عثمان التركمانيّ الحنفيّ وتداولها ابنه قاضي القضاة جمال الدين عبد الله التركمانيّ الحنفيّ وابنه قاضي القضاة صدر الدين محمد بن عبد الله بن عليّ التركمانيّ الحنفيّ ثم قريبهم حميد الدين حماد وهي الآن بيد ابن حميد الدين المذكور وكان شأن هذه المدرسة كبيرًا يسكنها أكابر فقهاء الحنفية وتعدّ من أجلِّ مدارس القاهرة ولها عدّة أوقاف بالقاهرة وظواهرها وفي البلاد الشامية وقد تلاشى أمر هذه المدرسة لسوء ولاة أمرها وتخريبهم أوقافها وتعطل منها حضور الدرس والتصوّف وصارت منزلًا يسكنه أخلاط ممن ينسب إلى اسم الفقه وقرب الخراب منها وكان بناؤها في سنة ثلاثين وسبعمائة‏.‏

مغلطاي‏:‏ ابن عبد الله الجماليّ الأمير علاء الدين عرف بخرز وهي بالتركية عبارةعن الديك بالعربية اشتراه الملك الناصر محمد بن قلاون ونقله وهو شاب من الجامكية إلى الأمرة على إقطاع الأمير صارم الدين إبراهيم الإبراهيميّ نقيب المماليك السلطانية المعروف بزير الأمرة في صفر سنة ثمان عشرة وسبعمائة وصار السلطان ينتدبه في التوجه إلى المهمات الخاصة به ويطلعه على سره ثم بعثه أمير الركب إلى الحجاز في هذه السنة فقبض على الشريف أسد الدين رميتة بن أبي نميّ صاحب مكة وأحضره إلى قلعة الجبل في ثامن عشر المحرّم سنة تسع عشرة وسبعمائة مع الركب فأنكر عليه السلطان سرعة دخوله لما أصاب الحاج من المشقة في الإسراع بهم ثم إنه جُعل إستادار السلطان لما قُبض على القاضي كريم الدين عبد الكريم بن المعلم هبة الله ناظر الخواص عند وصوله من دمشق بعد سفره إليها لإحضار شمس الدين غبريال فيوم حضر خُلع عليه وجعل استادارًا عوضًا عن الأمير سيف الدين بكتمر العلائي وذلك في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ثم أضاف إليه الوزارة وخلع عليه في يوم الخميس ثامن رمضان سنةأربع وعشرين عوضًا عن الصاحب أمين الملك عبد الله بن الغنام بعدما استعفى من الوزارة اعتذر بأنه رجل غتميّ فلم يعفه السلطان وقال‏:‏ أنا أخلي من يباشر معك ويعرّفك ما تعمل وطلب شمس الدين غبريال ناظر دمشق منها وجعله ناظر الدولة رفيقًا للوزير الجماليّ فرفعت قصة إلى السلطان وهو في القصر من القلعة فيها الحط على السلطان بسبب تولية الجماليّ الوزارة والماس حاجباٌ وأنه بسبب ذلك أضاع أوضاع المملكة وأهانها وفرّط في أموال المسلمين والجيش وأن هذا لم يفعله أحد من الملوك فقد وليت الحجابة لمن لا يعرف يحكم ولا يتكلم بالعربيّ ولا يعرف الأحكام الشرعية ووليت الوزارة والاستادارية لشاب لا يعرف يكتب اسمه ولا يعرف ما يقال له ولا يتصرف في أمور المملكة ولا في الأموال الديوانية إلا أرباب الأقلام فإنهم يأكلون المال ويحيلون على الوزبر‏.‏

فلما وقف السلطان عليها أوقف عليها القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله المعروف بالفخر ناظر الجيش فقال‏:‏ هذه ورقة الكتاب البطالين ممن انقطع رزقه وكثر حسده وقرر مع السلطان أن يُلزم الوزير ناظر الدولة وناظر الخواص بإحضار أوراق في كل يوم تشتمل على أصل الحاصل وما حُمل فيم ذلك اليوم من البلاد والجهات وما صُرف‏.‏

وأنه لايصرف لأحد شيء البتة إلاّ بأمر السلطان وعلمه‏.‏

فلما حضر الوزير الجماليّ أنكر عليه السلطان وقال له‏:‏ إن الدراوين تلعب بك وأمر فأحضر التاج إسحاق وغبريال ومجد الدين بن لعيبة وقرّر معهم أن يحضروا آخر كلّ يوم أوراقًا بالحاصل والمصروف وقد فصلت بأسماء ما يُحتاج إلى‏.‏

صرفه وإلى شرائه وبيعه فصاروا يُحضرون كل يوم الأوراق إلى السلطان وتقرأ عليه فيصرف ما يختار ويوقف ما يريد ورسم أيضًا أن مال الجيزة كله يُحمل إلى السلطان ولا يُصرف منه شيء‏.‏

ثم لما كانت الفتنة بثغر الإسكندرية ببن أهلها وبين الفرنج وغضب السلطان على أهل الإسكندرية بعث بالجمالي إليها فسار من القاهرة في أثناء رجب سنة سبع وعشرين وسبعمائة ودخل إليها فجلس بالخمس واستدعى بوجوه أهل البلد وقبض على كثير من العامّة ووسط بعضهم وقطع أيدي جماعة وأرجلهم وصادر أرباب الأموال حتى لم يدع أحدًا له ثروة حتى ألزمه بمال كثير فباع الناس حتى ثياب نسائهم في هذه المصادرة وأخذ من التجار شيئًا كثيرًا مع ترفقه بالناس فيما يرد عليه من الكتب بسفك الدماء وأخذ الأموال ثم أحضر العدد التي كانت بالثغر مرصدة برسم الجهاد فبلغت ستة آلاف عدِّة ووضعها في حاصل وختم عليه وخرج من الإسكندرية بعد عشرين يومًا وقد سفك دماء كثيرة وأخذ منها مائتي ألف دينار للسلطان وعاد إلى القاهرة فلم يزل على حاله إلى أن صرف عن الوزارة في يوم الأحد ثاني شوّال سنة ثمان وعشرين ورسم أن توفر وظيفة الوزارة من ولاية وزير فلم يستقرّ أحد في الوزارة وبقي الجماليّ على وظيفة الأستادارية وكان سبب عزله عن الوزارة توقف حال الدولة وقلة الواصل إليها فعمل عليه الفخر ناظرالجيش والتاج إسحاق بسبب تقديمه لمحمد بن لعيبة فإنه كان قد استقرّ في نظر الدولة والصحبة والبيوت وتحكم في الوزير وتسلم قياده فكتبت مرافعات في الوزير وأنه أخذ مالًا كثيرًا من مال الجيزة فخرج الأمير أيتمش المجديّ بالكشف عليه وهمّ السلطان بإيقاع الحوطة به فقام في حقه الأمير بكتمر الساقي حتى عفي عنه وقبض على كثير من الدواوين‏.‏

ثم إنه سافر إلى الحجاز فلما عاد توفي بسطح عقبة إيلة في يوم الأحد سابع عشر المحرّم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة‏.‏

فصبر وحُمل إلى القاهرة ودفن بهذه الخانقاه في يوم الخميس حادي عشري المحرّم المذكور بعدما صلى عليه بالجامع الحاكميّ وولى السلطان بعده الأستادارية الأمير أقبغا عبد الواحد وكان ينوب عن الجماليّ في الأستادارية الطنقش مملوك الأفرم نقله إليها من ولاية الشرقية وكان الجماليّ حسن الطباع يميل إلى الخير مع كثرة الحشمة ومما شكر عليه في وزارته أنه لم يبخل على أحد بولاية مباشرة وأنشأ ناسًا كثيرًا وقصد من سائر الأعمال وكان يقبل الهدايا ويحب التقادم فحلت له الدنيا وجمع منها شيئًا كثيرًا وكان إذا أخذ من أحد شيئًاعلى ولاية لا يعزله حتى يعرف أنه قد اكتسب قدر ما وزنه له ولو أكثر عليه في السعي فإذا عرف أنه أخذ ما غرمه عزله وولى غيره ولم يُعرف عنه أنه صادر أحدًا ولا اختلس مالًا وكانت أيامه قليلة الشرّ إلاّ أنه كان يعزل ويولي بالمال فتزايد الناس في المناصب وكان له عقب بالقاهرة غير صالحين ولا مصلحين‏.‏

المدرسة الفارسية هذه المدرسة بخط الفهادين من أوّل العطوفية بالقاهرة كان موضعها كنيسة تعرف بكنيسة الفهادين فلما كانت واقعة النصارى في سنة ست وخمسين وسبعمائة هدمها الأمير فارس الدين البكيّ قريب الأمير سيف الدين آل ملك الجوكندار وبنى هذه المدرسة ووقف عليها وقفًا يقوم بما تحتاج إليه‏.‏

المدرسة السابقية هذه المدرسة داخل قصر الخلفاء الفاطميين من جملة القصر الكبير الشرقيّ الذي كان داخل دار الخلافة ويتوصل إلى هذه المدرسة الآن من تجاه حمّام البيسريّ بخط بين القصرين وكان يتوصل إليها أيضًا من باب القصر المعروف بباب الريح من خط الركن المخلق وموضعه الآن قيسارية الأمير جمال الدين يوسف الأستادار‏.‏

بنى هذه المدرسة الطواشي الأمير سابق الدين مثقال الأنوكي مقدّم المماليك السلطانية الأشرفية وجعل بها درسًا للفقهاء الشافعية قرر في تدريسه شيخنا شيخ الشيوخ سراج الدين عمربن علي الأنصاريّ المعروف بابن الملقن الشافعي وجعل فيها تصدير قراءات وخزانة كتب وكتابًا يقرأ فيه أيتام المسلمين وبنى بينها وبين داره التي تُعرف بقصر سابق الدين حوض ماء للسبيل هدمه الأمير جمال الدين يوسف الأستادار لما بنى داره المجاورة لهذه المدرسة ولي سابق الدين تقدمة المماليك بعد الطواشي شرف الدين مختصر الطغتمريّ في صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة ثم تنكر عليه الأمير يلبغا الخاصكيّ القائم بدولة الملك الأشرف شعبان بن حسين وضربه ستمائة عصا وسجنه ونفاه إلى أسوان في آخر شهر ربيع الأول سنة ثمان وستين فلم يكن غير قليل حتى قُتل الأمير يلبغا فاستُدعي الأشرف سابق الدين من قوص وصرف ظهير الدين مختارًا المعروف بشاذروان عن التقدمة وأعاده إليها فاستمرّ إلى أن مات سنة ست وسبعين وسبعمائة‏.‏

المدرسة القيسرانية هذه المدرسة بجوار المدرسة الصاحبية بسويقة الصاحب فيما بينها وبين باب الخوخة كانت دارًا يسكنها القاضي الرئيس شمس الدين محمد بن إبراهيم القيسراني أحد موقعي الدست بالقاهرة فوقفها قبل موته مدرسة وذلك في ربيع الأوّل سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وتوفي سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة وكان حشمًا كبير الهمة سعى بالأمير سيف الدين بهادر الدمرداشي في كتابة السرّ بالقاهرة مكان علاء الدين عليّ بن فضل الله العمريّ فلم يتم ذلك ومات الأمير بهادر فانحط جانبه وكانت دنياه واسعة جدًا وله عدّة مماليك يتوصل بهم إلى السعي في أغراضه عند أمراء الدولة وكان ينسب إلى شح كبير‏.‏

المدرسة الزمامية هذه المدرسة بخط رأس البندقانيين من القاهرة فيما بين البندقانيين وسويقة الصاحب بناها الأمير الطواشي زين الدين مقبل الروميّ زمام الآدر الشريفة للسلطان الظاهر برقوق في سنة سبع وتسعين وسبعمائة وجعل بها درسًا وصوفية ومنبرًا يخطب عليه في كل جمعة وبينها وبين المدرسة الصاحبية دون مدى الصوت فيسمع كلّ من صلى بالموضعين تكبير الآخر وهذا وأنظاره بالقاهرة من شنيع ما حدث في غير موضع ولا حول ولا قوّة إلا باللّه العليّ العظيم على إزالة هذه المبتدعات‏.‏

المدرسة الصغيرة هذه المدرسة فيما بين البندقانيين وطواحين الملحيين ويعرف خطها ببيت محب الدين ناظر الجيوش ويعرف أيضًا بخط بين العواميد بنتها الست أيديكن زوجة الأمير سيف الدين بكجا الناصريّ في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة‏.‏