فصل: تابع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 قال جامع سيرة الوزير اليازوري‏:‏ وقصر النيل بمصر في سنة أربع وأربعين وأربعمائة ولم يكن في مخازن الغلات شيء فاشتدّت المسغبة بمصر وكان لخلوّ المخازن سبب أوجب ذلك وهو أنّ الوزير الناصر للدين لما أضيف إليه القضاء في أيام أبي البركات الوزير كان يبتاع للسلطان في كل سنة غلة بمائة ألف درهم وتجعل متجرًا فمثل القاضي بحضرة الخليفة المستعين باللّه وعرّفه أنّ المتجر الذي يقام بالغلة فيه أوفى مضرّة على المسلمين وربما انحط السعر عن مشتراها فلا يمكن بيعها فتتعفن في المخازن وتتلف وأنه يقيم متجرًا لا كلفة فيه على الناس ويفيد أضعاف فائدة الغلة ولا يخشى عليه من تغيره في المخازن ولا انحطاط سعره وهو الخشب والصابون والحديد والرصاص والعسل وما أشبه ذلك فأمضى السلطان له ما رآه واستمرّ ذلك ودام الرخاء على الناس فوسعوا فيه مدّة سنين ثم عمل الملوك بعد ذلك ديوانًا للمتجر وآخر من عمله الظاهر برقوق‏.‏

وأما الشب‏:‏ فإنّ معادنه بالصعيد وكانت عادة الديوان الإنفاق في تحصيل القنطار منه بالليثيّ يبلغ ثلاثين درهمًا وكانت العربان تحضره من معادنه إلى ساحل أخميم وسيوط والبهنسا ليحمل إلى الإسكندرية أيام النيل في الخليج ويشترى بالقنطار الليثيّ ويباع بالقنطار الجرويّ فيباع منه على تجار الروم قدر اثني عشر ألف قنطاريًا بالجروي بسعر أربعة دنانير كل قنطار إلى ستة دنانير ويباع منه بمصر على اللبوديين والصباغين نحو الثمانين قنطارًا بالجرويّ سعر ستة دنانير ونصف القنطار ولا يقدر أحد على ابتياعه من العربان ولا غيرهم فإن عثر على أحد أنه اشترى منه شيئًا أو باعه سوى الديوان نكل به واستهلك ما وجد معه منه وقد بطل هذا‏.‏

وأما النطرون‏:‏ فيوجد في البرّ الغربيّ من أرض مصر بناحية الطرّانة وهو أحمر وأخضر ويوجد منه بالفاقوسية شيء دون ما يوجد في الطرّانة وهو أيضًا مما خطر عليه ابن مدبر من الأشياء التي كانت مباحة وجعله في ديوان السلطان وكان من بعده على ذلك إلى اليوم وقد كان الرسم فيه بالديوان أن يحمل منه في كل سنة عشرة آلاف قنطار ويُعطى الضمان منها في كل سنة قدر ثلاثين قنطارًا يتسلمونها من الطرّانة فتباع في مصر بالقنطار المصري وفي بحر الشرق والصعيد بالجرويّ وفي دمياط بالليثي‏.‏

قال القاضي الفاضل‏:‏ وباب النطرون كان مضمونًا إلى آخر سنة خمس وثمانين وخمسمائة بمبلغ خمسة عشر ألفًا وخمسمائة دينار وحصل منه في سنة ست وثمانين مبلغ سبعة آلاف وثمانمائة دينار وأدركنا النطرون إقطاعا لعده أجناد‏.‏

فلما تولى الأمير محمود بن عليّ الإستادارية وصار مدبر الدولة في أيام الظاهر برقوق حاز النطرون وجعل له مكانًا لا يباع في غيره وهو إلى الآن على ذلك‏.‏

وأما الحبس الجيوشي‏:‏ فكان في البرّين الشرقيّ والغربيّ‏.‏

ففي الشرقيّ‏:‏ بهتين والأميرية والمنية وكانت تسجل هذه النواحي بعين وفي الغربيّ‏:‏ سفط ونهيا ووسيم وهذه النواحي حبسها أمير الجيوش بدر الجمالي على عقبه هي والبساتين ظاهر باب الفتوح فلما مات وطال العهد استأجرها الوزراء بأجرة يسيرة طلبًا للفائدة ثم أدخلت في الديوان‏.‏

قال ابن المأمون في تاريخه‏:‏ وجميع البساتين المختصة بالورثة الجيوشية مع البلاد التي لهم لم تزل فلما توفي الخليفة الآمر بأحكام اللّه وجلس أبو عليّ بن الأفضل بن أمير الجيوش في الوزارة أعاد الجميع إلى الملاك لكون نايبه في ذلك الأوفر‏.‏

فلما قتل واستبدّ الخليفة الحافظ لدين اللّه أمر بالقبض على جميع الأملاك وحلّ الأحباس المختصة بأمير الجيوش فلم يزل يأنس به لأنه غلام الأفضل والوزير في ذلك الوقت وعز الملك غلام الأوحد بن أمير الجيوش يتلطفان ويراجعان الخليفة مع الكتب التي أظهرها الورثة وعليها خطوط الخلفاء إلى أن أبقاها عليهم ولم يخرجها عنهم ثم ارتفعت الحوطة عنها في سنة سبع وعشرين وخمسمائة للديوان الحافظي‏.‏

ولما خدم الخطير والمرتضى في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة في وزارة رضوان بن ولخشي أعاد البساتين خاصة دون البلاد على الورثة بحكم ما آل أمرها إليه من الاختلال ونقص الارتفاع‏.‏ولما انقرض عقب أمير الجيوش ولم يبق منه سوى امرأة كبيرة أفتى فقهاء ذلك العصر ببطلان الحبس فقبضت النواحي وصارت من جملة الأموال السلطانية فمنها ما هو اليوم في الديوان السلطانيّ ومنها ما صار وقفًا ورزقًا أحباسية وغير ذلك‏.‏

وأما دار الضرب‏:‏ فكان بالقاهرة دار الضرب وبالإسكندرية دار الضرب وبقوص دار الضرب ولا يتولى عيار دار الضرب إلاّ قاضي القضاة أو من يستخلفه ثم رذلت في زمننا حتى صار يليها مسالمة فسقة اليهود المصرّين على الفسق مع ادّعائهم الإسلام وكان يجتهد في خلاص الذهب وتحرير عياره إلى أن أفسد الناصر فرج ذلك بعمل الدنانير الناصرية فجاءت غير خالصة وكانت بمصر المعاملة بالورق فأبطلها الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب في سنة بضع وعشرين وضرب الدرهم المدوّر الذي يقال له‏:‏ الكامليّ وجعل فيه من النحاس قدر الثلث ومن الفضة الثلثين ولم يزل يضرب بالقاهرة إلى أن أكثر الأمير محمود الإستادار من ضرب الفلوس بالقاهرة والإسكندرية فبطلت الدراهم من مصر وصارت معاملة أهلها إلى اليوم بالفلوس وبها يقوّم الذهب وسائر المبيعات وسيأتي ذكر ذلك إن شاء اللّه تعالى عند ذكر أسباب خراب مصر‏.‏

وكانت دار الضرب يحصل منها للسلطان مال كثير فقلّ في زماننا لقلة الأموال ودار الضرب اليوم جارية في ديوان الخاص‏.‏

وأما دار العيار‏:‏ فكانت مكانًا يحتاط فيه للرعية وتصلح موازينهم ومكاييلهم به ويحصل منها للسلطان مال وجعلها السلطان صلاح الدين من جملة أوقاف سور القاهرة وقد ذكرت في خطط القاهرة من هذا الكتاب‏.‏

وأما الأحكار‏:‏ فإنها أجر مقرّرة على ساحات بمصر والقاهرة فمنها ما صار دورًا للسكنى ومنها ما أنشئ بساتين وكانت تلك الأجر من جملة الأموال السلطانية وقد بطل ذلك من ديوان السلطان وصارت أحكار مصر والقاهرة وما بينهما أوقافًا على جهات متعدّدة‏.‏

وأما الغروس‏:‏ فكانت في الغربية فقط عدّة أراض يؤخذ منها شبه الحكر عن كل فدّان مقرّر معلوم وقد بطل ذلك من الديوان‏.‏

وأما مقرّر الجسور‏:‏ فكان على كل ناحية تقرير بعدّة قطع معلومة يجبي منها عن كل قطعة عشرة دنانير لتصرف في عمل الجسور فيفضل منها مال كثير يحمل إلى بيت المال وقد بطل هذا أيضًا وجدّد الناصر فرج على الجسور حوادث قد ذكرت في أسباب الخراب‏.‏

وأما موظف الأتبان‏:‏ فكان جميع تبن أرض مصر على ثلاثة أقسام‏:‏ قسم للديوان وقسم للمقطع وقسم للفلاح فيجبى التبن على هذا الحكم من سائر الأقاليم ويؤخذ في التبن عن كل مائة حمل أربعة دنانير وسدس دينار فيحصل من ذلك مال كثير وقد بطل هذا أيضًا من الديوان‏.‏

وأما الخراج‏:‏ فإنه كان في البهنساوية وسفط ريشين والأشمونين والأسيوطية والأخميمية والقوصية‏:‏ أشجار لا تحصى من سنط لها حرّاس يحمونها حتى يعمل منها مراكب الأسطول فلا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار‏.‏

وكان يستخرج من هذه النواحي مال يقال له‏:‏ رسم الخراج ويحتج في جبايته بأنه نظير ما تقطعه أهل النواحي وتنتفع به من أخشاب السنط في عمائرها ومقرّر آخر كان يجبي منهم يعرف بمقرّر السنط فيصرف من هذا المقرّر أجرة قطع الخشب وحزه بضريبة عن كل مائة حمل دينار وعلى المستخدمين في ذلك أن لا يقطعوا من السنط ما يصلح لعمل مراكب الأسطول لكنهم إنما يقطعون الأطراف التي ينتفع بها في الوقود فقط ويقال لهذا الذي يقطع حطب النار فيباع على التجار منه كل مائة حمل بأربعة دنانير ويكتب على أيديهم زنة ما بيع عليهم فإذا وردت المراكب بالحطب إلى ساحل مصر اعتبرت عليهم وقوبل ما فيها بما عين في الرسالة الواردة واستخرج الثمن على ما في الرسالة وكانت العادة أنه لا يباع مما في البهنسا إلا ما فضل عن احتياج المصالح السلطانية وقد بطل هذا جميعه واستولت الأيدي على تلك الأشجار فلم يبق منها شيء البتة ونسي هذا من الديوان‏.‏

وأما القرظ‏:‏ فإنه ثمر شجر السنط وكان لا يتصرّف فيه إلا الديوان ومتى وجد منه مع أحد شيء اشتراه من غير الديوان نكل به واستهلك ما وجد معه منه فإذا اجتمع مال القرظ أقيم منه مراكب تباع ويؤخذ من ثمنها الربع عندما تصل إلى ساحل مصر بعدما تقوّم أو يُنادى عليها وكان فيها حيف كبير وقد بطل ذلك‏.‏

وأما ما يستأدى من أهل الذمّة‏:‏ فإنه كان يأخذ منهم عما يرد ويصدر معهم من البضائع في مصر والإسكندرية وأخميم خاصة دون بقية البلاد ضرائب بتقرير في الديوان وقد بطل ذلك أيضًا‏.‏

وأما مقرّر الجاموس ومقرّر بقر الخيس ومقرّر الأغنام‏:‏ فإنه كان للسلطان من هذه الأصناف شيء كثير جدًّا فيؤخذ من الجاموس للديوان على كل رأس من الراتب في نظير ما يتحصل منه في كل سنة من خمسة دنانير إلى ثلاثة دنانير ومن اللاحق بحق النصف من الراتب وأقل ما تنتج كل مائة خمسون إلى غير ذلك من ضرائب مقرّرة على الجاموس وعلى أبقار الخيس وعلى الغنم البيض والغنم الشعاري وعلى النحل وقد بطل ذلك جميعه لقلة مال السلطان وإعراضه عن العمارة وأسبابها وتعاطي أسباب الخراب‏.‏

وأما المواريث‏:‏ فإنها في الدولة الفاطمية لم تكن كما هي اليوم من أجل أنّ مذهبهم توريث ذوي الأرحام وأنّ البنت إذا انفردت استحقت المال بأجمعه فلما انقضت أيامهم واستولت الأيوبية ثم الدولة التركية صار من جملة أموال السلطان مال المواريث الحشرية وهي التي يستحقها بيت المال عند عدم الوارث فتعدل فيها الوزارة مرّة وتظلم أخرى‏.‏

وأما المكوس‏:‏ فقد تقدّم حدوثها وما كان من الملوك فيها والذي بقي منها إلى الآن بديار مصر يلي أمره الوزير وفي الحقيقة إنما هو نفع للأقباط يتخوّلون فيه بغير حق وقد تضاعفت المكوس في زمننا عما كنا نعهده منذ عهد تحدّث الأمير جمال الدين يوسف الإستادار في الأموال السلطانية كما ذكر في أسباب الخراب‏.‏

وأما البراطيل‏:‏ وهي الأموال التي تؤخذ من ولاة البلاد ومحتسبيها وقضاتها وعمالها فأوّل من عمل ذلك بمصر‏:‏ الصالح بن رزيك في ولاة النواحي فقط ثم بطل وعمل في أيام العزيز بن صلاح الدين أحيانًا وعمله الأمير شيخون في الولاة فقط ثم أفحش فيه الظاهر برقوق كما يأتي في أسباب الخراب‏.‏

وأما الحمايات والمستأجرات‏:‏ فشيء حدث في أيام الناصر فرج وصار لذلك ديوان ومباشرون وعمل مثل ذلك الأمراء وهو من أعظم أسباب الخراب كما يذكر في موضعه إن شاء اللّه تعالى‏.‏

 

ذكر الأهرام اعلم أنّ الأهرام كانت بأرض مصر كثيرة جدًّا منها بناحية بوصير شيء كثير بعضها كبار وبعضها صغار وبعضها طين ولبن وأكثرها حجر وبعضها مدرج وأكثرها مخروط أملس وقد كان منها بالجيزة تجاه مدينة مصر عدة كثيرة كلها صغار هُدمت في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على يد قراقوش وبنى بها قلعة الجبل والسور المحيط بالقاهرة ومصر والقناطر التي بالجيزة‏.‏

وأعظم الأهرام الثلاثة التي هي اليوم قائمة تجاه مصر وقد اختلف الناس في وقت بنائها واسم بانيها والسبب في بنائها وقالوا في ذلك أقوالًا متباينة أكثرها غير صحيح وسأقص عليك من نبأ ذلك ما يشفي ويكفي إن شاء الله تعالى‏.‏

قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب في أخبار مصر وعجائبها في أخبار سوريد بن سهلوق بن سرياق بن توميدون بن بحرسان بن هوصال أحد ملوك مصر قبل الطوفان الذين كانوا يسكنون في مدينة أمسوس الآتي ذكرها عند ذكر مدائن مصر من هذا الكتاب وهو الذي بنى الهرمين العظيمين بمصر المنسوبين إلى شدّاد بن عاد والقبط تنكر أن تكون العادية دخلت بلادهم وسبب بناء الهرمين أنه كان قبل الطوفان بثلثمائة سنة قد رأى سوريد في منامه كأنّ الأرض انقلبت بأهلها وكأنّ الناس قد هربوا على وجوههم وكأنّ الكواكب تتساقط ويصدم بعضها بعضًا بأصوات هائلة فغمه ذلك ولم يذكره لأحد وعلم أنه سيحدث في العالم أمر عظيم ثم رأى بعد ذلك بأيام كأن الكواكب الثابتة نزلت إلى الأرض في صور طيور بيض وكأنها تختطف الناس وتلقيهم بين جبلين عظيمين وكأن الجبلين قد انطبقا عليهم وكأن الكواكب المنيرة مظلمة مكسوفة فانتبه مرعوبًا مذعورًا ودخل إلى هيكل الشمس وتضرّع ومرّع خدّيه على التراب وبكى فلما أصبح جمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر وكانوا مائة وثلاثين كاهنًا فخلا بهم وحدّثهم ما رآه أوّلًا وآخرًا فأوّلوه بأمر عظيم يحدث في العالم‏.‏

فقال عظيم الكهان ويقال له‏:‏ إقليمون‏:‏ إنّ أحلام الملوك لا تجري على محال لعظم أقدارهم وأنا أخبر الملك برؤيا رأيتها منذ سنة ولم أذكرها لأحد من الناس رأيت كأني قاعد مع الملك على وسط المنار الذي بأمسوس وكأنّ الفلك قد انحط من موضعه حتى قارب رؤوسنا وكان علينا كالقبة المحيطة بنا وكأن الملك قد رفع يديه نحو السماء وكواكبها قد خالطتها في صور شتى مختلفة الأشكال وكأنّ الناس قد جفلوا إلى قصر الملك وهم يستغيثون به وكأنّ الملك قد رفع يديه حتى بلغتا رأسه وأمرني أن أفعل كما فعل ونحن على وجل شديد إذ رأينا منها موضعًا قد انفتح وخرج منه نور مضيء وطلعت علينا منه الشمس وكأنا استغثنا بالشمس فخاطبتنا أن الفلك سيعود إلى موضعه فانتبهت مرعوبًا ثم نمت فرأيت كأن مدينة أمسوس قد انقلبت بأهلها والأصنام تهوي على رؤوسها وكأن أناسًا نزلوا من السماء بأيديهم مقامع من حديد يضربون الناس بها فقلت لهم‏:‏ ولمَ تفعلون بالناس كذا قالوا‏:‏ لأنهم كفروا بإلههم قلت‏:‏ فما بقي لهم من خلاص قالوا‏:‏ نعم من أراد الخلاص فليلحق بصاحب السفينة فانتبهت مرعوبًا فقال الملك‏:‏ خذوا الارتفاع للكواكب وانظروا هل من حادث فبلغوا غايتهم في استقصاء ذلك وأخبروا بأمر الطوفان وبعده بالنار التي تخرج من برج الأسد تحرق العالم فقال الملك‏:‏ انظروا هل تلحق هذه الآفة بلادنا‏.‏

فقالوا‏:‏ نعم تأتي في الطوفان على أكثره ويلحقه خراب يقيم عدّة سنين‏.‏

قال‏:‏ فانظروا هل يعود عامرًا كما كان أو يبقى مغمورًا بالماء دائمًا قالوا‏:‏ بل تعود البلاد كما كانت وتعمر قال‏:‏ ثم ماذا قالوا‏:‏ يقصدها ملك يقتل أهلها ويغنم مالها قال‏:‏ ثم ماذا قالوا‏:‏ يقصدها قوم مشوّهون من ناحية جبل النيل ويملكون أكثرها قال‏:‏ ثم ماذا‏.‏

قالوا‏:‏ ينقطع نيلها وتخلو من أهلها فأمر عند ذلك‏:‏ بعمل الأهرام وأن يعمل لها مسارب يدخل منها النيل إلى مكان بعينه ثم يفيض إلى مواضع من أرض الغرب وأرض الصعيد وملأها طلسمات وعجائب وأموالًا وأصنامًا وأجساد ملوكهم وأمر الكهان فزبروا عليها جميع ما قالته الحكماء وزبر فيها وفي سقوفها وحيطانها وأسطواناتها جميع العلوم الغامضة التي يدّعيها أهل مصر وصوّر فيها صور الكواكب كلها وزبر عليها أسماء العقاقير ومنافعها ومضارها وعلم الطلسمات وعلم الحساب والهندسة وجميع علومهم مفسرًا لمن يعرف كتابتهم ولغتهم‏.‏

ولما شرع في بنائها أمر بقطع الأسطوانات العظيمة ونشر البلاط الهائل واستخراج الرصاص من أرض المغرب وإحضار الصخور من ناحية أسوان فبنى بها أساس الأهرام الثلاثة الشرقيّ والغربيّ والملوّن وكانت لهم صحائف وعليها كتابة إذا قطع الحجر وتمّ إحكامه وضعوا عليه تلك الصحائف وضربوه فيبعد بتلك الضربة قدر مائة سهم ثم يعاودون ذلك حتى يصل الحجر إلى الأهرام وكانوا يمدّون البلاطة ويجعلون في ثقب بوسطها قطبًا من حديد قائمًا ثم يركبون عليها بلاطة أخرى مثقوبة الوسط ويدخلون القطب فيها ثم يذاب الرصاص ويصب في القطب حول البلاطة بهندام وإتقان إلى أن كملت‏.‏

وجعل لها أبوابًا تحت الأرض بأربعين ذراعًا فأما باب الهرم الشرقيّ فإنه من الناحية الشرقية على مقدار مائة ذراع من وسط حائط الهرم وأما باب الهرم الغربيّ فإنه من الناحية الغربية على مقدار مائة ذراع من وسط الحائط وأما باب الهرم الملوّن فإنه من الناحية الجنوبية على مقدار مائة ذراع من وسط الحائط فإذا حفر بعد هذا القياس وصل إلى باب الأزج المبنيّ ويدخل إلى باب الهرم وجُعل ارتفاع كل واحد من الأهرام في الهواء مائة ذراع بالذراع الملكيّ وهو بذراعهم خمسمائة ذراع بذراعنا الآن وجعل طول كل واحد من جميع جهاته مائة ذراع بذراعهم ثم هندسها من كل جانب حتى تحدّدت أعاليها من آخر طولها على ثمانية أذرع بذراعنا وكان ابتداء بنائها في طالع سعيد اجتمعوا عليه وتخيروه فلما فرغت كساها ديباجًا ملوّنًا من فوقها إلى أسفلها وعمل لها عيدًا حضره أهل مملكته بأجمعهم ثم عمل في الهرم الغربيّ ثلاثين مخزنًا من حجارة صوّان ملوّن وملئت بالأموال الجمة والآلات والتماثيل المعمولة من الجواهر النفيسة وآلات الحديد الفاخر من السلاح الذي لا يصدأ والزجاج الذي ينطوي ولا ينكسر والطلسمات الغربية وأصناف العقاقير المفردة والمؤلفة والسموم القاتلة وعمل في الهرم الشرقيّ أصناف القباب الفلكية والكواكب وما عمله أجداده من التماثيل والدخن التي يتقرب بها إلى الكواكب ومصاحفها وكوّن الكواكب الثابتة وما يحدث في أدوارها وقتًا وقتًا وما عمل لها من التواريخ والحوادث التي مضت والأوقات التي ينتظر فيها ما يحدث وكل من يلي مصر إلى آخر الزمان‏.‏

وجعل فيها المطاهر التي فيها المياه المدبرة وما أشبه ذلك وجعل في الهرم الملوّن أجساد الكهنة في توابيت من صوّان أسود ومع كل كاهن مصحف فيه عجائب صناعاته وأعماله وسيرته وما عمل في وقته وما كان وما يكون من أوّل الزمان إلى آخره وجعل في الحيطان من كل جانب أصنامًا تعمل بأيديها جميع الصنائع على مراتبها وأقدارها وصفة كل صنعة وعلاجها وما يصلح لها ولم يترك علمًا من العلوم حتى زبره ورسمه وجعل فيها أموال الكواكب التي أهديت إلى الكواكب وأموال الكهنة وهو شيء عظيم لا يحصى‏.‏

وجعل لكل هرم منها خادمًا فخادم الهرم الغربيّ‏:‏ صنم من حجارة صوّان مجزع وهو واقف ومعه شبه حربة وعلى رأسه حية قد تطوّق بها من قرب منه وثبت إليه وطوّقت على عنقه وقتلته ثم تدود إلى مكانها‏.‏

وجعل خادم الهرم الشرقيّ‏:‏ صنمًا من جزع أسود مجزع بأسود وأبيض له عينان مفتوحتان براقتان وهو جالس على كرسي ومعه حربة إذا نظر أحد إليه سمع من جهته صوتًا يفزع منه فيخرُّ على وجهه ولا يبرح حتى يموت‏.‏

وجعل خادم الهرم الملوّن‏:‏ صنمًا من حجر البهت على قاعدة منه من نظر إليه جذبه حتى يلتصق به فلا يفارقه حتى يموت فلما فرغ من ذلك حضن الأهرام بالأرواح الروحانية وذبح لها الذبائح لتمنع عن أنفسها من أَرادها إلا من عمل لها أعمال الوصول إليها‏.‏

وذكر القبط في كتبهم‏:‏ أن عليها منقوشًا تفسيره بالعربية‏:‏ أنا سوريد الملك بنيت هذه الأهرام في وقت كذا وكذا وأتممت بناءها في ست سنين فمن أتى بعدي وزعم أنه ملك مثلي فليهدمها في ستمائة سنة وقد علم أن الهدم أيسر من البنيان وإني كسوتها عند فراغها بالديباج فليكسها بالحصر فنظروا فوجدوا أنه لا يقوم بهدمها شيء من الأزمان الطوال‏.‏

وحكى القبط في كتبهم‏:‏ أنَّ روحانية الهرم الشماليّ غلام أمرد‏.‏

أصفر اللون عريان في فمه أنياب كبار وروحانية الهرم الجنوبيّ‏:‏ امرأة عريانة بادية الفرج حسناء في فمها أنياب كبار تستهوي الإنسان إذا رأته وتضحك له حتى يدنو منها فتسلبه عقله وروحانية الهرم الملوّن‏:‏ شيخ في يده مجمرة من مجامر الكنائس يُبخَر بها وقد رأى غير واحد من الناس هذه الروحانيات مرارًا وهي تطوف حول الأهرام وقت القائلة وعند غروب الشمس‏.‏

قال‏:‏ ولمَّا مات سوريد دفن في الهرم ومعه أمواله وكنوزه‏.‏

وقالت القبط‏:‏ إن سوريد هو الذي بنى البرابي وأودع فيها كنوزًا وزبر عليها علومًا ووكل بها روحانيات تحفظها ممن يقصدها قال‏:‏ وأما الأهرام الدهشورية فيقال‏:‏ إن شدات بن عديم هو الذي بناها من الحجارة التي كانت قد قطعت في زمن أبيه وشدات هذا يزعم بعض الناس أنه شدّاد بن عاد وقال‏:‏ من أنكر أن يكون العادية دخلت مصر وإنما غلطوا باسم شدات بن عديم فقالوا‏:‏ شدّاد بن عاد لكثرة ما يجري على ألسنتهم شدّاد بن عاد وقلة ما يجري على ألسنتهم شدات بن عديم وإلا فما قدر أحد من الملوك يدخل مصر ولا قوي على أهلها غير بخت نصر واللّه أعلم‏.‏

وذكر أبو الحسن المسعودي في كتابه أخبار الزمان‏:‏ ومن أباده الحدثان أن الخليفة عبد اللّه المأمون بن هارون الرشيد لمَّا قدم مصر وأتى على الأهرام أحب أن يهدم أحدها ليعلم ما فيها فقيل له‏:‏ إنك لا تقدر على ذلك فقال‏:‏ لابدّ من فتح شيء منه ففتحت له الثلمة المفتوحة الآن بنار توقد وخلُّ يرُش ومعاول وحدّادين يعملون فيها حتى أنفق عليها أموالًا عظيمة فوجدوا عرض الحائط قريبًا من عشرين ذراعًا فلما انتهوا إلى آخر الحائط وجدوا خلف الثقب مطهرة خضراء فيها ذهب مضروب وزن كل دينار أوقية وكان عددها ألف دينار فجعل المأمون يتعجب من ذلك الذهب ومن جودته ثم أمر بجملة ما أنفق على الثلمة فوجدوا الذهب الذي أصابوه لا يزيد على ما أنفقوه ولا ينقص فعجب من معرفتهم بمقدار ما ينفق عليه ومن تركهم ما يوازيه في الموضع عجبًا عظيمًا وقيل‏:‏ إن المطهرة التي وجد فيها الذهب كانت من زبرجد فأمر المأمون بحملها إلى خزانته وكان آخر ما عمل من عجائب مصر‏.‏

وأقام الناس سنين يقصدونه وينزلون فيه الزلاقة التي فيه فمنهم من يسلم ومنهم من يهلك فاتفق عشرون من الأحداث على دخوله وأعدّوا لذلك ما يحتاجون من طعام وشراب وحبال وشمع ونحوه ونزلوا في الزلاقة فرأوا فيها من الخفاش ما يكون كالعقبان يضرب وجوههم ثم إنهم أدلوا أحدهم بالحبال فانطبق عليه المكان وحاولوا جذبه حتى أعياهم فسمعوا صوتًا أرعبهم فغشي عليهم ثم قاموا وخرجوا من الهرم فبينما هم جلوس يتعجبون مما وقع لهم إذ أخرجت الأرض صاحبهم حيًا من بين أيديهم يتكلم بكلام لم يعرفوه ثم سقط ميتًا فحملوه ومضوا به فأخذهم الخفراء وأتوا بهم إلى الوالي فحدّثوه خبرهم ثم سألوا عن الكلام الذي قال صاحبهم قبل موته فقيل لهم‏:‏ معناه‏:‏ هذا جزاء من طلب ما ليس له وكان الذي فسر لهم معناه بعض أهل الصعيد‏.‏

وقال علي بن رضوان الطبيب‏:‏ فكرت في بناء الأهرام فأوجب علم الهندسة العلمية ورفع الثقيل إلى فوق أن يكون القوم هندسوا سطحًا مربعًا ونحتوا الحجارة ذكرًا وأنثى ورصوها بالجبس البحريّ إلى أن ارتفع البناء مقدار ما يمكن رفع الثقيل وكانوا كلما صعدوا ضموا البناء حتى يكون السطح الموازي للمربع الأسفل مربعًا أصغر من المربع السفلانيّ ثم عملوا في السطح المربع الفوقانيّ مربعًا أصغر بمقدار ما بقي في الحاشية ما يمكن رفع الثقيل إليه وكلما رفعوا حجرًا مهندمًا رصوه إليه ذكرًا وأنثى إلى أن ارتفع مقدار مثل المقدار الأوّل ولم يزالوا يفعلون ذلك إلى أن بلغوا غاية لا يمكنهم بعدها أن يفعلوا ذلك فقطعوا الارتفاع ونحتوا الجوانب البارزة التي فرضوها لرفع الثقيل ونزلوا في النحت من فوق إلى أسفل وصار الجميع هرمًا واحدًا‏.‏

وقياس الهرم الأوّل‏:‏ بالذراع التي تقاس بها اليوم الأبنية بمصر كل حاشية منه أربعمائة ذراع يكون بالذراع السوداء التي طول كل ذراع منها أربعة وعشرون إصبعا خمسمائة ذراع وذلك أن قاعدته مربع متساوي الأضلاع والزوايا ضلعان منهما على خط نصف النهار وضلعان على خط المشرق والمغرب وكل ضلع بالذراع السوداء خمسمائة ذراع والخط المنحدر على استقامة من رأس الهرم إلى نصف ضلع المربع أربعمائة وسبعون ذراعًا يكون إذا تمم أيضًا خمسمائة ذراع‏.‏

وأحيط بالهرم أربع مثلثات ومربع وكل مثلث منها متساوي الساقين كل ساق منه إذا تمم خمسمائة وستون ذراعًا والمثلثات الأربعة تجتمع رؤوسها عند نقطة واحدة وهي رأس الهرم إذا تمم فيلزم أن يكون عموده أربعمائة وثلاثين ذراعًا وعلى هذا العمود مراكز أثقاله ويكون تكسير كل مثلث من مثلثاته‏:‏ مائة وخمسة وعشرين ألف ذراع إذا اجتمع تكاسيرها كان مبلغ تكسير سطح هذا الهرم‏:‏ خمسمائة ألف ذراع بالسوداء وما أحسب على وجه الأرض بناء أعظم منه ولا أحسن هندسة ولا أطول والله أعلم‏.‏