فصل: تابع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 ثم إن فتيحة أم المعتز كتبت إلى أحمد بن طولون بقتل المستعين وقلدته واسط فامتنع من ذلك وكتب إلى الأتراك يخبرهم بأنه لا يقتل خليفة له في رقبته بيعة فزاد محله عند الأتراك بذلك ووجهوا سعيد الحاجب وكتبوا إلى ابن طولون بتسليم المستعين له فتسلمه منه وقتله وواراه ابن طولون وعاد إلى سر من رأى وقد تقلد باكباك مصر وطلب من يوجهه إليها فذكر له أحمد بن طولون فقلده خلافته وضم إليه جيشًا وسار إلى مصر فدخلها يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين متقلدًا للقصبة دون غيرها من الأعمال الخارجة عنها كالإسكندرية ونحوها ودخل معه أحمد بن محمد الواسطي وجلس الناس لرؤيته فسأل بعضهم غلام أبي قبيل‏:‏ صاحب الملاحم وكان مكفوفًا عما يجده في كتبهم فقال‏:‏ هذا رجل نجد صفته كذا وكذا وأنه يتقلد الملك هو وولده قريبًا من أربعين سنة فما تم كلامه حتى أقبل أحمد بن طولون وإذا هو على النعت الذي قال‏.‏

 

ولما تسلم أحمد بن طولون مصر

كان على الخراج أحمد بن محمد بن المدبر وهو من دهاة الناس وشياطين الكتاب فأهدى إلى أحمد بن طولون هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار بعدما خرج إلى لقائه هو وشقير الخادم غلام فتيحة أم المعتز وهو يتقلد البريد فرأى ابن طولون بين يدي ابن المدبر مائة غلام من الغور قد انتخبهم وصيرهم عدة وجمالًا وكان لهم خلق حسن وطول أجسام وبأس شديد وعليهم أقبية ومناطق تقال عراض وبأيديهم مقارع غلاظ على طرف كل مقرعة مقمعة من فضة وكانوا يقفون بين يديه في حافتي مجلسه إذا جلس فإذا ركب ركبوا بين يديه فيصير له بهم هيبة عظيمة في صدور الناس فلما بعث ابن المدبر بهديته إلى ابن طولون ردها عليه فقال ابن المدبر‏:‏ إن هذه لهمة عظيمة من كانت هذه همته لا يؤمن على طرف من الأطراف فخافه وكره مقامه بمصر معه وسار إلى شقير الخادم صاحب البريد واتفقا على مكاتبة الخليفة بإزالة ابن طولون فلم يكن غير أيام حتى بعث ابن طولون إلى ابن المدبر يقول له‏:‏ قد كنت أعزك الله أهديت لنا هدية وقع الغنى عنها ولم يجز أن يغتنم مالك كثره الله فرددتها توفيرًا عليك ونحب أن تجعل العوض منها الغلمان الذين رأيتهم بين يديك فأنا إليهم أحوج منك فقال ابن المدبر‏:‏ لما بلغته الرسالة هذه أخرى أعظم مما تقدم قد ظهرت من هذا الرجل إذ كان يرد الأعراض والأموال ويستهدي الرجال ويثابر عليهم ولم يجد بدًا من أن بعثهم إليه فتحولت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون ونقصت مهابة ابن المدبر بمفارقة الغلمان مجلسه‏.‏

فكتب ابن المدبر فيه إلى الحضرة يغري به ويحرض على عزله فبلغ ذلك ابن طولون فكتم في نفسه ولم يبده واتفق موت المعتز في رجب سنة خمس وخمسين وقيام المهتدي بالله محمد بن الواثق وقتل باكباك ورد جميع ما كان بيده إلى ماجور التركي حموا بن طولون فكتب إليه‏:‏ تسلم من نفسك لنفسك وزارده الأعمال الخارجة عن قصبة مصر وكتب إلى إسحاق بن دينار وهو يتقلد الإسكندرية أن يسلمها لأحمد بن طولون فعظمت لذلك منزلته وكثر قلق ابن المدبر وغمه ودعته ضرورة الخوف من ابن طولون إلى ملاطفته والتقرب من خاطره وخرج ابن طولون إلى الإسكندرية وتسلمها من إسحاق بن دينار وأقره عليها وكان أحمد بن عيسى بن شيخ الشيباني يتقلد جندي فلسطين والأردن فلما مات وثب ابنه على الأعمال واستبد بها فبعث ابن المدبر سبعمائة ألف وخمسين ألف دينار حملًا من مال مصر إلى بغداد فقبض ابن شيخ عليها وفرقها في أصحابه وكانت الأمور قد اضطربت ببغداد فطمع ابن شيخ في التغلب على الشامات وأشيع أنه يريد مصر فلما قتل المهتدي في رجب سنة ست وخمسين وبويع المعتمد بالله أحمد بن المتوكل لم يدع ابن شيخ له ولا بايع هو ولا أصحابه فبعث إليه بتقليد أرمينية زيادة على ما معه من بلاد الشام وفسح له في الاستخلاف عليها والإقامة على عمله فدعا حينئذ للمعتمد وكتب إلى ابن طولون أن يأهب لحرب ابن شيخ وأن يزيد في عدته وكتب لابن المدبر أن يطلق له المال ما يريد فعرض ابن طولون الرجال وأثبت من يصلح واشترى العبيد من الروم والسودان وعمل سائر ما يحتاج إليه وخرج في تجمل كبير وجيش عظيم وبعث إلى ابن شيخ يدعوه إلى طاعة الخليفة ورد ما أخذ من المال فأجاب بجواب قبيح فسار لست خلون من جمادى الآخرة واستخلف أخاه موسى بن طولون على مصر ثم رجع من الطريق بكتاب ورد عليه م العراق ودخل الفسطاط في شعبان‏.‏

وقدم من العراق‏:‏ ماجور التركي لمحاربة ابن شيخ فقيه أصحاب ابن شيخ وعليهم ابنه فانهزموا منه وقتل الابن واستولى ماجور على دمشق ولحق ابن شيخ بنواحي أرمينية وتقلد ماجور أعمال الشام كله وصار أحمد بن طولون من كثرة العبيد والرجال والآلات بحال يضيق به داره ولا يتسع له فركب إلى سفح الجبل في شعبان وأمر بحرث قبور اليهود والنصارة واختط موضعها فبنى القصر والميدان وتقدم إلى أصحابه وغلمانه وأتباعه أن يختطوا لأنفسهم حوله فاختطوا وبنوا حتى اتصل البناء لعمارة الفسطاط ثم قطعت القطائع وسميت كل قطيعة باسم من سكنها فكانت للنوبة قطيعة مفردة تعرف بهم وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم وللفراشين قطيعة مفردة تعرف بهم ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم‏.‏

وبنى القواد مواضع متفرقة فعمرت القطائع عمارة حسنة وتفرقت فيها السكك والأزقة وبنيت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمامات والأفران وسميت أسواقها وفقيل‏:‏ سوق العيارين وكان يجمع العطارين والبزازين وسوق الفاميين ويجمع الجزارين والبقالين والشوايين فكان في دكاكين الفاميين جميع ما في دكاكين نظرائهم في المدينة‏.‏

وأكثر وأحسن وسوق الطباخين ويجمع الصيارف والخبازين والحلوانيين ولكل من الباعة سوق حسن عامر فصارت القطائع مدينة كبيرة أعمر وأحسن من الشام وبنى ابن طولون قصره ووسعه وحسنه وجعل له ميدانًا كبيرًا يضرب فيه بالصوالجة فسمي القصر كله الميدان وكان كل من أراد الخروج من صغير وكبير إذا سئل عن ذهابه يقول‏:‏ إلى الميدان وعمل للميدان أبوابًا لكل باب اسم وهي باب الميدان ومنه كان يدخل ويخرج معظم الجيش وباب الصوالجة وباب الخاصة ولا يدخل منه إلا خاصة ابن طولون وباب الجبل لأنه مما يلي جبل المقطم وباب الحرم ولا يدخل منه إلا خادم خصي أو حرمة وباب الدرمون لأنه كان يجلس عنه حاجب أسود عظيم الخلقة يتقلد جنايات الغلمان السودان الرجالة فقط يقال له‏:‏ الدرمون وباب دعناج لأنه كان يجلس عنده حاجب يقال له‏:‏ دعناج وباب الساج لأنه عمل من خشب الساج وباب الصلاة لأنه كان في الشارع الأعظم ومنه يتوصل إلى جامع ابن طولون وعرف هذا الباب أيضًا بباب السباع لأنه كان عليه صورة سبعين من جبس وكان الطريق الذي يخرج منه ابن طولون وهو الذي يعرج منه إلى القصر طريقًا واسعًا فقطعه بحائط وعمل فيه ثلاثة أبواب كأكبر ما يكون من الأبواب وكانت متصلة بعضها ببعض واحدًا بجانب الآخر‏.‏

وكان ابن طولون إذا ركب يخرج معه عسكر متكاثف الخروج على ترتيب حسن بغير زحمة ثم يخرج ابن طولون من الباب الأوسط من الأبواب الثلاثة بمفرده من غير أن يختلط به أحد من الناس وكانت الأبواب المذكورة تفتح كلها في يوم العيد أو يوم عرض الجيش أو يوم صدقة وما عدا هذه الأيام لا تفتح إلا بترتيب في أوقات معروفة وكان القصر له مجلس يشرف منه ابن طولون يوم العرض ويوم الصدقة لينظر من أعلاه من يدخل ويخرج وكان الناس يدخلون من باب الصوالجة ويخرجون من باب السباع وكان على باب السباع مجلس يشرف منه ابن طولون ليلة العيد على القطائع ليرى حركات الغلمان وتأهبهم وتصرفهم في حوائجهم فإذا رأى في حال أحد منهم نقصًا أو خللًا أمر له بما يتسع به ويزيد في تجمله وكان يشرف منه أيضًا على البحر وعلى باب مدينة الفسطاط وما يلي ذلك‏.‏

فكان منتزهًا حسنًا وبنى الجامع فعرف بالجامع الجديد بنى العين والسقاية بالمغافر وبنى تنور فرعون فوق الجبل واتسعت أحواله وكثرت اصطبلاته وكراعه وعظم صيته فخافه ماجور وكتب إلى الحضرة يغري به وكتب فيه ابن المدبر وشقير الخادم وكانت لابن طولون أعين وأصحاب أخبار يطالعونه بسائر ما يحدث فلما بلغه ذلك تلطف أصحاب الأخبار له ببغداد عند الوزير حتى سير إلى ابن طولون بكتب ابن المدبر وكتب شقير من غير أن يعلما بذلك فإذا فيها‏:‏ أن أحمد بن طولون عزم على التغلب على مصر والعصيان بها فكتم خبر الكتب وما زال بشقير حتى مات وكتب إلى الحضرة يسأل صرف ابن المدبر عن الخراج وتقليد هلال فأجيب إلى ذلك وقبض على ابن المدبر وحبسه‏.‏

وكانت له معه أمور آلت إلى خروج ابن المدبر عن مصر وتقلد ابن طولون خراج مصر مع المعونة والثغور الشامية فأسقط المعاون والمرافق وكانت بمصر خاصة في كل سنة مائة ألف دينار فأظفره الله عقيب ذلك بكنز فيه ألف ألف دينار‏:‏ بنى منه المارستان وخرج إلى الشام وقد تقلدها فتسلم دمشق وحمص ونازل أنطاكية حتى أخذها وكانت صدقاته على أهل المسكنة والستر وعلى الضعفاء والفقراء وأهل التجمل متواترة وكان راتبه لذلك في كل شهر ألفي دينار سوى ما يطرأ عليه من النذور وصدقات الشكر على تجديد النعم وسوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم للصدقات في داره وغيرها يذبح فيها البقر والكباش ويغرف للناس في القدور والفخار والقصاع على كل قدر أو قصعة لكل مسكين أربعة أرغفة في اثنين منها فالوذج و الاثنان الآخران على القدر وكانت تعمل في داره وينادي من أحب أن يحضر دار الأمير فليحضر وتفتح الأبواب ويدخل الناس الميدان وابن طولون في المجلس الذي تقدم ذكره ينظر إلى المساكين ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون فيسره ذلك ويحمد الله على نعمته‏.‏

ولقد قال له مرة إبراهيم ابن قراطغان وكان على صدقاته‏:‏ أيد الله الأمير إنا نقف في المواضع التي تفرق فيها الصدقة فتخرج لنا الكف الناعمة المخضوبة نقشًا والمعصم الرائع فيه الحديدة والكف فيها الخاتم فقال‏:‏ يا هذا كل من يده إليك فأعطه فهذه هي اللطيفة المستورة التي ذكرها الله سبحانه تعالى في كتابه فقال‏:‏ ‏"‏ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ‏"‏ ‏"‏ البقرة 273 ‏"‏ فاحذر أن ترد يدًا امتدت إليك وأعط كل من يطلب منك‏.‏

فلما مات أحمد بن طولون وقام من بعده ابنه خمارويه أقبل على قصر أبيه وزاد فيه وأخذ الميدان الذي كان لأبيه فجعله كله بستانًا وزرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر ونقل إليه الودى اللطيف الذي ينال ثمره القائم ومنه ما يتناوله الجالس من أصناف خيار النخل وحمل إليه كل صيف من الشجر المطعم العجيب وأنواع الورد وزرع فيه الزعفران وكسا أجسام النخل نحاسًا مذهبًا حسن الصنعة وجعل بين النحاس وأجساد النخل مزاريب الرصاص وأجرى فيها الماء المدبر فكان يخرج من تضاعيف قائم النخل عيون الماء فتنحدر إلى فساقي معمولة ويفيض منها الماء إلى مجار تسقي سائر البستان وغرس فيه من الريحان المزروع على نقوش معمولة وكتابات مكتوبة بتعاهدها البستاني بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة وزرع فيه النيلوفر الأحمر والأزرق والأصفر والجنوى العجيب وأهدى إليه من خراسان وغيرها كل أصل عجيب وطعموا له شجر المشمش باللوز وأشباه ذلك من كل ما يستظرف ويستحسن وبنى فيه برجًا من خشب الساج المنقوش بالنقر النافذ ليقوم مقام الأقفاص وزوقه بأصناف الأصباغ وبلط أرضه وجعل في تضاعيفه أنهارًا لطافًا جدًا ولها يجري فيها الماء مدبرًا من السواقي التي تدور على الآبار العذبة ويسقي منها الأشجار وغيرها وسرح في هذا البرج من أصناف القماري والدباسي والنونيات وكل طائر مستحسن حسن الصوت فكانت الطير تشرب وتغتسل من تلك الأنهار الجارية في البرج وجعل فيه أوكارًا في قواديس لطيفة ممكنة في جوف الحيطان لتفرخ الطيور فيها وعارض لها فيه عيدانًا ممكنة في جوانبه لتقف عليها إذا تطايرت حتى يجاوب بعضها بعضًا بالصياح وسرح في البستان من الطير العجيب كالطواويس ودجاج الحبش ونحوها شيئًا كثيرًا‏.‏

وعمل في داره مجلسًا برواقة سماه بيت الذهب طلى حيطانه كلها بالذهب المجاول باللازورد المعمول في أحسن نقش وأظرف تفصيل وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صورًا في حيطانه بارزة من خشب معمول على صورته وصور حظاياه والمغنيات اللاتي تغنينه بأحسن تصوير وأبهج تزويق وجعل على رؤوسهن الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين والكوادن المرصعة بأصناف الجواهر وفي آذانها الأجراس الثقال الوزن المحكمة الصنعة وهي مسمرة في الحيطان ولونت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة‏.‏

فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا وجعل بين يدي هذا البيت فسقية مقدرة وملأها زئبقًا وذلك أنه شكا إلى طبيبه كثرة السهر فأشار عليه بالتغمير فأنف من ذلك وقال‏:‏ لا أقدر على وضع يد أحد علي فقال له‏:‏ تأمر بعمل بركة من زئبق فأنفق في ذلك أموالًا عظيمة وجعل في أركان البركة سككًا من الفضة الخالصة وجعل في السكك زنانير من حرير محكمة الصنعة في حلق من الفضة وعمل فرشًا من أدم يحشى بالريح حتى ينتفخ فيحكم حينئذ شده ويلقي على تلك البركة الزئبق وتشد زنانير الحرير التي في حلق الفضة بسكك الفضة وينام علىهذا الفرش فلا يزال الفرش يرتج ويتحرك بحركة الزئبق ما دام عليه وكانت هذه البركة من أعظم ما سمع به من الهمم الملوكية فكان يرى لها في الليلالي المقمرة منظر عجيب إذا تألف نور القمر بنور الزئبق ولقد أقام الناس بعد خراب القصر مدة يحفرون لأخذ الزئبق من شقوق البركة وما عرف ملك قط تقدم خمارويه في عمل مثل هذه البركة‏.‏

وبنى أيضًا في القصر قبة تضاهي قبة الهواء سماها الدكة فكانت أحسن شيء بني وجعل لها الستر التي تقي الحر والبرد فتسبل إذا شاء وترفع إذا أحب وفرش أرضها بالفرش السرية وعمل لكل فصل فرشًا يليق به وكان كثيرًا ما يجلس في هذه القبة ليشرف منها على جميع ما في داره من البستان وغيره ويرى الصحراء والنيل والجبل وجميع المدينة وبنى ميدانًا آخر أكبر من ميدان أبيه وكان أحمد بن طولون قد اتخذ حجرة بقربه فيها رجال سماهم بالمكبرين عدتهم اثنا عشر رجلًا يبيت منهم في كل ليلة أربعة يتعاقبون الليل نوبًا يكبرون ويسبحون ويحمدون ويهللون ويقرأون القرآن تطريبًا بألحان ويتوسلون بقصائد زهدية ويؤذنون أوقات الأذان فلما ولي خمارويه‏:‏ أقرهم على حالهم وأجراهم على رسمهم وكان يجلس للشرب مع حظاياه في الليل وقيناته تغنين فإذا سمع أصوات هؤلاء يسكت القوم لا يضجره ذلكن ولا يغيظه أن يعطع عليه ما كان فيه من لذته بالسماع‏.‏

وبنى أيضًا في داره‏:‏ دارًا للسباع عمل فيها بيوتًا بآزاج كل بيت يسع سبعًا ولبوته وعلى تلك البيوت أبواب تفتح من أعلاها بحركات ولكل بيت منها طاق صغير يدخل منه الرجل الموكل بخدمة ذلك البيت يفرشه بالزبل وفي جانب كل بيت حوض من رخام بميزاب من نحاس يصب فيه المال وبين يدي هذه البيوت قاعة فسيحة متسعة فيها رمل مفروش بها وفي جانبها حوض كبير من رخام يصب فيه ماء من ميزاب كبير فإذا أراد سائس سبع من تلك السباع تنظيف بيته أو وضع وظيفة اللحم التي لغذائه رفع الباب بحيلة من أعلى البيت وصاح بالسبع فيخرج إلى القاعة المذكورة ويرد الباب ثم ينزل إلى البيت من الطاق فيكنس الزبل ويبدل الرمل بغيره مما هو نظيف ويضع الوظيفة من اللحم في مكان معد لذلك بعدما يخلص ما فيه من الغدد ويقطعها لهما ويغسل الحوض ويملأه ماء ثم يخرج ويرفع الباب من أعلاه وقد عرف السبع ذاك فحال ما يرفع السائس باب البيت دخل إليه الأسد فأكل ما هيئ له من اللحم حتى يستوفيه ويشرب منالماء كفايته فكانت هذه مملوءة من السباع ولهم أوقات يفتح فيها سائر بيوت السباع فتخرج إلى القاعة وتتمشى فيها وتمرح وتلعب ويهائش بعضها بعضًا فتقيم يومًا كاملًا إلى العشي فيصبح بها السواس فيدخل كل سبع إلى بيته لا يتخطاه إلى غيره‏.‏

وكان من جملة هذه السباع‏:‏ سبع أرزق العينين يقال له‏:‏ زريق قد أنس بخمارويه وصار مطلقًا في الدار لا يؤذي أحدًا ويقام له بوظيفته من الغذاء في كل يوم فإذا نصبت مائدة خمارويه أقبل زريق معها وربض بين يديه فرمى إليه بيده الدجاجة بعد الدجاجة والفضلة الصالحة من الجدي ونحو ذلك مما على المائدة فيتفكه به‏.‏

وكانت له لبوى لم تستأنس كما أنس فكانت مقصورة في بيت ولها وقت معروف يجتمع معها فيه فإذا نام خمارويه جاء زريق ليحرسه فإن كان قد نام على سرير ربض بين يدي السرير وجعل يراعيه ما دام نائمًا وإن كان إنما نام على الأرض بقي قريبًا منه وفطن لمن يدخل ويقصد خمارويه لا يغفل عن ذلك لحظة واحدة وكان على ذلك دهره قد ألف ذلك ودرب عليه وكان في عنقه طوق من ذهب فلا يقدر أحد من أن يدنو من خمارويه ما دام نائمًا لمراعاة زريق له وحراسته إياه حتى إذا شاء الله إنفاذ قضائه في خمارويه كان بدمشق وزريق غائب عنه بمصر ليعلم أنه لا يغني حذر من قدر وبنى أيضًا دار الحرم ونقل إليها أمهات أولاد أبيه مع أولادهن وجعل معهن المعزولات من أمهات أولاده وأفرد لكل واحدة حجرة واسعة نزل في كل حجرة منها بعد زوال دولتهم قائد جليل فوسعته وفضل عنه منها شيء وأقام لكل حجرة من الأنزال والوظائف الواسعة ما كان يفضل عن أهلها منه شيء كثير فكان الخدم الموكلون بالحرم من الطباخين وغيرهم يفضل لكل منهم مع كثرة عددهم بعد التوسع في قوته الزلة الكبيرة والتي فيها العدة من الدجاج فمنها ما قلع فخذها ومنها ما قد بشعب صدرها ومن الفراخ مثل ذلك مع القطع الكبار من الجدي ولحوم الضأن والعدة من ألوان عديدة والقطع الصالحة من الفالوذج والكثير من اللوزينج والقطائف والهرائس من العصيدة التي تعرف اليوم في وقتنا هذا بالمامونية وأشباه ذلك مع الأرغفة الكبار واشتهر بمصر بيعهم لذلك وعرفوا به فكان الناس يتناوبونهم لذلك وأكثر ما تباع الزلة الكبيرة منها بدرهمين ومنها ما يباع بدرهم فكان كثير من الناس يتفكهون من هذه الزلات وكان شيئًا موجودًا في كل وقت لكثرته واتساعه بحيث إن الرجل إذا طرقه ضيف خرج من فوره إلى باب دار الحرم فيجد ما يشتريه ليتجمل به لضيفه مما لا يقدر على عمل مثله ولا يتهيأ له من اللحوم والفراخ والدجاج والحلوى مثل ذلك‏.‏

واتسعت أيضًا اصطبلات خمارويه فعمل لكل صنف من الدواب اصطبلًا مفردًا لكان للخيل الخاص اصطبل مفرد ولدواب الغلمان اصطبلات عدة ولبغال القباب اصطبلات ولبغال النقل غير بغال القباب اصطبلات وللنجائب والبخاتي اصطبلات لكل صنف اصطبل مفرد للاتساع في المواضع والتفنن في الأثقال وعمل للنمور دارًا مفردة وللفهود دارًا مفردة وللفيلة دارًا وللزرافات دارًا كل ذلك سوى الاصطبلات التي بالجيزة فإنه كان له عدة ضياع من الجيزة اصطبلات مثل‏:‏ نهيا ووسيم وسفط وطهرمس وغيرها وكانت هذه الضياع لا تزرع إلا القرط برسم الدواب وكان للخليفة أيضًا بمصر اصطبلات سوى ما ذكر تنتج فيها الخيل‏:‏ لحلبة السباق وللرباط في سبيل الله تعالى برسم الغزو وكان لكل دار من الدور المذكورة ولكل اصطبل وكلاء لهم الرزق السني والوظائف الكثيرة والأموال المتسعة وبلغ رزق الجيش في أيام خمارويه تسعمائة ألف دينار في كل سنة وقام مطبخه المعروف بمطبخ العامة بثلاثة وعشرين ألف دينار في كل شهر سوى ما هو موظف لجواريه وأرزاق من يخدمهن ويتصرف في حوائجهن‏.‏

وكان قد اتخذ لنفسه من ولد الحوف وشناترة الضياع قومًا معروفين بالشجاعة والبأس لهم خلق عظيم تام وعظم أجسام وأدر عليهم الأرزاق ووسع لهم في العطاء وشغلهم عما كانوا فيه من قطع الطريق وأذية الناس بخدمته وألبسهم الأقبية وجواشن الديباج وصاغ لهم المناطق العراض الثقال وقلدهم السيوف المحلاة يضعونها على أكتافهم فإذا مشوا بين يديه وموكبه على ترتيبه ومضت أصناف العسكر وطوائفه تلاهم السودان وعدتهم ألف أسود لهم درق من حديد محكم الصنعة وعليهم أقبية سود وعمائم سود فيخالهم الناظر إليهم بحرًا أسود يسير لسواد ألوانهم وسواد قيابهم ويصير لبريق درقهم وحلي سيوفهم والبيض التي تلمع على رؤوسهم من تحت العمائم زي بهج فإذا مضى السودان قدم خمارويه وقد انفرد عن موكبه وصار بينه وبين الموكب نحو نصف غلوة سهم والمختارة تحف به وكان تام الظهر ويركب فرسًا تامًا فيصير كالكوكب إذا أقبل لا يخفى على أحد كأنه قطعة جبل في وسط المختارة وكان مهابًا ذا سطوة وقد وقع في قلوت الكافة أنه متى أشار إليه أحد بإصبعه أو تكلم أو قرب من لحقه مكروه عظيم فكان إذا أقبل كما ذكرنا لا يسمع من أحد كلمة ولا سعلة ولا عطسة ولا نحنحة ألبتة كأنما على رؤوسهم الطير وكان يتقلد في يوم العيد سيفًا بحمائل ولا يزال يتفرج ويتنزه ويخرج إلى مواضع لم يكن أبوه يهش إليها كالأهرام ومدينة العقاب ونحو ذلك لأجل الصيد فإن كان مشغوفًا به لا يكاد يسمع بسبع إلا قصده ومعه رجال عليهم لبود فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابه عنوة وهو سليم فيضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنعة يسع الواحد منها السبع وهو قائم فإذا قدم خمارويه من الصيد سار القفص وفيه السبع بين يديه وكانت حلبة السباق في أيامهم تقوم مقام الأعياد لكثرة الزينة وركوب سائر الغلمان والعساكر على كثرتهم بالسلاح التام والعدد الكاملة فيجلس الناس لمشاهدة ذلك كما يجلسون في الأعياد وتطلق الخيل من غايتها فتمر متفاوتة قال القضاعي‏:‏ المنظر بناه أحمد بن طولون في ولايته لعرض الخيل وكان عرض الخيل من عجائب الإسلام الأربعة التي منها هذا العرض ورمضان بمكة والعيد كان بطرسوس والجمعة ببغداد فبقي من هذه الأربعة شهر رمضان بمكة والجمعة ببغداد وذهبت اثنتان قال كاتبه‏:‏ وقد ذهبت الجمعة ببغداد أيضًا بعد القضاعي بقتل هولاكو للخليفة المستعصم وزوال شعائر الإسلام من العراق وبقيت مكة شرفها الله تعالى وليس في شهر رمضان الآن بها ما يقال فيه أنه من عجائب الإسلام لما تكامل عز خمارويه وانتهى أمره بدأ يسترجع منه الدهر ما أعطاه فأول ما طرقه موت خطيبته بوران التي من أجلها بنى بيت الذهب وصور فيه صورتها وصورته كما تقدم وكان يرى الدنيا لا تطيب له إلا بسلامتها وبنظره إليها وتمتعه بها فكدر موتها عيشه وانكسر انكسارًا بان عليه ثم إنه أخذ في تجهيز ابنته فجهزها جهازًا ضاهى به نعم الخلافة فلم يبق خطيرة ولا طرفة من كل لون وجنس إلا حمله معها فكان من جملته‏:‏ دكة أربع قطع من ذهب عليها قبة من ذهب مشبك في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا يعرف لها قيمة ومائة هون من ذهب‏.‏

قال القضاعي‏:‏ وعقد المعتضد النكاح على ابنته يعنى ابنة خمارويه‏:‏ قطر الندى فحملها أبو الجيش خمارويه مع عبد الله بن الخصاص وحمل معها ما لي ير مثله ولا يسمع به ولما دخل إليه ابن الخصاص يودعه قال له خمارويه‏:‏ هل بقي بيني وبينك حساب فقال‏:‏ لا فقال‏:‏ انظر حسابك فقال‏:‏ كسر بقي من الجهاز فقال‏:‏ أحضروه فأخرج ربع طومار فيه سبت ذكر النفقة فإذا هي أربعمائة ألف دينار قال محمد بن علي المادراني فنظرت في الطومار فإذا فيه وألف تكة الثمن عنها عشرة آلاف دينار فأطلق له الكل‏.‏