فصل: تابع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 فبادر الفرنج في الصباح إلى مدينة دمياط ونزلوا البرّ الشرقيّ يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة بغير منازع ولا مدافع وأخذوا سائر ما كان في عسكر المسلمين وكان شيئًا لا يحيط به الوصف وداخل السلطان وهم عظيم وكاد أن يفارق البلاد فإنه تخيل من جميع من معه واشتدّ طمع الفرنج في أرض مصر كلها وظنوا أنهم قد ملكوها إلا أنّ الله سبحانه وتعالى‏:‏ أغاث المسلمين وثبت السلطان وواقاه أخوه الملك المعظم بأشموم طناح فاشتدّ به أزره وقوي جأشه وأطلعه على ما كان من ابن المشطوب فوعده بإزاحة ما يكره ثم إنّ المعظم ركب إلى خيمة ابن المشطوب واستدعاه للركوب معه ومسايرته فاستمهله حتى يلبس خفيه وثياب الركوب فلم يمهله وأعجله فركب معه وسايره حتى خرج به من العسكر الكامليّ‏.‏

ثم قال له‏:‏ يا عماد الدين هذه البلاد لك وأشتهي أن تهبها لنا وأعطاه نفقة وسلمه إلى جماعة من أصحابه يثق بهم وقال لهم‏:‏ أخرجوه من الرمل ولا تفارقوه حتى يخرج من الشام فلم يسع ابن المشطوب إلا امتثال ما قال المعظم لأنه معه بمفرده ولا قدرة له على الممانعة فساروا به إلى حماه ثم مضى منها إلى المشرق ولما شيع الملك المعظم ابن المشطوب رجع إلى الملك الكامل وأمر أخاه الفائز إبراهيم أن يسير إلى ملوك الشام في رسالة عن أخيه الملك الكامل لاستدعائهم إلى قتال الفرنج فمضى إلى دمشق وخرج منها إلى حماه فمات بها مسمومًا على ما قيل فثبت للملك الكامل أمر الملك وسكن روعه هذا والفرنج قد أحاطوا بدمياط برًّا وبحرًا وأحدقوا وضيقوا على أهلها ومنعوا القوت من الوصول إليهم وحفروا على عسكرهم المحيط بدمياط خندقًا وبنوا عليه سورًا وأهل دمياط يقاتلونهم أشدّ القتال ويمانعونهم وقد غلت عندهم الأسعار لقلّة الأقوات ثم إنّ المعظم فارق الملك الكامل وسار إلى بلاد الشام‏.‏

وأقام الكامل لمحاربة الفرنج وانتدب شمائل أحد الجاندارية في الركاب للدخول إلى دمياط فكان يسبح في الماء ويصل إلى أهل دمياط فيعدهم بوصول النجدات فحظي بذلك عند الكامل وتقرّب منه حتى عمله والي القاهرة وإليه تنسب خزانة شمائل بالقاهرة فلم يزل الحال على ذلك إلى أن دخلت سنة ست عشرة فجهز الملك المنصور محمد بن عمرو بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماه ابنه المظفر تقيّ الدين محمودًا إلى مصر نجمة لخاله الملك الكامل على الفرنج في جيش كثيف فوصل إلى العسكر وتلقاه الملك الكامل وأنزله في ميمنة العسكر منزلة أبيه وجده عند السلطان صلاح الدين يوسف فألح الفرنج في القتال وكان بدمياط نحو العشرين ألف مقاتل فنهكتهم الأمراض وغلت عندهم الأسعار حتى بلغت بيضة الدجاجة عندهم عدة دنانير‏.‏

قال الحافظ عبد العظيم المنذري‏:‏ سمعت الشيخ أبا الحسن عليّ بن فضل يقول‏:‏ كان لبعض بني خيار بقرة فذبحوها وباعوها في الحصار فجاءت ثمانمائة دينار‏.‏

وقال في المعجم المترجم‏:‏ سمعت الأمير أبا بكر بن حسن بن خسويام يقول‏:‏ كنت بدمياط في حصار العدوّ بها فبيع السكر بها بمائة وأربعين دينارًا الرطل والدجاجة بثلاثين دينارًا قال‏:‏ واشتريت ثلاث دجاجات بتسعين دينارًا والرواية بأربعين درهمًا والقبر يحفر بأربعين مثقالًا وأخذت أختي جملًا فشقت جوفه وملأته دجاجًا وفاكهةً وبقلًا وغير ذلك وخاطته ورمته في البحر وكتبت إليّ تقول‏:‏ قد فعلت كذا فإذا رأيتم جملًا ميتًا فخذوه فوقع لنا ليلًا فأخذناه وكان فيه ما يساوي جملة ففرّقته على الناس ثم عمل بعد ذلك ثلاثة جمال على هيئته ففطن لها الفرنج فأخذوها وامتلأت مساكنهم وطرقات البلد من الموتى وعدمت الأقوات وصار السكر كَعِزة الياقوت وفقدت اللحوم فلم يقدر عليها بوجه وآلت بهم الحال إلى أن لم يبق بها سوى قليل من القمح والشعير فقط‏.‏

فتسوّر الفرنج وأخذوا منه البلد في يوم الثلاثاء لخمس بقين من شعبان وكانت مدة الحصار ستة عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا ولما أخذوا البلد وضعوا السيف في الناس فتجاوزوا الحدّ في القتل وأسرفوا في مقدار القتلى وبلغ ذلك السلطان فرحل بعد أخذ دمياط بيومين ونزل قبالة طلخا على رأس بحر أشموم ورأس بحر دمياط وحيز في المنزلة التي صار يقال لها المنصورة وحصَّن الفرنج أسوار دمياط وجعلوا الجامع كنيسة وبثوا سراياهم في القرى فقتلوا ونهبوا وسير السلطان الكتب إلى الآفاق ليستحث الناس على الحضور لدفع الفرنج عن ملك مصر وشرع العسكر في بناء الدور والفنادق والحمامات والأسواق بمنزلة المنصورة وجهز الفرنج من أسروه من المسلمين في البحر إلى عكا وخرجوا من دمياط ونازلوا السلطان تجاه المنصورة وصار بينهم وبينه بحر أشموم وبحر دمياط وكان الفرنج في مائتي ألف راجل وعشرة آلاف فارس فقدّم المسلمون شوانيهم أمام المنصورة وعدّتها مائة قطعة واجتمع الناس من القاهرة ومصر وسائر النواحي من أسوان إلى القاهرة ووصل الأمير حسام الدين يونس والفقيه تقيّ الدين أبو الطاهر محمد بن الحسن بن عبد الرحمن المحلي فأخرجا الناس من القاهرة ومصر ونودي بالنفير العام وخرج الأمير علاء الدين جلدك وجمال الدين بن صيرم لجمع الناس فيما بين القاهرة إلى آخر الحوف الشرقيّ فاجتمع عالم لا يقع عليه حصر وأنزل السلطان على ناحية شارمساح ألف فارس في آلاف من العربان ليحولوا بين الفرنج ودمياط وسارت الشواني ومعها حراقة كبيرة على رأس بحر المحلة وعليها الأمير بدر الدين بن حسون فانقطعت الميرة عن الفرنج من البر والبحر‏.‏

وسارت عساكر المسلمين من الشرق والشام إلى الديار المصرية وكان قد خرج الفرنج من داخل البحر لمدد الفرنج على دمياط فقدم منهم أمم لا تحصى يريدون التوغل في أرض مصر فلما تكاملوا بدمياط خرجوا منها في حدهم وحديدهم ونزلوا تجاه الملك الكامل كما تقدّم فقدمت النجدات يقدمها الملك الأشرف موسى بن العادل وعلى ساقتها الملك المعظم عيسى فتلقاهم الملك الكامل وأنزلهم عنده بالمنصورة في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وتتابع مجيء الملوك حتى بلغت عدّة فرسان المسلمين نحو أربعين ألف فارس فحاربوا الفرنج في البر والبحر وأخذوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة وأسروا من الفرنج ألفين ومائتين ثم ظفر المسلمون بثلاث قطائع أخر فتضعضع الفرنج لذلك وضاق بهم المقام‏.‏

فبعثوا يطلبون الصلح فقدم عند مجيء رسلهم أهل الإسكندرية في ثمانية آلاف مقاتل وكان الذي طلب الفرنج القدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية وسائر ما فتحه السلطان صلاح الدين يوسف من الساحل ليرحلوا عن ديار مصر فبذل المسلمون لهم سائر ما ذكر من البلاد خلا مدينة الكرك والشويك فامتنع الفرنج من الصلح وقالوا لا بدّ من أخذهم الكرك والشوبك ومبلغ ثلثمائة ألف دينار عوضًا عما خرّبه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق من أسوار القدس وكان المعظم لما مات أبوه العادل واستولى الفرنج على دمياط ونازلوا الملك الكامل قبالة المنصورة خاف أن يصل منهم في البحر من يأخذ القدس ويتحصنوا به فأمر بتخريب أسواره وكانت أسواره وأبراجه في غاية العظمة والمنعة فأتى الهدم على جميعها ما خلا برج داود وانتقل أكثر الناس من القدس ولم يبق به إلا القليل ونقل المعظم ما كان بالقدس من الأسلحة وآلالات فامتنع المسلمون من إجابة الفرنج إلى ذلك وقاتلوهم وعبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها الفرنج وحفروا مكانًا عظيمًا في النيل وكان في قوّة الزيادة فركب الماء أكثر تلك الأرض وصار حائلًا بين الفرنج ومدينة دمياط وانحصروا فلم يبق لهم سوى طريق ضيقة فأمر السلطان للوقت بنصب الجسور عند أشموم طناح فعبرت العساكر عليها وملكت الطريق التي يسلكها الفرنج إلى دمياط إذا أرادوا الوصول إليها فاضطربوا وضاقت عليهم الأرض‏.‏

واتفق مع ذلك وصول مرمّة عظيمة للفرنج في البحر حولها عدّة حراقات تحميها وقد ملئت كلها بالميرة والأسلحة فقاتلتهم شواني المسلمين وظفرها الله بهم فأخذها المسلمون وعندما علم الفرنج ذلك أيقنوا بالهلاك وصار المسلمون يرمونهم بالنشاب ويحملون على أطرافهم فهدموا حينئذٍ خيامهم ومجانيقهم وألقوا فيها النار وهموا بالزحف على المسلمين ومقاتلتهم ليخلصوا إلى دمياط فحال بينهم وبين ذلك كثرة الوحل والمياه الراكبة على الأرض وخشوا من الإقامة لقلة أقواتهم فذلوا وسألوا الأمان على أن يتركوا دمياط للمسلمين فاستشار السلطان في ذلك فاختلف الناس عليه فمنهم من امتنع من تأمين الفرنج ورأى أن يؤخذوا عنوة ومنهم من جنح إلى إعطائهم الأمان خوفًا ممن وراءهم من الفرنج في الجزائر وغيرها ثم اتفقوا على الأمان وأن يعطي كل من الفريقين رهائن فتقرّر ذلك في تاسع شهر رجب سنة ثمان عشرة وسير الفرنج عشرين ملكًا رهنًا عند الملك الكامل‏.‏

وبعث الملك الكامل بابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب وجماعة من الأمراء إلى الفرنج وجلس السلطان مجلسًا عظيمًا لقدوم ملك الفرنج وقد وقف إخوته وأهل بيته بين يديه وصار في أبهة وناموس مهاب وخرج قسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط فسلموها للمسلمين في تاسع عشرة وكان يوم تسليمها يومًا عظيمًا وعندما تسلم المسلمون دمياط وصارت بأيديهم قدمت نجدة في البحر للفرنج فكان من جميل صنع الله تأخرها حتى ملكت دمياط بأيدي المسلَمين فإنها لو قدمت قبل ذلك لقوى بها الفرنج فإن المسلمين وجدوا مدينة دمياط قد حصنها للفرنج وصارت بحيث لا ترام ولما تمّ الأمر بعث الفرنج بولد السلطان وأمرائه إليه وسيرَ إليهم السلطان من كان عنده من الملوك في الرهن وتقرّرت الهدنة بين الفرنج والمسلمين مدة ثماني سنين وكان مما وقع الصلح عليه أن كلًا من المسلمين والفرنج يطلق ما عنده من الأسرى وحلف السلطان وإخوته وحلفت ملوك الفرنج وتفرّق الناس إلى بلادهم‏.‏

ودخل الملك الكامل إلى دمياط بإخوته وعساكره وكان يوم دخوله إليها من الأيام المذكورة ورحل الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى مقرّ ملكه وأطلقت الأسرى من ديار مصر وكان فيهم من له من أيام السلطان صلاح الدين يوسف وسارت ملوك الشام بعساكرها إلى بلادها وعمت بشارة أخذ المسلمين مدينة دمياط من الفرنج سائر الآفاق فإن التتر كانوا قد استولوا على ممالك المشرق فأشرف الفرنج على أخذ ديار مصر من أيدي المسلمين وكانت مدة نزول الفرنج على دمياط إلى أن أقلعوا عنها سائرين إلى بلادهم ثلاث سنين وأربعة أشهر وتسعة عشر يومًا منها مدة استيلائهم على مدينة دمياط سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرون يومًا‏.‏

فلما كان في سنة ست وأربعين وستمائة حدث بالسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد ورم في مأبضه تكوّن منه ناصور فتح وعسر برؤه فمرض من ذلك وانضاف إليه قرحة في الصدر فلزم الفراش إلا أنّ علوّ همته اقتضى مسيره من ديار مصر إلى الشام فسار في محفة ونزل بقلعة دمشق فورد عليه رسول الإمبراطور ملك الفرنج الألمانية بجزيرة صقلية في هيئة تاجر وأخبره سرًّا بأن بواش الذي يقال له‏:‏ رواد فرنس عازم على المسير إلى أرض مصر وأخذها فسار السلطان من دمشق وهو مريض في محفة ونزل بأشموم طناح في المحرّم سنة سبع وأربعين وجمع في مدينة دمياط من الأقوات والأزواد والأسلحة وآلات القتال شيئًا كثيرًا خوفًا أن يجري على دمياط ما جرى في أيام أبيه فأخذت بغير ذلك‏.‏

ولما نزل السلطان بأشموم كتب إلى الأمير حسام الدين أبي عليّ بن عليّ الهديانيّ نائبه بديار مصر أن يجهز الأسطول من صناعة مصر فشرع في الاهتمام بذلك وشحن الأسطول بالرجال والسلاح وسائر ما يحتاج إليه وسيره شيئًا بعد شيء وجهز السلطان الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ ومعه الأمراء والعساكر فنزل بحيرة دمياط من برّها الغربيّ وصار النيل بينه وبينها فلما كان في الساعة الثانية من نهار الجمعة لتسع بقين من صفر وردت مراكب الفرنج البحريين فيها جموعهم العظيمة وقد انضم إليهم فرنج الساحل وأرسوا بإزاء المسلمين‏.‏

وبعث ملكهم إلى السلطان كتابًا نصه‏:‏ أما بعد‏:‏ فإنه لم يخف عليك أني أمين الأمة العيسوية كما أنه لا يخفى عليّ أنك أمين الأمّة المحمدية وغير خافٍ عليك أن عندنا أهل جزائر الأندلس وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا ونحن نسوقهم سوق البقر ونقتل منهم الرجال ونرمّل النساء ونستأسر البنات والصبيان ونخلي منهم الديار وأنا قد أبديت لك ما فيه الكفاية وبذلت لك النصح إلى النهاية فلو حلفت لي بكل الإيمان وأدخلت علي الأقساء والرهبان وحملت قدّامي الشمع طاعة للصلبان لكنت واصلًا إليك وقاتلك في أعز البقاع إليك فإما إن تكون البلاد لي فيا هدية حصلت في يديّ وإما أن تكون البلاد لك والغلبة عليّ فيدك العليا ممتدة إليّ وقد عرّفتك وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي تملأ السهل والجبل وعددهم كعدد الحصى وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء‏.‏

فلما قُرئ الكتاب على السلطان وقد اشتدّ به المرض بكى واسترجع‏.‏

فكتب القاضي بهاء الدين زهير بن محمد الجواب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين أما بعد‏:‏ فإنه وصل كتابك وأنت تهدّد فيه بكثرة جيوشك وعدد أبطالك فنحن أرباب السيوف وما قتل منا فرد إلا جددناه ولا بغى علينا باغٍ إلا دمّرناه ولو رأت عينك أيها المغرور حدّ سيوفنا وعظم حروبنا وفتحنا منكم الحصون والسواحل وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل لكان لك أن تعض على أناملك بالندم ولا بدّ أن تزل بك القدم في يوم أوّله لنا وآخره عليك فهنالك تسيء الظنون وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون فإذا قرأت كتابي هذا فتكون فيه على أول سورة النحل‏:‏ ‏"‏ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ‏"‏ النحل 1 وتكون على آخر سورة ص‏:‏ ‏"‏ ولتعلمنّ نبأه بعد حين ‏"‏ ص 88 ونعود إلى قول الله تعالى وهو أصدق القائلين‏:‏ ‏"‏ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ‏"‏ البقرة 249 وقول الحكماء‏:‏ إن الباغي له مصرع وبغيك يصرعك وإلى البلاد وفي يوم السبت ورد الفرنج وضربوا خيامهم في أكثر البلاد التي فيها عساكر المسلمين وكانت خيمة الملك رواد فرنس حمراء فناوشهم المسلمون القتال واستشهد يومئذِ الأمير نجم الدين يوسف بن شيخ الإسلام والأمير صارم الدين أزبك الوزيريّ فلما أمسى الليل رحل الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بعساكر المسلمين جبنًا وصلفًا وسار بهم في برّ دمياط وسار إلى جهة أشموم طناح فخاف من كان في مدينة دمياط وخرجوا منها على وجوههم في الليل لا يلتفتون إلى شيء وتركوا المدينة خالية من الناس ولحقوا بالعسكر في أشموم وهم حفاة عرايا جياع حيارى بمن معهم من النساء والأولاد ومروا هاربين إلى القاهرة فأخذ منهم قطاع الطريق ما عليهم من الثياب وتركوهم عرايا فشنعت القالة على الأمير فخر الدين من كل أحد وعُد جميع ما نزل بالمسلمين من البلاه بسبب هزيمته فإن دمياط كانت مشحونة بالمقاتلة والأزواد العظيمة والأسلحة وغيرها خوفًا أن يصيبها في هذه المدّة ما أصابها في أيام الكامل فإنه ما أتى عليها ذاك إلا من قلّة الأقوات بها ومع ذلك امتنعت من الفرنج أكثر من سنة حتى فني أهلها كما تقدّم ولكن الله يفعل ما يريد‏.‏

ولما أصبح الفرنج يوم الأحد لسبع بقين من صفر قصدوا دمياط فإذا أبواب المدينة مفتحة ولا أحد يدفع عنها فظنوا أنّ ذلك مكيدة وتمهلوا حتى ظهر لهم خلوّها فدخلوا إليها من غير مانع ولا مدافع واستولوا على ما بها من الأسلحة العظيمة وآلات الحرب والأقوات الخارجة عن الحدّ في الكثرة والأموال والأمتعة صفوًا بغير كلفة فأصيب الإسلام والمسلمون ببلاء لولا لطف الله لمحي اسم الإسلام ورسمه بالكلية وانزعج الناس في القاهرة ومصر انزعاجًا عظيمًا لما نزل بالمسلمين مع شدة مرض السلطان وعدم حركته وأما السلطان فإنه اشتدّ حنقه علي الأمير فخر الدين وقال‏:‏ أما قدرت أنت والعساكر أن تقفوا ساعة بين يدي الفرنج وأقام عليه القيامة لكن الوقت لم يكن يسع غير الصبر والإغضاء وغضب على الكنانيين الذين كانوا بدمياط ووبخهم فقالوا‏:‏ ما نعمل إذا كانت عساكر السلطان بأجمعهم وأمراؤه هربوا وأخربوا الزردخاناه كيف لا نهرب نحن فأمر بشنقهم لكونهم خرجوا من دمياط بغير إذن وكانت عدّة من شنق من الأمراء الكنانية زيادة على خمسين أميرًا في ساعة واحدة ومن جملتهم أمير جسيم له ابن جميل يسأل أن يُشنق قبل ابنه فأمر السلطان أن يُشنق ابنه قبله فشنق الابن ثم الأب ويقال‏:‏ إنّ شنق هؤلاء كان بفتوى الفقهاء فخاف جماعة من الأمراء وهموا بالقيام على السلطان‏.‏

فأشار عليهم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ بأن السلطان على خطة فإن مات فقد كفيتم أمره وإلا فهو بين أيديكم وأخذ السلطان في إصلاح سور المنصورة وانتقل إليها لخمس بقين من صفر وجعل الستائر على السور وقدمت الشواني إلى تجاه المنصورة وفيها العُدَد الكاملة وشرع العسكر في تجديد الأبنية هناك وقدم من العربان وأهل النواحي ومن المطوّعة خلق لا يحصى عددهم وأخذوا في الإغارة على الفرنج فملأ الفرنج أسوار مدينة دمياط بالمقاتلة والآلات فلما كان أول ربيع الأوّل قدم إلى القاهرة من أسرى الفرنج الذين تخطفهم العربان ستة وثلاثون منهم‏:‏ فارسان وفي خامس ربيع الآخر ورد منهم تسعة وثلاثون وفي سابعه ورد اثنان وعشرون أسيرًا وفي سادس عشرة ورد خمسة وأربعون أسيرًا منهم‏:‏ ثلاثة خيالة وفي ثامن عشر جمادى الأولى ورد خمسون أسيرًا‏.‏

هذا ومرض السلطان يتزايد وقواه تتناقص حتى آيس الأطباء منه وفي ثالث عشر رجب قدم إلى القاهرة سبعة وأربعون أسيرًا وأحد عشر فارسًا وظفر المسلمون بمسطح للفرنج في البحر فيه مقاتلة من نستراوة‏.‏ فلما كانت

ليلة الأحد لأربع عشرة مضت من شعبان مات الملك الصالح بالمنصورة فلم يظهر موته وحمل في تابوت إلى قلعة الروضة وقام بأمر العسكر الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ‏.‏

فإن شجرة الدر زوجة السلطان لما مات أحضرتُ الأمير فخر الدين والطواشي جمال الدين محسنًا وإليه أمر المماليك البحرية والحاشية وأعلمتهما بموته فكتما ذلك خوفًا من الفرنج لأنهم وسيروا إلى الملك المعظم توران شاه وهو بحصن كيفا الفارس أقطاي لإحضاره وأخذ الأمير فخر الدين في تحليف العسكر للملك الصالح وابنه الملك المعظم بولاية العهد من بعده وللأمير فخر الدين بأتابكية العسكر والقيام بأمر الملك حتى حلفهم كلهم بالمنصورة وبالقاهرة في دار الوزارة عند الأمير حسام الدين بن أبي عليّ في يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من شعبان وكانت العلامات تخرج من الدهاليز السلطانية بالمنصورة إلى القاهرة بخط خادم يقال له‏:‏ سهيل لا يشك من رآها إنها خط السلطان ومشى ذلك على الأمير حسام الدين بالقاهرة ولم يتفوّه أحد بموت السلطان إلى أن كان يوم الاثنين لثمان بقين من شعبان ورد الأمر إلى القاهرة بدعاء الخطباء في الجمعة الثانية للملك المعظم بعد الدعاء للسلطان وأن ينقش اسمه على السكة فلما علم الفرنج بموت السلطان خرجوا من دمياط بفارسهم وراجلهم وشوانيهم تحاذيهم في البحر حتى نزلوا فارسكور يوم الخميس لخمس بقين من شعبان‏.‏

فورد في يوم الجمعة من الغد كتاب إلى القاهرة من العسكر أوّله‏:‏ ‏(‏انفروا خفافًا وثقالًا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏)‏ وفيه مواعظ بليغة بالحث على الجهاد فقرئ على منبر جامع القاهرة وقد جمع الناس لسماعه فارتجت القاهرة ومصر وظواهرهما بالبكاء والعويل وأيقن الناس باستيلاء الفرنج على البلاد لخلو الوقت من ملك يقوم فلما كان يوم الثلاثاء أوّل شهر رمضان اقتتل المسلمون والفرنج فاستشهد العلائيّ أمير مجلس وجماعة ونزل الفرنج شارمساح وفي يوم الاثنين سابعه نزلوا البرمون فاضطرب الناس وزلزلوا زلزالًا شديدًا لقربهم من العسكر وفي يوم الأحد ثالث عشره وصلوا تجاه المنصور وصار بينهم وبين المسلمين بحر أشموم وخندقوا عليهم وأداروا على خندقهم سورًا ستروه بكثير من الستائر ونصبوا المجانيق ليرموا بها على المسلمين وصارت شوانيهم بإزائهم في بحر النيل وشواني المسلمين بإزاء المنصورة والتحم القتال برًّا وبحرًا‏.‏

وفي سادس عشرة نفر إلى المسلمين ستة خيالة أخبروا بمضايقة الفرنج وفي يوم عيد الفطر أسروا من الفرنج كند من أقارب الملك وأبلى عوامّ المسلمين في قتال الفرنج بلاءً كبيرًا وأنكوهم نكاية عظيمة وصاروا يقتلون منهم في كل وقت ويأسرون ويلقون أنفسهم في الماء ويمرّون فيه إلى الجانب الذي فيه الفرنج ويتحيلون في اختطاف الفرنج بكل حيلة ولا يهابون الموت حتى إن إنسانًا قوّر بطيخة وحملها على رأسه وغطس في الماء حتى حاذى الفرنج فظنه بعضهم بطيخة ونزل حتى يأخذها فخطفه وأتى به إلى المسلمين وفي يوم الأربعاء سابع شوّال أخذ المسلمون شونة للفرنج فيها‏:‏ كندا ومائتا رجل وفي يوم الخميس النصف منه ركب الفرنج إلى برّ المسلمين واقتتلوا فقتل منهم أربعون فارسًا وسير في عدة إلى القاهرة بسبعة وستين أسيرًا منهم‏:‏ ثلاثة من أكابر الدوادارية وفي يوم الخميس ثاني عشرية أحرقت للفرنج مَرمّة عظيمة في البحر واستظهر المسلمون عليهم وكان بحر أشموم فيه مخايض فدل بعض من لا دين له ممن يظهر الإسلام الفرنج عليها فركبوا سحر يوم الثلاثاء خامس في القعدة أو رابعه ولم يشعر المسلمون بهم إلا وقد هجموا على العسكر وكان الأمير فخر الدين قد عبر إلى الحمام فأتاه الصريخ بأنّ الفرنج قد هجموا على العسكر فركب دهشًا غير معتدّ ولا متحفظ وساق ليأمر الأمراء والأجناد بالركوب في طائفة من مماليكه فلقيه عدة من الفرنج الدوادارية وحملوا عليه ففرّ أصحابه وأتته طعنة في جنبه وأخذته السيوف من كل جانب حتى لحق بالله عز وجل وفي الحال غدت مماليكه في طائفة إلى داره وكسروا صناديقه وخزائنه ونهبوا أمواله وخيوله وساق الفرنج عند مقتل الأمير فخر الدين إلى المنصورة ففرّ المسلمون خوفًا منهم وتفرقوا يمنةً ويسرةً وكادت الكسرة أن تكون وتمحوا الفرنج كلمة الإسلام من أرض مصر ووصل الملك رواد فرنس إلى باب قصر السلطان ولم يبق إلا أن يملكه فأذن الله تعالى أنَّ طائفة المماليك من البحرية والجمدارية الذين استجدّهم الملك الصالح ومن جملتهم‏:‏ بيبرس البندقداري حملوا على الفرنج حملة صدقوا فيها اللقاء حتى أزاحوهم عن مواقفهم وأبلوا في مكافحتهم بالسيوف والدبابيس فانهزموا وبلغت عدة من قتل من فرسان الفرنج الخيالة في هذه النوبة ألفًا وخمسمائة فارس وأما الرجالة فإنها كانت وصلت إلى الجسر لعدّي فلو تراخى الأمر حتى صاروا مع المسلمين لأعضل الداء على أن هذه الواقعة كانت بين الأزقة والحروب ولولا ضيق المجال لما أفلت من الفرنج أحد فنجا من بقي منهم وضربوا عليهم سورًا وحفروا خندقًا وصارت طائفة منهم في البرّ الشرقيّ ومعظمهم في الجزيرة المتصلة بدمياط وكانت البطاقة عند الكبسة سرّحت على جناح الطائر إلى القاهرة فانزعج الناس انزعاجًا عظيمًا ووردت السوقة وبعض العسكر ولم تغلق أبواب القاهرة ليلة الأربعاء وفي يوم الأربعاء‏:‏ سقط الطائر بالبشارة بهزيمة الفرنج وعدة من قتل منهم فزينت القاهرة وضربت البشائر بقلعة الجبل‏.‏

وسار المعظم توران شاه إلى دمشق فدخلها يوم السبت آخر شهر رمضان واستولى على من بها ولأربع مضين من شوّال سقط الطائر بوصوله إلى دمشق فضربت البشائر في العسكر بالمنصورة وفي قلعة الجبل وسار من دمشق لثلاث بقين منه فتواترت الأخبار بقدومه وخرج الأمير حسام الدين بن أبي عليّ إلى لقائه فوافاه بالصالحية لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة ومن يومئذٍ أعلن بموت الملك الصالح بعدما كان قبل ذلك لا ينطق أحد بموته البتة بل الأمور على حالها والدهليز السلطانيّ بحاله والسماط على العادة وشجرة الدر أم خليل زوجة السلطان تدبر الأمور وتقول‏:‏ السلطان مريض ما إليه وصول ثم سار من الصالحية فتلقاه الأمراء والمماليك واستقرّ بقصر السلطنة من المنصورة يوم الثلاثاء تاسع عشر في القعدة وفي أثناء هذه المدة عمل المسلمون مراكب وحملوها على الجمال إلى بحلة المحلة وألقوها فيه وشحنوها بالمقاتلة فعندما حاذت مراكب الفرنج بحر المحلة وتلك المراكب فيه مكمنة خرجت عليهم ووقع الحرب بينهما وقدم الأسطول الإسلاميّ من جهة المنصورة وأحاط بالفرنج فظفر باثنين وخمسين مركبًا للفرنج وقتل وأسر منهم نحو ألف رجل فانقطعت الميرة عن الفرنج واشتدّ عندهم الغلاء وصاروا محصورين‏.‏

فلما كان أوّل يوم من في الحجة أخذ الفرنج من المراكب في بحر المحلة سبعُ حراريق وفرّ من كان فيها من المسلمين وفي يوم عرفة برزت الشواني الإسلامية إلى مراكب قدمت للفرنج فيها ميرة فأخذت منها اثنين وثلاثين مركبًا منها تسع شواني فوهنت قوّة الفرنج وتزايد الغلاء عندهم وشرعوا في طلب الهدنة من المسلمين على أن يسلموا دمياط ويأخذوا بدلًا منها القدس وبعض بلاد الساحل فلم يجابوا إلى ذلك فلما كان اليوم السابع والعشرون من في الحجة أحرق الفرنج أخشابهم كلها وأتلفوا مراكبهم يريدون التحصن بدمياط ورحلوا في ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرّم سنة ثمان وأربعين وستمائة إلى دمياط وأخذت مراكبهم في الانحدار قبالتهم فركب المسلمون أقفيتهم بعدما عدوا إلى برهم وطلع الفجر من يوم الأربعاء وقد أحاط المسلمون بالفرنج وقتلوا وأسروا منهم كثيرًا حتى قيل‏:‏ إن عدد من قتل من الفرسان على فارسكور يزيد على عشرة آلاف وأسر من الخيالة والرجال والصناع والسوقة ما يناهز مائة ألف ونهب من المال والذخائر والخيول والبغال ما لا يحصى وانحاز الملك رواد فرنس وأكابر الفرنج إلى تل ووقفوا مستسلمين وسألوا الأمان فأمنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي ونزلوا على أمانة‏.‏

وأحيط بهم وسيقوا إلى المنصورة فقيد روادفرنس واعتقل في الدار التي كان ينزل فيها القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان كاتب الإنشاء ووكل به الطواشي صبيح المعظميّ واعتقل معه أخوه ورتب له راتب يحمل إليه في كل يوم ورسم الملك المعظم لسيف الدين يوسف بن الطوري أحد من وصل صحبته من الشرق أن يتولى قتل الأسرى فكان يخرج منهم كل ليلة ثلثمائة رجل ويقتلهم ويلقيهم في البحر حتى فنوا‏.‏

ولما قبض على الملك روادفرنس رحل الملك المعظم من المنصورة ونزل بالدهليز السلطانيّ على فارسكور وعمل له برجًا من خشب وتراخى في قصد دمياط وكتب بخطه إلى الأمير جمال الدين بن يغمور نائبه بدمشق وولده توران شاه‏.‏

الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وما النصر إلا من عند الله ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله وأما بنعمة ربك فحدّث وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها نبشر المجلس السامي الجماليّ بل نبشر المسلمين كافة بما من الله به على المسلمين من الظفر بعدوّ الدين فإنه كان قد استكمل أمره واستحكم شرّه ويئس العباد من البلاد والأهل والأولاد فنودوا ألا تيأسوا من روح الله‏.‏